أبحاث هيئة كبار العلماء

مجموعة من المؤلفين

المجلد الأول - إصدار: سنة 1425 هـ - 2004 م

(1) حكم السعي فوق سقف المسعى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم السعي فوق سقف المسعى إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد (¬1) : فبناء على خطاب سمو نائب وزير الداخلية للمملكة العربية السعودية رقم (26 \ 10612) وتاريخ 21 \ 3 \ 1393 هـ المتضمن رغبة وزارة الداخلية في دراسة موضوع السعي فوق سقف المسعى من قبل هيئة كبار العلماء بالمملكة. وبناء على ما تقتضيه لائحة سير عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي فيما يحتاج إلى بحث من المواضيع التي تتجه الرغبة إلى دراستها في الهيئة - قامت اللجنة بإعداد بحث في حكم السعي فوق سقف المسعى. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الأول، ص 179 - 196، عام 1395 هـ.

وفيما يلي ما تيسر إعداده من النصوص والنقول التي يمكن أن يستعان بها في هذا الموضوع: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فإنه قد عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورتها الرابعة المنعقدة ما بين 29 \ 10 \ 1393 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ موضوع (حكم السعي فوق سقف المسعى) ؛ ليكون وسيلة لعلاج ازدحام الناس في المسعى أيام موسم الحج. واطلعت الهيئة على البحث المقدم عنه من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. هذا نصه.

حكم السعي فوق سقف المسعى الأمر الأول: قال البخاري في [صحيحه] : حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال: حدثني طلحة بن عبد الله: أن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل أخبره: أن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع أرضين (¬1) » . قال ابن حجر: وفي الحديث تحريم الظلم والغصب، وتغليظ عقوبته، وإمكان غصب الأرض، وأنه من الكبائر، قاله القرطبي، وكأنه فرعه على أن الكبيرة ما ورد فيه وعيد شديد، وأن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهى الأرض، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا بغير رضاه، وفيه أن من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها بما فيه من حجارة ثابتة وأبنية ومعادن وغير ذلك، وأن له أن ينزل بالحفر ما شاء، ما لم يضر بمن يجاوره. اهـ. (¬2) . وقال العيني: بعد أن ساق حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم من الأرض شيئا طوقه من سبع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2452) ، صحيح مسلم المساقاة (1610) ، سنن الترمذي الديات (1418) ، مسند أحمد بن حنبل (1/190) ، سنن الدارمي البيوع (2606) . (¬2) [صحيح] البخاري، مع شرحه [فتح الباري] ، (5 \ 38) .

أرضين (¬1) » : ذكر ما يستفاد منه: فيه دليل على أن من ملك أرضا ملك أسفلها إلى منتهاها، وله أن يمنع من حفر تحتها سربا أو بئرا، سواء أضر ذلك بأرضه أو لا، قاله الخطابي، وقال ابن الجوزي: لأن حكم أسفلها تبع لأعلاها، وقال القرطبي: وقد اختلف فيما إذا حفر أرضه فوجد فيها معدنا أو شبهه فقيل: هو له، وقيل: بل للمسلمين، وعلى ذلك فله أن ينزل بالحفر ما شاء ما لم يضر بجاره، وكذلك له أن يرفع في الهواء المقابل لذلك القدر من الأرض من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد. اهـ. وقال الأبي (¬2) : قوله: «من ظلم شبرا من الأرض (¬3) » . . . واستدل بعضهم على أن من ملك ظاهر الأرض يملك ما تحته مما يقابله، فله منع من يتصرف فيه أو يحفر، وقد اختلف العلماء في هذا الأصل فيمن اشترى دارا فوجد فيها كنزا أو وجد في أرضه معدنا، فقيل: له، وقيل: للمسلمين. ووجه الدليل من الحديث: أنه غصب شبرا فعوقب بحمله من سبع أرضين. . . إلى أن قال: وكذلك يملك ما قبل ذلك من الهواء يرفع فيه من البناء ما شاء ما لم يضر بأحد. اهـ. فدل ما تقدم على أن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما، وعلى ذلك يمكن أن يقال: إن السعي فوق الطابق الذي جعل سقفا لأرض المسعى له حكم السعي على أرض ¬

_ (¬1) [صحيح] البخاري، مع شرحه [عمدة القاري] (12 \ 298) . (¬2) [صحيح مسلم] ، مع شرحه [إكمال المعلم] (4 \ 313، 314) . (¬3) صحيح البخاري بدء الخلق (3198) ، صحيح مسلم المساقاة (1610) ، سنن الترمذي الديات (1418) ، مسند أحمد بن حنبل (1/187) ، سنن الدارمي البيوع (2606) .

المسعى.

الأمر الثاني: وقد جاءت أحاديث في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير، (¬1) » ومن رواية أم سلمة: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: طوفي وأنت راكبة (¬2) » ، وقد بوب البخاري في [صحيحه] فقال: (باب المريض يطوف راكبا) ثم ساق الحديثين السابقين: حديث ابن عباس، وحديث أم سلمة، قال ابن حجر (¬3) : أن المصنف حمل سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا على أنه كان عن شكوى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس بلفظ: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته (¬4) » ، ووقع في حديث جابر عند مسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وليسألوه. وطاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه؛ ليراه الناس، ويشرف ليسألوه (¬5) » . فيحتمل أن يكون فعل ذلك لأمرين، وحينئذ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبا لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز، إلا أن المشي أولى والركوب مكروه تنزيها، والذي يترجح المنع، لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد، ووقع في حديث أم سلمة: «طوفي من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1612) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) . (¬2) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، سنن ابن ماجه المناسك (2961) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) ، موطأ مالك الحج (832) . (¬3) [صحيح] البخاري، مع شرحه [الفتح] ، (3 \ 460) . (¬4) تمام الحديث: كلما أتى على الركن استلم الركن بمحجنه فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين، سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد ولا يحتج به، وقال البيهقي: في حديث يزيد بن أبي زياد لفظة لم يوافق عليها وهي قوله '' وهو يشتكي '' [مختصر السنن] (2 \ 377) . (¬5) صحيح مسلم الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .

وراء الناس (¬1) » ، وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف، وإذا حوط المسجد امتنع داخله، إذ لا يؤمن التلويث، فلا يجوز بعد التحويط، بخلاف ما قبله، فإنه كان لا يحرم التلويث كما في المسعى، وعلى هذا فلا فرق في الركوب إذا ساغ بين البعير والفرس والحمار، وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها. اهـ. وفي [صحيح البخاري] بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما. قال: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (¬2) » . قال العيني: وأخرج مسلم عن أبي الطفيل: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن (¬3) » ، وروى مسلم عن جابر: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، ليراه الناس، وليشرف ليسألوه (¬4) » . . . قال: ذكر معناه قوله: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير (¬5) » . قال ابن بطال: استلامه بالمحجن راكبا يحتمل أن يكون لشكوى به. . . إلى أن قال: وقال النووي: قال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشيا، ولا يركب إلا لعذر من مرض ونحوه، أو كان يحتاج إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى به، فإن كان لغير عذر جاز بلا كراهة، لكنه خلاف الأولى. . . إلى أن قال: وقال مالك وأبو حنيفة: إن طاف راكبا لعذر أجزأ ولا شيء عليه، وإن كان لغير عذر فعليه دم، قال أبو حنيفة: وإن كان بمكة أعاد الطواف. اهـ (¬6) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، سنن ابن ماجه المناسك (2961) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) ، موطأ مالك الحج (832) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1608) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) ، مسند أحمد بن حنبل (1/248) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1275) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1879) ، سنن ابن ماجه المناسك (2949) ، مسند أحمد بن حنبل (5/454) . (¬4) صحيح مسلم الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) . (¬5) صحيح البخاري الحج (1608) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) ، مسند أحمد بن حنبل (1/248) . (¬6) [صحيح البخاري] مع شرحه [عمدة القاري] (6 \ 523) .

وقال السرخسي: وإن طاف راكبا أو محمولا؛ فإن كان لعذر من مرض أو كبر لم يلزمه شيء، وإن كان لغير عذر أعاده ما دام بمكة، فإن رجع إلى أهله فعليه الدم عندنا، وعلى قول الشافعي لا شيء عليه؛ لأنه صح في الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للزيارة يوم النحر على ناقته واستلم الأركان بمحجنه (¬1) » . ولكن نقول: المتوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا الطواف ماشيا، وهذا على قول من يجعله كالصلاة؛ لأن أداء المكتوبة راكبا من غير عذر لا يجوز، فكان ينبغي أن لا يعتد بطواف الراكب من غير عذر، ولكنا نقول: المشي شرط الكمال فيه، فتركه من غير عذر يوجب الدم؛ لما بينا، فأما تأويل الحديث فقد ذكر أبو الطفيل رحمه الله أنه طاف راكبا لوجع أصابه، وهو أنه وثبت رجله؛ فلهذا طاف راكبا، وذكر أبو الزبير عن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا لكبر سنه» ، وعندنا إذا كان لعذر فلا بأس به، وكذلك إذا طاف بين الصفا والمروة محمولا أو راكبا، وكذلك لو طاف الأكثر راكبا أو محمولا فالأكثر يقوم مقام الكل على ما بينا. اهـ (¬2) . وقال ابن الهمام: على قول صاحب [الهداية] : (وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده) كالعرجون وغيره، ثم قبل ذلك فعل؛ لما روي: «أنه عليه السلام طاف على راحلته واستلم الأركان بمحجنه (¬3) » ، وقوله: وإن أمكنه أن يمس الحجر شيئا في يده أو يمسه بيده، ويقبل ما مس به - فعل، ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/237) . (¬2) [المبسوط] (4 \ 45) . (¬3) سنن الترمذي الحج (858) ، سنن ابن ماجه المناسك (2953) ، مسند أحمد بن حنبل (1/237) .

أما الأول فلما أخرج الستة إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه؛ لأن يراه الناس ويشرف، وليسألوه، فإن الناس غشوه (¬1) » . وأخرجه البخاري عن جابر إلى قوله: لأن يراه الناس، ورواه مسلم عن أبي الطفيل: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن (¬2) » ثم أورد إشكالا حديثيا وهو: أن الثابت بلا شبهة: أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع، وطوافه راكبا على البعير ينافي ذلك. . . إلى أن قال: والجواب: أن في الحج للآفاقي أطوفة، فيمكن كون المروي من ركوبه كان في طواف الفرض يوم النحر ليعلمهم، ومشيه كان في طواف القدوم، وهو الذي يفيده حديث جابر الطويل؛ لأنه حكى ذلك الطواف الذي بدأ به أول دخوله مكة المكرمة، كما يفيده سوقه للناظر فيه. فإن قلت: فهل يجمع بين ما عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: «إنما طاف راكبا ليشرف ويراه الناس فيسألوه (¬3) » وبين ما عن سعيد بن جبير: «أنه إنما طاف كذلك؛ لأنه كان يشتكي» كما قال محمد: أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان: أنه سعى بين الصفا والمروة مع عكرمة، فجعل حماد يصعد الصفا وعكرمة لا يصعد، ويصعد حماد المروة وعكرمة لا يصعد، فقال حماد: يا أبا عبد الله، ألا تصعد الصفا والمروة، فقال: هكذا كان طواف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال حماد: فلقيت سعيد بن جبير فذكرت له ذلك، فقال: إنما طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وهو شاك يستلم الأركان بمحجن، فطاف بين الصفا والمروة على ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) . (¬2) صحيح مسلم الحج (1275) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1879) ، سنن ابن ماجه المناسك (2949) ، مسند أحمد بن حنبل (5/454) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) .

راحلته، فمن أجل ذلك لم يصعد. اهـ (¬1) . وقال الدسوقي: (قوله: إذ هو واجب. . . إلخ) . حاصله: أن المشي في كل من الطواف والسعي واجب على القادر عليه، فلا دم على عاجز طاف أو سعى راكبا أو محمولا، وأما القادر إذا طاف أو سعى محمولا أو راكبا فإنه يؤمر بإعادته ماشيا ما دام بمكة المكرمة، لا يجبر بالدم حينئذ، كما يؤمر العاجز بإعادته إن قدر ما دام بمكة المكرمة، وإن رجع لبلده فلا يؤمر بالعودة لإعادته، ويلزمه دم، فإن رجع وأعاده ماشيا سقط الدم عنه، ثم قال: وهذا في الطواف الواجب، وأما الطواف غير الواجب فالمشي فيه سنة، وحينئذ فلا دم على تارك المشي فيه، قاله عج. اهـ (¬2) . قال النووي: والأفضل: أن يطوف راجلا؛ لأنه إذا طاف راكبا زاحم الناس وآذاهم، وإن كان به مرض يشق معه الطواف راجلا لم يكره الطواف راكبا؛ لما «روت أم سلمة أنها قدمت مريضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طوفي وراء الناس وأنت راكبة (¬3) » ، وإن كان راكبا من غير عذر جاز؛ لما روى جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وسألوه (¬4) » . حديث أم سلمة رواه البخاري، وحديث جابر رواه مسلم، وثبت طواف النبي صلى الله عليه وسلم في [الصحيحين] من رواية غير هؤلاء، ولفظ حديث ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة ¬

_ (¬1) [شرح فتح القدير] (2 \ 147) . (¬2) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] (2 \ 40) . (¬3) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، سنن ابن ماجه المناسك (2961) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) ، موطأ مالك الحج (832) . (¬4) سنن النسائي مناسك الحج (2975) .

الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (¬1) » رواه البخاري ومسلم، وفي حديث: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه؛ لأن يراه الناس، وليشرف ليسألوه، فإن الناس غشوه (¬2) » رواه مسلم. وعن عائشة قالت: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس (¬3) » رواه مسلم. وأما الأحكام: فقال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشيا، ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه، أو كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى بفعله، فإن طاف راكبا بلا عذر جاز بلا كراهية، لكنه خالف الأولى، كذا قاله جمهور أصحابنا. . . إلى أن قال: (فرع) قد ذكرنا مذهبنا في طواف الراكب، ونقل الماوردي إجماع العلماء على أن طواف الماشي أولى من طواف الراكب. اهـ (¬4) . وقال أيضا: أما سنن الطواف وآدابه فثمان: أحدها: أن يطوف ماشيا، فإن طاف راكبا لعذر يشق معه الطواف ماشيا أو طاف راكبا ليظهر ويستفتى ويقتدى بفعله - جاز ولا كراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا في بعض أطوافه، وهو طواف الزيارة، ولو طاف راكبا بلا عذر جاز. اهـ. وقال ابن حجر الهيتمي في حاشيته على الشرح قوله: وهو طواف الزيارة، أما ما أشار إليه من ركوبه صلى الله عليه وسلم فيه إنما كان ليظهر فيستفتى، هذا ما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1608) ، صحيح مسلم الحج (1272) ، سنن النسائي المساجد (713) ، سنن أبو داود المناسك (1877) ، سنن ابن ماجه المناسك (2948) ، مسند أحمد بن حنبل (1/248) . (¬2) صحيح مسلم كتاب الحج (1273) ، سنن النسائي مناسك الحج (2975) ، سنن أبو داود المناسك (1880) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1274) ، سنن النسائي مناسك الحج (2928) . (¬4) [المهذب مع شرحه المجموع] للنووي (8 \ 29، 30) .

رواه مسلم، قال السبكي: وهذا أصح من رواية من روى أنه طاف راكبا لمرض، أشار بذلك إلى ما رواه أبو داود على أن في إسناده من لا يحتج به، وقال البيهقي: في حديثه: لفظه لم يوافق عليها، وهي قوله: (وهو يشتكي) ، ومن ثمة قال الشافعي: لا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم فعله ماشيا، وخبر مسلم أنه طاف في حجة الوداع راكبا على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة - لا ينافي ذلك، وإن كان سعيه في تلك الحجة إنما كان مرة واحدة وعقب طواف القدوم؛ لأن الواو لا تقتضي ترتيبا. اهـ (¬1) . وقال في [الإيضاح] أيضا: ويجوز الطواف في أخريات المسجد، وفي أروقته وعند بابه من داخله وعلى أسطحته، ولا خلاف في شيء من هذا، لكن قال بعض أصحابنا: يشترط في صحة الطواف أن يكون البيت أرفع بناء من السطح، كما هو اليوم حتى لو رفع سقف المسجد فصار سطحه أعلى من البيت لم يصح الطواف على هذا السطح، وأنكره عليه الإمام أبو القاسم الرافعي. اهـ (¬2) . وقال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر. . . إلى أن قال: فصل: فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ، وهذا هو إحدى الروايات عن أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطواف بالبيت صلاة (¬3) » . ولأنها عبادة تتعلق بالبيت ¬

_ (¬1) [متن الإيضاح في مناسك الحج للنووي مع شرحه] لابن حجر الهيتمي (11 \ 255) . (¬2) [الإيضاح] للنووي (1 \ 239) مع شرحه للهيتمي. (¬3) قال الزيلعي في [نصب الراية] (3 \ 57) : قلت: رواه ابن حبان في [صحيحه] في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث فضيل بن عياض، والحاكم في [المستدرك] من حديث سفيان كلاهما عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير '' انتهى. وسكت الحاكم عنه، وأخرجه الترمذي في كتابه عن جرير عن عطاء بن السائب به بلفظ: '' الطواف حول البيت مثل الصلاة '' قال: وروي هذا الحديث عن ابن طاووس وغيره عن طاووس موقوفا، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب. انتهى، وعن الحاكم رواه البيهقي في [المعرفة] بسنده، ثم قال: وهذا حديث قد رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفا وهو أصح. اهـ.

فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة، والثانية: يجزئه ويجبره بدم، وهو قول مالك، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: يعيد ما كان بمكة المكرمة، فإن رجح جبره بدم؛ لأنه ترك صفة واجبة من واجبات الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل غروب الشمس، والثالثة: يجزئه ولا شيء عليه. اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي وابن المنذر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل ثم قال: فصل فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر؛ لأن المعنى الذي منع الطواف راكبا غير موجود فيه. اهـ (¬1) . وقال البهوتي (¬2) : ومن طاف أو سعى راكبا أو محمولا لغير عذر لم يجزئه الطواف ولا السعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة (¬3) » ، ولأنه عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا كالصلاة، والسعي كالطواف، والطواف أو السعي راكبا أو محمولا لعذر يجزئ؛ لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن، وعن أم سلمة قالت: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال: طوفي من وراء ¬

_ (¬1) [المغني والشرح الكبير] (3 \ 415) . (¬2) [كشاف القناع] (2 \ 433) . (¬3) سنن النسائي مناسك الحج (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (4/64) .

الناس راكبة (¬1) » متفق عليه، ولأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا لعذر - كما يشير إليه قول ابن عباس - كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب. رواه مسلم، واختار الموفق والشارح: يجزئ السعي راكبا ولو لغير عذر. اهـ. مما تقدم يتبين: أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق، ولا شيء عليه، أما غير المعذور فله أن يسعى راكبا لكن المشي له أفضل، وفي طوافه راكبا خلاف، فقيل: يجزئه ولا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة راكبا، وقيل يجزئه وعليه دم جبرا؛ لأن الطواف له حكم الصلاة في الجملة، والمفترض لا يصلي محمولا، ولأن ركوبه صلى الله عليه وسلم في الطواف كان لوجع في رجله أو ليراه الناس فيسألوه، وقيل: لا يجزئه لحديث: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام (¬2) » والمفترض لا تصح صلاته راكبا لغير عذر، وطواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا كان لعذر كما تقدم. وعلى هذا يمكن أن يقال بإجزاء السعي على سقف المسعى؛ بل بجوازه، وإن كان المشي أفضل لشبهه بالسعي راكبا بعيرا ونحوه، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه، وخاصة أنه لم يرد في السعي ما يلحقه بالصلاة في حكمها؛ بل أنه أولى من الطواف راكبا بالإجزاء، فإذا صح الطواف راكبا لعذر صح السعي فوق سقف المسعى لعذر، وفي سعيه فوقه لغير عذر يكون فيه الخلاف في جوازه وإجزائه، وأخيرا إن اعتبر في إجزاء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الصلاة (464) ، صحيح مسلم الحج (1276) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2925) ، سنن أبو داود المناسك (1882) ، سنن ابن ماجه المناسك (2961) ، مسند أحمد بن حنبل (6/319) ، موطأ مالك الحج (832) . (¬2) سنن النسائي مناسك الحج (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (4/64) .

السعي فوق سقف المسعى أو جوازه وجود العذر نظر في زحام السعاة في الحج والعمرة، هل يقوم عذرا أو لا. والله الموفق.

الأمر الثالث: وقد يسترشد فيه بالقرآن وأقوال الفقهاء، قال الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬1) في هذه الآية خطاب من الله للناس في كل مكان أن يولوا وجوههم قبل المسجد الحرام سواء منهم من كان بأرض منخفضة عن المسجد الحرام فيكون مستقبلا في صلاته لتخوم أرضه ومن كان منهم بمكان مرتفع عن سطح الكعبة، فيكون مستقبلا لما فوق الكعبة من الهواء، فدل ذلك على أن حكم ما تحت البيت الحرام من تخوم الأرض وما فوقه من الهواء في استقبال القبلة في الصلاة حكم استقبال البيت نفسه. وفيما يلي نقول عن بعض أهل العلم في الموضوع: قال السرخسي: ومن صلى على سطح الكعبة جازت صلاته عندنا، وإن لم يكن بين يديه سترة، وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يكون بين يديه سترة، بناء على أصله: أن البناء معتبر في جواز التوجه إليه للصلاة، ثم قال: وعندنا القبلة هي الكعبة، فسواء كان بين يديه سترة أو لم يكن فهو مستقبل القبلة، وبالاتفاق: من صلى على أبي قبيس جازت صلاته وليس بين يديه شيء من بناء الكعبة، فدل على أنه لا معتبر للبناء. اهـ. (¬2) . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 150 (¬2) [المبسوط] (2 \ 79) .

وقال المرغيناني (¬1) : (ومن كان غائبا ففرضه إصابة جهتها هو الصحيح؛ لأن التكليف بحسب الوسع) . وقال ابن الهمام تعليقا على قول المرغيناني: (إصابة جهتها) قال: قوله: (إصابة جهتها) في [الدراية] عن شيخه ما حاصله: أن استقبال الجهة أن يبقى شيء من سطح الوجه مسامتا للكعبة أو لهوائها؛ لأن المقابلة إذا وقعت في مسافة بعيدة لا تزول بما يزول به من الانحراف لو كانت مسافة قريبة، ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت البعد وتبقى المسامة مع انتقال مناسب لذلك البعد، فلو فرض خط من تلقاء وجه المستقبل للكعبة على التحقيق في بعض البلاد وخط آخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل وشماله لا تزول تلك المقابلة والتوجه بالانتقال إلى اليمين والشمال على ذلك الخط بفراسخ كثيرة. . . اهـ. وقال الدسوقي (¬2) : قوله: (وبطل فرض على ظهرها) أي: على ظهر الكعبة قوله: (فيعاد أبدا، أي: على المشهور، ولو كان بين يديه قطعة من حائط سطحها بناء على أن المأمور به استقبال جملة البناء لا بعضه ولا الهواء، وهو المعتمد، وقيل: إنما يعاد بناء على كفاية استقبال هواء البيت أو استقبال قطعة من البناء ولو من حائط سطحه. اهـ. وقد ذكر نحوا من ذلك الحطاب (¬3) . ¬

_ (¬1) [الهداية وعليها فتح القدير] (1 \ 189) . (¬2) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] (1 \ 299) . (¬3) [مواهب الجليل على مختصر خليل] (1 \ 511 - 513) .

وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي: ملخصا حكم الصلاة على ظهر الكعبة: (فتحصل من كلام الشارح أن الفرض على ظهرها ممنوع اتفاقا، وأما النفل ففيه أقوال ثلاثة، الجواز مطلقا، والجواز إن كان غير مؤكد، والمنع وعدم الصحة مطلقا، قال شيخنا: وهذا الأخير هو أظهر الأقوال. (تنبيه) : سكت المصنف عن حكم الصلاة تحت الكعبة في حفرة، وقد قدم أن الحكم بطلانها مطلقا، فرضا أو نفلا؛ لأن ما تحت المسجد لا يعطى حكمه بحال، ألا ترى أن الجنب يجوز له الدخول تحته، ولا يجوز له الطيران فوقه، كذا قرره شيخنا. وكتب الشيخ محمد عليش في تقريره على [حاشية الدسوقي والشرح الكبير] ، للشيخ أحمد الدردير ما نصه: وإنما جاز على جبل أبي قبيس مع أنه أعلى من بنائها؛ لأن المصلى عليه مصل إليها وأما المصلي على ظهرها فهو فيها، انتهى (ضوء الشموع) . وقال النووي (¬1) : أما حكم المسألة: فقال أصحابنا: ولو وقف على أبي قبيس أو غيره من المواضع العالية على الكعبة وبقربها صحت صلاته بلا خلاف؛ لأنه يعد مستقبلا وإن وقف على سطح الكعبة نظر إن وقف على طرفها واستدبر باقيها لم تصح صلاته بالاتفاق؛ لعدم استقبال شيء منها، ¬

_ (¬1) [المهذب مع شرحه المجموع] للنووي (3 \ 198) .

وهكذا لو انهدمت - والعياذ بالله - فوقف على طرف العرصة واستدبر باقيها لم تصح صلاته، ولو وقف خارج العرصة واستقبلها صح بلا خلاف، أما إذا وقف في وسط السطح أو العرصة فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص - لم تصح صلاته على الصحيح المنصوص، وبه قال أكثر الأصحاب، وقال ابن سريج: تصح، وبه قال أبو حنيفة وداود ومالك في رواية عنه، كما لو وقف على أبي قبيس، وكما لو وقف خارج العرصة واستقبلها، والمذهب الأول، والفرق أنه لا يعد هنا مستقبلا بخلاف ما قاس عليه، وهذا الوجه الذي لابن سريج جاز في العرصة والسطح كما ذكرنا، كذا نقله عنه إمام الحرمين وصاحب التهذيب وآخرون، وكلام المصنف يوهم أنه لا يقول به في السطح وليس الأمر كذلك. اهـ وقال ابن قدامة: ولو صلى على جبل عال يخرج من مسامتة الكعبة صحت صلاته، وكذلك لو صلى في مكان ينزل عن مسامتتها؛ لأن الواجب استقبالها وما يسامتها من فوقها وتحتها بدليل ما لو زالت الكعبة - والعياذ بالله - صحت الصلاة إلى موضع جدارها. اهـ (¬1) . وقال البهوتي: ولا يضر علو على الكعبة كما لو صلى على أبي قبيس، ولا نزوله عنها كما لو صلى في حفيرة تنزل عن مسامتتها؛ لأن العبرة بالبقعة لا بالجدران. اهـ (¬2) . مما تقدم يتبين أن من صلى على مكان مرتفع عن سطح الكعبة مستقبلا ¬

_ (¬1) [المغني مع الشرح الكبير] (1 \ 463) . (¬2) [متن الإقناع مع شرح كشاف القناع] (2 \ 79) .

ما فوق سطحها من هواء صحت إجماعا، كمن صلى فوق جبل أبي قبيس، أو في بلاد سطح أرضها أعلى من سطح الكعبة، ومن صلى الفريضة فوق الكعبة مستقبلا ما أمامه من هوائها أو مستقبلا سترة بين يديه ففي صحة صلاته خلاف، بناء على الاكتفاء باستقبال جزء من بناء الكعبة أو جزء من هوائها في صحة الصلاة، وعدم الاكتفاء بذلك؛ بل لا بد من شاخص أو استقبال جملة البناء أو جملة الهواء أما من على سطحها أو في جوفها فيقال فيه إنه مستدبر الكعبة أو هواءها باعتبار كما يقال أنه مستقبل باعتبار آخر، فلم يتحقق فيه شرط الاستقبال بإطلاق، فلا تصح صلاته، ومن صلى على طرفها وجعل هواءها وراءه بطلت صلاته؛ لأنه لم يستقبل شيئا من بنائها ولا من هوائها. وعلى هذا يمكن أن يقال: إذا كان استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها، فالسعي فوق سقف المسعى في حكم السعي على أرض المسعى.

الأمر الرابع: روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (¬1) » رواه أحمد ومسلم والنسائي (¬2) . وما روى أبو داود وابن ماجه في [سننهما] ، عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) . (¬2) [المنتقى مع شرحه] للشوكاني (5 \ 70) .

الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة ورجل خلفه يستره فسألت عن الرجل فقالوا: الفضل بن عباس، وازدحم الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رأيتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف (¬1) » سكت أبو داود عن الحديث، وقال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد (¬2) . وقال الشوكاني: قوله: (على راحلته) استدل به على أن رمي الراكب لجمرة العقبة أفضل من رمي الراجل، وبه قالت الشافعية، والحنفية، والناصر، والإمام يحيى، وقال الهادي والقاسم: إن رمي الراجل أفضل. اهـ (¬3) . وقال ابن عابدين: وقوله: (وجاز الرمي راكبا. . . إلخ) عبارة المتلقي أخص وهي: وجاز الرمي راكبا، وغير راكب أفضل في جمرة العقبة. انتهى، وفي اللباب: والأفضل أن يرمي جمرة العقبة راكبا وغيرها ماشيا في جميع أيام الرمي - إلى أن قال: والضابط: أن كل رمي يقف بعده فإنه يرميه ماشيا، وهو كل رمي بعده رمي، كما مر وما لا فلا، ثم هذا التفصيل قول أبي يوسف، وله حكاية مشهورة ذكرها (ط) وغيره وهو مختار كثير من المشايخ، كصاحب [الهداية] و [الكافي] و [البدائع] ، وغيرهم، وأما قولهما: فذكر في [البحر] : أن الأفضل الركوب في الكل على ما في الحاشية، والمشي في الكل على ما في الظهيرية، وقال: فتحصل أن في ¬

_ (¬1) سنن أبو داود المناسك (1966) ، سنن ابن ماجه المناسك (3028) . (¬2) [مختصر سنن أبى داود] للمنذري (2 \ 415) . (¬3) [نيل الأوطار] (5 \ 71) .

المسألة ثلاثة أقوال. . . ثم قال: (قوله: ورجحه الكمال) أي: بأن أداءها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع، وخصوصا في هذا الزمان، فإن عامة المسلمين مشاة في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة، ورميه عليه السلام راكبا إنما هو ليظهر فعله ليقتدى به كطوافه راكبا. اهـ. قال في [البحر] : ولو قيل بأنه ماشيا أفضل إلا في رمي جمرة العقبة وفي اليوم الأخير لكان له وجه؛ لأنه ذاهب إلى مكة المكرمة في هذه الساعة كما هو العادة، وغالب الناس راكب فلا إيذاء في ركوبه مع تحصيل فضيلة الاتباع له عليه الصلاة والسلام. اهـ (¬1) . وقال السرخسي: وإن رماها راكبا أجزأه؛ لحديث جابر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار راكبا» . اهـ. (¬2) . وفي [المدونة الكبرى] : قلت: فهل يرمي الرجل الجمار راكبا أو ماشيا، قال: قال مالك: أما الشأن يوم النحر فيرمي جمرة العقبة راكبا كما يأتي على دابته يمضي كما هو يرمي، وأما في غير يوم النحر فكان يقول: يرمي ماشيا، قلت: فإن ركب في رمي الجمار في الأيام الثلاثة أو مشى يوم النحر إلى جمرة العقبة فرماها ماشيا هل عليه لذلك شيء؟ قال: ليس عليه لذلك شيء. اهـ. (¬3) . ¬

_ (¬1) [رد المحتار على الدر المختار] (1 \ 254) . (¬2) [المبسوط] (4 \ 69) . (¬3) [المدونة الكبرى] (1 \ 325) .

وقال الدسوقي: (قوله: وإن راكبا، أي: إذا وصل إليها ماشيا؛ بل إن وصل إليها راكبا، وهذا من تعلقات الندب، أي: أنه يندب أن يرميها حين وصوله على الحالة التي وصل عليها من ركوب أو مشي فلا يصبر حتى ينزل إذا وصل راكبا ولا يصبر حتى يركب إذا وصل إليها ماشيا؛ لأن فيه عدم الاستعجال برميها. اهـ (¬1) . وقال الشافعي: ولا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة وحدها ويرميها راكبا، وكذلك يرميها يوم النفر راكبا ويمشي في اليومين الآخرين أحب إلي. ثم قال: وإن ركب فلا شيء عليه ثم ساق رواية قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقته الصهباء وليس ضرب ولا طرد ولكن قيل: إليك إليك (¬2) » اهـ (¬3) . وقال النووي (¬4) : (فرع) مذهبنا: أنه يستحب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا إن كان دخل منى راكبا، ويرمي في أيام التشريق ماشيا، إلا يوم النفر فراكبا، وبه قال مالك، قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة واستحبه أحمد، وكره جابر الركوب إلى شيء من الجمار إلا لضرورة. قال: وأجمعوا على أن الرمي يجزئه على أي حال إذا وقع في المرمى، دليلنا: الأحاديث الصحيحة السابقة. أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى ¬

_ (¬1) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] (2 \ 45) . (¬2) سنن الترمذي الحج (903) ، سنن النسائي مناسك الحج (3061) ، سنن ابن ماجه المناسك (3035) ، مسند أحمد بن حنبل (3/413) ، سنن الدارمي المناسك (1901) . (¬3) [الأم] للشافعي (2 \ 213) . (¬4) [المجموع] للنووي (8 \ 183)

جمرة العقبة راكبا يوم النحر والله أعلم. وقال ابن قدامة (¬1) : ويرميها راكبا أو راجلا كيفما شاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته رواه جابر، وابن عمر، وأم أبي الأحوص، وغيرهم، قال جابر: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (¬2) » . وقال نافع: «كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهبا وراجعا، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا وراجعا (¬3) » رواه أحمد في [المسند] ثم قال: وفي هذا بيان للتفريق بين هذه الجمرة وغيرها اهـ. وقال البهوتي (¬4) : فإذا وصل إلى منى. . . بدأ بها راكبا؛ إن كان راكبا؛ لحديث ابن مسعود: أنه «انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب، يكبر مع كل حصاة (¬5) » . . . إلى أن قال: هاهنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة. رواه أحمد. وظاهر كلام الأكثر ماشيا وإلا - أي: لم يكن راكبا - رماها ماشيا. اهـ. مما تقدم يتبين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة راكبا، وأن الفقهاء اتفقوا على أنه يجزئ الرمي راكبا وماشيا. واختلفوا في الأفضل منهما، هل هو الرمي ماشيا؛ لأنه أقرب للتواضع ¬

_ (¬1) [المغني مع الشرح الكبير] (3 \ 449) . (¬2) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) . (¬3) سنن الترمذي الحج (900) ، سنن أبو داود المناسك (1969) ، مسند أحمد بن حنبل (2/138) . (¬4) [كشاف القناع] (2 \ 449) (¬5) صحيح البخاري الحج (1751) ، صحيح مسلم الحج (1296) ، سنن الترمذي الحج (901) ، سنن النسائي مناسك الحج (3073) ، سنن أبو داود المناسك (1974) ، سنن ابن ماجه المناسك (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/427) .

والبعد عن إيذاء المشاة، وإنما رماها صلى الله عليه وسلم راكبا؛ ليراه الناس ويسألوه ويقتدوا به، أو الرمي راكبا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يمكن أن يقال: إذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى، فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها؛ بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه؛ لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب. . ونظرا إلى أن السعي فوق سقف المسعى لم نقف فيه على نصوص للفقهاء، وأن ما يرجع إليه من أقوالهم للاسترشاد بها على هذه المسألة ليس بكثير وليس الخلاف فيه كثيرا - اكتفينا بما نقلناه، سائلين الله التوفيق للجميع. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء حول السعي فوق سقف المسعى

قرار هيئة كبار العلماء رقم (21) وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فبناء على الخطاب الوارد لفضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من معالي وزير العدل رقم (267) وتاريخ 23 \ 3 \ 1393هـ المبني على خطاب سمو نائب وزير الداخلية رقم (26 \ 10612) وتاريخ 21 \ 3 \ 1393 هـ بخصوص الرغبة في إبداء الحكم الشرعي في (حكم السعي فوق سقف المسعى) ليكون وسيلة من وسائل علاج ازدحام الحجاج أيام الموسم، وبناء على ما رآه فضيلته من إدراج هذا الموضوع في جدول أعمال هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة فقد تم إدراج ذلك، وفي تلك الدورة جرى الاطلاع على أوراق المعاملة المتعلقة بالاستفتاء، كما جرى الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد دراسة المسألة، واستعراض أقوال أهل العلم في حكم الطواف والسعي والرمي راكبا، والصلاة إلى هواء الكعبة أو قاعها، وكذا حكم الطواف فوق أسطحة الحرم وأروقته، وحكمهم بأن من ملك أرضا ملك أسفلها وأعلاها. وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة، بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة، وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضا لما يأتي:

1 - لأن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما، فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه. 2 - لما ذكره أهل العلم من أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبا لعذر باتفاق، ولغير عذر على خلاف من بعضهم، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه من يسعى راكبا بعيرا ونحوه، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه، وعلى رأي من لا يرى جواز السعي راكبا لغير عذر، فإن ازدحام السعاة في الحج يعتبر عذرا يبرر الجواز. 3 - أجمع أهل العلم على أن استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها، بناء على أن العبرة بالبقعة لا بالبناء، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه. 4 - اتفق العلماء على أنه يجوز الرمي راكبا وماشيا، واختلفوا في الأفضل منهما، فإذا جاز رمي الجمرات راكبا جاز السعي فوق سقف المسعى، فإن كلا منهما نسك أدي من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها، بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه؛ لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب. 5 - لأن السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمى السعي بين الصفا والمروة؛ ولما في ذلك من التيسير على المسلمين والتخفيف مما هم فيه من الضيق والازدحام، وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 185 (¬2) سورة الحج الآية 78

مع عدم وجود ما ينافيه من كتاب أو سنة، بل إن فيما تقدم من المبررات ما يؤيد القول بالجواز عند الحاجة. وقد ذكر ابن حجر الهيتمي رحمه الله رأيه في المسألة: فقال في حاشيته على [الإيضاح] لمحيي الدين النووي ص (131) : (ولو مشى أو مر في هواء المسعى فقياس جعلهم هواء المسجد مسجدا، صحة سعيه) . اهـ. أما المشايخ: محمد بن حركان، وعبد العزيز بن صالح، وسليمان بن عبيد، وصالح بن لحيدان، وعبد الله بن غديان، وراشد بن خنين - فقد توقفوا في هذه المسألة. وأما الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فيرى عدم جواز ذلك، وله وجهة نظر في المنع مرفقة. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الثالثة عبد الله بن محمد بن حميد عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي له وجهة نظر مخالفة ... عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

وجهة نظر لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

وجهة نظر لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن لنا وجهة نظر مخالفة للقرار الصادر بالأغلبية من هيئة كبار العلماء في شأن جواز السعي فوق السقف الكائن فوق المسعى والصفا والمروة، وحاصل وجهة نظرنا في ذلك هو: أنا لا نرى جواز تعدد المسعى وإباحة السعي في مسعيين: مسعى أسفل، ومسعى أعلى؛ وذلك للأمور الآتية: الأمر الأولى: أن الأمكنة المحددة من قبل الشرع لنوع من أنواع العبادات لا تجوز الزيادة فيها ولا النقص إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. الأمر الثاني: أن الأمكنة المحددة شرعا لنوع من أنواع العبادات ليست محلا للقياس؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة، ولأن تخصيص تلك الأماكن بتلك العبادات في دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علة معقولة المعنى حتى يتحقق المناط بوجودها في فرع آخر حتى يلحق بالقياس، فالتعبدي المحض ليس من موارد القياس. الأمر الثالث: هو أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الوارد لبيان إجمال نص من القرآن العظيم له حكم ذلك النص القرآني الذي ورد لبيان إجماله. فإن دلت آية من القرآن العظيم على وجوب حكم من

الأحكام وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها بفعله - فإن ذلك الفعل يكون واجبا بعينه وجوب المعنى الذي دلت عليه الآية، فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر. ومعلوم أن ذلك منقسم إلى قسمين كما هو مقرر في الأصول: الأول منهما: أن تكون القرينة وحدها هي التي دلت على أن ذلك الفعل الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم وارد لبيان نص من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1) فإن الآية تحتمل القطع من الكوع، ومن المرفق، ومن المنكب؛ لأن لفظ اليد قد يستعمل في كل ما ذكر، وقد دلت القرينة على أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو: قطعه يد السارق من الكوع وارد لبيان قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬2) فلا يجوز العدول عن هذا الفعل النبوي الوارد لبيان نص من القرآن لبدل آخر إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. القسم الثاني من قسمي الفعل المذكور: هو أن يرد قول من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك الفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلم بيان لنص من القرآن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي (¬3) » فإنه يدل على أن أفعاله في الصلاة بيان لإجمال الآيات التي فيها الأمر بإقامة الصلاة، فلا يجوز العدول عن شيء من تلك الأفعال الصادرة منه صلى الله عليه وسلم لبيان تلك الآيات القرآنية إلا بدليل من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم (¬4) » فإنه يدل على أن أفعاله في الحج بيان لإجمال آيات الحج، فلا يجوز العدول عن شيء منها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 38 (¬2) سورة المائدة الآية 38 (¬3) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7246) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) . (¬4) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .

وإذا علمت هذا فاعلم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬1) فصرح في هذه الآية بأن المكان الذي علمه الصفا، والمكان الذي علمه المروة من شعائر الله. ومعلوم أن الصفا والمروة كلاهما علم لمكان معين، وهو علم شخص لا علم جنس، بلا نزاع ولا خلاف بين أهل اللسان في أن العلم يعين مسماه - أي: يشخصه - فإن كان علم شخص كما هنا شخص مسماه في الخارج، بمعنى: أنه لا يدخل في مسماه شيء آخر غير ذلك الشخص، عاقلا كان أو غير عاقل، وإن كان علم جنس شخص مسماه في الذهن، وليس البحث في ذلك من غرضنا. وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكر الله في الآية أنه من شعائر الله هو شخص الصفا وشخص المروة، أي: الحقيقة المعبر عنها بهذا العلم الشخصي، ولا يدخل شيء آخر البتة في ذلك لتعين المسمى بعلمه الشخصي دون غيره، كائنا ما كان، سواء كان الفراغ الكائن فوق المسمى المشخص بعلمه أو غير ذلك من الأماكن الأخرى. وإذا علمت ذلك فاعلم أن الله تعالى رتب بالفاء قوله {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬2) على كونهما من شعائر الله، وفي قوله تعالى: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (¬3) إجمال يحتاج إلى بيان كيفية التطوف ومكانه ومبدئه ومنتهاه. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا النص القرآني بالسعي بين الصفا والمروة، مبينا أن فعله المذكور واقع لبيان القرآن العظيم المذكور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (¬4) » وقوله: «أبدأ بما بدأ الله به (¬5) » يعني: الصفا في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} (¬6) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 158 (¬2) سورة البقرة الآية 158 (¬3) سورة البقرة الآية 158 (¬4) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬5) سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) . (¬6) سورة البقرة الآية 158

الآية، ومن جملة البيان المذكور بيان جواز السعي حالة الركوب على الراحلة، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سعيه بين الصفا والمروة مبينا لذلك مراد الله في كتابه لا يجوز العدول عنه في كيفيته ولا عدده ولا مكانه ولا مبدئه ولا منتهاه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. ولا شك أن المسعى الجديد الكائن فوق السقف المرتفع الذي فوق المسعى النبوي المبين بالسعي فيه معنى القرآن غير المسعى النبوي المذكور، ومغايرته له من الضروريات؛ لأنه مما لا نزاع فيه أن المتضايفين اللذين تستلزمهما كل صفة إضافية متباينان تباين المقابلة لا تباين المخالفة، ومعلوم أن المتباينين تباين المقابلة بينهما غاية المنافاة؛ لتنافيهما في حقيقتيهما، واستحالة اجتماعهما في محل آخر. ومعلوم أن المتباينات هذا التباين التقابلي التي بينها منتهى المنافاة أربعة أنواع: هي: التقابل بين النقيضين، والتقابل بين الضدين، والتقابل بين المتضايفين، والتقابل بين العدم والملكة، كما هو معلوم في محله. فكما أن الشيء الواحد يستحيل أن يتصف بالوجود والعدم في وقت واحد من جهة واحدة، وكما أن النقطة البسيطة من اللون يستحيل أن تكون بيضاء سوداء في وقت واحد، وأن العين الواحدة يستحيل أن تكون عمياء مبصرة في وقت واحد، فكذلك يستحيل أن يكون الشيء الواحد فوق هذا وتحته في وقت واحد. فالمسعى الذي فوق السقف يستحيل أن يكون هو المسعى الذي تحت السقف. فهو غيره قطعا، كما هو الشأن في كل متضايفين وكل متباينين تباين تقابل أو مخالفة. وإذا حققت بهذا أن المسعى الذي فوق السقف مغاير في ذاته لحقيقة المسعى الذي تحت السقف، وعلمت أن السعي في المسعى الذي

تحت السقف هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مبينا بالسعي فيه مراد الله في كتابه قائلا: «خذوا عني مناسككم (¬1) » وأن أفعاله صلى الله عليه وسلم المبينة للقرآن لا يجوز العدول عنها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة - علمت بذلك أن العدول بالسعي عن المسعى النبوي إلى المسعى الجديد الكائن فوق السقف الذي فوق الصفا والمروة يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله، ويحتاج جدا إلى معرفة من أخذ عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرنا بأخذ مناسكنا عنه هو وحده صلى الله عليه وسلم، ولم يأذن لنا في أخذها عن زيد ولا عمرو. فعلينا أن نتحقق الجهة التي أخذنا عنها هذا المنسك الجديد؛ لأن المناسك مرهونة بأمكنتها وأزمنتها، ولا يجوز التحكم في مكان أو زمان غير الزمان والمكان المحدودين من قبل الشارع، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين الأمكنة التي أنيط بها النسك، وعمم البيان في ذلك، وجعله شاملا للأمكنة التي أقام فيها هو النسك، وغيرها من الأمكنة الصالحة للنسك، كقوله صلى الله عليه وسلم: «وقفت هنا وعرفة كلها موقف (¬2) » ونظير ذلك في مزدلفة ومنى بالنسبة للنحر كما هو معلوم. الأمر الرابع: أن السعي في المسعى الجديد خارج عن مكان السعي الذي دلت عليه النصوص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الظرف المكاني للسعي بالنسبة إلى الصفا والمروة هو ظرف المكان الذي يعبر عنه بلفظة: (بين) وأما المسعى الجديد فظرفه المكاني بالنسبة إلى الصفا والمروة هو لفظة (فوق) ومعلوم أن لفظ: (بين) ولفظ: (فوق) وإن كانا ظرفي مكان فمعناهما مختلف، ولا يؤدي أحدهما معنى الآخر؛ لتباين مدلوليهما، فالساعي في المسعى الأعلى الجديد لا يصدق عليه أنه ساع بين الصفا والمروة، وإنما هو ساع فوقهما، والساعي فوق شيئين ليس ساعيا بينهما؛ للمغايرة ¬

_ (¬1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬2) صحيح مسلم الحج (1218) .

الضرورية بين معنى: (فوق) و (بين) كما ترى. ويزيد هذا إيضاحا ما ثبت في الصحيح من حديث - عائشة رضي الله عنها المرفوع، وإن ظن كثير من طلبة العلم أنه موقوف عليها. فقد روى البخاري عنها في جوابها لعروة بن الزبير في شأن السعي بين الصفا والمروة أنها قالت ما لفظه: «وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما؛ فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما (¬1) » انتهى محل الغرض منه بلفظه. فتأمل قولها وهي هي، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، وقولها: (فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما) وتأمل معنى لفظة (بين) يظهر لك أن مفهوم كلامها: أن من سعى فوقهما لم يأت بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك ليس له. وهذا المعنى ضروري للمغايرة الضرورية بين الظرفين، أعني: (فوق) و (بين) وفي لفظ عند مسلم عنها أنها قالت: «ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة (¬2) » انتهى محل الغرض منه، وهو يدل على أن من طاف فوقهما لا يتم الله حجه ولا عمرته؛ لأن الطائف فوقهما يصدق عليه لغة أنه لم يطف بينهما، وفي لفظ لمسلم عنها: أنها قالت: «فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة (¬3) » وقد علمت أن الساعي فوقهما لم يطف بينهما. وقد أقسمت على أن من لم يطف بينهما لا يتم حجه كما ترى. واعلم أن ما يظنه بعض أهل العلم من أن حديث عائشة هذا الدال على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه، وأنه لا يتم بدونه حج ولا عمرة أنه موقوف عليهما غير صواب. بل هو مرفوع. ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء قولها: (فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما) على قولها: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1643) ، سنن النسائي مناسك الحج (2968) ، سنن أبو داود المناسك (1901) ، مسند أحمد بن حنبل (6/144) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1790) ، صحيح مسلم الحج (1277) ، موطأ مالك الحج (838) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1643) ، صحيح مسلم الحج (1277) ، سنن ابن ماجه المناسك (2986) .

«قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما (¬1) » وهو صريح في أن قولها: (ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما) لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما. ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنة: أنه فرضه بسنته، كما جزم به ابن حجر في [الفتح] مقتصرا عليه، مستدلا له بأنها قالت: (ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة) فقولها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما) وترتيبها على ذلك بالفاء قولها: (فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما) وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلا بذلك - دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا برأي منها كما ترى. الأمر الخامس: أن إقرار المسعى الأعلى الجديد لا يؤمن أن يكون ذريعة لعواقب غير محمودة؛ وذلك من جهتين: الأولى: أنه يخشى أن يكون سببا لتغييرات وزيادات في أماكن النسك الأخرى؛ كالمرمى، وكمطاف مماثل فوق الكعبة. الثانية: أنه لا يؤمن أن يكون ذريعة للقال والقيل، وقد شوهد شيء من ذلك عند البحث في تأخير المقام لتوسعة المطاف، فلا يؤمن أن يقال: إن الهيئة الفلانية أو الجهة الفلانية بدأت تغير مواضع النسك التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون أربعة عشر قرنا، والدعايات المغرضة كثيرة، فسدا للذريعة إليها مما يستحسن - ولا يخفى أن إقرار هذا المسعى الأعلى الجديد يلزمه جواز إقرار مطاف أعلى جديد مماثل - فقد يقترح مقترح، ويطلب طالب جعل سقف فوق الكعبة الشريفة على قدر مساحة المطاف الأرضي، ويجعل فوق السقف المذكور علامات واضحة تحدد مساحة الكعبة تحديدا دقيقا، مع تحقيق كون مساحة الكعبة المحددة فوق ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1643) ، صحيح مسلم الحج (1277) ، سنن النسائي مناسك الحج (2968) ، مسند أحمد بن حنبل (6/144) .

السقف مسامتة للكعبة مسامتة دقيقة، ويبقى صحن ذلك المطاف الأعلى واضحا متميزا عن قدر مساحة الكعبة من الهواء الذي فوق السطح، فيطوف الناس حول ذلك الهواء المسامت للكعبة؛ لتخف بذلك وطأة الزحام في المطاف الأرضي، ولا شك أن هذا المطاف الأعلى المفترض لو فرض جوازه فهو أقل مشقة على الطائفين من توسعة المطاف الأرضي؛ لأن المطاف الأرضي كلما اتسع كانت مسافة الشوط في أقصاه أكثر من مسافته فيما يقرب منه من الكعبة، وأما المطاف الأعلى فلا تزيد مسافة الشوط فيه عن مسافته في المطاف الأرضي؛ لاتحادهما في المساحة، فهو أخف على الطائف، ولا نعتقد أن لهذا المطاف الأعلى المفترض مستندا من الشرع، كما لا نعتقد أن بينه وبين المسعى الجديد فرقا. وفي الختام فإن زيادة مكان نسك على ما كان عليه المسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم تحتاج إلى تحر وتثبت ونظر في العواقب، ودليل يجب الرجوع إليه من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع العلم بأن الزحام في أماكن النسك أمر لا بد منه، ولا محيص عنه بحال من الأحوال، والله الذي شرح ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عالم بما سيكون، والعلم عند الله تعالى. أملاه الفقير إلى رحمة ربه وعفوه. حرر في 12 \ 11 \ 1393 هـ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي

حكم الأوراق النقدية

(2) حكم الأوراق النقدية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم الأوراق النقدية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه (¬1) . وبعد: فقد عرض على هيئة كبار العلماء برئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية - موضوع (الورق النقدي) حيث تم إدراجه في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الأول، ص 197 - 222، عام 1395 هـ.

وفي تلك الدورة قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع هذا نصه: تعريف النقد. نشأة النقود وتطورها. قاعدة النقد الورقي. سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل. آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية. الأوراق النقدية أسناد. الأوراق النقدية عروض. الأوراق النقدية فلوس. الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة وأجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها. علة الربا في النقدين. الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه.

تعريف النقد

حكم الأوراق النقدية تعريف النقد: يقول علماء الاقتصاد: إن للنقد ثلاث خصائص متى توفرت في مادة ما اعتبرت هذه المادة نقدا: الأولى: أن يكون وسيطا للتبادل. الثانية: أن يكون مقياسا للقيم. الثالثة: أن يكون مستودعا للثروة. وعلى هذا الأساس قيل: إن النقد هو أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حال يكون، وفي أقوال بعض أهل العلم الشرعي، ما قد يؤيد هذا التعريف، ففي [المدونة الكبرى] ، ما نصه: ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة. اهـ (¬1) . قد يقال: إن كراهة مالك لذلك من باب الاحتياط، لا لأنه أنزلها منزلة الذهب والفضة حقيقة، بدليل ما جاء في [المدونة الكبرى] من كتاب الزكاة، قال ابن القاسم: سألت مالكا عن الفلوس تباع بالدارهم والدنانير نظرة ويباع الفلس بالفلسين؟ قال مالك: إني أكره ذلك وما أراه مثل الذهب ¬

_ (¬1) انظر: كتاب الصرف من [المدونة] .

والورق في الكراهية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به؛ بل الفرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد بنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها فلهذا كانت مقدرة بالأموال الطبيعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت. اهـ (¬1) وبهذا يمكن القول بأن النقد شيء اعتباري، سواء كان ذلك الاعتبار ناتجا عن حكم سلطاني أو عرف عام، وقد يقال: إن النقد ليس شيئا اعتباريا محضا ناتجا عن حكم سلطة الإصدار؛ بل يتوقف اعتباره نقدا على قيمة ذاتية أو غطاء كامل مع اعتبار السلطة لنقديته أو جريان العرف بذلك. ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (19 \ 551، 252) .

نشأة النقود وتطورها

نشأة النقود وتطورها الإنسان مدني بطبعه، قليل بنفسه كثير بغيره، فكل محتاج إلى ما عند غيره، ومن طبيعة الإنسان أن يضن ببذل ما عنده إلا بعوض، لذا نشأت الحاجة إلى ما يسمى بالمقايضة، ويذكر أن نظام المقايضة قد ساد وقتا ما إلا أن تطور الحياة وما في الأخذ بالمقايضة من صعوبات أدى إلى الأخذ بوسيط آخر يكون أيسر ويصلح وحده للمحاسبة ومقياسا للقيم، وخزانة

للثروة وقوة شرائية غير محدودة، إلا أن كل أمة اختارت وسيطا يناسب البيئة التي تعيشها، ولم يعد هذا الوسيط أن يكون سلعا متنوعة من الأصداف والخرز والرياش وأنياب الفيلة ونحوها، ولما تطورت الحياة البشرية ظهر عجز السلع عن مسايرة هذا التقدم، فاتجه الفكر إلى وسيط سهل الحمل عظيم القيمة له من المميزات ما يحفظه من عوامل التلف والتأرجح بين الزيادة والنقصان فاتخذوا الوسيط للتبادل من المعادن النفيسة على شكل سبائك وقطع غير مسكوكة، غير أن اختلاف أنواعها وعدم وجود سكة لها أدى إلى التلاعب في وزنها، وإلى صعوبات في تقديرها عند التبادل، فتدخل ولاة الأمر، ورأوا احتكار إصدار الوسيط، وأن يكون قطعا متنوعة من المعادن معلومة الوزن مختوما على كل قطعة ما يدل على مسئولية الحاكم عنها. وبهذا تحقق في النقد الثقة به والاطمئنان إليه والقدرة على إدارة التعامل به، إلا أن هذه القدرة غير تامة للصعوبة النسبية في حمله ونقله من مكان إلى آخر؛ لذلك اتجه الفكر إلى الأخذ بالعملات الورقية على أن الأخذ بالعملات الورقية لم يكن دفعة واحدة، وإنما كان على مراحل، فخوفا على ضياع النقد في الأسفار التجارية اختار التجار طريق التحويل لمن يريدون التعامل معه، ثم رأوا عدم تعيين أشخاصهم في الحوالة، ولما كثر التعامل بهذه الطريقة ووجدت الأوراق التحويلية قبولا أصدر الصيارفة أوراقا مصرفية جديدة بقدر الجزء المتداول في الأسواق. وبهذا صارت جزءا من النقود لها قبول عام، وصارت خزائن للثروة

ومقياسا للقيم، وقوة شرائية مطلقة، لكن إصدارها كان مشوبا بالفوضى والتلاعب، فساءت سمعة هذه الأوراق وضعفت الثقة بها فتدخل ولاة الأمور في الإصدار ومراقبته وتحديده وتعيين شكل للورقة النقدية فاكتسبت بذلك قوة الإبراء التام، ثم جرى العمل على أن من طلب من جهة الإصدار والاستعاضة عما تعهدت به في الورقة بنقود معدنية دفع إليه، ثم تخلف الوفاء بهذا التعهد إلا إذا كان ما طلب استرجاعه كثيرا، وأخيرا تخلف الوفاء بما تعهد به إلا بمثله من الورق، وبذلك انقطعت العلاقة بين الورقة النقدية والنقد المعدني وصارت قيمة وحدة النقود الورقية قيمة مستقلة.

قاعدة النقد الورقي

قاعدة النقد الورقي لا شك أن أي نقد قابل للتداول العام كوسيط للتبادل لا بد أن يكون له ما يسنده ويدعو إلى الثقة به كقوة شرائية لا حد لها، هذا السند إما أن يكون في ذات النقد نفسه كالذهب والفضة إذ فيهما قيمتهما المقاربة لما يقدران به، أو يكون ركيزة تدعم النقد وتوحي بالثقة به. ثم إن هذه الركيزة قد تكون شيئا ماديا محسوسا كالغطاء الكامل للأوراق النقدية من ذهب أو فضة أو عقار أو أوراق مالية من أسهم وسندات. وقد تكون التزاما سلطانيا باعتبارها وضمان قيمتها، وتكون بذلك أوراقا وثيقية. وقد تكون الركيزة المستند عليها النقد شيئا ماديا محسوسا والتزاما

سلطانيا معا فيغطي بعض النقد الورقي بقيمته المادية عينا ويلتزم السلطان في ذمته بقيمة باقيه دون أن يكون لهذا الباقي غطاء مادي محفوظ وقد يمثل هذا الباقي غالب النقد الورقي

سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل

سر القابلية العامة لاعتبار النقد واسطة تعامل لعلماء الاقتصاد ثلاث نظريات في سر قابلية النقد للتبادل العام، قد تكون كل منها صحيحة في فترة ما: الأولى: النظرية المعدنية: إن النقد مادة لها قيمة في نفسها قبل اتخاذها وسيطا للتبادل فلذلك حصلت الثقة بها وكانت ذات قابلية - عامة للوساطة في التبادل، وهذه النظرية صحيحة حينما كان النقد معدنيا، أما اليوم فإن النقد كل ما لقي من الناس قبولا عاما وثقة في اعتباره وسيطا للتبادل فيدخل في ذلك النقد الورقي سواء أكان له غطاء حسي أم كان من اعتبار الحاكم له وسيطا وضمانه له. الثانية: النظرية السلطانية: وهذه النظرية تقول بأن أمر السلطان هو الذي أكسب النقد قبولا عاما وثقة به ولاشك أن مجرد أمر السلطان لا يكفي في ذلك دون أن يستند إلى مبرر يضمن اطمئنان الأمة إلى هذا الوسيط؛ لتقف إلى جانب السلطان وتنفذ أمره طائعة مختارة. الثالثة: النظرية النفسانية: بأن النقد هو الذي تطمئن النفس إلى اعتباره

قوة شرائية مطلقة ثقة به واطمئنانا إليه سواء أكان له غطاء أم لا، وسواء أكانت له قيمة ذاتية أم لا، وسواء أمر السلطان باعتباره أم حصل التراضي والتعارف على استعماله وقبوله. مما تقدم يمكن أن يستنتج ما يلي: 1 - النقد هو كل شيء يلقى قبولا عاما كوسيط متبادل. 2 - التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم حاملها قيمتها عند الطلب كان سابقا في وقت ما لاعتبار خاص بالأوراق النقدية، أما الآن فليس له من واقع التعامل به نصيب، وإنما هو الآن يحكي ما مضى ويعني التذكير بمسئولية الجهات المختصة تجاه قيمتها والحد من إصدارها بلا تقدير. 3 - من الجائز وجود كميات من الأوراق النقدية رعاية عن الغطاء العيني إلا أن الغالب ألا تزيد هذه الكميات عن 65% من مجموع الأوراق النقدية المتداولة. 4 - ليس متعينا أن تكون القاعدة للورق النقدي ذهبا أو فضة إذ لا مانع أن تكون من غيرها كعقار أو أوراق مالية. 5 - القابلية العامة للنقد من حيث هو نقد في الجملة ليس ناتجا عن قيمة ذاتية في النقد أو عن وازع سلطاني يفرض التعامل به فقط، وإنما هي الثقة العامة به كقوة شرائية مطلقة، سواء أكانت هذه الثقة صادرة عن تغطيتها بالمعدن النفيس أو عن الانقياد إلى حكم سلطاني باعتبارها أو عن أي اعتبار آخر يضمن هذه الثقة.

هذه الأمور المستنتجة يمكن أن تكون عونا في إدراك حقيقة الأوراق النقدية والقدرة على تكييفها فقهيا.

آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية

آراء فقهية في حقيقة الأوراق النقدية لم تكن الأوراق النقدية معروفة عند قدماء فقهاء الإسلام؛ لعدم تداولها في زمنهم، فلذا لم نجد منهم من تعرض لحكمها، ولما كثر تداولها في البلاد الإسلامية بعد ذلك بحثها الفقهاء من حيث الحقيقة والحكم، واختلفت أنظارهم في ذلك تبعا لاختلاف تصورهم لحقيقتها. وجملة ذلك خمسة أقوال: القول الأول: الأوراق النقدية أسناد: أن الأوراق النقدية أسناد بدين على جهة إصدارها، ويوجه أصحاب هذا القول قولهم بما يأتي: (أ) التعهد المسجل على كل ورقة نقدية بتسليم قيمتها لحاملها عند طلبه. (ب) ضرورة تغطيتها بذهب، أو فضة، أو بهما معا في خزائن مصدريها. (ج) انتفاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق حيث إن المعتبر ما يدل عليه من العدد لا قيمتها الورقية. (د) ضمان سلطات إصدارها قيمتها عند إبطالها، ومنع التعامل

بها. مستلزمات هذا القول: إن القول باعتبار الأوراق النقدية أسنادا على مصدريها يستلزم الأحكام الشرعية الآتية: (أ) منع السلم بها فيما يجوز السلم فيه إذ يشترط في صحة السلم قبض رأس مال السلم في مجلس العقد وقبض البائع الأوراق النقدية، والحال أنها أسناد يعتبر حوالة بها على صدريها. (ب) عدم جواز صرفها بنقد معدني من ذهب أو فضة ولو كان يدا بيد لأن الورقة النقدية على رأي أصحاب هذا القول وثيقة بدين غائب عن مجلس العقد ومن شروط الصرف التقابض في مجلس العقد. (ج) يعتبر التعامل بالأوراق النقدية بموجب هذا القول من قبيل الحوالة بالمعاطاة على الجهة التي أصدرتها وفي القول بصحة العقود بالمعاطاة خلاف بين أهل العلم، فالمشهور في مذهب الشافعي - رحمه الله - عدم صحتها مطلقا؛ لاشتراط أن يكون الإيجاب والقبول فيها لفظيين وعلى فرض أن القول باعتبار المعاطاة موضع اتفاق بين أهل العلم فمن شروط الحوالة أن يستطيع المحال استيفاء حقه من المحال عليه وفي مسألتنا لا يمكن أن يستوفي المحال مقابل الورقة من رصيدها، كما يدل على ذلك

التطبيق العملي، فتعتبر الحوالة بذلك باطلة. (د) القول باعتبارها أسنادا بديون على مصدريها يخضعها للخلاف بين أهل العلم في زكاة الدين هل تجب زكاته قبل قبضه أم بعده؟ وبالتالي عدم وجوب زكاتها لدى من يقول بعدم وجوبها قبل قبض الدين لامتناع قبض مقابل هذه الأسناد. (هـ) بطلان بيع ما في الذمة من عروض أو أثمان بهذه الأوراق؛ لكونها وثائق بديون غائبة؛ لأن ذلك من قبيل بيع الكالئ بالكالئ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ. مناقشة هذا القول: المبررات التي وجه بها أصحاب هذا القول قولهم يمكن الإجابة عنها بما يلي: أولا: إن التعهد القاضي بتسليم المبلغ المرقوم على الورقة لحاملها وقت الطلب ليس له من حقيقة معناه نصيب إذ لا يختلف اثنان أن المرء لو تقدم لمؤسسة النقد السعودي أو لغيرها من البنوك المركزية المختصة بإصدار الأوراق النقدية بورقة نقدية صادرة ممن تقدم إليه طالبا منه الاستعاضة عنها بما تحتويه من ذهب أو فضة لما وجد استجابة لذلك، ولا وفاء لهذا التعهد، وإنما يرجع الإبقاء على هذا المتعهد - بالرغم من أن الوفاء به لا يتم - إلى تأكيد مسؤوليته على جهات إصداره. ثانيا: أما الاستدلال على سنديتها بضرورة تغطيتها جميعا بذهب أو فضة أو بهما معا فقد سبق القول بأن الحاجة إلى تغطيتها جميعها ليست

ملحة، وأنه يكفي تغطية بعضها، فإنا نجد أن الغالب في النقد الورقي أنه غير مغطى بنقد معدني، وإنما غطاؤه التزام سلطاني بضمان قيمته في حال تعرضه للبطلان، وإذن فلا يصلح هذا الدليل سندا لهذا القول. ثالثا: أما انتفاء القيمة الذاتية لهذه الأوراق النقدية فقد سبق لنا تعريف النقد بأنه أي شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل، كما سبقت الإشارة إلى بعض أقوال أهل العلم الشرعي المؤيدة لهذا التعريف، وعليه فمتى ثبت للأوراق النقدية القابلية العامة لتكون وسيطا فلا فرق بين أن تكون قيمتها في ذاتها أو في خارج عنها، ويؤيد هذا أن سلطات سك النقود المعدنية جرت على أن تجعل للنقود المعدنية قيما أكثر من قيمتها الذاتية؛ حفاظا على بقائها ومنعا من صهرها سبائك معدنية، ومتى كنا نرى جزءا من قيمة النقد المعدني ليس له مقابل إلا الالتزام السلطاني، ولم نقل بأن الزيادة على قيمته الذاتية سند على الدولة فليبطل القول بأن الأوراق النقدية سند على الدولة على أن هذا القول لا يعني انتفاء مسئولية الدولة عن الهيمنة على ثبات قيمتها في حدود المستوى الاقتصادي العام أو ضمان قيمتها في حال إبطالها. رابعا: أما ضمان سلطات إصدارها قيمتها وقت إبطالها وتحريم التعامل بها، فهذا سر اعتبارها والثقة بتمولها وتداولها، إذ أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما هي في ضمان السلطات لها وليس في هذا دلالة على اعتبارها أسنادا بديون على مصدريها ما دام الوفاء بسدادها نقدا معدنيا عند الطلب مستحيلا.

على أن في القول بسنديتها من الحرج والضيق وإيقاع الناس في مشقة عظيمة في معاملاتهم ما يتنافى مع المقتضيات الشرعية، لا سيما بعد أن عم التعامل بهذه الأوراق بين الشعوب الإسلامية، وأصبحت هي العملة الوحيدة الرائجة السائدة، وما عداها من أنواع النقود فقد كاد ترك استعمالها وسيطا للتبادل يسلبها صفة النقد وأحكامه. ومن الأصول العامة في الشريعة الإسلامية أن الأمر الذي لم ينص على حكمه إذا دار بين ما يقتضي التشديد على الناس وما يقتضي التخفيف عليهم في عباداتهم ومعاملاتهم ترجح جانب التخفيف على جانب التشديد {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (¬3) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك، ورواه البخاري وغيره عن أبي موسى الأشعري: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا (¬4) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه (¬5) » . وفي لفظ: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (¬6) » وفي الترمذي وغيره: «ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما (¬7) » ، ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 78 (¬2) سورة البقرة الآية 185 (¬3) سورة النساء الآية 28 (¬4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732) ، سنن أبو داود الأدب (4835) ، مسند أحمد بن حنبل (4/412) . (¬5) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927) ، صحيح مسلم السلام (2165) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2701) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) . (¬6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) . (¬7) صحيح البخاري الحدود (6786) ، صحيح مسلم الفضائل (2327) ، سنن أبو داود الأدب (4785) ، مسند أحمد بن حنبل (6/130) ، موطأ مالك الجامع (1671) .

القول الثاني الأوراق النقدية عروضا

القول الثاني: الأوراق النقدية عروض: هذا القول: أن الأوراق النقدية عرض من العروض لها ما للعروض من الخصائص والأحكام، ويوجهه القائلون به توجيهات نلخصها فيما يلي: (1) الورق النقدي مال متقوم مرغوب فيه ومدخر ويشترى، وتخالف ذاته ومعدنه ذات الذهب والفضة ومعدنهما. (ب) الورق النقدي ليس بمكيل ولا موزون، وليس له جنس من الأجناس الربوية المنصوص عليها. (ج) ما كتب عليها من تقدير قيمتها وتعيين اسمها يعتبر أمرا اصطلاحيا مجازيا لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليست من جنس الذهب والفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية. (د) انتفاء الجامع بين الورق النقدي والنقد المعدني في الجنس وإمكان التقدير والمماثلة: أما الجنس فالورق النقدي قرطاس والنقد المعدني معدن نفيس من ذهب أو فضة أو غيرهما من المعادن، وأما إمكان التقدير فالنقد المعدني موزون، أما القرطاس فلا دخل للوزن ولا للكيل فيه. (هـ) الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع، وليس عندنا دليل يمنع ذلك

مستلزمات هذا القول: إن القول بعرضية الأوراق النقدية يستلزم الأحكام الشرعية التالية: (أ) عدم جواز السلم بها لدى من يقول باشتراط أن يكون رأس مال السلم نقدا من ذهب أو فضة أو غيرهما من أنواع النقد؛ لأن الأوراق النقدية بمقتضى هذا القول عروض وليست أثمانا. (ب) عدم جريان الربا بنوعيه فيها فلا بأس ببيع بعضها ببعض متفاضلة، فيجوز بيع العشرة بخمسة عشر أو أقل أو أكثر كما يجوز بيع بعضها ببعض أو بثمن من الأثمان الأخرى كالذهب أو الفضة أو البرنز أو غيرها من المعادن النقدية نسيئة. (ج) عدم وجوب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة؛ لأن من شروط وجوب الزكاة في العروض إعدادها للتجارة. مناقشة هذا القول: 1 - إن في القول بعرضية الأوراق النقدية تفريطا تنفتح به أبواب الربا على مصاريعها، وتسقط به الزكاة عن غالب الأموال المتمولة في زماننا هذا، يتضح ذلك بالمثال الآتي: مسلم يملك مليون جنيه إسترليني أودعه أحد المصارف بفائدة قدرها 8% لم يقصد بهذا المبلغ التجارة وإنما يريد باقيا عند البنك بصفة مستمرة على أن يأخذ فائدته ليقوم بصرفها على نفسه في شئون حياته مثلا، فلا بأس

بمقتضى هذا القول بصنيعه هذا؛ لأن هذا المبلغ ليس نقدا فيجري فيه الربا ولا زكاة فيه؛ لكونه عرضا لم يقصد به التجارة. 2 - إذا عمدت الجهات المختصة إلى نوع من جنس الورق فأخرجت للناس منه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والصور والكتابات وقررت التعامل بها وتلقاها الناس بالقبول فقد انتقل هذا الورق من جنسه باعتبار وانتفى عنه حكم جنسه لذلك الاعتبار لانتفاء فوائد الانتفاع به ورقا يكتب فيه وتحفظ فيه الأشياء، فإذا كان الناس يحرصون على الحصول عليه ويرضونه ثمنا لسلعهم سواء أكانت سلعا عينية أو خدمات فليس؛ لأنه مال متقوم مرغوب فيه بعد تقطيعه قصاصات صغيرة مشغولة بالنقش والكتابة والصور؛ بل لأنه انتقل إلى جنس ثمني بدليل فقده قيمته كليا في حال إبطال السلطان التعامل به. أما مخالفة ذاته ومعدنه ذات النقدين والفضة ومعدنهما، فالجواب عن ذلك فرع عن تحقيق القول في علة الربا في النقدين هل هي الثمنية كما هو رأي المحققين من أهل العلم فينتفي الفارق المؤثر بينهما لاشتراكهما فيها أم أن العلة غيرها. 3 - أما القول بأن قيمتها النقدية وتعيين اسمها اصطلاح مجازي لا تخرج به عن حقيقتها من أنها مال متقوم ليس له جنس الذهب ولا الفضة ولا غيرهما من الأموال الربوية فيمكن أن يجاب عن ذلك بأن تسمية هذه الأوراق بريال أو جنيه أو دولار أو دينار أو غيرها تعتبر حقائق عرفية لا مجازية لا سيما في وقتنا هذا الذي اختفى فيه الذهب والفضة عن الأسواق

كنقد سائد في التداول وحلت هذه المسميات محلها في الثمنية. 4 - وأما القول بانتفاء الجامع بينهما في الجنس وإمكان التقدير فيمكن أن يجاب عنه بعد تحقيق القول في علة الربا في النقدين فإذا كانت العلة في ذلك الثمنية كما سيأتي بيانه وتوضيحه فالجامع موجود. 5 - وأما القول بأن الأصل في المعاملات الحل حتى يرد دليل المنع فيجاب بالتسليم بهذه القاعدة إلا أن دليل المنع وارد بناء على أن علة الربا في النقدين الثمنية.

القول الثالث الأوراق النقدية فلوسا

القول الثالث: الأوراق النقدية فلوس: يتلخص هذا الرأي في أن الأوراق النقدية كالفلوس في طروء الثمنية عليها، فما ثبت للفلوس من أحكام الربا والزكاة والسلم وغيرها ثبت للأوراق النقدية مثلها، ويوجه أصحاب هذا القول رأيهم بأن الأوراق النقدية عملة رائجة أعيانها بما رقم عليها رواج النقدين بقيمتها المرقومة عليها وليست ذهبا ولا فضة، وإنما هي كالفلوس. ولكنهم اختلفوا في مقتضيات هذا القول: فمنهم من لم يلحقها بالنقدين مطلقا، فلم يوجب فيها الزكاة إلا بنية التجارة ولم يجر فيها الربا بنوعيه، ومنهم من فصل فألحقها بالنقدين في وجوب الزكاة وجريان ربا النسيئة فيها؛ للإجماع على حرمته، واعتراف من حرم ربا الفضل بأن حرمة ربا النسيئة أشد إثما من ربا الفضل، ولدخول النسيئة في الأنواط في عموم قوله تعالى؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية 130

ولأن مفسدة بيع عشرة أنواط باثني عشر منها، أو بأحد النقدين إلى أجل لا تقل عن مفسدة بيع عشرة دنانير ذهبا باثني عشر دينارا، وتكاد معرفة الفساد فيهما تكون ضرورية. وأباح هؤلاء ربا الفضل في الأنواط، فأجازوا بيع بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان ذلك يدا بيد؛ لأن ربا الفضل حرم تحريم الوسائل، ولكونها غير نقود حقيقية ولموضع الحاجة، ونظير هذا أن بعض العلماء أجاز بيع الفلوس بعضها ببعض أو بأحد النقدين مع التفاضل إذا كان يدا بيد ومنع من ذلك مؤجلا، ولأن ربا الفضل أبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كبيع العرايا، ولأن بعض العلماء أجاز بيع الحلي من الذهب بالدنانير، وبيع الحلي من الفضة بالدراهم متفاضلا يدا بيد، فجعلوا للصنعة أثرا. مناقشة هذا القول: 1 - إن قياس الأوراق النقدية بالفلوس قياس مع الفارق. ويتبين ذلك فيما يأتي: (أ) الأوراق النقدية بمزيد قبولها، وكثرة رواجها في المعاملات، وطغيانها على سائر الأثمان في سوق المعاوضات - صارت موغلة في الثمنية إيغالا لا تقصر دونه الفلوس، بل نقود الذهب والفضة بعد ندرة

التعامل بهما في المعاوضات. (ب) في انتقال الأوراق النقدية من أصلها العرضي إلى الثمنية قوة أفقدتها القدرة على رجوعها إلى أصلها في حال إبطالها، بخلاف الفلوس فهي إذا كسدت أو أبطل السلطان التعامل بها فلها قيمة في نفسها كسائر العروض. (ج) الأوراق النقدية في غلاء قيمتها كالنقدين، بل إن بعضا من الورق النقدي يعجز عن اللحاق بقيمته أكبر قطعة نقدية من ذهب أو فضة. (د) تستخدم الفلوس في تقييم المحقرات من السلع، وهذه المحقرات مما تعم الحاجة إليها، فالتخفيف في أحكامها أمر حاجي تقتضيه المصلحة العامة كالعرايا والتجاوز عن يسير الغرر والجهالة. (هـ) نظرا لتفاهة قيمة الفلوس فإن الصفقات ذات القيمة العالية لا تتم بها، وإنما تتم بالنقدين أو بالأوراق النقدية والربا في الغالب لا يكون إلا في صفقات ذات قيمة عالية نسبيا. هذه الفروق لها أثرها في إعطاء الأوراق النقدية مزيد فضل على الفلوس تختلف به عنها في الأحكام وتجعلها في معنى النقدين: الذهب والفضة في الثمنية، وفي جريان الأحكام. 2 - على فرض التسليم بإلحاق الأوراق النقدية بالفلوس فقد بحث العلماء رحمهم الله مسألة الفلوس، واختلفوا في تكييفها، وانقسموا في ذلك الاختلاف قسمين تبعا لعاملين يتجاذبانها: عامل أصلها، وهو العرضية

وعامل ما انتقلت إليه وهو الثمنية، فبعضهم اعتبر أصلها وهو العرضية ففرق بينها وبين النقدين، فأثبت لها أحكام أصلها ومنع عنها أحكام النقدين في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها، والبعض الآخر اعتبرها نقدا، وأثبت لها ما للنقدين من أحكام في الربا والصرف والسلم والزكاة وغيرها، وبمزيد من العمق في دراسة مسألة الفلوس والموازنة بين الرأيين - يظهر وجاهة القول باعتبارها نقدا، لها ما للنقدين الذهب والفضة من أحكام.

القول الرابع الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة

القول الرابع: الأوراق النقدية متفرعة عن ذهب أو فضة: يتلخص هذا القول في: أن الأوراق النقدية بدل لما استعيض بها عنه، وهما النقدان: الذهب، والفضة، وللبدل حكم المبدل عنه مطلقا، ويوجهه أصحابه بأن هذه الأوراق النقدية قائمة في الثمنية مقام ما تفرعت عنه من ذهب أو فضة حالة محلها، جارية مجراها، معتمدة على تغطيتها بما تفرعت عنه منهما، والأمور الشرعية بمقاصدها، يؤيد القول بثمنيتها أنها إذا زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي بعد

إبطالها شيئا مما كانت تساويه قبل الإبطال، ويلزم سلطة الإصدار تعويض حاملها إما بمقابلها من جنس رصيدها، وإما بأوراق أخرى تقوم مقام مقابلها من الرصيد ما تراه الدولة من المصلحة. مستلزمات هذا الرأي: يستلزم هذا الرأي ما يأتي: (أ) جريان الربا بنوعيه في الأوراق النقدية. (ب) ثبوت الزكاة فيها متى بلغت قيمتها مائتي درهم فضة أو عشرين مثقالا ذهبا إذا استكملت شروط وجوب الزكاة في النقدين، مع ملاحظة أن ما كان بدلا عن ذهب فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الذهب، وما كان بدلا عن فضة فلا تجب زكاته حتى تبلغ ثمنيته نصاب الفضة. (ج) جواز السلم بها. (د) اعتبارها بغض النظر عن أشكالها وأسمائها وجنسياتها متفرعة عن جنسين هما: الذهب والفضة، فما كان عن ذهب فله حكم الذهب، وما كان عن فضة فله حكم الفضة. (هـ) إذا بودل بين نوعين من الورق النقدي متفرعين عن ذهب أو فضة - امتنع التفاضل بينهما، وإذا بودل بين جنسين من الورق أحدهما متفرع عن ذهب والثاني متفرع عن فضة - جاز فيهما التفاضل إذا كان يدا بيد، وامتنع فيهما التأخير.

مناقشة هذا القول: هذا الرأي مبني على افتراض أن الأوراق النقدية مغطاة غطاء كاملا بذهب أو فضة، وحيث إن الواقع خلاف ذلك، وأن غالب الأوراق النقدية مجرد أوراق وثيقية قيمتها مستمدة من سن الدولة التعامل بها، وتلقي الناس إياها بالقبول، وأن القليل المغطى لا يلزم أن يعطى بالذهب أو الفضة؛ بل قد يغطى بغيرهما من عقار أو أوراق مالية من أسهم أو سندات لا تقدر قيمتها بذهب ولا فضة وإنما تقدر بعمل ورقية، فضلا عن الحرج والمشقة في القول بهذا الرأي في مسائل الصرف عند اشتراط المماثلة في الجنس، وذلك إذا صح ما قيل بانتفاء أي نقد ورقي غطاؤه فضة. ويمكن أن يورد على هذا النقاش ما يلي: إن رصيد الأوراق النقدية وإن كان مختلفا فبعضه ذهب أو فضة وآخر منه عقار أو أوراق مالية من أسهم وأسناد إلا أن ما كان منه عقارا أو أوراقا مالية لم يعتبر رصيدا بنفسه، وإنما اعتبر بما قدر به من العمل المتعامل بها سابقا في دولة الإصدار، ذهبا كانت أم فضة، وكذا ما كان أوراقا وثيقية عمادها التزام سلطة الإصدار ليست قيمتها من مجرد سن الدولة التعامل بها؛ لما سبق في بيان السبب الثاني من أسباب سر قابلية النقد وسيطا في التبادل وإنما كسبت الأوراق الوثيقية ثقة الناس بها وقبولهم إياها وسيطا في التعامل مع ملاءة سلطة الإصدار القائمة مقام الذهب أو الفضة مع سنها التعامل بها، فعاد الأمر إلى قيمة ما كان به مليئا من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما، وبذلك كان بعض الرصيد ذهبا أو فضة بالفعل، وبعضه الآخر في

حكم الذهب أو الفضة تبعا لنوع العمل المتعارف عليها في الدولة قبل إصدار الأوراق النقدية، أما ما قيل من أن هذا الرأي يستلزم الحرج والمشقة في مسائل الصرف لاشتراط المماثلة في الجنس فغير مسلم، فإن ما اشترط من المماثلة في حال معاوضة بديل الذهب مثلا بعضه ببعض قد اشترط في حال معاوضة الذهب نفسه بعضه ببعض ولم يعتبر ذلك حرجا، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا، ويؤيد ما ذكر من البدلية واعتبار الرصيد قائما أن قيمة الأوراق النقدية لا تخضع في صعودها وهبوطها لحالة السوق التجارية عرضا وطلبا فقط، بل تخضع في ذلك أيضا لحالة رصيدها قوة وضعفا، فإن كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملاءة الدولة أو ارتبطت بعملة لدولة أخرى مليئة معتبرة كعملة الدولار أو الإسترليني في الوقت الحاضر أثبتت وجودها وعلت قيمتها، وإلا تزلزلت وهبطت قيمتها، ومن هنا قيل هذه عملة صعبة، وقيل في أخرى ليست صعبة، ويشهد لذلك حالة الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني فهبط بعد أن كان صاعدا مرتفعا سعره في السوق العالمية. ويؤيد اعتبار الرصيد أيضا وأنه لم يزل قائما أن الدولة إذا أبطلت نوعا من الأوراق النقدية لزمها تعويض من بيده الأوراق إما بأصل الرصيد أو بأوراق أخرى تقوم مقام نصيبها من الرصيد، وإنما منعت الدولة التعويض عن الأوراق بما يقابلها من نفس الرصيد محافظة على خاماتها الثمينة وحماية لها من تلاعب الناس فيها أو تهريبها، إلى غير هذا من أنواع العبث، وقد

يكون احتفاظها بالرصيد لمعنى اقتصادي جعل الدولة تحل الأوراق محل الذهب أو الفضة.

القول الخامس الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه

القول الخامس: الأوراق النقدية نقد قائم بنفسه: يتلخص هذا القول: في أن الورق النقدي نقد قائم بنفسه؛ كالذهب والفضة، وغيرهما من الأثمان مما يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل بين الناس، وأن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها. توجيه هذا القول: ويمكن أن يوجه هذا القول بما يأتي: 1 - ما عليه البلاد من حال اقتصادية. 2 - ثقة الناس بها ثقة تامة جعلتها صالحة لتكون مستودعا عاما للادخار، وقوة للشراء، ومقياسا للقيم (¬1) 3 - قانونيتها بسن الدولة لها، وحمايتها إياها، والاعتراف بذلك أكسبها قوة الإبراء العام (¬2) 4 - لا يحتم قانون إصدار الأوراق النقدية تغطيتها جميعها، فيكفي تغطية بعضها بغطاء مادي له قيمة في نفسه ولو لم يكن ذهبا ولا فضة، على ¬

_ (¬1) انظر ص 6، 7 من [الموجز في اقتصاديات النقود] ، للأستاذ ج. ف. كرواذ. (¬2) انظر ص 98، 99 من كتاب [قصة النقود] .

أن يكون الباقي أوراقا وثيقية لا غطاء لها إلا التزام سلطة الإصدار سجل بما سجل عليها عند إبطالها. 5 - التعهد المسجل على هذه الأوراق لا يقصد إلا تذكير المسئولين عن مسئوليتهم تجاهها والحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة بها، وإذن فليست أسنادا وليس التعهد بها سر قبولها. 6 - ليس للأوراق النقدية قيمة في نفسها، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها فليست عروضا. 7 - رجحان القول بأن علة الربا في النقدين الثمنية مع الاعتراف بثمنية الأوراق النقدية. 8 - تحقق الشبه بينها وبين الذهب والفضة المسكوكتين في الثمنية وفي وقوع الظلم والعدوان والاضطراب في المعاملات إذا جعل كل من هذه الأثمان سلعا كالعروض تباع وتشترى فأعطيت حكمها لا حكم العروض. 9 - اختلاف جهات الإصدار فيما تتخذه من أسباب الثقة بالأوراق النقدية لتحل محل الذهب والفضة وتكسب قبولا عاما وإبراء تاما، واختلاف هذه الجهات أيضا قوة وضعفا وسعة وضيقا في الاقتصاد والسلطان وغير ذلك مما يقضي بأنها أجناس مختلفة باختلاف جهات إصدارها، فكما أن الذهب والفضة جنسان لاختلاف كل منهما عن الآخر في القيمة الذاتية، فكذلك العملات الورقية أجناس لاختلاف كل منها عن الأخرى بما تقدرها به جهات إصدارها وفيما تتخذه من أسباب لقبولها

وإحلال الثقة بها. 10 - في القول بتفرع الأوراق النقدية عن الذهب والفضة مجانبة للواقع، وفي العمل به حرج ومشقة حينما تعتبر الأوراق النقدية جنسا واحدا. وحيث كان سر قبول الأوراق النقدية ثقة الناس به لا التعهد المسجل على كل ورقة بتسليم حاملها ما سجل عليها وقت الطلب، ولا أن جميعها مغطى بذهب أو فضة، ولا لأن سلطة الإصدار ألزمت الناس التعامل بها، وحيث أنها أشبهت الذهب والفضة في الثمنية وتقويم الأشياء بها، واطمئنان النفوس إلى تمولها وادخارها، وفي اضطراب أحوال المعاملات وانتشار الظلم والعدوان باتخاذها سلعا تباع وتشترى، وكان الراجح في علة جريان الربا في الذهب والفضة الثمنية، وتبين أنها ليست أسنادا ولا عروضا وأن الفلوس جارية مجرى الذهب والفضة في أحكامها وأنها ليست متفرعة عن الذهب والفضة، وأن قيمة الأوراق الثمنية وقوتها الشرائية تختلف باختلاف جهات الإصدار في حالتها الاقتصادية، وقوتها وضعفها، وسعتها وضيقها في الاحتياط لحفظ كيان هذه الأوراق وفي نوع ما تسندها ثبت أنها نقد قائم بنفسه، وأنها أجناس مختلفة تبعا لاختلاف جهات إصدارها، وأن لها ما للذهب والفضة من أحكام

مستلزمات هذا القول: يستلزم هذا القول الأحكام الشرعية الآتية: (1) جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان. (ب) عدم جواز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض أو بيع جنس منها بغيره من الأجناس الثمنية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة. (ج) عدم جواز بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد. (د) جواز بيع الأوراق النقدية بعضها ببعض متفاضلا، إذا اختلف الجنس وكان يدا بيد، فيجوز بيع الريال الفضة بريالين من الورق مثلا، وبيع الليرة بريال سعودي فضة كان أو ورقا، وبيع الدولار بخمسة ريالات أو أقل أو أكثر إذا كان يدا بيد. (هـ) وجوب زكاتها إذا بلغت أدنى النصابين من ذهب أو فضة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها وحال عليها الحول. (و) جواز السلم بها. مناقشة هذا القول: ويمكن أن تناقش هذه التوجيهات بما يأتي: أما الأول: فيناقش بأن تغير أسعار الورق النقدي ونحوه ارتفاعا وانخفاضا لا يخضع فقط لحالة السوق التجارية طلبا وعرضا وكثرة الإنتاج

وقلته وكثرة الأثمان وقلتها، بل يخضع أيضا لحالة رصيد هذه الأوراق قوة وضعفا، فإن كان لها نسبة معتبرة من الرصيد مع ملاءة الدولة أو ارتبطت بعملة أخرى مليئة ولها رصيد معتبر كعملة الدولار والإسترليني في الوقت الحاضر، أثبتت وجودها وغلت قيمتها وإلا تزلزلت وهبط سعرها في الأسواق العالمية، ومن هنا قيل: عملة صعبة وعملة ليست صعبة، ويشهد لذلك واقع الورق النقدي في بعض الدول العربية حينما انفصل عن الإسترليني هبط بعد أن كان مرتفعا سعره في السوق العالمية. ويناقش الثاني والثالث: بأن ثقة الناس بها وقانونيتها بسن الدولة لها وحمايتها والاعتراف بذلك إنما أكسبها قوة الشراء والإبراء العام وجعلها مقياسا للقيم من أجل ما استندت إليه من رصيد لا يزال اعتباره قائما، يدل على ذلك ما جاء في التوجيه الرابع والخامس والسادس والتاسع، وما تقدم في بيان سر قابلية النقد الورقي للتبادل والإبراء العام. ويناقش الرابع: بأنه وإن لم يتعين تغطية الأوراق النقدية بالذهب أو الفضة لكن لا بد من التغطية ولو بعقار يقدر بالعملة المتعارف عليها في دولة الإصدار حتى يمكن الوقوف عند حد معقول اقتصاديا في إصدار الأوراق النقدية يتناسب مع الرصيد، وما كان غير مغطى منها قام فيه التزام جهة الإصدار المليئة مقام الغطاء بالعملة المتعارف عليها سابقا، وبذلك كان الغطاء من عقار والتزام مثلا في حكم الذهب والفضة وكانت ثقة الناس بهذه الأوراق وكانت قوة الشراء والإبراء العام. (انظر التعليق على مناقشة القول الرابع) .

ويناقش الخامس: بأنه يحمل رده في طيه حيث ذكر فيه أن مما يقصد بالتعهد المسجل على الأوراق الحد من الإفراط في الإصدار دون استكمال أسباب الثقة، واستكمال أسباب الثقة إنما يكون بزيادة الرصيد بنسبة ما يراد زيادة إصداره من الأوراق النقدية، وبذلك يتبين أن اعتبار الرصيد ولو اختلف نوعه لا يزال قائما، وإنما لم يسلم العوض ذهبا أو فضة عند إبطال عملة الأوراق واكتفي بتسليم عملة أخرى من الأوراق لمصلحة رآها ولي الأمر، كالمحافظة على المعادن النفيسة من تهريبها مثلا، أو الرغبة في الانتفاع بها فيما يعود على الدولة بالخير مع قيام أوراق نقدية لا تكلفه شيئا سوى إصدارها مع دعمها بالتزام الوفاء ورصيد يتصرف فيه رجاء فائدة تعود إلى الحكومة والأمة. ويناقش السادس: بأنه يحمل رده في طيه أيضا كالخامس؛ بل هذا أوضح، حيث صرح فيه بأن قيمة الأوراق النقدية في أمر خارج عنها لا في نفسها، فدل ذلك على اعتبار الرصيد قائما وإن لم يستجب إلى من طلبه من حملة الأوراق النقدية ولم يدفع إليه شيء من الرصيد بعينه، لما تقدم بيانه في رد الوجه الخامس. ويناقش السابع والثامن: بأنه إن صح القول بأن الثمنية علة الربا في النقدين وصح قياس الأوراق النقدية عليها دل ذلك على أنها فرع عنهما لا على استقلالها جنسا أو أجناسا قائمة بنفسها، فما كان منها متفرعا عن الذهب ألحق به وما كان منها متفرعا عن الفضة أعطي حكمها في كل ما يتعلق بالربا والزكاة ونحوهما.

ويناقش التاسع بأمرين: الأول: أن فيه التصريح باتخاذ رصيد لهذه الأوراق، وأنه سبب الثقة بها وحلولها محل الذهب أو الفضة وكسبها القبول العام والإبراء التام فدل على أنها فرع عما دعمت به من ذهب أو فضة أو ما يقدر بهما من عقار ونحوه، فكانت بدلا عن أصلها الذي حلت محله لا جنسا أو أجناسا مستقلة بنفسها. الثاني: أن اختلاف جهات الإصدار قوة وضعفا وسلطانا وسعة وضيقا واختلافها في نوع ما تدعم به عملتها الورقية لا تأثير له في اختلاف رصيده منهما أو مما قدر بهما فيكون بعض الورق تبعا للفضة وبعضها تبعا للذهب لا غير، يدل على ذلك أن جهات إصدار نقد من الذهب أو الفضة لا يؤثر اختلافها ولا وحدتها في جنس كل من الذهب والفضة، بل هما جنسان اتحدت الجهة أو اختلفت. ويناقش العاشر: بأنه لا حرج ولا مشقة في القول بتفرعها عن الذهب والفضة، فإن ما اشترط فيها من المماثلة في بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض قد اشترط فيما هي بديل عنه من الذهب أو الفضة ولم يعتبر ذلك حرجا، فكذا لا يعتبر اشتراط المماثلة في حال المعاوضة في البديل حرجا.

علة الربا في النقدين

علة الربا في النقدين: نظرا إلى أن الأوراق النقدية أصبحت تلقى قبولا عاما في دنيا

المعاوضات كوسيط للتبادل، وأنها بذلك حلت محل الذهب والفضة في الثمنيه، وحيث أن السنة النبوية نصت على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة، ونظرا إلى أن أهل العلم اختلفوا في تعيين علة لجريان الربا فيهما، نظرا إلى ذلك كله كان من المناسب أن يشتمل هذا البحث على بيان أقوال أهل العلم في علة الربا في النقدين ونقاش ما استند إليه كل قول مما يقبل النقاش. لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في النقدين الذهب والفضة: فمن نفى التعليل أو تعذر عليه إقامة دليل يرضاه لإثبات علة التحريم: قصر العلة فيهما مطلقا سواء كانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين. وهذا مذهب أهل الظاهر ونفاة القياس وابن عقيل من الحنابلة، حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها، فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرها مما يعد نقدا، وتحريم الربا فيهما عندهم تعبدي، وأما غيرهم فقد استنبط مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا إلا أتهم اختلفوا في تخريج المناط. ويمكن حصر آرائهم في ثلاثة أقوال: الأولى: يتلخص القول الأول في أن علة الربا في النقدين الوزن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (¬1) » ، ولقوله: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل (¬2) » ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم برقم (1584) (77) وأبو داود برقم (3353) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (5470) . (¬2) أخرجه أحمد (2 \ 262) و (6 \ 19) ومسلم برقم (1588) (84) والنسائي في [المجتبى] ، برقم (4569) .

وقوله: «ما وزن مثلا بمثل (¬1) » ، وقوله: «بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (¬2) » . وقال في [الميزان] ، مثل ذلك (¬3) ، فجعل ضابط ما يجري فيه الربا وتجب فيه المماثلة الوزن في الموزونات، وطرد أصحاب هذا القول القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن؛ كالحديد، والنحاس، والرصاص، والصفر، والصوف، والقطن والكتان، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد، وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. ويمكن أن يورد على هذا القول ما يلي: (أ) الوزن وصف طردي محض لا مناسبة فيه (¬4) . (ب) العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، وفي جواز ذلك نقض للعلة. (ج) أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على ما يوزن؛ بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا ولا يتعامل به وزنا، كالفلوس، والورق النقدي، فإن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني برقم (58) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) . (¬3) [صحيح البخاري] ، (3 \ 35، 61) و (5 \ 83، 84) . (¬4) انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .

التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات المائة ريال والألف دولار. الثاني: ويتلخص هذا القول في أن علة الربا في النقدين غلبة الثمنية، وهذا القول هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي فالعلة عندهما قاصرة على الذهب والفضة، والقول بغلبة الثمنية احتراز عن الفلوس إذا راج رواج النقدين فالثمنية طارئة عليها فلا ربا فيها. ويمكن أن يورد على هذا الرأي ما يلي: (أ) أن العلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم منقوضة طردا بالفلوس؛ لأنها أثمان وعكسا بالحلي (¬1) (ب) أن حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما؛ بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي. الثالث: ويتلخص في أن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية. وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة. قال أبو بكر من أصحاب أحمد: روى ذلك عن أحمد جماعة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرهما من محققي أهل العلم (¬2) ¬

_ (¬1) انظر [مجموع النووي] ، (9 \ 445) ، وانظر الفروع، (2 \ 545) . (¬2) انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (29 \ 473، 474) ، وانظر إعلام الموقعين] ، (2 \ 137) .

وقد أورد ابن مفلح على هذا القول إيرادا ملخصه: بأن التعليل بالثمنية تعليل بعلة قاصرة لا يصلح التعليل بها في الأكثر منقوضة طردا بالفلوس لأنها أثمان وعكسا بالحلي (¬1) . ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد: بأنه لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين، بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا كما يجري فيهما، كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة؛ لأن الصناعة قد نقلته من جنس الثمنية إلى أجناس السلع والثياب؛ ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور في مذهب الإمام أحمد مع أنه من الذهب والفضة (¬2) . كما يمكن أن يورد على القائلين بمطلق الثمنية إيراد ملخصه: بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة، سواء أكانا سبائك أو مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه؛ لكونه ثمنا وإنما الإشكال في جريان الربا في سبائكهما مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا، ويمكن أن يجاب عن هذا الإيراد: بأن الثمنية موغلة في الذهب والفضة وشاملة لسبائكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا، وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن. ¬

_ (¬1) انظر [الفروع] ، وتصحيحه (2 \ 545) . (¬2) انظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 145 - 142) ، وانظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (29 \ 453) .

ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال: «جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة فقال له: " زن وارجح» ، ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: «يا بلال أقضه وزده (¬1) » فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (¬2) . هذا ما تيسر إيراده. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) . (¬2) انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (19 \ 248) ، وانظر [إعلام الموقعين] ، (2 \ 140) .

قرار هيئة كبار العلماء حول الأوراق النقدية

قرار هيئة كبار العلماء رقم (10) وتاريخ 17 \ 8 \ 1393هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأمين العام لهيئة كبار العلماء - بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء؛ استنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر، أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ و 17 \ 4 \ 1393 هـ، وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسنادا، أو عروضا، أو فلوسا، أو بدلا عن ذهب أو فضة، أو نقدا مستقلا بذاته، وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية - جرى تداول الرأي فيها، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات. فتنتج عن ذلك عديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها:

وحيث إن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية والعمالية، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحدا أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم - فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي، وحضر معه الدكتور عمر شابريه أحد المختصين في العلوم الاقتصادية، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية: س1: هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقدا قائما بذاته أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها، كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي، وإذا لم يرد معنى هذه العبارة، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة، وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا؟ س2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها، وإذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل أم غطاء للبعض فقط، وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية، وما هو الحد الأدنى لها؟ س 3: ما نوع غطاء العملات الورقية، وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة، وله هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقا؟ س4: المعروف أن الورقة النقدية لا قيمة لها في ذاتها، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها، فما هي مقومات هذه القيمة؟

س5: نرغب شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة، وما هي مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلى؟ س6: هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب، وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها ولو لم يكن لنقدها رصيد؟ س7: ما يسمى بالدينار، والجنيه هل هو مغطى بالذهب، ولذا سمي دينارا أو جنيها رمزا لما غطي به، ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة أم أن هذه التسميات يقصد منها المحافظة على التسميات القديمة للعمل المتداولة فيما مضى بغض النظر عما هي مستندة عليه من ذهب أو فضة؟ س8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعا لم يسبق له نظير؟ وأجاب سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي. ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ - قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا

شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها؛ ولهذا كانت أثمانا. . . إلى أن قال: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض، لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت) اهـ (¬1) . وذكر نحو ذلك الإمام مالك في [المدونة] ، من كتاب الصرف حيث قال: (ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة) اهـ (¬2) . وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول، ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة، وبه الإبراء العام، وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ: أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملا لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها بدون غطاء، وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهبا، بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية، وأن الفضة ليست غطاء كليا أو جزئيا لأي عملة في العالم، كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية، فتقوى الورقة بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية؛ كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ، (29 \ 251) . (¬2) [المدونة الكبرى] ، للإمام مالك (3 \ 5) توزيع \ مكتبة دار الباز بمكة المكرمة.

غطاء للعملات الورقية. وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا، والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد، قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة، كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرها من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى: أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية: أولا: جريان الربا بنوعيه فيها، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي: (أ) لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما - نسيئة مطلقا، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة. (ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا.

(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا، إذا كان ذلك يدا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي، ورقا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أو أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة. ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها. ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات. والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة الثالثة . ... . ... محمد الأمين الشنقيطي متوقف عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر أخرى في الأوراق النقدية أقدم بها بيانا إن شاء الله ... عبد الله بن حميد متوقف ... عبد الله خياط عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن باز إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان عبد الله بن غديان متوقف ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون صالح بن لحيدان متوقف ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

بيان المراد من قول الله تعالى في آية مصارف الزكاة وفي سبيل الله

(3) {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60

بسم الله الرحمن الرحيم بيان المراد من قول الله تعالى في آية مصارف الزكاة: وفي سبيل الله (¬1) إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده وبعد: فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين يوم 5\ 8\ 1394 هـ ويوم 22\ 8\ 1394 هـ موضوع بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر من إدراج بيان المراد من قوله تعالى في آية مصارف الزكاة: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3) في جدول أعمال هيئة كبار العلماء لدورتها الخامسة هل هو خاص بالجهاد في سبيل الله أو عام في كل وجه من وجوه البر- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على أقوال أهل العلم في ذلك، مع ذكر مستند كل قول ومناقشته: ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثاني، ص 23- 60، عام 1395 هـ. (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) سورة التوبة الآية 60

{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) اختلف العلماء رحمهم الله في تعيين المقصود من قوله تعالى في آية حصر أهل الزكاة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) سورة التوبة الآية 60

القول الأول المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله

القول الأول: إن المقصود بذلك الغزاة في سبيل الله، وقد قال بهذا القول جمهور العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء. وفيما يلي نقل لبعض أقوالهم: قال ابن جرير الطبري: وأما قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار، وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) قال: الغازي في سبيل الله. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، ورجل اشتراها بماله، وفي سبيل الله، وابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدق عليه فأهداها له (¬3) » (¬4) اهـ. وقال القرطبي: الثانية والعشرون: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬4) [جامع البيان] ، (14\ 320) تحقيق محمود شاكر. (¬5) سورة التوبة الآية 60

هم الغزاة وموضع الرباط يعطون ما ينفقون في غزوهم كانوا أغنياء أو فقراء، وهذا قول أكثر العلماء، وهو تحصيل مذهب مالك رحمه الله (¬1) اهـ. وقال ابن العربي: (المسألة التاسعة عشرة) قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا: الغزو، ومن جملة سبيل الله، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج، والذي يصح عندي من قولهما: أن الحج من جملة السبل مح الغزو؛ لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل، وهذا يحل عقد الباب، ويخرم قانون الشريعة، وينثر سلك النظر، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر، وقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف؛ لأنه قد سمي في أول الآية، ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله تعالى، ولو كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: غاز في سبيل الله (¬3) » . وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا، وهذه زيادة على النص. وعنده أن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقران مثله أو بخبر متواتر، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} (¬4) فشرط في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر، وحينئذ يعطون من الخمس، وهذا كله ضعيف حسبما بيناه. ¬

_ (¬1) [الجامع لأحكام القرآن] ، (9\ 185) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬4) سورة الأنفال الآية 41

وقال محمد بن عبد الحكم: يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة؟ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن حثمة إطفاء للثائرة (¬1) اهـ. وقال الجصاص: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له (¬3) » واختلف الفقهاء في ذلك: فقال قائلون: هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي. وقال الشافعي: لا يعطى منها إلا الفقراء منهم ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله، لأن شرطها تمليكه، وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ، وقد روي «أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعد في صدقتك (¬4) » فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس من بيعها ... إلى أن قال: وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث مآله في سبيل الله أنه للفقراء الغزاة. فإن قيل: فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لأغنياء الغزاة أخذ الصدقة بقوله: «لا تحل ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] ، (1 \ 396، 397) الطبعة الأولى] ، عام 1331 هـ. (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬4) صحيح البخاري الزكاة (1489) ، صحيح مسلم الهبات (1620) ، سنن الترمذي الزكاة (668) ، سنن النسائي الزكاة (2617) ، سنن أبو داود الزكاة (1593) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2392) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) ، موطأ مالك الزكاة (624) .

لغني إلا في سبيل الله (¬1) » . قيل له: قد يكون الرجل غنيا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها- فلا تحل له الصدقة، فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة- فتجوز له الصدقة، وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه من دابة الأرض أو سلاح أو شيء من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر، فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تحل للغازي الغني» اه (¬2) وقال السيوطي في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3) أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) قال: هم المجاهدون، وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) قال: الغازي في سبيل الله. اهـ (¬6) وقال الخازن: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬7) يعني: وفي النفقة في سبيل الله، وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬2) [أحكام القرآن] ، (3\ 156، 157) المطبعة البهية، عام 1347 هـ. (¬3) سورة التوبة الآية 60 (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) سورة التوبة الآية 60 (¬6) [الدر المنثور] (3\ 352) . (¬7) سورة التوبة الآية 60

والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء. اهـ (¬1) . وقال الشوكاني في [تفسيره] : {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء وهذا قول أكثر العلماء. اهـ (¬3) . وقال ابن حجر العسقلاني: وأما {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا، إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج. اهـ (¬5) . وقال بدر الدين العيني: قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6) وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف، ومنقطع الحاج عند محمد، وفي [المبسوط] ، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬7) فقراء الغزاة عند أبي يوسف، وعند محمد فقراء الحاج. وقال ابن المنذر: وفي الإشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: سبيل الله هو: الغازي غير الغني وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج وذكر ابن بطال: أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومثله النووي في [شرح المهذب] ، وقال صاحب [التوضيح] : وأما قول أبي حنيفة: لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجا فهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬8) وأما السنة فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ¬

_ (¬1) [لباب التأويل في معاني التنزيل] ، (3\ 92) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) [فتح القدير] (2\ 373) . (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) [فتح الباري] ، (3\ 59) . (¬6) سورة التوبة الآية 60 (¬7) سورة التوبة الآية 60 (¬8) سورة التوبة الآية 60

أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو لغاز في سبيل الله أو غني اشتراها بماله أو فقير تصدق عليه فأهدى لغني أو غارم (¬1) » . (قلت) : ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني (¬2) » . وقال: المراد من قوله: «لغاز في سبيل الله (¬3) » هو الغازي الغني بقوة البدن والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي بدليل حديث معاذ: وردها إلى فقرائهم. اهـ (¬4) وقال أبو الحسن المباركفوري: اختلفوا في المراد من سبيل الله في آية المصارف فقيل: المراد به الغزاة وعليه الجمهور، قال الباجي: هو الغزو والجهاد قاله مالك وجمهور الفقهاء، وقال الخرقي: وسهم في سبيل الله هم الغزاة. قال ابن قدامة: هذا الصنف السابع من أهل الزكاة ولا خلاف في استحقاقهم ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو. اهـ، ثم اختلف أهل هذا القول فقال الأكثر: إنهم يعطون ما ينفقون في غزوهم وإن كانوا أغنياء. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به. قال الحافظ: أما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬2) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬4) [عمدة القاري] ، (9\ 45) .

فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال: يختص بالغازي المحتاج- ثم ذكر الأقوال الأخرى في المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) ثم قال: والقول الراجح عندي: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المراد به الغزو والجهاد خاصة؛ لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه. قال ابن العربي في [أحكام القرآن] ، قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) قال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو؛ لحديث عطاء بن يسار الذي نحن في شرحه، وهو حديث صريح مفسر لقوله في سبيل الله في الآية، فيجب حمله عليه، ولم أر عنه جوابا شافيا من أحد، وإليه ذهب ابن حزم، إذ قال: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، ثم ذكر حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد من طريق أبي داود (¬3) ، وهو الذي رجحه ابن قدامة حيث قال: وهذا أصح؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد فإن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير فيجب أن يحمل ما في هذه الآية على ذلك؛ لأن الظاهر إرادته به. انتهى، وهو الذي صححه الخازن في [تفسيره] ، حيث قال: والقول الأول هو الصحيح؛ لإجماع الجمهور عليه ورجحه أيضا العلامة القنوجي اليوناني في [تفسيره] ، إذ قال: والأول أولى؛ لإجماع الجمهور عليه وبه فسر الشوكاني في [فتح القدير] ، ورجحه، واختاره أيضا غيرهم من المفسرين. اهـ. ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) حديث عطاء بن يسار: ''لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة '' الحديث وقد تقدم ذكره.

وقال أبو سليمان الخطابي في معرض تعليقه على حديث عطاء بن يسار: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (¬1) » ما نصه: قلت: فيه بيان أن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه، وهو من سهم سبيل الله، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه، وقال أصحاب الرأي: لا يجوز أن يعطى للغازي من الصدقة إلا أن يكون منقطعا به. قلت: سهم السبيل غير سهم ابن السبيل، وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر فقال: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} (¬2) والمنقطع به هو: ابن السبيل، فأما سهم السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب، وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه (¬3) اهـ. قال ابن الأثير: وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه (¬4) . وقال البابرتي على عبارة [الهداية] ،: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) منقطع الغزاة ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) [معالم السنن] ، (2\ 234، 235) . (¬4) [النهاية في غريب الحديث] ، (2\ 145) . (¬5) سورة التوبة الآية 60

عند أبي يوسف رحمه الله: وقوله: منقطع الغزاة، أي: فقراء الغزاة ... ولا يصرف إلى أغنياء الغزاة عندنا؛ لأن المصرف هو للفقراء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم (¬1) » . وقال الشافعي: يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (¬2) » من جملتهم الغزاة في سبيل الله وتأويله الغني بقوة البدن، ومعناه: أن المستغني بكسبه لقوة بدنه لا يحل له طلب الصدقة إلا إذا كان غازيا فيحل له لاشتغاله بالجهاد عن الكسب. اهـ (¬3) وفي [الفتاوى الهندية] ، ما نصه: ومنها: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) وهم: منقطعو الغزاة الفقراء منهم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وعند محمد رحمه الله تعالى: منقطعو الحاج الفقراء منهم، هكذا في [التبيين] ، والصحيح: قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، كذا في [المضمرات] ، (¬5) اهـ. وقال أبو البركات أحمد دردير في [شرحه] : وأشار للسابع بقوله: ومجاهد، أي: المتلبس به إن كان ممن يجب عليه؟ لكونه حرا مسلما ذكرا بالغا قادرا، ولا بد أن يكون غير هاشمي، ويدخل فيه المرابط وآلته كسيف ورمح تشترى منها، ولو كان المجاهد غنيا حين غزوه كجاسوس يرسل للاطلاع على عورات العدو يعلمنا بها فيعطى ولو كافرا، ولا تصرف الزكاة في سور حول البلد؟ لتحفظ به من الكفار، ولا في عمل مركب يقاتل فيها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) . (¬2) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬3) [العناية على الهداية] ، هامش على [فتح القدير] ، (2\ 17، 18) . (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) [الفتاوى الهندية] (1\ 188) .

العدو. اهـ (¬1) . وقال المواق ومجاهد: وآلته ولو غنيا. ابن عرفة: من الثمانية الأصناف التي تصرف الزكاة فيها سبيل الله. أبو عمرو: ذلك الجهاد والرباط. اللخمي: ويعطى الغازي الفقير حيث غزوه الغني ببلده ويعطى الغزاة المقيمون في نحر العدو وإن كانوا أغنياء حيث غزوهم. واختلف إذا كان غنيا بالموضع الذي هو به: فقيل: يعطى لحديث: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز (¬2) » . . . الحديث؛ ولأن أخذه في معنى المعاوضة والأجرة إذا كان أوقف نفسه لذلك، ولأن في إعطائه ضربا من الاستئلاف لمشقة ما يكلفون من بذل النفوس. اهـ (¬3) . وقال الإمام الشافعي: ويعطى من سهم سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرا كان أو غنيا، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين. اهـ (¬4) . وقال النووي على [المهذب] : قال المصنف رحمه الله تعالى: وسهم في سبيل الله، وهم: الغزاة إذا نشطوا غزوا، وأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة؛ لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء. قال النووي: ومذهبنا: أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير] ، هامش على [حاشية الدسوقي] ، (1\ 456) . (¬2) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬3) [التاج والإكيل لمختصر خليل، هامش على [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل] ، (2\ 351) . (¬4) [الأم] ، للإمام الشافعي (2\ 60) .

لهم في الديوان، بل يغزون متطوعين، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى. اهـ (¬1) . وقال النووي أيضا في معرض الاحتجاج بما عليه المذهب الشافعي من أن سهم سبيل الله يصرف إلى الغزاة: واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو: الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن كذلك، واحتج الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين (¬2) : «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (¬3) » فذكر منهم الغارم، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى. اهـ (¬4) . وقال ابن قدامة: السابع: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، ولا يعطى منها في الحج. اهـ. وقال في [حاشية المقنع] ، على قوله: السابع في سبيل الله: لا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنهم الغزاة؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق هو الغزو، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6) وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬7) وإنما يستحق هذا الاسم الغزاة الذين لا ديوان لهم، وإنما يتطوعون بالغزو إذا نشطوا، وهم الذين لا ديوان لهم، أي: لا حق لهم في الديوان؛ لأن من له رزق راتب فهو مستغن به ¬

_ (¬1) [المجموع] ، (6\ 211) الطبعة الأولى. (¬2) أي: من [المجموع] . (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬4) [المجموع وحاشيته] ، (1\ 249) . (¬5) سورة التوبة الآية 60 (¬6) سورة البقرة الآية 190 (¬7) سورة الصف الآية 4

فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم. . . إلى أن قال: قوله: (ولا يعطى منها في الحج) في رواية اختارها في [المغني] ، وصححها في [الشرح] ، وقاله أكثر العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر؛ لأن سبيل الله تعالى حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبا، والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير، أو من يحتاجه المسلمون كالعامل، والحج لا نفع فيه للمسلمين، ولا حاجة بهم إليه، والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه، وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى. اهـ (¬1) وقال المرداوي في أثناء الكلام على أصناف أهل الزكاة: قوله السابع: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) وهم: الغزاة الذين لا ديوان لهم، فلهم الأخذ منها بلا نزاع، لكن لا يصرفون ما يأخذون إلا لجهة واحدة، كما تقدم في المكاتب والغارم (¬3) . تنبيه: ظاهر قوله: (وهم الذين لا ديوان لهم) أنه لو كان يأخذ من الديوان لا يعطى منها وهو صحيح، لكن بشرط أن يكون فيه ما يكفيه، فإن لم يكن فيه ما يكفيه فله أخذ تمام ما يكفيه. قاله في [الرعاية] ، وغيرها. ... إلى أن قال: قوله: (لا يعطى منها في الحج) هذا إحدى الروايتين. اختاره المصنف والشارح، وقالا: هي أصح، وجزم به في [الوجيز] ، اهـ. (¬4) ¬

_ (¬1) [المقنع وحاشيته] ، (1\ 349) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) أي: من [الإنصاف] ، للمرداوي. (¬4) [الإنصاف] (3\ 235) .

وقال ابن حزم: وأما سبيل الله فهو الجهاد بحق، حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا ابن السليم، حدثنا ابن الأعرابي، حدثنا أبو داود، وحدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني (¬1) » . وقد روي هذا الحديث عن غير معمر فأوقفه بعضهم ونقص بعضهم مما ذكر فيه معمر، وزيادة العدل لا يحل تركها. فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن «الحج من سبيل الله (¬2) » وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج. قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضع إلا حيث بين النص، وهو الذي ذكرنا. وبالله تعالى التوفيق. اهـ (¬3) . وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: 1 - أن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى كأنه مقصور عليه؛ لأن كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يحمل قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (6/406) . (¬3) [المحلى] ، (6\ 151) المطبعة المنيرية. (¬4) سورة التوبة الآية 60

عليه؛ لأن الظاهر إرادته، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬2) 2 - أن حديث عطاء بن يسار: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله (¬3) » الحديث، وهو حديث صريح مفسر لقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) فيجب حمله عليه. 3 - ما ورد من الآثار الدالة على أن المقصود بسبيل الله: الجهاد ومن ذلك: ما ذكره الطبري في [تفسيره] قال: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) قال: الغازي في سبيل الله. وما ذكره السيوطي في تفسيره [الدر المنثور] ، قال: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6) قال: هم: المجاهدون. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬7) قال: الغازي في سبيل الله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 190 (¬2) سورة الصف الآية 4 (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) سورة التوبة الآية 60 (¬6) سورة التوبة الآية 60 (¬7) سورة التوبة الآية 60

القول الثاني المراد بسبيل الله: الغزاة والحجاج والعمار

القول الثاني: أن المراد بسبيل الله: الغزاة والحجاج والعمار، وقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء. وفيما يلي بعض من أقوالهم: قال ابن كثير: وأما في سبيل الله، فمنهم: الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق: والحج من سبيل الله؟ للحديث. اهـ (¬1) ¬

_ (¬1) [تفسير القرآن العظيم] ، (2\ 366) .

وقال الخازن في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) وقال قوم: يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. اهـ (¬2) وقال الشوكاني في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3) وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله. اهـ (¬4) وقال القرطبي: الثانية والعشرون: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) وهم الغزاة وموضع الرباط ... إلى أن قال: وقال ابن عمر: الحجاج والعمار. ويؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنهما قالا: سبيل الله الحج. وفي البخاري: ويذكر عن أبي لاس: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج (¬6) » . ويذكر عن ابن عباس: ويعتق من (زكاة) ماله ويعطى في الحج. خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم ويكنى أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر: فهو كما قال في سبيل الله، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم، آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) [لباب التأويل في معاني التنزيل] ، (3\ 92) . (¬3) سورة التوبة الآية 60 (¬4) [فتح القدير] (2\ 373) . (¬5) سورة التوبة الآية 60 (¬6) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .

فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل؟ قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها. قلت: يا أبا عبد الرحمن، وما وفد الشيطان؟ قال: قوم يدخلون على هؤلاء الأمراء فينمون إليهم الحديث، ويسعون في المسلمين بالكذب فيجازون الجوائز ويعطون عليه العطايا اهـ (¬1) . وقال الجصاص: وإن أعطى حاجا منقطعا به أجزأ أيضا، وقد روي عن ابن عمر: أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله، فقال ابن عمر: إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه، وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به، وهذا يدل على أن قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) قد أريد به عند محمد الحاج المنقطع به، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحج والعمرة من سبيل الله (¬3) » اهـ (¬4) . وقال البخاري: باب قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. وقال الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطي في المجاهدين والذي لم يحج، ثم تلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬6) الآية، في أيهما أعطيت أجزأت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خالدا احتبس أدراعه في ¬

_ (¬1) [الجامع لأحكام القرآن] ، (8\ 185) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) سنن الدارمي الوصايا (3304) . (¬4) [أحكام القرآن] ، (3\ 156) المطبعة البهية. (¬5) سورة التوبة الآية 60 (¬6) سورة التوبة الآية 60

سبيل الله (¬1) » ويذكر عن أبي لاس: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج (¬2) » اهـ (¬3) . وقال المجد تحت باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل: وعن ابن لاس الخزاعي قال: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة إلى الحج (¬4) » رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا. وعن أم معقل الأسدية «أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج والعمرة في سبيل الله (¬5) » رواه أحمد. وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته أم معقل قالت: «لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض، وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من حجته جئته فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي؟ " قلت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال: فهلا خرجت عليه، فإن الحج من سبيل الله (¬6) » رواه أبو داود. قال الشوكاني: حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه. وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وفي إسناده رجل مجهول، وفي إسناده أيضا إبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد، وقد اختلف على أبي بكر بن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الزكاة (1468) ، صحيح مسلم الزكاة (983) ، سنن النسائي الزكاة (2464) ، سنن أبو داود الزكاة (1623) ، مسند أحمد بن حنبل (2/323) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (4/221) . (¬3) [صحيح البخاري] ، (2\ 104) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (4/221) . (¬5) سنن أبو داود المناسك (1988) ، مسند أحمد بن حنبل (6/406) . (¬6) سنن أبو داود المناسك (1989) .

عبد الرحمن فيه، فروي عنه عن رسول مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها، وروي عنه عن أم معقل بغير واسطة، وروى عنه عن أبي معقل، والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود في إسنادها محمد بن إسحاق، وفيه مقال معروف. قوله: (ابن لاس) هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ (ابن) والذي في البخاري (أبي لاس) وكذا في [التقريب] ، من ترجمة عبد الله بن عنمة، ولاس؛ بسين مهملة خزاعي، اختلف في اسمه فقيل: زياد، وقيل: عبد الله بن عنمة - بمهملة ونون مفتوحتين-، وقيل غير ذلك، له صحبة وحديثان هذا أحدهما، وقد وصله مع أحمد: ابن خزيمة، والحاكم وغيرهما من طريقه، قال الحافظ: ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق؛ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. وأحاديث الباب تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه، وتدل أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدي الحج والعمرة اهـ (¬1) وقال المباركفوري في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) وقيل: المراد منه: منقطع الحاج، وبه قال محمد، وروي ¬

_ (¬1) نيل الأوطار، (4\ 180، 181) الطبعة الثانية- 1371هـ. (¬2) سورة التوبة الآية 60

عن أحمد وإسحاق: أن الحج أيضا من سبيل الله يعني: أن الحج من جملة السبل مع الغزو؟ لأنه طريق بر إلى أن قال: قلت: واحتج للقول الثاني بما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن امرأة قالت لزوجها: احججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك فلان، قال: (ذاك حبيس في سبيل الله) الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (¬1) » ، وبما روي عن أم معقل الأسدية: «أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله وأنها أرادت الحج.. الحديث، وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج من سبيل الله (¬2) » أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج (¬3) » ذكره البخاري تعليقا بصفة التمريض، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وقال الشوكاني: حديث أم معقل، وحديث أبي لاس يدلان على أن الحج من سبيل الله، وأن من جعل شيئا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج، وإذا كان شيئا مركوبا جاز حمل الحاج عليه، ويدلان أيضا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة على قاصدين الحج. انتهى، وبما روى أبو عبيد في [الأموال] ، عن أبي معاوية، وابن أبي شيبة في [مصنفه] عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وأن يعتق منه الرقبة، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد ¬

_ (¬1) سنن أبو داود المناسك (1990) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (6/406) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .

صحيح عنه. اهـ (¬1) . وقال الكسائي في معرض كلامه عن المراد من قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) وقال محمد: المراد منه: الحاج المنقطع؛ لما روي «أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحجاج» . اهـ (¬3) . وقال أبو الفرج ابن قدامة في معرض كلامه عن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) وروي عنه أن الفقير يعطى قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه، يروى إعطاء الزكاة في الحج عن ابن عباس وعن ابن عمر، الحج من سبيل الله، وهو قول إسحاق؛ لما روي: «أن رجلا جعل ناقة له في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله (¬5) » اهـ (¬6) . وقال البهوتي: والحج من السبيل أيضا، روي عن ابن عباس وابن عمر، لما روى أبو داود: «أن رجلا جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله (¬7) » فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة أو يستعين به فيه، أي: في فرض الحج والعمرة؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض، وأما التطوع فله عنه مندوحة، وذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي، وصححه بعضهم؛ لأن كلا من سبيل الله، والفقير ¬

_ (¬1) [المرآة على المشكاة] ، (3\ 117) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) [بدائع الصنائع] ، (2\ 45) الطبعة الأولى. (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) مسند أحمد بن حنبل (6/406) . (¬6) [الشرح الكبير] (2\ 702) . (¬7) سنن أبو داود المناسك (1988) ، مسند أحمد بن حنبل (6/406) .

لا فرض عليه فهو منه كالتطوع. اهـ (¬1) . وقال النووي ناسبا القول بكون الحج من سبيل الله إلى الإمام أحمد ما نصه: وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج، وروي مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما. واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت: «لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته، فقال: يا أم معقل، ما منعك أن تخرجي معنا؟ " قالت: قلت: لقد تهيأنا، فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله. قال: "فهلا خرجت عليه، فإن الحج في سبيل الله " (¬2) » . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، فقالت امرأة لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، إنها سألتني الحج معك، قالت: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحججك عليه، فقالت: أحججني على جملك فلان، فقلت: ذلك حبيس في سبيل الله، فقال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (¬3) » [قال] ، (¬4) : «وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك، قال ¬

_ (¬1) [كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (2\ 256) . (¬2) سنن أبو داود المناسك (1989) . (¬3) سنن أبو داود المناسك (1990) . (¬4) الزيادة من [المجموع] ، (6\159) تحقيق وتكميل\ محمد نجيب المطيعي (الناشر) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، وأخبرها أنها تعدل حجة (¬1) » يعني: عمرة في رمضان، رواهما أبو داود في [سننه] ، في أواخر كتاب الحج في باب العمرة، والثاني: إسناده صحيح، وأما الأول: حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق وقال فيه: (عن) وهو مدلس، والمدلس إذا قال: (عن) لا يحتج به بالاتفاق. اهـ (¬2) . واستدل أصحاب هذا الرأي بما استدل به أصحاب القول الأول بالنسبة لإرادة الغزاة من كلمة (في سبيل الله) . وأما بالنسبة لدخول الحجاج والعمار في ذلك فقد استدلوا عليه بما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن امرأة قالت لزوجها: أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك الفلاني، قال: ذاك حبيس في سبيل الله ... الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (¬3) » ، وبما روي عن أم معقل الأسدية «أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت الحج.. وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها البكر وقال: الحج من سبيل الله (¬4) » أخرجه أحمد وغيره، وبما روي عن أبي لاس قال: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة للحج (¬5) » ذكره البخاري تعليقا، ووصله أحمد وابن خزيمة والحاكم، وبما روى أبو عبيد في [الأموال] ، عن أبي معاوية وابن أبي شيبة في [مصنفه] ، عن أبي جعفر كلاهما عن الأعمش عن حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج، وبما روي عن ابن عمر أنه سئل عن ¬

_ (¬1) سنن أبو داود المناسك (1990) . (¬2) [المجموع، (6\ 212، 213) المطبعة المنيرية. (¬3) سنن أبو داود المناسك (1990) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (6/406) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (4/221) .

امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله، فقيل له: أتجعل في الحج؟ فقال: (أما إنه من سبيل الله) أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه. وقال القرطبي في [تفسيره] : خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ، حدثنا محمد بن محمد الخياش، حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مهدي بن ميمون عن محمد بن أبي يعقوب عن عبد الرحمن بن أبي نعم، ويكنى: أبا الحكم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر، فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله، قال ابن عمر: (فهو كما قال في سبيل الله) ، فقلت: ما زدتها فيما سألت عنه إلا غما، قال: (فما تأمرني يا ابن أبي نعم؟ ! آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل) ! قال: قلت: فما تأمرها؟ قال: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن، ليسوا كوفد الشيطان، ثلاثا يقولها. وقد أجيب بما يلي: بأن المتبادر إلى الأفهام من كلمة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) في آية المصارف: هو: الغزو. وقال المباركفوري: وأما الأحاديث التي استدل بها أهل القول الثاني فقد أجيب عنها بوجهين: الأول: الكلام فيها إسنادا، فإن حديث ابن عباس في إسناده عامر بن ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60

عبد الواحد الأحول، وقد تكلم فيه أحمد والنسائي، وقال الحافظ: صدوق يخطئ، وقد روى الشيخان عن ابن عباس نحو هذه القصة، وليس عندهما أنه جعل جمله حبيسا في سبيل الله، ولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (¬1) » ، وأما حديث أم معقل ففيه اضطراب كثير واختلاف شديد في سنده ومتنه حتى تعذر الجمع والترجيح مع ما في بعض طرقه من راو ضعيف ومجهول ومدلس قد عنعن، وهذا مما يوجب التوقف فيه، وذلك لا شك فيه، من ينظر في طرق هذا الحديث في [مسند الإمام أحمد] ، وفي السنن، مع حديث ابن عباس عند الشيخين وأبي داود وابن أبي شيبة، ومع قصة أم طليق عند ابن السكن وابن منده والدولابي، وقد حمل ذلك بعضهم على وقائع متعددة ولا يخفي بعده، وأما حديث أبي لاس، فقال الحافظ في [الفتح] ،: رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق؟ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. اهـ. ويشير بذلك ما حكي عنه أنه قال: إن ثبت حديث ابن لاس قلت بذلك، قال الحافظ: وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة ولم يتملكوها. انتهى. وأما أثر ابن عباس فهو أيضا مضطرب صرح به أحمد، كما في [الفتح] ، وقد بين اضطرابه الحافظ؛ ولذلك كف أحمد عن القول بالإعتاق من الزكاة تورعا، وقيل: بل رجع عن هذا القول. والثاني: أنه لا ينكر أن الحج من سبيل الله، بل كل فعل خير من سبل الله، لكن لا يلزم من هذا أن يكون السبيل المذكور في هذه الأحاديث هو ¬

_ (¬1) سنن أبو داود المناسك (1990) .

المذكور في الآية، فإن المراد في هذه الأحاديث المعنى الأعم، وفي الآية نوع خاص منه وهو الغزو والجهاد؛ لحديث أبي سعيد وإلا فجميع الأصناف من سبيل الله بذلك المعنى. قال ابن حزم: فإن قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «الحج من سبيل الله،» وصح عن ابن عباس أن يعطى منها في الحج قلنا: نعم، وكل فعل خير فهو من سبيل الله تعالى، إلا أنه لا خلاف في أنه تعالى لم يرد كل وجه من وجوه البر في قسمة الصدقات، فلم يجز أن توضح إلا حيث بين النص، وهي الذي ذكرنا. انتهى. وقال ابن قدامة: هذا- أي: عدم صرف الزكاة في الحج- أصح؛ لأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين: محتاج إليها كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم وابن السبيل، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج من الفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضا إليه؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقط ولا مصلحة له في إيجابه عليه وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وأما الخبر (يعني: حديث أن «الحج في سبيل الله» فلا يمنع أن يكون الحج من سبيل الله، والمراد بالآية غيره لما ذكرنا. انتهى. وقال ابن الهمام متعقبا على الاستدلال المذكور: ثم فيه نظر؛ لأن المقصود ما هو المراد بسبيل الله المذكور في الآية؟ والمذكور في الحديث لا يلزم كونه إياه لجواز أنه أراد الأمر الأعم وليس ذلك المراد في الآية، بل

نوع مخصوص، وإلا فكل الأصناف في سبيل الله بذلك المعنى انتهى. وقال صاحب تفسير [المنار] ، بعد الكلام في سند حديث أم معقل ما لفظه: وأقول من جهة المعنى: أولا: إن جعل أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية. وثانيا: إن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل عن بقائه على ما أوصى به أبو معقل ويقال مثل هذا في حديث أبي لاس. وثالثا: أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ، والراجح المختار: أنه غير مراد في الآية. انتهى (¬1) وقال أبو الفرج ابن قدامة: ولأن الزكاة إنما تصرف لأحد رجلين: محتاج إليها؛ كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون؛ كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه ولا حاجة بهم إليه، ولا حاجة به أيضا؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه، وتكليفه مشقة قد رفعه الله منها، وخفف عنه إيجابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف أو صرفه في مصالح المسلمين أولى. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) [المرآة على المشكاة] ، (3\ 117، 118) . (¬2) [الشرح الكبير] ، (2\ 701) (الطبعة المشتركة مع المغني) .

القول الثالث المراد بذلك جميع وجوه البر

القول الثالث: أن المراد بذلك: جميع وجوه البر؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح، ولا دليل على ذلك، ولقد قال

بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء. وفيما يلي بعض من أقوالهم: قال الفخر الرازي: إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال: فلهذا المعنى نقل القفال في [تفسيره] ، عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) عام في الكل. اهـ (¬3) . وقال الخازن في [تفسيره] : وقال بعضهم: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط؛ ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، قال: لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره. اهـ (¬5) . وقال محمد جمال الدين القاسمي: ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6) فيصرف على المتطوعة في الجهاد، ويشترى لهم الكراع والسلاح، قال الرازي: لا يوجب قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬7) القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في [تفسيره] ، عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) [تفسير الرازي] ، (16\ 113) . (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) [لباب التأويل في معاني التنزيل] ، (3\ 92) . (¬6) سورة التوبة الآية 60 (¬7) سورة التوبة الآية 60

وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) عام في الكل. انتهى. ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه. قال في [الإقناع] ، وشرحه: والحج من سبيل الله نصا، وروي عن ابن عباس وابن عمر؛ لما روى أبو داود: «أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اركبيها، فإن الحج من سبيل الله (¬2) » فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما؛ لأن كلا من سبيل الله. انتهى. قال ابن الأثير: وسبيل الله عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه انتهى. وقال في [التاج] ،: كل سبيل أريد به الله عز وجل- وهو بر- داخل في سبيل الله. اهـ (¬3) . وقال أحمد مصطفى المراغي: في [تفسيره] ، قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) وسبيل الله: هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به: ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) مسند أحمد بن حنبل (6/406) . (¬3) [محاسن التأويل] ، (8\ 3181) مطبعة الحلبي. (¬4) سورة التوبة الآية 60

الغزاة، والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد ونحو ذلك. والحق: أن المراد بسبيل الله: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد؛ كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب. اهـ (¬1) . وقال الألوسي: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) أريد بذلك عند أبي يوسف: منقطعو الغزاة، وعند محمد: منقطعو الحجيج، وقيل: المراد: طلبة العلم، واقتصر عليه في [الفتاوى الظهيرية] ، وفسره في [البدائع] ، بجميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير (¬3) اهـ. وقال السيد رشيد رضا في تفسيره: [المنار] ، بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) ما نصه: والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد، وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه؛ كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية.. ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها، فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة ¬

_ (¬1) [تفسير المراغي] ، (10\ 745) مطبعة الحلبي. (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) [روح المعاني] ، (10\ 123) المطبعة المنيرية. (¬4) سورة التوبة الآية 60

للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. اهـ (¬1) . وقال أيضا: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة ... إلى أن قال: ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا: إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي. اهـ (¬3) . وقال سيد قطب رحمه الله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله، وفي أولها: إعداد العدة للجهاد، وتجهيز المتطوعين، وتدريبهم، وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام، وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين، وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة، فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام، ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثتهم وهم لا يملكون رد العدوان. اهـ (¬5) وقال الحسين السيافي في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله: لا يعطى من الزكاة في كفن ميت، ولا بناء مسجد، ولا تعتق منها رقبة. قال: وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل ¬

_ (¬1) [تفسير المنار] ، (10\ 585) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) تفسير المنار (10\ 587) . (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) [في ظلال القرآن] ، (10| 82) .

الله إذ هو طريق الخير على العموم وإن كثر استعماله في فرد من مدلولاته وهو الجهاد؛ لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة إلا ما خصه الدليل، وهو ظاهر عبارة البحر في قوله: قلنا: ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل. اهـ (¬1) . وقال صديق حسن خان: أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل والجهاد، وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل، هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعا. اهـ (¬2) . وقال الصنعاني في الكلام على حديث: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (¬3) » الحديث: كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا؛ لأنه ساع في سبيل الله. قال الشارح: ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنيا، وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين، وأشار إليه البخاري حيث قال: (باب رزق الحاكم والعاملين عليها) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال ¬

_ (¬1) [الروض النضير شرح مسند الإمام زيد] ، (2\ 622) الطبعة الثانية. (¬2) [الروضة الندية] ، (1\ 206) . (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .

لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا. اهـ. المقصود (¬1) . وقال المباركفوري: وقيل: اللفظ عام، فلا يجوز قصره على نوع خاص، ويدخل فيه جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية [تفسير البيضاوي] لشيخ زاده، وإليه مال الكاساني، إذ فسره بجميع القرب، قال في [البدائع] : سبيل الله عبارة عن جميع القرب، ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. وقال النووي في [شرح مسلم] : وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء: أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول عليه هذا الحديث- أي: ما روى البخاري في القسامة «أنه صلى الله عليه وسلم وداه- أي: الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة (¬2) » . اهـ (¬3) . وقال الكاساني: وأما قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) عبارة عن جميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. (¬5) اهـ. وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: أن معنى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6) أنه: المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد، والتي لا يختص بالانتفاع بها ¬

_ (¬1) [سبل السلام] (2 \ 198) مطبعة الاستقامة. (¬2) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4719) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬3) [المرآة على المشكاة] (3 \ 117) . (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) [بدائع الصنائع] (2 \ 245) . (¬6) سورة التوبة الآية 60

أحد، فملكها لله، ومنفعتها لخلق الله، وأولاها وأحقها: التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية، ويشمل تعبيد الطرق، ومد الخطوط الحديدية، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته، ويفسرون حكمته، ويبلغون أحكامه، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر- ويتواتر- بهم نقله كما أنزل، من عهد وحيه إلى اليوم، وإلى يوم الدين إن شاء الله (¬1) . اهـ. وأفتى من سأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد، فكان جوابه: (إن المسجد الذي يراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ويحتاجون إلى مسجد آخر- صح شرعا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه، والصرف على المسجد في تلك الحال يكون المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم سبيل الله) . وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة (سبيل الله) المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدا بعينه، فتشمل المساجد ¬

_ (¬1) [الإسلام عقيدة وشريعة] ص 97، 98 الأزهر.

والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها، مما يعود نفعه على الجماعة. وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء. ثم ذكر ما نقله الرازي في [تفسيره] عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير. ثم قال: وهذا ما أختاره وأطمئن إليه وأفتي به، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق (¬1) . اهـ. وسئل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة، فأفتى بالجواز، مستندا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله (¬2) . وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (¬3) » وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيا، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في ¬

_ (¬1) [الفتاوى] لمحمود شلتوت، ص219. (¬2) [فتاوى شرعية] حسنين مخلوف (1 \ 296) ط \ مطبعة المدني بمصر. (¬3) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) .

سبيل الله. جاءت الأحاديث والآثار بتطبيق العموم في مدلول قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) فقد اعتبرت السنة الحج والعمرة من سبيل الله، يتضح ذلك من حديث أبي لاس وحديث أم معقل وحديث ابن عباس وفيه: «أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله (¬2) » . وقد جاءت الآثار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار الحج سبيلا من سبل الله، فقد ذكر أبو عبيد في كتابه [الأموال] بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله للحج، وما أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهما في سبيل الله فقيل له: أتجعل في الحج قال: (أما إنه من سبيل الله) ، وما ذكره القرطبي في [تفسيره] من أن عبد الرحمن بن أبي نعم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن، إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله. . . وفيه: آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين إلى حجاج بيت الله الحرام أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن أولئك وفد الرحمن. كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله. . ففي [صحيح البخاري] في باب القسامة قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار: «زعم أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة، أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) سنن أبو داود المناسك (1990) .

وجد فيهم: قد قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا، فقال: " الكبر الكبر " فقال لهم: " تأتون بالبينة على من قتله "؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: " فيحلفون " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (¬1) » . قال ابن حجر: ووقع في رواية ابن أبي ليلى: فوداه من عنده. وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله: من عنده، أي: بيت المال المرصد للمصالح، قال ابن حجر: وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث وغيره. قلت: وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة (¬2) ، في الكلام على حديث أبي لاس قال: «حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة في الحج (¬3) » ، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم، قال القرطبي في [المفهم] : فعل صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه، وحسن سياسته، وجلبا للمصلحة، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق. اهـ (¬4) . وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال: وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا: يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6898) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬2) أي: من [صحيح البخاري] . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/221) . (¬4) [فتح الباري] (12 \ 235) المطبعة السلفية.

فأخذ بظاهره. اهـ (¬1) . ورأى حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يجوز الإعتاق من الزكاة، ففي [صحيح البخاري] تحت: باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج. وقال الحسن: إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطى في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬3) الآية في أيها أعطيت أجزأت. قال ابن حجر: ووصله أبو عبيد في كتاب [الأموال] من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه: أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة، وأخرجه عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: أعتق من زكاة مالك. اهـ (¬4) . تعبير النبي صلى الله عليه وسلم بمن التبعيضية في حديث أم معقل في قوله: «فإن الحج من سبيل الله» يشعر أن سبيل الله الوارد في آية مصارف الزكاة على عمومه وأنه يتناول مجموعة من الأمور وأن الحج منها، وبمثل تعبيره صلى الله عليه وسلم عبر ابن عمر، فقال عن الحج: (أما إنه من سبيل الله) . وقد أجيب عن القول بعموم اللفظ بأجوبة منها ما ذكره المباركفوري حيث قال: وأما القول الثالث فهو أبعد الأقوال؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب، ولا ¬

_ (¬1) [شرح صحيح مسلم] (11 \ 147) . (¬2) سورة التوبة الآية 60 (¬3) سورة التوبة الآية 60 (¬4) [فتح الباري] (3 \ 331) المطبعة السلفية.

من سنة صحيحة أو سقيمة، ولا من إجماع، ولا من رأي صحابي، ولا من قياس صحيح أو فاسد؛ بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت، وهو حديث أبي سعيد، ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف إلا ما حكى القفال في [تفسيره] عن بعض الفقهاء المجاهيل والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين. قال صاحب تفسير [المنار] : أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى بإعلاء كلمته وإقامة دينه وحسن عبادته ومنفعة عباده، ولا يدخل فيه الجهاد بالمال والنفس إذا كان لأجل الرياء والسمعة، وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ولا الخلف، ولا يمكن أن يكون مرادا هنا؛ لأن الإخلاص الذي يكون للعمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية، وإذا قيل: إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق؛ عملا بالظاهر اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط الأذى عن الطريق، مستحق بعمله هذا للزكاة الشرعية، فيجب أن يعطى منها، ويجوز له أن يأخذ منها وإن كان غنيا، وهذا ممنوع بالإجماع أيضا وإرادته تنافي حصر المستحقين في الأصناف المنصوصة؛ لأن هذا الصنف لأحد جماعاته فضلا عن أفراده وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفا تذهب حكمة فرضية الصدقة من أهلها. انتهى. وأما ما يذكر للاحتجاج لذلك من رواية البخاري في دية الأنصاري

الذي قتل بخيبر مائة من إبل الصدقة- فهو مخالف لما روى البخاري أيضا في قصته أنه وداه من عنده، وجمع بين الروايتين بأنه اشتراه من أهل الصدقة بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل، حكاه النووي عن الجمهور، وعلى هذا فلا حجة فيه لمن ذهب إلى التعميم. وإذا تقرر هذا فلا يجوز صرف الزكاة في عمارة المساجد والمعاهد الدينية، وبناء الجسور، وإصلاح الطرق والشوارع، وتكفين الموتى، وقضاء ديونهم وغير ذلك من أنواع البر؛ لأنه ليس هذا في شيء من المصارف المنصوصة، وهو مذهب أحمد، كما يظهر من [المغني] (¬1) ، ومالك كما في [المدونة] (¬2) ، وسفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء، كما في [الأموال] لأبي عبيد. (¬3) . هذا وقد ألحق بعض العلماء بالغازي من كان قائما بمصلحة من مصالح المسلمين؛ كالقضاء، والإفتاء، والتدريس، وإن كان غنيا وأدخله بعضهم في العاملين، فأجاز له الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا ولا يخفى ما فيه. وقال صاحب المنار: إن سبيل الله هنا مصالح المسلمين الشرعية التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد والأشخاص، وأن الحج ليس منها، قال: وأولها وأولاها بالتقديم: الاستعداد للحرب بشراء السلاح، وأغذية ¬

_ (¬1) [المغني] (2 \ 667) . (¬2) المدونة، (2 \ 59) . (¬3) [الأموال] ص 610.

الجند، وأدوات النقل، وتجهيز الغزاة، قال: ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية والخيرية وإشراع الطرق وتعبيدها ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية، ومنها: بناء البوارج المدرعة والمنطادات والطيارات الحربية والحصون والخنادق، قال: ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر، ولا يعطى عالم غني لأجل علمه وإن كان يفيد الناس به. انتهى. قلت: حديث أبي سعيد ينافي هذا التعميم؛ لكونه كالنص في أن المراد بسبيل الله المطلق في الآية هم: الغزاة والمجاهدون خاصة، فيجب الوقوف عنده. اهـ (¬1) . ومنها ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي حيث قال ما نصه: ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من (سبيل الله) هل هو خاص بالغزو والقتال -كما هو رأي الجمهور- أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة-كما هو رأي من ذكرنا- وكما يدل عليه عموم اللفظ. ولكي نحدد هذا المراد تحديدا دقيقا، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت، فخير ما يفسر القرآن ¬

_ (¬1) [المرآة على المشكاة] (3 \ 118، 119) .

بالقرآن.

سبيل الله

سبيل الله في القرآن: ذكرت كلمة: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) في القرآن العزيز بضعا وستين مرة (¬2) ، وقد جاء ذكرها على طريقين: 1 - فتارة تجر بحرف في {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3) كما في آية مصارف الزكاة هذه، وهو أكثر ما ورد في القرآن، وتارة تجر بحرف (عن) " عن سبيل الله " وذلك في ثلاثة وعشرين موضعا من القرآن. وفي هذه المواضع جاءت بعد واحد من فعلين: إما الصد: مثل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} (¬4) ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) وإما الإضلال: مثل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6) 2 - وحينما تجر بـ (في) - وهو أكثر ما ورد في القرآن- يكون ذلك بعد فعل الإنفاق {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬7) أو الهجرة ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) راجع [المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم] مادة (سبل) . (¬3) سورة التوبة الآية 60 (¬4) سورة النساء الآية 167 (¬5) سورة الأنفال الآية 36 (¬6) سورة لقمان الآية 6 (¬7) سورة البقرة الآية 195

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) أو الجهاد {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) أو القتال أو القتل: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (¬3) ، {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} (¬4) أو المخمصة أو الضرب وما يشبهها. ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 58 (¬2) سورة البقرة الآية 218 (¬3) سورة التوبة الآية 111 (¬4) سورة البقرة الآية 154

المراد بسبيل الله في القرآن

فما المراد بسبيل الله في القرآن: إن السبيل في اللغة هو: الطريق، وسبيل الله هو: الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (¬1) النحل، وأن يعلن في الناس {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬2) وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت. وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله، وقد قال الله تعالى مقارنا بين الطريقين وأصحابهما: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} (¬3) وسبيل الله دعاته قليلون، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 125 (¬2) سورة يوسف الآية 108 (¬3) سورة النساء الآية 76

{يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3) هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه؛ ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن (سبيل الله) فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم، وينفقوا أموالهم في (سبيل الله) وهذا ما فرضه الإسلام، فجعل جزءا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5) كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في (سبيل الله) . ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآية 36 (¬2) سورة لقمان الآية 6 (¬3) سورة الأنعام الآية 116 (¬4) سورة ص الآية 26 (¬5) سورة التوبة الآية 60

معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق

معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق: والمتتبع لكلمة (سبيل الله) مقرونة بالإنفاق يجد لها معنيين: 1 - معنى عام- حسب مدلول اللفظ الأصلي-: يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات، وذلك كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1) وقوله: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 261

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1) فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيها مقصور على القتال وما يتعلق به بدليل ذكر المن والأذى، وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة وبخاصة الأذى، وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬2) فالمراد بسبيل الله في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر (¬3) - لا خصوص القتال، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها- دون خصوص القتال- داخلا في دائرة الكانزين المبشرين بالعذاب. وزعم بعض المعاصرين: أن كلمة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4) إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزما ولا تحتمل غيره مطلقا، وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه. 2 - والمعنى الثاني معنى خاص، وهو: نصرة دين الله، ومحاربة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض، {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (¬5) والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬6) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 262 (¬2) سورة التوبة الآية 34 (¬3) [فتح الباري] (3 \ 172) . (¬4) سورة التوبة الآية 60 (¬5) سورة البقرة الآية 193 (¬6) سورة آل عمران الآية 167

{وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2) فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه. ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬3) فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة. وفي سورة الأنفال قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (¬4) فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله ونصرة دين الله، كما صرح بذلك الحديث الصحيح: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (¬5) » . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 218 (¬2) سورة البقرة الآية 195 (¬3) سورة الحديد الآية 10 (¬4) سورة الأنفال الآية 60 (¬5) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري [صحيح البخاري] (1 \ 40) و [صحيح مسلم] برقم (1904) .

وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانا بالجهاد والغزو، وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى، وإلا لكان مضمون معنى {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) جاهدوا في الجهاد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 218

سبيل الله في آية مصارف الزكاة

" سبيل الله" في آية مصارف الزكاة: وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان: العام والخاص- كما ذكرنا- فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يذكر لفظه؟ إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة، لا تحصر أصنافها فضلا عن أشخاصها، وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية، كما هو ظاهر الآية، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء (¬1) » ، كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى؛ لأنها جميعها من البر وطاعة الله، فما الفرق إذا بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه؟ إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة، فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد، وقالوا: إنه المراد به عند إطلاق اللفظ؛ ولهذا قال ابن الأثير: إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه، كما نقلنا عنه في أول الفصل، ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير؛ ما رواه الطبراني: إن الصحابة كانوا يوما مع رسول الله ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1630) .

صلى الله عليه وسلم فرأوا شابا جلدا، فقالوا: لو كان شبابه وجلده في سبيل الله؟ " (¬1) . يريدون. في الجهاد ونصرة الإسلام. وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة (سبيل الله) هو الجهاد، كقول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (حملت على فرس في سبيل الله) يعني: في الجهاد، وحديث الشيخين: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (¬2) » ، وحديث البخاري: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة (¬3) » يعني: حسنات، وحديث الشيخين؛ «ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا (¬4) » وحديث النسائي والترمذي وحسنه: «من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف (¬5) » وحديث البخاري: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار (¬6) » (¬7) وغيرها كثير. ولم يفهم أحد من سبيل الله فيها إلا الجهاد. فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من (سبيل الله) في الآية المصارف: هو الجهاد، كما قال الجمهور، وليس المعنى اللغوي الأصلي، وقد أيد ذلك حديث: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة (¬8) » . . . وذكر منهم الغارم والغازي في (سبيل الله) اهـ (¬9) . ¬

_ (¬1) قال المنذري في [الترغيب] : رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، (3 \ 4) ط المنيرية. (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2792) ، صحيح مسلم الإمارة (1880) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1651) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2824) ، مسند أحمد بن حنبل (3/264) . (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2853) ، سنن النسائي الخيل (3582) ، مسند أحمد بن حنبل (2/374) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2840) ، صحيح مسلم الصيام (1153) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1623) ، سنن النسائي الصيام (2248) ، سنن ابن ماجه الصيام (1717) ، مسند أحمد بن حنبل (3/26) ، سنن الدارمي الجهاد (2399) . (¬5) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1625) ، سنن النسائي الجهاد (3186) . (¬6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2811) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1632) ، سنن النسائي الجهاد (3116) ، مسند أحمد بن حنبل (3/479) . (¬7) خرج هذه الأحاديث كلها المنذري في [الترغيب] ج (2) كتاب الجهاد. (¬8) سنن أبو داود الزكاة (1635) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1841) ، مسند أحمد بن حنبل (3/56) ، موطأ مالك الزكاة (604) . (¬9) [فقه الزكاة] للقرضاوي (2 \ 652-657) ط \ الأولى.

هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة وفي سبيل الله

قرار هيئة كبار العلماء رقم (24) وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وآله وصحبه وبعد: قد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم 5 \ 8 \ 1394 هـ ويوم 22 \ 8 \ 1394 هـ على ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم، أم عام في كل وجه من وجوه الخير؟ وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد- ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية: بأنهم الغزاة وما يلزم لهم، وأدلة من توسع في المراد بالآية، ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر- رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) الغزاة المتطوعون بغزوهم، وما يلزم لهم من استعداد، وإذا لم يوجدوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى، ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60 (¬2) سورة التوبة الآية 60

الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة الخامسة عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط مخالف وله وجهة نظر ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد الحركان ... مخالف وله وجهة نظر ... . ... عبد المجيد حسن مخالف وله وجهة نظر ... عبد العزيز بن صالح مخالف وله وجهة نظر صالح بن غصون مخالف وله وجهة نظر ... . ... . . ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين . ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع مخالف وله وجهة نظر

الشرط الجزائي

(4) الشرط الجزائي هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم الشرط الجزائي إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد: (¬1) فقد عرض على هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين 5 و22 \ 8 \ 1394 هـ بمدينة الطائف موضوع الشرط الجزائي هذا نصه. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر من إدراج موضوع (الشرط الجزائي) في جدول أعمال الدورة (الخامسة) لهيئة كبار العلماء- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في موضوع الشرط الجزائي يشتمل على بيان المراد منه ونشأته ونماذج من صوره، وما ذكره بعض أهل العلم من ضوابط للشروط والعقود الصحيحة والفاسدة، وبيان ما يمكن اندراجه تحتها من ذلك، وذكر مسائل وصور يمكن أن يكون الشرط الجزائي نظيرا لها. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثاني، ص 59- 144، عام 1395 هـ.

المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه

الشرط الجزائي 1 - المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه: الشرط الجزائي لم يكن معروفا بهذا الاسم لدى فقهائنا الأقدمين، وإنما جاء ذكره في صور مسائل فقهية. ولعل أول وجود له في الفقه الإسلامي ما روى البخاري في [صحيحه] بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه، وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلا باع طعاما وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع فلم يجئ، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. اهـ. أما الفقهاء المعاصرون فقد تعرضوا لبحثه في كتبهم بهذا الاسم، وبينوا العوامل التي أدت إلى التوسع في الأخذ به. فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء (¬1) : في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوربا وتطورت أساليب التجارة الداخلية والصنائع وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة؛ كامتياز المؤلف والمخترع وكل ذي أثر فني جديد في استثمار مؤلفاته، أو مخترعاته، أو آثاره الفنية مما سمي ¬

_ (¬1) [المدخل الفقهي العام] ص 713- 714، ف 386.

بالملكية الأدبية والصناعية، واحتاج أصحاب هذه الحقوق والامتيازات إلى بيعها والتنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها. إلى أن قال: واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية وكذا عقود المتعهد بتقديم اللوازم والأرزاق والمواد الأولية إلى الدوائر الحكومية والشركات والمعامل والمدارس مما سمي (عقود التوريد) وكل ذلك يعتمد على المشارطات في شتى صورها. وقد ازدادت أيضا قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية، فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل، فلو أن متعهدا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد المضروب لتعطل العمل وعماله. ولو أن بائع بضاعة لتاجر تأخر في تسليمها حتى هبط سعرها لتضرر التاجر المشتري بخسارة قد تكون فادحة، وكذا تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته، وكل متعاقد إذا تأخر أو امتنع عن تنفيذ عقده في موعده. ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي؛ لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونا منه أو امتناعا، وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي

"الشرط الجزائي " اهـ. وذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري تعريف الشرط الجزائي وسبب تسميته بذلك فقال (¬1) : يحدث كثيرا أن الدائن والمدين لا يتركان تقدير التعويض إلى القاضي كما هو الأصل بل يعمدان إلى الاتفاق مقدما على تقدير هذا التعويض، فيتفقان على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بالتزامه، وهذا هو التعويض عن عدم التنفيذ، أو على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه، وهذا هو التعويض عن التأخير، هذا الاتفاق مقدما على التعويض يسمى بالشرط الجزائي، وسمي بالشرط الجزائي؛ لأنه يوضع عادة كشرط ضمن شروط العقد الأصلي الذي يستحق التعويض على أساسه. اهـ. وفي [الموسوعة العربية الميسرة] ، ما نصه: (شرط جزائي) : اتفاق يقدر فيه المتعاقدان سلفا التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه أو إذا تأخر في تنفيذه. اهـ. ¬

_ (¬1) [الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام] ص 851 ف 477.

ما للشرط الجزائي من صور مختلفة

2 - ما للشرط الجزائي من صور مختلفة: الشرط الجزائي وإن كان يعني اشتراط التعويض عن الضرر اللاحق في طريقة تنفيذ العقد إلا أنه له صورا مختلفة باختلاف العقود والالتزامات، وقد أشار الدكتور عبد الرزاق السنهوري إلى شيء من هذه الصور فقال (¬1) : ¬

_ (¬1) [الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام] ص 852 ف 477.

والأمثلة على الشرط الجزائي كثيرة ومتنوعة: فشروط المقاولة قد تتضمن شرطا جزائيا يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو عن كل أسبوع أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه، ولائحة المصنع قد تتضمن شروطا جزائية تقتضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على الإخلال بالتزاماته المختلفة. وتعريفة مصلحة السكك الحديدية أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد طرد أو فقد رسالة. واشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضا شرط جزائي، ولكن من نوع مختلف، إذ هو هنا ليس مقدارا معينا من النقود قدر به التعويض، بل هو تعجيل أقساط مؤجلة. اهـ. وقال في [الحاشية] في الصفحة نفسها ما نصه: (هذا والأصل في الشرط الجزائي هو أن يكون تقديرا مقدما للتعويض كما أسلفنا، ولكن قد يستعمله المتعاقدان لأغراض أخرى: من ذلك أن يتفقا على مبلغ كبير يزيد كثيرا على الضرر الذي يتوقعانه فيكون الشرط الجزائي بمثابة تهديد مالي، وقد يتفقان على مبلغ صغير يقل كثيرا عن الضرر المتوقع فيكون الشرط الجزائي بمثابة إعفاء أو تخفيف من المسئولية. . وقد يكون الغرض من الشرط الجزائي تأكيد التزام المتعهد عن الغير بتحديد مبلغ التعويض الذي يكون مسئولا عنه إذا لم يقم بحمل الغير على التعهد، وقد يوضع شرط جزائي في الاشتراط لمصلحة الغير لتقدير التعويض المستحق للمشترط

في حالة إخلال المتعهد بالتزامه نحو المنتفع، فيمثل الشرط الجزائي في هذه الحالة المصلحة المادية للمشترط في اشتراطه لمصلحة الغير. اهـ. وجاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودي ما نصه: (إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملا في المواعيد المحددة ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيا لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى أي تنبيه للمقاول ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي: 1 % عن الأسبوع الأول 1.5% عن الأسبوع الثاني 2% عن الأسبوع الثالث 2.5% عما زاد عن ثلاثة أسابيع 3% عن أية مدة تزيد على أربعة أسابيع. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر: ص 107 [نظام المناقصات] .

ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود

3 - ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج: نستعرض فيما تحت هذا العنوان ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود من حيث الجملة وما ذكره بعض العلماء في تفسيرها وما بنوه عليها من تقسيم الشروط إلى قسمين: شروط صحيحة وشروط فاسدة، وما وضعوه من الضوابط لكل منهما؛ ليتسنى معرفة ما يندرج تحته الشرط الجزائي من هذه الضوابط، وما يلتحق به من المسائل

التي يشبهها وأدرجوها تحتها، أو جعلوها أمثلة شارحة لها. روى البخاري في [صحيحه] تحت باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله عن عروة: «أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أن بريرة جاءت تستفتيها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا. فقالت لها عائشة: (ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت) فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ابتاعي فأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق " قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق (¬1) » ، وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أرادت عائشة رضي الله عنها أن تشتري جارية لتعتقها، فقال أهلها: على أن ولاءها لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق (¬2) » . قال ابن حجر في [الفتح] : قوله: (باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله) ، جمع في هذه الترجمة بين حكمين وكأنه فسر الأول بالثاني، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله، وسيأتي في كتاب [الشروط] (¬3) : أن المراد بما ليس في كتاب الله ما خالف كتاب الله، وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا: حكمه؛ من كتابه، أو سنة رسوله، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب العتق (2561) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) . (¬2) صحيح البخاري كتاب العتق (2562) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/30) . (¬3) أي: من [صحيح البخاري] .

أو إجماع الأمة، وقال ابن خزيمة: (ليس في كتاب الله) أي: ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروطا من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك فلا يبطل. قال النووي: قال العلماء: الشروط في البيع أقسام: أحدها: يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه. الثاني: شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا. والثالث: اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور؛ لحديث عائشة وقصة بريرة. الرابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل. وقال القرطبي: قوله: (ليس في كتاب الله) ، أي: ليس مشروعا في كتاب الله تأصيلا ولا تفصيلا، ومعنى هذا: أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة، ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع، وكذلك القياس الصحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلا فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلا. . . إلى أن قال: وقال القرطبي: قوله: (ولو كان مائة شرط) ، يعني: أن الشروط الغير مشروعة باطلة ولو

كثرت. اهـ (¬1) . وقال البخاري في [صحيحه] (باب الشروط التي لا تحل في الحدود) . عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما: أنهما قالا: «إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل"، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت (¬2) » . قال ابن حجر في [الفتح] : وقد ترجم له في الصلح (¬3) : إذا اصطلحوا على جور فهو مردود. ويستفاد من الحديث: أن كل شرط وقع في رفع حد من حدود الله فهو باطل، وكل صلح وقع فيه فهو مردود. اهـ (¬4) . وروى البخاري في [صحيحه] عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (¬5) » . ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 142) . (¬2) صحيح البخاري الشروط (2725) ، صحيح مسلم الحدود (1698) ، سنن الترمذي الحدود (1433) ، سنن النسائي آداب القضاة (5411) ، سنن أبو داود الحدود (4445) ، سنن ابن ماجه الحدود (2549) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الحدود (1556) ، سنن الدارمي الحدود (2317) . (¬3) أي: من [صحيح البخاري] . (¬4) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 347) . (¬5) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .

قال ابن حجر: وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه، قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث وإنما يقع النزاع في الأولى، ومفهومه: أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل: أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح؛ فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد، فإذا حديث الباب نصف أدلة الشرع، والله أعلم. وقوله: "رد" معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل: خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. واللفظ الثاني وهو قوله: من "عمل" أعم من اللفظ الأول وهو قوله: "من أحدث"، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه رد المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن

المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله: "ليس عليه أمرنا"، والمراد به: أمر الدين وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري] مع شرحه [فتح الباري] (5 \ 331) .

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط فيها

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عامة في العقود والشروط فيها، فقال (¬1) : القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد. ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا. والذي يمكن ضبطه فيها قولان: أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك: الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته، فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس، كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقدا ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع، وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك ¬

_ (¬1) [القواعد النورانية] ص 184- 220.

طردا جاريا، لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم. وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي: أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق، وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه؛ ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال؛ ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته وإنما جوز الإجارة المؤخرة؛ لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره، ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا؛ لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ، ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما، ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا، وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر، وهو عنده موضع استحسان. والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص، فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتى منع الإجارة المؤخرة؛ لأن موجبها- وهو القبض- لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق، لما فيه من السنة والمعنى، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوز

اشتراطها دارها أو بلدها، وأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها، وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه، وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه؛ كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار، بخلاف فساد المهر ونحوه. وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح، فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل، إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين. وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي، فقد يوافقونه في الأصل، ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى، كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثنى للمعارض. وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة، وهو ما خرجاه في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقلت: (إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي

فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم، فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خذيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق" ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق (¬1) » وفي رواية للبخاري: «اشتريها فأعتقيها، وليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها، واشترط أهلها ولاءها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق، وإن اشترطوا مائة شرط (¬2) » وفي لفظ: «شرط الله أحق وأوثق (¬3) » وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن عمر: «أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها، فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يمنعنك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق (¬4) » وفي [صحيح مسلم] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا يمنعنك ذلك، فإنما الولاء لمن أعتق (¬5) » . ولهم من هذا الحديث حجتان: إحداهما: قوله: ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع: فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) . (¬2) صحيح البخاري كتاب الشروط (2726) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2155) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) . (¬4) صحيح البخاري كتاب البيوع (2169) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) ، موطأ مالك العتق والولاء (1520) . (¬5) صحيح مسلم العتق (1505) .

دلالته على اتباع السنة والإجماع. ومن قال بالقياس- وهم الجمهور- قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله: فهو في كتاب الله. الحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء؛ لأن العلة فيه؛ كونه مخالفا لمقتضى العقد، وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات، وهذا نكتة القاعدة، وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد القولين- لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها، فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، ومتابعة لعبد الله بن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول: (أليس حسبكم سنة نبيكم؟) وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1) وقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2) قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله، وزيادة في الدين، وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ، كما قاله بعضهم في شروط ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سورة البقرة الآية 229

النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية، أو قالوا: هذا عام أو مطلق، فيخص بالشرط الذي في كتاب الله. واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط» وقد ذكره جماعة من المسلمين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه. وأجمع الفقهاء المعروفون- من غير خلاف أعلمه من غيرهم- أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك: شرط صحيح. القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط: الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصا أو قياسا عند من يقول به، وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه. وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص، وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة، فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته وكذلك قد يضعف

ما اعتمدوه من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط (¬1) ، كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان نحوه، ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع، كما سأذكره إن شاء الله. فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع؛ كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، وإذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة. ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما؛ اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش. ويجوز على عامة أقواله: أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها، كما في حديث صفية، وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة، كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح؛ إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة. ¬

_ (¬1) أي: في [القواعد النورانية] .

واستمر رحمه الله في ذكر الأمثلة إلى أن قال: وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة، فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع، يجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، وجوز أيضا استثناء بعض التصرفات. وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا؟ فإن أراد الأول: فكل شرط كذلك، وإن أراد الثاني: لم يسلم له، وإنما المحذور: أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده، هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي. أما الكتاب: فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) والعقود هي العهود، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (¬2) وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (¬3) وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 1 (¬2) سورة الأنعام الآية 152 (¬3) سورة الإسراء الآية 34 (¬4) سورة الأحزاب الآية 15

فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد، وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} (¬1) فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به. ولهذا قرنه بالصدق في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (¬2) ؛ لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المعلق بالمستقبل، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬4) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬5) . واستمر رحمه الله في ذكر آيات في الحث على الوفاء بالعهود والتحذير من نقضها. إلى أن قال: والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في [الصحيحين] عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر (¬6) » . ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 15 (¬2) سورة الأنعام الآية 152 (¬3) سورة التوبة الآية 75 (¬4) سورة التوبة الآية 76 (¬5) سورة التوبة الآية 77 (¬6) صحيح البخاري الإيمان (34) ، صحيح مسلم الإيمان (58) ، سنن الترمذي الإيمان (2632) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020) ، سنن أبو داود السنة (4688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) .

وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (¬1) » . وفي [صحيح مسلم] عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة (¬2) » وفي رواية: «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة (¬3) » . وفي [صحيح مسلم] عن بريدة بن الحصيب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم (¬4) » . . الحديث، فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول. وفي [الصحيحين] عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل يغدر؟ فقال: لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة. وقال هرقل في جوابه: سألتك: هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر) فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين. وفي [الصحيحين] عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (¬5) » فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الفتن (7111) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1735) ، سنن الترمذي السير (1581) ، سنن أبو داود الجهاد (2756) ، مسند أحمد بن حنبل (2/70) . (¬2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2873) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) . (¬3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1738) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2873) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) . (¬4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) . (¬5) صحيح البخاري الشروط (2721) ، صحيح مسلم النكاح (1418) ، سنن الترمذي النكاح (1127) ، سنن النسائي النكاح (3281) ، سنن أبو داود النكاح (2139) ، سنن ابن ماجه النكاح (1954) ، مسند أحمد بن حنبل (4/150) ، سنن الدارمي النكاح (2203) .

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره (¬1) » فذم الغادر، وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر. فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك. ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع- لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبا؛ كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا، وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض، ويجب السكوت أو التعريض. وإذا كان جنس الوفاء، ورعاية العهد مأمورا به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصود العقد: هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة. وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الإجارة (2270) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2442) ، مسند أحمد بن حنبل (2/358) .

كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم (¬1) » وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة وضعفه في رواية أخرى. وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما (¬2) » قال الترمذي: حديث حسن صحيح وروى ابن ماجه منه الفصل الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة، وضرب أحمد على حديثه في [المسند] فلم يحدث به، فعلل الترمذي له بروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس على شروطهم ما وافق الحق» وهذه الأسانيد- وإن كان الواحد منها ضعيفا- فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا. وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) . (¬2) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) .

الإقباض ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها: فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك. وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال؛ لأنها إما أن تبيح حراما، أو تحرم حلالا، أو توجب ساقطا، أو تسقط واجبا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حراما بدون الشرط: فالشرط لا يبيحه؛ كالربا، وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء. فقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته) وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (¬1) » وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، وانتساب المعتق إلى غير مولاه، فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما وأما ما كان مباحا بدون الشرط: فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء، فإن الرجل له أن يعطي المرأة، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الوصايا (2121) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2712) ، مسند أحمد بن حنبل (4/238) ، سنن الدارمي السير (2529) .

وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجبا، وإذا وجب فقد حرمت (¬1) المطالبة التي كانت حلالا بدونه؛ لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط، فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا، فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره. وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا: فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب. فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه: (مقطع الحقوق عند الشروط) . وأما الاعتبار فمن وجوه: أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم، كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (¬2) عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة، وكانت صحيحة. ¬

_ (¬1) قال المعلق على [القواعد الفقهية] : كذا في الأصلين ولعله (وجبت) . (¬2) سورة الأنعام الآية 119

وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا، كالأعيان التي لم تحرم. وغالب ما يستدل به على الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها، سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع: منه ما سببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مجبية، ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع، فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم. فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص، كالعهود التي عقدها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا

ما حرمه الله؛ لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه الله فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله، بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله، فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به، فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة. فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعا؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال: فقد غير ما كان مشروعا، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا يعتبر في إباحتها. فيقال: لا فرق بينهما، وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون، فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود، وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود. وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة، فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال، فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل، وإن غير حكم العين، فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك. وسبب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك

البضع الثابت بالنكاح، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره؛ لإثباته سبب ذلك، وهو الملك الثابت بالبيع وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ما لم يحرمه الشارع عليه، كمن أعطى رجلا مالا فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه، وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطي ما لم يمنع مانع، وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية- من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو- لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا، وإنما شرعها شرعا كليا. مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬2) وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬3) وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد، فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا، فهذا المعين سببه فعل العبد، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط؛ لأن الشارع أثبته ابتداء. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275 (¬2) سورة النساء الآية 24 (¬3) سورة النساء الآية 3

وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام، وليس كذلك، فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع، وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق إليه، فكذلك إخراجه، إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا، مثل أن يقول: هذا الثوب بعه أو لا تبعه، أو هبه أو لا تهبه وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين، فتدبر هذا، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن، ولإيجاب العقل أيضا. وأيضا فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد؛ لأن الله قال في كتابه العزيز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) وقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2) فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 29 (¬2) سورة النساء الآية 4

بشرطه فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم، وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن. وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك. وأيضا فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد. ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق: فكذلك كل شرط زائد، وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك. وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد، فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين: بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 29

الشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع

والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك، والعتق قد يكون مقصودا للعقد، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا،

فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (¬1) » فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله: فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؟ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج. وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال: لا يحل ولا يصح (¬2) ، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور، كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال: لا تحل وتصح (¬3) حتى يدل على حلها دليل سمعي وإن كان عاما أو يقال: تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام. والقول الأول: باطل؛ لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم، فقال سبحانه في آية الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬4) فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) . (¬2) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) . (¬3) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) . (¬4) سورة البقرة الآية 278

مفهوم الآية- الذي اتفق العمل عليه- يوجب أنه غير منهي عنه. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام (¬1) » وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن، وكما أمر فيروز الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق الأخرى، وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارق ذوات المحارم. ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع، ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع. فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله: مضت، ولم يؤمروا باستئنافها؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء. قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الفرائض (2914) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2485) .

اتصل به التقابض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده؛ لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها، كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح، فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك، بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض، فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود. فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم؛ لأنه لا يصححه إلا بتحليل. وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم- فيما أعلمه- يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله، فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود: لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق. وأما إن قيل: لا بد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عاما أو خاصا، فعنه جوابان:

أحدهما: المنع كما تقدم. والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع، وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله (¬1) ، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (¬2) » فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى، وكذلك الوعد والخلف، ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا- والله أعلم-: المشروط لا نفس التكلم. ولهذا قال: إن كان مائة شرط أي: وإن كان قد شرط مائة شرط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط، وإنما المراد: تعديد الشرط، والدليل على ذلك قوله: كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه، وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى. وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: (كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق) فيكون المعنى: من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة: فهو باطل؛ لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط. ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير ¬

_ (¬1) أي: في [القواعد النورانية] . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

المعتق أبدا كان هذا المشروط- وهو ثبوت الولاء لغير المعتق- شرطا ليس في كتاب الله، فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما، فإن كان الله قد أباحه؛ جاز اشتراطه ووجب، وإن كان الله لم يبحه: لم يجز اشتراطه، فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله؛ لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها، فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله. فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال: ليس في كتاب الله، أي: ليس في كتاب الله نفيه (¬1) ، كما قال: «سيكون أقوام يحدثونكم بما لم تعرفوا أنتم ولا آباؤكم (¬2) » أي: بما تعرفون خلافه، وإلا فما لا يعرف كثير. ثم نقول: إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء لا إيجاب ولا تحريم: فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام، فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه منكرا من القول وزورا، ثم إنه أوجب به على من عاد: الكفارة، ومن لم يعد: جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد، وكذا النذر: فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال: «إنه لا يأتي بخير (¬3) » ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (¬4) » . ¬

_ (¬1) هكذا في النسخة المطبوعة من [القواعد النورانية] (الناشر) . (¬2) صحيح مسلم مقدمة (7) ، مسند أحمد بن حنبل (2/321) . (¬3) صحيح مسلم النذر (1639) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3801) ، مسند أحمد بن حنبل (2/86) . (¬4) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3807) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .

فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم، نعم لا يكون سببا لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي بفعله لما نهى عنه الاستباحة؛ لأن المنهي عنه معصية، والأصل في المعاصي: أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ولفتح أبواب الدنيا، لكن ذلك قدر ليس بشرع، بل قد يكون سببا لعقوبة الله والإيجاب، والتحريم قد يكون عقوبة، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (¬1) وإن كان قد يكون رحمة أيضا، كما جاءت شريعتنا الحنيفية. والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص: فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم. وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها- وإن كان لم يحرمها- باطلة، فنقول: قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما، وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها، وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة، فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة، وذلك لأن ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 160

قوله: ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه، إنما ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله؛ لأن قولنا: (هذا في كتاب الله) يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم، وعلى هذا معنى قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (¬2) وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬3) على قول من جعل الكتاب هو القرآن، وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ: فلا يجيء هاهنا. يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع: صحيح بالاتفاق، فيجب أن يكون في كتاب الله، وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه، لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين، فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار؛ لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار. يبقى أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم، فيقال: العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفه دليل خاص، فإن الخاص يفسر العام، وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله: «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬4) » . ودل الكتاب ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 89 (¬2) سورة يونس الآية 37 (¬3) سورة الأنعام الآية 38 (¬4) سنن الترمذي الوصايا (2121) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2712) ، مسند أحمد بن حنبل (4/238) ، سنن الدارمي السير (2529) .

على ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (¬1) {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬2) فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه، وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه، كما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا (¬3) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس (¬4) » . فجعل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سبب الولاء في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (¬5) فبين أن سبب الولاء: هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد، فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالإيلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالإعتاق؛ لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره. وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إنما الولاء لمن أعتق (¬6) » . وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه: لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها؛ لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلا المعنى ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 4 (¬2) سورة الأحزاب الآية 5 (¬3) صحيح البخاري الصلح (2700) . (¬4) صحيح البخاري العتق (2545) ، صحيح مسلم الأيمان (1661) ، سنن الترمذي البر والصلة (1945) ، سنن أبو داود الأدب (5157) ، سنن ابن ماجه الأدب (3690) ، مسند أحمد بن حنبل (5/161) . (¬5) سورة الأحزاب الآية 37 (¬6) صحيح البخاري البيوع (2156) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) .

الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، والتقدير: من اشترط شيئا لم يبحه الله، فيكون المشروط قد حرمه؛ لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله: «كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق (¬1) » . فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا؟ أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مفسر لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك. وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة؛ فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج أو من المستبقى؟ وهذا أيضا لا خلاف فيه، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة فيه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له؟ فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وذكروا عن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .

أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه: على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة- كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم- أو جعل المعارض باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي. فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها: مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه- التي هي الأدلة العامة- أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة. نعم، من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة، فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة.

فمن ذلك: ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق: أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصلح فيه القربة- كالبيع- فلا بد أن يكون المستثنى معلوما؛ لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي «عن جابر قال: (بعته- يعني بعيره- من النبي صلى الله عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي) (¬1) » وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف. ومن ذلك: أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد: صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه. ثم وهل يصير العتق واجبا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع؛ على وجهين في مذهبهما، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا. قالوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3505) .

يلحق به غيره، فلا يجوز اشتراط غيره. وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره، قال ابن القاسم: قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه، فقيل له: فإن هؤلاء- يعني: أصحاب أبي حنيفة - يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط، قال: لم لا يجوز؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال: وإنما هذا شرط واحد، والنهي إنما هو عن شرطين، قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز؟ قال: لا يجوز. فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر بعير لجابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق. فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره. وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حر بعد موتي؟ قال: هذا مدبر. فجوز اشتراط

التدبير كالعتق، ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف، صحح الرافعي أنه لا يصح. وكذلك جوز اشتراط التسري، فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به، فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه. وكذلك جوز أن يشترط باع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول، كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب. وجماع ذلك: أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (¬1) » فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن (الثنيا إلا أن تعلم) فدل على جوازها إذا علمت، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة. وقد أجمع المسلمون- فيما أعلمه- على جواز استثناء الجزء الشائع، مثل: أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر، مثل: أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب أو العبيد أو الماشية- التي قد رأياها- إلا شيئا منها قد عيناه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشروط (2716) ، صحيح مسلم البيوع (1543) ، سنن الترمذي البيوع (1244) ، سنن النسائي البيوع (4636) ، سنن أبو داود البيوع (3433) ، سنن ابن ماجه التجارات (2211) ، مسند أحمد بن حنبل (2/82) ، موطأ مالك البيوع (1302) .

واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا، أو استخدام العبد شهرا، أو ركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد يقع، كما إذا اشترى أمة مزوجة، فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة، لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها، فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما- وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1) قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج، واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة. فلم يرض أحمد هذه الحجة؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه، وذلك- والله أعلم- لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا. ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها- ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك- لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع. ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 24

الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبية، فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم، وكذلك ما ملكوه من الأبضاع. وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره- كالنخل المؤبر- فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح، وكذلك بيع العين المؤجرة- كالدار والعبد- عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر. ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد، كما في صور الوفاق، وكاستثناء بعض أجزائه معينا ومشاعا، وكذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع، وكذلك الإجارة، فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة أو أجيرا لخياطة أو بناء ونحو ذلك: فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير، ولو آلى منها ثبت لها

فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد، فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار، وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر اعتبارا بالإيلاء، ويجب أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره. والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (¬2) » ، وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد، وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار، والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك، وقد تقدم ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 228 (¬2) صحيح البخاري النفقات (5364) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/206) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .

التنبيه على هذا الأصل. وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص، وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك، وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك. ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة؛ كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته في أصح الروايتين عند أحمد أو أصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك، والرواية الأخرى: لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين، وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة، بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له. وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل: أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء، فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك، فإن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح،

وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق. كذلك يجوز أكثر السلف- أو كثير منهم- وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين- أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه (¬1) فلا يتزوج عليها ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر. والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع، فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت- فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك، فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود، ومثله: التبرع المفروض والتطوع. وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع- فضعيف، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه، فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد، «فإن ميمونة زوج النبي ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع

صلى الله عليه وسلم، أعتقت جارية لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك (¬1) » ؛ ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كان الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق، وما أعلم في هذا خلافا، وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم، فإن فيه عن أحمد روايتين: إحداهما: تجب، كقول طائفة من السلف والخلف. والثانية: لا تجب، كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم، ولو وصى لغيرهم دونهم: فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له، أو يعطي ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له؛ على روايتين عن أحمد، وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية، فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة. وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أوكفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك، فهذا أوكد من اشتراط العتق. وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية، وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرار، ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2592) ، صحيح مسلم الزكاة (999) ، سنن أبو داود الزكاة (1690) ، مسند أحمد بن حنبل (6/332) .

وبالتكميل أخرى. وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا، كما يثبت ذلك حسا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا، كما أن القدرة تتنوع أنواعا، فالملك التام يملك فيه التصرف في القربة بالبيع والهبة، ويورث عنه، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين، ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم، وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ويملك المرهون، ويجب عليه مؤونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور. والعبد المنذور عتقه والهدي والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق، فمن قال: لم يزل ملكه عنه- كما قد يقوله أكثر أصحابنا- فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم، ومن قال: زال ملكه عنه فإنه

يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به، وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع. وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكا لله، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقيا على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده. ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز، وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين، فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة. وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الابن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا.

فإذا كان الملك يتنوع أنواعا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته، وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه، والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض، فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى ما نقل من [القواعد النورانية] لابن تيمية (الناشر) .

مسألة كل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضى الآخر

وقال ابن حزم: مسألة: وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضى الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان أو بالتخيير أو في أحد الوقتين- يعني: قبل العقد أو بعده- ولم يذكراه في حين عقد البيع؛ فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم (¬1) ، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع (¬2) فالبيع باطل مفسوخ، والشرط باطل، أي شرط كان لا تحاش شيئا إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن اشترطت في البيع، وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكرا أجلا، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة، وبيع العبد أو الأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينا أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه، سواء كان مالهما ¬

_ (¬1) في النسخة رقم 16 (فلم يلزم) . (¬2) في النسخة رقم 16 في حال العقد.

مجهولا كله، أو معلوما كله، أو معلوما بعضه مجهولا بعضه، أو بيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها، فهذه ولا مزيد وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة، قلت أو كثرت، أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو دارا واشترط سكناها ساعة فما فوقها، أو غير ذلك من الشروط كلها. برهان ذلك: ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج، نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، نا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - نا هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا قالت فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه [بما هو أهله] (¬1) ثم قال: «أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (¬2) » ، وذكر باقي الخبر، ومن طريق أبي داود، حدثنا القعنبي وقتيبة بن سعيد قالا جميعا: نا الليث - هو: ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: إن عائشة أم المؤمنين أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق (¬3) » ¬

_ (¬1) الزيادة من [صحيح مسلم] (1 \ 440) . (¬2) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) . (¬3) الحديث في [سنن أبي داود] مطولا اختصره المؤلف.

فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الإشكال كله، فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا كان عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلا ولا بد؛ لأنه عقد على أنه لا يصح (¬1) إلا بصحة الشرط، والشرط لا صحة له فلا صحة لما عقد بأن لا صحة له إلا بصحة ما لا يصح. قال أبو محمد: وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرناها فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه (¬2) فهو في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬3) وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (¬4) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬5) وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬6) فأما (¬7) اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬8) وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقول الله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬9) وأما اشتراط أن لا خلابة فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل (¬10) ، وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة أومن أن لا خديعة ومن صناعة العبد أو الأمة أو سائر صفات المبيع- فلقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬11) فنص تعالى على التراضي منهما والتراضي لا يكون إلا على ¬

_ (¬1) في النسخة رقم 14 (لأنه عقد ما لا يصح) . (¬2) سقط لفظ (عليه) من النسخة رقم 14. (¬3) سورة النحل الآية 44 (¬4) سورة النجم الآية 3 (¬5) سورة النجم الآية 4 (¬6) سورة النساء الآية 80 (¬7) في النسخة رقم 14 (وأما) . (¬8) سورة البقرة الآية 283 (¬9) سورة البقرة الآية 282 (¬10) ذكر في (8 \ 376) من [المحلى] (الطبعة المنيرية) . (¬11) سورة النساء الآية 29

صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة، وأما اشتراط الثمن إلى الميسرة، فلقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1) وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي قدمت عليه ثياب ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة» وذكر باقي الخبر، وأما مال العبد أو الأمة واشتراطه واشتراط ثمر النخل المؤبر- فلما روينا من طريق عبد الرزاق، نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع (¬2) » . قال أبو محمد: ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين، وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعا. قال علي: فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬3) وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (¬4) وبما روي: «المسلمون عند شروطهم» قلنا وبالله تعالى التوفيق (¬5) : أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن نجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه فمن عقد على معصية فحرام عليه الوفاء بها فإذ لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 280 (¬2) صحيح البخاري المساقاة (2379) ، صحيح مسلم البيوع (1543) ، سنن الترمذي البيوع (1244) ، سنن النسائي البيوع (4636) ، سنن أبو داود البيوع (3433) ، سنن ابن ماجه التجارات (2211) ، مسند أحمد بن حنبل (2/9) . (¬3) سورة المائدة الآية 1 (¬4) سورة النحل الآية 91 (¬5) الزيادة من النسخة الحلبية.

فهو باطل والباطل محرم فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (¬1) فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه، وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى؛ بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، والباطل لا يحل الوفاء به. وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال، نا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (¬2) » ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون على شروطهم (¬3) » ومن طريق ابن أبي شيبة يحيى بن أبي زائدة عن عبد الملك عن عطاء، بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون عند شروطهم» ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطأة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: (المسلم عند شرطه) ، ومن طريق ابن أبي شيبة، نا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب: (إن مقاطع الحقوق عند الشروط) ومن طريق ابن أبي شيبة، نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: (المسلمون عند شروطهم) . قال أبو محمد: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 91 (¬2) سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) . (¬3) سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .

عمرو (¬1) بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، والآخر عبد الملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف، ومرسل أيضا، والثالث مرسل أيضا، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول، وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا؛ لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها، وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط، أو اشترط مائة مرة، وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل، فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين، ثم إن الحنفيين والمالكيين والشافعيين أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك؛ لأنهم يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطل ليست في كتاب الله عز وجل ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء حق؛ لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنفيون والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد وثمرة النخل المؤبر، ولا يجيزون له ذلك البتة إلا بالشراء على حكم البيوع، والمالكيون والحنفيون والشافعيون لا يجيزون البيع إلى الميسرة، ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع، وكلاهما في كتاب الله عز وجل لأمر ¬

_ (¬1) في النسخة رقم 14 (بن عمر) وهو غلط.

النبي (¬1) صلى الله عليه وسلم بهما وينسون هاهنا (¬2) : «المسلمون عند شروطهم» وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى، بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير. قال أبو محمد: ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد، وإما إيجاب عمل، وإما المنع من عمل، والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط، وكل ذلك حرام بالنص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام (¬3) » وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬4) فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب. حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة، نا محمد بن علي الرازي المطوعي، نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي، نا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي، نا عبد الوارث - هو: ابن سعيد التنوري - قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا واشترط شرطا، فقال: (البيع باطل والشرط باطل) ، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك؟ فقال: (البيع جائز والشرط باطل) ، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك؟ ¬

_ (¬1) في النسخة رقم 16 (أمر النبي) . (¬2) في النسخة رقم 14هنا. (¬3) صحيح البخاري الفتن (7078) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) . (¬4) سورة التحريم الآية 1

فقال: (البيع جائز والشرط جائز) فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع وشرط» ، البيع باطل والشرط باطل) ، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال: (لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء (¬1) » ، البيع جائز والشرط باطل) ، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: (لا أدري ما قالا، نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله (أنه باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة) البيع جائز والشرط (جائز) . وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب، أنا زياد بن أيوب، نا ابن علية، نا أيوب السختياني، نا عمرو بن شعيب، حدثني أبي عن أبيه عن أبيه (¬2) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن (¬3) » ، وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) . (¬2) سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من [سنن النسائي] (7 \ 295) . (¬3) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معا. قال أبو محمد: هذا خطأ من أبي ثور؛ لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه، فإذا خرج من ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده) (¬1) في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه؛ لأنه دعوى بلا برهان. وأما قول أحمد فخطأ أيضا؛ لأن تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين (¬2) في بيع ليس مبيحا لشرط واحد ولا محرما له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر فوجب طلب حكمه في غيره فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (¬3) » فبطل الشرط الواحد وكل ما لم يعقد إلا به، وبالله تعالى التوفيق. وبقي حديث بريرة وجابر في الجمل فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات، نا محمد بن أحمد بن مفرج، نا عبد الله بن جعفر بن الورد، نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف ونا يحيى بن بكير، نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عروة «عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، ¬

_ (¬1) الزيادة من النسخة رقم 16. (¬2) في النسخة رقم 14 (للشرطين) . (¬3) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت، فعرضتها عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألها فأخبرته فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق. ففعلت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية في الناس فحمد الله عز وجل، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق (¬3) » وذكر باقي الخبر. ومن طريق البخاري، نا أبو نعيم، نا عبد الواحد بن أيمن، نا أبي قال: «دخلت على عائشة [رضي الله عنها] فقالت: دخلت بريرة - وهي مكاتبة- وقالت: اشتريني وأعتقيني، قالت: نعم، قالت: لا تبيعوني حتى يشترطوا ولائي، فقالت عائشة: لا حاجة لي بذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتريها وأعتقيها، ودعيهم يشترطون ما شاءوا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن أعتق وإن كان مائة شرط (¬5) » . قال أبو محمد: فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ، وهو إن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئا، وكان البيع على هذا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) . (¬2) في النسخ كلها (أن أحبوا أهلك) . (¬1) (¬3) في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء. (¬2) (¬4) صحيح البخاري كتاب العتق (2565) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) . (¬5) الزيادة من [صحيح البخاري] كتاب [المكاتب] باب (5) (3 \ 304) والحديث فيه مطول اختصره المصنف. (¬4)

الشرط جائزا حسنا مباحا وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطا في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلا، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1) وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (¬2) برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحدا ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا: ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلا (¬3) ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوما ما أو إن أعتقها، إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذبا إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وبينه، فإذ لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقة أو بشرط الهبة أو بشرط التدبير وكل ذلك لا يجوز. وأما حديث جابر فإننا رويناه من طريق [البخاري] نا أبو نعيم، نا زكريا سمعت عامرا الشعبي يقول: «حدثني جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له فسار سيرا ليس يسير مثله ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 36 (¬2) سورة الأحزاب الآية 6 (¬3) في النسخة رقم 14 عتقا أصلا (¬4) صحيح البخاري الشروط (2718) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) .

ثم قال: بعنيه بأوقية قلت: لا، ثم قال: بعنيه بأوقية فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرف فأرسل على أثري فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك (¬1) » . ومن طريق [مسلم] نا ابن نمير، نا أبي نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي، حدثني جابر بن عبد الله، فذكر هذا الخبر وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «بعنيه فبعته بأوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك (¬3) » . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل الجمل، بعنيه، قلت: يا رسول الله بل هو لك قال: لا بل بعنيه، قلت: بل هو لك، قال: [لا، بل] بعنيه، قد أخذته بأوقية، اركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به فلما قدمت المدينة جئته به فقال لبلال: [يا بلال] زن له أوقية وزده قيراطا (¬7) » هكذا رويناه من طريق عطاء عن جابر. قال أبو محمد: روي هذا أن ركوب جابر الجمل كان تطوعا من رسول ¬

_ (¬1) في [صحيح البخاري] (4 \ 30) فسار يسير. (¬4) (¬2) صحيح مسلم المساقاة (715) ، مسند أحمد بن حنبل (3/376) . (¬3) في النسخة رقم 16 (ثم إني رجعت) وما هنا موافق لما في {صحيح مسلم] (1 \ 470) . (¬2) (¬4) صحيح مسلم الرضاع (715) ، سنن النسائي البيوع (4639) . (¬5) في [سنن النسائي] (7 \ 299) قلت: بل هو لك يا رسول الله. (¬4) (¬6) الزيادة من [سنن النسائي] . (¬5) (¬7) الزيادة من [سنن النسائي] (¬6)

الله صلى الله عليه وسلم واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير فروي عنهما عن جابر أنه كان شرطا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم له أنه كان شرطا. ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أخذته بأوقية (¬1) » ، وصح عنه عليه السلام أنه قال: «أتراني ماكستك لآخذ جملك، ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك (¬2) » كما أوردنا آنفا، فصح يقينا أنهما أخذان: أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لم يفعله؛ بل انتفى عنه، ومن جعل كل ذلك أخذا واحدا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه. وهذا كفر محض، فإذا لا بد من أنهما أخذان؛ لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلا شك غير الأخذ الذي انتفى عنه البتة، فلا سبيل (¬3) إلى غير ما يحمل عليه ظاهر الخبر، وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك (¬4) أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام؛ لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط، فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط. وهذا هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلا أن البيع تم بذلك ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (3/314) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (715) . (¬3) في النسخة رقم 16 (إذ لا سبيل) . (¬4) في النسخة رقم 14 (وترك) .

الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا، وبالله تعالى التوفيق. فأما الحنفيون والشافعيون: فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه، هذا فرض عليهم، وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي ما لا يدري لعله يأتي حراما (¬1) أو يمنع حلالا. وهذا ضلال مبين، فإن حدوا في ذلك مقدارا ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين، فلاح فساد هذا القول بيقين لا شك فيه، ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك. (فإن قالوا) : إن في بعض ألفاظ الخبر أن ذلك كان حين دنوا من المدينة، قلنا: الدنو يختلف، ولا يكون إلا بالإضافة، فمن أتى من تبوك فكان من المدينة على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل وأقل أو أكثر، فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضا فإن ¬

_ (¬1) في النسخة رقم 14 (يأتي محرما)

هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد، وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطا (¬1) ، وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضا فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة فإذا لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق (¬2) ، ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب، وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل، وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر الدواب فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة فقستم على تلك المسافة سائر المسافات، فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا. وبالله تعالى التوفيق. وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك: ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا لو أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر (¬3) أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا بأرض ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعله (لا شرطا) . (¬2) في النسخة رقم 16 (سائر الطريق) . (¬3) في النسخة 14 (حتى نعلم) .

أخرى بأربعين ألفا أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة، ثم أجاز قليلا ثم رجع فقال: (أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة) ، قال: (نعم) ، فوجدها رسول عبد الرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري: فإن لم يشترط؟ قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم، ولم ينكر ذلك سعيد وصوبه الزهري، فخالف الحنفيون والمالكيون والشافعيون كل هذا، وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل، وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم. ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود قال: إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها (¬1) حياته وقال: (إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها) . ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور، فخالفوه، ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحارث دارا بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على إن رضي عمر فالبيع تام فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة، فخالفوهم كلهم. ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع ¬

_ (¬1) في النسخة 16 (سكناه) .

عن ابن عمر أنه اشترى بعيرا بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة، وليس فيه وقت ذكر الإيفاء فخالفوه. ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار بن ياسر مغنما فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره، فتبايع الناس إلى قدوم الراكب، وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق. وحكم علي بشرط الخلاص. وللحنفيين والمالكيين والشافعيين تناقض عظيم فيما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها قد ذكرنا بعضه ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى بذكره؛ لأن الأمر أكثر من ذلك. وبالله تعالى التوفيق. اهـ (¬1) ¬

_ (¬1) [المحلى] (8 \ 412- 420) المطبعة المنيرية.

ضوابط الشروط المقترنة بالعقد

ضوابط الشروط المقترنة بالعقد هذا وقد نقل الدكتور عبد الرزاق السنهوري عن فقهاء الإسلام ضوابط للشروط المقترنة بالعقد صحيحها وفاسدها، وذكر عنهم كثيرا من المسائل، وأمثلة للقسمين، وقارن بين ما نقله عنهم فاستحسنت اللجنة نقله مع حذف ما يغني عنه غيره مما ذكره. قال الدكتور عبد الرزاق ما نصه (¬1) : ¬

_ (¬1) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] (3 \ 117 - 153، 167- 194) .

1 - الشرط الصحيح متى يكون الشرط صحيحا؟ يتبين مما قدمناه أن الشرط المقترن بالعقد يكون صحيحا، فيصح معه العقد، إذا كان: (أ) شرطا يقتضيه العقد. (ب) أو شرطا يلائم العقد. (ج) أو شرطا جرى به التعامل بين الناس. (أ) الشرط الذي يقتضيه العقد: النصوص في [البدائع] (¬1) : (وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده، كما إذا اشترط أن يتملك المبيع، أو باع بشرط أن يتملك الثمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن، أو اشترى على أن يسلم المبيع، أو اشترى جارية على أن تخدمه، أو دابة على أن يركبها، أو ثوبا على أن يلبسه، أو حنطة في سنبلها وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك فالبيع جائز؛ لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشرط تقريرا لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد) اهـ. وجاء في [الخرشي] (¬2) : (وبقي شرط يقتضيه العقد، وهو واضح ¬

_ (¬1) [البدائع] (5\171) . (¬2) [الخرشي] (5 \ 8) .

الصحة، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب ورد العوض عند انتقاض البيع، وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد) اهـ. وجاء في [المهذب] (¬1) : (إذا شرط في البيع شرطا نظرت، فإن كان شرطا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما، لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله) اهـ. وجاء في [المغني] (¬2) : (والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام (أحدها) : ما هو من مقتضى العقد، كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال، فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكما ولا يؤثر في العقد) اهـ. صحة الشرط الذي يقتضيه العقد أمر بديهي: ويتبين من النصوص المتقدمة الذكر أن الشرط الذي يقتضيه العقد لا خلاف في صحته، بل إن صحته أمر بديهي، إذ هو محض تقرير لمقتضى العقد، ومقتضى العقد لازم دون شرط، فشرطه تأكيد وبيان. ¬

_ (¬1) [المهذب] (5\268) . (¬2) [المغني] (5\285) .

الشرط الذي يلائم العقد

(ب) الشرط الذي يلائم العقد: النصوص: جاء في [البدائع] (¬1) : (وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (5\171) .

المعنى مؤكد إياه على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا أو كفيلا، والرهن معلوم والكفيل حاضر فقبل. وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن: أن الرهن لا يخلو؛ إما أن يكون معلوما أو مجهولا، فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدا، إلا أنا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن، وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن، وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا، ولو قبل المشتري المبيع على هذا الشرط ثم امتنع من تسليم الرهن لا يجبر على التسليم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر: يجبر عليه. وجه قوله: أن الرهن إذا شرط في البيع فقد صار حقا من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق البييع فيجبر عليه. ولنا أن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعا، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، ولكن يقال له: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تؤدي الثمن أو يفسخ البائع البيع؛ لأن البائع لم يرض بزوال البيع عن ملكه إلا بوثيقة الرهن أو بقيمته لأن قيمته تقوم مقامه؛ ولأن الدين يستوفى من مالية الرهن وهي قيمته، وإذا أدى الثمن فقد حصل المقصود فلا معنى للفسخ، ولو امتنع المشتري من هذه

الوجوه فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشرط والغرض، وإن الرهن مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن جواز هذا الشرط- مع أن القياس يأباه لكونه ملائما للعقد- مقررا لمقتضاه معنى، لحصول معنى التوثيق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول، ولو اتفقا على تعيين رهن في المجلس جاز البيع؛ لأن المانع هو جهالة الرهن وقد زال، فكأنه كان معلوما معينا من الابتداء؛ لأن المجلس له حكم حالة واحدة، وإن افترقا عن المجلس تقرر الفساد، وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن ولكن المشتري نقد الثمن جاز البيع أيضا؛ لأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الثمن وقد حصل فيسقط اعتبار الوثيقة، وكذلك البيع بشرط إعطاء الكفيل؛ لأن الكفيل إن كان حاضرا في المجلس وقبل جاز البيع استحسانا، وإن كان غائبا فالبيع فاسد، وكذا إذا كان حاضرا ولم يقبل؛ لأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن، لما فيه من تقرير موجب العقد ما بينا، فإذا كان الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس، وكذا إذا كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن كفالة المجهول لا تصح، ولو كان الكفيل معينا وهو غائب ثم حضر وقبل الكفالة في المجلس- جاز البيع؛ لأنه جازت الكفالة بالقبول في المجلس، وإذا حضر بعد الافتراق تأكد الفساد، ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد

وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد، بخلاف الكفالة والرهن. اهـ. وجاء في الحطاب (¬1) : قال في البيوع الفاسدة: (منها: وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز، وعليه الثقة ورهن وحميل، وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض، وكذلك إن تكلفت به على أن يعطيك عبده رهنا فإن امتنع من دفعه إليك أجبر. اهـ. قال اللخمي في كتاب [الرهن] : البيع على غير رهن معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة ... اهـ، وقال ابن الحاجب في باب الرهن: ويجبر البائع وشبهه في غير معين في التوضيح، تعني من باع سلعة بثمن مؤجل على شرط أن يأخذ منه رهنا به، فإن كان الرهن المشترط غير معين وأبى المشتري من دفعه خير البائع وشبهه من وارث وموهوب له في فسخ البيع وإمضائه، وهكذا قال ابن الجلاب مقتصرا عليه، والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين (ابن عبد السلام) وهو المذهب) اهـ. ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل] (4\ 375، 376) .

وجاء في [شرح المنهاج] للرملي (¬1) : والرهن للحاجة إليه لا سيما في معاملة من لا يعرف حاله، وشرطه العلم به، إما بالمشاهدة أو الوصف بصفات السلم، ثم الكلام هنا في وصف لم يرد على عين معينة، فهو مساو لما مر من أن الوصف لا يجزئ عن الرؤية؛ لأنه في معين لا موصوف في الذمة خلافا لمن وهم فيه، وأن يكون غير البيع، فلو شرط برهنه إياه ولو بعد قبضه فسد؛ لأنه لا يملكه إلا بعد البيع، فهو بمنزلة استثناء منفعة في البيع، فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح والكفيل للحاجة إليه أيضا، وشرطه العلم به بالمشاهدة.. أو باسمه ونسبه ولا يكفي وصفه بموسر ثقة، إذ الأحرار لا يمكن التزامهم في الذمة لانتفاء القدرة عليهم، بخلاف المرهون فإنه يثبت في الذمة، فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتى برهن غير المعين ولو أعلى قيمة منه، أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة فللبائع الخيار، ولا يجبر من شرط عليه ذلك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره. اهـ. وجاء في [الشرح الكبير للمقنع] (¬2) : (الثاني شرط من مصلحة العقد، كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين، أو الشهادة، أو صفة في المبيع مقصودة نحو كون العبد كاتبا أو خطيبا أو صانعا أو مسلما أو الأمة بكرا أو الدابة هملاجة أو الفهد صيودا، فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به، ¬

_ (¬1) [شرح المنهاج] (3\436- 438) . (¬2) [الشرح الكبير] (4\48) .

فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن) اهـ.

ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد

ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد: الأمثلة التي وردت في النصوص المتقدمة عن الشرط الذي يلائم العقد هي: 1 - شرط أخذ الرهن بالثمن. 2 - شرط أخذ الكفيل بالثمن. 3 - شرط الحوالة بالثمن. وكلها شروط تلائم العقد، فهي وإن كان العقد لا يقتضيها إلا أنها لا تتعارض معه ولا تتنافى مع أحكامه، بل هي من مصلحة العقد وتتعلق بها مصلحة العاقدين. والمذهب الحنفي: يقتصر كما رأينا على القول بأن الشرط يلائم العقد، أما المذاهب الأخرى فالتعبير فيها أقل تحفظا، تقول المالكية: الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وهو من مصلحته. وتقول أيضا: لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحة ولا معارض له من جهة الشرع. وتقول الشافعية: شرط لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة وتدعو الحاجة إليه. وتقول الحنابلة: شرط من مصلحة العقد وتتعلق به مصلحة العاقدين. على أن هذه المذاهب تختلف عندما تقرر ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد، فأضيقها في ذلك هو: المذهب الحنفي، وأوسعها هو:

المذهب المالكي. ففي المذهب الحنفي: إذا كان الرهن الذي يتوثق الثمن به مجهولا، أو كان الكفيل مجهولا أو كان غير حاضر في المجلس أو كان حاضرا ولم يقبل الكفالة: فإن الشرط يكون فاسدا ويفسد معه البيع، أما في الرهن فلأن جواز هذا الشرط- مع أن القياس يأباه لكونه ملائما للعقد- مقررا لمقتضاه معنى لحصول معنى التوثيق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول، وأما في الكفيل فلأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن لما فيه من تقرير موجب العقد. فإذا كان الكفيل غائبا أو حاضرا ولم يقبل لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثق، فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس، وكذا إن كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد لأن كفالة المجهول لا تصح، فلا بد إذن لصحة الشرط الملائم للعقد أن يكون تاما نافذ الأثر وقت العقد، فيقبل الكفالة بالثمن، وسلم المشتري الرهن للبائع، وذلك كله قبل انفضاض مجلس العقد، على أنه يجوز أن يكون الرهن- لا الكفيل- غائبا عن المجلس ما دام معلوما إذا كان عينا معينة، أو ما دام يمكن ضبطه بالوصف إذا كان شيئا غير معين إلا بالنوع، ففي هذه الحالة يصح شرط الرهن ويصح معه العقد، ويجب على المشتري تسليم الرهن أو قيمته إلى البائع بعد العقد، وإلا كان البائع بالخيار، إذا لم ينقد الثمن بين فسخ العقد أو إبقائه، ولكن لا يجبر المشتري على تسليم الرهن خلافا لقول زفر إذ يذهب إلى أن الرهن إذا شرط في العقد فقد صار حقا من حقوقه ويجبر المشتري على تنفيذه،

والفرق بين الكفالة والرهن في هذا الصدد إذ يشترط حضور الكفيل وقبول الكفالة ولا يشترط حضور الرهن على ما بينا. ويوضحه صاحب [فتح القدير] إذ يقول: الآن وجوب الثمن في ذمة الكفيل يضاف إلى البيع فيصير الكفيل كالمشتري، فلا بد من حضور العقد بخلاف الرهن لا تشترط حضرته، لكن ما لم يسلم للبائع لا يثبت فيه حكم الرهن وإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام، فإن سلم معنى العقد على ما عقدا، وإن امتنع عن تسليمه لا يجبر عندنا، بل يؤمر بدفع الثمن، فإن لم يدفع الرهن ولا الثمن خير البائع في الفسخ) . والظاهر من النصوص: أن الشافعية والحنابلة كالحنفية في وجوب تعيين المرهون وتعيين الكفيل بالذات، فلا يكفي وصف الكفيل بموسر ثقة، ولكن يبدو أن الشافعية والحنابلة لا يتشددون تشدد الحنفية في وجوب أن يكون الكفيل حاضرا في مجلس العقد، وأن يقبل الكفالة قبل انفضاض المجلس، فيكفي أن يكون كل من الرهن والكفيل معينا معلوما على الوجه الذي قدمناه، فإن لم يسلم المشتري الرهن للبائع قبل العقد أو لم يقبل الكفيل الكفالة أو مات قبل القبول خير البائع إذا لم ينقده المشتري الثمن. ويقول الرملي في هذا الصدد: فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتى برهن غير معين ولو أعلى قيمة منه أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله، وإن أقام المشتري ضامنا غيره ثقة: فللبائع الخيار ... ولا يجبر من شرط عليه ذاك على القيام بالمشروط؛ لزوال الضرر بالفسخ،

ويتخير أيضا فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره. أما المذهب المالكي: فهو كما قدمنا أوسع المذاهب في هذه المسألة، فعنده يصح الشرط حتى لو لم يكن الرهن أو الكفيل معينا، ويقول الحطاب: (وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز) ، ليس هذا فحسب، بل أيضا إذا عين الرهن بعد العقد وامتنع المشتري عن تسليمه أجبر على ذلك، ولا يقتصر الأمر على إعطاء البائع حق الفسخ إذا لم ينقد الثمن، وإذا لم يعين الرهن أجبر المشتري على أن يعطي الصنف المعتاد: ثيابا أو حليا أو دارا أو نحو ذلك، ولا يجبر البائع على قبول ما في حفظه مشقة وكلفة كالعبيد والدواب. ويقول الحطاب أيضا في ذلك: (وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض.. والبيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد، والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي وما لا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة العبيد والدواب، وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقا في تلفه؛ لأن في حفظه مشقة وكلفة ... والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين ... وهو المذهب) . ونرى من ذلك أن المذهب الحنفي لا يكتفي في صحة الشرط بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل، بل يجب أن يكون عقد الرهن أو عقد الكفالة قد انعقد مع انعقاد البيع، وتكتفي الشافعية والحنابلة بمجرد التزام

المشتري بتقديم رهن أو كفيل على أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد، أما المالكية فيكتفون هم أيضا بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل.. ويزيدون على ذلك أنهم لا يشترطون أن يكون الرهن أو الكفيل معينا وقت العقد، ثم إنهم في الرهن يجبرون المشتري على تسليمه إذا كان معينا، أو على تسليم الصنف المعتاد إذا كان غير معين. بقي شرط الحوالة، ونلاحظ أن كتب الحنفية قد تضاربت في صحة هذا الشرط، فقد جاء في [البدائع]- كما رأينا-: (ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع فالبيع فاسد، لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد بخلاف الكفالة والرهن) ، والفرض أن يرد الشرط في عقد البيع قاضيا بحوالة الثمن الذي في ذمه المشتري حوالة دين إلى ذمة شخص آخر قد يكون مدينا للمشتري (غريما من غرمائه) ، فيصبح هذا المدين وقد تحمل الدين بالثمن نحو البائع وتبرأ ذمة المشتري من الثمن، هذا الشرط لا يقتضيه العقد، ثم هو يلائم العقد؛ لأن الحوالة إبراء لذمة المشتري من الثمن كما يقول صاحب [البدائع] ، ولكن إذا كانت الحوالة إبراء عن الثمن وإسقاطا له من وجه فهي من وجه آخر تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له، فإن الإبراء لا يكون إلا عن شيء واجب، هذا إلى أن الحوالة ليست إبراء فحسب، إذ هي إبراء لذمة المحيل- إبراء غير كامل- وشل لذمة المحال عليه، وفي هذا أيضا تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له.

ولا يختلف الأمر إذا ضمن المشتري الثمن لغريم من غرماء البائع أي لدائن من دائنيه ولو كان ذلك عن طريق حوالة الدين الذي في ذمة البائع لدائنه إلى ذمة المشتري، فإن المشتري بقبوله هذه الحوالة إنما تؤكد وجوب الثمن في ذمته وبدلا من أن يدفعه للبائع يكون واجبا عليه أن يدفعه لدائن البائع، فالشرط كما نرى ملائم لمقتضى عقد البيع كل الملاءمة، ويعدل في ذلك شرط الرهن وشرط الكفالة. من أجل ذلك نرجح الأخذ بما جاء في [فتح القدير] من أن (شرط الحوالة كالكفالة) وبما جاء في [المبسوط] من أن (شرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة) ؛ لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري، فإن الحوالة تحويل ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري، بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداء على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي موجب العقد فكان مفسدا للعقد) .

الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناء على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى

الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناء على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلا في المذاهب الأخرى لم تجز الحنفية الشرط الذي يلائم العقد إلا استثناء على سبيل الاستحسان، ملحقين إياه في المعنى بالشرط الذي يقتضيه العقد، وإلا فإن الشرط ولو لاءم العقد ما دام العقد لا يقتضيه لا يجوز على مقتضى القياس عند الحنفية، فإن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد، فيكون عقدا في عقد وهذا لا يجوز.

وإنما صح هذا الشرط على سبيل الاستحسان كما قدمنا، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه، فاشتراط الرهن أو الكفالة بالثمن يؤكد وجوب استيفاء الثمن، واستيفاء الثمن ملائم للعقد، ومثل هذا الاشتراط يكون بمثابة اشتراط صفة الجودة في الثمن. جاء في [المبسوط] (¬1) : (وإن شرط أن يرهنه المبتاع هذا بعينه: ففي القياس العقد فاسد، لما بينا (¬2) أنه شرط عقد في عقد، وفي الاستحسان يجوز هذا العقد؛ لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء. وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد، ثم الرهن بالثمن للتوثق بالثمن، فاشتراط ما يتوثق به كاشتراط صفة الجودة في الثمن) اهـ. وقد رأينا صاحب [البدائع] يقول في هذا المعنى: (وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا؛ لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه. فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنا ... فإن كان معلوما فالبيع جائز استحسانا، والقياس ألا يجوز؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى صورة العقد فكان مفسدا، إلا أننا استحسنا الجواز؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة فهو موافق له ¬

_ (¬1) [المبسوط] (13\19) . (¬2) أي: في [المبسوط] .

معنى؛ لأن الرهن بالثمن شرع توثيقا للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقررا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا) اهـ (¬1) . أما في المذهب الشافعي: فالظاهر أن الشرط الذي يلائم العقد يصح أصلا لا استثناء؛ بخلاف المذهب الحنفي فالشرط فيه لا يصح إلا على سبيل الاستثناء كما قدمنا. وأما المذهبان المالكي والحنبلي: فيبدو أنهما يجيزان الشرط الملائم للعقد على اعتبار أن هذا الشرط إذا كان العقد لا يقتضيه فإنه لا ينافي مقتضى العقد وهو من مصلحته، وما لا ينافي مقتضى العقد وإن كان العقد لا يقتضيه فهو جائز ما دامت فيه مصلحة للعقد وللمتعاقدين. ويظهر أن الفرق بين المذهب الحنفي وهذين المذهبين في هذا الصدد أن الحنفية يوجبون لصحة الشرط في الأصل أن يكون العقد يقتضيه، ثم هم يجيزون استثناء- على سبيل الاستحسان لا على سبيل القياس- الشرط الذي يلائم العقد؛ لأنه يشبه في المعنى الشرط الذي يقتضيه العقد فيلحق به، أما المذهبان الآخران فعندهما أنه ليس من الضروري لصحة الشرط أن يكون العقد يقتضيه، بل يكفي أن يكون الشرط لا ينافي مقتضى العقد، فيصح الشرط الذي يقتضيه العقد، كما يصح الشرط الذي يلائم العقد؛ ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (5\171) .

لأنه لا ينافي ما يقتضيه، والصحة في هذا الشرط وفي ذاك إنما ترد على سبيل الأصل لا على سبيل الاستثناء. وقد رأينا الخرشي في المذهب المالكي يقول في هذا المعنى: (ولما أنهى الكلام على الشرط المناقض وترك المؤلف ذكر ما لا يقتضيه العقد لوضوحه أخذ يذكر ما لا يقتضيه ولا ينافيه وهو من مصلحته بقوله مشبها له بالحكم قبله، وهو الصحة كشرط رهن وحميل وأجل، يعني: أن البيع يصح مع اشتراط هذه الأمور، وليس في ذلك فساد ولا كراهية، لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحته، ولا معارض له من جهة الشرع) . ثم رأينا ابن قدامة المقدسي في المذهب الحنبلي يقول في [الشرح الكبير] : (الثاني شرط من مصلحة العقد ... فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به) .

الشرط الذي يجري به التعامل

(ج) الشرط الذي يجري به التعامل: النصوص: جاء في [المبسوط] (¬1) : (وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضا، كما لو اشترى نعلا وشراكا بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجا بينا) . ¬

_ (¬1) [المبسوط] (13\14) .

وجاء في [البدائع] (¬1) : (كذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ويلائم العقد أيضا، لكن للناس فيه تعامل- فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلا على أن يحذوه البائع أو جرابا على أن يخرزه له خفا أو ينعل خفه، والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله. وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك، ولنا: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع) . ولا يزال الشرط الذي يجري به التعامل إنما تثبت له الصحة في المذهب الحنفي على سبيل الاستحسان، أما في القياس فهو لا يجوز؛ لأن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقدا في عقد. وقد رأينا صاحب [البدائع] يقول: (والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله، وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا ونحو ذلك. ولنا: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس، كما سقط في الاستصناع) . ¬

_ (¬1) [بدائم الصنائع] (5\172) .

الشرط الفاسد

الشرط الفاسد المذهب الحنفي والمذاهب الثلاثة الأخرى: ولما كان المذهب الحنفي هو أضيق المذاهب في إباحة الشروط المقترنة بالعقد كما قدمنا، ومن ثم كان الشرط الفاسد في هذا المذهب واسع المدى، لذلك نبدأ ببحث المذهب الحنفي وحده، ثم نعقب بتأصيل هذا المذهب وتطور الفقه الإسلامي في المذاهب الثلاثة الأخرى وفي المذهب الحنفي نفسه، فهناك اتصال وثيق بين هاتين المسألتين. أولا: المذهب الحنفي: التمييز بين حالتين: يجب التمييز في المذهب الحنفي بين حالتين: (أ) حالة فيها الشرط الفاسد يفسد العقد. (ب) وحالة فيها الشرط الفاسد يلغو دون أن يفسد العقد، فيسقط الشرط ويبقى العقد. (أ) شرط فاسد يفسد العقد: النصوص: جاء في المبسوط (¬1) : (وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ¬

_ (¬1) [المبسوط] (13\15- 18) .

ظاهر، قال: (فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد) ؛ لأن الشرط باطل في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه، فتتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط، فلهذا فسد به البيع، وكذلك إن كان فيه منفعة للمعقود عليه، وذلك نحو ما بينا أنه إذا اشترى عبدا على أنه لا يبيعه، فإن العبد يعجبه ألا تتناوله الأيدي، وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلا، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين.. قال: (وإذا اشترى عبدا على أنه يعتقه فالبيع فاسد) ، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن البيع جائز بهذا الشرط، وهو قول الشافعي، لحديث بريرة رضي الله عنها فإنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها في المكاتبة، قالت: إن شئت عددتها لأهلك وأعتقك، فرضيت بذلك، فاشترتها وأعتقتها، وإنما اشترتها بشرط العتق، وقد أجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.. ولأن العتق في المبيع قبض.. والقبض من أحكام العقد، فاشتراطه في العقد يلائم العقد ولا يفسده، وحجتنا في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به العقد كما لو شرط ألا يبيع، يوضحه أنه لو شرط في الجارية أن يستولدها أو في العبد أن يدبره كان العقد فاسدا، فإذا كان اشتراط حق العتق لها يفسد البيع فاشتراط حقيقة العتق أولى، ودعواه أن هذا الشرط يلائم العقد لا معنى له فإن البيع موجب للملك والعتق مبطل له فكيف يكون بينهما ملاءمة، ثم هذا الشرط يمنع استدامة الملك فيكون ضد ما هو المقصود بالعقد، وبيع العبد لسمة لا يكون بشرط العتق، بل يكون ذلك وعدا من المشتري ثم البيع بعقد مطلقا، وهو تأويل حديث عائشة رضي الله عنها

فإنها اشترت بريرة رضي الله عنها مطلقا ووعدت لها أن تعتقها لترضى هي بذلك فإن بيع المكاتبة لا يجوز بغير رضاها.. وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضا أو يهب له هبة أو يتصدق عليه صدقة أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن فالبيع في جميع ذلك فاسد؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة.. وإن اشترى شيئا وشرط على البائع أن يحمله إلى منزله أو يطحن الحنطة أو يخيط الثوب فهو فاسد، لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إذا كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، وكذلك لو اشترى دارا على أن يسكنها البائع شهرا، فهذه إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، أو هذا شرط أجل في العين والعين لا تقبل الأجل) . وجاء في [البدائع] (¬1) : (ومنها شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع، أو للمشتري، أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، ونحو ما إذا باع دارا على أن يسكنها البائع شهرا ثم يسلمها إليه، أو أرضا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرا، أو ثوبا على أن يلبسه أسبوعا، أو على أن يقرضه المشتري قرضا، أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه بكذا، ونحو ذلك، أو اشترى ثوبا على أن يخيطه البائع قميصا، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن ¬

_ (¬1) [البدائع] (5\69- 173) .

يجذها، أو شيئا له حمل ومؤونة على أن يحمله البائع إلى منزله نحو ذلك: فالبيع في هذا كله فاسد؛ لأنه زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا، والبيع الذي فيه الربا فاسد أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا، وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يستولدها فالبيع فاسد؛ لأنه شرط فيه منفعة للمبيع وأنه مفسد، وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه جائز، وبه أخذ الشافعي رحمه الله.. وكذا لو باع عبدا أو جارية بشرط ألا يبيعه وألا يهبه وألا يخرجه من ملكه فالبيع فاسد؛ لأن هذا شرط ينتفع به العبد والجارية بالصيانة عن تداول الأيدي فيكون مفسدا للبيع. ولو اشترى شيئا بشرط أن يوفيه في منزله فهذا لا يخلو: إما أن يكون المشتري والبائع بمنزلهما في المصر، وإما أن يكون أحدهما في المصر والآخر خارج المصر، فإن كان كلاهما في المصر فالبيع بهذا الشرط جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانا، إلا إذا كان في تصحيح الشرط تحقيق الربا، كما إذا تبايعا حنطة بحنطة وشرط أحدهما على صاحبه الإيفاء في منزله، وعند محمد البيع بهذا الشرط فاسد، وهو القياس؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للمشتري فأشبه ما إذا اشترى بشرط الحمل إلى منزله أو بشرط الإيفاء في منزله وأحدهما في المصر والآخر خارج المصر، ولهما أن الناس تعاملوا البيع بهذا الشرط إذا كان المشتري في المصر، فتركنا القياس لتعامل الناس، ولا تعامل فيما إذا لم يكونا في المصر، ولا في

شرط الحمل إلى المنزل فعملنا بالقياس فيه.. وأما بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره وبيع الزرع في الأرض إن اشتري بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا؛ لأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض: وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه. ونستعرض استخلاصا من النصوص المتقدمة مسائل ثلاث: 1 - الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد. 2 - الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور. 3 - العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد.

الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد

1 - الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد: يمكن القول بوجه عام أن الشرط الفاسد الذي يفسد العقد هو الذي فيه منفعة لها صاحب يطالب بها، وهذه المنفعة إما أن تكون للمبيع إذا كان رقيقا أو للبائع أو للمشتري أو لأجنبي غير المتعاقدين. فمثل المنفعة التي تكون للمبيع إذا كان رقيقا: أن يشتري عبدا على ألا يبيعه أو يهبه أو يخرجه من ملكه بحال، أو على أن يبيعه من فلان دون غيره، أو على ألا يخرجه من بلد معين أو على أن يدبره أو يكاتبه، أو على

أن يعتقه على خلاف بين المذاهب، أو يشتري أمة على أن يستولدها، ففي هذه الأمثلة نرى الرقيق المبيع قد صارت له منفعة بعقد البيع يستوفيها من المشتري، فمن مصلحة الرقيق ألا يباع أو يخرج من ملك المشتري حتى لا تتداوله الأيدي أو في القليل ألا يباع إلا إلى شخص بالذات فيتحدد بذلك مجال التعامل فيه، أو أن يبقى في بلد معين له في الاستقرار فيه مصلحة ومن مصلحته أن يدبر أو يكاتب، أو يستولد إذا كان أمة، فهذا هو طريقه إلى العتق، ومن مصلحته بالأولى أن يشترط البائع عتقه. والمنفعة التي تكون للبائع إما أن تكون منفعة تتعلق بالمبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع. فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يبيع عبدا ويشترط على المشتري أن يبقى في خدمته وقتا من الزمن، أو يبيع دارا ويشترط أن يسكنها شهرا، أو يبيع أرضا ويشترط أن يزرعها سنة، أو يبيع دابة ويشترط أن يركبها إلى مكان معين، أو يبيع ثوبا ويشترط أن يلبسه أسبوعا، ونرى في هذه الأمثلة أن البيع يتضمن إجارة أو إعارة، فيتضمن إجارة إن كان للشرط مقابل من الثمن فإن لم يكن له مقابل فالبيع يتضمن إعارة. ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط البائع على المشتري أن يقرضه قرضا، أو أن يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يشتري منه شيئا آخر أو أن يبيع له كما اشترى منه، أو أن يزوج منه ابنته، ونرى في هذه الأمثلة أن عقد البيع قد تضمن عقدا آخر: قرضا أو هبة أو صدقة أو بيعا أو زواجا.

والمنفعة التي تكون للمشتري تكون هي أيضا إما منفعة تتعلق بالبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع. فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يشتري حنطة ويشترط على البائع أن يطحنها أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، أو محصولا ويشترط على البائع أن يحصده، أو يشترط أن يتركه في الأرض حتى ينضج، أو ربطة قائمة على الأرض ويشترط على البائع أن يجذها، أو يشتري ما له حمل ومؤونة ويشترط على البائع أن يحمل المبيع إلى منزله، وفي هذه الأمثلة نرى البيع قد اقترن بعقد آخر هو في أغلبها إجارة عمل البائع، وهو إعارة الأرض أو إجارتها في شرط ترك المحصول في الأرض حتى ينضج. ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط المشتري على البائع أن يقرضه قرضا، أو يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يبيع له شيئا آخر، أو أن يشتري منه كما باع له، أو أن يتزوج ابنته، وهذه هي نفس الأمثلة التي أوردناها في منفعة البائع المستقلة عن المبيع، وإنما جعلناها هنا لمصلحة المشتري لا لمصلحة البائع. وقد تكون المنفعة لأجنبي غير المتعاقدين، كما إذا باع ساحة على أن يبني المشتري فيها مسجدا، أو باع طعاما على أن يتصدق به المشتري، أو باع دارا واشترط على المشتري أن يهبها لفلان أو يبيعها منه بكذا من الثمن، ويلاحظ أن هذه الصورة في الفقه الإسلامي تعدل في الفقه الغربي صورة الاشتراط لمصلحة الغير، ولما كان الشرط فاسدا في هذه الحالة فقد أقفل باب الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الحنفي.

الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور

2 - الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور: وقد رأينا النصوص الفقهية المتقدمة تعلل فساد الشرط والعقد في هذه الصور بعلتين مختلفتين: العلة الأولى: أن الشرط يتضمن منفعة تجوز المطالبة بها، يكون زيادة منفعة مشروطة في عقد البيع وهي زيادة لا يقابلها عوض، فهي ربا أو فيها شبهة الربا، والمبيع الذي فيه الربا أو شبهة الربا فاسد. العلة الثانية: أن الشرط لا يقتضيه العقد حتى يصح قياسا، ولا هو ملائم للعقد أو يجري به التعامل حتى يصح استحسانا، وقد تضمن منفعة تجوز المطالبة بها، فصار في ذاته عقدا آخر- إجارة أو إعارة أو بيعا أو قرضا أو هبة أو غير ذلك- تضمنه عقد البيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة واحدة، وعن صفقتين في صفقة واحدة.. ومهما يكن من شأن صحة بعض هذه الأحاديث فقد أخذ بها المذهب الحنفي، وقد رأينا صاحب [المبسوط] يقول في هذا المعنى: (إن الشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه؛ لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع، وهو مفسد للعقد.. لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة) . ورأينا صاحب [البدائع] يقول: (إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا

يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطا للإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه) . ورأينا صاحب [فتح القدير] يقول: (وكذلك لو باع عبدا على أن يستخدمه البائع شهرا أو دارا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري دراهم فهو فاسد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، وقد ورد في عين بعضها نهي خاص وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، أي: قرض، ثم خص شرطي الاستخدام والسكنى بوجه معنوي، فقال: ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن بأن يعتبر المسمى ثمنا بإزاء المبيع، وبإزاء أجرة الخدمة والسكنى- يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة) .

العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد

3 - العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسدا للعقد: والظاهر من نصوص [فتح القدير] التي قدمناها: أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد إلا إذا كان مبادلة مال بمال، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال (¬1) . وقد ورد في المادة 323 من [مرشد الحيران] : (كل ما كان مبادلة مال بمال كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والمزارعة والمساقاة والقسمة ¬

_ (¬1) أكتفي فيما تقدم عما في [فتح القدير] بما نقل عن [المبسوط] و [البدائع] لاشتمالهما عليه.

والصلح عن مال.. لا يصح اقترانه بالشرط الفاسد ولا تعليقه به، بل تفسد إذا اقترنت أو علقت به.. ومثل ذلك إجازة هذه العقود فإنها تفسد باقترانها بالشرط الفاسد وبتعليقها به) . أما ما كان مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع على مال، أو كان من التبرعات كالهبة والقرض، أو من التقييدات كعزل الوكيل والحجر على الصبي من التجارة، أو من الإسقاطات المحضة كالطلاق والعتاق وتسليم الشفعة بعد وجوبها، أو من الإطلاقات كالإذن للصبي بالتجارة، وكذلك الإقالة والرهن والكفالة والحوالة والوكالة والإيصاء والوصية، ففي هذه التصرفات كلها إذا اقترن العقد بالشرط الفاسد- صح العقد، ولغى الشرط (¬1) ويتضح مما تقدم أن الشرط الفاسد إذا اقترن بعقد هو مبادلة مال بمال تغلغل في صلبه فأفسده معه، والسبب في ذلك أن الشرط لما كان فاسدا فقد سقط، ولما كان العاقد قد رضي بمبادلة مال بمال المتعاقد الآخر على هذا الشرط وقد فات عليه فيكون غير راض بالمبادلة فيفسد العقد. وفي هذا يقول صاحب [المبسوط] : (لأن الشرط باطل في نفسه، والمنتفع به غير راض بدونه) ، وهذا السبب لا يقوم في التصرفات الأخرى ومن ثم يسقط الشرط؛ لأنه فاسد، ولكن يبقى العقد على صحته. ¬

_ (¬1) انظر المواد 324- 326 من [مرشد الحيران] .

شرط فاسد يسقط ويبقى العقد

(ب) شرط فاسد يسقط ويبقى العقد النصوص: جاء في [البدائع] (¬1) : (إذا باع ثوبا على ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه أو دابة على ألا يبيعها أو يهبها، أو طعاما على ألا يأكله ولا يبيعه ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع، فإنه قال: لو شرط أحد المزارعين في الزراعة على ألا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل، وهكذا روى الحسن في [المجرد] عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي الإملاء عن أبي يوسف أن البيع بهذا الشرط فاسد، ووجهه أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس، فيكون مفسدا كما في سائر الشرائط المفسدة، والصحيح ما ذكر في المزارعة؛ لأن هذا الشرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجبه الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض ولم يوجد في هذا الشرط؛ لأنه لا منفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد، فالعقد جائز والشرط باطل. ولو باع ثوبا على أن يحرقه المشتري، أو دارا على أن يخربها: فالبيع جائز والشرط باطل؛ لأن شرط المضرة لا يؤثر في البيع على ما ذكرنا) . وجاء في [فتح القدير] (¬2) : (أما لو كان المبيع ثوبا أو حيوانا غير آدمي، ¬

_ (¬1) [البدائع] (5\170) . (¬2) [فتح القدير] (5 \ 215، 216) .

فقد خرج الجواز مما ذكرنا في المزارعة من أن أحد المزارعين إذا شرط في المزارعة ألا يبيع الآخر نصيبه أو يهبه أن المزارعة جائزة والشرط باطل؛ لأنه ليس لأحد العاملين فيه منفعة. وكذا ذكر الحسن في [المجرد] ، قال المصنف: وهو الظاهر من المذهب؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاستحقاق انعدمت المطالبة والمنازعة، فلا يؤدي إلى الربا، وما أبطل الشرط الذي فيه المنفعة للبيع إلا لأنه يؤدي إليه؛ لأنه زيادة عارية عن العوض في عقد البيع وهو معنى الربا.

شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط

شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك شرطا لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجر به التعامل، وهو مع ذلك لا منفعة فيه لأحد، ومن الأمثلة على هذا الشرط التي وردت في النصوص: يبيع ثوبا أو دابة أو حيوانا غير الرقيق ويشترط على المشتري ألا يبيع أو لا يهب ما اشتراه، يشترط أحد المزارعين على المزارع الآخر ألا يبيع أو لا يهب نصيبه من المزارعة، يبيع طعاما ويشترط على المشتري ألا يأكله ولا يبيعه، يبيع ثوبا ويشترط على المشتري أن يحرقه، يبيع دارا ويشترط على المشتري أن يخربها. ففي هذه الأمثلة يذهب الفقه الحنفي إلى أن الشرط المقترن بعقد البيع لا منفعة فيه لأحد، ولما كان هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجر به التعامل- فليس ثمة ما يبرر تصحيحه، ومن ثم كان فاسدا فيسقط، ولكن العقد يبقى صحيحا.

على أن هذا الشرط الفاسد الذي لا منفعة فيه لأحد لما لم يكن له مطالب لانعدام منفعته- والمطالبة إنما تتوجه بالمنفعة- فهو شرط لم يتمكن في صلب العقد حتى يسري فساده إلى العقد، ومن ثم يبقى العقد صحيحا بالرغم من سقوط الشرط، فالشرط من حيث أنه فاسد يسقط، ومن حيث إنه لا منفعة فيه لأحد يستبقي العقد صحيحا، وهذا هو الظاهر في المذهب الحنفي. ويذكر المذهب لهذا الحكم علتين: العلة الأولى: أن الشرط الذي يفسد العقد؛ إنما أفسده لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، إذ هو شرط فيه منفعة على النحو الذي بيناه، فكان في ذلك ربا أو شبهة الربا، والربا وشبهته يفسدان العقود، أما الشرط الذي نحن بصدده فليس فيه منفعة لأحد ولا مطالب له، فلم يوجد فيه معنى الزيادة التي يقابلها عوض، فانعدمت فيه شبهة الربا، فلم يعد هناك مبرر لفساد العقد، فيبقى العقد صحيحا مع سقوط الشرط لفساده. العلة الثانية: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده من جهة أخرى؛ لأن فيه منفعة لها مطالب، فكان صفقة في صفقة أو عقدا تضمنه عقد آخر، وهذا لا يجوز، أما الشرط الذي لا منفعة فيه لأحد وليس له مطالب فهو ليس بصفقة أو عقد، فلم يتضمن البيع باقترانه به صفقة في صفقة، أو عقدا في عقد، فارتفع سبب الفساد عن البيع، فبقي على صحته مع سقوط الشرط لفساده.

تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي

ثانيا تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي أ- سبب فساد العقد في المذهب الحنفي. ب- السبب الحقيقي في فساد العقد إذا اقترن بالشرط. ج- علتان تنتهيان إلى علة واحدة تعدد الصفقة. رأينا أن الفقه الحنفي يعلل كيف يفسد الشرط الفاسد العقد بعلتين: علة الربا، وعلة تعدد الصفقة، وتكاد العلتان تتعادلان في كتب الفقهاء، بل لعل علة الربا هي التي ترجح كفتها. ولكن المتأمل فيما يورد الفقهاء عادة من أمثلة للشروط الفاسدة يرى أن فكرة الربا إنما اتخذت تكئة لتعزيز فكرة تعدد الصفقة، وإن فكرة تعدد الصفقة هي التي يجب أن نقف عندها، ولكن لما كانت هذه الفكرة إنما تمت إلى محض الصناعة الفقهية، فإن تعليل فساد العقد بها يكاد يكون خفيا، وهو على كل حال لا يبلغ من الوضوح ما يبلغه التعليل بفكرة الربا، فإن الربا في الفقه الإسلامي لا يكاد يلقي ظله على شيء إلا ويفسده، ومن ثم كان الأيسر على الفقهاء أن يلجئوا في تعليل فساد العقد إلى فكرة الربا، والواقع من الأمر أن فكرة تعدد الصفقة هي الفكرة التي تسيطر على فساد العقد المقترن بالشرط، بل إن فكرة الربا نفسها- لو سلمنا بها جدلا- ترد في النهاية إلى فكرة تعدد الصفقة، ذلك أن كل مثل يورده الفقهاء للشرط الفاسد الذي يفسد العقد يتضمن حتما صفقتين في صفقة واحدة

ولا يتحتم أن يتضمن فكرة الربا، فالشرط الفاسد هو في ذاته صفقة تضمنها عقد البيع، وقد يكون إجارة أو إعارة أو بيعا آخر أو هبة أو صدقة أو زواجا أو غير ذلك، فإذا ما اقترن البيع بهذا الشرط أصبح صفقتين في صفقة واحدة. والشرط الفاسد قد لا يكون له مقابل من الثمن أو يكون له هذا المقابل، فإن لم يكن له مقابل من الثمن فهنا تأتي فكرة الربا. إذ يقول الفقهاء: أن الشرط يكون زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض فيفسد العقد للربا، ولكن إذا صح أن تقوم فكرة الربا هنا فإنه مع ذلك يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، ويمكن القول بأن العقد الذي تضمن هذه الزيادة المشروطة في المنفعة دون عوض إنما تضمن صفقة أخرى فأصبح صفقتين في صفقة. أما إذا كان الشرط له مقابل من الثمن فإن فكرة الربا لا تقوم، إذ تصبح زيادة المنفعة المشروطة في العقد يقابلها عوض، فلا يمكن تعليل فساد العقد عندئذ إلا بفكرة تعدد الصفقة. ومن هنا نتبين أن فكرة الربا لا تصلح لتعليل جميع الأحوال التي يفسد الشرط الفاسد فيها العقد، فقد رأيناها لا تصلح إلا لتعليل بعض هذه الأحوال، وحتى في هذا البعض يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، أما فكرة تعدد الصفقة فتصلح تعليلا لفساد العقد المقترن بالشرط الفاسد في جميع الأحوال دون استثناء.

على أن هناك ما هو أبعد مدى من ذلك، فإن التعليل بالربا حتى في بعض الأحوال دون بعض قد لا يستقيم، فالربا لا يكون إلا في الأموال الربوية، وهي: المكيلات والموزونات عند الحنفية، فإذا كان البيع الذي اقترن بشرط فاسد لم يقع على مال ربوي- لم تقم علة الربا بشطريها: وهما القدر، والجنس، فلا يصح تعليل فساد العقد في هذه الحالة بفكرة الربا. ففكرة تعدد الصفقة تجب- إذن- فكرة الربا، وهي وحدها- في رأينا التي ضيقت المذهب الحنفي، وجعلت العقد يفسد إذا اقترن بالشرط، ففي هذا المذهب لا يجوز أن يتضمن العقد الواحد أكثر من صفقة واحدة، فإذا أضيف إلى هذه الصفقة صفقة أخرى، ولو في صورة شرط فإن العقد يضيق بالصفقتين ويفسد، فتسقط الصفقتان معا.

السبب في تحريم تعدد الصفقة وحدة العقد

السبب في تحريم تعدد الصفقة - وحدة العقد. ويبقى بعد ذلك أن نسأل: ولماذا لا يجوز تعدد الصفقة في العقد الواحد؟ هنا نجد نصوص المذهب الحنفي تتذرع بأحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف. على أنه فضلا عن أن بعض هذه الأحاديث موقوفة كالنهي عن صفقتين في صفقة، وقد أمكن على كل حال تأويله على وجه آخر وكالنهي عن بيع وشرط، فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي عليه السلام تجيز اقتران الشرط بالعقد.

ونطالع هنا صفحة من [المبسوط] ترددت في كتب كثيرة، نرى فيها كيف تعددت الأحاديث في هذه المسألة، وبعضها يجيز الشرط فيجيز معه العقد، وبعضها يسقط الشرط ويجيز العقد، وبعضها يسقط الشرط والعقد معا. قال السرخسي في [المبسوط] (¬1) : (حكي عن عبد الوارث بن سعيد قال: حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألت عن البيع بالشرط، فقال: (باطل) ، فخرجت من عنده ودخلت على ابن أبي ليلى وسألته عن ذلك، فقال: (البيع جائز والشرط باطل) فدخلت على ابن شبرمة، وسألته عن ذلك، فقال: (البيع جائز والشرط جائز) ، فقلت: هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن أسأل كل واحد منهم عن حجته، فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت: إن صاحبيك يخالفانك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط» ... ) فدخلت على ابن أبي ليلى، فقلت له مثل ذلك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة عن أبيه «عن عائشة رضي الله عنها: أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله عليه وسلامه: اشتري واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بالى أقوام يشترطون شروطا ليست ¬

_ (¬1) [المبسوط] للسرخسي (13 \ 13) .

في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق (¬1) » فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك، فقال: (لا أدري ما قالا، حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه ناقة في بعض الغزوات، وشرط له ظهرها إلى المدينة) اهـ. فالأحاديث كما نرى مختلفة متضاربة، ولا بد من التوفيق بينها، وكان من الممكن أن يكون هذا التوفيق لمصلحة اقتران الشرط بالعقد، لا سيما أن أدلة المانعين الكثيرة منها متكلف، فما الذي جعل المذهب الحنفي يؤثر النهي عن الشرط، ويجعله هو المسيطر في هذه المسألة، ويدع الأحاديث الأخرى؟ والواقع من الأمر أن فكرة النهي عن تعدد الصفقة- فضلا عن أنها وردت في أحاديث عن النبي عليه السلام- هي الفكرة الطبيعية التي تتفق مع تطور القانون، فهي الفكرة الأولى التي يقف عندها نظام قانوني ناشئ في توخيه الدقة في التعاقد بتحري البساطة في العقد، وتكون وحدة العقد مبدأ جوهريا من مبادئه، ومن ثم لا يجوز أن يتضمن العقد أكثر من صفقة واحدة وإلا أخل ذلك بوحدته، بل لعل الفقه الإسلامي استغنى بهذه الفكرة وأمثالها- كفكرة اللفظية وفكرة مجلس العقد- عن الشكلية في العقود، تلك الشكلية التي بدأت في القانون الروماني رسوما وأوضاعا ساذجة، وجاءت في الفقه الإسلامي ضربا من الشكلية أكثر تهذيبا. ولعل فكرة وحدة الصفقة في العقد الواحد لم يخلص منها أي نظام ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

قانوني مهذب في مراحله الأولى من التطور، فإنها الفكرة التي تلائم العقل القانوني عندما يبدأ في تشييد صرح من النظم القانونية، فهو يتحرى لها الثبات والاستقرار عن طريق وحدة العقد، إذ أن حاجة القانون إلى الثبات والاستقرار تسبق في تاريخ تطوره حاجته إلى المرونة والتجدد ... إلى أن قال:

تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة

تطور الفقه الإسلامي في الشروط المقترنة بالعقد تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة على أن الفقه الإسلامي لم يلبث جامدا عند المرحلة الأولى للفكر القانوني، بل خطا خطوات واسعة في طريق التطور، تطور في المذهب الحنفي نفسه، وفي المذهب الشافعي، وتطور تطورا أسرع في المذهبين المالكي والحنبلي. 1 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي: رأينا مما قدمناه من نصوص الفقه الحنفي: أن فقهاء هذا المذهب، بالرغم من أنهم يقررون كمبدأ عام: وجوب وحدة الصفقة- يحدثون مع ذلك في هذا المبدأ ثغرات هامة، فيدفعون المذهب إلى طريق من التطور يوطئ أكنافه، ويوسع ما ضاق منه؛ سدا لحاجات التعامل. 1 - فأول ما يقررونه- لا على سبيل الاستثناء من المبدأ، بل مطاوعة لطبائع الأشياء- أن الشرط الذي يقتضيه العقد هو شرط صحيح يصح معه العقد، وبديهي أن ما يقررون من ذلك غني عن أن يذكر، فإن ما يقتضيه

العقد صحيح معمول به، سواء ذكر في صورة شرط أو لم يذكر أصلا، ولكنهم لا يقصدون من تقرير هذه القاعدة الحكم في ذاته، بل يقصدون التمهيد بذلك للاستثناءات الحقيقية من مبدأ وحدة الصفقة، فيبنون على هذه القاعدة الأولى قاعدة أخرى. 2 - ومن ثم يقررون: أن الشرط يلائم العقد، وإن لم يكن العقد يقتضيه صورة هو من مقتضى العقد حقيقة، فيلحق بالشرط الذي يقتضيه العقد، ويكون استحسانا شرطا صحيحا يصح معه العقد، وقد سبق بسط هذه المسألة في تفصيلاتها وما ورد فيها من الأمثلة. 3 - ثم ينتقلون بعد ذلك إلى شرط جرى به التعامل، وهذا هو الباب الواسع الذي يدخل منه التطور السريع، فيجيزون شرطا فيه منفعة مطلوبة، دون أن يقتضيه العقد، ودون أن يلائم العقد إذا كان التعامل قد جرى به، فيصح الشرط في هذه الحالة استحسانا ويصح معه العقد. 4 - ثم يقررون الشرط الذي ليست فيه منفعة مطلوبة لا تتحقق فيه معنى الصفقة، ولا يجعل العقد ينطوي على صفقتين، ومن ثم يلغو الشرط؛ لعدم إمكان المطالبة به، ولكن يبقى العقد صحيحا. 5 - ثم إنهم في الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد، ودون أن يلائم العقد- وهذا هو الشرط الفاسد الذي يجعل العقد متعدد الصفقة- يميزون بين أنواع العقود المختلفة: فيقصرون تحريم الصفقتين في الصفقة الواحدة على عقود المعاوضات المالية دون التبرعات والإسقاطات والإطلاقات والتقييدات على ما قدمنا، ففي المعاوضات

المالية يتحقق معنى تعدد الصفقة كاملا، أما في غير المعاوضات المالية فالأمر يختلف، إذ يمكن إلغاء الشرط الفاسد دون أن يمس ذلك كيان العقد الأصلي، فيلغو الشرط ويصح العقد. هذه هي حلقات متلاصقة في سلسلة من الاستثناءات أوردها المذهب الحنفي على مبدأ ضيق هو مبدأ وحدة الصفقة، فوسع فيه، وأنقذ كثيرا من ضروب التعامل، وخطا خطوات محسوسة في طريق التطور، وكل هذا باسم الاستحسان، هذا المصدر الخصب الذي كان من أهم أسباب تطور المذهب الحنفي.

تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي

2 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب الشافعي. مذهب الشافعي يقرب كثيرا من المذهب الحنفي في الأصل الذي تمسك به، وهو: منع تعدد الصفقة وفي الاستثناءات التي أوردها على الأصل. فالشرط الذي يقتضيه العقد صحيح بداهة؛ لأنه معمول به من غير حاجة إلى أن يذكر. والشرط الذي يلائم العقد- ويدعى في الفقه الشافعي بالشرط الذي فيه مصلحة للعقد، أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة- صحيح أيضا ويصح معه العقد، وليس ذلك سبيل الاستثناء- كما هو الأمر في المذهب الحنفي - بل هو أصل يقوم بذاته، وقد تقدم بيان ذلك، ومن أمثلة الشرط الذي فيه مصلحة للعقد اشتراط الإشهاد على العقد، واشتراط كتابته في صك،

واشتراط الرهن أو الكفيل بالثمن. ولعل الفقه الشافعي لا يميز بين الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل، فهما عنده شيء واحد، إذ هو يتحدث عن الشرط الذي يلائم العقد تحت اسم الشرط الذي فيه مصلحة للعقد، أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، ولا يورد أمثلة خاصة للشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل. ثم إن الفقه الشافعي يذهب إلى أن الشرط الذي لا غرض فيه ولا منفعة منه- يلغو ويصح العقد. ويتمسك الفقه الشافعي بعد ذلك بالأصل المعروف، فيمنع البيع والشرط، ما دام الشرط فيه منفعة مطلوبة ولا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضى العقد، فلا يجوز أن يشتري زرعا ويشترط على البائع أن يحصده، أو ثوبا ويشترط على البائع أن يخيطه، ولا يجوز أن يبيع دارا بألف على أن يقرضه المشتري قرضا بمائة، ولا يجوز للعاقد أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، فلا يجوز للراهن أن يشترط على المرتهن ألا يبيع العين المرهونة أصلا أو ألا يبيعها حتى يمضي شهر من وقت حلول الدين، أو أن يكون المرتهن أسوة الغرماء، أو أن يضمن المرتهن هلاك العين كلها، ولا يقتصر على ضمان ما زاد من قيمتها على الدين، ولا يجوز أن يشترط أحد الشركاء أن يكون له نصيب في الربح دون خسارة، أو أن يكون له مبلغ معين من الربح، فقد تربح الشركة أكثر من هذا المبلغ، أو قد لا تربح شيئا، ولا يجوز أن يشترط رب المال في القراض أن يكون رأس المال في يده، أو أن يشترك

مع العامل في التجارة، أو أن تكون يد العامل يد ضمان. ويمنع الفقه الشافعي البيعتين في بيعة، ويتأول الحديث الوارد في النهي عن ذلك على وجهين لا يجيز أيا منهما، فلا يصح أن يشتري بألف نقدا أو بألفين نسيئة، كما لا يصح أن يبيع العبد بألف على أن يبيع منه المشتري أو أجنبي الدار بألفين. ويبدو أن الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد أو يلائم مقتضى العقد يبطل في مذهب الشافعي المعاوضات والتبرعات على السواء. ويتبين مما تقدم: أن مذهب الشافعي قد تطور على نحو يكاد يضاهي فيه المذهب الحنفي، وإن كان يتسع عنه في جهة ويضيق دونه في جهة أخرى.

تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي

3 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي: التطور في المذهب المالكي أبعد مدى من التطور في المذهب الحنفي، وفي مذهب الشافعي، وقد تطور الفقه الإسلامي في مذهب مالك تطورا أبعد مدى من تطوره في مذهبي: أبي حنيفة، والشافعي، فمالك يجيز من الشروط ما يجيزه المذهبان الآخران، ثم هو يجيز منها كثيرا مما لا يجيزانه. وعنده: أن الأصل في الشرط: أن يكون صحيحا، ويصح معه العقد، وقد يقع الشرط فاسدا على سبيل الاستثناء.

ونستعرض في مذهبه الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد، وذلك في شيء من التنسيق والترتيب لا نجده عادة في كتب المذهب (¬1) ، فهذه تتعدد فيها التقسيمات ويتداخل بعضها في بعض، وقد نوه بذلك ابن رشد في [بداية المجتهد] . ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل (الناشر) .

الشرط الصحيح في مذهب مالك

الشرط الصحيح في مذهب مالك: الشرط الصحيح في مذهب مالك أوسع بكثير من الشرط الصحيح في مذهب أبي حنيفة: (أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا يتفق المذهبان، فيصح الشرط والعقد إذا اشترط البائع أن يدفع المشتري الثمن، أو اشترط المشتري أن يسلم البائع المبيع، أو أن يضمن العيب، أو اشتراط الدائن المرتهن أن يكون له الحق في بيع العين المرهونة إذا لم يستوف الدين أو يكون مقدما على سائر الغرماء، أو اشترطت الزوجة أن ينفق عليها الزوج وأن يكسوها. (ب) ولا يصح- فحسب- في مذهب مالك كل شرط يقتضيه العقد، بل يصح أيضا كل شرط لا يناقض مقتضى العقد، وفي هذا يتسع مذهب مالك عن مذهب أبي حنيفة، إذ يحل في حكم الصحة عند مالك الشرط الذي يلائم العقد، والشرط الذي جرى به التعامل وهما صحيحان في مذهب أبي حنيفة، ويدخل أيضا الشرط الذي فيه منفعة معقولة لأحد

المتعاقدين، ولو لم يكن العقد يقتضيه أو يلائمه، ما دام الشرط نفسه لا يناقض مقتضى العقد، ومثل هذا الشرط يفتح الباب واسعا للتعامل، وهو كما رأينا صحيح عند مالك فاسد عند أبي حنيفة. فيصح في المذهبين أن يشترط البائع على المشتري تقديم رهن أو كفيل أو محال عليه بالثمن، وهذا شرط يلائم مقتضى العقد ولا يقتصر على عدم مناقضته. ويصح في مذهب مالك دون مذهب أبي حنيفة. 1 - أن يشترط البائع على المشتري أن يعتق العبد المبيع، أو يقف الأرض المبيعة، أو يبني فيها مسجدا، أو غير ذلك مما يتضمن إيقاع معنى في المبيع هو من معاني البر. 2 - أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه حتى يعطي الثمن المؤجل، وفي هذا إيقاع معنى في المبيع لضمان حق البائع. 3 - أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة معقولة، أو الدابة ويشترط ركوبها ثلاثة أيام أو الوصول بها إلى مكان قريب، أو الثوب ويشترط عليه المشتري أن يخيطه، أو الحنطة ويشترط عليه أن يطحنها، وغير ذلك من الشروط التي فيها منفعة معقولة لأحد المتعاقدين.

الشرط الفاسد في مذهب مالك

الشرط الفاسد في مذهب مالك: ولا يكون الشرط فاسدا عند مالك إلا في موضعين:

1 - إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، كما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع، أو اشترط الزوج على الزوجة ألا ينفق عليها، أو ألا ترثه، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع، وسبب فساد الشرط هنا واضح، فإن العقد لا يسلم مع وجود الشرط ما دام الشرط يناقض مقتضاه، أو كما يقول الحطاب وهو شرط: (لا يتم معه المقصود من العقد) . 2 - إذا كان الشرط يخل بالثمن، وذلك كبيع وسلف، أي: بيع يتضمن قرضا، وكبيع الثنيا، وصورته: أن يبتاع سلعة على أن البائع متى ما رد الثمن فالسلعة له (وهذا هو بيع الوفاء في القانون الحديث وهو بيع معلق على شرط لا مقترن بشرط (وكبيع يشترط البائع فيه: أنه إذا باع المشتري السلعة فهو أحق بها بالثمن الذي باع به للمشتري. وسبب فساد الشرط هنا: أنه اشترط لمصلحة البائع أو المشتري، وقد روعي فيه نقص الثمن بقدر غير معلوم إذا كان لمصلحة البائع، كما في بيع الثنيا، أو زيادة الثمن بقدر غير معلوم إذا كان الشرط لمصلحة المشتري، كما في بيع وقرض للمشتري من البائع، وفي الحالتين تلحق الجهالة بالثمن أو كما يقول الخرشي: إن الشرط يعود جهله في الثمن إما بزيادة إن كان الشرط من المشتري أو بنقص إن كان من البائع. والشرط الفاسد يبطل في جميع الأحوال ولا يعمل به، أما أثره في العقد: 1 - فتارة يبطله.

2 - وطورا يبطل الشرط وحده ويبقى العقد. 3 - وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن الشرط فيسقط الشرط ويبقى العقد. 1 - أما أن الشرط الفاسد يبطل العقد: فيقع ذلك عادة إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، بحيث إذا أعمل الشرط كان لا بد للعقد حتما من أن يختل، فيبطل كل من الشرط والعقد إذا اشترط الواهب ألا يقبض الموهوب له الهبة، أو اشترط المقرض أن يرد له المقترض أحسن مما اقترض، أو اشترط الراهن أن يستبقي الرهن تحت يده، أو أنه يخرج من الرهن بعد مدة معلومة، أو أن الرهن لا يباع، أو اشترط رب المال في القراض أن يستبقي المال تحت يده، أو أن يضمنه العامل، أو أن يجعل مع العامل أمينا، أو يشترط الزوج ألا ينفق على الزوجة أو ألا ترثه، أو تشترط الزوجة أنها بالخيار إلى مدة معلومة، أو أن الزوج إذا لم يأت بالمهر في مدة معلومة فلا زواج. 2 - وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو وحده ويبقى العقد: فيبدو أن ذلك يقع إذا ناقض الشرط مقتضى العقد، ولكن العقد لا يختل إذا أعمل الشرط، فما دام العقد لا يختل بالشرط أو بدونه فإنه يبقى، أما الشرط فيسقط؛ لأنه شرط فاسد يناقض مقتضى العقد، فهو أقرب إلى أن يكون مخالفا للنظام العام في لغة الفقه الغربي، فيبطل الشرط ويبقى العقد إذا اشترطت الزوجة على زوجها ألا يتزوج عليها، أو ألا يطلقها، أو لا ينقلها من بلدها أو من دارها، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان

الولاء للبائع، أو اشترط البائع ألا حق للمشتري في حط جز من الثمن إذا أصابت الثمار آفة، أو اشترط رب الوديعة على حافظها أن يضمن هلاكها. 3 - وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو والعقد معا إلا إذا نزل عنه المشترط فيسقط ويبقى العقد: فإن ذلك يتحقق في حالة ما إذا كان الشرط يخل بالثمن، كما رأينا في البيع والسلف وبيع الثنيا والبيع مع اشتراط البائع أنه أحق بالبيع إذا باعه المشتري، ويتحقق ذلك أيضا فيما إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد عن طريق إيقاعه معنى في البيع ليس من معاني البر، وذلك كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه، وهذا إذا عمم أو استثنى قليلا كقوله: على ألا تبيعه جملة، أو لا تبيعه إلا من فلان، وأما إذا خصص ناسا قليلا فيجوز الشرط ويصح البيع. تقدير مذهب مالك: ولا شك في أن الفقه الإسلامي فيما يتعلق باقتران العقد بالشرط قد تطور في مذهب مالك تطورا ملحوظا نحو الإباحة، فالمذهب المالكي- خلافا للمذهبين الحنفي والشافعي- يجيز الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة، فيتخطى بهذه الإباحة العقبة التي ترجع في المذهبين الآخرين إلى مبدأ وحدة الصفقة. ثم إن الشرط الفاسد عند مالك لا يجاوز في أكثر صوره منطقة معقولة، وهذا واضح في الشرط الفاسد الذي يبطل العقد والشرط الفاسد الذي يبطل وحده ويبقى العقد.

أما الشرط الفاسد الذي يبطل ويبطل العقد معه إلا إذا نزل عنه المشترط فهو في إحدى صورتيه، وهي صورة المنع من التصرف في البيع لا يجاوز أيضا حدودا معتدلة، إذ الشرط يصح إذا قيد بقيود معقولة، كما إذا نهى البائع المشتري عن التصرف لناس قليلين وترك باب التصرف مفتوحا لأكثر الناس، ويصح كذلك إذا كان له مسوغ مشروع، كما إذا اشترط البائع ألا يتصرف المشتري في المبيع حتى يعطي الثمن المؤجل، وكما إذا كان المنع من التصرف يتضمن إيقاع معنى في البيع هو من معاني البر. وتبقى الصورة الأخرى لهذا الشرط الفاسد، وهي التي يخل بها الشرط بالثمن، كما في بيع وسلف، ففي هذه نرى مذهب مالك قد وقف جامدا ولم يتابع التطور إلى غايته، وكأنه اصطدم هنا بمبدأ وحدة الصفقة، فلم يستطع أن يتخطاه في البيع والسلف، فإن العقد الذي يتضمن بيعا وسلفا لا يتميز في الواقع من الأمر إلا بأنه عقد واحد تضمن صفقتين.

تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي

4 - تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنبلي. المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطورا في تصحيح الشروط: وأبعد تطور للفقه الإسلامي في مسألة اقتران الشرط بالعقد كان في مذهب أحمد بن حنبل، لا سيما إذا استكملنا هذا المذهب بما أضافه إليه ابن تيمية، وهو من أكبر فقهائه. فالمذهب الحنبلي كالمذهب المالكي، تخطى مبدأ وحدة الصفقة ولم يتقيد بهذا المبدأ كما تقيد به المذهبان: الحنفي، والشافعي، ومن ثم

استطاع أن يسير أشواطا بعيدة في طريق التطور. والحنابلة كالمالكية؛ الأصل عندهم في الشرط: أن يكون صحيحا ويصح معه العقد، بل هم يسيرون في هذا الأصل إلى مدى أبعد من المالكية في تصحيح الشروط، ويقع الشرط عند الحنابلة فاسدا على سبيل الاستثناء، إذا كان ينافي مقتضى العقد، أو كان قد ورد بالنهي عنه نص خاص. فنستعرض في المذهب الحنبلي الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد، ثم ننظر ما أضاف ابن تيمية إلى المذهب من مزيد توسعة في تصحيح الشروط.

الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة

الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة: الأصل في مذهب الحنابلة كما قدمنا- هو: أن يكون الشرط صحيحا، ونساير صاحب [المغني] في الترتيب الذي جرى عليه في استعراض الشروط: أ- فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا تتفق المذاهب الأربعة، فيصح اشتراط المشتري التسليم على البائع والتقابض في الحال، ويصح لكل من المتعاقدين أن يشترط خيار المجلس، فكل هذه الشروط يقتضيها العقد، وهي معمول بها حتى لو لم تشترط. ب- ويصح أيضا كل شرط يلائم العقد، ويكون من مصلحته، فتتعلق به مصلحة المتعاقدين؛ كالرهن، والضمين، والشهادة، وفي هذا أيضا

تتفق المذاهب الأربعة. ج- ويصح أخيرا الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ولكنه لا ينافي مقتضى العقد. وهنا نلحظ المدى البعيد من التطور الذي سار فيه المذهب الحنبلي، كما لحظنا ذلك في مذهب مالك، وهذا خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي، فما دام الشرط لا ينافي مقتضى العقد فهو في الأصل صحيح، سواء كان العقد يقتضيه أو لا يقتضيه، وسواء لاءم مقتضى العقد أو لم يلائمه، والشرط صحيح حتى لو تضمن منفعة مطلوبة، وفي هذا يتخطى المذهب الحنبلي مبدأ وحدة الصفقة كما تخطاه المذهب المالكي، بل هو ينكر صحة الحديث الذي نهى عن بيع وشرط، ثم إنه لا حاجة في صحة الشرط إلى جريان التعامل به، خلافا لما يذهب إليه الفقه الحنفي. ومن ثم نرى المذهب الحنبلي- خلافا لمذهبي أبي حنيفة والشافعي - يصحح أكثر الشروط التي فيها منفعة لأحد المتعاقدين كما يصححها المذهب المالكي، ونورد ما جاء في هذا الصدد في [الشرح الكبير على المقنع] (¬1) (والثالث: أن يشترط نفعا معلوما في المبيع؛ كسكنى الدار شهرا، وحملان البعير إلى موضع معلوم، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع؛ كحمل الحطب أو تكسيره، أو خياطة الثوب أو تفصيله، ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع دارا ويستثني ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير على المقنع] ، (4\ 49- 51) .

سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، أو عبدا ويستثني خدمته مدة معلومة، نص عليه أحمد، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يصح؛ لأنه روي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط» . . ولنا ما «روى جابر: أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة (¬1) » ولم يصح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وإنما «نهى عن شرطين في بيع (¬2) » ، فمفهومه إباحة الشرط الواحد. . ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل: أن يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطته قميصا، أو بغلة ويشترط حذوها نعلا، أو حزمة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم) . ويتوسع المذهب الحنبلي في إباحة الشروط في عقد الزواج بوجه خاص، ويفوق في ذلك سائر المذاهب، وفيها مذهب مالك نفسه، فيجوز في الزواج من الشروط ما يكون فيه للزوجين منفعة مقصودة ما دامت لا تعارض الشرع ولا تنافي المقصود من عقد الزواج، ويقول ابن تيمية في ذلك (¬3) : (ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في [الصحيحين] «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج (¬4) » فلا يقتصر مذهب أحمد على أن يكون لكل من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها، فيشترط الزوج في زوجته البكارة أو الجمال مثلا، وتشترط الزوجة في زوجها المال أو حرفة معينة أو موردا معينا من العيش، ويكون للمشترط أن ¬

_ (¬1) سنن الترمذي المناقب (3852) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن الدارمي البيوع (2560) . (¬3) [مجموع الفتاوى] ، (3\ 327- 332) ، [نظرية العقد] ، ص (155) . (¬4) صحيح البخاري النكاح (5151) ، صحيح مسلم النكاح (1418) ، سنن الترمذي النكاح (1127) ، سنن النسائي النكاح (3281) ، سنن أبو داود النكاح (2139) ، سنن ابن ماجه النكاح (1954) ، مسند أحمد بن حنبل (4/150) ، سنن الدارمي النكاح (2203) .

يفسخ الزواج إذا فات عليه ما اشترطه، ولا فرق في هذا أن يكون المشترط هو الرجل أو المرأة، وهذا هو أصح روايتي أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي، وظاهر مذهب مالك (¬1) ، بل يجوز أيضا في مذهب أحمد: أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى، أو ألا يتزوج عليها، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج (¬2) . وقد رأينا أن هذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك. ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] ، (3\ 346) ، [نظرية العقد] ص (156-157) . (¬2) [نظرية العقد] ، لابن تيمية ص (16، 34، 161- 162) و [الفتاوى] ، (3\ 327) .

الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة

الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة: ولا يكون الشرط فاسدا عند الحنابلة إلا في موضعين: أ- إذا كان الشرط ينافي مقتضى العقد، مثل ذلك: أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه، أو يشترط عليه إن أعتقه أن يكون الولاء للبائع، فهذه الشروط كلها تنافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد حرية المشتري في التصرف في المبيع بعد أن صار ملكه، يبيعه أو لا يبيعه، ويهبه أو لا يهبه، وإذا كان رقيقا فأعتقه فإن الولاء يكون له هو لا للبائع لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق. بقي أن يشترط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، فهل يصح الشرط؟ في المذهب روايتان: أحدهما: الشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى العقد شأنه في ذلك شأن ما

قدمناه من الشروط. والرواية الأخرى: الشرط صحيح؛ لحديث بريرة المعروف. ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد عند الحنابلة: أن يشترط المشتري إن أغضبه غاضب أن يرجع على البائع بالثمن، ومنها: أن يشترط البائع: أن يكون أحق بالمبيع بثمنه إن باعه المشتري؛ لأنه يكون بذلك قد اشترط ألا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه، فهو كما لو اشترط ألا يبيعه إلا من فلان، وهذا يقيد حرية المشتري في التصرف فينافي مقتضى العقد، وقيل أيضا: في مذهب أحمد أن هذا الشرط يتضمن شرطين، فيكون غير جائز على ما سنرى؛ لأن البائع شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الأول، فهما شرطان (¬1) . وقد رأينا أن هذا الشرط غير جائز في المذهب المالكي لأنه يخل بالثمن. ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أيضا ما جاء في [الشرح الكبير على المقنع] ، (¬2) : (وإذا قال: بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط فالبيع فاسد؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره، ولا يشبه هذا ما لو قال: أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة لكون هذا عوضا في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد؛ ولذلك لم يجز في النكاح. ¬

_ (¬1) الشرح الكبير على المقنع (4\ 55) . (¬2) المرجع السابق (4\ 58) .

أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك، فلا يثبت؛ لأن العوض على غيره، وإن كان هذا القول على وجه الضمان: صح البيع ولزم الضمان) . ولما كان الشرط الذي ينافي مقتضى العقد فاسدا فإنه يبطل ولا يعمل به. أما حكم العقد الذي اقترن به الشرط ففيه روايتان: الأولى: أن العقد صحيح، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي، فيسقط الشرط ويبقى العقد (وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط؛ لأن البائع إنما سمح بالبيع بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط، والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه، فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيبا، ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشيء، كمن شرط رهنا أو ضمينا فامتنع الراهن والضمين؛ لأن ما ينقصه الشرط من الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء مع فساد الشرط وصحة البيع (¬1) . والرواية الثانية: أن الشرط الفاسد يبطل البيع؛ لأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا، ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير على المقنع] ، (4\ 55) .

كذلك إذا كان الشرط منه، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي (¬1) . ونرى مما تقدم أن المذهب الحنبلي والمذهب المالكي لا يختلفان كثيرا في الشرط الذي ينافي مقتضى العقد، ففي كلا المذهبين الشرط فاسد، ولكن مذهب مالك يتدرج في ترتيب الجزاء على هذا الشرط الفاسد، فتارة يبطل الشرط والعقد معا، وطورا يبطل الشرط ويستبقي العقد صحيحا، وثالثة يبطل الشرط والعقد معا إلا إذا نزل المشترط عن شرطه فيسقط الشرط ويبقى العقد، وقد مر ذكر ذلك. ب- ويكون الشرط فاسدا أيضا إذا ورد في النهي عنه نص خاص، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع وسلف، «وقال عليه السلام: لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك (¬2) » فهناك إذن نص خاص في النهي عن الجمع بين شرطين في العقد، وفي النهي عن الجمع بين بيع وسلف. أما الجمع بين شرطين في العقد فممنوع في مذهب أحمد، كما قدمنا، والشرطان المنهي عنهما هما الشرطان اللذان فيهما منفعة لأحد المتعاقدين دون أن يقتضيهما العقد أو يلائماه، ولو انفرد أي منهما كان صحيحا، مثل ذلك: من اشترى ثوبا واشترط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله، فاجتماع الشرطين في العقد يبطل الكل: الشرطان ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير] ، (4\ 54) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/179) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

باطلان والعقد باطل، أما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مما يلائم العقد، مثل: أن يبيعه بشرط الرهن أو الضمين وبشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن- فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر. وأما الجمع بين بيع وسلف فممنوع أيضا، ومعناه في مذهب أحمد: أن يشترط أحد المتعاقدين على المتعاقد الآخر عقدا ثانيا مستقلا في مقابل العقد الأول، وليس معناه مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد، فقد قدمنا أن مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد يجوز، كما إذا اشترط سكنى الدار أو حمل الحطب أو خياطة الثوب، وقد جاء في [المغني] ، (¬1) : (والثاني: أن يشترط عقدا في عقد؛ نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره- فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري) ثم جاء فيه: (ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف السلف صح البيع، ولنا ما روى عبد الله بن عمرو: أن «النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف (¬2) » . أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ «لا يحل بيع وسلف (¬3) » ؛ ولأنه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله، فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن ¬

_ (¬1) [المغني] ، (4\ 285) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) . (¬3) سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) .

القرض وربحا له، وذلك ربا محرم، ففسد لو صرح به، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا، كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما) (¬1) . هذا ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، ولكن المشهور في مذهب أحمد: أن هذا الشرط الفاسد يبطل العقد. ويبدو أن المذهب الحنبلي في منعه الجمع بين شرطين في العقد والجمع بين بيع وسلف إنما يحتفظ ببقايا من مبدأ وحدة الصفقة، كما فعل المذهب المالكي في منعه الجمع بين بيع وسلف، وإنما تخطى المذهبان الحنبلي والمالكي مبدأ وحدة الصفقة في البيع والشرط الواحد؛ لأن خطب الشرط الواحد يسير وهو تابع للعقد ومتمم له، فلا يخل بوحدته إخلالا جسيما، أما إذا كان لتعدد الصفقة مظهر أوضح بأن اجتمع في العقد شرطان لا شرط واحد عند أحمد أو بأن اجتمعت صفقتان متقابلتان في عقد واحد عند أحمد ومالك فهذا تعدد جسيم في الصفقة لا يجوز احتماله، وما احتمل منه اليسير لا يحتمل منه الكثير. فالمذهبان المالكي والحنبلي وقفا جامدين هنا، ولم يتخطيا مبدأ وحدة الصفقة تخطيا تاما ولم يجيزا تعدد الصفقة في صورته السافرة. وننظر الآن ماذا فعل ابن تيمية؟ ¬

_ (¬1) [المغني] ، (4\ 290، 291) .

استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية

استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية: يقول ابن تيمية: إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا

يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس عند من يقول به، وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه (¬1) . ويستدل ابن تيمية لصحة ما يقول بالنقل والعقل: أما النقل: فلقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2) ولقوله عليه السلام «. . . والمسلمون على شرطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (¬3) » . وأما العقل: فإنه يقول: إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية- أي: ليست من العبادات- والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم، كما أن الأعيان: الأصل فيها عدم التحريم، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (¬4) عام في الأعيان والأفعال، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة (¬5) . فالوفاء بالشرط إذن واجب بالنقل والعقل، وبخاصة بعد أن رضيها المتعاقد مختارا، فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، ونتيجتها هي ما ¬

_ (¬1) [الفتاوى] ، (29\ 132، 133) . (¬2) سورة المائدة الآية 1 (¬3) سنن الترمذي الأحكام (1352) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2353) . (¬4) سورة الأنعام الآية 119 (¬5) [الفتاوى] ، (3\ 334) .

أوجباه على نفسيهما بالتعاقد، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2) فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له، وإذا كان طيب النفس هو المبيح الصداق فكذلك سائر التبرعات، قياسا بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن. وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬3) لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (¬4) . ويستخلص ابن تيمية من هذه المقدمات: أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحا، ويصح معه العقد، سواء كان ذلك في المعاوضات، أو في التبرعات. ففي المعاوضات: يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع؛ كأن يسكن الدار شهرا أو ينتفع بزراعة الأرض سنة، ويجوز للمشتري أن يشترط على البائع أن يخيط له الثوب، أو يحمل المبيع إلى داره، أو يحصد الزرع، ويجوز أن يشترط البائع إذا باع الرقيق أن يعتقه المشتري، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع أن يكون الولاء له عند الإعتاق؛ لأن هذا شرط يحلل حراما. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 29 (¬2) سورة النساء الآية 4 (¬3) سورة النساء الآية 29 (¬4) الفتاوى، (3\ 336، 337) .

وفي التبرعات: يجوز لمن أعتق عبدا أن يشترط عليه أن يخدمه طول حياته، حياة العبد أو السيد، وقد ورد أن أم سلمة أعتقت عبدها سفينة، واشترطت عليه أن يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ما عاش (¬1) . ويجوز للواهب أو الواقف أن يشترط لنفسه منفعة ما يهبه أو يقفه مدة معينة أو طول حياته (¬2) ، بل يصح أن تكون المنفعة التي استثناها المتبرع وأضافها لنفسه منفعة غير معلومة، إذ يجوز في التبرعات من الغرر ما لا يجوز في المعاوضات، كما تقدم القول. وفي هذا يقول ابن تيمية: (يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما، لما روي عن جابر، وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف) (¬3) . ويبني ابن تيمية على ما تقدم أن الشرط لا يفسد على سبيل الاستثناء، إلا في موضعين: الأولى: إذا كان الشرط ينافي المقصود من العقد، مثل أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يؤجره، ذلك أن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره ثم شرط العاقد فيه ما ينافي هذا المقصود- فقد جمع ¬

_ (¬1) [الفتاوى] ، (3\ 327) . (¬2) [نظرية العقد] ، لابن تيمية ص (16) ، و [الفتاوى] ، (3\ 389، 390) . (¬3) [الفتاوى] ، (3\ 342، 343) .

بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فمثل هذا الشرط باطل. ويقول ابن تيمية في تفسيره للمعنى المراد بالشرط الذي ينافي المقصود في العقد وفي تمييزه بين هذا الشرط والشرط الذي يناقض الشرع- ما يأتي: (إن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود. فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به: ينافي العقد المطلق، فكذلك كل شرط زائد، وهذا لا يضره، وإن أريد: ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا. والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع، مثل: اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصودا للعقد، فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق (¬1) » فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا، وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله، فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما: إذا لم يكن لغوا، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) .

لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج (¬1) . الثاني: الشرط الذي يناقض الشرع فيحل الحرام، ويبدو أن ابن تيمية يبدأ بالتمييز بين منطقة الحرام ومنطقة المباح، فلا يستطيع الشرط في منطقة الحرام أن يجعل الحرام حلالا، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا، وكثبوت الولاء لغير المعتق، وأما ما كان مباحا بدون الشرط؛ كالزيادة في مهر المثل، وكالتبرع برهن لتوثيق الثمن- فيصح أن يوجب الشرط فعله بعد أن كان تركه مباحا، بل كان تركة هو الأصل المعمول به ما دام الشرط الموجب لفعله لم يوجد، وليس في ذلك تحريم للحلال أو تحليل للحرام، فيكون الشرط الموجب لفعل المباح شرطا مشروعا، ومن ثم يكون صحيحا. ويقول ابن تيمية في هذا المعنى ما يأتي: فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله. وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما. . وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا. . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك، وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشرط، قالوا: لأنها إما أن تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا، وذلك لا ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] ، لابن تيمية (29\ 155، 156) .

يجوز إلا بإذن الشارع. . وليس كذلك، بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته (¬1) » ، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد. . . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط ما كان حراما، وأما ما كان مباحا بدون الشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والراهن. ونرى من ذلك أن ابن تيمية لا يجعل الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا للمقصود من العقد، وهذا طبيعي، وإلا إذا كان مناقضا للشرع فيحل حراما، وهذا أشبه في الفقه الغربي بالشرط الذي يخالف القانون أو النظام العام. ولم يعرض ابن تيمية لتحريم اجتماع الشرطين ولا لتحريم اجتماع البيعتين في بيعة أو اجتماع البيع والسلف، ومن ثم يكون تطور الفقه الإسلامي في تصحيح الشروط قد وصل على يد ابن تيمية إلى غاية تقرب مما وصل إليه الفقه الغربي الحديث. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الفرائض (6756) ، صحيح مسلم العتق (1506) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2126) ، سنن النسائي البيوع (4657) ، سنن أبو داود الفرائض (2919) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2747) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، موطأ مالك العتق والولاء (1522) ، سنن الدارمي البيوع (2572) .

مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد

مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد: مقارنة إجمالية: يتبين مما قدمناه: أن المذاهب الأربعة من ناحية تصحيح الشروط المقترنة بالعقد يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين: 1 - قسم يضيق في تصحيح الشروط ويلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فلا يبيح

إلا شرطا اقتضاه العقد، أو لاءم العقد، أو جرى به التعامل، وهذان هما: المذهب الحنفي والمذهب الشافعي. 2 - وقسم يتوسع في تصحيح الشروط، ولا يلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فيبيح الشروط ما لم تكن منافية لمقتضى العقد أو مناقضة للشرع، وهذان هما: المذهب المالكي، والمذهب الحنبلي. فتطور الفقه الإسلامي نحو تصحيح الشروط ونبذ مبدأ وحدة الصفقة الذي كان أساسا من أسس الصناعة القانونية في المراحل الأولى من تطور القانون- أوضح وأبرز في القسم الثاني منه في القسم الأول، على أنه يبدو لنا أن المذهب الحنفي على ضيقه في تصحيح الشروط وتأخره في التطور من هذه الناحية- هو أكثر المذاهب تقدما من ناحية تنسيق الصناعة القانونية، فنظريته في فساد العقد تفوق في وضوحها وتسلسلها المنطقي نظائرها في المذاهب الأخرى. مقارنة تفصيلية: على أن هناك فروقا تفصيلية ما بين المذهب الحنفي ومذهب الشافعي اللذين ينتظمها القسم الأول، وكذلك ما بين المذهب المالكي والمذهب الحنبلي اللذين ينتظمها القسم الثاني. فالمذهب الحنفي ومذهب الشافعي: يبيحان جميعا الشرط الذي يقتضيه العقد، ويبيحان كذلك الشرط الذي يلائم العقد، إلا أن المذهب الحنفي يبيحه استثناء على سبيل الاستحسان، ومذهب الشافعي يبيحه

أصلا لا استثناء. ثم يتميز المذهب الحنفي على مذهب الشافعي بإفساحه المجال للشرط الذي جرى به التعامل، ويبيحه استحسانا كذلك، فيدخل العرف من هذا الباب عنصرا مرنا يطور الفقه الإسلامي، أما المذهب الشافعي فلا تكاد تلمح فيه باب جريان التعامل مفتوحا، إنما يتحدث المذهب عن شرط تدعو إليه الحاجة فهو شرط لمصلحة العقد، ويمزج بينه وبين الشرط الذي يلائم العقد، ولكن مذهب الشافعي - من جهة أخرى - يصحح شروطا لا يصححها المذهب الحنفي، ومن ذلك اشتراط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، ومن ذلك ما يشترط الزوج في زوجته من بكارة أو جمال أو غير ذلك، وما تشترط الزوجة في زوجها من مال أو حرفة أو مورد للعيش. أما المذهبان المالكي والحنبلي: فيصدران جميعا عن مبدأ واحد وهو: أن الأصل في الشروط الصحة، والفساد هو الاستثناء، فينبذان بذلك إلى حد كبير مبدأ وحدة الصفقة، وقد يزيد المذهب الحنبلي على المذهب المالكي في تصحيح الشروط، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية حين قال: (وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه) ، فيجوز في مذهب أحمد مثلا، أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى، أو ألا يتزوج عليها، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج، وهذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.

ولكن التميز الحقيقي للمذهب الحنبلي على المذهب المالكي ليس في الشروط الصحيحة، وإنما هو في الشروط الفاسدة، على أننا إذا أخذنا المذهب الحنبلي كما كان قبل أن يجدد فيه ابن تيمية لما كان يتميز عن المذهب المالكي في ذلك، ففي المذهبين يفسد الشرط إذا كان مناقضا لمقتضى العقد، أو كان صفقة أخرى تقابل الصفقة الأصلية كبيع وسلف، فيخل الشرط بالثمن، كما يقول المذهب المالكي، أو ينهى عن الشرط نص خاص كما يقول المذهب الحنبلي، وفي هذا النوع الثاني من الشرط الفاسد نلمح في المذهبين أثرا لمبدأ وحدة الصفقة، فهما يستبقيان هذا المبدأ في صورة من صوره، بل إن المذهب الحنبلي يزيد على المذهب المالكي بتحريم اجتماع الشرطين في عقد واحد. أما إذا أخذنا المذهب الحنبلي بعد تجديد ابن تيمية فإننا نراه يتقدم تقدما كبيرا في التطور، فينبذ مبدأ وحدة الصفقة، ويضيق من منطقة الشروط الفاسدة، فلا يكون الشرط فاسدا إلا إذا كان منافيا لمقتضى العقد، أو إلا إذا كان مناقضا للشرع. اهـ. ويمكننا على ضوء ما تقدم من تقسيم الشروط في العقود إلى: صحيح وفاسد- أن ننظر هل الشرط الجزائي من الشروط الصحيحة في العقود أم

من الفاسدة؟ وفي حال القول بفساده هل ينحصر الفساد فيه أم يتعداه إلى العقد نفسه فيبطل ببطلانه؟ لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله: أن الشروط في العقود قسمان: صحيح وفاسد. أما الصحيح فثلاثة أنواع: أحدها: شرط يقتضيه العقد؛ كالتقابض، وحلول الثمن، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع لإمكان تحقق العقد بدونه. الثاني: شرط من مصلحة العقد؛ كاشتراط صفة في الثمن؛ كالتأجيل أو الرهن أو الضمين به، أو صفة في المثمن؛ ككون العبد خصيا أو مسلما، والأمة بكرا، والدابة هملاجة، وحكمه: أنه صحيح وأن المشروط عليه إن وفى بالشرط لزم البيع، وإن لم يف به فإن تعذر الوفاء تعين الأرش لصاحب الشرط، وإن لم يتعذر الوفاء به ففيه وجهان: الأول: أن صاحب الشرط مخير بين الفسخ والأرش، وهو الصحيح من المذهب. والثاني: أنه ليس له إلا الفسخ. وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي من مصلحة العقد؛ لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه ومساعد له على الوفاء بشرطه، فكان شبيها باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه، وإذن يصح الشرط ويلزم الوفاء به، فإن لم يف وتعذر استدراك ما

فات تعين لمن اشترط شرطا جزائيا الأرش، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه. الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، وليس منافيا لمقتضاه؟ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا، أو اشتراط المشتري خياطة الثوب، وفي حكمه خلاف: قيل: يصح وقيل: لا يصح، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط، فهو مرتبط بالعقد حيث إنه تقدير للضرر المتوقع حصوله في حالة عدم الوفاء بالالتزام. وأما الفاسدة فثلاثة أنواع: أحدها: أن يشترط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر؛ كبيع أو إجارة أو نحو ذلك- فهذا الشرط غير صحيح، وهل يبطل العقد لبطلان الشرط أم يصح العقد ويبطل الشرط؟ قولان لأهل العلم: أشهرها: القول ببطلان العقد لبطلان الشرط؟ لكونه من قبيل بيعتين في بيعة المنهي عنها، وفي القول بصحة العقد وبطلان الشرط رواية عن الإمام أحمد سنده فيها: «حديث عائشة، حيث أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتريها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق (¬1) » متفق عليه، فصحح الشراء مع إبطال الشرط. ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي من هذه الشروط الفاسدة المترتب على فسادها على المشهور لدى بعض أهل العلم فساد العقود المشتملة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2168) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

عليها، وتوجيه ذلك: أن الشرط الجزائي يعتبر عقد معاوضة مغاير للعقد الأصلي، فهو من مسائل بيعتين في بيعة المنهي عنها، ويمكن أن يرد هذا: بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر، فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تزوجني أو تؤجرني؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا. الثاني: من الشروط الفاسدة: شرط ينافي مقتضى العقد، كأن يشترط في المبيع أن لا خسارة عليه أو ألا يبيع ولا يهب ولا يعتق، فهذه الشروط باطلة، وهل تبطل العقود المشتملة عليها؟ قولان لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا يبطل العقد، وهو المذهب، اختاره في [المغني] ، ونصره في [الشرح] ، وجزم به في [الوجيز] ، وقدمه في [الفروع] ؛ لحديث بريرة، وإذا ألغي الشرط لبطلانه كان لصاحبه الخيار بين الفسخ وما نقص من الثمن. وقيل: ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء ولا أرش له. ويمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط، لأنه منافاة بين نفاذه وبين العقد المشتمل عليه. الثالث: من الشروط الفاسدة: شرط يعلق به العقد، كقوله: بعتك إن

جئتني بكذا أو إن رضي فلان، أو بقول الراهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك، فلا يصح المبيع، وهذا هو المذهب؛ لأن مقتضى العقد انعقاد البيع، وهذا الشرط يمنعه، وللإمام أحمد رحمه الله رواية في تصحيح البيع والشرط، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه لم يخالف نصا، ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي من هذا النوع من الشروط، باعتباره عقد معاوضة مستقلا، وعلى هذا الاعتبار فهو عقد معاوضة معلق على حصول الإخلال بالتزام في العقد الأصلي، فتجري فيه أحكام هذا النوع من الشروط، إلا أن القول ببطلان العقد لبطلانه لا يأتي على العقد الأصلي المشتمل عليه؛ لأن تحقق العقد الأصلي ليس مرهونا بوجود الشرط، وإنما يعتبر الشرط الجزائي عقد معاوضة مستقلا معلقا نفاذه على الإخلال بالعقد الأصلي؛ ذلك لأن النص في عقد المقاولة مثلا بعبارة: (إن تأخر إكمالك العمل عن شهر كذا فعليك عن كل شهر تتأخر مبلغ كذا) يعتبر عقدا يشبه في الجملة عقد الرهن المتضمن قول الراهن: (إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك) ويمكن أن يرد على هذا: بأن الشرط الجزائي ليس مستقلا عن العقد الأصلي، وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر، فليس من قبيل: بعتك على أن تقرضني أو تؤجرني أو تزوجني؛ لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلا عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلا. ونذكر جملة من العقود التي اقترن بها شرط، وكان ذلك مثار خلاف بين

أئمة الفقهاء: أ- بيع العربون: وهو: أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فهو للبائع. وقد بحث علماء المذاهب الإسلامية المعتبرة هذا النوع من البيوع، واختلفوا فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بتصحيحه. قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله (¬1) : والعربون في البيع هو: أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع، يقال: عربون وأربون وعربان وأربان، قال أحمد: لا بأس به، وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه، وقال ابن سيرين: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، وقال أحمد: هذا في معناه. واختار أبو الخطاب: أنه لا يصح، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع العربون) » رواه ابن ماجه، ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد ¬

_ (¬1) [المغني] ، (4\ 232\ 233) طبعة المنار.

المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما، وهذا هو القياس، وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى فيه عن نافع بن عبد الحارث: (أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا) قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه، قال: (أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه) ، وضعف الحديث المروي. روى هذه القصة الأثرم بإسناده. فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما وقال: (لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك) ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ، وحسب الدرهم من الثمن- صح؛ لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه، فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم؛ لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه، ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله؛ لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. اهـ. وقد لخص الدكتور السنهوري أدلة القولين، ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون - فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه (¬1) . ¬

_ (¬1) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] ، (2\ 101، 102) .

ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي: إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون؛ ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم. إن أحمد يجيز بيع العربون، ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر، وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي: أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا. قال أحمد: هذا في معناه. ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون، فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار. اهـ. ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك.

ونوقشت المقارنة والترجيح بما يأتي: أولا: في سند الأثر الذي فيه شراء نافع من صفوان دار السجن: عبد الرحمن بن فروخ السعد مولى عمر، وهو مجهول العين؛ لأنه لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار؛ ولذا ترك مسلم الرواية عنه في [صحيحه] ، ولم يرو عنه البخاري إلا في التعليقات، اللهم إلا أن يقال: إن الشهرة تقوم مقام راو آخر، ذكر معنى ذلك ابن حجر في [تهذيب التهذيب] ، عن الحاكم. ثانيا: هذا الأثر يحتمل متنه أن يكون عقد الشراء قد أبرم فعلا بين نافع وصفوان، ويحتمل أن يكون مجرد وعد من نافع لصفوان بالشراء، ثم كان العقد بعد العرض على عمر ورضاه. ثالثا: دعوى الاتفاق على ما قاله ابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا- تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى قياس بيع العربون عليه، وإلا فمجرد قول ابن سيرين ليس بأصل يرجع إليه في الاستدلال، والإمام أحمد ليس بمجتهد مذهب حتى يقال: إن هذا من باب التخريج على مسألة في المذهب، بل هو مجتهد مطلق، ويرجع في اجتهاده إلى الأصول الشرعية. رابعا: ذكر الأستاذ السنهوري: أن العربون عوض عن انتظار البائع أو عن تفويت فرصة البيع عليه، فهل الانتظار أو تفويت الفرصة مما يقوم بمال حتى يستحق البائع العربون عوضا عنه، هذا محل نظر، فالمخالف لا يوافقه على ذلك كما مر في النقل عن ابن قدامة رحمه الله.

خامسا: لم يذكر في تعريف بيع العربون تعيين مدة، فكان شبهه بالخيار المجهول ثابتا. ب- مسألة: ما إذا أعطى الرجل الخياط ثوبه فقال له: (إن خطته اليوم فبعشرة، أو خطته غدا فبتسعة) ، فهذه المسألة بحثها الفقهاء رحمهم الله، ومنهم أبو الحسن المرداوي الحنبلي فقد قال ما نصه: قوله: إن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم فهل يصح؟ على روايتين: وأطلقهما في [الهداية] و [المذهب] ، و [المستوعب] ، و [الخلاصة] ، و [المغني] ، و [الشرح] ، و [الفائق] ، و [شرح ابن منجا] ، و [الحاوي الصغير] ، إحداهما: لا يصح، وهو المذهب، والرواية الثانية: يصح وقدمه في [الرعايتين] ، اهـ (¬1) . ج- مسألة: ما إذا أكرى لأحد الناس دابة فقال: (إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة، وإن رددتها غدا فكراؤها عشرة) ، فقال أحمد في رواية عبد الله: لا بأس به، قال في [الفائق] : صح في الروايتين وجزم في [الوجيز] والمذهب، وقدمه في [الرعايتين] ، و [الخلاصة] ، و [الحاوي الصغير] ، و [النظم] (¬2) . فعلى رأي القائلين بصحة العقد في المسألتين (ب، ج) يكونون قد صححوا اقتطاع جزء من كامل الأجرة جزاء التأخير، وهذا يشبهه الشرط ¬

_ (¬1) [الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف] ، (6\ 18) . (¬2) المرجع السابق (6\ 20) .

الجزائي من حيث إن كلا منهما يوجب على المتسبب في الإخلال بالاتفاق غرامة مالية يجري تقديرها سلفا في مبدأ العقد. وقد يرد على ذلك: بأن العقد في كلتا الصورتين ليس مشتملا على شرط التنجيز بخياطة الثوب أو رد الدابة، وإنما هو عقد تخييري لحالين، أي: حال منهما يقع عليها الاختيار يتعين العقد بموجبها، وعليه فليس فيه اقتطاع جزء من كامل الأجرة. د- مسألة: ما إذا قال: (من خاط لي هذا الثوب في هذا اليوم فله كذا) فإذا خاطه في اليوم الثاني مثلا فهل يستحق الجعل أو أجرة المثل أو لا يستحق شيئا؟ هذه المسألة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في [المغني] ، فقال في معرض تفريقه بين الإجارة والجعالة في حكم الجمع بين تقدير المدة والعمل: وإن علقه بمدة معلولة فقال: (من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار) ، أو (من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم) صح؛ لأن المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى. . . إلى أن قال: فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتى به فيها استحق الجعل، ولا يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا شيء له. اهـ (¬1) . وذكرها البهوتي رحمه الله في [الكشاف] ، فقال: ويصح الجمع بين تقدير العمل والمدة، كأن يقول: (من خاط لي هذا ¬

_ (¬1) [المغني] ، (6\ 28) مطبعة الإمام.

الثوب في يوم فله كذا، فإن أتي به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له) اهـ (¬1) . فعلى القول بأنه يستحق أجرة المثل إن لم يكن أكثر من الجعل، ففي حال نقص أجرة المثل عن الجعل فإن الفرق بينهما في مقابلة التأخير، وعليه فيمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبهه من حيث إن استحقاق الشرط الجزائي في مقابلة الإخلال بالالتزام ومنه التأخير. هـ- المسألة التي حكم فيها القاضي شريح: والتي سبق ذكرها في أول البحث ونصها: روى البخاري في [صحيحه] ، بسنده عن ابن سيرين: أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرجوا فقال شريح: (من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه) اهـ. فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية. ويمكن أن يقال: بتصحيح الشرط الجزائي بناء على اعتباره عقوبة مالية في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع، ولأن في تصحيحه ووجوب الوفاء به سدا لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسببا من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود؛ تحقيقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2) ¬

_ (¬1) [كشاف القناع عن متن الإقناع] ، (4\ 173) . (¬2) سورة المائدة الآية 1

هذا ومن الجدير بالذكر: أن اللجنة بنت ما ذكرته من احتمالات في تطبيق الضوابط، وفي الإلحاق بالنظائر على أوسع المذاهب في ذلك، وأقربها إلى قوة الدليل، فإن سلم ذلك وظهر الحكم فالحمد لله، وإلا فالشرط الجزائي أبعد عن الحكم فيه بالجواز إذا طبقت عليه ضوابط الشروط الصحيحة والفاسدة في المذاهب الفقهية الأخرى؛ كالمذهب الحنفي والشافعي، اللهم إلا أن ينظر إلى ما نقل عن الحنفية من اعتبار ما جرى به التعامل وتعارفه الناس في معاملاتهم وكان غير مناقض لمقتضى العقد، فبهذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي يتسع له هذا الضابط، فيعد من الشروط الصحيحة. هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق. وصلى على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن موضوع الشرط الجزائي

قرار هيئة كبار العلماء رقم (25) وتاريخ 31\ 8\ 1394هـ. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 28\ 10 و 14\ 11 \ 1393\هـ من الرغبة في دراسة موضوع (الشرط الجزائي) - فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة، المنعقدة فيما بين 5 و 22\ 8 \ 1394 هـ في مدينة الطائف. ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد مداولة الرأي والمناقشة، واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي، ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه، وتأمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا (¬2) » ولقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) والاعتماد على القول الصحيح: من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 1 (¬2) سنن أبو داود الأقضية (3594) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .

أو قياسا. واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى: صحيحة، وفاسدة، وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع: أحدها: شرط يقتضيه العقد؛ كاشتراط التقابض، وحلول الثمن. الثاني: شرط من مصلحة العقد؛ كاشتراط صفة في الثمن؛ كالتأجيل، أو الرهن، أو الكفيل به، أو صفة في المثمن، ككون الأمة بكرا. الثالث: شرط فيه منفعة معلومة، وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ولا منافيا لمقتضاه؛ كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا. وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع: أحدها: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر؛ كبيع، أو إجارة، أو نحو ذلك. الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد، كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه، أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق. الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد، كقوله: بعتك إن جاء فلان. وبتطبيق الشرط الجزائي عليها، وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد، إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له، والاستئناس بما رواه البخاري في [صحيحه] بسنده عن ابن سيرين: أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم

فلم يخرج، فقال شريح: (من شرط على نفسه طائعا غير مكروه فهو عليه) . وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلا باع طعاما وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ، فقال شريح للمشتري: (أنت أخلفت) فقضى عليه، وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام، حيث إن الإخلال به مظنة الضرر، وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود؟ تحقيقا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع: أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر، يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعا، فيكون العذر مسقطا لوجوبه حتى يزول. وإذا كان الشرط الجزائي كثيرا عرفا، بحيث يراد به التهديد المالي، ويكون بعيدا عن مقتضى القواعد الشرعية- فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف، على حسب ما فات من منفعة، أو لحق من مضرة. ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر؛ عملا بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬2) وقوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬3) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 1 (¬2) سورة النساء الآية 58 (¬3) سورة المائدة الآية 8

وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (¬1) » . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الخامسة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .

حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد

(5) حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد (¬1) إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد، وآله وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء مسألة (حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد) . وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بحثا في الموضوع، ونصه: الحمد لله وحده، وبعد: فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء، في دورته الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الثاني، عام 1393 هـ من البحث في الدورة الرابعة عن (حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد) . وبناء على ما تقتضيه لائحة عمل الهيئة من قيام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث علمي عن المسألة التي تقرر عرضها على ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثالث، ص 27- 124، لعام 1397 هـ.

الهيئة- قامت اللجنة الدائمة بإعداد بحث في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، اشتمل على ما يلي: 1 - حكم الإقدام على جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، مع الأدلة ومناقشتها. 2 - ما يترتب على إيقاع الطلاق ثلاثا بلفظ واحد، مع الأدلة ومناقشتها. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

المسألة الأولى حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة

حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة وفيه قولان: القول الأول: أنه محرم، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول شيخ الإسلام وابن القيم: أما المذهب الحنفي: فقال الكاساني في الكلام على طلاق البدعة (¬1) : وأما الذي يرجع إلى العدد فهو إيقاع الثلاث أو الثنتين في طهر واحد لا جماع فيه، سواء كان على الجمع: بأن أوقع الثلاث جملة واحدة، أو على التفاريق واحدا بعد واحد، بعد أن كان الكل في طهر واحد. وهذا قول أصحابنا: ولنا الكتاب والسنة والمعقول: أما الكتاب: فقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2) أي: في أطهار عدتهن، وهو الثلاث في ثلاثة أطهار، كذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا فيما تقدم أمر بالتفريق، والأمر بالتفريق يكون نهيا عن الجمع، ثم إن كان الأمر أمر إيجاب كان نهيا عن ضده- وهو: الجمع- نهي تحريم، وإن كان أمر ندب، كان نهيا عن ضده- وهو: الجمع- نهي ندب، وكل ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] ، (3\ 94، 95) . (¬2) سورة الطلاق الآية 1

ذلك حجة على المخالف؛ لأن الأول يدل على التحريم، والآخر يدل على الكراهة، وهو لا يقول بشيء من ذلك. وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) أي: دفعتان، ألا ترى أن من أعطى آخر درهمين، لم يجز أن يقول أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين. وجه الاستدلال: أن هذا إن كان ظاهره الخبر، فإن معناه: الأمر؛ لأن الحمل على ظاهره يؤدي إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف، لأن الطلاق على سبيل الجمع قد يوجد، وقد يخرج اللفظ مخرج الخبر على إرادة الأمر، قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (¬2) أي: ليرضعن، ونحو ذلك، كذا هذا، فصار كأنه سبحانه وتعالى قال: طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع؛ لأنه ضده، فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها على ما بينا. فإن قيل: هذه الآية حجة عليكم؛ لأنه ذكر جنس الطلاق، وجنس الطلاق ثلاث، والثلاث إذا وقع دفعتين، كان الواقع في دفعة طلقتان، فيدل على كون الطلقتين في دفعة مسنونتين. فالجواب: أن هذا أمر بتفريق الطلاقين من الثلاث، لا بتفريق الثلاث؛ لأنه أمر بالرجعة عقب الطلاق مرتين- أي: دفعتين- بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} (¬3) أي: وهو الرجعة، وتفريق الطلاق- وهو إيقاعه ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 233 (¬3) سورة البقرة الآية 229

دفعتين- لا يتعقب الرجعة، فكان هذا أمرا بتفريق الطلاقين من الثلاث، لا بتفريق كل جنس الطلاق وهو الثلاث، والأمر بتفريق طلاقين من الثلاث يكون نهيا عن الجمع بينهما. وأما السنة: فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن (¬1) » ، نهى صلى الله عليه وسلم عن الطلاق، ولا يجوز أن يكون النهي عن الطلاق لعينه؛ لأنه قد بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي، فعلم أن هاهنا غيرا حقيقيا ملازما للطلاق يصلح أن يكون منهيا عنه، فكان النهي عنه لا عن الطلاق، ولا يجوز أن يمنع من الشرع لمكان الحرام الملازم له، كما في الطلاق في حالة الحيض، والبيع وقت النداء، والصلاة في الأرض المغصوبة، وغير ذلك. وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه: أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا، وأجاز ذلك عليه، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها؛ أن النكاح عقد مصلحة؛ لكونه وسيلة إلى مصالح الدين والدنيا، والطلاق إبطال له، وإبطال المصلحة مفسدة، وقد قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬2) وهذا معنى الكراهة الشرعية ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في [الكامل] من طريق علي بن أبي طالب، وقال السيوطي في [الجامع الصغير] : ضعيف. (¬2) سورة البقرة الآية 205

عندنا: أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضى به، إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة؛ لعدم توافق الأخلاق، وتباين الطبائع، أو لفساد يرجع إلى نكاحها، بأن علم الزوج أن المصالح تفوته بنكاح هذه المرأة، أو أن المقام معها يسبب فساد دينه ودنياه، فتنقلب المصلحة في الطلاق ليستوفي مقاصد النكاح من امرأة أخرى، إلا أن احتمال أنه لم يتأمل. حق التأمل، ولم ينظر حق النظر في العاقبة قائم، فالشرع والعقل يدعوانه إلى النظر، وذلك في أن يطلقها طلقة واحدة رجعية، حتى إن التباين والفساد إذا كان من جهة المرأة تتوب وتعود إلى الصلاح إذا ذاقت مرارة الفراق، وإن كانت لا تتوب نظر في حال نفسه، أنه هل يمكنه الصبر عنها؛ فإن علم أنه لا يمكنه الصبر عنها يراجعها، وإن علم أنه يمكنه الصبر عنها يطلقها في الطهر الثاني ثانيا، ويجرب نفسه، ثم يطلقها فيخرج نكاحها من أن يكون مصلحة ظاهرا وغالبا؛ لأنه لا يلحقه الندم غالبا، فأبيحت الطلقة الواحدة أو الثلاث في ثلاثة أطهار على تقدير خروج نكاحها من أن يكون مصلحة، وصيرورة المصلحة في الطلاق، فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة في حالة الغضب، وليست حالة الغضب حالة التأمل، لم يعرف خروج النكاح من أن يكون مصلحة، فكان الطلاق إبطالا للمصلحة من حيث الظاهر، فكان مفسدة. والثاني: أن النكاح عقد مسنون، بل هو واجب لما ذكرنا في كتاب النكاح، فكان الطلاق قطعا للسنة، وتفويتا للواجب، فكان الأصل هو الحظر أو الكراهة، إلا أنه رخص للتأديب أو للتخليص، والتأديب يحصل بالطلقة الواحدة الرجعية؛ لأن التباين أو الفساد إذا كان من قبلها، فإذا ذاقت

مرارة الفراق فالظاهر أنها تتأدب وتتوب وتعود إلى الموافقة والصلاح، والتخليص يحصل بالثلاث في ثلاثة أطهار، والثابت بالرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة، وحق الضرورة صار مقضيا بما ذكرنا فلا ضرورة إلى الجمع بين الثلاث في طهر واحد، فبقي ذلك على أصل الحظر. والثالث: أنه إذا طلقها ثلاثا في طهر واحد فربما يلحقه الندم، وقال الله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬1) قيل في التفسير: أي: ندامة على ما سبق من فعله، أو رغبة فيها، ولا يمكنه التدارك بالنكاح فيقع في السفاح، فكان في الجمع احتمال الوقوع في الحرام، وليس في الامتناع ذلك، والتحرز عن مثله واجب شرعا وعقلا، بخلاف الطلقة الواحدة؛ لأنها لا تمنع التدارك بالرجعة، وبخلاف الثلاث في ثلاثة أطهار؛ لأن ذلك لا يعقب الندم ظاهرا؛ لأنه يجرب نفسه في الأطهار الثلاثة فلا يلحقه الندم. انتهى المقصود. وقال السرخسي: وعلى هذا الأصل- أي: توجيه إيقاع الثلاث في ثلاثة أطهار - قال علماؤنا رحمهم الله: إيقاع الثلاث جملة بدعة. وبعد أن ساق مذهب الشافعي في إباحته وأدلته (¬2) ، ساق الدليل على تحريمه، وهو قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) قال: معناه: دفعتان، كقوله: أعطيته مرتين، وضربته مرتين، والألف واللام للجنس، فيقتضي ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) [المبسوط] (6\4) وما بعدها، ويرجع أيضا إلى [فتح القدير] ، (3\ 26) وما بعدها. (¬3) سورة البقرة الآية 229

أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين، ودفعة ثالثة في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (¬1) أو في قوله عز وجل: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2) على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير، وفي حديث محمود بن لبيد رحمه الله تعالى: «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا. فقال: أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم (¬3) » . واللعب بكتاب الله: ترك العمل به، فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب، وأن المراد من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬4) تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة، ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة؟ وفائدته: التفريق، فإنه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬5) أي: يبدو له فيراجعها، وذلك عند التفريق لا عند الجمع. وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه «أن قوما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن أبانا طلق امرأته ألفا. فقال صلى الله عليه وسلم: بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة» . وإن «ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته في حالة الحيض، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فقال: أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 230 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سنن النسائي الطلاق (3401) . (¬4) سورة الطلاق الآية 1 (¬5) سورة الطلاق الآية 1

تحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، بانت منك وهي معصية (¬1) » . وبعد أن بين وجه الرد على استدلال الشافعي رحمه الله بقصة لعان عويمر العجلاني، وأنه طلق ثلاثا ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم قال: ولنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد روي عن علي، وعمر، وابن مسعود، وابن عباس وابن عمر، وأبي هريرة، وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم: كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة. وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة، إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه، مهلا مهلا بارك الله عليكم، فيكم كتاب الله وسنة رسوله، فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة؟ قال الكرخي: لا أعرف بين أهل العلم خلافا: أن إيقاع الثلاث جملة مكروه، إلا قول ابن سيرين، وإن قوله ليس بحجة. ثم ساق الرد على ما استدل به الشافعي من الآثار، ثم ذكر بعد ذلك دليلا من جهة المعنى، وقد سبق ما يوافقه عن الكاساني. وقال الطحاوي (¬2) : حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، وحميد الأعرج، عن مجاهد: أن رجلا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة؟ فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2179) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) . (¬2) [شرح معاني الآثار] (2\30) .

لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، من يتق الله يجعل له مخرجا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) المذهب المالكي: أما المذهب المالكي فهذه بعض نقول عنه: قال سحنون: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: هل كان مالك يكره أن يطلق الرجل امرأته ثلاث تطليقات في مجلس واحد؟ قال: نعم، كان يكرهه أشد الكراهية (¬2) . وقال محمد بن أحمد بن رشد: وكذلك لا يجوز عند مالك أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه ذلك، بدليل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (¬3) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬4) وهي: الرجعة، فجلعها فائتة بإيقاع الثلاث في كلمة واحدة، إذ لو لم يقع ولم يلزمه لم تفته الزوجة، ولا كان ظالما لنفسه (¬5) انتهى المقصود. وقال الباجي (¬6) : فأما العدد فإنه لا يحل أن يوقع أكثر من طلقة واحدة، فمن أوقع طلقتين أو ثلاثا فقد طلق بغير سنة. . . والدليل على ما نقوله قوله ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) [المدونة] (2\66) . (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة الطلاق الآية 1 (¬5) [المقدمات] وهي مع [المدونة] (2\78) . (¬6) [المنتقى] (4\3) .

تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) ولا يخلو أن يكون أمرا بصفة الطلاق، والأمر يقتضي الوجوب، أو يكون إخبارا عن صفة الطلاق الشرعي، ومن أصحابنا من قال: إن الألف واللام تكون للحصر، وهذا يقتضي أن لا يكون الطلاق الشرعي على غير هذا الوجه. فإن قيل: المراد بذلك الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان، وأن ما زاد عليه ليس برجعي، قالوا: يدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2) ثم أفرد الطلقة الثالثة لما لم تكن رجعية وفارق حكم الطلقتين، فقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) وإذا كان المراد ما ذكرناه من الإخبار عن الطلاق الرجعي لم يدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الرجعي دون غيره. فالجواب: أن هذا أمر أضمر في الكلام مع استقلاله دونه بغير دليل؛ لأنكم تضمرون الرجعي، وتقولون: معناه: الطلاق الرجعي مرتان، وإذا استقل الكلام دون ضمير لم يجز تعديها إلا بدليل. وجواب ثان: وهو: أنه لو أراد الإخبار عما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان؛ لأن ذلك يقتضي أنه الطلاق الرجعي أوقعهن مجتمعتين أو مفترقتين، فلما قال: {مَرَّتَانِ} (¬4) - ولا يكون ذلك إلا لإيقاع الطلاق مفترقا- ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 230 (¬4) سورة البقرة الآية 229

ثبت أنه قصد الإخبار عن صفة إيقاعه، لا الإخبار عن عدد الرجعي منه. فإن قالوا: إن لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به العدد دون تكرار الفعل، يدل على ذلك قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬1) ولم يرد في تفريق الأجر، وإنما أراد تضعيف العدد. فالجواب: أن قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬2) حقيقة فيما ذكرناه من تكرار الفعل دون العدد، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على فعل أو اسم، يدل على ذلك أنك تقول: لقيت فلانا مرتين، فيقتضي تكرار الفعل، وكذلك قوله: دخلت مصر مرتين، فإذا كان ذلك أصله وحقيقته ودل الدليل في بعض المواضع على العدول به عن حقيقته واستعماله في غير ما وضع له- لم يجز حمله على ذلك في موضع آخر إلا بدليل. وجواب آخر: وهو أن الفضل قال: معنى {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬3) (مرة بعد مرة في الجنة) . فعلى هذا لم يخرج اللفظ عن بابه، ولا عدل به عن حقيقته. وإن قلنا: إن معناه: التضعيف في ماله وأجره: فالفرق بينهما: أن قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬4) يفيد التضعيف، ويمنع الاقتصار على ضعف واحد، ولو كان معنى قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬5) يريد به: التضعيف، لمنع من إيقاع طلقة واحدة، وإلا بطل معنى التضعيف، وهذا باطل باتفاقنا. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 31 (¬2) سورة الأحزاب الآية 31 (¬3) سورة الأحزاب الآية 31 (¬4) سورة الأحزاب الآية 31 (¬5) سورة البقرة الآية 229

ودليلنا من جهة السنة: ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: «أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقال: فعلته لاعبا؟ ثم قال: تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله (¬1) » ؟ ! ودليلنا من جهة القياس: أن هذا معنى ذو عدد يقتضي البينونة فوجب تحريمه كاللعان. أما مذهب الحنابلة: فقد قال ابن قدامة: والرواية الثانية: أن جمع الثلاث طلاق بدعة محرم، اختارها أبو بكر وأبو حفص، روي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. قال علي رضي الله عنه: لا يطلق أحد للسنة فيندم، وفي رواية قال: يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء راجعها. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا. وعن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس قال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان، فلم يجعل الله له مخرجا. ووجه ذلك: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (¬2) إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬3) ¬

_ (¬1) سنن النسائي الطلاق (3401) . (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬3) سورة الطلاق الآية 1

ثم قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬1) ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬2) ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث، ولا يجعل الله له مخرجا، ولا من أمره يسرا، وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد، وقد سبق في استدلال المالكية، وفي حديث ابن عمر قال: «قلت: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ قال: إذا عصيت ربك، وبانت منك امرأتك (¬3) » . وروى الدارقطني بإسناده، عن علي قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب، وقال: تتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» . ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة، فحرم كالظهار، بل هذا أولى؛ لأن الظهار يرتفع تحريمه بالتكفير، وهذا لا سبيل للزوج إلى رفعه بحال، ولأنه ضرر وإضرار بنفسه وبامرأته من غير حاجة، فيدخل في عموم النهي، وربما كان وسيلة إلى عودة إليها حراما أو بحيلة لا تزيل التحريم، ووقوع الندم، وخسارة الدنيا والآخرة، فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي ضرره بقاؤها في العدة أياما يسيرة، أو الطلاق في طهر مسها فيه، الذي ضرره احتمال الندم بظهور الحمل، فإن ضرر جمع ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 2 (¬2) سورة الطلاق الآية 4 (¬3) سنن النسائي الطلاق (3557) ، مسند أحمد بن حنبل (2/6) .

الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافا كثيرة، فالتحريم ثم تنبيه على التحريم هاهنا. ولأنه قول من سمينا من الصحابة، رواه الأثرم وغيره، ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم، فيكون ذلك إجماعا (¬1) . وقال شيخ الإسلام: وأما جمع (الطلقات الثلاث) ففيه قولان: القول الأول: محرم أيضا عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، واختاره أكثر أصحابه، وقال أحمد: تدبرت القرآن، فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي- يعني: طلاق المدخول بها- غير قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2) وعلى هذا القول: فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بأن يفرق الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلقها في كل طهر طلقة؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد. إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة. والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك وأصح الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه؟ كأبي بكر عبد العزيز، والقاضي أبي يعلى وأصحابه. ¬

_ (¬1) [المغني مع الشرح الكبير] (8\240، 241) (¬2) سورة البقرة الآية 230

القول الثاني أن جمع الثلاث ليس بمحرم

القول الثاني: أن جمع الثلاث ليس بمحرم، بل هو ترك الأفضل، وهو مذهب الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد: اختارها الخرقي. واحتجوا: بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا، وبأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وأجاب الأكثرون: بأن حديث فاطمة، وامرأة رفاعة، إنما طلقاهما ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح: أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا مجتمعات، وقول الصحابي: طلق ثلاثا، يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا، وأما جمع الثلاث بكلمة، فهذا كان منكرا عندهم، إنما يقع قليلا، فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قول بلا دليل، بل هو بخلاف الدليل. وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة، أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدا لموجب اللعان، والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح، والمعروف: أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت

عليه حتى تنكح زوجا غيره. وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما؛ لأنهما صارا أجنبيين، ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليه تحريما مؤبدا، فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعا بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية، فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما. وقول سهل بن سعد: طلقها ثلاثا، فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه احتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أنه تحرم عليه أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة. واستدل الأكثرون: بأن القرآن العظيم يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (¬1) إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬2) {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬3) وهذا إنما يكون في الرجعي. وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬3) سورة الطلاق الآية 2 (¬4) سورة الطلاق الآية 1

يدل على أنه لا يجوز إرداف الطلاق للطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها؛ لأنه إنما أباح الطلاق للعدة: أي: لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة بنت على العدة، ولم تستأنفها باتفاق جماهير المسلمين. فإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن حزم فقد بينا فساده في موضع آخر، فإن هذا قول ضعيف؛ لأنهم كانوا في أول الإسلام إذا أراد الرجل إضرار امرأته طلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ليطيل حبسها، فلو كان إذا لم يراجعها تستأنف العدة لم يكن بحاجة إلى أن يراجعها، والله تعالى قصرهم على الطلاق الثلاث دفعا لهذا الضرر، كما جاءت بذلك الآثار. ودل على أنه كان مستقرا عند الله: أن العدة لا تستأنف بدون رجعة، سواء كان ذلك؛ لأن الطلاق لا يقع قبل الرجعة، أو يقع ولا يستأنف له العدة، وابن حزم إنما أوجب استئناف العدة بأن يكون الطلاق لاستقبال العدة. فلا يكون طلاق إلا يتعقبه عدة، إذا كان بعد الدخول، كما دل عليه القرآن، فلزمه على ذلك هذا القول الفاسد، وأما من أخذ بمقتضى القرآن وما دلت عليه الآثار فإنه يقول: إن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه العدة، وما كان صاحبه مخيرا فيها بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة فلا يكون جائزا. فلم يكن ذلك طلاقا للعدة، ولأنه تعالى قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬1) فخيره بين الرجعة وبين أن يدعها تقضي العدة فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ثانية قبل انقضاء ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 2

العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان. وقد قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬1) فهذا يقتضي: أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق، ثم قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) أي: هذا الطلاق المذكور (مرتان) ، وإذا قيل: سبح مرتين أو ثلاث مرات: لم يجزه أن يقول: سبحان الله مرتين، بل لا بد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة، فكذلك لا يقال: طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا أو مرتين لم يجز أن يقال: ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال: طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين، ثم قال سبحانه بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) فهذه الطلقة الثالثة لم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين. وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬4) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق، فعلم أن جمع الثلاث ليس بمشروع. ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار، كما هو مبسوط في موضعه. وسبب ذلك أن (الأصل في الطلاق الحظر) وإنما أبيح منه قدر الحاجة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 228 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 230 (¬4) سورة البقرة الآية 232

كما ثبت في [الصحيح] عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: أنت أنت ويلتزمه (¬1) » . وقد قال تعالى في ذم السحر: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (¬2) وفي [السنن] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات (¬3) » . وفي [السنن] أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (¬4) » . ولهذا لم يبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره، وإذا كان إنما أبيح للحاجة، فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باق على الحظر. اهـ (¬5) . وقال ابن القيم: فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة. قد تقدم حديث محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام مغضبا ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (¬6) » وإسناده على شرط مسلم، قال ابن وهب: قد رواه مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه. قال: سمعت محمود بن لبيد، فذكره، ومخرمة ثقة بلا شك. وقد احتج مسلم في [صحيحه] بحديثه عن أبيه. والذين أعلوه، قالوا: لم يسمع منه، وإنما هو كتاب. قال أبو طالب: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2813) ، مسند أحمد بن حنبل (3/315) . (¬2) سورة البقرة الآية 102 (¬3) سنن النسائي الطلاق (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) . (¬4) سنن الترمذي الطلاق (1187) ، سنن أبو داود الطلاق (2226) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2055) ، مسند أحمد بن حنبل (5/283) ، سنن الدارمي الطلاق (2270) . (¬5) [مجموع الفتاوى] (33\ 76-81) (¬6) سنن النسائي الطلاق (3401) .

سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير، فقال: هو ثقة ولم يسمع من أبيه، وإنما هو كتاب مخرمة، فنظر فيه كل شيء يقول: (بلغني عن سليمان بن يسار) فهو من كتاب مخرمة. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه، وقال في رواية عباس الدوري: هو ضعيف، وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا حديث الوتر. وقال سعيد بن أبي مريم، عن خاله موسى بن سلمة: أتيت مخرمة فقلت: حدثك أبوك؟ فقال: لم أدرك أبي، ولكن هذه كتبه. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن كتاب أبيه كان عنده محفوظ مضبوط، فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط، إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها. وهذه طريقة الصحابة والسلف، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بكتبه إلى الملوك، وتقوم عليهم بها الحجة، وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها، واحتجوا بها، ودفع الصديق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلى أنس بن مالك فحمله، وعملت به الأمة. وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو، ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض، ويقول المكتوب إليه: كتب إلي فلان: أن فلانا أخبره. ولو بطل الاحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير، فإن الاعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ، والحفظ خوان، والنسخة ولا

تخون، ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة: أن أحدا من أهل العلم رد الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله، بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كاتبه. الجواب الثاني: أن قول من قال: (لم يسمع من أبيه) معارض بقول من قال: (سمع منه) ومعه زيادة علم وإثبات. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبي عن مخرمة بن بكير؟ فقال: صالح الحديث. قال: وقال ابن أبي ذئب: وحدث في ظهر كتاب مالك: سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه، فحلف لي: ورب هذه البنية- يعني: المسجد- سمعت من أبي. وقال علي بن المديني: سمعت معن بن عيسى يقول: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، وقال علي: ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشيء اليسير، ولم أجد أحدا في المدينة ومخرمة يخبرني عن مخرمة بن بكير: أنه كان يقول في شيء من حديثه: (سمعت أبي) ومخرمة ثقة. . انتهى. ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في [موطئه] وكان يقول: حدثني مخرمة، وكان رجلا صالحا. وقال أبو حاتم: سألت إسماعيل بن أبي أويس، قلت: هذا الذي يقول مالك بن أنس: حدثني الثقة من هو؟ قال: مخرمة بن بكير، وقيل لأحمد بن صالح المصري: كان مخرمة من ثقات الرجال؟ قال: نعم. وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة: أحاديث حسان

مستقيمة، وأرجو أنه لا بأس به. وفي [صحيح مسلم] قول ابن عمر للمطلق ثلاثا: حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك، وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به، وتفسير الصحابي حجة، وقال الحاكم: هو عندنا مرفوع. ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول، هو الطلاق الذي تملك به الرجعة، ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة، قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمده ثلاثا وثلاثين، وكبره ثلاثا وثلاثين (¬2) » ونظائره، فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال، يتلو بعضه بعضا، فلو قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين- بهذا اللفظ- لكان ثلاث مرات فقط، وأصرح من هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (¬3) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات بالله، إني لمن الصادقين، كانت مرة، وكذلك قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬4) فلو قالت: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (597) ، سنن أبو داود الصلاة (1504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/371) ، موطأ مالك النداء للصلاة (488) . (¬3) سورة النور الآية 6 (¬4) سورة النور الآية 8

أشهد بالله أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين كانت واحدة. وأصرح من ذلك قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (¬1) فهذا مرة بعد مرة. ولا ينقض هذا بقوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين (¬3) » . فإن المرتين هنا: هما: الضعفان، وهما المثلان، وهما مثلان في القدر، كقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (¬4) وقوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} (¬5) أي: ضعف ما يعذب به غيرها، وضعف ما كانت تؤتي، ومن هذا قول أنس: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين (¬6) » أي: شقتين وفرقتين، كما قال في اللفظ الآخر: «انشق القمر فلقتين (¬7) » وهذا أمر معلوم قطعا: أنه إنما انشق القمر مرة واحدة، والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزءين ومرتين في المضاعفة، فالثاني يتصور فيه اجتماع المرتين في آن واحد، والأول لا يتصور فيه ذلك. ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة، أنه قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬8) إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (¬9) فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول، فالمطلق ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 101 (¬2) سورة الأحزاب الآية 31 (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3011) ، صحيح مسلم الإيمان (154) ، سنن الترمذي النكاح (1116) ، سنن النسائي النكاح (3344) ، سنن ابن ماجه النكاح (1956) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) ، سنن الدارمي النكاح (2244) . (¬4) سورة الأحزاب الآية 30 (¬5) سورة البقرة الآية 265 (¬6) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2802) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3286) ، مسند أحمد بن حنبل (3/275) . (¬7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4864) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2801) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3285) ، مسند أحمد بن حنبل (1/447) . (¬8) سورة البقرة الآية 228 (¬9) سورة البقرة الآية 228

أحق فيه بالرجعة، سوى الثالثة المذكورة بعد هذا. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) إلى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬2) فهذا هو الطلاق المشروع، وقد ذكر الله سبحانه أقسام الطلاق كلها في القرآن، وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه، وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره، وذكر طلاق الفدا الذي هو الخلع، وسماه: فدية، ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم، وذكر الطلاق الرجعي الذي يحق للمطلق فيه الرجعة، وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة. وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما، على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة، وأنه إذا قال لها: أنت طالق طلقة بائنة، كانت رجعية، ويلغو وصفها بالبينونة، وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض، وأما أبو حنيفة فقال: تبين بذلك؛ لأن الرجعة حق له وقد أسقطها، والجمهور يقولون: وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه، فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها، وبذلها العوض، وسؤالها أن تفتدي نفسها بغير عوض في أحد القولين، وهو جواز الخلع بغير عوض، وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض- فخلاف النص والقياس. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة الطلاق الآية 2

قالوا: وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة، فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد، فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويرجعها، وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ففيه إضرار بالمرأة، فنسخ سبحانه ذلك بثلاث، وقصر الزوج عليها، وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها، فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه، فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم عليه بأول طلقة، وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث، فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده، فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها، كان خلاف شرعه وحكمته، وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة، بل إنما ملك واحدة، فالزائد عليها غير مأذون له فيه. قالوا: وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه، لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف ما شرعه. ونكتة المسألة: أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين: (أحدهما) : طلاق غير المدخول بها. (والثاني) : الطلقة الثالثة، وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة. هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره، وهذا قول الجمهور، منهم: الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر. قالوا: لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع، ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال: أنت طالق طلقة لا رجعة فيها- وساقها رحمه الله-

هل هي ثلاث، أو خلع بدون عوض، أو واحدة بائنة؟ (¬1) . وقد أجاب ابن حزم رحمه الله في كتابه [المحلى] عن ذلك بقوله (¬2) : أما الآيات فإنما نزلت فيمن طلق واحدة أو اثنتين فقط، ثم نسألهم عمن طلق مرة، ثم راجع، ثم مرة، ثم راجع ثانية، ثم ثالثة، أببدعة أتى؟ فمن قولهم: لا، بل بسنة، فنسألهم: أتحكمون له بما في الآيات المذكورات؟ فمن قولهم: لا، بلا خلاف. فصح أن المقصود- في الآيات، المذكورات- من أراد أن يطلق طلاقا رجعيا، فبطل احتجاجهم بها في حكم من طلق ثلاثا. وأما قولهم: معنى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) أن معناه: مرة بعد مرة، فخطأ، بل هذه الآية كقوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬4) أي: مضاعفا معا، وهذه الآية أيضا تصلح لما دون الثلاث من الطلاق، وهو حجة لنا عليهم؛ لأنهم لا يختلفون- يعني: المخالفين لنا- في أن طلاق السنة هو: أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها في قول طائفة منهم، وفي قول آخرين منهم: أن يطلقها في كل طهر طلقة، وليس شيء من هذا في هذه الآية، وهم لا يرون من طلق طلقتين متتابعتين في كلام متصل: طلاق سنة، فبطل تعلقهم بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬5) ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (4\100) وما بعدها. (¬2) انظر [المحلى] لابن حزم (10\167، 168) . (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة الأحزاب الآية 31 (¬5) سورة البقرة الآية 229

وأما خبر محمود بن لبيد فمرسل، ولا حجة في مرسل، ومخرمة لم يسمع من أبيه شيئا. ويعني ابن حزم بالإرسال: ما قرره الحافظ ابن حجر (¬1) ، وهو: أن محمود بن لبيد، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له منه سماع وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية. . وقد ترجم له أحمد في [مسنده] وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع. وقال الحافظ (¬2) : ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: سمع من عمر، وتوفي بالمدينة سنة ست وتسعين، وكان ثقة قليل الحديث، كما ذكر الحافظ: أن الترمذي قال فيه: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام صغير) . وقال ابن أبي حاتم: قال البخاري: له صحبة، فسخط أبي عليه، وقال: لا يعرف له صحبة، روى عن ابن عباس، روى عنه عاصم بن عمر بن قتادة: سمعت أبي يقول ذلك. سئل أبو زرعة عن محمود بن لبيد؟ فقال: روى عن ابن عباس، وروى عنه الحارث بن فضيل، مديني أنصاري ثقة، وفي رواية مخرمة عن أبيه كلام كثير. اهـ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر [فتح الباري] (9\ 97) . (¬2) انظر [تهذيب التهذيب] (10\ 66) . (¬3) انظر [الجرح والتعديل] للإمام الحافظ ابن أبي حاتم الرازي (8\290، 298) .

الثاني من قولي العلماء في الإقدام على جمع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة: أنه ليس بمحرم ولا بدعة، بل سنة، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه، وجماعة من أهل الظاهر، كما في [زاد المعاد] ، ونكتفي بإيراد كلام الشافعي في [الأم] ، وابن حزم في [المحلى] . قال الإمام الشافعي: (الخلاف في الطلاق الثلاث) : عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس، «أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام فبعث إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة (¬1) » . قال الشافعي رحمه الله: وأبو عمرو رضي الله عنهما طلق امرأته البتة وعلم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط نفقتها؛ لأنه لا رجعة له عليها، والبتة التي لا رجعة له عليها ثلاث، ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم طلاق الثلاث، وحكم فيما سواها من الطلاق بالنفقة والسكنى. فإن قال قائل: ما دل على أن البتة ثلاث فهو لو لم يكن سمى أبو عمرو رضي الله عنهما ثلاثا البتة، أو نوى بالبتة ثلاثا، كانت واحدة يملك الرجعة وعليه نفقتها. ومن زعم أن البتة ثلاث بلا نية المطلق، ولا تسمية ثلاث، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يعب الطلاق الذي هو ثلاث دليل على أن الطلاق بيد الزوج، ما أبقى منه أبقى لنفسه، وما أخرج منه من يده لزمه غير محرم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، موطأ مالك الطلاق (1234) .

عليه، كما لا يحرم عليه أن يعتق رقبة، وألا يخرج من ماله صدقة، وقد يقال له: لو أبقيت ما تستغني به عن الناس كان خيرا لك. فإن قال قائل: ما دل على أن أبا عمرو لا يعدو أن يكون سمى ثلاثا، أو نوى بالبتة ثلاثا؟ قلنا: الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن علي بن السائب، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لركانة: «والله ما أردت إلا واحدة؟ (¬1) » فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهما. قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، أنه أخبره: «أنه تلاعن عويمر وامرأته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع الناس، فلما فرغا من ملاعنتهما، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) » . قال مالك: قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين. قال الشافعي رحمه الله: فقد طلق عويمر ثلاثا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك محرما لنهاه عنه، وقال: إن الطلاق وإن لزمك فأنت عاص بأن تجمع ثلاثا، فافعل كذا، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حين طلق امرأته حائضا، أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فلا يقر النبي ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) . (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5259) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) .

صلى الله عليه وسلم بطلاق لا يفعله أحد بين يديه، إلا نهاه عنه؛ لأنه العلم بين الحق والباطل، لا باطل بين يديه إلا يغيره. قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني المطلب بن حنطب، أنه طلق امرأته البتة ثم أتى عمر فذكر ذلك له، فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: قد فعلته فتلا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (¬1) ما حملك على ذلك؟ قال: قد فعلته قال: أمسك عليك امرأتك، فإن الواحدة تبت. أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سليمان بن يسار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للتوءمة مثل ما قال للمطلب. قال الشافعي: أخبرنا الثقة، عن الليث بن سعد، عن بكير عن سليمان: أن رجلا من بني زريق طلق امرأته البتة، قال عمر: ما أردت بذلك؟ قال: أتراني أقيم على حرام والنساء كثير؟ فأحلفه فحلف. قال الشافعي رحمه الله: أراه قال، فردها عليه. قال: وهذا الخبر في الحديث في الزرقي، يدل على أن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمطلب: ما أردت بذلك؟ يريد: أواحدة أو ثلاثا؟ فلما أخبره أنه لم يرد به زيادة في عدد الطلاق، وأنه قال: بلا نية زيادة، ألزمه واحدة، وهي أقل ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 66

الطلاق، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} (¬1) لو طلق فلم يذكر البتة، إذ كانت كلمة محدثة ليست في أصل الطلاق تحتمل صفة الطلاق وزيادة في عدده، ومعنى غير ذلك، فنهاه عن المشكل من القول، ولم ينهه عن الطلاق، ولم يعبه ولم يقل له: لو أردت ثلاثا كان مكروها عليك، وهو لا يحلفه على ما أراد إلا ولو أراد أكثر من واحدة ألزمه ذلك. أخبرنا الربيع: قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان أعلمهم بذلك، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن عبد الرحمن طلق امرأته البتة وهو مريض، فورثها عثمان منه بعد انقضاء عدتها. قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن امرأة عبد الرحمن نشدته الطلاق، فقال: إذا حضت ثم طهرت فآذنيني، فطهرت وهو مريض فآذنته، فطلقها ثلاثا. قال الشافعي رحمه الله: والبتة في حديث مالك بيان هذا الحديث ثلاثا، لما وصفنا من أن يقول: طالق البتة ينوي ثلاثا، وقد بينه ابن سيرين فقطع موضع الشك فيه. أخبرنا الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس بن بكير، قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها، ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 66

فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك؟ فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك. قال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. قال الشافعي رحمه الله: وما عاب ابن عباس ولا أبو هريرة عليه أن يطلق ثلاثا، ولو كان ذلك معيبا، لقالا له: لزمك الطلاق وبئسما صنعت، ثم سمى حين راجعه، فما زاده ابن عباس على الذي هو عليه أن قال له: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل، ولم يقل: بئسما صنعت، ولا حرجت في إرساله. أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بكير، عن النعمان بن أبي عياش الأنصاري عن عطاء بن يسار، قال: جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو: عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها، قال عطاء: فقلت: إنما طلاق البكر واحدة. فقال عبد الله بن عمرو: إنما أنت قاض، الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. ولم يقل له عبد الله: بئسما صنعت حين طلقت ثلاثا. أخبرنا الربيع: قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، أن بكيرا أخبره عن النعمان بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير، وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، اذهب إلى ابن عباس

وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة فسلهما؟ ثم ائتنا فأخبرنا. فذهب فسألهما؟ فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. وقال ابن عباس مثيل ذلك ولم يعيبا عليه الثلاث ولا عائشة. أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرني مالك عن ابن شهاب عن عروة: أن مولاة لبني عدي يقال لها: زيراء، أخبرته أنها كانت تحت عبد وهي يومئذ أمة، فعتقت، فقالت: فأرسلت إلي حفصة فدعتني يومئذ، فقالت: إني مخبرتك خبرا ولا أحب أن تصنعي شيئا، إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك، فقالت: ففارقته ثلاثا، فلم تقل لها حفصة: لا يجوز لك أن تطلقي ثلاثا. ولو كان ذلك معيبا على الرجل، إذا لكان ذلك معيبا عليها إذا كان بيدها فيه ما بيده. أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن جهمان، عن أم بكرة الأسلمية: أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد، ثم أتيا عثمان في ذلك فقال: هي تطليقة، إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت. فعثمان رضي الله عنه يخبره: أنه إن سمى أكثر من واحدة كان ما سمى، ولا يقول له: لا ينبغي لك أن تسمي أكثر من واحدة؟ بل في هذا القول دلالة على أنه جائز له أن يسمي أكثر من واحدة. أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن عمر بن عبد العزيز

رضي الله عنه قال: البتة ما يقول الناس فيها؟ فقال أبو بكر: فقلت له: كان أبان بن عثمان يجلعها واحدة، فقال عمر: لو كان الطلاق ألفا ما أبقت البتة منه شيئا، من قال البتة فقد رمى الغاية القصوى. قال الشافعي: ولم يحك عن واحد منهم على اختلافهم في البتة أنه عاب البتة ولا عاب ثلاثا. قال الشافعي: قال مالك في المخيرة: إن خيرها زوجها فاختارت نفسها فقد طلقت ثلاثا، وإن قال زوجها: لم أخيرك إلا في واحدة فليس له في ذلك قول، وهذا أحسن ما سمعت. قال الشافعي: فإذا كان مالك يزعم أن من مضى من سلف هذه الأمة قد خيروا، وخير رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيار إذا اختارت المرأة نفسها يكون ثلاثا، كان ينبغي بزعمهم أن الخيار لا يحل؛ لأنها إذا اختارت كان ثلاثا، وإذا زعم أن الخيار يحل وهي إذا اختارت نفسها طلقت ثلاثا فقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز طلاق ثلاث، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد، أن سعيد بن جبير أخبره: أن رجلا أتى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي مائة، فقال ابن عباس رضي الله عنه: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين. قال الشافعي: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج: أن عطاء ومجاهدا قالا: إن رجلا أتى ابن عباس، فقال: طلقت امرأتي مائة، فقال ابن عباس: تأخذ

ثلاثا وتدع سبعا وتسعين. أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء وحده، عن ابن عباس أنه قال: وسبعا وتسعين عدوانا، اتخذت بها آيات الله هزوا، فعاب عليه ابن عباس كل ما زاد عن عدد الطلاق الذي لم يجعله الله إليه ولم يعب عليه ما جعل الله إليه من الثلاث، وفي هذا دلالة على أنه يجوز له عنده أن يطلق ثلاثا، ولا يجوز له ما لم يكن إليه. اهـ (¬1) . المذهب الحنبلي وأما المذهب الحنبلي: فقد قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد في جمع الثلاث، فروي عنه أنه غير محرم اختاره الخرقي، وهو مذهب الشافعي، وأبي ثور وداود، وروي ذلك عن الحسن بن علي وعبد الرحمن بن عوف، والشعبي؛ لأن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال: «كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) » متفق عليه. ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة: «أن امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي (¬3) » متفق عليه، وفي حديث فاطمة بنت قيس: أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات، ولأنه طلاق جاز تفريقه فجاز جمعه كطلاق النساء (¬4) ¬

_ (¬1) [الأم] للإمام الشافعي (5\ 122- 124) . (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5259) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) . (¬3) صحيح البخاري الطلاق (5260) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) . (¬4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] ، (8\ 240) .

وقد أجاب ابن قدامة عن أدلة القائلين بالإباحة جوابا إجماليا: فقال: وأما حديث المتلاعنين فغير لازم؛ لأن الفرقة لم تقع بالطلاق، فإنها وقعت بمجرد لعان الزوج فلا حجة فيه. ثم إن اللعان يوجب تحريما مؤبدا، فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاع أو غيره، ولأن جمع الثلاث إنما حرم لما يعقبه من الندم، ويحصل به من الضرر ويفوت عليه من حل نكاحها، ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان لحصوله باللعان. وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقرا عليه، ولا حضر المطلق عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بذلك لينكر عليه. على أن حديث فاطمة قد جاء فيه: أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، متفق عليه، فلم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث. ولا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلقها في كل قرء طلقة، والأولى أولى، فإن في ذلك امتثالا لأمر الله سبحانه، وموافقة لقول السلف، وأمنا من الندم، فإنه متى ندم راجعها فإن فاته ذلك بانقضاء عدتها فله نكاحها. (¬1) وقال ابن حزم: وجدنا من حجة من قال: إن الطلاق الثلاث مجموعة سنة لا بدعة، قول الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2) ¬

_ (¬1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (8\ 242) . (¬2) سورة البقرة الآية 230

فهذا يقع على الثلاث مجموعة ومفرقة، ولا يجوز أن يخص بهذه الآية بعض ذلك دون بعض بغير نص. وكذلك قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬1) عموم لإباحة الثلاث والاثنتين والواحدة. وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) فلم يخص تعالى مطلقة واحدة من مطلقة اثنتين ومن مطلقة ثلاثا. ووجدنا ما رويناه من طريق مالك، عن ابن شهاب: أن سهل بن سعد الساعدي أخبره عن حديث التعان عويمر العجلاني مع امرأته، وفي آخره أنه قال: (كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها) فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد: لو كانت طلاق الثلاث مجموعة معصية لله تعالى، لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيان ذلك فصح يقينا أنها سنة مباحة. وقال بعض أصحابنا: لا يخلو من أن يكون طلقها وهي امرأته، أو طلقها وقد حرمت عليه ووجب التفريق بينهما، فإن كان طلقها وهي ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 49 (¬2) سورة البقرة الآية 241

امرأته، فليس هذا قولكم؛ لأن قولكم إنها بتمام اللعان تبين عنه إلى الأبد، وإن كان طلقها أجنبية فإنما نحن فيمن طلق امرأته لا فيمن طلق أجنبية. فقلنا: إنما طلقها وهو يقدر أنها امرأته هذا ما لا يشك فيه أحد، فلو كان ذلك معصية لسبقكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاعتراض، فإنما حجتنا كلها في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار على من طلق ثلاثا مجموعة امرأة يظنها امرأته: ولا يشك أنها في عصمته فقط. فإن قالوا: ليس كل مسكوت عن ذكره في الأخبار يكون ترك ذكره حجة. فقلنا: نعم، هو حجة لازمة إلا أن يوجد بيان في خبر آخر لم يذكر في هذا الخبر، فحينئذ لا يكون السكوت عنه في خبر آخر حجة. ومن طريق البخاري، نا محمد بن بشار، نا يحيى هو ابن سعيد القطان، عن عبيد الله بن عمر، نا القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «إن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلق، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (¬1) » فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك. وخبر فاطمة بنت قيس المشهور رويناه من طريق يحيى بن أبي كثير، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: «أن فاطمة بنت قيس أخبرته: أن زوجها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا، ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين، فقالوا: إن ابن حفص طلق امرأته ثلاثا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لها نفقة وعليها العدة (¬2) » وذكر باقي الخبر. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5261) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) . (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن النسائي الطلاق (3405) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .

ومن طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، نا حفص بن غياث، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس قالت: «قلت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثا وأنا أخاف أن يقتحم علي، قال: فأمرها فتحولت (¬1) » . ومن طريق مسلم، نا محمد بن المثنى، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس، «عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا قال: ليس لها سكنى ولا نفقة (¬2) » . فهذا نقل تواتر عن فاطمة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها هي ونفر سواها بأن زوجها طلقها ثلاثا (¬3) ، وبأنه عليه الصلاة والسلام حكم في المطلقة ثلاثا، ولم ينكر عليه الصلاة والسلام ذلك، ولا أخبر بأنه ليس بسنة، وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه. فإن قيل: إن الزهري روى عن أبي سلمة هذا الخبر، فقال فيه: أنها ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث طلقات، وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها فذكر الخبر وفيه: فأرسل مروان إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته، وذكر باقي الخبر. قلنا: نعم، هكذا رواه الزهري، فأما روايته من طريق عبيد الله بن عبد الله فمنقطعة، لم يذكر عبيد الله ذلك عنها ولا عن قبيصة عنها، إنما قال: إن فاطمة طلقها زوجها، وإن مروان بعث إليها قبيصة فحدثته. وأما خبره عن أبي سلمة فمتصل، إلا أن كلا الخبرين ليس فيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1482) ، سنن النسائي الطلاق (3547) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2033) . (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن النسائي الطلاق (3404) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) . (¬3) كذا في الأصل المنقول عنه.

هي ولا غيرها بذلك، إنما السند الصحيح الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام سأل عن كمية طلاقها؟ وأنها أخبرته، فهي التي قدمنا أولا، وعلى ذلك الإجمال جاء حكمه عليه الصلاة والسلام، وكذلك كل لفظ روي به خبر فاطمة من (أبت طلاقها) و (طلقها البتة) و (طلقها طلاقا باتا) و (طلاقا بائنا) فليس في شيء منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه أصلا فسقط كل ذلك وثبت حكمه عليه الصلاة والسلام على ما صح أنه أخبر به من أنه طلقها ثلاثا فقط. وأما الصحابة رضي الله عنهم فإن الثابت عن عمر رضي الله عنه الذي لا يثبت عنه غيره، ما رويناه من طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، نا زيد بن وهب: أنه رفع إلى عمر بن الخطاب برجل طلق امرأته ألفا، فقال له عمر: أطلقت امرأتك؟ فقال: إنما كنت ألعب، فعلاه عمر بالدرة وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث. فإنما ضربه عمر على الزيادة على الثلاث، وأحسن عمر في ذلك، وأعلمه أن الثلاث تكفي ولم ينكرها. ومن طريق وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفا. فقال له علي: بانت منك بثلاث، واقسم سائرهن بين نسائك. . فلم ينكر جمع الثلاث. ومن طريق وكيع، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى قال: جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: بانت منك بثلاث:. . فلم ينكر الثلاث.

ومن طريق عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي ألفا. فقال له ابن عباس: ثلاث تحرمها عليك، وبقيتها عليك وزرا، اتخذت آيات الله هزوا. فلم ينكر الثلاث، وأنكر ما زاد، والذي جاء عنه من قوله لمن طلق ثلاثا ثم ندم: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا، وهو على ظاهره، نعم، إن اتقى الله جعل له مخرجا، وليس فيه أن طلاقه الثلاث معصية. ومن طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين. فقال له ابن مسعود: ثلاث تبينها، وسائرها عدوان. وهذا خبران في غاية الصحة، لم ينكر ابن مسعود وابن عباس الثلاث مجموعة أصلا، وإنما أنكر الزيادة على الثلاث. ومن طريق أحمد بن شعيب، أنا عمرو بن علي، نا يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: طلاق السنة: أن يطلقها طاهرا من غير جماع، وهذا في غاية الصحة عن ابن مسعود، فلم يخص طلقة من طلقتين من ثلاث. فإن قيل: قد روى الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، وفيه: فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى.

قلنا: نعم، هذا أيضا سنة، وليس فيه أن ما عدا ذلك حرام وبدعة. فإن قيل: قد رويتم من طريق حماد بن زيد، نا يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين قال: قال علي بن أبي طالب: لو أن الناس أخذوا بأمر الله تعالى في الطلاق ما يبيح رجل نفسه في امرأة أبدا يبدأ فيطلقها تطليقة ثم يتربص ما بينها وبين أن تنقضي عدتها فمتى شاء راجعها. قلنا: هذا منقطع عنه؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة، ثم ليس فيه أيضا أن ما عدا ذلك معصية ولا بدعة لا يعلم عن الصحابة رضي الله عنهم غير ما ذكرنا. وأما التابعون فروينا من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: قال رجل لشريح القاضي: طلقت امرأتي مائة. فقال: بانت منك بثلاث، وسبع وتسعون إسراف ومعصية. فلم ينكر شريح الثلاث، وإنما جعل الإسراف والمعصية ما زاد على الثلاث. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: طلاق العدة أن يطلقها إذا طهرت من الحيضة بغير جماع. قال أبو محمد: فلم يخص واحدة من ثلاث من اثنتين، لا يعلم عن أحد من التابعين أن الثلاث معصية صرح بذلك إلا الحسن، والقول بأن الثلاث سنة هو قول الشافعي وأبي ذر وأصحابهما (¬1) . وقال ابن أبي شيبة (¬2) : (من رخص للرجل أن يطلق ثلاثا في مجلس) . ¬

_ (¬1) انظر [المحلى] (10\ 170-173) (¬2) انظر [مصنف ابن أبي شيبة] (5\ 11) .

حدثنا أبو أسامة، عن هشام قال: سئل محمد عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد. قال: لا أعلم بذلك بأسا، قد طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثا فلم يعب عليه ذلك. حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون عن محمد قال: كان لا يرى بذلك بأسا. حدثنا غندر عن شعبة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، في رجل أراد أن تبين منه امرأته، قال: يطلقها ثلاثا.

المسألة الثانية ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

المسألة الثانية: ما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفي ذلك مذاهب: المذهب الأول: أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت ثلاثا دخل بها أو لا. ذكر من قال بهذا القول: 1 - قال الكاساني: وأما حكم طلاق البدعة (¬1) : فهو أنه واقع عند عامة العلماء، وقد ذكر هذا بعد سياقه للألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة، وذكر منها: الثلاث بلفظ واحد. 2 - قال ابن الهمام: وذهب جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا (¬2) ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (3\ 96) . (¬2) [فتح القدير] (3\ 25) .

3 - قال الطحاوي بعد سياقه لأدلة وقوعها ثلاثا: فهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رحمة الله عليهم أجمعين (¬1) 4 - قال سحنون بن سعيد التنوخي: قلت: أرأيت إن طلقها ثلاثا وهي حامل في مجلس واحد أو مجالس شتى، أيلزمه ذلك أم لا؟ قال: قال مالك: يلزمه ذلك (¬2) 5 - قال الحطاب: (تنبيه) قال أبو الحسن في شرح كلام [المدونة] المتقدم صورته: أن يقول لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق في مجلس واحد، فإن كان على غير هذه الصفة كما إذا قال: أنت طالق ثلاثا في كلمة واحدة، فقال عبد الحميد الصائغ: ثلاث تطليقات في كلمة أشد منه في ثلاثة مجالس، وفي ثلاثة مجالس أشد منه في ثلاثة أطهار، وكلما طلق يلزمه. . . انتهى (¬3) . 6 - قال الباجي: إذا ثبت ذلك- أي: كلامه على تحريم إيقاع الثلاث بلفظ واحد- فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء (¬4) . 7 - قال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور ¬

_ (¬1) [شرح معاني الآثار] (3\ 59) . (¬2) [المدونة] (2\ 68) . (¬3) [مواهب الجليل] (4\ 39) . (¬4) [المنتقى] (4\ 3) .

السلف (¬1) . 8 - قد سبق أدلة كثيرة عن الإمام الشافعي رحمه الله في الكلام على المسألة الأولى، وأنه يوقعها ثلاثا. 9 - قال الشيرازي: وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث؛ لأن الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها (¬2) 10 - قال ابن قدامة: وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وابن مسعود، وأنس، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين، والأئمة بعدهم (¬3) 11 - قال المرداوي: وإن طلقها ثلاثا مجموعة قبل رجعة مرة واحدة طلقت ثلاثا، وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب، نص عليه مرارا، وعليه الأصحاب، بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة (¬4) . 12 - قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على بيان المذاهب في ذلك: ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\ 129) . (¬2) [المهذب] (2\ 84) . (¬3) [المغني] (8\ 243) . (¬4) [الإنصاف] (8\ 453) .

الثاني: أنه طلاق محرم لازم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين (¬1) 13 - قال ابن القيم: فاختلف الناس فيها- أي: وقوع الثلاث بكلمة واحدة- على أربعة مذاهب: أحدها: أنه يقع، وهذا قول الأئمة الأربعة، وجمهور التابعين وكثير من الصحابة (¬2) 14 - قال يوسف بن عبد الرحمن بن عبد الهادي: الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا: هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره كما سيأتي، وهذا القول مجزوم به في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد، كالخرقي، و [المقنع] و [المحرر] و [الهداية] وغيرهم، من كتب أصحاب الإمام أحمد ولا يعدل عنه. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: (كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة) بأي شيء تدفعه؟ فقال: برواية الناس عن ابن عباس: أنها ثلاث، وقدمه في [الفروع] وجزم به في [المغني] ، وأكثرهم لم يحك غيره، والله أعلم بالصواب (¬3) 15 - قال أيضا: الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول ومن أفتى به: قال به ابن عباس غير مرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعثمان، ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\ 8) . (¬2) [زاد المعاد] (4\ 104) . (¬3) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70.

وعلي، وابن مسعود، وهو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أحمد، والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وأنس (¬1) ، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وقال به من أصحابنا الخرقي، وأبو بكر، وابن حامد، وابن عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، والشيخ موفق الدين، والشيخ مجد الدين - وليس مطلقا كما سيأتي- والشريف، حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول. وفي إجماع ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع ليس بصريح فيه. وهذا القول اختاره ابن رجب. وقد صنف ردا على من قال بخلافه. والله أعلم بالصواب (¬2) 16 - قال ابن عبد الهادي: قال ابن رجب: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام- شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سبق بلفظ واحد (¬3) 17 - وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: وعلى هذا القول- أي: اعتبارها ثلاثا- جل الصحابة وأكثر العلماء منهم الأئمة الأربعة. اهـ (¬4) ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: مالك بن أنس. (¬2) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 70. (¬3) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ص 77. (¬4) [أضواء البيان] (1\ 176) .

وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس. أما الكتاب: فأولا: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) قال أبو بكر الرازي تحت عنوان: (ذكر الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2) الآية يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنه؛ وذلك لأن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) قد أبان عن حكمة إذا أوقع اثنتين بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، في طهر واحد، وقد بينا أن ذلك خلاف السنة، فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الاثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما. وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬4) فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار، فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور. فإن قيل: قد دللت في معنى الآية: أن المراد بها: بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك، ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة البقرة الآية 230

فكيف تحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنهما على هذا الوجه؟ قيل له: قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الاثنتين والثلاث لغير السنة، وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار، وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك. ألا ترى أنه لو قال: طلقوا ثلاثا في الأطهار، وإن طلقتم جميعا معا وقعن، كان جائزا، وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما. فإن قيل: معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) وقد بين الشارع الطلاق للعدة؛ وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث، ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه. قيل له: نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما، فنقول: إن المندوب إليه والمأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه الآية، وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضته الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) إذ ليس في قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ} (¬4) نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى، على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، وهو قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬5) ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 230 (¬4) سورة الطلاق الآية 1 (¬5) سورة الطلاق الآية 1

إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (¬1) فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه، ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه. وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة، ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬2) يعني- والله أعلم- أنه إذا وقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة، وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا: إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬3) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك؛ ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته. فإن قيل: لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع، إذ ليس هو الطلاق المأمور به، كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد. قيل له: أما كونه عاصيا في الطلاق فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف، ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا، وحكم مع ذلك بصحة وقوعه، فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام، ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته، ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة الطلاق الآية 2 (¬3) سورة الطلاق الآية 2

وقد نهاه الله من مراجعتها ضرارا بقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (¬1) فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته. وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو: أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر، وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه. ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه، فلما لم يكن مالكا لما يوقعه، وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر، وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا، ألا ترى أنه لو وطأ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته، وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك. اهـ. وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) ترجم البخاري على هذه الآية باب من أجاز الطلاق الثلاث لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3) وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فسحة لهم فمن ضيق على نفسه لزمه (¬4) اهـ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 231 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) انظر [تفسير القرطبي] (3\ 128) .

وقال العيني: وجه الاستدلال به أن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) معناه: مرة بعد مرة، فإذا جاز الجمع بين اثنتين جاز بين الثلاث وأحسن منه أن يقال: إن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2) عام متناول لإيقاع الثلاث دفعة واحدة. وقال ابن أبي حاتم: أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة عليه، أنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، سمعت أبا رزين يقول: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3) أين الثالثة؟ قال: (التسريح بالإحسان) » . هذا إسناده صحيح، ولكنه مرسل، ورواه ابن مردويه من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مرسلا قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا عبيد الله بن جرير بن خالد، حدثنا ابن عائشة، عن حماد بن سلمة، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬4) » . اهـ (¬5) . وقد سبقت مناقشة ابن القيم لهذه الآية، وبين أنها دليل على عدم وقوع الثلاث، وذلك عند الكلام عليها في المسألة الأولى. وقال الشيخ جمال الدين الإمام ردا على الاستدلال بقوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة البقرة الآية 229 (¬5) انظر: [عمدة القاري] (9\538) .

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) وبين أنها لا تدل على وقوع الثلاث، قال (¬2) : فصل: ومما يبين ويوضح بطلان تركيبهم شرعا ولغة في الطلاق الثلاث وغيره: أن لفظ التعدد فيه منصوب نصب المصدر، فإن تقدير الكلام: طلقتك طلاقا، ومعنى المصدر في الكلام: طلقتك تطليقات ثلاث، ومعنى المصدر في الكلام: إنما هو حكاية حال الفعل في صدوره عن الفاعل. والفعل له حالتان في صدوره عن الفاعل: حالة يكون فيها خبرا عما صدر وقوعه من الفاعل في الماضي، وحالة يكون فيها أداة لما يستعمل فيه من إنشاء العقود والفسوخ استعارة أو اشتراكا، فإذا أريد به الحكاية والخبر عن الماضي، فإن أريد به إخبار عن حقيقة الفعل ونفي المجاز عنه اتبع بالمصدر مطلقا. وأما إذا استعمل الماضي في إنشاء عقد أو فسخ سواء قيل: إنه على وجه الاستعارة أو الاشتراك فإن أريد حقيقة العقد أو الفسخ اتبع المصدر مطلقا مثل: طلقتها تطليقا، وأما إن تعدد العقد أو الفسخ بلفظ واحد في مرة واحدة بمنزلة تعدده بالتكرار مرة بعد مرة وأتبع بالعدد وحده، أو مضافا إلى المصدر المجموع، مثل طلقتك ثلاثا وقصد به التعدد، أو قال في اللعان أشهد بالله خمسا، أو خمس شهادات، أو قال في القسامة: أقسم بالله خمسين يمينا أو قال بعد الصلاة: (سبحان الله) مرة ثم قال: (ثلاثا وثلاثين) وكذا (الحمد لله) ، وكذا (الله أكبر) وكذا لو قال في اليوم مرة واحدة (سبحان الله وبحمده) وأتبعها (مائة مرة) لم يكن بتكراره في الأيام ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) بواسطة [سير الحاث] لابن عبد الهادي، ص (93، 94) .

والأوقات والعدد، فأما غير الطلاق فلا خلاف فيه، وأما الطلاق فوقع الغلط فيه من بعد الصحابة. ثانيا: قال النووي: واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬1) قالوا: معناه: أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيا فلا يندم (¬2) . قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: ومما يؤيد هذا الاستدلال القرآني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت، حتى ظننت أنه سيردها إليه. فقال: ينطق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬3) وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها (ومن يتق الله) ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجا لوقوع البينونة بها مجتمعة، هذا هو معنى كلامه الذي لا يحتمل غيره، وهو قوي جدا في محل النزاع؛ لأنه ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\70، 71) . (¬3) سورة الطلاق الآية 2

مفسر به قرآنا، وهو ترجمان القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم علمه التأويل (¬1) » (¬2) . ثالثا: قال ابن عبد الهادي نقلا عن ابن رجب: قوله في سياق آيات: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (¬3) قال الحسن: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يطلق ويقول: كنت لاعبا، ويعتق ويقول: كنت لاعبا، ويزوج ابنه ويقول: كنت لاعبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من قالهن لاعبا جائزات عليهم: العتاق، والطلاق، والنكاح» فأنزل الله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (¬4) وقال ابن عبد الهادي ردا على ابن رجب في استدلاله بالآيات التي سبقت (¬5) : وأما استدلاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬6) إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬7) قال: فليس بمسلم؛ لأن في حديث ركانة لما قال له: " راجعها " تلا هذه الآية، فهذه الآية دليل لنا لا لكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى له بهذا استدل بالآية، فلو كان فيها دليل عليه لم يستدل بها، واستدلاله بالآية بقول ابن عباس، فإن ابن عباس قد صح عنه أنه كان يفتي بهذا القول- أي: واحدة، كما تقدم- فليس لكم في الآية دليل. ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/266) . (¬2) [أضواء البيان] (1\ 175، 176) . (¬3) سورة البقرة الآية 231 (¬4) سورة البقرة الآية 231 (¬5) [سير الحاث] ص 89، 90. (¬6) سورة الطلاق الآية 1 (¬7) سورة الطلاق الآية 2

وأما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (¬1) - واستدلاله بالحديث- أي: حديث الحسن وقد مضى مع الآية- فالآية والحديث ليس فيهما دليل له؛ لأنه لم يثبت طلاق الثلاث بالكلية، وإنما كان يطلق ويقول: كنت لاعبا فنزلت هذه الآية، إن الطلاق لا لعب فيه فليس في هذا دليل. وأما استدلاله بالآية الأخرى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2) فليس فيها دليل أيضا؛ لأن الطلاق هنا لم يذكر أنه بلفظة واحدة، بل الآية فيها إذا أتى بالطلاق مرة بعد أخرى، وليس في الآيات دليل له، بل كلها دليل عليه. وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية: الدليل الأول: ما ثبت في [الصحيحين] (¬3) في قصة لعان عويمر وزوجته وفيه: «فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، (¬4) » قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين. متفق عليه. قال النووي (¬5) : واستدل به أصحابنا على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما، وموضع الدلالة أنه لم ينكر عليه إطلاق لفظ ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 231 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) [فتح الباري] (9\ 391) و [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\ 123) . (¬4) صحيح البخاري الطلاق (5259) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2245) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، مسند أحمد بن حنبل (5/331) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) . (¬5) [صحيح مسلم بشرح النووي] (10\ 122) ، ويرجع أيضا إلى [الفتح] (9\ 367) .

الثلاث. وقد يعترض على هذا فيقال: إنما لم ينكره عليه؛ لأنه لم يصادف الطلاق محلا مملوكا له ولا نفوذا. ويجاب عن هذا الاعتراض: بأنه لو كان الثلاث محرما لأنكر عليه، وقال له: كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام، والله أعلم. وقال ابن نافع من أصحاب مالك: إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان؛ لأنه يستحب إظهار الطلاق بعد اللعان، مع أنه قد حصلت الفرقة بنفس اللعان، وهذا فاسد، وكيف يستحب للإنسان أن يطلق من صارت أجنبية. وقال محمد بن أبي صفرة المالكي: لا تحصل الفرقة بنفس اللعان، واحتج بطلاق عويمر، وبقوله: إن أمسكتها، وتأوله الجمهور كما سبق، والله أعلم. وأما قوله: (قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين) فقد تأوله ابن نافع المالكي على أن معناه: استحباب الطلاق بعد اللعان كما سبق، وقال الجمهور: معناه حصول الفرقة بنفس اللعان. وقال شيخ الإسلام (¬1) : وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة التي تحرم بها المرأة أعظم مما يحرم بالطلقة الثالثة، فكان مؤكدا لموجب اللعان، والنزاع إنما هو طلاق من يمكنه إمساكها، لا سيما ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\77، 78) ويرجع أيضا إلى [زاد المعاد] (4\115) ، و [إغاثة اللهفان] (1\314) .

والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما، فإن كان ذلك قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن كان بعدها دل على بقاء النكاح، والمعروف أنه فرق بينهما بعد أن طلقها ثلاثا، فدل ذلك على أن الثلاث لم يقع بها، إذ لو وقعت لكانت قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، وامتنع حينئذ أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما؛ لأنهما صارا أجنبيين. ولكن غاية ما يمكن أن يقال: حرمها عليه تحريما مؤبدا. فيقال: فكان ينبغي أن يحرمها عليه لا يفرق بينهما، فلما فرق بينهما دل على بقاء النكاح، وأن الثلاث لم تقع جميعا، بخلاف ما إذا قيل: إنه يقع بها واحدة رجعية فإنه يمكن فيه حينئذ أن يفرق بينهما. وقول سهل بن سعد: فأنفذه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه محتاج إلى إنفاذ النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص الملاعن بذلك، ولو كان من شرعه أنها تحرم بالثلاث لم يكن للملاعن اختصاص، ولا يحتاج إلى إنفاذ، فدل على أنه لما قصد الملاعن بالطلاق الثلاث أن تحرم عليه- أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم مقصوده، بل زاده، فإن تحريم اللعان أبلغ من تحريم الطلاق، إذ تحريم اللعان لا يزول وإن نكحت زوجا غيره، وهو مؤبد في أحد قولي العلماء لا يزول بالتوبة. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد ذكره لاستدلال البخاري بحديث عويمر: ووجه الدلالة والاعتراض عليها، والجواب عن الاعتراض من وجهين، وكل ذلك سبق نقله عن النووي إلا الوجه الثاني،

قال (¬1) : وبأن الفرقة لم يدل على أنها بنفس اللعان كتاب ولا سنة صريحة ولا إجماع. وبعد أن عرض بعض مذاهب العلماء وأدلتهم ومناقشتها في اللعان هل تحصل به الفرقة أم لا؟ قال: واختلف في هذا اللفظ- أي: ما جاء في الحديث المتقدم من قوله: فكانت سنة المتلاعنين- هل هو مدرج من كلام الزهري فيكون مرسلا، وبه قال جماعة من العلماء، أو هو من كلام سهل فهو مرفوع متصل، ويؤيد كونه من كلام سهل ما وقع في حديث أبي داود من طريق عياض بن عبد الله الفهري: عن ابن شهاب عن سهل قال: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة، قال سهل: (حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا) هذا الحديث سكت عليه أبو داود والمنذري. قال الشوكاني في نيل الأوطار،: ورجاله رجال الصحيح، قال مقيده عفا الله عنه: ومعلوم أن ما سكت عليه أبو داود فأقل درجاته عنده الحسن، وهذه الرواية ظاهرة في محل النزاع، وبها تعلم أن احتجاج البخاري لوقوع الثلاث دفعة بحديث سهل المذكور- واقع موقعه؛ لأن المطلع على غوامض إشارات البخاري رحمه الله يفهم أن هذا اللفظ الثابت في سنن أبي داود، مطابق لترجمة البخاري، وأنه أشار بالترجمة إلى هذه الرواية ولم يخرجها؛ لأنها ليست على شرطه، فتصريح هذا الصحابي الجليل في هذه ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\ 162) وما بعدها.

الرواية الثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ طلاق الثلاث دفعة يبطل بإيضاح أنه لا عبرة بسكوته صلى الله عليه وسلم وتقريره له، بناء على أن الفرقة بنفس اللعان كما ترى. . . وبعد سياقه لبقية المذاهب في الفرقة باللعان قال: وبهذا تعلم أن كون الفرقة بنفس اللعان ليس أمرا قطعيا حتى ترد به دلالة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة الثابت في الصحيح، لا سيما وقد عرفت أن بعض الروايات فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ ذلك. وبعد أن عرض مذاهب العلماء في نفقة البائن وسكناها قال: فإن قيل: إنفاذه صلى الله عليه وسلم الثلاث دفعة من الملاعن على الرواية المذكورة لا يكون حجة في غير اللعان؛ لأن اللعان تجب فيه الفرقة الأبدية، فإنفاذ الثلاث مؤكد لذلك الأمر الواجب بخلاف الواقع في غير اللعان، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (¬1) » كما أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد. فالجواب من أربعة أوجه: الأول: الكلام في حديث محمود بن لبيد، فإنه تكلم فيه من جهتين: الأولى: أنه مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت ولادته في عهده صح وذكره في الصحابة من أجل الرؤية، فقد ترجم له أحمد في [مسنده] وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صريح فيه بالسماع. ¬

_ (¬1) سنن النسائي الطلاق (3401) .

الثانية: أن النسائي قال بعد تخريجه لهذا الحديث: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير - يعني: ابن الأشج - عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه. قاله أحمد وابن معين وغيرهما، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلا. قال ابن حجر في [التقريب] : روايته عن أبيه وجادة من كتابه. قال مقيده عفا الله عنه: أما الإعلال الأول: بأنه مرسل فهو مردود بأنه مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل، ومحمود بن لبيد المذكور جل روايته عن الصحابة، كما قال ابن حجر في [التقريب] وغيره. والإعلال الثاني: بأن رواية مخرمة عن أبيه وجادة من كتابه فيه: أن مسلما أخرج في [صحيحه] عدة أحاديث من رواية مخرمة عن أبيه، والمسلمون مجمعون على قبول أحاديث مسلم إلا بموجب صريح يقتضي الرد، والحق أن الحديث ثابت إلا أن الاستدلال به يرده. الوجه الثاني: وهو أن حديث محمود ليس فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أنفذ الثلاث، ولا أنه لم ينفذها، وحديث سهل على الرواية المذكورة فيه التصريح بأنه أنفذها، والمبين مقدم على المجمل، كما تقرر في الأصول، بل بعض العلماء احتج لإيقاع الثلاث دفعة بحديث محمود هذا. ووجه استدلاله به: أنه طلق ثلاثا يظن لزومها، فلو كانت غير لازمة لبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها غير لازمة؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة.

الوجه الثالث: أن إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله أخرج حديث سهل تحت الترجمة التي هي قوله: (باب من أجاز الطلاق الثلاث) . وهو دليل على أنه يرى عدم الفرق بين اللعان وغيره في الاحتجاج بإنفاذ الثلاث دفعة. الوجه الرابع: هو ما سيأتي من الأحاديث الدالة على وقوع الثلاث دفعة، كحديث ابن عمر وحديث الحسن بن علي، وإن كان الكل لا يخلو من كلام. وبهذا كله تعلم أن رد الاحتجاج بتقريره صلى الله عليه وسلم عويمرا العجلاني على إيقاع الثلاث دفعة، بأن الفرقة بنفس اللعان لا يخلو من نظر، ولو سلمنا أن الفرقة بنفس اللعان فإنا لا نسلم أن سكوته صلى الله عليه وسلم لا دليل فيه، بل نقول: لو كانت لا تقع دفعة لبين أنها لا تقع دفعة، ولو كانت الفرقة بنفس اللعان كما تقدم. الدليل الثاني: ثبت في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (¬1) » . وجه الدلالة: ذكر البخاري هذا الحديث تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثا) وقال ابن حجر (¬2) والعيني (¬3) : هو ظاهر في كونها مجموعة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5261) . (¬2) [فتح الباري] (9\ 301) . (¬3) [عمدة القاري] (9\ 541) .

وقال ابن القيم (¬1) : في وجه استدلالهم بالحديث: فلم ينكر صلى الله عليه وسلم، ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، إذ لو لم يقع لم يتوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها. وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بهذا الدليل (¬2) ، فقال: وأما استدلالكم بحديث عائشة - وساق الحديث- فهذا مما لا ننازعكم فيه، نعم، هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني، ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثا، وقال: ثلاثا، إلا لمن فعل، وقال: مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال: قذفه ثلاثا، وشتمه ثلاثا، وسلم عليه ثلاثا. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬3) : واعترض الاستدلال بهذا الحديث بأنه مختصر من قصة رفاعة، وقد قدمنا قريبا: أن بعض الروايات الصحيحة دل على أنها ثلاث مفرقة لا مجموعة. انتهى. ومقصوده (¬4) ببعض الروايات هي رواية مسلم: (أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى) . ثم قال: ورد هذا الاعتراض: بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (4 \ 108) . (¬2) [زاد المعاد] (4\ 114) . (¬3) [أضواء البيان] (1\ 167) . (¬4) [أضواء البيان] (1\ 163) .

لرفاعة فلا مانع من التعدد، وكون الحديث الأخير في قصة أخرى كما ذكره الحافظ ابن حجر في الكلام على قصة رفاعة فإنه قال فيها ما نصه: وهذا الحديث إن كان محفوظا فالواضح من سياقه أنها قصة أخرى، وأن كلا من رفاعة القرظي، ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق، فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير، فطلقها قبل أن يمسها، فالحكم في قصتهما متحد مع تغاير الأشخاص. وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب. . . اهـ. الدليل الثالث: ثبت في الصحيح في قصة رفاعة القرظي وامرأته، فإن فيه (فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي. . .) الحديث، وقد أخرجه البخاري تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق الثلاث) . وجه الدلالة: قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬1) : إن قولها: (فبت طلاقي) ظاهر في أنه قال لها: أنت طالق البتة. وأجاب عن ذلك فقال: قال مقيده: عفا الله عنه- الاستدلال بهذا الحديث غير ناهض فيما يظهر؛ لأن مرادها بقولها فبت طلاقي أي: بحصول الطلقة الثالثة. ويبينه أن البخاري ذكر في [الأدب المفرد] من وجه آخر أنها قالت: طلقني آخر ثلاث تطليقات، وهذه الرواية تبين المراد من قولها: (فبت ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\ 166) .

طلاقي وأنه لم يكن دفعة واحدة. وقال شيخ الإسلام (¬1) : وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة وامرأة رفاعة إنما طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في الصحيح: أن الثالثة آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا، لا هذا ولا هذا مجتمعات، وقول الصحابي: طلق ثلاثا يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها، وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة وهو المشهور على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الطلاق ثلاثا، وأما جمع الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم إنما يقع قليلا فلا يجوز حمل اللفظ المطلق على القليل المنكر دون الكثير الحق، ولا يجوز أن يقال: يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قول بلا دليل، بل هو خلاف الدليل. الدليل الرابع: ثبت في [الصحيحين] من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن: «أن فاطمة بنت قيس أخبرته: أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا، ثم انطلق إلى اليمن، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لها نفقة وعليها العدة (¬2) » . وفي [صحيح مسلم] في هذه القصة قالت فاطمة: «فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كم طلقك؟ قلت: ثلاثا. فقال: صدق، ليس لك نفقة (¬3) » . . . ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33 \ 77) (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن أبو داود الطلاق (2290) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) . (¬3) صحيح مسلم الطلاق (1480) .

وفي لفظ له: «قالت: يا رسول الله، إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي» . وفي لفظ له عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في المطلقة ثلاثا: ليس لها نفقة ولا سكنى (¬1) » . وفي [الصحيحين] أيضا عن فاطمة بنت قيس: أن أبا حفص بن المغيرة طلقها البتة وهو غائب. . . الحديث. وقد جاء تفسير هذه البتة بأنها ثلاث كما سبق. . . وفي [المسند] أن هذه الثلاث كانت جميعا (فروي من حديث الشعبي «أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة، فقال: ما لك ولابنة قيس قال: يا رسول الله، إن أخي طلقها ثلاثا جميعا (¬2) » . وذكر الحديث. وجه الدلالة: أن لفظ البتة جاء مفسرا بأنه طلقها ثلاثا وأنها مجموعة، فدل على اعتبار وقوع الثلاث مجموعة إذ لو لم يكن ذلك واقعا لبين صلى الله عليه وسلم بقاءها في عصمة زوجها فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم. وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بحديث فاطمة بنت قيس فقال (¬3) : أما حديث فاطمة بنت قيس فمن أصح الأحاديث، مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسألة قد خالفوه، ولم يأخذوا به، فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى، ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3244) ، سنن أبو داود الطلاق (2288) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2036) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي الطلاق (2274) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (6/417) . (¬3) [إغاثة اللهفان] (1\ 311- 313) .

وأصحابه. وأما الشافعي ومالك: فأوجبوا لها السكنى، والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به، فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم، وإن لم يكن محفوظا؛ بل هو غلط- كما قال بعض المتقدمين- فليس حجة علينا في جمع الثلاث، فأما أن يكون لكم على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل. هذا مع أننا نتنزل عن هذا المقام، ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به، ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به، فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة، وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك، ثم طلقها آخر ثلاث، هكذا جاء مصرحا به في [الصحيح] فروى مسلم في [صحيحه] عن عبيد الله بن عتبة - أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها. . . الحديث، فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله: (طلقها ثلاثا) . وقال الليث: عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة، وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، وساق الحديث وذكره أبو داود ثم قال: وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج، وشعيب بن أبي حمزة، كلهم عن الزهري. ثم ساق من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله

قال: أرسل مروان إلى فاطمة، فسألها، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وذكر الحديث بتمامه، والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب، كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى. فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس. قالوا: ونحن أخذنا به جميعه، ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معارض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار. وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ (طلقها ثلاثا) و (طلقها البتة) و (طلقها آخر تطليقات) و (أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها) ، و (طلقها ثلاثا جميعا) هذه جملة ألفاظ الحديث. . . وبالله التوفيق. فأما اللفظ الخامس: وهو قوله: (طلقتها ثلاثا جميعا) فهذا؛ أولا من حديث مجالد عن الشعبي، ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره، مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي، فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله: (ثلاثا جميعا) وعلى تقدير صحته فالمراد به: أنه اجتمع لها التطليقات الثلاث لا أنها وقعت بكلمة واحدة، فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال: طلقها ثلاثا جميعا، فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد، وهو الأغلب عليها، لا الاجتماع في الآن الواحد؛ لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (¬1) فالمراد: حصول الإيمان من الجميع ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية 99

لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم (¬1) . وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعد سياقه بعض روايات الحديث وتوجيه الاستدلال ورد التوجيه: قال (¬2) : ورد بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدل على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث- يعنون: لفظ البتة- والثلاث المجتمعة، والثلاث المتفرقة، لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ: طلقني ثلاثا، وفي بعضها بلفظ: طلقني البتة، وفي بعضها بلفظ: فطلقني آخر ثلاث تطليقات، فلم تخص لفظا منها عن لفظ؛ لعلمها بتساوي الصيغ، ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه. قالوا: والشعبي قال لها: حدثيني عن طلاقك، أي: عن كيفيته وحاله، فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده من إجمال من غير أن يستفسر عنه؟ ! وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث، فلو كان بينها عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها، وتثبت حتى يعلم منها بأن الصيغ وقعت بينونتها، فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده، هكذا ذكر بعض الأجلاء، والظاهر: أن هذا الحديث لا دليل فيه؛ لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى، كما هو ظاهر، والعلم عند الله تعالى. انتهى. وقد سبق في آخر الكلام على الدليل الثالث جواب مشترك لشيخ ¬

_ (¬1) [إغاثة اللهفان] (1\ 311-313) . (¬2) [أضواء البيان] (1\ 170) .

الإسلام عن الحديث الثالث، وعن هذا الحديث فيرجع إليه. الدليل الخامس: ما رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم «عن ركانة بن عبد يزيد: أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) » . ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف ركانة، أنه ما أراد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه، وممن استدل بهذا الحديث لمذهب الجمهور أبو بكر الرازي الجصاص قال: لو لم تقع الثلاث إذا أرادها لما استحلفه بالله ما أردت إلا واحدة. اهـ (¬2) . وكذلك ابن قدامة قال: ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره؛ لما روي أن «ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فقال: هو ما أردت فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3) » . رواه الترمذي والدارقطني وأبو داود وقال: الحديث صحيح. فلو لم تقع الثلاث لم يكن للاستحلاف معنى. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) . (¬2) [أحكام القرآن] (1\ 459) . (¬3) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .

اهـ (¬1) . وحديث ركانة هذا وإن تكلم فيه بعض أهل العلم فقد قبله غير واحد منهم. قال أبو الحسن علي بن محمد الطنافسي: (ما أشرف هذا الحديث) (¬2) . روى ذلك عنه ابن ماجه في (باب طلاق البتة) من سننه، بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه عن جده. وقال الحاكم بعد روايته من طريق الزبير بن سعيد هذه (¬3) : قد انحرف الشيخان عن الزبير بن سعيد الهاشمي في الصحيحين. غير أن لهذا الحديث متابعا من بيت ركانة بن عبد يزيد المطلبي، فيصح به الحديث، حدثناه أبو العباس محمد بن محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أخبرني محمد بن علي بن شافع، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني طلقت امرأتي سهيمة البتة والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهم (¬4) » ، فقد صح الحديث بهذه الرواية، فإن الإمام الشافعي قد أتقنه وحفظه عن أهل بيته، والسائب بن عبد يزيد أبو الشافع بن السائب، وهو أخ ركانة بن عبد يزيد، ومحمد بن علي بن شافع عم ¬

_ (¬1) [الكافي] (2\ 786) . (¬2) [سنن ابن ماجه] (1\ 632) . (¬3) [المستدرك] (1\ 199، 200) . (¬4) سنن أبو داود الطلاق (2206) .

الشافعي شيخ قريش في عصره. انتهى كلام الحاكم، وصححه أيضا ابن حبان، كما في [التلخيص الحبير] للحافظ ابن حجر، هذا بالنسبة لرواية الزبير بن سعيد. أما رواية نافع بن عجير فقد صححها أبو داود، كما جاء في [سنن الدارقطني] (¬1) فقد قال بعد أن ساقها: (قال أبو داود: هذا حديث صحيح) . ونقل ذلك عن الدارقطني أبو بكر ابن العربي (¬2) ، وجزم به في [العارضة] والمنذري في [مختصر سنن أبي داود] والقرطبي في [تفسيره] (¬3) واعتمد عليه وتعقب به دعوى الاضطراب في هذا الحديث. وكذلك قال الحافظ ابن حجر في [التلخيص الحبير] (صححه أبو داود) وممن ارتضى مسلك الإمام أبي داود في هذه الرواية الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، فقد قال: كما في [تفسير القرطبي] (¬4) رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم) اهـ. وأما الحافظ ابن كثير فيرى: أن الحديث حسن حسبما نقله عنه ¬

_ (¬1) [سنن الدارقطني] (2\ 439) . (¬2) [العارضة على الترمذي] (5\ 135) . (¬3) [تفسير القرطبي] (3\ 132) . (¬4) [تفسير القرطبي] (3\ 132) .

الشوكاني في [نيل الأوطار] بهذا كله ظهرت قوة رواية نافع بن عجير. . وأما إعلال رواية نافع بن عجير بدعوى جهالته فلا وجه له؛ لأن نافعا هذا بعيد من الجهالة، إذ هو نافع بن عجير بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف، القرشي، فأخو ركانة ذكره ابن حبان في [الثقات] ، وذكره بعض من صنف في الصحابة. قال الحافظ ابن حجر في [تهذيب التهذيب] : ذكره ابن حبان أيضا في الصحابة، وكذا أبو القاسم البغوي وأبو نعيم وأبو موسى في [الذيل] وغيرهم، وقد بينت أمره في مختصري في الصحابة. اهـ. ويعني الحافظ مختصره في الصحابة [الإصابة في تمييز الصحابة] وقد ذكره فيه قال: (ذكره البغوي في الصحابة) وذكر له حديثه في (البتة) وتكلم على رواياته ثم قال: (وذكره ابن حبان في الصحابة) اهـ. وممن جزم بتصحيح أبي داود لهذا الحديث المجد ابن تيمية في [المنتقى] إلا أنه عزا إليه التحسين والتصحيح معا، ونصه (¬1) . (قال أبو داود - أي: في حديث نافع بن عجير -: هذا حديث حسن صحيح) وفي جزمه هو وابن العربي والمنذري والقرطبي والحافظ ابن حجر بتصحيح أبي داود لهذه الرواية- الرد على من قال: بأن أبا داود لم يحكم بصحة حديث نافع بن عجير، وإنما قال فيه: (هذا أصح من حديث ابن جريج. . . إلخ) ، وهذا لا يدل على أن الحديث عنده صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وحديث نافع بن عجير ضعيف، وإنما يعني أبو داود أنه أصح الضعيفين عنده) اهـ. ¬

_ (¬1) [المنتقى] مع شرحه [نيل الأوطار] (6\ 227)

ومما يقوي حديث نافع بن عجير في البتة صنيع الأئمة الذين أوردوه في مصنفاتهم في الحديث، فقد قال الدارمي في [مسنده] : (باب في الطلاق البتة) وقال أبو داود: ما جاء في (البتة) وقال الترمذي: (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) . الجواب عن حديث ركانة: أما حديث ركانة فقد ضعف الإمام أحمد بن حنبل جميع طرقه، كما ذكره المنذري، وكذلك ضعفه البخاري، قال الترمذي في (باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة) من [سننه] بعد أن ساقه من طريق الزبير بن سعيد بن عبد الله بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال (¬1) : (وسألت محمدا- يعني: البخاري - عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب، ويروى عن عكرمة عن ابن عباس: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا) اهـ. وذكر الترمذي في موضع آخر (¬2) : أن حديث ركانة مضطرب فيه، تارة قيل فيه (ثلاثا، وتارة قيل فيه (واحدة) . فعلى قول هذين الإمامين أحمد بن حنبل والبخاري لا احتجاج برواية (ثلاثا) ولا برواية (البتة) بل غاية ما في الأمر أن تتساقط الروايتان المتعارضتان فيرجع إلى غيرهما، كما ذكره الزرقاني. وعلى غير ذلك المسلك الذي سلكه الإمامان: أحمد بن حنبل، ¬

_ (¬1) [مختصر سنن أبي داود] (3\ 122) . (¬2) [جامع الترمذي] (5\ 132) .

والبخاري نقول: إن لهذا الحديث روايتين: إحداهما: عند الإمام أحمد بن حنبل: (ثنا سعد بن إبراهيم، ثني أبي عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت (¬1) » قال: فراجعها فكان ابن عباس يرى: إنما الطلاق عند كل طهر. وقد أجيب عن هذه الرواية: فقال البيهقي: (إن هذا الإسناد لا تقوم به الحجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة: أن طلاق ركانة كان واحدة) يعني البيهقي بأولئك الثمانية: الذين رووا فتيا ابن عباس بخلاف ذلك: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهدا، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري، وقد ذكر رواياتهم عنه (¬2) في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك) ويعني برواية أولاد ركانة: روايتهم: أن ركانة إنما طلق امرأته البتة التي جزم أبو داود بأنها أصح؛ لأنهم أهله وهم أعلم بخبره، كما سيأتي. الثانية: ما أخرجه أبو داود في سننه، قال: حدثنا أحمد بن صالح ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/265) . (¬2) [السنن الكبرى] للبيهقي (7\ 337) .

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانه، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه [كذا وكذا من عبد يزيد، وفلان يشبه منه] كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، ثم قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته قال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: قد علمت راجعها وتلا: (¬2) » . وقد أجيب عن هذه الرواية بما يلي: 1 - إعلالها بجهالة بعض بني أبي رافع: قال الخطابي (في إسناد هذا الحديث مقال؛ لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمه والمجهول لا تقوم به الحجة) (¬3) . وقال ابن حزم: هذا لا يصح؛ لأنه عن غير مسمى من بني أبي رافع، ولا حجة في مجهول، وما نعلم في بني أبي رافع من يحتج به إلا عبيد الله ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2196) . (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬1) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3) [معالم السنن] (3\ 126) .

وحده، وسائرهم مجهولون (¬1) . وقال ابن القيم (¬2) : إن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة، عن ابن عباس، ولأبي رافع بنون، ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله بن أبي رافع، ولا نعلم هل هو هذا أو غيره؛ ولهذا- والله أعلم- رجح أبو داود حديث نافع بن عجير عليه. اهـ. وقد يقال: بأن في هذا الإعلال؛ نظرا لأن كلام أبي داود في غاية التصريح، بأن ترجيحه لحديث نافع بن عجير إنما هو لأنهم أهل بيت ركانة وأهل بيت الشخص أعلم بخبره. . . وقد استجاز الحافظ زين الدين العراقي أن يكون ذلك المجهول الفضل بن عبيد الله بن رافع (¬3) وتبعه في ذلك ابن حجر في [تقريب التهذيب] والخزرجي في [الخلاصة] لكن ذكر الحافظ ابن رجب في [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] أن ذلك الرجل الذي لم يسم في رواية عبد الرزاق: هو محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، قال ابن رجب: وهو رجل ضعيف الحديث بالاتفاق، وأحاديثه منكرة، وقيل: إنه متروك فسقط هذا الحديث حينئذ. اهـ. وأورد له الذهبي في [ميزان الاعتدال] عدة مناكير من روايته عن أبيه عن جده وقال: قال فيه يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: ¬

_ (¬1) [المحلى] (11\ 462) . (¬2) [تهذيب سنن أبي داود] (3\ 121) . (¬3) [المستفاد من مبهمات المتن والاسناد] ص 66.

منكر الحديث جدا، وقال ابن عدي: هو في عداد شيعة الكوفة اهـ. 2 - إن رواية محمد بن ثور الثقة العابد الكبير ليس فيها أنه طلقها ثلاثا وإنما فيها (إني طلقتها) وهي عند الحاكم في تفسير سورة الطلاق، قال الحاكم (¬1) : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، ثنا يزيد بن المبارك، ثنا محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ثم نكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حمية عند ذلك، فدعا ركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: أترون كذا من كذا؟ فقال: رسول الله لعبد يزيد: طلقها ففعل، فقال لأبي ركانة: ارتجعها فقال: يا رسول الله، إني طلقتها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت ذلك فارتجعها فنزلت: (¬3) » . ويرى ابن رجب تقديم رواية محمد بن ثور هذه على رواية عبد الرزاق، محتجا بأن عبد الرزاق حدث في آخر عمره بأحاديث منكرة جدا في فضائل أهل البيت وذم غيرهم، قال: وكان له ميل إلى التشيع، وهذا الحكم مما يوافق هوى الشيعة. 3 - إن في حديث ابن جريج غلطا لأن عبد يزيد لم يدرك الإسلام، ¬

_ (¬1) [المستدرك] (2\ 291) . (¬2) سنن أبو داود الطلاق (2196) . (¬3) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

نبه على ذلك الحافظ الذهبي في كتابيه [تلخيص المستدرك] و [التجريد لأسماء الصحابة] وقال (¬1) تعقيبا لقول الحاكم في حديث محمد بن ثور عن ابن جريج المتقدم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) قال: (محمد- أي: ابن عبيد الله بن أبي رافع - واه، والخبر خطأ وعبد يزيد لم يدرك الإسلام) وقال: (¬2) عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف: أبو ركانة طلق أم ركانة وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة ركانة. اهـ. 4 - حصل الحديث على أنه من قبيل الرواية بالمعنى وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة فقال بعضهم: هي ثلاثة، وقال بعضهم: هي واحدة، وكان الراوي ممن يذهب مذهب الثلاث. فحكي أنه قال: (طلقتها ثلاثا، يريد (البتة) التي حكمها عنده حكم الثلاث ذكر ذلك الخطابي (¬3) . . . وقال النووي في [شرح صحيح مسلم] : (ولعل صاحب هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ (البتة) يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى الذي فهمه وغلط في ذلك) اهـ. 5 - أن حديث عبد الرزاق لو صح متنه ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، فيحمل على أنه طلقها ثلاثا في مرات متعددة، وتكون هذه الواقعة قبل حصر عدد الطلاق في الثلاث، ذكر هذا المسلك الحافظ ابن رجب في ¬

_ (¬1) [تلخيص المستدرك] (2\ 491) . (¬2) [التجريد] ص 388. (¬3) [معالم السنن] (3\ 122) .

كتابه [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة) 6 - أن قضية ركانة من باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فإن له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، فقد قال ضمن الأحكام التي خص بها من شاء، قال: (وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل) اهـ. 7 - أن رواية أهل بيت ركانة أن ركانة طلق امرأته البتة أولى بالتقديم على رواية من يروي أنه إنما طلقها ثلاثا، وهذا مسلك أبي داود وابن عبد البر والقرطبي. قال أبو داود في (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) من [سننه] (¬1) : حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: «طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية (¬2) » . . إلى آخر الحديث المتقدم، ثم قال: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده «أن ركانة طلق امرأته البتة، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) » أصح؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به «إن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة (¬4) » . اهـ. وأوضح الأمر غاية الإيضاح في (باب في البتة) فقال: (حدثنا ابن السرح، وإبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور في آخرين: قالوا: ثنا محمد بن ¬

_ (¬1) [سنن أبي داود] (1\ 507، 508) . (¬2) سنن أبو داود الطلاق (2196) . (¬3) سنن أبو داود الطلاق (2196) . (¬4) سنن أبو داود الطلاق (2196) .

إدريس الشافعي، حدثني عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبيد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة: «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر رضي الله عنه، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنه (¬1) » . قال أبو داود: أوله لفظ إبراهيم، وآخره لفظ ابن السرح. حدثنا محمد بن يونس النسائي: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حدثهم عن محمد بن إدريس، حدثني عمي محمد بن علي عن ابن السائب، عن نافع بن عجير، عن ركانة بن عبد يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث. حدثنا سليمان بن داود العتكي، ثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، «أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أردت؟ قال: واحدة، قال: آلله؟ ! ، قال: آلله، قال: هو على ما أردت (¬2) » . قال أبو داود: وهذا أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس. اهـ. وقال ابن عبد البر في رواية الشافعي (¬3) : رواية الشافعي لحديث ركانة ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2206) . (¬2) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) . (¬3) [تفسير القرطبي] (3\ 131) .

عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة كلهم من بني المطلب بن عبد مناف، وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم. اهـ. وقال القرطبي بعد أن ذكر رواية الدارقطني حديث الشافعي من طريق أبي داود (¬1) : فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج بغيره، والله أعلم. اهـ. وممن قوى هذا المسلك الحافظ ابن حجر قال (¬2) : (إن أبا داود رجح: أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما أخرجه هو من طريق آل ركانة، وهو تعليل قوي؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل (البتة) على الثلاث فقال: (طلقها ثلاثا) فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. ولشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة لحديث ركانة هذا، ذكرها في كلامه على المقارنة الإجمالية بين أدلة الفريقين تركنا ذكرها هنا وستذكر في آخر البحث. وقد أجاب ابن القيم أيضا عن حديث ركانة فقال (¬3) : وأما حديث نافع ابن عجير الذي رواه أبو داود: «أن ركانة طلق امرأته البتة، فأحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة (¬4) » ، فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة، ولا يدرى من هو (ولا ما هو) على ابن جريج ومعمر ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\ 131) . (¬2) [فتح الباري] (9\ 297) . (¬3) [زاد المعاد] (4\ 115، 116) ، و [إغاثة اللهفان] (1\ 415، 316) . (¬4) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2206) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) .

وعبد الله بن طاوس في قصة أبي الصهباء، وقد شهد إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا. هكذا قال الترمذي في [الجامع] ، وذكر عنه في مواضع أنه مضطرب، فتارة يقول: (طلقها ثلاثا) وتارة يقول: (واحدة) وتارة يقول: (البتة) وقال الإمام أحمد: وطرقه كلها ضعيفة، وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه. ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواته على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع، وأبو رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم، وليس فيهم متهم بالكذب؟ ! . وقد روى عنه ابن جريج، ومن يقبل رواية المجهول، أو يقول: رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده، فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد- فكلا، فغاية الأمر أن يتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد، وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله: (حدثني داود بن الحصين) ولكن رواه أبو عبد الله الحاكم في [مستدركه] وقال: إسناده صحيح، فوجدنا الحديث لا علة له. وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع، وقد صحح هو وغيره بهذا لإسناد بعينه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا) وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزل الأئمة تحتج به، وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه، ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها، مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى

فيها عن بيع الرطب بالتمر، فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون- جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته، وارتضاه البخاري لإدخال حديثه في [صحيحه] .

الدليل السادس: روى الدارقطني من حديث الحسن البصري قال: «حدثنا عبد الله: أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخراوين عند القرءين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن عمر، ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السنة، والسنة: أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء، قال: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فراجعتها ثم قال: إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك، فقلت: يا رسول الله، أرأيت لو أني طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين منك وتكون معصية (¬1) » . وأجيب: بمعارضته بما رواه الدارقطني في سننه: نا محمد بن أحمد بن يوسف بن يزيد الكوفي أبو بكر ببغداد، وأبو بكر أحمد بن دارم، قالا: نا أحمد بن موسى بن إسحاق، نا أحمد بن صبيح الأسدي، نا ظريف بن ناصح عن معاوية، عن عمار الدهني، «عن أبي الزبير، قال: سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا وهي حائض؟ فقال: أتعرف ابن عمر؟ قلت: نعم. قال: طلقت امرأتي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة، ففيه دليل على أنه طلقها ثلاثا بالفعل وردت إلى الواحدة (¬2) » . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) . (¬2) سنن الترمذي الطلاق (1175) .

وأجاب القرطبي وابن رجب عن حديث تطليق ابن عمر امرأته ثلاثا وهي حائض ورد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى السنة: قال القرطبي: (¬1) ما نصه: قال الدارقطني - أي: في رواته - كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض قال عبيد الله: وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة، وكذلك قال صالح بن كيسان، وموسى بن عقبة، وإسماعيل بن أمية، وليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن جريج، وجابر، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذلك قال الزهري عن سالم، عن أبيه، ويونس بن جبير، والشعبي، والحسن. انتهى كلام القرطبي. وممن ذكر رواية الليث بن سعد مسلم بن الحجاج في [صحيحه] قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، وابن رمح، واللفظ ليحيى قال قتيبة: حدثنا ليث، وقال الآخران: أخبرنا الليث بن سعد، عن نافع «عن عبد الله أنه طلق امرأة له وهي حائض تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (¬2) » . وزاد ابن رمح في روايته: «وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله فيما أمرك من ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\ 130) . (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .

طلاق امرأتك (¬1) » . قال مسلم: جود الليث في قوله (تطليقه واحدة) يعني مسلم بذلك كما بينه النووي: أن الليث حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره، ولم يهمله كما أهمله غيره، ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره. وقد أطال الدارقطني في سرد الروايات عن الأئمة المذكورين، وأتى في ذلك بما لا يدع مجالا للشك في أن تطليقة ابن عمر لامرأته كانت واحدة، كما صرح النووي في [شرح صحيح مسلم] ، بأن الروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره: أن ابن عمر إنما طلق امرأته واحدة. وقال (¬2) الحافظ ابن رجب في الرد على رواية الثلاث أيضا: قد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقا فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال: عن جابر: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرد بقوله: (فإنها امرأته) ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) . (¬2) [جامع العلوم والحكم] ص (56، 57) شرح حديث من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.

فروى أيوب عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم: أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة. خرجه مسلم. وفي رواية: قال له ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا أفهمه. وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم، أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا ولعل أبا الزبير من هذا القبيل. ولذلك كان نافع يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك. واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم غير واقع، وأن هذا القول لا وجه له. قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض، وقال أبو عبيدة: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم ويمنهم وشامهم وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم. وقد أجاب ابن القيم عن حديث ابن عمر من رواية الحسن فقال (¬1) : وأما ¬

_ (¬1) [إغاثة اللهفان] (1\ 318) .

حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف. قال الدارقطني: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا يعلى بن منصور، حدثنا شعيب بن زريق، أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن عمر -فذكره- وشعيب وثقه الدارقطني، وقال أبو الفتح الأزدي: فيه لين، وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه. ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب البتة، ولهذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح، ولا السنن. الدليل السابع: روى الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده، قال: «طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن أبانا طلق امرأته ألفا، فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه» . قال ابن القيم: (¬1) وأما حديث عبادة بن الصامت الذي رواه الدارقطني فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء، إلا شيخنا وابن عبد الباقي. الدليل الثامن: روى الدارقطني من حديث حماد بن زيد، حدثنا ¬

_ (¬1) [إغاثة اللهفان] (1\ 317) .

عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا معاذ، من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته» . ورد بأن في إسناده إسماعيل بن أمية الذراع وهو ضعيف. قال ابن القيم: وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل، والدارقطني إنما رواه للمعرفة، وهو أجل من أن يحتج به، وفي إسناده إسماعيل بن أمية الذراع، يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته: إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث. الدليل التاسع: روى الدارقطني من حديث زاذان، عن علي رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا، أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» . ورد هذا الحديث بأن فيه إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني: كوفي ضعيف. وقال ابن القيم: قلت: وفي إسناده مجاهيل وضعفاء. وأما الإجماع: فقد نقله كثير من العلماء في مسألة النزاع، وقالوا: إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي: الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الإجماع فإنه معصوم ... وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة

واحدة، أبو بكر الرازي، والباجي، وابن العربي وابن رجب. قال أبو بكر الرازي (¬1) : فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كان معصية. وقال الباجي: من أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق. والدليل على ما نقوله: إجماع الصحابة؛ لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، ولا مخالف لهم، وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاوس، قال فيه بعض المحدثين: هو وهم، وقد روى ابن طاوس عن أبيه وكذا عن ابن وهب خلاف ذلك، وإنما وقع الوهم في التأويل. اهـ (¬2) . وقال القاضي أبو بكر بن العربي في ضمن أجوبته عن حديث ابن عباس قال: إنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة، ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان، والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] (1\ 459) . (¬2) [المنتقى] (4\ 3) .

أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ (¬1) . وقال بعد ما بين أن المراد بالطلاق في الآية الكريمة {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) المشروع قال: قد نقول بأن غيره ليس بمشروع لولا تظاهر الأخبار (¬3) ، وقال ابن رجب في (بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة) : (اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد) اهـ. ¬

_ (¬1) [الناسخ والمنسوخ] . (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) [أحكام القرآن] (1\ 81) .

وقد أجاب ابن القيم عن الاستدلال بالإجماع مبينا وجوه نقضه فقال: وبيان هذا من وجوه: أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد، فهي واحدة) وهذا الإسناد على شرط البخاري ... وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة، وأنا معهم، فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا؟ فقال: سئل عن ذلك ابن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا

غيره، قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاووسا وهو في المسجد، فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها، وأخبره بقول الزهري، قال: فرأيت طاووسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة. أخبرنا ابن جريج قال: وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا، ولم يجمع، كن ثلاثا، قال: فأخبرت طاووسا، فقال: أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة) . فقوله: (إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا) أي: إذا كن متفرقات، فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة. ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك، وأنها ثلاث، فهما روايتان عن ابن عباس بلا شك. الوجه الثاني: أن هذا مذهب طاوس، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وأنه كان يقول: يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. . وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: (إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة) . الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح. وقال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: (إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة) .

الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم. الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين، حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم، ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس «أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة (¬1) » قال أبو عبد الله: (وكان هذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنة، فيرد إلى السنة) . الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه في البكر. قال محمد بن نصر المروزي في كتاب [اختلاف العلماء] له: وكان إسحاق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة، وتأول حديث طاوس عن ابن عباس «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر يجعل واحدة (¬2) » على هذا قال: (فإن قال لها -ولم يدخل بها-: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإن سفيان وأصحاب الرأي، والشافعي، وأحمد، وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى، وليست الثنتان بشيء؛ لأن غير المدخول بها تبين بواحدة، ولا عدة عليها) . وقال مالك، وربيعة، وأهل المدينة، والأوزاعي، وابن أبي ليلى: (إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق، نسقا متتابعة، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، فإن هو سكت بين التطليقتين، بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية) . فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاثة مذاهب للصحابة والتابعين، ومن بعدهم: ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) . (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

أحدها: أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ. الثاني: أنها ثلاث، سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد، أو بثلاثة ألفاظ. الثالث: أنه إن أوقعها بلفظ واحد فهي ثلاث. وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحدة. الوجه السابع: أن هذا مذهب عمرو بن دينار في الطلاق قبل الدخول، قال ابن المنذر في كتابه [الأوسط] : وكان سعيد بن جبير، وطاووس، وأبو الشعثاء، وعطاء، وعمرو بن دينار يقولون: (من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة) . الوجه الثامن: أنه مذهب سعيد بن جبير، كما حكاه ابن المنذر وغيره عنه وحكاه الثعلبي عن سعيد بن المسيب وهو غلط عليه، إنما هو مذهب سعيد بن جبير. الوجه التاسع: أنه مذهب الحسن البصري الذي استقر عليه. قال ابن المنذر: واختلف في هذا الباب عن الحسن، فروى عنه كما رويناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر قتادة، وحميد، ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك، فقال: واحدة بائنة. وهذا الذي ذكره ابن المنذر، رواه عبد الرزاق في [المصنف] ، فقال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: سألت الحسن عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال الحسن (¬1) : وما بعد الثلاث؟ فقال: صدقت، وما بعد الثلاث؟ فأفتى الحسن بذلك زمنا، ثم رجع ¬

_ (¬1) في المطبوعة (ويحطها مقالة جناية) وعلى كل حال فالجملة غير واضحة، فلتحرر.

فقال: واحدة تبينها ... ويخطبها، فقال به حياته (¬1) . الوجه العاشر: أنه مذهب عطاء بن يسار، قال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن يعمر بن أبي عياش قال: سأل رجل عطاء بن يسار عن الرجل يطلق البكر ثلاثا، فقال: إنما طلاق البكر واحدة، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: أنت قاص، الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. فذكر عطاء مذهبه، وعبد الله بن عمرو مذهبه. الوجه الحادي عشر: أنه مذهب خلاس بن عمرو، حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف عنه. الوجه الثاني عشر: أنه مذهب مقاتل الرازي (¬2) حكاه عنه المازري في كتابه [المعلم بفوائد مسلم] قال الخطيب: حدث عن عبد الله بن المبارك، وعباد بن العوام، ووكيع بن الجراح، وأبي عاصم النبيل، روى عنه الإمام أحمد، والبخاري في [صحيحه] وكان ثقة. الوجه الثالث عشر: أنه إحدى الروايتين عن مالك. حكاها عنه جماعة من المالكية، منهم التلمساني صاحب [شرح الخلاف] ، وعزاها إلى ابن أبي زيد: أنه حكاها رواية عن مالك، وحكاها غيره قولا في مذهب مالك، وجعله شاذا. الوجه الرابع عشر: أن ابن مغيث المالكي حكاه في كتاب [الوثائق] وهو ¬

_ (¬1) وقد صحح نص الأثر من نسخة المصنف نفسه (6\ 332) . (¬2) قوله -مقاتل الرازي- كذا بالأصل المطبوع.

مشهور عند المالكية، عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المفتين على مذهب مالك، هكذا قال، واحتج لهم بأن قوله: أنت طالق ثلاثا: كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، ولم يطلق إلا واحدة، كما لو قال: حلفت ثلاثا، كانت يمينا واحدة، ثم ذكر حججهم من الحديث. الوجه الخامس عشر: أن أبا الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم اللخمي المشيطي صاحب كتاب [الوثائق] الكبير الذي لم يصنف في الوثائق مثله، حكى الخلاف فيها عن السلف والخلف حتى عن المالكية أنفسهم، فقال: وأما من قال: أنت طالق ثلاثا فقد بانت منه، قال (البتة) أو لم يقل ... قال: وقال بعض الموثقين -يريد المصنفين في الوثائق-: اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟ فالجمهور من العلماء على أنه يلزمه الثلاث، وبه القضاء، وعليه الفتوى، وهو الحق الذي لا شك فيه ... قال: وقال بعض السلف: يلزمه من ذلك طلقة واحدة، وتابعهم على ذلك قوم من الخلف من المفتين بالأندلس، قال: واحتجوا على ذلك بحجج كثيرة، وأحاديث مسطورة أضربنا عنها، واقتصرنا على الصحيح منها، فمنها: ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: «أن ركانة طلق زوجته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا في مجلس واحد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي واحدة، فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها» ثم ذكر حديث أبي الصهباء وذكر بعض تأويلاته التي ذكرناها. الوجه السادس عشر: أن أبا جعفر الطحاوي حكى القولين في كتابه [تهذيب الآثار] فقال: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا- ثم ذكر حديث

أبي الصهباء - ثم قال: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا معا، فقد وقعت عليها واحدة، إذا كانت في وقت سنة، وذلك أن تكون طاهرا في غير جماع، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لما كان الله عز وجل إنما أمر عباده أن يطلقوا لوقت على صفة، فطلقوا على غير ما أمرهم به لم يقع طلاقهم، ألا ترى لو أن رجلا أمر رجلا أن يطلق امرأته في وقت فطلقها في غيره، أو أمره أن يطلقها على شريطة فطلقها على غير تلك الشريطة أن طلاقه لا يقع إذ كان قد خالف ما أمر به ... ؟ ثم ذكر حجج الآخرين، والجواب عن حجج هؤلاء على عادة أهل العلم والدين في إنصاف مخالفيهم والبحث معهم، ولم يسلك طريق جاهل ظالم معتد، يبرك على ركبتيه ويفجر عينيه ويعول بمنصبه لا بعلمه، وبسوء قصده لا بحسن فهمه، ويقول: القول بهذه المسألة كفر يوجب ضرب العنق ليبهت خصمه ويمنعه عن بسط لسانه، والجري معه في ميدانه، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو له يوم الوقوف بين يديه عما قاله سائل. الوجه السابع عشر: أن شيخنا حكى عن جده أبي البركات: أنه كان يفتي بذلك أحيانا سرا، وقال في بعض [مصنفاته] : هذا قول بعض أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد. قلت: أما المالكية فقد حكينا الخلاف عنهم، وأما بعض أصحاب أبي حنيفة فإنه محمد بن مقاتل من الطبقة الثانية من أصحاب أبي حنيفة، وأما بعض أصحاب أحمد فإن كان أراد إفتاء جده بذلك أحيانا، وإلا فلم أقف على نقل لأحد منهم.

الوجه الثامن عشر: قال أبو الحسن النسفي (¬1) في [وثائقه] وقد ذكر الخلاف في المسألة ثم قال: ومن بعض حججهم أيضا في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أمر بتفريق الطلاق بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) وإذا جمع الإنسان ذلك في كلمة، كان واحدة وكان ما زاد عليها لغوا، كما جعل مالك رحمه الله رمي السبع الجمرات في مرة واحدة جمرة واحدة، وبنى عليها أن الطلاق عندهم مثله، قال: وممن نصر هذا القول من أهل الفتيا بالأندلس: أصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وابن زنباع، مع غيرهم من نظرائهم هذا لفظه. الوجه التاسع عشر: أن أبا الوليد هشام بن عبد الله بن هشام الأزدي القرطبي صاحب كتاب [مفيد الحكام فيما يعرض لهم من النوازل والأحكام] ذكر الخلاف بين السلف والخلف في هذه المسألة، حتى ذكر الخلاف فيها في مذهب مالك نفسه، وذكر من كان يفتي بها من المالكية، والكتاب مشهور معروف عند أصحاب مالك، كثير الفوائد جدا. ونحن نذكر نصه فيه بلفظه، فنذكر ما ذكره عن ابن مغيث، ثم نتبعه كلامه، ليعلم أن النقل بذلك معلوم متداول بين أهل العلم، وأن من قصر في العلم باعه وطال في الجهل والظلم ذراعه يبادر إلى الجهل والتكفير والعقوبة، جهلا منه وظلما، ويحق له وهو الدعي في العلم وليس منه أقرب رحما. ¬

_ (¬1) في نسخة الواسطي. (¬2) سورة البقرة الآية 229

قال ابن هشام: قال ابن مغيث: الطلاق ينقسم على ضربين: طلاق السنة، وطلاق البدعة، فطلاق السنة: هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه، وطلاق البدعة نقيضه، وهو: أن يطلقها في حيض أو نفاس، أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق، كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس، وقال: قوله: ثلاثا لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما يجوز قوله في (ثلاث) إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاثا، يخبر عن ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل قال: قرأت أمس سورة كذا ثلاث مرات، فذلك يصح. ولو قرأها مرة واحدة، فقال: قرأتها ثلاث مرات، لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، ولو قال: أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، فالطلاق مثله ومثله. قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما روينا ذلك كله عن ابن وضاح، وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع، شيخ هدى، ومحمد بن بقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخشني فقيه عصره، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة. وكان من حجة ابن عباس: أن الله تعالى فرق في كتابه لفظ الطلاق،

فقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) يريد: أكثر الطلاق الذي يمكن بعده الإمساك بالمعروف، وهو: الرجعة في العدة، ومعنى قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2) يريد تركها بلا ارتجاع حتى تنقضي عدتها، وفي ذلك إحسان إليه وإليها إن وقع ندم منهما، قال الله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬3) يريد الندم على الفرقة، والرغبة في المراجعة، وموقع الثلاث غير محسن؛ لأنه ترك المندوحة التي وسع الله تعالى بها ونبه عليها، فذكر الله سبحانه وتعالى لفظ الطلاق مفرقا، فدل على أنه إذا جمع أنه لفظ واحد، فتدبره. وقد يخرج من غير ما مسألة من الديانة ما يدل على ذلك. من ذلك قول الرجل: ما لي صدقة في المساكين: أن الثلث من ذلك يجزيه ... هذا كله لفظ صاحب الكتاب بحروفه. أفترى الجاهل الظالم المعتدي يجعل هؤلاء كلهم كفارا مباحة دماؤهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، بل هؤلاء من أكابر أهل العلم والدين، وذنبهم عند أهل العمى أهل التقليد: كونهم لم يرضوا لأنفسهم بما رضي به المقلدون، فردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله (وتلك شكاة ظاهر عنك عارها) . الوجه العشرون: أن هذا مذهب أهل الظاهر: داود وأصحابه، وذنبهم عند كثير من الناس أخذهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، ونبذهم القياس، وراء ظهورهم، فلم يعبأوا به شيئا، وخالفهم أبو محمد بن حزم في ذلك، ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة الطلاق الآية 1

فأباح جمع الثلاث وأوقعها. فهذه عشرون وجها في إثبات النزاع في هذه المسألة بحسب بضاعتنا المزجاة من الكتب، وإلا فالذي لم نقف عليه من ذلك كثير. وقد حكى ابن وضاح وابن مغيث ذلك عن علي، وابن مسعود، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس. ولعله إحدى الروايتين عنهم، وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس: الإلزام بالثلاث لمن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة، ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك. فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق. وأما الآثار ففتاوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي شيبة في [مصنفه] : نا علي بن مسهر، عن شقيق بن أبي عبد الله، عن أنس قال: كان عمر إذا أتي برجل قد طلق امرأته ثلاثا في مجلس أوجعه ضربا وفرق بينهما. نا وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب: أن رجلا بطالا كان بالمدينة طلق امرأته ألفا فرجع إلى عمر فقال: إنما كنت ألعب فعلا عمر رأسه بالدرة وفرق بينهما. نا وكيع، والفضل بن دكين، عن جعفر بن برقان، عن معاوية بن أبي يحيى، قال: جاء رجل إلى عثمان فقال: إني طلقت امرأتي مائة، قال:

ثلاث تحرمها عليك وسبعة وتسعون عدوان. نا وكيع عن الأعمش عن حبيب قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: بانت منك بثلاث، واقسم سائرها بين نسائك. نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن رجل من أهل مكة، قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي ألفا، قال: الثلاث تحرمها عليك واقسم سائرهن بين أهلك. نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي تسعة وتسعين مرة، قال: (فما قالوا لك؟) قال: قد حرمت عليك، قال: فقال عبد الله: (لقد أرادوا أن يبقوا عليك، بانت منك بثلاث وسائرهن عدوان) . نا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة؟ قال: حرمتها ثلاث، وسبعة وتسعون عدوان. نا وكيع، عن سفيان عن منصور والأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني طلقت امرأتي مائة فقال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن معصية) . نا محمد بن فضيل، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن علقمة عن عبد الله، قال: أتاه رجل فقال: إنه كان بيني وبين امرأتي كلام فطلقتها عدد النجوم، قال: (تكلمت بالطلاق؟) قال: نعم. قال: قال عبد الله: (قد بين

الله الطلاق فعمن أخذته؟ فمن طلق كما أمره الله فقد تبين له، ومن لبس على نفسه جعلنا به لبسه، لا تلبسوا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون) . نا أسباط بن محمد، عن أشعث، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من طلق امرأته ثلاثا فقد عصى ربه وبانت منه امرأته. نا محمد بن بشر أبي معشر قال: نا سعيد المقبري قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا عنده فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه طلق امرأته مائة مرة قال: (بانت منك بثلاث، وسبعة وتسعون يحاسبك الله بها يوم القيامة) . نا ابن نمير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، أتاه رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه فلم يجعل له مخرجا) . نا عباد بن العوام عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إنه طلق امرأته مائة مرة، وإنما قلتها مرة واحدة فتبين مني بثلاث أم هي واحدة؟ فقال: (بانت بثلاث وعليك وزر سبعة وتسعين) . نا وكيع عن سفيان قال: حدثني عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا ومائة قال: (بانت منك بثلاث، وسائرهن وزر اتخذت آيات الله هزوا. نا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب عن عمرو، سئل ابن عباس عن رجل

طلق امرأته عدد النجوم؟ فقال: (يكفيك من ذلك رأس الجوزاء) . نا سهيل بن يوسف عن حميد عن واقع بن سحبان قال: سئل عمران بن حصين عن رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس؟ فقال: (أثم بربه وحرمت عليه امرأته) . نا غندر، عن شعبة عن طارق، عن قيس بن أبي حازم، أنه سمعه يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة فقال: (ثلاث يحرمنها عليه وسبعة وتسعون فضل) . وقال سعيد بن منصور (¬1) : نا خالد بن عبد الله عن سعيد الجريري، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: (لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم فألزم كل نفس ما ألزمه نفسه، من قال لامرأته: أنت علي حرام فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث) . اهـ. وقال ابن عبد الهادي (¬2) : وقد جعل ابن رجب في آخر كتابه هذا في إحداث عمر للطلاق وأنه مقبول قوله فقال: فصل: أخرج البخاري من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد فإنه ¬

_ (¬1) [سنن سعيد بن منصور] القسم الأول، (3\ 259) . (¬2) [سير الحاث] ص 79، 80.

عمر (¬1) » ، وفي رواية ذكرها تعليقا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يتكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر (¬2) » وأخرج مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب (¬3) » ، وعنده قال ابن وهب: محدثون (ملهمون) وقال الترمذي عن ابن عيينة: قال: يعني: مفهمين. وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه يا رسول الله، كيف محدث؟ قال: «الملائكة على لسانه» والله أعلم. فصل: قال ابن رجب في آخر كتابه: اعلم أن ما قضى به عمر على قسمين: أحدهما: ما جمع فيه عمر الصحابة وشاورهم فيه فأجمعوا معه عليه، فهذا لا يشك أنه الحق كهذه المسألة، والعمريتين، وكقضائه فيمن جامع في إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي ومسائل كثيرة. الثاني: ما لم يجمع الصحابة فيه مع عمر، بل مختلفين فيه في زمنه، وهذا يسوغ فيه الاختلاف كمسائل الجد مع الإخوة. ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضاء بخلاف قضاء عمر، وهو على أربعة أنواع: أحدها: ما رجع فيه عمر إلى قضاء النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا عبرة فيه بقول عمر الأول. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) . (¬2) صحيح البخاري المناقب (3689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) . (¬3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2398) ، سنن الترمذي المناقب (3693) ، مسند أحمد بن حنبل (6/55) .

الثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حكمان، أحدهما ما وافق لقضاء عمر، فإن الناسخ من النصين ما عمل به عمر. الثالث: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في أنواع من جنس العبادات، فيختار عمر للناس ما هو الأفضل والأصلح، ويلزمهم به، فهذا يمنع من العمل بغير ما اختاره. الرابع: ما كان قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلة، فزالت العلة فزوال الحكم بزوالها ووجد مانع يمنع من ذلك الحكم. قال: فهذه المسألة؛ إما أن تكون من الثاني، وإما أن تكون من الرابع. وقال: لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكما ولا قضاء ولا علم ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جدا، وقد أنكره عليهم من عاصره غاية الإنكار، وكان أكثرهم يشخص بذلك ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على أخفى (¬1) دين الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك؟! هذا لا يحل اعتقاده البتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقا (¬2) للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعا. ¬

_ (¬1) في الهامش: لعل صوابه (إخفاء) . (¬2) قوله: (حقا) كذا في المطبوعة.

وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك عن فتاوى الصحابة في ذلك: فقال (¬1) : ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله - ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه؛ رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد. فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان. وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر رضي الله عنه وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك. ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\ 29- 31) .

فقال عبد الله بن مسعود: (من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم، هو كما تقولون) . فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك «تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (¬1) » ، ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع، وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفته فقد جاءتك معضلة، ثم أفتياه بالوقوع. فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه، ولبسوا على أنفسهم، ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموا، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله تعالى وتيسيره ومهلته. ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة طلقة: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬2) ¬

_ (¬1) سنن النسائي الطلاق (3401) . (¬2) سورة الطلاق الآية 2

وأتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثا فقال: (إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا) ، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: (من يخادع الله يخدعه) ، فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق فحرمت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا. فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه لهم - أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه. وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان. وقال أيضا مبينا عذر عمر رضي الله عنه (¬1) : الناس طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر رضي الله عنه ومن وافقه، وطائفة اعتذرت عن عمر رضي الله عنه ولم ترد الأحاديث فقالوا: الأحكام نوعان: النوع الأول: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. ¬

_ (¬1) [إغاثة اللهفان] (1\ 330) وما بعدها.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وساق رحمه الله طائفة من الأمثلة. ثم قال: ومن ذلك: أنه رضي الله عنه لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق الثلاث ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة - فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم؛ ليكفوا عنها. وذلك: إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس، وينفي عن الوطن، وكما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه. وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال، كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر. وإما لقيام مانع قام في زمنه، منع من جعل الثلاث واحدة، كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك فهذا وجه ثالث. ومضى إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم، وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه

عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله، لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه؟ قيل: لعمر الله! قد كان يمكنه ذلك، ولذلك ندم عليه في آخر أيامه، وود أنه كان فعله. قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في [مسند عمر] : أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر رضي الله عنه (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح) . ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي، الذي أباحه الله تعالى، وعلم بالضرورة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1) هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك؛ ولذلك قال: (إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) . وهذا كالتصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه؛ لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق، فرغب عما فسح الله ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 236

تعالى له إلى الشدة والتغليظ، فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه، فلما تبين له ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه، وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله. فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم، فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله، ولا يندفع الشر والفساد بغيره البتة. اهـ. ولشيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن فعل عمر رضي الله عنه، وكذلك من وافقه من الصحابة ترك ذكره هنا، وسيأتي كلامه في آخر البحث. وأما القياس: فقال ابن قدامة (¬1) : ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. اهـ. وقد أجاب ابن القيم عن هذا القياس: فقال (¬2) : وقولكم: إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه: هو إلى أن ¬

_ (¬1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (8\ 243) . (¬2) [إغاثة اللهفان] (1\ 306) .

يكون حجة عليكم أقرب، فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا، فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه؛ ولهذا قال من قال من السلف: (رجل أخطأ السنة، فيرد إليها فهذا أحسن من كلامهم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة) ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد، وأذن فيه متفرقا، فأراد أن يجمعه؛ كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا، واللعان الذي شرع كذلك، وأيمان القسامة التي شرعت كذلك، ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد؛ لأنه جمع ما أمر بتفريقه، على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد، ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها، ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها. وقال القرطبي: وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو: أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. نقله عنه ابن حجر العسقلاني (¬1) . ويرد عليه بأن من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (9\ 365) .

فليكن المطلق مثله، وتعقب باختلاف الصيغتين فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمر طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا. اهـ.

المذهب الثاني أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا

المذهب الثاني (¬1) : أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثا بلفظ واحد وقعت واحدة دخل بها أو لا: 1 - قال ابن الهمام (¬2) : وقال قوم: يقع به واحدة هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق، ونقل عن طاووس وعكرمة أنهم يقولون: خالف السنة فيرد إلى السنة. 2 - قال الباجي: (¬3) : وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة. وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق. انتهى المقصود. 3 - قال شيخ الإسلام في أثناء الكلام على ذكر المذاهب في ذلك (¬4) : الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم ¬

_ (¬1) يلاحظ أن المذهب الأول سبق في ص 342 من هذا الكتاب. (¬2) [فتح القدير] (3\ 65) . (¬3) [المنتقى شرح الموطأ] (4\ 3) . (¬4) [مجموع الفتاوى] (33\ 8)

مثل: طاووس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وهو قول داود وأكثر أصحابه، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد؛ ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل. اهـ. 4 - قال ابن القيم (¬1) : وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. اهـ. 5 - قال المرداوي (¬2) : وحكى -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) - عدم وقوع الطلاق الثلاث جملة، بل واحدة، في المجموعة أو المتفرقة عن جده المجد، وأنه كان يفتي به سرا أحيانا. اهـ. 6 - قال ابن القيم (¬3) : المثال السابع: أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما- كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا. فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس، كما رواه حماد ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (4\ 105) . (¬2) [الإنصاف] (8\ 453) . (¬3) [إعلام الموقعين] (4\ 24، 28، 29) .

بن زيد، عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنت طالق ثلاثا، بفم واحد فهي واحدة، وأفتى أيضا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس. وأما التابعون: فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاووس. وأما أتباع التابعين: فأفتى به محمد بن إسحاق حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي. وأما أتباع تابعي التابعين: فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو العكلي وابن حزم وغيرهما. وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض المالكية، وأفتى به بعض الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل. وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال: وكان يفتي به أحيانا. وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث، فقد صرح بأنه ترك القول به لمخالفة

راويه له. وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها: أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة راويه، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة، فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه، وعلى أصله يخرج له قول: أن الثلاث واحدة، فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي، وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث. خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير. اهـ. 7 - قال يوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي (¬1) : الفصل الرابع: في أنه إنما يقع بالثلاث للفظ الواحد واحدة، وهذه رواية عن أحمد، روايتها باطلة، لكنها قول في المذهب، حكاه الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتابه [إعلام الموقعين] ، وذكره في [الفروع] ، وقال: إنه اختيار شيخه، وهو اختياره بلا خلاف، وهو الذي إليه جنح الشيخ شمس الدين ابن القيم في كتبه [الهدي] ، و [إعلام الموقعين] ، و [إغاثة اللهفان] وقواه جدنا جمال الدين الإمام، وقد صنف فيه مصنفات، وهو اختيار شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية، وحكاه أيضا عن جده الشيخ مجد الدين وغيره. اهـ. وقال أيضا: (¬2) : الفصل الخامس -فيمن قال بهذا القول وأفتى به- ¬

_ (¬1) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 81. (¬2) [سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ضمن مجموعة علمية ص 82، 83.

وبعد أن ذكر ما سبق ذكره عن ابن القيم من [إعلام الموقعين] قال: قلت: وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم، وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه- بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرو عنه أنه أفتى بغيره. قلت: وقد كان يفتي به في زماننا الشيخ علي الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه، وقد سمعت بعض شيوخنا يقويه، وظاهر إجماع (¬1) ابن حزم أنه إجماع لكن لم يصرح به. اهـ. وقد استدل لهذا المذهب بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والقياس: الدليل الأول: قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) إلى قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) وجه الاستدلال: قال ابن عبد الهادي (¬4) : قال الشيخ جمال الدين الإمام في أول أحد كتبه: فقد حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمات في هذه المسألة ثلاثة أحكام، فمن فهمها وتصورها على حقيقة ما هي عليه -وقد أراد الله هدايته إلى قبول الحق إذا ظهر له- صح كلامه. واعلم أن كتاب الله نص صريح: أن الطلاق الثلاث واحدة شرعا لا يحتمل خلافا صحيحا، وهذا هو النص شرعا، فإن كل كلام له معنى لا ¬

_ (¬1) قبله (وظاهر إجماع ابن حزم. إلخ) هكذا بالأصل المطبوع. (¬2) سورة البقرة الآية 228 (¬3) سورة البقرة الآية 230 (¬4) [سير الحاث] ص 90 وما بعدها، ويرجع إلى ما ذكره ابن القيم في [الإغاثة] : (1\ 301) .

يحتمل غيره فهو نص فيه، فإن كان لا يحتمل غيره لغة فهو نص لغة، وإن كان لا يحتمل غيره شرعا فهو نص شرعا، وكتاب الله في هذه الآيات لا يحتمل شرعا غير أن الطلاق الثلاث واحدة. والألف واللام في قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) للعهد، والمعهود هنا هو: الطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) وهو الرجعي بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬3) فصار المعنى: الطلاق الذي الزوج أحق فيه بالرد مرتان فقط، فقد تقيد الرد الذي كان مطلقا في كل مرة من الطلاق بمرتين منه فقط فلم يعرف (¬4) ، ولا فرق في الآية بين قوله في كل مرة: طلقتك واحدة، أو ثلاثا، أو ثلاثين ألفا. ثم قال: فصل: الكلام هنا على معنى الآيات الكريمات في حكم الطلاق الثلاث جملة سواء كانت ثلاث مرات أو مائة مرة أو ثلاثين ألفا. ثم قال: وذلك أن ضمير الآيات في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (¬5) أي: إن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له بعدها، المفهوم من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬6) لا يجوز فيه شرعا غير ذلك، وهذا الحكم مختص به شرعا: أي: بتحريم المطلقة عليه حتى تنكح زوجا غيره، ويلزم أن يكون التحريم فيما بعد المرتين الأوليين، فإن كل واحدة من الأوليين له فيها الخيار بين الإمساك والتسريح بنص الآية، فيكون التقدير: فإن طلقها مرة ثالثة فلا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 228 (¬3) سورة البقرة الآية 228 (¬4) قوله: (يعرف) كذا في الأصل المطبوع. (¬5) سورة البقرة الآية 230 (¬6) سورة البقرة الآية 229

تحل له، هذا لا يحتل خلافا. قلت: هذه الآية صريحها على هذا: أن الثلاث متفرقات، والله أعلم. ثم قال: ويدل على التقدير لزوم أنه لا يجوز في الآية أن يقال: فإن طلقها فلا تحل له لا يجوز أن يكون مستقلا بنفسه، منفصلا عما قبله؛ لما في ذلك من لزوم نسخ مشروعية الرجعة في الطلاق من دين الإسلام ولا قائل به، وذلك لما فيه من عود الضمير المطلق فيه إلى غير موجود في الكلام قبله، معين له، مختص بحكمه، فيكون عاما في كل مطلق ومطلقة، ولا قائل به، وذلك أن قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (¬1) جملة مفيدة، والجملة نكرة، وهي في سياق شرط ونفي، فتعم كل مطلق ومطلقة، فيكون ذلك ناسخا لمشروعية الرد في الطلاق في دين الإسلام، ولا قائل به، فتعين أن يكون قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} (¬2) إتماما لما قبله، أي: متصلا به، ويكون الضمير فيه عائدا على موجود في الكلام قبله، ومعين له، مختص بحكم تحريمه في طلاقه إن طلق، وليس فيما قبله ما يصلح عود هذا الضمير إليه، واختصاصه بهذا الحكم من التحريم شرعا إلا المطلق المفهوم من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) لأنه لو عاد إلى من يطلق في صورة المفاداة المذكورة قبله كان التحريم مختصا بطلاق المفاداة، ولا قائل به، ولو عاد إلى من يطلق في صورة الإيلاء المذكورة قبل هذه الآيات - كان التحريم مختصا بطلاق المولي، ولا قائل به، فتعين أن يكون الضمير ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 230 (¬2) سورة البقرة الآية 230 (¬3) سورة البقرة الآية 229

عائدا إلى المطلق المفهوم من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) وهو في نظم الكلام متعين له شرعا، لا يجوز عوده إلى غيره شرعا، وأن يكون تقدير الكلام: فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقد تبين أن معنى هذا الكلام وتقديره: أن الطلاق الرجعي مرتان، فإن طلقها بعدهما مرة ثالثة فلا تحل له بعدهما حتى تنكح زوجا غيره، فلم يشرع الله التحريم إلا بعد المرة الثالثة من الطلاق، والمرة الثالثة لا تكون إلا بعد مرتين شرعا ولغة وعرفا وإجماعا، إلا ما وقع في هذه المسألة بقضاء الله وقدره. انتهى. وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى، والإجابة عنه في كلام الباجي ص 308، وما ذكر عن شيخ الإسلام في ص 313 وكلام ابن القيم في ص 318- 320. الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬2) إلى قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬3) قال ابن القيم: الاستدلال بالآية من وجوه: الوجه الأول: أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أي: لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة، وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر؛ ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬3) سورة الطلاق الآية 2

الثلاث: أنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر؛ لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة، ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه: إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة؛ لأن العدة تنقطع بذلك، فإذا طلقها بعد ذلك أخرى، طلقها للعدة، وقال في رواية أخرى عنه: له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني، ويطلقها الثالثة في الطهر الثالث، وهو قول أبي حنيفة، فيكون مطلقا للعدة أيضا؛ لأنها تبنى على ما مضى والصحيح هو الأول، وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة أو العقد؛ لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة، بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه، فإن العدة إنما تجب من الطلقة الأولى؛ لأنها طلاق العدة، بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعا، قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة. وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة: الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة: (فطلقوهن في قبل عدتهن) . قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى، فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد. وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم الثلاث بهذه الآية وساق الأثر عن ابن عباس وقد سبق.

الوجه الثاني من الاستدلال بالآية: قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬1) وهذا إنما هو في الطلاق الرجعي، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله؛ ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض. وأبو حنيفة قال: يملك ذلك؛ لأن الرجعة حقه وقد أسقطها. والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالصة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن. الوجه الثالث: أنه قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (¬2) فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما. الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬3) وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن -وهم: الصحابة- أن الأمر هاهنا هو: الرجعة، قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث. الوجه الخامس: قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬3) سورة الطلاق الآية 1 (¬4) سورة الطلاق الآية 2

فهذا حكم كل طلاق شرعه الله، إلا أن يسبق بطلقتين قبله، وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) كما تقدم -قصده رحمه الله الأثر الذي أشرنا إليه سابقا- وهذا حق، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم؛ لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى. ومضى رحمه الله إلى أن قال: فهذه الوجوه ونحوها مما بين الجمهور -أن جمع الثلاث غير مشروع- هي بعينها تبين عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة. اهـ. وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في المسألة الأولى. وأما السنة: فقد استدلوا بالأدلة الآتية: الدليل الأول: روى مسلم في [صحيحه] من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (¬1) » . وفي [صحيحه] أيضا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

(هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟) فقال: (قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) وفي لفظ لأبي داود: «أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما، فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم (¬1) » .. هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها. وفي [مستدرك الحاكم] من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة، «أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: (أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى واحدة؟) قال: (نعم) » قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء. وقد أجاب القائلون بأن الثلاث بلفظ واحد تقع ثلاثا عن حديث ابن عباس بأجوبة: الجواب الأول: أنه منسوخ، وهو قول الشافعي وأبي داود والطحاوي. قال الشافعي (¬2) : بعد سياقه لحديث أبي الصهباء: وأثر ابن عباس في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) . (¬2) [الأم] اختلاف الحديث: (7\ 301- 305) .

الذي طلق امرأته ألفا وأفتاه بوقوع الثلاث، والذي طلق مائة وقد سبقت، قال بعد ذلك: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني: أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه -والله أعلم- أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئا فنسخ. فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي فيه خلافه. فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر. قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه؟! فإن قيل: فلم لم يذكره؟ قيل: فقد يسأل الرجل عن الشيء فيجيب فيه ولا يتقصى فيه الجواب، ويأتي على الشيء ويكون جائزا له كما يجوز له، لو قيل: أصلى الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم، وإن لم يقل ثم حولت القبلة. قال: فإن قيل: فقد ذكر على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر؟ قيل - والله أعلم-: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك ما وصفت. فإن قيل: فهل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو أمر أبين مما ذكرت؟

قيل: نعم، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها وقال: والله لا آويك.. ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق. وذكر بعض أهل التفسير هذا فلعل ابن عباس أجاب: أن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق إلى الزوج وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه. قال الشافعي: وحكم الله في الطلاق أنه مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (¬2) يعني: والله أعلم الثلاث {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، وجعل حكمه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث وجعل الطلاق إلى زوجها فطلقها ثلاثا مجموعة أو مفرقة حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجا غيره كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدا أو مائة في كلمة لزمه ذلك كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرقه، مثل قوله لنسوة له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي، وقوله: لفلان علي كذا، ولفلان ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 230 (¬3) سورة البقرة الآية 230

علي كذا، ولفلان علي كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني، جميعه كلام فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه. فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟ قيل: نعم، حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة: أنه سمعها تقول: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإن ما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته قال: وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر، ألا تسمع ما تجهر به هذه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) » . قال الشافعي: فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بت طلاقها في مرات. قلت: ظاهره في مرة واحدة (وبت) إنما هي ثلاث إذا احتملت ثلاثا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك (¬2) » ولو كانت عائشة حسبت طلاقها بواحدة كان لها أن ترجع إلى رفاعة بلا زوج. فإن قيل: أطلق أحد ثلاثا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قيل: نعم، عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا قبل أن يخبره النبي أنها تحرم عليه باللعان فلما أعلم النبي نهاه. وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي صلى الله عليه وسلم: أن زوجها بت طلاقها: تعني والله ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب اللباس (5825) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3408) ، سنن أبو داود الطلاق (2309) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/38) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) . (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5260) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .

أعلم: أنه طلقها ثلاثا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لك عليه نفقة (¬1) » لأنه -والله أعلم- لا رجعة له عليها، ولم أعلمه عاب طلاقها ثلاثا معا، قال الشافعي: فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقا ظاهر القرآن وكان ثابتا - كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ليس بالبين فيه جدا. قال الشافعي: ولو كان الحديث الآخر له مخالفا كان الحديث الآخر يكون ناسخا، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدا. اهـ. وقال أبو داود في [سننه] (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) : حدثنا أحمد بن سعيد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬2) وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) ثم أورد أبو داود في نفس الباب حديث ابن طاوس عن أبيه: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم (¬4) » . وقال الطحاوي (¬5) في (باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا معا) : حدثنا روح بن الفرج، ثنا أحمد بن صالح قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3222) ، سنن أبو داود الطلاق (2284) ، سنن ابن ماجه النكاح (1869) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) . (¬2) سورة البقرة الآية 228 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2200) . (¬5) [شرح معاني الآثار] (2\ 32) .

جريج، قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أن الثلاث، كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم (¬1) » . وقال الطحاوي بعد استعراض بعض الآراء في المسألة: وفي حديث ابن عباس ما لو اكتفينا به كانت حجة قاطعة، وذلك أنه قال: فلما كان زمان عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس، قد كانت لكم في الطلاق أناة، وأنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. حدثنا بذلك ابن أبي عمران. قال: ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: أخبرنا عبد الرزاق -ح- وحدثنا عبد الحميد بن عبد العزيز قال: ثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس مثل الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، غير أنهما لم يذكرا أبا الصهباء ولا سؤاله ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما ذكرا مثل جواب ابن عباس رضي الله عنهما الذي في ذلك الحديث، وذكرا بعد ذلك من كلام عمر رضي الله عنه ما قد ذكرناه قبل هذا الحديث، فخاطب عمر رضي الله عنه بذلك الناس جميعا، وفيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، الذين قد علموا ما تقدم من ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليه منهم منكر، ولم يدفعه دافع، فكان ذلك أكبر الحجة في نسخ ما تقدم من ذلك؛ لأنه لما كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا فعلا يجب به الحجة كان كذلك أيضا إجماعهم على القول إجماعا يجب به الحجة، وكما كان إجماعهم على النقل بريئا من الوهم والزلل كان كذلك إجماعهم على الرأي بريئا من الوهم والزلل، وقد رأينا أشياء قد كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على معان فجعلها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

أصحابه رضي الله عنهم من بعده على خلاف تلك المعاني، لما رأوا فيه مما خفي على من بعدهم، فكان ذلك حجة ناسخا لما تقدمه، من ذلك تدوين الدواوين، والمنع من بيع أمهات الأولاد، وقد كن يبعن قبل ذلك، والتوقيت في حد الخمر، ولم يكن فيه توقيت قبل ذلك، فلما كان ما عملوا به من ذلك ووقفنا عليه لا يجوز لنا خلافه إلى ما قد رأيناه مما تقدم فعلهم له، كان كذلك ما وقفونا عليه من الطلاق الثلاث الموقع معا: أنه يلزم لا يجوز لنا خلافه إلى غيره مما قد روي أنه كان قبله على خلاف ذلك. انتهى المراد من كلام الطحاوي. وقال الطحاوي بعد كلامه في النسخ (¬1) : (ثم هذا ابن عباس رضي الله عنهما قد كان من بعد ذلك يفتي من طلق امرأته ثلاثا معا: أن طلاقه قد لزمه وحرمها عليه. حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا سفيان عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا، فقال: إن عمك عصى الله فأثمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. فقلت: كيف ترى في رجل يحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخادعه. حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب: أن مالكا أخبره عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير قال: طلق ¬

_ (¬1) [شرح معاني الآثار] (3\ 33) .

رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فذهبت معه أسأل له أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجا غيرك، فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب: أن مالكا أخبره عن يحيى بن سعيد: أن بكير بن الأشج أخبر عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري: أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه من قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، فاسألهما، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير: أن رجلا سأل ابن عباس وأبا هريرة وابن عمر عن طلاق البكر ثلاثا وهو معه، فكلهم قالوا: حرمت عليك. حدثنا يونس قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن عباس أنهما قالا في الرجل يطلق البكر ثلاثا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل قال: ثنا سفيان عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير: أن رجلا سأل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاث تحرمها عليه وسبعة وتسعون في رقبته، إنه اتخذ آيات الله هزوا. حدثنا علي بن شيبة، حدثنا أبو نعيم، قال ثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. حدثنا ابن مرزوق، ثنا ابن وهب، قال: ثنا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج عن مجاهد، أن رجلا قال لابن عباس: رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬1) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2) انتهى المراد من كلام الطحاوي. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 2 (¬2) سورة الطلاق الآية 1

وممن ارتضى هذا المسلك الذي هو مسلك النسخ: الحافظ ابن حجر العسقلاني في نهاية بحثه الطويل في هذه المسألة قال (¬1) : وفي الجملة: فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني: قول جابر: أنها كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث؛ للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (9\ 299) .

ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك، حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق. اهـ. واعترض المازري على ذلك، قال: (زعم بعضهم: أن هذا الحكم منسوخ وهو غلط فإن عمر لا ينسخ ولو نسخ وحاشاه لبادر الصحابة إلى إنكاره. وإن أراد القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع لكن يخرج عن ظاهر الحديث؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر ببقاء الحكم في خلافة أبي بكر وبعض خلافة عمر. قال: فإن قيل: فقد يجمع الصحابة ويقبل منهم ذلك، قلنا: إنما يقبل ذلك؛ لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ، وأما أنهم ينسخون من تلقاء أنفسهم فمعاذ الله؛ لأنه إجماع على الخطأ، وهم معصومون عن ذلك. قال: فإن قيل: فلعل النسخ إنما ظهر في زمن عمر، قلنا: هذا أيضا غلط؛ لأنه يكون قد حصل الإجماع على الخطأ في زمن أبي بكر وليس انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع على الراجح. هذا ما أورده المازري. وأجاب عليه الحافظ بقوله (¬1) : (هو متعقب في مواضع: أحدها: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ) أي: اطلع على ناسخ الحكم الذي رواه مرفوعا؛ ولذلك أفتى بخلافه، ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (9\ 298) .

وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ. الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب، فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما. الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ، وما أشار إليه من مسألة انقراض العصر لا يجيء هنا؛ لأن عصر الصحابة لم ينقرض في زمن أبي بكر، بل ولا عمر، فإن المراد بالعصر الطبقة من المجتهدين وهم في زمن أبي بكر وعمر، بل وبعدهما طبقة واحدة) . انتهى كلام الحافظ. وقد أجاب ابن القيم عن دعوى النسخ فقال (¬1) : وأما دعواكم لنسخ الحديث فموقوف على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا؟ وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنما فيه (أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد) فنسخ ذلك، وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة. فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد؟ ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر لا تعلم به الأمة، وهو من ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (4\ 117، 118) .

أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج؟! ثم كيف يقول عمر: (إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة) وهل للأمة أناة في المنسوخ بوجه ما؟ ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم. وقد أجاب عن ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فقال (¬1) : وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله واعتراف المخالف به في نكاح المتعة، فإن مسلما روى عن جابر رضي الله عنه أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا.. فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ويدعي استحالته في الأخرى مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر، ومن أجاز نسخ نكاح المتعة وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة، يقال له: ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟ فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه؟ قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث. وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة الإمام أبو داود رحمه الله تعالى، ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\ 186، 187) .

تطليقات وأكثر، قال في [سننه] : (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث) ثم ساق بسنده حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك، وقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) الآية، وأخرج نحوه النسائي، وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في [التقريب] : صدوق يهم. وروى مالك في [الموطأ] عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان طلق منهم أو لم يطلق. ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم وورعهم. يؤيده أن كثيرا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك كابن عباس وعمر وابن عمر وخلق لا يحصى. والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬4) كما جاء ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 228 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة البقرة الآية 229

مبينا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع أيضا، كما جاء في رواية عند مسلم، ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (¬1) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬2) ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية. والذين قالوا بالنسخ قالوا: معنى قول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة: أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد، ومعنى استعجالهم: أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث، وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه، وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله: (فلو أمضيناه عليهم) يعني: ألزمناهم بمقتضى ما قالوا، ونظيره قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة: (فنهانا عنها عمر) ، فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر والنسخ ثابت فيهما كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة. أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة فتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فلا يخفى بعده، والعلم عند الله تعالى. انتهى. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون الآية 5 (¬2) سورة المؤمنون الآية 6

الجواب الثاني: حمل الحديث على أن الناس اعتادوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر إيقاع المطلق الطلقة الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتابعوا فيه. فمعنى الحديث على هذا كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه المطلق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فالحديث على هذا إخبار عن الواقع لا عن المشروع. وهذا جواب أبي زرعة، والباجي، والقاضي أبي محمد عبد الوهاب، ونقل القرطبي عن الكيا الطبري أنه قول علماء الحديث ورجحه ابن العربي، وذكره ابن قدامة. أما أبو زرعة الرازي فقد نقله عنه البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبا زرعة يقول: (معنى هذا الحديث عندي أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما) (¬1) . وأما الباجي فقال (¬2) : (معنى الحديث: أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث طلقات، قال: ويدل على صحة هذا التأويل: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كان لهم فيه أناة، فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله وما عاب ¬

_ (¬1) [السنن الكبرى] (7\ 338) . (¬2) [المنتقى] (4\ 4) .

عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ويدل لصحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة، فإن كان معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه، وإن حمل حديث ابن طاوس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ... انتهى كلام الباجي. وأما القاضي فقد نقل عنه القرطبي أنه قال (¬1) : (معناه: أن الناس. كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث قال: قال القاضي: وهذا هو الأشبه بقول الراوي: إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعجل عليهم، معناه ألزمهم حكمها) . انتهى. وأما ما نسب إلى علماء الحديث فقد قال القرطبي بعد ذكره تأويل الباجي حديث ابن عباس وما أوله به أبو زرعة، قال: قلت: ما تأوله الباجي هو الذي ذكر معناه الكيا الطبري عن علماء الحديث، أي: أنهم كانوا يطلقون طلقة واحدة هو الذي تطلقون ثلاثا، أي: ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة، وإنما كانوا يطلقون في جميع العدة واحدة إلى أن تبين وتنقضي العدة. انتهى كلام القرطبي. وأما ترجيح ابن العربي فقد نقله عنه ابن حجر (¬2) . وأما ذكر ابن قدامة له فقد قال (¬3) : قيل: معنى حديث ابن عباس أن ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\ 130) . (¬2) [الفتح] (9\ 299) . (¬3) [المغني ومعه الشرح] (7\ 304) .

الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه. وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (¬1) : وأما قول من قال: إن معناه: كان وقوع الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، فإن حقيقة هذا التأويل كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا، والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد، ولا يصح ذلك بوجه ما، فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا، وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فمنهم من رد إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس، ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله، ولم يعرف ما حكم به عليهم، وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان، ومنهم من ألزمه بالثلاث؛ لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث. فلم يصح أن يقال: إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا، ولا يصح أن يقال: إنهم قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجه ما، فإنه ماض منكم على عهده بعد عهده، ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة (ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ؟ ولفظ أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (4\ 119) .

جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر؟ فقال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر فلما رأى الناس -يعني: عمر - قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم) هذا لفظ الحديث، وهو بأصح إسناد، وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما. ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل، وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل. اهـ. الجواب الثالث: حمل الحديث على غير المدخول بها: فقد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في [سننه] في الحديث مسلكا آخر وقوى جانبها عنده فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة، ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود، حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: «أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال: نعم (¬1) » . وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (¬2) : وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه، بل الترجمة لون والحديث لون آخر، وكأنه لما أشكل عليه لفظ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) . (¬2) [إغاثة اللهفان] (1\ 298) .

الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت واحدة، ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك، ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما، ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه، ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق، فالحديث لا يندفع بمثل هذا البتة. اهـ. وهناك توجيه آخر للحديث قال ابن حجر (¬1) : وهو جواب إسحاق بن راهويه وجماعة، وبه جزم زكريا الساجي من الشافعية. ووجهوه بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها: أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغى العدد لوقوعه بعد البينونة. وتعقبه القرطبي بأن قوله: أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف جعله كلمتين؟ وتعطي كل كلمة حكما؟ وقال النووي: أنت طالق معناه: أنت ذات الطلاق، وهذا اللفظ يصح تفسيره بالواحدة وبالثلاث وغير ذلك. انتهى كلام ابن حجر. وأجاب ابن القيم عن الرواية التي فيها ذكر غير المدخول بها: فقال (¬2) : ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول، وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس، فأجابه ابن عباس بما سأله عنه، ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (9\ 363) . (¬2) [إغاثة اللهفان] (1\ 285، 286) .

الدخول، فسأل عن ذلك ابن عباس وقال: (كانوا يجعلونها واحدة) ؟ فقال له ابن عباس: (نعم) أي: الأمر ما قلت، وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه. نعم، لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسؤول الجواب كان مفهومه معتبرا، وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه) لم يدل ذلك على تعيين الحكم بالسمن خاصة، وبالجملة فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء، فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬1) : وحجة هذا القول: أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا، قال في [مراقي السعود] : وحمل مطلق على ذاك وجب ... إن فيهما اتحد حكم والسبب وما ذكره الأبي رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود بأنه لا دليل عليه، وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء، ولا وجه للفرق بينهما، وما ذكره الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار] من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\ 196- 198) .

بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا. نعم، لقائل أن يقول: إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكورة وارد على سؤال أبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا من غير المدخول بها فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة الجواب للسؤال. وقد تقرر في الأصول: أن من موانع اعتبار دليل الخطاب، أعني: مفهوم المخالفة كون الكلام واردا جوابا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج المفهوم عن المنطوق، وأشار إليه في [مراقي السعود] في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله: وجهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤال أو جرى على الذي غلب ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤال. وقد قدمنا: أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاوس، وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو لا يصح الحكم بروايته، ولذا قال النووي في [شرح مسلم] ما نصه: وأما هذه الرواية لأبي داود فضعيفة رواها أيوب عن قوم

مجهولين عن طاوس عن ابن عباس فلا يحتج بها، والله أعلم انتهى منه بلفظه. وقال المنذري في [مختصر سنن أبي داود] بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: الرواة عن طاوس مجاهيل. انتهى منه بلفظه. وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في [زاد المعاد] بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه: وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد. انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم. انتهى كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. الجواب الرابع: ليس في الحديث ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل ذلك ولا أنه علم به وأقر عليه، وهذا جواب ابن المنذر وابن حزم ومن وافقهما. قال ابن القيم (¬1) : وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك من علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يفتي بخلافه، فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، إذ لو كان ذلك عن علم النبي صلى الله عليه وسلم ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه، أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس. ¬

_ (¬1) [إغاثة اللهفان] (1\ 291) .

وقال ابن حزم (¬1) : وأما حديث طاوس عن ابن عباس الذي فيه: أن الثلاث كانت واحدة وترد إلى الواحدة وتجعل واحدة فليس شيء منه أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي جعلها واحدة أو ردها إلى الواحدة، ولا أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك فأقره، ولا حجة إلا فيما صح أنه عليه الصلاة والسلام قاله أو فعله أو علمه فلم ينكره، وإنما يلزم هذا الخبر من قال في قول أبي سعيد الخدري «كنا نخرج في زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من كذا، وأما نحن فلا (¬2) » ) . انتهى كلام ابن حزم. وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال (¬3) : سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الخلق، وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو، والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه، فهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه، وأصحابه يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه، والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به، ثم يتوفى الله رسوله والأمر على ذلك، فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها، ويعمل به ولا يغيره إلى أن فارق الصديق الدنيا، واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك رأيه أن يلزم الناس بالصواب، فهل في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من ¬

_ (¬1) [المحلى، (10\ 462، 463) . (¬2) صحيح البخاري الزكاة (1506) ، صحيح مسلم الزكاة (985) ، سنن الترمذي الزكاة (673) ، سنن النسائي الزكاة (2513) ، سنن أبو داود الزكاة (1616) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/98) ، موطأ مالك الزكاة (628) ، سنن الدارمي الزكاة (1664) . (¬3) [زاد المعاد] (4\ 120) .

هذا؟ وتالله لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطأ الذي ارتكبتموه، والتأويل الذي تأولتموه، ولو تركتم المسألة بهيأتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة. وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬1) ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره. الجواب الخامس: ما ذكره المجد قال: وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق - فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاثا إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد فلما رأى عمر في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) . انتهى كلام المجد. وهذا جواب ابن سريح كما قاله الخطابي (¬2) والمنذري (¬3) . ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\ 196) . (¬2) [معالم السنن] (3\ 27) . (¬3) [المختصر] للمنذري (3\ 1126) .

وقال ابن حجر (¬1) : هذا الجواب ارتضاه القرطبي، وقواه بقول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وكذا قال النووي: إنه أصح الأجوبة. وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (¬2) : وأما حملكم الحديث على قول المطلق: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده، فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف على عهده وعهد خلفائه، وهلم جرا ... آخر الدهر، ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب، بل يرده إلى نيته، وكذلك من لا يقبله في الحكم مطلقا برا كان أو فاجرا. وأيضا فإن قوله: (إن الناس قد استعجلوا وتتابعوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم؛ لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يده من أول وهلة فيعز عليه تداركه فجعل له أناة ومهلة يستعتبه فيها ويرضيه، ويزول ما أحدثه الغضب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف، فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد، فرأى عمر أن يلزمهم ما التزموا عقوبة لهم، فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول ¬

_ (¬1) [الفتح] (9\ 298) . (¬2) [زاد المعاد] (4\ 118، 119) .

مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه، وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث ... هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستنكر المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره؟! ويمكن أن يجاب عن جواب ابن القيم بما قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قال (¬1) : وللجمهور عن حديث ابن عباس هذا عدة أجوبة: الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات في وقت واحد فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات. وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة: من أين أخذت كونها بكلمة واحدة، فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة؟ فإن قال: لا يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة وعلى ما أوقع بكلمات متعددة وهو أسعد بظاهر اللفظ. ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\180-183) .

قيل له، وإذا فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع. ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة: أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه، ما فهم من هذا الحديث- إلا أن المراد بطلاق الثلاث لفظه: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات؛ ولذا ترجم في [سننه] لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث، وقد سبق في الوجه الثالث ثم قال: فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه الله - في [زاد المعاد] في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة بحديث عائشة: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت الحديث. فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا إلا من فعل، وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم، كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا. اهـ. بلفظه. وهو دليل واضح لصحة ما فهمه النسائي - رحمه الله - من الحديث، لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة

كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة آنفا. . . وبعد أن نقل كلام ابن سريج وأن القرطبي ارتضى هذا الجواب، ونقل عن النووي جوابه عنه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كله في أول الجواب. ثم قال: قال مقيده - عفا الله عنه -: وهذا الوجه لا إشكال فيه لجواز تغيير الحال عند تفسير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا. وعلى كل حال فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور: أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت، فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى. قال مقيده - عفا الله عنه -: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم من حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس، عند أحمد وأبي يعلى، من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: كيف طلقتها؟ قال: ثلاثا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال: بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب كما هو ظاهر. انتهى كلام الشيخ الشنقيطي. الجواب السادس: عن حديث طاوس عن ابن عباس: أن سائر أصحاب ابن عباس رووا عنه إفتاءه بخلاف ذلك، وما كان ابن عباس ليروي

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، بل المعروف عنه أنه كان يقول: (أنا أقول لكم: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر) قاله في فسخ الحج وغيره؛ ولهذا اتجه الإمام أحمد بن حنبل إلى دفع حديث طاوس هذا بما رواه سائر أصحاب ابن عباس عن ابن عباس، قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة بأي شيء تدفعه، قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور. ذكر جميع ذلك الإمام ابن القيم (¬1) وجاء في مسودة آل تيمية ما نصه (¬2) : (وفيه، أي: معاني الحديث للأثرم أيضا في حديث ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال أبو عبد الله: أدفع هذا الحديث بأنه قد روي عن ابن عباس خلافه من عشرة وجوه، أنه كان يرى طلاق الثلاث ثلاثا) اهـ. وقال البيهقي في (باب من جعل الثلاث واحدة وما ورد في خلاف ذلك) (¬3) : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم، فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس. . . ومنها: ما أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، نا أبو العباس ¬

_ (¬1) [إغاثة اللهفان] (1\158، 159) . (¬2) [المسودة] (242) . (¬3) [السنن الكبرى] (7\337، 338) .

محمد بن يعقوب، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد: أن سعيد بن جبير أخبره، أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال: طلقت امرأتي ألفا، فقال: تأخذ ثلاثا وتدع تسعمائة وسبعا وتسعين، ورواه عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا: حرمت عليك. وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قالا: نا أبو العباس، نا الربيع، نا الشافعي، نا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن ابن جريج عن مجاهد قال: قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي مائة، قال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو بن مطر، نا يحيى بن محمد، نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة عن ابن أبي نجيح وحميد الأعرج، عن مجاهد قال: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬1) (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وعبيد بن محمد بن محمد بن مهدي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع، عن عطاء: أن رجلا قال لابن عباس: طلقت امرأتي مائة فقال: تأخذ ثلاثا وتدع سبعا وتسعين، وأخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق أنا حسين بن محمد، نا ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 2

جرير بن حازم، عن أيوب عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: إنما يكفيك رأس الجوزاء. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا ابن نمير عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: أتاني رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فأندمه الله وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا. قال: أفلا يحللها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه. أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنا أبو بكر بن جعفر المزكي، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا ابن بكير، نا مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن البكير أنه قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له، فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس عن ذلك فقالا له: لا نرى أن تنكحها حتى تزوج زوجا غيرك. قال: فإنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير، ورواية عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس، أنه أجاز الطلاق بالثلاث وأمضاهن. . . انتهى كلام البيهقي - رحمه الله تعالى -. وقد أجاب ابن القيم عن ذلك فقال (¬1) : لا يترك الحديث الصحيح ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\31) وما بعدها.

المعصوم لمخالفة راويه له فإن مخالفته ليست معصومة، وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة: «من استقاء فعليه القضاء (¬1) » ، وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه- وذكر جملة أمثلة نسبها إلى الحنابلة والحنفية والمالكية والشافعية، إلى أن قال - رحمه الله -: والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راويه ولا غيره، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه. ولو قدر بانتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. اهـ. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الوجه (¬2) : قال مقيده- عفا الله عنه-: فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب الصوم (720) ، سنن أبو داود الصوم (2380) ، سنن ابن ماجه الصيام (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) ، سنن الدارمي الصوم (1729) . (¬2) [أضواء البيان] (1\189- 191) .

أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -، قال للأثرم وابن منصور: أنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - وهو هو- ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك. فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف. فالجواب: أن الصحابي إذا خالف ما روى ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد - رحمه الله -: الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به وهو عدل عارف وعلى هذه الرواية فلا إشكال. وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء: أن العبرة بروايته لا بقوله فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا، فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا؛ لأن تكون الطلقات مفرقة، كما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج. فالحاصل: أن ترك ابن عباس لجعل ثلاث بفم واحد واحدة يدل على

أن معنى الحديث الذي روى ليس كونها بلفظ واحد. . . واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى بالثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة: أن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة: أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحافظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة. انتهى.

الجواب السابع: حمل الثلاث فيه على أن المراد بها: لفظ البتة، وكان يراد بها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أراد بها ركانة ثم تتابع الناس فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها. وهذا جواب الخطابي وقواه ابن حجر، قال الخطابي (¬1) : ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة؛ لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه جعلها ثلاثا، وكذلك روي عن ابن عمر، وكان يقول: أبت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن ¬

_ (¬1) [معالم السنن] (3\237، 238) .

حنبل، وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أربعين، ثم إن عمر لما رأى الناس تشايعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها قال: أرى أن تبلغ فيها حد المفتري؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وكان ذلك على ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق (البتة) على شاكلته. انتهى كلام الخطابي. وقال ابن حجر (¬1) : هو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب الآثار التي فيها (البتة) والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن (البتة) إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إن أراد المطلق واحدة فيقبل فكأن بعض رواته حمل لفظ (البتة) على الثلاث لاشتهار التسوية بينهما فرواها بلفظ الثلاث وإنما المراد لفظ البتة وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال: أردت بالبتة الواحدة، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. انتهى كلام الحافظ ابن حجر. الجواب الثامن: حمل الحديث على أنه شاذ وقد حمله على ذلك جماعة من أهل العلم، فقال ابن عبد الهادي: قال ابن رجب في كتاب [مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة] وساق حديث ابن عباس، ثم قال (¬2) : هذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان: أحدهما: وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، ويرجع الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (9\299) . (¬2) [سير الحاث] ص 74.

الراوي بالحديث، وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذا ومنكرا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ كالإمام أحمد ويحيى القطان ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاوس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس، يعني: رووا عنه خلاف ما روى طاوس. وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، قال: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا. قال المصنف: ومتى أجمع الأمة على إطراح العمل بحديث وجب اطراحه وترك العمل به، وقال ابن مهدي: لا يكون إماما في العلم من عمل بالشاذ. وقال النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث. وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة فإن عرف وإلا فدعه، وعن مالك قال: (شر العلم الغريب) وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس وفي هذا الباب شيء كثير لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور.. قال ابن رجب: وقد صح عن ابن عباس - وهو راوي الحديث - أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي، كما ذكره في [المغني] ، وهذه أيضا علة في الحديث بانفرادها فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة؟! وقال القاضي إسماعيل في كتاب [أحكام القرآن] : طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب

من كثرة خطأ طاوس وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث. قال ابن رجب: وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل. انتهى المقصود. الثاني: أنه منسوخ، وقد سبق ما يغني عن إعادته. ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال (¬1) : رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب.. قال: وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. ونقل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن ابن العربي المالكي ما يختص بحديث ابن عباس هذا فقال (¬2) : فإن قيل: ففي [صحيح مسلم] ، عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور؟ قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه [منها] (¬3) : الأول: أنه حديث مختلف في صحته، فكيف يقدم على إجماع الأمة ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين، وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\129) . (¬2) [أضواء البيان] (192) . (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة من الناشر. ا. هـ.

تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. الثاني: أن هذا الحديث لم يرد إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا عن طريق طاوس فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس، وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاوس؟ انتهى محل الغرض من كلام ابن العربي انتهى. وقال ابن حجر (¬1) : الجواب الثاني: دعوى شذوذ رواية طاوس وهي طريقة البيهقي فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ويفتي بخلافه، فيتعين المصير إلى الترجيح والأخذ بقول الأكثر أولى من الأخذ بقول الواحد إذا خالفهم. انتهى. وقال ابن التركماني: وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه، وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. انتهى. وقد أجاب ابن القيم عن ذلك: فقال بعد عرضه لهذا المسلك (¬2) وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات ¬

_ (¬1) [الفتح] (9\363) . (¬2) [إغاثة اللهفان] (1\295، 296) .

بمثل هذا، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة، ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء. قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة، لم يروها غيره، وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده، هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما- حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه، فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض، فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه. فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل: ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به، لم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذا. وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده، ولا مسوغا له. قال الشافعي: (وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث، بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات) قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به.. ثم إن هذا القول لا يمكن أحدا من أهل العلم، ولا من الأئمة، ولا من أتباعهم طرده، ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم،

والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة، انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد. وبعد ما ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كلاما يتفق مع ما سبق ذكره عن ابن القيم قال (¬1) : نعم، لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه- أن ذلك يدل على عدم صحته، ووجهه: أن توفر الدواعي يلزم منه النقل تواترا والاشتهار، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة مقررة في الأصول أشار إليها في [مراقي السعود] بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر: (وخبر الآحاد في السنى) . حيث دواعي نقله تواترا ... نرى لها لو قاله تقررا وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب [جمع الجوامع] عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اهـ منه بلفظه. ومراده: أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله. وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة. اهـ. محل ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\193-195) .

الغرض منه بلفظه. وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول. قال مقيده- عفا الله عنه-: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك، فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمسلمون من بعده متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره؛ لأن (¬1) يرد بذلك التغيير الذي أحدثه عمر فسكوت جميع الصحابة عنه، وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج، وعليه فلا إشكال؛ لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم، والنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (¬2) » ، فمن قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى التأكيد فواحدة، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث، واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «وإنما لكل امرئ ما نوى (¬3) » . ¬

_ (¬1) قوله: (لأن) كذا بالأصل المطبوع. (¬2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) . (¬3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله. والأول أولى وأخف من الثاني. وقال القرطبي في [المفهم] في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي النقل عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إن لم يقتض القطع ببطلانه. اهـ. بواسطة نقل ابن حجر في [فتح الباري] عنه وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى. انتهى. الجواب التاسع: أن الحديث مضطرب، نقل هذا الجواب ابن حجر عن القرطبي (¬1) وذكر ابن القيم هذا الجواب وناقشه: فقال (¬2) : وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر، فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح، ولذلك أعرض عنه البخاري، وترجم في [صحيحه] على خلافه فقال: (باب في من جوز الطلاق الثلاث في كلمة) لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) ثم ذكر حديث اللعان وفيه: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ولم يغير عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وهو لا يقر على باطل) . ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (9\364) . (¬2) [إغاثة اللهفان] (1\293- 295) (¬3) سورة البقرة الآية 229

قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروي عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند. وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: (ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة) وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة، فهذا يخالف اللفظ الآخر، وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه، والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه. ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته، وكيف يتهيأ القدح في صحته، ورواته كلهم أئمة حفاظ، حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاووس، وحدث به ابن طاوس عن أبيه، وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن، وطاووس من أخص أصحاب ابن عباس، ومذهبه: أن الثلاث واحدة، وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس، فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن جريج ولا عبد الله بن طاوس، فالحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه: [الجامع المختصر الصحيح] ، ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم.

وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة- وهو الظاهر- فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، فإنه كان سيئ الحفظ، والحفاظ قالوا: (أبو الصهباء) وهذا لا يوهن الحديث، وهذه الطريق عند الحاكم في [المستدرك] ، وأما رواية من رواه مقيدا (قبل الدخول) فإنه تقدم أنه لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه، فإن تعارضا فهذه الرواية أولى، وإن لم يتعارضا فالأمر واضح. وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء أن قوله: (قبل الدخول) زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى، وحينئذ فيدل أحد حديثي ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر، وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوي الآخر ويشهد بصحته، وبالله التوفيق. الجواب العاشر: أن حديث ابن عباس معارض بالإجماع، والإجماع أقوى من خبر الواحد كما ذكر ذلك الشافعي وغيره، وقد سبق استدلال الجمهور بالإجماع مع ذكر أدلتهم لمذهبهم وبيان من قال به ومناقشة ابن القيم له، فاكتفي بذلك عن الإعادة هنا. الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في [المسند] قال: حدثنا سعد بن

إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: فإنما تلك واحدة، فارجعها إن شئت قال: فراجعها (¬1) » ، فكان ابن عباس يروي الطلاق عند كل طهر. قال ابن القيم (¬2) ، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد) : هذا حديث ضعيف، أو قال: واه لم يسمعه الحجاج عن عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي، والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الذي رواه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أقرها على النكاح الأول، وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد، هذا وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه؟ ثم ساق رواية أبي داود وستأتي، وهي الدليل الثالث، ثم قال ابن القيم: قال شيخنا - رضي الله عنه -: وأبو داود لما لم يرو في [سننه] الحديث الذي في [مسند أحمد] يعني: الذي ذكرناه آنفا فقال: حديث البتة أصح من حديث ابن جريج: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا؛ لأنهم أهل بيته، ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) . (¬2) [إعلام الموقعين] (3\40) .

ولكن الأئمة الأكابر العارفين بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث البتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين أنه الصواب وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاث البتة. قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث ركانة في البتة فضعفه انتهى. وقد سبق الكلام على رواية الإمام أحمد لحديث ركانة وكذلك رواية الزبير بن سعيد، ورواية نافع بن عجير عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية. الدليل الثالث: قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس قال: «طلق عبد يزيد- أبو ركانة وإخوته- أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: "أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا لابنه الآخر يشبه من كذا وكذا"؟ قالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد يزيد: "طلقها" ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: وتلا

(¬2) » . وقد سبقت مناقشة رواية أبي داود عند الكلام على الدليل الخامس لمذهب الجمهور في المسألة الثانية فاكتفي بما هناك عن إعادته هنا. الدليل الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا فاحتسب بواحدة، وقد سبقت مناقشة حديث ابن عمر برواياته، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة، وذلك عند الكلام على الدليل السادس فاكتفي بما ذكر هناك عن إعادته هنا. وأما الإجماع فممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء، فقد بينوا أن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة في عهد أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر. ويمكن أن يجاب عنه بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة في أن الثلاث بلفظ واحد تكون ثلاثا وقد سبقت. وأما القياس فقد قال ابن القيم (¬3) : وأما القياس فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (¬4) ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (¬5) فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق، وقالت: أشهد بالله ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2196) . (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬1) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3) [إغاثة اللهفان] (1\289) (¬4) سورة النور الآية 6 (¬5) سورة النور الآية 8

أربع شهادات أنه كاذب: كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا، فكيف يكون قوله: أنت طالق ثلاثا ثلاث تطليقات، وأي قياس أصح من هذا؟! وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه؛ ولهذا لو قال المقر بالزنا: إني أقر بالزنا أربع مرات كان ذلك مرة واحدة، وقد قاله الصحابة لماعز: (إن أقررت أربعا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فلو قال: أقر به أربع مرات كان مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء. وقد أجاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن هذا القياس فقال (¬1) : وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلا، بخلاف الطلقات الثلاث، فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا، وحصلت بها البيونة بانقضاء العدة إجماعا. وأما الآثار: فما جاء عن الصحابة في ذلك، فقد روى طاوس وعكرمة عن ابن عباس الإفتاء بذلك، ورواية طاوس عند أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ، ورواية عكرمة عند أبي داود من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، وحكى ابن وضاح وعنه ابن مغيث الإفتاء بكون الطلاق الثلاث في كلمة واحدة واحدة عن علي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف. وجاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر قال: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (1\195، 196) .

صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر - رضي الله تعالى عنه -: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح) ، وكذلك ما نقل من الآثار عن أهل البيت. ويضاف إلى هذه الآثار ما سبق ذكره من الآثار مما لم يذكر هنا، وذلك في الكلام على وفي استدلال الجمهور بالإجماع. وأجيب عن تلك الآثار بما يأتي: أما ما روى طاوس عن ابن عباس أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إنما تلزمه طلقة واحدة فقد اعتبره أبو جعفر النحاس من مناكير طاوس التي خولف فيها طاوس (¬1) قال: وطاووس وإن كان رجلا صالحا فعنده عن ابن عباس مناكير يخالف عليها ولا يقبلها أهل العلم، منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال في رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا: إنما تلزمه واحدة ولا يعرف هذا عن ابن عباس إلا من روايته، والصحيح عنه وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما: أنها ثلاث، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} (¬2) أي: الثالثة. وأما ما روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: (إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة) فقد تعقبه أبو داود في [سننه] ¬

_ (¬1) [الناسخ والمنسوخ] ص71 (¬2) سورة البقرة الآية 230

بقوله: ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، ولم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة. وعلى فرض ثبوتها فقد رجع ابن عباس عن ذلك، كما صرح أبو داود قال (¬1) : وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، وهذا حديث أحمد قالا: نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس: أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا، فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، قال أبو داود: وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير بن الأشج عن معاوية بن أبي عياش: أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير إلى ابن الزبير وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك فقالا: اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة - رضي الله عنها - ثم ساق هذا الخبر. قال أبو داود: وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث يبينهما من زوجها، مدخولا بها أو غير مدخول بها- لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. هذا مثل خبر الصرف قال فيه: ثم إنه رجع عنه، يعني: ابن عباس. اهـ (¬2) . وقد ساق في الباب الذي أورد فيه ذلك وهو باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث آثارا عن سائر أصحاب ابن عباس بخلاف ما ذكر عن طاوس وعكرمة، حيث قال: حدثنا حميد بن مسعدة، نا إسماعيل، أنا ¬

_ (¬1) [عون المعبود شرح سنن أبي دواد] (2\226، 227) . (¬2) [عون المعبود شرح سنن أبي دواد] (2\226، 227) .

أيوب، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬1) وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2) قال أبو داود: روى هذا الحديث حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن ابن عباس ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب وابن جريج جميعا عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع عن عطاء عن ابن عباس، ورواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس، وابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس كلهم قالوا في الطلاق الثلاث: إنه أجازها، قال: وبانت منك، نحو حديث إسماعيل عن أيوب عن عبد الله بن كثير. اهـ. وقال الباجي: بخصوص ما نقل عن ابن عباس من فتواه بأن الثلاث بفم واحد واحدة (¬3) ما نصه: قد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع. اهـ. وأما ما نقله أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث الطليطلي عن ابن وضاح، من أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 2 (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬3) [المنتقى] (4\4) .

وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم - قد أفتوا بأن من طلق ثلاثا في كلمة واحدة لا يلزمه سوى طلقة واحدة، فيتوقف الاستدلال به على ثبوت السند إليهم بذلك ولم يثبت. وقد تعقبه أبو بكر بن العربي في كتابه [الناسخ والمنسوخ] ونقله عنه ابن القيم قال (¬1) : قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة المغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه، وقالوا: إن قوله: أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة، وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة. ومر أبو بكر بن العربي إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد، وقد أدخل مالك في [موطئه] عن علي: أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة فهذا في معناها، فكيف إذا صرح بها!؟ وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة، ولا عند أحد من الأئمة. قال ابن العربي: لم يعرف في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان بالاتفاق على لزوم الثلاث، ¬

_ (¬1) [مختصر سنن أبي دواد ومعه التهذيب والمعالم] (3\128) . (¬2) سورة البقرة الآية 229

فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم نقل العدل عن العدل، ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا. اهـ. ذكر ابن القيم ذلك في [إغاثة اللهفان] (¬1) بقوله: (لعله إحدى الروايتين عنهم وإلا فقد صح بلا شك عن ابن مسعود وعلي وابن عباس الإلزام بالثلاث إن أوقعها جملة، وصح عن ابن عباس أنه جعلها واحدة ولم نقف على نقل صحيح عن غيرهم من الصحابة بذلك؛ فلذلك لم نعد ما حكي عنهم في الوجوه المبينة للنزاع، وإنما نعد ما وقفنا عليه في مواضعه ونعزوه إليها، وبالله التوفيق) انتهى. كلام ابن القيم. وقال البيهقي في [السنن الكبرى] في عزو ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬2) ، أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، نا محمد بن عبد الوهاب بن هشام، نا علي بن سلمة اللبقي، نا أبو أسامة عن الأعمش قال: كان بالكوفة شيخ يقول: سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة والناس عنقا واحدا إذ ذلك يأتونه ويسمعون منه، قال: فأتيته فقرعت عليه الباب، فخرج إلي شيخ فقلت له: كيف سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: فيمن طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فإنه يرد إلى واحدة، ¬

_ (¬1) [إغاثة اللهفان] ص 179. (¬2) [السنن الكبرى] (7\339، 340) .

قال. فقلت له: أين سمعت هذا من علي - رضي الله تعالى عنه -؟ قال أخرج إليك كتابا، فأخرج فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما سمعت علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. قال: فقلت: ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك) اهـ. وأما ما روى أبو يعلى عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - من قوله: (ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق) ... إلخ، فلا يصلح الاحتجاج به على أن عمر قد ندم آخر حياته على إمضاء الثلاث لأمرين: أحدهما: أن يزيد بن أبي مالك لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، وقد قال الحافظ الذهبي في [ميزان الاعتدال] ، في يزيد بن أبي مالك: صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك. وذكره الحافظ ابن حجر في [تعريف أهل التقديس بالموصوفين بالتدليس] وقال: وصفه أبو مسهر بالتدليس. الثاني: أن خالد بن يزيد بن أبي مالك وهاه ابن معين، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال النسائي: غير ثقة، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي عن ابن أبي عصمة عن أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: خالد بن يزيد بن أبي مالك ليس بشيء، وقال ابن أبي الحواري: سمعت ابن معين يقول بالعراق: كتاب ينبغي أن يدفن: كتاب [الديات]

لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة، قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت هذا الكتاب من خالد ثم أعطيته العطار فأعطى الناس فيه حوائج. وفي [تهذيب التهذيب] للحافظ ابن حجر: قال ابن حبان: كان صدوقا في الرواية، ولكنه كان يخطئ كثيرا، وفي حديثه مناكير لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد عن أبيه، وقال أبو داود: ضعيف، وقال مرة: متروك الحديث، وذكره ابن الجارود والساجي والعقيلي في الضعفاء. اهـ. وأجيب عما نقل عن أهل البيت النبوي في اعتبار الطلاق الثلاث في كلمة واحدة: بما رواه البيهقي (¬1) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السمان ببغداد، أنا حنبل بن إسحاق بن حنبل، نا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، نا مسلمة بن جعفر الأحمسي، قال: قلت لجعفر بن محمد: إن قوما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونها واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا: (من طلق ثلاثا فهو كما قال) وأخبرنا أبو عبد الله، نا أبو محمد الحسن بن سليمان الكوفي ببغداد، نا محمد بن عبد الله الحضرمي، نا إسماعيل بن بهرام، نا الأشجعي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد بانت منه. اهـ. ونقل السياغي عن صاحب [الأمالي] أنه قال (¬2) : حدثنا أبو كريب عن ¬

_ (¬1) [السنن الكبرى] (7\340) . (¬2) [الروض النظير] (4\387) .

حفص بن غياث قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من طلق ثلاثا فهي ثلاث، وهو قولنا: أهل البيت) ثم ذكر رواية البيهقي عن شيخه الحاكم المتقدمة. وقال السياغي من [الروض النضير] ، في وقوع الطلاق بائنا بإرساله ثلاثا بلفظ واحد قال (¬1) : وهو مذهب جمهور أهل البيت، كما حكاه محمد بن منصور عنهم في [الأمالي] بأسانيده، وروى في [الجامع الكافي] عن الحسن بن يحيى قال: رويناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن علي - عليه السلام - وعلي بن الحسين، وزيد بن علي، ومحمد بن علي الباقر، ومحمد بن عمر بن علي، وجعفر بن محمد، وعبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله، وخيار آل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ثم قال الحسن: أجمع آل الرسول على أن الذي يطلق ثلاثا في كلمة واحدة أنها قد حرمت عليه، وسواء كان قد دخل بها الزوج أو لم يدخل، ورواه في [البحر] عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبي هريرة وعن علي - عليه السلام - والناصر والمؤيد بالله وتخريجه، والإمام يحيى والفريقين ومالك وبعض الإمامية. قال ابن القيم: وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. اهـ. وذهب إليه ابن حزم في [المحلى] وأطال الاحتجاج عليه. انتهى المراد من [الروض النضير] . ¬

_ (¬1) [الروض النظير] (4\379) .

المذهب الثالث يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة

المذهب الثالث: يقع في المدخول بها ثلاثا وبغير المدخول بها واحدة: وذكر ابن القيم أنه أخذ بالحديث الوارد في التفرقة: إسحاق بن راهويه وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها. وهذا المذهب مبني على ما رواه أبو داود في [سننه] : أن رجلا يقال له: أبو الصهباء وكان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما -؟ فقال ابن عباس: (بلى «كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدر من إمارة عمر - رضي الله تعالى عنهما - فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجروهن عليهم (¬1) » . قال ابن القيم: رأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها، وحديث أبي بالصهباء في غير المدخول بها، قالوا: ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس. انتهى. وقد سبقت مناقشة هذا الدليل في الجواب الثالث من الأجوبة على حديث ابن عباس، وهو الدليل الأول للمذهب الثاني. . . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

المذهب الرابع عدم وقوع الطلاق مطلقا

المذهب الرابع: عدم وقوع الطلاق مطلقا: لأن إيقاع الطلاق على ذلك الوجه بدعة محرمة فهو مردود لحديث: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1) » وقد حكي هذا القول للإمام أحمد فأنكره وقال: (هو قول الرافضة) ، كما نص عليه ابن القيم في [زاد المعاد] وذكر بأن القول بعدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية، قال: وحكوه عن جماعة من أهل البيت، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (الفرق بين الطلاق الحلال والحرام) أن القول بعدم الوقوع محدث مبتدع، قاله بعض المعتزلة والشيعة ولا يعرف عن أحد من السلف. اهـ. وقال ابن رجب في كتابه [جامع العلوم والحكم] في شرحه لحديث: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬2) » : قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث وسئل عمن قال لا يقع الطلاق المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به فقال: (هذا قول سوء رديء) ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض. وقال أبو عبيد: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار حجازهم وتهامهم، ويمنهم وشامهم، وعراقهم، ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل من يحفظ قوله من أهل العلم، إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم. اهـ. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) . (¬2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .

وفيما يلي كلام مجمل لابن تيمية في المسألتين: قال (¬1) : (الأصل الثاني) أن الطلاق المحرم الذي يسمى (طلاق البدعة) إذا أوقعه الإنسان هل يقع، أم لا؟ فيه نزاع بين السلف والخلف، والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه، وقال آخرون: لا يقع، مثل طاووس، وعكرمة، وخلاس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة، وأهل الظاهر كداود وأصحابه، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول أهل الظاهر: داود وأصحابه، لكن منهم من لا يقول بتحريم الثلاث، ومن أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد من عرف أنه لا يقع مجموع الثلاث إذا أوقعها جميعا، بل يقع منها واحدة. ولم يعرف قوله في طلاق الحائض ولكن وقوع الطلاق جميعا قول طوائف من أهل الكلام والشيعة، ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول: إذا أوقع الثلاث جملة لم يقع به شيء أصلا، لكن هذا قول مبتدع لا يعرف لقائله سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وطوائف من أهل الكلام والشيعة، لكن ابن حزم من الظاهرية لا يقول بتحريم جمع الثلاث، فلذا يوقعها، وجمهورهم على تحريمها وأنه لا يقع إلا واحدة. ومنهم من عرف قوله في الثلاث ولم يعرف قوله في الطلاق في الحيض، كمن ينقل عنه من أصحاب أبي حنيفة ومالك. وابن عمر روي عنه من وجهين أنه لا يقع، وروي عنه من وجوه أخرى أشهر وأثبت أنه ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\81 - 98) .

يقع. وروي ذلك عن زيد. وأما (جمع الثلاث) فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة، روي الوقوع فيها عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وعمران بن حصين وغيرهم، وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر، وعن عمر صدرا من خلافته، وعن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضا، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنهم أجمعين-. قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتابه الذي سماه: [المقنع في أصول الوثائق وبيان ما في ذلك من الدقائق] : وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما -: يلزمه طلقة واحدة، وكذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وذلك لأن قوله: (ثلاثا) لا معنى له؛ لأنه لم يطلق ثلاث مرات؛ لأنه إذا كان مخبرا عما مضى فيقول: طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ثلاث طلقات أتت منه في ثلاثة أفعال كانت منه، فذلك يصح، ولو طلقها مرة واحدة فقال: طلقتها ثلاث مرات لكان كاذبا، وكذلك لو حلف بالله تعالى ثلاثا، يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله تعالى فقال: أحلف بالله تعالى ثلاثا لم يكن حلف إلا يمينا واحدة، والطلاق مثله. قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كله عن ابن وضاح، يعني: الإمام محمد بن وضاح

الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة؛ ويحيى بن معين، وسحنون بن سعيد، وطبقتهم، قال: وبه قال من شيوخ قرطبة ابن زنباع شيخ هدى، ومحمد بن عبد السلام الحسيني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من فقهاء قرطبة، وذكر هذا عن بضعة عشر فقيها من فقهاء طليطلة المتعبدين على مذهب مالك بن أنس. قلت: وقد ذكره التلمساني رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي من أئمة الحنفية حكاه عن المازني وغيره، وقد ذكر هذا رواية عن مالك، وكان يفتي بذلك أحيانا الشيخ أبو البركات ابن تيمية، وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في [صحيحه] وأبو داود وغيرهما عن طاووس، عن ابن عباس أنه قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر - رضي الله تعالى عنهما - طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: (إن الناس قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه عليهم (¬1) » . وفي رواية: «أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأمضاه عليهم وأجازه (¬2) » . والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكذلك كل حديث فيه: أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ألزم الثلاث بيمين أوقعها جملة، أو أن أحدا في زمنه أوقعها جملة فألزمه بذلك، مثل حديث يروى عن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) . (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

علي، وآخر عن عبادة بن الصامت، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك، فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، ويعرف أهل العلم بنقد الحديث أنها موضوعة، كما هو مبسوط في موضعه. وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت عن ابن عباس من غير وجه أنه أفتى بلزوم الثلاث، وجواب المستدلين: أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة أيضا أنه كان يجعلها واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاوس مرفوعا إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، وموقوفا على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فالمرفوع «أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، فردها عليه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -) (¬1) » قال الإمام أحمد بن حنبل في [مسنده] : حدثنا سعيد بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف طلقتها؟ "قال: فقال: طلقتها ثلاثا، قال: " في مجلس واحد "؛ قال: نعم، فقال: "فإنها تلك واحدة، فارجعها إن شئت " قال: فراجعها (¬2) » ، وكان ابن عباس يقول: إنما الطلاق عند كل طهر. قلت: وهذا الحديث قال فيه ابن إسحاق: حدثني داود، وداود من شيوخ مالك ورجال البخاري، وابن إسحاق إذا قال: حدثني، فهو ثقة عند أهل الحديث، وهذا إسناد جيد، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود في ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب الطلاق (1177) ، سنن أبو داود الطلاق (2208) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2051) ، سنن الدارمي الطلاق (2272) . (¬2) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .

[السنن] ، ولم يذكر أبو داود هذا الطريق الجيد، فلذلك ظن أن تطليقة واحدة بائنا أصح، وليس الأمر كما قاله، بل الإمام أحمد رجح هذه الرواية على تلك وهو كما قال أحمد. وقد بسطنا الكلام على ذلك في موضع آخر. وهذا المروي عن ابن عباس في حديث ركانة من وجهين، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، ونافع بن عجير: أنه طلقها البتة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحلفه، فقال: (ما أردت إلا واحدة) ؟ فإن هؤلاء مجاهيل لا تعرف أحوالهم، وليسوا فقهاء، وقد ضعف حديثهم أحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وابن حزم، وغيرهم، وقال أحمد بن حنبل: حديث ركانة في البتة ليس بشيء، وقال أيضا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس (أن ركانة طلق امرأته ثلاثا) ، وأهل المدينة يسمون (ثلاثا) البتة، فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الآخر الذي فيه أنه طلقها ثلاثا، وبين أن أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا طلق البتة، وهذا يدل على ثبوت الحديث عنده، وقد بينه غيره من الحفاظ وهذا الإسناد وهو قول ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: هو إسناد ثابت عن أحمد وغيره من العلماء. وبهذا الإسناد روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رد ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول) وصحح ذلك أحمد وغيره من العلماء، وابن إسحاق إذا قال:

حدثني، فحديثه صحيح عند أهل الحديث، إنما يخاف عليه التدليس إذا عنعن، وقد روى أبو داود في [سننه] هذا عن ابن عباس من وجه آخر، وكلاهما يوافق حديث طاوس عنه، وأحمد كان يعارض حديث طاوس بحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا، ونحوه. وكان أحمد يرى جمع الثلاث جائزا، ثم رجع أحمد عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فوجدت الطلاق الذي فيه هو الرجعي، أو كما قال، واستقر مذهبه على ذلك، وعليه جمهور أصحابه، وتبين من حديث فاطمة أنها كانت مطلقة ثلاثا متفرقات لا مجموعة، وقد ثبت عنده حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن من جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه: أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن القول بحديث ركانة وغيره كان أولا لما عارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث، فكان ذلك يدل على النسخ، ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا المعارض، وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن المعارض، وليس يعل حديث طاوس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذا علمه في إحدى الروايتين عنه، ولكن ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه: أن ذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لا سيما وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في الإلزام بالثلاث، وابن عباس عذره هو العذر الذي ذكره عن عمر - رضي الله تعالى عنه -، وهو: أن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله تعالى عليهم استحقوا العقوبة على ذلك

فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم، وهذا كما أنهم لما أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها، كان عمر يضرب فيها ثمانين، وينفي فيها، ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما قاتل علي بعض أهل القبلة ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، والتفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به أحيانا: إما مع بقاء النكاح، وإما بدونه، فالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين خلفوا وبين نسائهم حتى تاب الله عليهم من غير طلاق، والمطلق ثلاثا حرمت عليه امرأته حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ليمتنع عن الطلاق. وعمر بن الخطاب ومن وافقه- كمالك وأحمد في إحدى الروايتين- حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدا؛ لأنه استعجل ما أحله الله فعوقب بنقيض قصده، والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بينهما بلا عوض إذا رأيا الزوج ظالما معتديا، لما في ذلك من منعه من الظلم ودفع الضرر عن الزوجة، ودل على ذلك الكتاب والسنة والآثار، وهو قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإلزام عمر بالثلاث لما أكثروا منه: إما أن يكون رآه عقوبة تستعمل وقت الحاجة، إما أن يكون رآه شرعا لازما، لاعتقاده أن الرخصة كانت لما كان المسلمون لا يوقعونه إلا قليلا. وهكذا كما اختلف كلام الناس في نهيه عن المتعة: هل كان نهي اختيار؛ لأن إفراد الحج بسفرة والعمرة بسفرة كان أفضل من التمتع، أو

كان قد نهى عن الفسخ، لاعتقاده أنه كان مخصوصا بالصحابة؟ وعلى التقديرين فالصحابة قد نازعوه في ذلك، وخالفه كثير من أئمتهم من أهل الشورى وغيرهم: في المتعة وفي الإلزام بالثلاث، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول. كما أن عمر كان يرى أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى، ونازعه في ذلك كثير من الصحابة، وأكثر العلماء على قولهم، وكان هو وابن مسعود يريان أن الجنب لا يتيمم، وخالفهما: عمار، وأبو موسى، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة، وأطبق العلماء على قول هؤلاء، لما كان معهم الكتاب والسنة، والكلام على هذا كثير مبسوط في موضع آخر (¬1) ، والمقصود هنا التنبيه على ما أخذ الناس به. والذين لا يرون الطلاق المحرم لازما يقولون: هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء: كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو: أن إيقاعات العقود المحرمة لا تقع لازمه؛ كالبيع المحرم، والنكاح المحرم، والكتابة المحرمة؛ ولهذا أبطلوا نكاح الشغار، ونكاح المحلل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء، وهذا بخلاف الظهار المحرم، فإن ذلك نفسه محرم، كما يحرم القذف وشهادة الزور، واليمين الغموس، وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرمة: فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعوقب المظاهر بالكفارة، ولم يحصل ما قصده به من الطلاق، فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق وهو موجب لفظه، فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول ¬

_ (¬1) أي: في [الفتاوى] أو غيرها من كتب شيخ الإسلام. اهـ. (الناشر)

محرم، وأوجب فيه الكفارة. وأما الطلاق فجنسه مشروع: كالنكاح والبيع، فهو يحل تارة، ويحرم تارة، فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح، والنهي في هذا الجنس يقتضي فساد المنهي عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك؛ لأنه قول محرم: كان مقتضى ذلك أن كل قول محرم لا يقع به الطلاق، إلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار كلفظ الحرام، وهذا قياس أصل الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد. ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة التي طلق امرأته وهي حائض قالوا: هم أعلم بقصته، فاتبعوه في ذلك، ومن نازعهم يقول: ما زال ابن عمر وغيره يروون أحاديث ولا تأخذ العلماء بما فهموه منها، فإن الاعتبار بما رووه، لا بما رأوه وفهموه، وقد ترك جمهور العلماء قول ابن عمر الذي فسر به قوله: (فاقدروا له) وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث: «البيعان بالخيار (¬1) » مع أن قوله هو ظاهر الحديث، وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬2) وقوله: نزلت هذه الآية في كذا، وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرهم قول ابن عباس: أن بيع الأمة طلاقها، مع أنه روى حديث بريرة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرها بعد أن بيعت وعتقت، فإن الاعتبار بما رووه، لا ما رأوه وفهموه، ولما ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) . (¬2) سورة البقرة الآية 223

ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع، واعتقد طائفة لزوم هذا الطلاق وأن ذلك إجماع، لكونهم لم يعلموا خلافا ثابتا، لا سيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ينفردوا عن أهل السنة بحق. قال المستدلون: هؤلاء الذين هم بعض الشيعة وطائفة من أهل الكلام يقولون: جامع الثلاث لا يقع به شيء، هذا القول لا يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم الإجماع على بعضه وإنما الكلام هل يلزمه واحدة؟ أو يقع ثلاث؟ والنزاع بين السلف في ذلك ثابت لا يمكن رفعه، وليس مع من جعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها: من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، وإن كان بعضهم قد احتج على هذا بالكتاب، وبعضهم بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وقد احتج بعضهم بحجتين أو أكثر من ذلك، لكن المنازع يبين أن هذه كلها حجج ضعيفة، وأن الكتاب والسنة والاعتبار إنما تدل على نفي اللزوم، وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة عن الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما شرع تحري المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ذلك إذا كثر ولم ينته الناس عنه. وقد ذكرت أن الألفاظ المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث من عصى الله تعالى بإيقاعها جملة، فأما من كان يتقي الله فإن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 2 (¬2) سورة الطلاق الآية 3

فمن لا يعلم التحريم حتى أوقعها ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى المحرم- فهذا لا يستحق أن يعاقب، وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته محرمة على الغير بيقين، وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع تحريمها عليه، وذريعة إلى نكاح التحليل الذي حرمه الله ورسوله. و (نكاح التحليل) لم يكن ظاهرا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة أعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إلى زوجها بنكاح تحليل، بل (لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له) (ولعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه) ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي؛ لأن التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما بقصد المحلل، أو يتواطأ عليه هو والمطلق المحلل له، والمرأة ووليها لا يعلمون قصده، ولو علموا لم يرضوا أن يزوجوه، فإنه من أعظم المستقبحات والمنكرات عند الناس؛ ولأن عاداتهم لم تكن بكتابة الصداق في كتاب، ولا إشهاد عليه، بل كانوا يتزوجون ويعلنون النكاح، ولا يلتزمون أن يشهدوا عليه شاهدين وقت العقد، كما هو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإشهاد على النكاح حديث صحيح، هكذا قال أحمد بن حنبل وغيره. فلما لم يكن على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - تحليل ظاهر، ورأى في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن المحرم- فعل ذلك باجتهاده، أما إذا كان الفاعل لا يستحق العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم- بالنص

وإجماع الصحابة- والاعتقاد، وغير ذلك من المفاسد، لم يجز أن يزال مفسدة حقيقية بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذا الحال، كما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أولى؛ ولهذا كان طائفة من العلماء- مثل: أبي البركات - يفتون بلزوم الثلاث في حال دون حال، كما نقل عن الصحابة، وهذا؛ إما لكونهم رأوه من (باب التعزير) الذي يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر والنفي فيه، وحلق الرأس، وإما لاختلاف اجتهادهم: فرأوه تارة لازما وتارة غير لازم. وبالجملة: فما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته (شرعا لازما) إنما (¬1) لا يمكن تغييره؛ لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا، لا سيما الصحابة، لا سيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال؛ كالرافضة والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه، ولو قدر أن أحدا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك، وقد نقل عن طائفة: كعيسى بن أبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك: أن الإجماع ينسخ به نصوص الكتاب والسنة. وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم: أن الإجماع يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذكر عنهم أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخا، فإن كانوا أرادوا ذلك فهذا قول يجوز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما ¬

_ (¬1) هكذا في (فتاوى شيخ الإسلام) - (33\93) ولعل حذفها أولى. اهـ (الناشر) .

تقول النصارى: من أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين ولا كان الصحابة يسوغون ذلك لأنفسهم، ومن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك فإنه يستتاب كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي فيصيب فيكون له أجران، ويخطئ فيكون له أجر واحد. وما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - (شرعا معلقا بسبب) إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ؛ لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك. و (متعة الحج) قد روي عن عمر أنه نهى عنها، وكان ابنه عبد الله بن عمر وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة، حتى إن مذهب أبي حنيفة وأحمد منصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج وأفرد الحج في أشهره: فهذا أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد.. ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، قالوا (¬1) : إن هذا محرم به لا يجوز، وأن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من ¬

_ (¬1) القول الأول

الفسخ كان خاصا بهم، وهذا قول كثير من الفقهاء: كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وآخرون من السلف والخلف قابلوا هذا، وقالوا (¬1) : بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا متمتعا، متبدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في حجة الوداع، وهذا قول ابن عباس وأصحابه ومن اتبعه من أهل الظاهر والشيعة. و (القول الثالث) : أن الفسخ جائز، وهو أفضل، ويجوز أن لا يفسخ، وهو قول كثير من السلف والخلف؛ كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث، ولا يمكن الإنسان أن يحج حجة مجمعا عليها إلا أن يحج متمتعا ابتداء من غير فسخ. فأما حج المفرد والقارن: ففيه نزاع معروف بين السلف والخلف كما تنازعوا في جواز الصوم في السفر، وجواز الإتمام في السفر، ولم يتنازعوا في جواز الصوم والقصر في الجملة. وعمر لما نهى عن المتعة خالفه غيره من الصحابة، كعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء، فإن عليا وسائر الصحابة وافقوه على ذلك؛ وأنكر علي على ابن عباس إباحة المتعة، قال: إنك امرؤ تائه، «إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر، (¬2) » فأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة الحمر، وإباحة متعة النساء؛ لأن ابن عباس كان يبيح هذا وهذا، فأنكر عليه علي ذلك. وذكر له: «أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حرم المتعة، وحرم الحمر الأهلية (¬3) » : ¬

_ (¬1) القول الثاني (¬2) صحيح البخاري المغازي (4216) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) . (¬3) صحيح البخاري النكاح (5115) ، صحيح مسلم النكاح (1407) ، سنن الترمذي النكاح (1121) ، سنن ابن ماجه النكاح (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (1/142) ، سنن الدارمي النكاح (2197) .

ويوم خيبر كان تحريم الحمر الأهلية.. وأما تحريم المتعة، فإنه عام فتح مكة، كما ثبت ذلك في الصحيح، وظن بعض الناس أنها حرمت، ثم أبيحت، ثم حرمت، فظن بعضهم أن ذلك ثلاثا، وليس الأمر كذلك. فقول عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم: هو بيان أن الناس أحدثوا ما استحقوا عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما أن يكون كالنهي عن متعة الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصا بالصحابة وهو باطل، فإن هذا كان على عهد أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك، وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن ذلك منسوخا كنسخ متعة النساء، وإن قدر أن عمر رأي ذلك لازما فهو اجتهاد منه اجتهده في المنع من فسخ الحج؛ لظنه أن ذلك كان خاصا، وهذا قول مرجوح قد أنكره غير واحد من الصحابة، والحجة الثابتة هي مع من أنكره، وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعل قول عمر فيه شرعا لازما قيل له: فهذا اجتهاده قد نازعه فيه غيره من الصحابة، فإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. وإما أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا أشبه الأمرين بعمر، ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من (وجهين) : من جهة: أن العقوبة بذلك: هل تشرع؟ أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا يرى العقوبة به غيره، كتحريق علي الزنادقة بالنار، وقد أنكره عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس، ومن جهة: أن العقوبة إنما تكون لمن

يستحقها، فمن كان من (المتقين) استحق أن يجعل الله له فرجا ومخرجا، لم يستحق العقوبة، ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم فلما علم أن ذلك محرم تاب من ذلك اليوم أن لا يطلق إلا طلاقا سنيا فإنه من (المتقين) . في باب الطلاق، فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها، وهذه المسائل عظيمة، وقد بسطنا الكلام عليها في موضع آخر من مجلدين (¬1) ، وإنما نبهنا عليها هنا تنبيها لطيفا. والذي يحمل عليه أقوال الصحابة أحد أمرين: إما أنهم رأوا ذلك من باب التعزير الذي يجوز فعله بحسب الحاجة؛ كالزيادة على أربعين في الخمر. وإما لاختلاف اجتهادهم فرأوه لازما، وتارة غير لازم. وأما القول بكون لزوم الثلاث شرعا لازما، كسائر الشرائع: فهذا لا يقوم فيه دليل شرعي، وعلى هذا القول الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة ويراجع امرأته، ولا يلزمه شيء؛ لكونها كانت حائضا، إذا كان ممن اتقى الله وتاب من البدعة. ¬

_ (¬1) أي: من مؤلفات ابن تيمية رحمه الله تعالى (الناشر) .

الخلاصة

الخلاصة اتفق الفقهاء: على أن طلاق السنة بالنسبة لعدد الطلاق: أن يطلق الرجل زوجته طلقة واحدة مدخولا بها أم غير مدخول بها، ثم له أن يمسك المدخول بها فيراجعها ما دامت في العدة، وله أن يتركها، فلا يراجعها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وهذا هو التسريح لها بإحسان. واتفقوا أيضا: على أنه إذا عاد إلى مطلقته برجعة أو عقد ثم طلقها طلقة واحدة فطلاقه طلاق سنة، ولو فعل مثل هذا مرة ثالثة كان طلاقه طلاق سنة باتفاق. واختلفوا فيما لو طلق امرأته ثلاثا: بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا مثلا هل هو طلاق بدعة أو لا؟ واختلفوا أيضا: فيما لو طلق المدخول بها طلقة ثم أتبعها أخرى في نفس الطهر أو الطهر الثاني أو الثالث قبل أن يراجعها، هل هو طلاق بدعة أو لا؟ ومحل البحث ما لو قال لها في لفظ واحد: أنت طالق ثلاثا مثلا، هل هو بدعة ممنوعة أو لا؟ وهل يعتد به أو لا؟ فهاتان مسألتان في كل منهما خلاف بين العلماء. وفيما يلي خلاصة القول فيهما:

المسألة الأولى: حكم الإقدام على جمع الثلاث بكلمة واحدة وفيه قولان: 1 - القول الأولى: وهو قول الحنفية، والمالكية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وقول ابن تيمية، وابن القيم. وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعنى والقياس: أما القرآن: فمنه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) إلى قوله {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ} (¬2) قيل: المراد الأمر بتفريق الطلقات الثلاث على أطهار العدة الثلاثة، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع نهي تحريم أو نهي كراهة، فكان جمع الثلاث في طهر واحد بدعة ممنوعة. وذكر ابن تيمية: أن الله لم يبح في هذه الآية إلا الطلاق الرجعي، لقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬3) والأمر: هو الندم على الطلاق، والرغبة في الرجعة، ولقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬4) فخير سبحانه بين الرجعة قبل انقضاء العدة دون مضارة للزوجة وبين ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة الطلاق الآية 2 (¬3) سورة الطلاق الآية 1 (¬4) سورة الطلاق الآية 2

تركها حتى تنقضي عدتها فتبين منه، وأنه سبحانه لم يبح فيها إلا الطلاق للعدة، فإرداف الطلاق للطلاق في العدة ولو في طهر آخر ممنوع، لقوله تعالى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) إذ المعنى: الأمر بطلاقهن مستقبلات عدتهن، ومن طلق زوجته الطلقة الثانية في طهرها الثاني، والثالثة في طهرها الثالث- بنت مطلقته على ما مضى من عدتها ولم تستأنف العدة للثاني ولا للثالث، فلم يكن طلاقا للعدة، فكان غير مشروع، ومنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) ووجه الاستدلال: أن هذه الجملة خبرية لفظا طلبية معنى، لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى، ولهذا نظائر في الكتاب والسنة ولغة العرب، فالمعنى: إذا عزمتم الطلاق فطلقوا مرة بعد مرة، إذ لا يقال لمن دفع درهمين لإنسان دفعة أنه أعطاه مرتين، إلى غير هذا من النظائر، والأمر بالتفريق نهي عن الجمع فكان ممنوعا. فإن قيل: إذا كان كل الطلاق في دفعتين كان الواقع منه في دفعة طلقتين، وفي الأخرى طلقة، فكان الجمع بين طلقتين مشروعا، وإذا يكون الجمع بين الثلاث مشروعا، إذ لا فرق. فالجواب: أن الآية أمرت بتفريق الطلقتين من الثلاث لا بتفريق الثلاث بدليل ما ذكر بعد من مشروعية الرجعة، وفي معناه ما قيل: من أن المراد: أوقعوا الطلاق الرجعي المذكور في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3) الآية، مرة بعد مرة، ومن طلق ثلاثا أو طلقتين ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 228

دفعة لم يفعل ما أمر به فكان مبتدعا في طلاقه، كما أن من قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين عقب المكتوبات مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار كل من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة لم يكن آتيا بما أمر به كما أمر، فكان مبتدعا. وقيل في وجه الاستدلال بالآية: إن المراد: الإخبار عن صفة الطلاق الشرعي، والألف واللام في الطلاق للحصر فيقتضي ذلك المنع من الطلاق على غير هذه الصفة؛ لكونه بدعة مخالفة للشرع. فإن قيل: المراد الإخبار عن أن الطلاق الرجعي طلقتان، وما زاد فليس برجعي، يدل عليه قوله بعد ذلك: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) أجيب: بأنه لو كان المراد ما ذكرتم لقال: الطلاق طلقتان، سواء أوقعهما الزوج مجتمعتين أم مفترقتين، فلما قال {مَرَّتَانِ} (¬2) اقتضى إيقاعه مفترقا، وثبت أن المراد الإخبار عن صيغة إيقاعه. فإن قيل: لفظ التكرار إذا علق باسم أريد به تضعيف العدد دفعة دون تكرار الفعل، كما في قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬3) ونحوها، فإن المراد: تضعيف العدد لا تفريق الأجر. أجيب: بأن المراد نؤتها أجرها مرة بعد مرة، كما روي عن بعض ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة الأحزاب الآية 31

السلف، وعلى تقدير: أن المراد في الآية: تضعيف العدد دفعة يقال: إن الأصل فيما ذكر تكرار الفعل، إلا إذا دل دليل على إرادة تضعيف العدد فيعدل إليه استثناء، كما في آية {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬1) وما عداه يبقى على الأصل، على أنه لو أريد بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) تضعيف العدد دفعة، لمنع الزوج من إيقاع طلقة مفردة، وهذا باطل بإجماع. وأجيب أيضا: بأن الفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان، فلا يتصور فيه الجمع، كآية الطلاق، وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة فيتصور فيه الجمع، كما في آية {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬3) وآية {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (¬4) ونحوهما، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬5) الآية. وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق، لوقوعه في حيز الشرط، فعلم أن جمع الثلاث غير مشروع. ومن السنة: حديث «تزوجوا ولا تطلقوا» إلخ، قيل: نهي عن الطلاق لأمر ملازم له لا لعينه؛ لأنه بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي، والمراد والله أعلم: الجمع بين طلقتين أو أكثر في طهر والطلاق في الحيض، ولكن هذا الحديث ضعيف فلا يشتغل بمناقشته (¬6) . ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 31 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة الأحزاب الآية 31 (¬4) سورة التوبة الآية 101 (¬5) سورة البقرة الآية 232 (¬6) ذكره السيوطي في [الجامع الصغير] وضعفه

ومنها: ما روى مخرمة بن بكير عن أبيه: قال: سمعت محمود بن لبيد، قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقال: «فعلته لاعبا ثم قال: تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ (¬1) » وإسناده على شرط مسلم، ودلالة متنه على المنع ظاهرة. وأعترض عليه: أولا: بأن مخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما هو كتاب. وعورض ذلك: بقول من قال سمع من أبيه، ومعه زيادة علم وإثبات فيقدم، وعلى تقدير أنه لم يسمع من أبيه، وإنما رواه من كتابه وكان كتاب أبيه عنده محفوظا مضبوطا- فقد انعقد الإجماع على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عند راويه أنه من كتابة شيخه، بل الرواية من الكتاب المصون أوثق، فإن الحفظ يخون والنسخة الثابتة المحفوظة لا تخون، وقد أطال ابن القيم الكلام على توثيق مخرمة، واعتبار الرواية من الكتاب وصحة الاحتجاج بها. واعترض ثانيا: بأن محمود بن لبيد وإن كان صحابيا إلا أنه لم يثبت له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فروايته عنه مرسلة. وأجيب: بأن مرسل الصحابي مقبول، فصح الاحتجاج بالحديث. ومنها: حديث عبادة بن الصامت: «أن قوما جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أبانا طلق امرأته ألفا، فقال: بانت امرأته بثلاث في معصية لله، وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون وزرا في عنقه إلى يوم القيامة» . ¬

_ (¬1) سنن النسائي الطلاق (3401) .

وأجيب: بأن في سنده رجالا مجهولين وضعفاء، فلا يصلح للاحتجاج به. ومنها: حديث علي قال: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا طلق البتة فغضب، وقال: أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا أو لعبا، من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره» فدل غضبه على المنع من جمع الثلاث بلفظ صريح أو كناية. وأجاب الدارقطني: بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي، وهو ضعيف. وقال ابن القيم: في سنده مجاهيل وضعفاء، فلا يصح الاحتجاج به. ومنها: «أن ابن عمر لما طلق امرأته في الحيض وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها قال: أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي؟ قال: لا، بانت منك، وهي معصية (¬1) » . وأجيب: بأن في سنده شعيب بن رزيق وقد تكلموا فيه، وتفرد في هذا الحديث عن الثقات بزيادة قوله: أرأيت لو طلقتها ثلاثا. إلخ.. فلم يأت أحد منهم في روايته لهذا الحديث بما أتى به؛ ولذا لم يرو حديثه هذا أحد من أصحاب الصحاح ولا السنن. وأما الإجماع: فقد أنذر عمر من يأتيه وقد طلق امرأته ثلاث تطليقات مجموعة بأن يوجعه ضربا، وحكم كثير من الصحابة بأن من يطلق ثلاثا مجموعة أو أكثر فقد عصى ربه، واستنكروا ذلك من فاعله وجعلوه متعديا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1471) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) .

لحدود الله، وانتشر ذلك عنهم دون نكير، فكان إجماعا على المنع من جمع ثلاث طلقات فأكثر دفعة. وأما المعنى: فمن وجهين: الأول: أن النكاح عقد مصلحة، والطلاق إبطال له، فكان مفسدة، والله لا يحب الفساد. الثاني: أن النكاح عقد مسنون، بل واجب، وفي الطلاق قطع للسنة أو تفويت للواجب، فكان الأصل فيه الحظر أو الكراهة، إلا أنه رخص فيه للدواعي الطارئة كتوقع مفسدة من استمرار النكاح أشد من مفسدة الطلاق، فيرتكب أخف المفسدتين تفاديا لأشدهما، لكن يقتصر من ذلك على طلقة واحدة، إذ بها تندفع المفسدة، وما زاد عليها فيبقى على الأصل، وهو المنع، ويشهد لكون الأصل في الطلاق الحظر حديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة (¬1) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. وأما القياس: فلأن التطليق ثلاثا دفعة فيه تحريم البضع من غير حاجة فأشبه الظهار، فكان ممنوعا، ولأن فيه ضررا وإضرارا بنفسه وبامرأته، فأشبه الطلاق في الحيض فكان ممنوعا. 2 - القول الثاني: أن جمع الطلاق الثلاث في كلمة ليس بمحرم ولا بدعة: وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وجماعة من أهل الظاهر. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطلاق (1187) ، سنن أبو داود الطلاق (2226) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2055) ، مسند أحمد بن حنبل (5/283) ، سنن الدارمي الطلاق (2270) .

واستدلوا لذلك بالكتاب والسنة والآثار والمعنى. أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1) وقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2) وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬3) فهذه تعم إباحة الثلاث والاثنتين، فإنه تعالى لم يخص مطلقة طلقة واحدة من مطلقة ثلاثا، فليس لأحد أن يخصها إلا بدليل. ويمكن أن يقال: إن المقصود في الجمل الشرطية الحكم بما تضمنه الجواب على تقدير تحقق فعل الشرط، بقطع النظر عن كون فعل الشرط مطلوب الحصول أو مباحا أو ممنوعا، وعلى هذا يكون القصد من آية {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬4) الحكم بتحريم الزوجة على زوجها الذي طلقها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره، وقد يكون طلاقها المرة الثالثة مأذونا فيه كما لو طلقها في طهر لم يمسها فيه طلقة، وقد يكون محرما كما لو طلقها المرة الثالثة في حيض مثلا، ويكون القصد من آية {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬5) عدم وجوب العدة على تقدير حصول الطلاق ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 230 (¬2) سورة الأحزاب الآية 49 (¬3) سورة البقرة الآية 241 (¬4) سورة البقرة الآية 230 (¬5) سورة الأحزاب الآية 49

قبل الدخول، أما كون طلاقها مباحا أو محرما فيفهم من أمر آخر، وأما آية: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬1) فالقصد منها إثبات المتعة للمطلقة، وجوبا أو ندبا، لا بيان حكم الطلاق، فقد يكون محرما وتثبت لها المتعة وقد يكون مباحا كما تقدم. وبهذا يتبين: أن الآيات الثلاث ليست أدلة في محل النزاع. وأما السنة: فمنها «حديث فاطمة بنت قيس، وفيه أن زوجها طلقها ثلاثا أو طلقها البتة وهو غائب وبعث إليها وكيله بشعير نفقة لها، فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ليس لك عليه نفقة (¬2) » . فلم يعب - صلى الله عليه وسلم - الثلاث مع الإجمال فيما بلغه من خبر الطلاق ولم يستفسر عن كيفيته، ولفظ البتة هنا مراد به: الثلاث، وإلا لم تسقط نفقتها ولا سكناها. وأجيب: برواية الزهري هذا الخبر عن أبي سلمة، وفيه ذكرت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، وبرواية الزهري أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، فذكر الخبر، وفيه: أن مروان أرسل إليها قبيصة بن ذؤيب فحدثته، وذكر باقي الخبر، فكان هذا تفسيرا لما في الثلاث أو البتة من الإجمال، وأن ذلك لم يكن مجموعا، وأعل ابن حزم الرواية الثانية بالانقطاع؛ لعدم التصريح بالتحديث أو السماع. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 241 (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1480) ، سنن الترمذي النكاح (1135) ، سنن النسائي النكاح (3222) ، سنن أبو داود الطلاق (2284) ، سنن ابن ماجه النكاح (1869) ، مسند أحمد بن حنبل (6/373) ، موطأ مالك الطلاق (1234) ، سنن الدارمي النكاح (2177) .

ويمكن أن يقال: إن ظاهرها الاتصال؛ لأنها في حكم الرواية بها لمتعته ونحوها، فصلحت تفسيرا للإجمال. وقال ابن حزم أيضا: إن كلا الخبرين ليس فيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك. ويمكن أن يقال: إن الأصل بيان السائل الثقة الورع لواقع أمره، وخاصة الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لتطمئن النفس إلى موافقة الجواب للواقع، وعلى تقدير الاحتمال في حديث فاطمة فحمله على ما كان شائعا كثيرا- وهو إفراد الطلاق- أولى من حمله على النادر وهو جمع الثلاث في كلمة. ومنها: حديث تلا عن عويمر وامرأته، وفيه أنه طلقها ثلاثا بعد اللعان قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان جمع الثلاث ممنوعا لبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عاص بجمع الثلاث، وعلمه الطلاق المشروع. وأجيب: بأنه لما لم يصادف طلاقه محلا لم ينكر عليه، فإنها صارت أجنبية منه لا تحل له أبدا بتمام اللعان لا بالطلاق الثلاث وإلا لحلت له بعد أن تنكح زوجا آخر، وقد أيد ذلك فيما سبق في حديث محمود بن لبيد من إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على من طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، وبهذا يجمع بين خبري الإنكار والسكوت بحمل أحدهما على طلاق صادف محلا والآخر على ما إذا لم يصادف محلا. وأما قول سهل: فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: فمضت السنة بعد في

المتلاعنين أن يفرق بينهما. فسيأتي الكلام عليه في موضعه من المسألة الثانية. ومنها: حديث المرأة التي طلقها زوجها ثلاثا، والأخرى التي بت زوجها طلاقها. وقد تزوجت كلا منهما بعد ذلك ثم طلقت قبل أن يجامعها، وأرادت أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (¬1) » فدل عدم نقل الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاق الرجل امرأته ثلاثا أو بت طلاقها على جواز الجمع بين الثلاث، إذ لو كان ممنوعا لأنكره، ولو أنكره لنقل. أجيب: أن اللفظ محتمل أن تكون الثلاث مجتمعة وأن تكون مفرقة، ولفظ البتة يعبر به عن الثلاث، وقد ثبت أن كلا منهما قد طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فليس في ذلك دليل لجواز جمع الثلاث. وأما الآثار: فمنها: ما روي أن عمر - رضي الله عنه - استفتي فيمن طلق امرأته البتة، فاستحلفه عما أراد، فحلف أنه أراد واحدة فردها إليه، ولم يقل له لو أردت ثلاثا لعصيت ربك. وأجيب: بأن عمر أنكر عليه بقوله: ما حملك على هذا، وبتلاوة قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (¬2) ورد الجواب بأنه أنكر عليه عدوله في الطلاق عن اللفظ الصريح إلى لفظ محتمل وهو البتة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشهادات (2639) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) . (¬2) سورة النساء الآية 66

ومنها: أن عثمان لم ينكر على عبد الرحمن بن عوف طلاقه امرأته ثلاثا. ومنها: أن أبا هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر وعائشة وعبد الله بن الزبير لم ينكروا على من استفتى في طلاق الثلاث ولم يعيبوا عليه ذلك ولم يقل أحد منهم لمن استفتاه في ذلك بئس ما صنعت، وما روي من إنكار ابن عباس وغيره من الصحابة على من طلق امرأته مائة أو ألفا فإنما إنكاره لما زاد عما جعل إليه من الثلاث، وروي ما يوافق ذلك عن شريح والشعبي وغيرهما من التابعين، وقد يقال: يرد هذا ما روي عن عمر وابن عمر وابن عباس وعمران بن حصين أنهم أثموا من طلق ثلاثا، وقالوا: إنه عصى ربه، وتوعدوا من يطلق ثلاثا في مجلس واحد بالأذى، كما روي عنهم ذلك فيمن تجاوز الثلاث في طلاقه، وإذا فليس الإنكار خاصا بما زاد على الثلاث. وأما المعنى: فإن الشرع قد جعل الطلاق إلى الزوج يمضي منه ما شاء ويبقي ما شاء، دون أن يكون عليه في ذلك حرج، كما أنه لا يحرم عليه أن يعتق ما شاء من عبيده ويتصدق بما شاء من ماله ويبقي من ذلك ما شاء، بل له أن يأتي على ذلك كله. وأجيب: بأن الأصل فيما ذكر أنه من القربات، فله أن يفعل من ذلك ما شاء ويؤجر عليه ما لم يضر بنفسه، بخلاف الطلاق فإن الأصل فيه الحظر لما تقدم؛ ولأنه أبغض الحلال إلى الله وقد شرع على صفة معينة، فينبغي التزامها في إيقاعه.

المسألة الثانية فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد

المسألة الثانية: فيما يترتب على إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد وفيه مذاهب: المذهب الأول: أنه يقع ثلاثا وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد استدلوا لذلك بأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع والقياس: أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) فإنه يدل على أنه إذا قال الزوج لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، في طهر لزمه اثنتان، وإذا فيلزمه اثنتان إذا أوقعهما معا في كلمة واحدة (¬2) ؛لأنه لم يفرق بين ذلك أحد، وأيضا حكم الله بتحريمها عليه بعد الثالثة في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} (¬3) الآية، ولم يفرق أحد بين إيقاعها في طهر أو أطهار، فوجب الحكم بإلزامه بالجميع على أي وجه أوقعه، مباح أو محظور. واعترض: بأن المراد بالآية: الطلاق المأذون فيه، وإيقاع الثلاث معا غير مأذون فيه، فكيف يستدل بها في الإلزام بطلاق وقع على غير الوجه المباح وهي لم تتضمنه؟ وأجيب: بأنها دلت على الأمر بتفريق الطلاق، ولا مانع من دلالتها ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) وكذا الثلاث إذا أوقعها معا (¬3) سورة البقرة الآية 230

على الإلزام به من جهة أخرى إذا وقع على غير الوجه المأمور به. واعترض أيضا: بأن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) بين المراد من آية الاستدلال، وأن الطلاق إنما يكون للعدة، فمتى خالف ذلك لم يقع طلاقه. وأجيب: بأنا نثبت حكم كل من الآيتين فنثبت بآية {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2) أن الطلاق المسنون ما كان للعدة، ونثبت بآية {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) أن من طلق لغير العدة أو جمع بين الثلاث لزمه ما فعل، وبذلك نكون قد أخذنا بحكم كل من الآيتين، على أن آخر آية الطلاق للعدة وهو قوله تعالى: وتلك حدود الله ... الآية يدل على وقوع الطلاق لغير العدة، فإنه لو لم يلزمه لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه ولا بطلاقه، كما أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬4) يدل على ذلك، وسيأتي لهذا زيادة بيان في الدليل الثاني إن شاء الله. واعترض أيضا: بأن الزوج لو وكل من يطلق طلاقا مفرقا على الأطهار فجمع الثلاث في طهر لم يقع لكونه غير مأمور به فكذا الزوج. وأجيب: بالفرق بينهما، فإن الزوج يملك الطلاق الثلاث، وإيقاعه على غير الوجه المشروع لا يمنع من إلزامه به كالظهار والردة، أما الوكيل فلا يملك من الطلاق إلا ما ملكه موكله ولا يملك إيقاعه إلا على الوجه ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة الطلاق الآية 2

الذي وصفه له موكله، إذ هو معبر عن موكله وتلزمه حقوق ما يوقعه، وسيأتي لهذا مزيد بحث. واستدل أيضا بعموم قوله تعالى في الآية: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) على أنه يتناول إيقاع الثلاث دفعة. وأجيب عن وجوه الاستدلال بالآية: أولا: بأن تسريح المطلقة طلاقا رجعيا بإحسان تركها بلا مضارة لها حتى تنقضي عدتها، لا طلاقها مرة أخرى قبل رجعتها، وما روي مرفوعا من تفسير التسريح بالإحسان بطلاقها الثالثة فمرسل. ثانيا: بأن من العلماء من فرق بين إيقاع الطلاق مفرقا في طهر أو مجموعا، وبين إيقاعه مفرقا في أطهار دون سبق رجعة، وإيقاعه مفرقا في أطهار مع سبق كل برجعة، فدعوى عدم الفرق مخالفة للواقع. ثالثا: بأن الله جعل الطلاق إلى الزوج لكن على أن يوقعه مفرقا مرة بعد مرة على صفة خاصة، ولم يشرع سبحانه إيقاع الطلاق ثلاثا جملة حكمة في تشريعه ورحمة بعباده، فإيقاعه ثلاثا مجموعة مخالف لأمر الله وشرعه، وأما قياس الثلاث مجموعة على الظهار فيبطل قولكم ويثبت قول مخالفيكم، فإن الله لم يلزم المظاهر بما التزم من تحريم زوجته وجعلها كأمه أو أخته مثلا، بل لم تزل زوجته، وعاقبه بشيء آخر على جريمة الظهار هو الكفارة، فإذا أدى ما شرع من الكفارة حلت له مماستها، فمقتضى قياسكم أن لا يلزم بشيء من الثلاث، ويعاقب بأمر آخر على جريمة الجمع ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229

بين الثلاث، وكذا القول في قياسكم جمع الثلاث على الردة، وإذا ليست الآية دليلا على إلزام الثلاث أو الثنتين إذا أوقعها مجموعة، بل تدل على خلافه. ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬1) ومن طلق ثلاثا مجموعة فقد تعدى حدود الله؛ لإيقاعه الطلاق على غير الوجه المشروع، وظلم نفسه بتعجله فيما كانت له فيه أناة، وحرمانه من رجعة زوجته، إذ لو لم يلزم بالثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لم يكن ظالما لنفسه ولا محروما من زوجته، لتمكنه من رجعتها. ويؤيده: أن ابن عباس أفتى بإلزام الثلاث من طلق ثلاثا، وعاب على من جمع الثلاث ورماه بالحماقة، واستشهد بالآية، وأجيب بمنع دلالة الآية على الإلزام بالثلاث؛ لأن ركانة لما طلق امرأته ثلاثا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، وتلا هذه الآية، ولو كانت دليلا على إلزام الثلاث من طلق ثلاثا مجموعة لما استدل بها صلى الله عليه وسلم، وستأتي مناقشة حديث ركانة. وكما روي عن ابن عباس الإلزام بالثلاث والاستشهاد بالآية روي عنه اعتبارها واحدة. ويمكن أن يقال: بحمل تعدي حدود الله في الآية وظلم المطلق لنفسه على الطلاق لغير العدة وإخراج الزوج مطلقته طلاقا رجعيا من بيتها الذي ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1

كانت تسكنه قبل الطلاق وخروجها منه أيام العدة، دون الطلاق الثلاث، وقد يساعد على هذا سابق الكلام ولاحقه، وفي هذا أيضا جمع بين الأدلة، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (¬1) ذكر عن الحسن أنها نزلت فيمن كان يطلق ويزوج ابنته ويعتق عبده، ويدعي أنه كان لاعبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من قالهن لاعبا جائزات: العتاق والطلاق والنكاح» . وأجيب: بأنه لا دليل في الآية ولا في الحديث على المطلوب؛ لأنه لم يذكر فيهما طلاق الثلاث أصلا، وإنما فيهما النهي عن اللعب في الطلاق ونحوه، على أن ما ذكر من مراسيل الحسن. وأما السنة فأولا: حديث تلاعن عويمر العجلاني وامرأته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما بإنفاذ الطلاق الثلاث لا باللعان، يؤيد هذا قول سهل: «فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) » . . . إلخ. وبهذا يعلم أن طلاق عويمر اعتبر ثلاثا، وبانت منه امرأته بذلك، ثم أكد ذلك بتأبيد تحريمها عليه في اللعان خاصة، وقد يقال: بأن إنفاذ الطلاق الثلاث دفعة على الملاعن خاص باللعان، لما فيه من تأبيد التحريم بخلاف غيره، بدليل حديث محمود بن لبيد. ويجاب: بأن حديث محمود بن لبيد - وإن صح - ليس فيه إنفاذ الثلاث ولا عدم إنفاذها، وحديث اللعان فيه إنفاذها فيقدم، بل قيل: إن حديث ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 231 (¬2) صحيح البخاري الأدب (6084) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) .

محمود بن لبيد دليل على اعتبار إيقاع الثلاث دفعة ثلاثا؛ لأن الزوج طلق ثلاثا يظنها لازمة له، فلو كانت غير لازمة لبين له صلى الله عليه وسلم لعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقد أجيب عن أصل الاستدلال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ تطليقات عويمر على الوجه الذي كان معروفا في عهده من اعتبارها واحدة رجعية، ثم حرمها عليه تحريما أبديا، بدليل قوله في الحديث: (فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما) فإن التفريق يتأتى مع بقاء النكاح، بخلاف ما إذا اعتبرت تطليقات عويمر ثلاثا، فإنها تكون أجنبية منه بذلك محرمة عليه حتى تنكح زوجا غيره. وكذلك يقال فيما أمضاه على المطلق في حديث محمود بن لبيد، فإن حمله على ما كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم أقرب من حمله على الثلاث؛ بل هو المتعين. ثانيا: حديث من طلقها زوجها ثلاثا وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيحها لزوجها الأول حتى يطأها الثاني، قالوا: الظاهر أنه طلقها ثلاثا مجموعة فأمضاها عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لحلت للأول دون أن تذوق عسيلة الثاني. وأجيب: بأنه ورد في بعض الروايات أن الأول طلقها آخر ثلاث تطليقات، وعلى تقدير تعدد القصة وأن هذه الرواية كانت في إحداهما فكل منهما ليس فيها ما يدل على أن التطليقات كانت مجموعة؛ لجواز أن تكون متفرقة، بل في الحديث ما يدل على تفرقها، فإنه لا يقال: طلق ثلاثا إلا لمن فعل ذلك مرة بعد مرة، كما يقال: سلم ثلاثا، وسبح ثلاثا، ومع

هذا فقد كان المشهور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إيقاع الطلاق متفرقا، أما إيقاعه مجموعا فقد كان قليلا ومنكرا، وحمل اللفظ على الكثير الحق أقرب من حمله على القليل المنكر. ثالثا: حديث فاطمة بنت قيس، فإن زوجها طلقها ثلاثا مجموعة، وقد تقدم الكلام فيه وفي مثله توجيها وإجابة، إلا أنه ذكر هنا زيادة في رواية مجالد بن سعيد عن الشعبي: أن زوجها طلقها ثلاثا جميعا. وأجيب عنها: بأنها قد تفرد بها مجالد عن الشعبي وهو ضعيف، وعلى تقدير الصحة فكلمة (جميعا) في الغالب لتأكيد العدد، فالمعنى حصول الطلاق الذي يملكه جميعه لا اجتماعه، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (¬1) فالمراد: حصول الإيمان من جميعهم لا حصوله منهم في وقت واحد. وذكر بعضهم: أن تعبير فاطمة بنت قيس عن كيفية طلاقها مختلف الصيغة ولم يفرق بينهما الصحابة في الحكم وإلا لاستفسروا عما فيها من إجمال. وأجيب: بأن الإجمال زال برواية طلقها آخر ثلاث تطليقات، ورواية أرسل إليها بطلقة كانت بقيت لها. رابعا: حديث ركانة، فإنه طلق امرأته سهيمة البتة، واستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد، واستحلفه عليه فحلف ما أراد إلا واحدة، فردها عليه، فدل على أنه لو أراد أكثر لأمضاه عليه، إذ لو لم يفترق الحكم لما استفسره ولا ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية 99

استحلفه، وهذا الحديث وإن تكلم فيه من أجل الزبير بن سعيد فقد صححه بعض العلماء، وحسنه بعضهم، وذكر الحاكم له متابعا من بيت ركانة. وأجيب: بأن الإمام أحمد ضعف حديث طلاق ركانة زوجته ألبتة من جميع طرقه، وضعفه البخاري، وقال: مضطرب فيه، تارة قيل فيه: ثلاثا، وتارة قيل فيه: واحدة، وعلى ذلك تترك الروايتان المتعارضتان، ويرجع إلى غيرهما. هذا وقد روي حديث تطليق ركانة امرأته ثلاثا، وجعلها واحدة من طريقين: إحداهما: عند الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس مرفوعا. والثانية: في [سنن أبي داود] من طريق ابن صالح بسنده إلى ابن عباس مرفوعا، فوجب المصير إلى ذلك. وأجيب عن الأولى: بأنها لا تقوم بها الحجة؛ لمخالفتها فتيا ابن عباس، وستأتي مناقشة ذلك. وأجيب عن الثانية: بأن في سندها مقالا؛ لأن ابن جريج روى هذا الحديث عن بعض بني أبي رافع، ولأبي رافع بنون ليس فيهم من يحتج به إلا عبيد الله، وسائرهم مجهولون، وقد رجح أبو داود في [سننه] رواية نافع بن عجير في طلاق ركانة زوجته ألبتة على رواية بعض بني أبي رافع:

أن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثا لذلك، ولفظ ابن جريج في تسمية المطلق عبد يزيد مع أن عبد يزيد لم يدرك الإسلام، ولأن أهل بيت ركانة أعلم بحاله. وقد أجاب ابن القيم بما خلاصته: سقوط رواية كل من نافع بن عجير وبعض بني أبي رافع لجهالة كل منهما، أما أن يرجح أحد المجهولين أو من هو أشد جهالة على الآخر فكلا، ويعدل إلى رواية الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم بسنده إلى ابن عباس لسلامته، فإن أحمد وغيره احتجوا به في مسائل النكاح والعرايا وغيرها، وقد ذكر فيه: أن ركانة طلق امرأته سهيمة ثلاثا، فجعلها صلى الله عليه وسلم واحدة. وستأتي لهذه زيادة بحث إن شاء الله. خامسا: حديث ابن عمر في تطليق زوجته في الحيض، وفي آخره: «فقلت: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؛ قال: لا، كانت تبين منك وتكون معصية» فإنه ظاهر في إمضاء الثلاث مجموعة. وأجيب أولا: بأن في سنده شعيب بن زريق الشامي عن عطاء الخراساني، وقد وثق الدارقطني شعيبا، وذكره ابن حبان في الثقات، وحكى عنه ابن حجر أنه قال: يعتبر بحديثه من غير روايته عن عطاء الخراساني، وقال الأزدي: فيه لين، وقال ابن حزم: ضعيف، أما عطاء الخراساني فقد ذكره البخاري في الضعفاء، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به، ووثقه ابن سعد وابن معين وأبو حاتم، ومع ذلك فقد انفرد شعيب عن الأئمة الأثبات بهذه الزيادة فإنه لم يعرف عن أحد منهم ذكرها.

سادسا: حديث عبادة بن الصامت في تطليق بعض آبائه امرأته ألفا، فلما سأل بنوه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه» . وأجيب: بأن في سنده رواة مجهولين وضعفاء. سابعا: حديث: «من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته» . وأجيب: بأن في سنده إسماعيل بن أمية الذراع، وقد قال فيه الدارقطني بعد روايته لهذا الحديث، ضعيف متروك الحديث. ثامنا: حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا طلق امرأته ألبتة، فأنكر ذلك، وقال: «من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره (¬1) » . وأجيب: بأن في سنده إسماعيل بن أمية القرشي، قال فيه الدارقطني: كوفي ضعيف، وقال ابن القيم: في إسناد هذا الحديث مجاهيل وضعفاء. وأما الإجماع: فقد نقل كثير من العلماء الإجماع على إمضاء الثلاث في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، منهم: الشافعي وأبو بكر الرازي وابن العربي والباجي وابن رجب، وقالوا: إنه مقدم على خبر الواحد، قال الشافعي: الإجماع أكثر من الخبر المنفرد، وذلك أن الخبر مجوز الخطأ والوهم على راويه، بخلاف الإجماع فإنه معصوم. وأجيب: بأنه قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القول برد الثلاث المجموعة إلى الواحدة. منهم: أبو بكر، وعمر صدر من خلافته، وعلي، وابن مسعود، وابن ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2198) .

عباس، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطاووس، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن إسحاق، وابن تيمية المجد، وأصبغ بن الحباب، ومحمد بن بقي، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وعطاء بن يسار، وابن زنباع، وخلاس بن عمرو، وأهل الظاهر، وخالفهم في ذلك ابن حزم. وغاية الأمر أن يقال: أن بعض من نقل عنهم الإلزام بالثلاث إذا كانت مجموعة نقل عنهم أيضا جعلها واحدة فيكون لهم في المسألة قولان. والقصد أن الخلاف في الإلزام بها مجموعة لم يزل قائما ثابتا. وممن حكى الخلاف في ذلك عن السلف والخلف: أبو الحسن علي بن عبد الله اللخمي، وأبو جعفر الطحاوي في [تهذيب الآثار] وغيرهم، وبهذا يتبين أنه ليس في المسألة إجماع. وأما الآثار المروية عن الصحابة وغيرهم في إمضاء الثلاث على من طلق زوجته ثلاثا في مجلس واحد فكثيرة: منها: ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي هريرة وغيرهم، فإن سلم اعتبارها في الاحتجاج لكونها أقوال صحابة ثبت المطلوب، وخاصة أن فيهم ثلاثة من الخلفاء: عمر الملهم، وعثمان، وعلي، وحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهم، وإلا فالحجة في إجماعهم، فإن فتواهم اشتهرت عنهم، ولم يعرف عمن لم يفت بذلك إنكار لفتواهم به، فكان إجماعا وقد تقدم. وأجيب: بأن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث عقوبة لهم لما رآه

من المصلحة في زمانه؛ ليكفوا عما تتابعوا فيه من جمع الطلاق الثلاث، ويرجعوا إلى ما جعل الله لهم من الفسحة والأناة رحمة منه بهم، ولما علم الصحابة منه حسن سياسته لرعيته وافقوه على ذلك، وأفتوا به رعاية لما رآه من المصلحة؛ ولذا صرحوا لمن استفتاهم في هذا الأمر بأنه عصى ربه ولم يتقه، فلم يجعل له مخرجا، ولم يجعل ذلك الإمضاء شرعا لازما مستمرا؛ لأنه مما تتغير الفتوى به بتغير الزمان والأحوال، بل جعل العقوبة به تقريرا لمن خالف ما أمر به كالنفي، ومنعه صلى الله عليه وسلم المخلفين الثلاثة من نسائهم مدة من الزمن، والضرب في الخمر، ونحو هذا مما يختلف التعزير فيه باختلاف الزمان والأحوال، وكان هذا من الخليفة اجتهادا. وأما القياس: فهو أن النكاح ملك للزوج فتصح إزالته مجتمعا كما صحت إزالته متفرقا وأن الله جعله بيده يزيل منه ما شاء ويبقي ما شاء، كالعتق وعقد النكاح. وأجيب: بأنه قياس مع الفارق فإن الطلاق جعل إليه ليوقعه متفرقا على كيفية معينة، ومنعه من جمعه؛ لما تقدم في المسألة الأولى، فلا يصح قياس جمعه على تفريقه، ولا على العتق، ولا عقد النكاح على أكثر من واحدة وما أشبهها، مما شرع له إيقاعه مجتمعا ومتفرقا.

المذهب الثاني: أن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يعتبر طلقة واحدة، دخل بها الزوج أم لا: وهو قول أبي بكر، وعمر صدر من خلافته، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وكثير من التابعين ومن بعدهم؛ كطاووس، وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إسحاق، وداود الظاهري، وأكثر أصحابه، وهو اختيار ابن تيمية، وابن القيم. واستدل لهذا المذهب بالكتاب، والسنة، والآثار، والإجماع، والقياس: أما الكتاب: فأولا: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) إلى قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2) وبيانه: أن الألف واللام في قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬3) للعهد، والمعهود هو: الطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4) وهو رجعي؛ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬5) فالمعنى: الطلاق من الذي يكون للزوج فيه حق الرجعة مرتان: مرة بعد مرة، ولا فرق في اعتبار كل مرة منهما واحدة بين أن يقول في كل مرة: طلقتك واحدة أو ثلاثا أو ألفا، فكل مرة منهما طلقة رجعية؛ لما سبق، ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 228 (¬2) سورة البقرة الآية 230 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة البقرة الآية 228 (¬5) سورة البقرة الآية 228

ولقوله تعالى بعد: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) وأما قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2) فالضمير المرفوع والمنصوب فيه عائدان إلى المطلق والمطلقة فيما سبق، لئلا يخلو الكلام عن مرجع لهما؛ ولأن الطلاق وقع بعد الشرط والحل بعد النفي، فدل على العموم، فلو كانت هذه الجملة مستقلة عما قبلها للزم تحريم كل مطلقة ولو طلقة أو طلقتين حتى تنكح زوجا آخر، وهو باطل بإجماع، وإذا فمعنى الآية: فإن طلقها مرة ثالثة بلفظ واحد طلقة أو ثلاثا فلا تحل له حتى تتزوج غيره، وبهذا يدل عموم الآية على اعتبار الثلاث بلفظ واحد طلقة، وقد سبقت مناقشة هذا الدليل. ثانيا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬3) وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬4) وبيان أن الجمهور استدلوا بها من وجوه على تحريم جمع الثلاث، وإذا فلا يقع منها مجموعة إلا ما كان مشروعا وهو الواحدة. وأجيب: بأن التحريم لا يناقض إمضاء الثلاث، فكم من عبادة أو عقد مشروع ارتكب فيه مخالفة فقيل لصاحبه: عصى، وصحت عبادته، ومضى عقده، وعلى تقرير المناقضة فهو يمنع من إمضاء الواحدة أيضا لوقوع الطلاق على خلاف ما شرع الله، وذلك ما لا يقول به أحد من ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 230 (¬3) سورة الطلاق الآية 1 (¬4) سورة الطلاق الآية 2

الجمهور. وأما السنة: فمنها أولا: ما رواه مسلم في [صحيحه] من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (¬1) » . وأجيب عن الاستدلال به بما يأتي: أولا: أنه حديث منسوخ؛ لأن ابن عباس أفتى بخلافه، فدل ذلك على أنه علم ناسخا له فاعتمد عليه في فتواه. ونوقش: بأنه يمكن أن يكون اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاد عمر رضي الله عنهما في إمضاء الثلاث تعزيرا للمصلحة، كما تقدم، وأيضا لو علم ناسخا لذكره مع وجود الدواعي إليه، ولم يكتف بمثل ما كان يعلل به في فتواه، وأيضا الصواب: أن العبرة بما رواه الراوي لا بقوله، قالوا أيضا: يدل على نسخ الحديث ما ذكر في سبب نزول قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬2) من أن المطلق كان له الحق في الرجعة ولو طلق ألف مرة، ما دامت مطلقته في العدة، فأنزل الله الآية منعا لهم من الرجعة بعد المرة الثالثة حتى تنكح زوجا آخر. ونوقش: أولا: بأنه روي مرسلا من طريق عروة بن الزبير ومتصلا من ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) . (¬2) سورة البقرة الآية 229

طريق عكرمة عن ابن عباس، لكن في سنده علي بن حسين بن واقد، وهو ضعيف. وثانيا: بأنه استدلال في غير محل النزاع، فإنه ليس فيه الإلزام بالثلاث في لفظ واحد. وقالوا أيضا: يدل على نسخه حديث امرأة رفاعة وحديث اللعان وحديث فاطمة بنت قيس. وقد سبق الاستدلال بها ومناقشتها. وقالوا أيضا: يدل على نسخه إجماع الصحابة زمن عمر رضي الله عنهم على إمضاء الثلاث، فإنه لا يكون إلا عن علم بالناسخ. ونوقش: بأنه لا يتأتى مع قول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فلو كان اعتمادهم على العلم بالناسخ لذكروه ولم يعلل عمر بذلك، وأيضا كيف يستمر العمل بالمنسوح في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما؟ ! مع كون الأمة معصومة في إجماعها عن الخطأ. ونوقش استمرار العمل بالمنسوخ في العهود الثلاثة: بأنه إنما فعله من لم يبلغه النسخ، فلما كان زمن عمر انتشر العلم بالناسخ فأجمعوا على إمضاء الثلاث كما حصل في متعه النكاح سواء. ونوقش: بأن متعة النكاح كان الخلاف فيها مستمرا بين الصحابة؛ لعدم معرفة بعضهم بالناسخ المنقول نقلا صحيحا إلى أن أعلمهم به عمر في خلافته ونهاهم عنها، بخلاف جعل الثلاث في لفظ واحد طلقة واحدة فإنه

ثابت في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يزل العمل عليه عند كل الصحابة في خلافة الصديق إلى سنتين أو ثلاث من خلافة عمر رضي الله عنهما، إما فتوى أو إقرارا أو سكوتا؛ ولهذا ادعى بعض أهل العلم أنه إجماع قديم، لم تجمع الأمة على خلافه بعد، بل لم يزل في الأمة من يفتي بجعل الثلاث واحدة؛ ولم ينقل حديث صحيح يصلح أن يعتمد عليه في نسخ حديث ابن عباس ويكون مستندا لما ذكر من الإجماع، بل الذي روي في ذلك إما في غير الموضوع، وإما في الموضوع لكنه ضعيف أو مكذوب، ومع هذا فقد ثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاوس مرفوعا وموقوفا على ابن عباس، فالمرفوع هو: أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فردها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ما يخالفه مرفوعا، وقد سبقت مناقشة حديث ركانة، وستأتي بقيتها، ولا نكارة في إمضاء عمر للثلاث باجتهاده، ولا على غيره من الصحابة ممن وافق اجتهادهم اجتهاده في إمضائها، وقد بين عمر وابن عباس وغيرهما وجه ذلك بأن الناس لما تتابعوا فيما حرم الله عليهم من تطليقهم ثلاثا مجموعة وكثير منهم ذلك على خلاف ما كانوا عليه قبل الزموا بالثلاث عقوبة لهم، ونظير هذا كلما تتغير فيه الفتوى بتغير الأحوال والأزمان والأمكنة كالعقوبة في الخمر، والتفريق بين الذين خلفوا ونسائهم، وقتال علي لبعض أهل القبلة متأولا، ولم يكن الإمضاء شرعا مستمرا إنما كان رهن ظروفه. وأجيب ثانيا: بتأويل حديث طاوس عن ابن عباس بأن الطلاق الذي كان الناس يوقعونه واحدة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر من خلافة

عمر اعتادوا إيقاعه بعد ذلك ثلاثا، ويشهد لهذا قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ... إلخ. ونوقش: بأنه تأويل يخالف الواقع في العهود الثلاثة الأولى، فإن الطلاق ثلاثا جملة قد وقع فيها من الصحابة، كما تقدم في حديث محمود بن لبيد، وحديث اللعان، وكما يأتي في حديث ركانة، وأيضا يمنع منه ما ورد في بعض روايات الحديث من أنها جعلت واحدة أو ردت إلى الواحدة. وأجيب ثالثا: بحمل الحديث على غير المدخول بها بدليل ذكر ذلك في الرواية الأخرى، فإن الزوج إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق: بانت بالأولى، فكان الثلاث واحدة. ونوقش هذا: ولم يزل ماضيا ولم يتقيد بعهد ولا زمان، وما نحن فيه تغير حكمه في أيام عمر رضي الله عنه عما كان عليه قبل. وقد وجه بعضهم الجواب بتوجيه آخر، وهو: أن زوجها إذا قال لها: أنت طالق ثلاثا بانت بقوله أنت طالق، ولغي قوله: ثلاثا، ونوقش بأنه كلام متصل، فكيف يفصل بعضه من بعض ويحكم لكل بحكم؟ ونوقش أصل الجواب: بأن حديث طاوس نفسه عن ابن عباس مطلق ليس فيه ذكر لغير المدخول بها، وجواب ابن عباس في الرواية الأخرى، والرد على سؤال أبي الصهباء عن تطليق غير المدخول بها ثلاثا، فخص ابن عباس غير المدخول بها ليطابق الجواب السؤال، ومثل هذا ليس له مفهوم

مخالفة. وأجيب رابعا: بأن جعل الثلاث واحدة لم يكن عن علم منه صلى الله عليه وسلم ولا عن أمره، وإلا ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه. ونوقش: بأن جماهير المحدثين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهده صلى الله عليه وسلم له حكم، فإنه على تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بذلك يستبعد أن يفعله الصحابة وهم خير الخلق، ولا يعلمه صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل، ثم كيف يستمر العمل من الأمة على خطأ في عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، والأمة معصومة من إجماعها على الخطأ. وأجيب خامسا: بحمل الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق فإنه يعتبر واحدة مع قصد التوكيد، وثلاثا مع قصد الإيقاع، وكان الصحابة خيارا أمناء فصدقوا فيما قصدوا، فلما تغيرت الأحوال وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ واحد، ألزمهم عمر الثلاث في صورة التكرار؛ إذ صار الغالب عليهم قصدها. ونوقش: بأن حمل الحديث على ذلك خلاف الظاهر، فإن الحكم لم يتغير في صورة التكرار فيما بعد عما كان عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، بل الأمر لم يزل على اعتباره واحدة في هذه الصورة عند قصد التوكيد، ومن ينويه لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب، ومن لا ينويه في الحكم لا يقبل منه مطلقا برا أم فاجرا، وأيضا قول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. إلخ - يرد حمل الحديث على هذه الصورة -، فإن معناه: أن الناس استعجلوا فيما شرعه

الله لهم متراخيا بعضه عن بعض رحمة منه بهم، فأوقعوه بلفظ واحد، فهذا يدل على أن لفظ الثلاث في الحديث مراد به جمع الثلاث دفعة، وإن كان في نفسه محتملا. وأجيب سادسا: بمخالفة فتوى ابن عباس لروايته، فإنه لم يكن ليروي حديثا ثم يخالفه إلى رأي نفسه، ولذلك لما سئل أحمد بأي شيء تدفع حديث ابن عباس؛ قال: برواية الناس عنه من وجوه خلافه. ونوقش: بأن الصواب من القولين في مخالفة الراوي لروايته أن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة راويه، وهو غير معصوم، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو أنه لا يحضره الحديث وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في علنه ما يعارضه ولا يكون معارضا له في الواقع، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لثقته به واعتقاد أنه إنما خالفه لدليل أقوى منه، وعلى هذا الأصل بنى المالكية والشافعية والحنابلة فروعا كثيرة، حيث قدموا العمل برواية الراوي على فتواه، وأيضا كما نقل عن ابن عباس إمضاء الثلاث، وروي عنه اعتبار الثلاث مجموعة طلقة واحدة، وإذا تعارضت الروايتان عدل عنهما إلى الحديث. لكن هذه المناقشة مردودة بأمرين: الأول: أن رواية الراوي إنما تقدم على قوله إذا كانت صريحة أو طاهرة في معنى قال بخلافه، وإلا قدم قوله؛ لأنه يدل على أن الاحتمال الذي خالفه قوله غير مراد من الحديث، وحديث ابن عباس هنا محتمل أن يكون

في الطلاق ثلاثا بلفظ واحد، وأن يكون مفرقا كما في الصورة التي في الجواب الخامس عن الحديث، فدلت فتواه على إرادة صورة التفريق لا صورة الاجتماع. الثاني: أن ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة: أن ابن عباس قال: إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة معارض بما رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة: أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، ورواية إسماعيل مقدمة لموافقته الثقاة في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة. وقد يقال في الأمر الأول: إن لفظ الطلاق الثلاث في الحديث ظاهر فيها مجموعة، وإلا لم يقل عمر رضي الله عنه إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. . . إلخ - اعتذارا منه في الحكم على خلاف ظاهره، وبه اعتذار ابن عباس وغيره في إمضاء الثلاث. وقد سبق الكلام في هذا عند مناقشة الجواب عن الحديث بالنسخ. ويقول في الأمر الثاني: أنه لا مانع من ثبوت القول بجعل الثلاث بلفظ واحدة عن كل من ابن عباس وعكرمة، وعلى تقدير تعارض الروايتين بالنفي والإثبات، فالمثبت مقدم على النافي، على أن حماد بن زيد أثبت في أيوب من كل من روى عن أيوب، كما قال يحيى بن معين، فيقدم على إسماعيل بن إبراهيم (¬1) . ¬

_ (¬1) [تهذيب التهذيب] (3 \ 9) .

وأجيب سابعا: بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث بلفظ ألبتة؛ لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة، فرواه بعض رواته بالمعنى، فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة، وفي هذا جمع بين الروايات، وكان يراد بها واحدة كما أراد بها ركانة، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث بها ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه، ونظيره زيادته الضرب في شرب الخمر حين تتابع الناس فيه. وقد يقال: إن هذا تأويل على خلاف الظاهر بلا دليل، وأيضا تقدم في كلام الشافعي أن كلمة ألبتة مستحدثة، وعلى ذلك لا يجوز حمل لفظ الطلاق الثلاث في الحديث عليها. وأجيب ثامنا: بأنه حديث شاذ؛ لانفراد طاوس به عن ابن عباس، وانفراد الراوي بالحديث - وإن كان ثقة - علة توجب التوقف فيه إذا لم يرو معناه من وجه يصح. ونوقش: بأن مجرد انفراد الثقة برواية الحديث ليس علة توجب رده أو التوقف، ولا يسمى هذا شذوذا عند علماء الحديث، إنما الشذوذ الذي يكون علة في رد الحديث هو: أن يخالف الثقة الثقاة مخالفة لا يمكن معها الجمع، ولم يخالف طاوس في رواية هذا الحديث أحدا من الرواة الثقاة عن ابن عباس في هذا الموضوع، وإنما وقعت المخالفة بين ما رواه وما أفتى به، وقد مضى الكلام في ذلك، لكن لقائل أن يقول: إن استمرار العمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة وتغيير عمر لذلك على علم من

الصحابة مما تتوفر الدواعي على نقله، فنقله آحادا يوجب رده، اللهم إلا أن يحمل الحديث على ما تقدم من أن الطلاق كان على وجه التكرار مع قصد التأكيد أو قد كان بلفظ ألبتة فاختلف الحكم فيه لاختلاف النية. وقد يناقش: ألا يراد بالمنع أن يكون ما ذكر مما توفر الدواعي على نقله، وأنه على تقدير أن يكون من ذلك، فللمستدل أن يقول: إن الحديث قد اشتهر نقله وصح سنده ولم يجرؤ أحد على تكذيبه أو تضعيفه بوجه يعتبر مثله، كما اشتهر نقل مخالفة فتوى عمر وابن عباس لظاهره، ويشهد لهذا اشتغال العلماء سلفا وخلفا بالأمرين، فبعضهم يؤول الحديث ليتفق مع الفتاوى، وبعضهم يذهب إلى بيان وجه مخالفة الفتاوى له ويبقيه على ظاهره، ويعتذر عن الفتوى بخلافه، وبعضهم يعارضه بفتوى ابن عباس ويقدم العمل بها عليه، إلى غير هذا مما يدل على شهرة النقل للأمرين، وعلى تقدير عدم الشهرة فكم من أمر تتوفر الدواعي على نقله قد نقل آحادا وعمل به جمع من أئمة الفقهاء ورده آخرون بهذه الدعوى. وأجيب تاسعا: بأن الحديث مضطرب سندا ومتنا: أما اضطراب سنده: فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس. وأما اضطراب متنه: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ وتارة يقول: ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدر

من خلافة عمر واحدة؟ ونوقش: بأن الاضطراب إنما يحكم به على الحديث إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح وكلاهما ممكن فيما نحن فيه، فإن الرواية عن أبي الجوزاء وهم فيها عبد الله بن المؤمل، حيث انتقل في روايته الحديث عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، وقد كان سيئ الحفظ فلا تعارض بها رواية الثقات عن أبي الصهباء، وأما روايته عن طاوس عن ابن عباس وعن طاوس عن أبي الصهباء وعن ابن عباس - فكلاهما ممكن، فلا تعارض ولا اضطراب، وأما اختلاف المتن فتقدم بيان الجمع بين الروايتين فلا اضطراب. وأجيب عاشرا: بمعارضته بالإجماع، والإجماع معصوم فيقدم وقد تقدمت مناقشة ذلك. ومن السنة أيضا: ما رواه الإمام أحمد في [مسنده] عن سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال: فراجعها (¬1) » ، فكان ابن عباس يرى الطلاق عند كل طهر، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد، واستدل بما روى به في رد ابنته صلى الله عليه وسلم على زوجها ابن أبي العاص بالنكاح الأولى، وقدمه على ما يخالفه فهو حجة ما لم ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .

يعارضه ما هو أقوى منه فكيف إذا عضده نظيره أو ما هو أقوى منه، ودلالة متنه ظاهرة في اعتبار الطلاق ثلاثا في مجلس واحد واحدة. ونوقش: بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث: لفظ ألبتة، لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة، فرواه بعض رواته بالمعنى فعبر بالثلاث بدلا من ألبتة، وفي هذا جمع بين الروايات، وكانت يراد بها واحدة أولا، فلما تتابع الناس في إرادة الثلاث ألزمهم إياها عمر رضي الله عنه، ونظيره زيادة الضرب في شرب الخمر ونحوه مما تغير فيه الحكم لتغير أحوال الناس، وقد تقدم هذا في الجواب السابع عند الاستدلال بحديث طاوس عن ابن عباس في جعل الثلاث المجموعة واحدة مع مناقشته. ونوقش أيضا: بأن لفظ طلقتها ثلاثا يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وأن يكون مفرقا، وأجيب بأن احتمال تفريقه خلاف الظاهر؛ لقوله في الحديث في مجلس واحد، والغالب فيما كان كذلك أن يكون بلفظ واحد. ونوقش أيضا: بمعارضته للإجماع، وقد تقدم مناقشة الإجماع عند الكلام على الاستدلال به على إمضاء الثلاث. ونوقش أيضا: بمعارضته لحديث نافع بن عجير في إمضائه ثلاثا. وأجيب: بترجيح هذه الرواية على رواية نافع بن عجير، لسلامتها، وضعف نافع، وقد سبق شرح ذلك. إلى غير هذا من المناقشات التي سبقت عند الإجابة عن الاستدلال بحديث ابن عباس في اعتبار الثلاث واحدة.

ومن السنة أيضا: حديث بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس: «أن عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - طلق أم ركانة وتزوج امرأة أخرى، فشكت ضعفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بطلاقها فطلقها، وقال له: راجع أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثا، فقال: قد علمت، راجعها (¬1) » . وقد سبق نص الحديث مع مناقشته. ومن السنة أيضا: «حديث ابن عمر، وفيه: أنه طلق امرأته وهي حائض، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى السنة (¬2) » . ورد: أولا: بأن رواة هذا الحديث شيعة. وثانيا: بأن في سنده ظريف بن ناصح، وهو شيعي لا يكاد يعرف. وثالثا: بأنه مع ما ذكر مخالف لما رواه الثقات الأثبات: أن ابن عمر طلق امرأته في الحيض تطليقة واحدة، فهو حديث منكر. واستدلوا بالإجماع: قالوا: إن الأمر لم يزل على اعتبار الثلاث بلفظ واحد واحدة، إلى ثلاث سنين من خلافة عمر. ويمكن أن يجاب: بما ورد من الآثار عن بعض الصحابة من أن الثلاث بلفظ واحد تمضي ثلاثا. وقد سبق ذكرها في استدلال من يقول بإمضاء الثلاث. لكن للمستدل أن يقول: إن الآثار التي وردت فيها الفتوى بخلاف هذا الدليل بدأت في عهد عمر بضرب من التأويل، يدل على تأخير بدئها ظاهر حديث طاوس ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2196) . (¬2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4908) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3392) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، سنن ابن ماجه كتاب الطلاق (2022) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .

عن ابن عباس. وقد تقدم مع المناقشة. واستدلوا: بالقياس، قالوا: كما لا يعتبر قول الملاعن وقول الملاعنة: أشهد بالله أربع شهادات - بكذا، أربع شهادات - لا يعتبر قول الزوج لامرأته: أنت طالق ثلاثا بلفظ واحد ثلاث تطليقات، وكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول أو الفعل من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وإقرار. ونوقش: بأنه قياس مع الفارق، للإجماع على اعتبار الطلقة المفردة في الطلاق، وبينونة المعتدة منها بانتهاء العدة، وعدم اعتبار الشهادة الواحدة من الأربع في اللعان. وللمستدل أن يقول: هذا الفارق مسلم، ومعه فوارق أخرى بينهما، انفرد كل من الطلاق واللعان بشيء منها، لكنها ليست في مورد قياس المستدل هنا، فإنه وارد فيما يعتبر فيه تكرار الفعل أو القول، ولا يعتد فيه بالاكتفاء بذكر اسم العدد، وليس من شرط سلامة القياس اشتراك المقيس والمقيس عليه في جميع صفاتهما، بل إن اعتبار هذا لا يتأتى معه قياس؛ لأن كل شيئين لا بد أن ينفرد كل منهما عن الآخر بخاصة أو خواص، وإلا كان عينه. واستدلوا: بما روي من الآثار في الإفتاء بذلك عن ابن عباس وعلي وابن مسعود والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة ومن بعدهم.

ونوقش: بأن ما روي من ذلك عن طاوس عن ابن عباس مردود، فإن لطاوس عن ابن عباس مناكير منها روايته هذه الفتوى عن ابن عباس. وأجيب: بأن طاووس بن كيسان قد وثقه ابن معين، وسئل أيهما أحب إليك طاوس أم سعيد بن جبير؟ فلم يخير بينهما، وقال قيس بن سعد: كان طاوس فينا مثل ابن سيرين بالبصرة، وقال الزهري: لو رأيت طاووسا علمت أنه لا يكذب، وروى له أصحاب [الكتب الستة] في أصولهم (¬1) . فعلى من ادعى روايته للمناكير عن ابن عباس أن يثبت ذلك بشواهد من رواياته عنه في غير هذه المسألة، أما فيما رواه في هذه المسألة فهو مجرد دعوى في محل النزاع، وما ذكر من مخالفة غيره له في هذه المسألة فغايته أن يكون لابن عباس فيها قولان، روى كل من الفريقين عنه قولا منهما؛ ولذلك قدرتم رجوعه عنها على تقدير صحة روايتها، ثم إن عكرمة تابع طاووسا في روايته هذا الأثر عن ابن عباس وهو من رجال السنة. ونوقش: بأن رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس معارضة برواية إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب: أن هذا الأثر من قول عكرمة. وأجيب: أولا: بأنه لا معارضة لجواز أن يكون روي عن كل منهما. وثانيا: أنه على تقدير المعارضة فرواية حماد بن زيد مقدمة على رواية إسماعيل بن إبراهيم، فإن حمادا أثبت في الرواية عن أيوب من كل من ¬

_ (¬1) [تهذيب التهذيب] (5 \ 8، 9) .

روى عنه (¬1) . المذهب الثالث: أن الطلاق الثلاث يمضي ثلاثا في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها: واستدلوا لمذهبهم في المدخول بها بما استدل به الجمهور. وقد تقدم مع مناقشته. واستدلوا لمذهبهم في غير المدخول بها بحديث أبي الصهباء الذي قال فيه لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من إمارة عمر؟ ! قال: بلى. وقد تقدم الحديث، قالوا: إن التفصيل بين المدخول بها وغير المدخول بها فيه جمع بين الروايات وإثبات حكم كل منها في حال. وقد سبقت مناقشة هذا الدليل. المذهب الرابع: أنه لا يعتد به مطلقا: لأن إيقاعه ثلاثا بلفظ واحد بدعة محرمة، فكان غير معتبر شرعا، لحديث: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬2) » . ورد بأنه لا يعرف القول به عن أحد من السلف، وأن أهل العلم في جميع الأمصار مجمعون على اعتباره والاعتداد به، وإن اختلفوا فيما ¬

_ (¬1) [تهذيب التهذيب] (1 \ 398، 399) . (¬2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .

يمضي منه، ولم يخالف فيه إلا ناس من أهل البدع ممن لا يعتد بهم في انعقاد الإجماع. وقد يستدل لهم أيضا: بأنه كالظهار فإنه لما كان محرما لم يعتبر طلاقا مع قصد المظاهر الطلاق فكذا الطلاق ثلاثا مجموعة. وأجيب: بالفرق، فإن الظهار محرم في نفسه على كل حال، فكان باطلا ولزمت فيه العقوبة على كل حال، بخلاف الطلاق فإن جنسه مشروع كالنكاح والبيع؛ ولذا امتنع في حال دون حال، وانقسم إلى صحيح وباطل أو فاسد. هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. . . حرر في 19 \ 9 \ 1393 هـ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد

قرار هيئة كبار العلماء رقم (18) وتاريخ 12 \ 11 \ 1393 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثالثة، المنعقدة في شهر ربيع الثاني عام 1393 هـ بحث مسألة (الطلاق الثلاث بلفظ واحد) واستنادا إلى المادة السابعة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء، والتي تنص على: أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها المنعقدة في ما بين 29 \ 10 \ 1393 هـ و 12 \ 11 \ 1393 هـ في هذه الدورة جرى دراسة الموضوع. بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في موضوع (الطلاق الثلاث بلفظ واحد) . وبعد دراسة المسألة، وتداول الرأي، واستعراض الأقوال التي قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قول من إيراد - توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا؛ وذلك لأمور أهمها ما

يلي: أولا: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬2) فإن الطلاق الذي شرعه الله هو ما يتعقبه عدة، وما كان صاحبه مخيرا بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان. وهذا منتف في إيقاع الثلاث في العدة قبل الرجعة، فلم يكن طلاقا للعدة، وفي فحوى هذه الآية دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالما لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ولم ينسد الباب أمامه حتى يحتاج إلى المخرج الذي أشارت إليه الآية الكريمة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬3) وهو الرجعة حسبما تأوله ابن عباس رضي الله عنه حين قال للسائل الذي سأله - وقد طلق ثلاثا -: إن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬4) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك. ولا خلاف في أن من لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثا مثلا فقد ظلم نفسه، فعلى القول بأنه إذا طلق ثلاثا فلا يقع من طلاقه إلا واحدة، فما هي التقوى التي بالتزامها يكون المخرج واليسر، وما هي عقوبة هذا الظالم نفسه المتعدي لحدود الله حيث طلق بغير العدة، فلقد جعل الشارع على من قال قولا منكرا لا يترتب عليه مقتضى قوله المنكر عقوبة له على ذلك كعقوبة ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) سورة الطلاق الآية 1 (¬3) سورة الطلاق الآية 2 (¬4) سورة الطلاق الآية 2

المظاهر من امرأته بكفارة الظهار، فظهر والله أعلم: أن الله تعالى عاقب من طلق ثلاثا بإنفاذها عليه وسد المخرج أمامه، حيث لم يتق الله فظلم نفسه وتعدى حدود الله. ثانيا: ما في [الصحيحين] عن عائشة رضي الله عنها: «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم أتحل للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول (¬1) » ، فقد ذكره البخاري رحمه الله تحت ترجمة (باب من أجاز الطلاق ثلاثا) ، واعترض على الاستدلال به بأنه مختصر من قصة رفاعة بن وهب التي جاء في بعض رواياتها عند مسلم أنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات. ورد الحافظ ابن حجر رحمه الله الاعتراض بأن غير رفاعة قد وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة، فلا مانع من التعدد، فإن كلا من رفاعة القرظي ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاق فتزوج كلا منهما عبد الرحمن بن الزبير فطلقها قبل أن يمسها، ثم قال: وبهذا يتبين خطأ من وحد بينهما ظنا منه أن رفاعة بن سموءل هو رفاعة بن وهب. اهـ. وعند مقابلة هذا الحديث بحديث ابن عباس الذي رواه عنه طاوس «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة (¬2) » إلخ. . .) فإن الحال لا تخلو من أمرين: إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنها مجتمعة أو متفرقة، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج، وإن كانت متفرقة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5261) . (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

فلا حجة في حديث طاوس على محل النزاع في وقوع الثلاث بلفظ واحد واحدة، وأما اعتبار الثلاث في حديث عائشة مفرقة وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه. ثالثا: لما وجه به بعض أهل العلم كابن قدامة - رحمه الله - حيث يقول: ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك. والقرطبي رحمه الله حيث يقول: وحجة الجمهور من جهة اللزوم من حيث النظر ظاهرة جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشارع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، كما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذلك في العتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام. اهـ، وغاية ما يمكن أن يتجه على المطلق بالثلاث لومه على الإسراف برفع نفاذ تصرفه. رابعا: لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل، استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول، من أن «ثلاثا جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة (¬1) » ولأن قلب الهازل بالطلاق عمد ذكره، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعليله القول بوقوع الطلاق من الهازل، حيث قال: ومن قال: لا لغو في الطلاق فلا حجة معه؛ بل عليه؛ لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا، وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطلاق (1184) ، سنن أبو داود الطلاق (2194) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2039) .

ذ كره. اهـ. فإن ما زاد على الواحدة لا يخرج عن مسمى الطلاق بل هو من صريحه، واعتبار الثلاث واحدة إعمال لبعض عدده دون باقيه بلا مسوغ، اللهم إلا أن يكون المستند في ذلك حديث ابن عباس، ويأتي الجواب عنه إن شاء الله. خامسا: إن القول بوقوع الثلاث ثلاثا قول أكثر أهل العلم، فلقد أخذ به عمر وعثمان وعلي والعبادلة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وذكر ابن عبد الهادي عن ابن رجب رحمه الله قوله: اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام - شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة، إذا سبق بلفظ واحد. اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بحثه الأقوال في ذلك: الثاني: أنه طلاق محرم ولازم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين. اهـ. وقال ابن القيم: واختلف الناس فيها - أي: في وقوع الثلاث بكلمة واحدة - على أربعة مذاهب: أحدها: أنه يقع، وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة. اهـ.

وقال القرطبي: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف. وقال ابن العربي في كتابه: [الناسخ والمنسوخ] ونقله عنه ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن] : قال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يلزم، وجعلوه واحدة، ونسبوه إلى السلف الأول، فحكوه عن علي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطأة الضعيف المنزلة والمغموز المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل. . . إلى أن قال: وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد، إلى أن قال: وأما حديث الحجاج بن أرطأة فغير مقبول في الملة ولا عند أحد من الأئمة. اهـ. سادسا: لتوجه الإيرادات على حديث ابن عباس رضي الله عنه: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة (¬2) » إلى آخر الحديث، مما يضعف الأخذ به والاحتجاج بما يدل عليه، فإنه يمكن أن يجاب عنه بما يلي: (أ) ما قيل من أن الحديث مضطرب سندا ومتنا: أما اضطراب سنده: فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

عباس. وأما اضطراب متنه: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، وتارة يقول: «ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة (¬1) » . (ب) قد تفرد به عن ابن عباس طاوس، وطاووس متكلم فيه من حيث روايته المناكير عن ابن عباس، قال القاضي إسماعيل في كتابه [أحكام القرآن] : طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث، وعن أيوب أنه كان يعجب من كثرة خطأ طاوس، وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث، وقال ابن رجب: وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أنه قال: رواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والمغرب. (ج) ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحديث شاذ من طريقين: أحدهما: تفرد طاوس بروايته، وأنه لم يتابع عليه، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما روى طاوس، وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، وقال ابن رجب ونقله عنه ابن عبد الهادي: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلا. الثاني: ما ذكره البيهقي، فإنه ساق الروايات عن ابن عباس بلزوم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

الثلاث، ثم نقل عن ابن المنذر أنه لا يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه، وقال ابن التركماني: وطاووس يقول: إن أبا الصهباء مولاه سأله عن ذلك ولا يصح ذلك عن ابن عباس لرواية الثقات عنه خلافه، ولو صح عنه ما كان قوله حجة على من هو من الصحابة أجل وأعلم منه وهم عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. اهـ. فلما في هذا الحديث من الشذوذ فقد أعرض عنه الشيخان الجليلان أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فقد قال للأثرم وابن منصور: بأنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد، لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، والإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولا شك أنهما لم يتركاه إلا لموجب يقتضي ذلك. (د) أن حديث ابن عباس يتحدث عن حالة اجتماعية مفروض فيها أن تكون معلومة لدى جمهور معاصريها، وتوفر الدواعي لنقلها بطرق متعددة مما لا ينبغي أن يكون موضع خلاف، ومع هذا لم تنقل إلا بطريق أحادي عن ابن عباس فقط، ولم يروها عن ابن عباس غير طاوس الذي قيل عنه بأنه يروي المناكير، ولا يخفى ما عليه جماهير علماء الأصول من أن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي لنقله متوفرة، ولم ينقله إلا واحد ونحوه أن ذلك يدل على عدم صحته، فقد قال صاحب [جمع الجوامع] عطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر: والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اهـ.

وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: إذا انفرد واحد فيما يتوافر الدواعي على نقله وقد شاركه خلق كثير، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة. اهـ. فلا شك أن الدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، من أن الطلاق الثلاث كانت تجعل واحدة متوفرة توافرا لا يمكن إنكاره، ولا شك أن سكوت جميع الصحابة عنه حيث لم ينقل عنهم حرف واحد في ذلك غير ابن عباس، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما أن المقصود بحديث ابن عباس ليس معناه بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد، وإما أن الحديث غير صحيح لنقله آحادا مع توفر الدواعي لنقله. (هـ) ما عليه ابن عباس رضي الله عنه من التقى والصلاح والعلم والاستقامة والتقيد بالاقتداء والقوة في الصدع بكلمة الحق التي يراها، يمنع القول بانقياده إلى ما أمر به عمر رضي الله عنه من إمضاء الثلاث والحال أنه يعرف حكم الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر من أنه يجعل واحدة. فلا يخفى خلافه مع عمر رضي الله عنهما في متعة الحج وبيع الدينار بالدينارين وفي بيع أمهات الأولاد وغيرها من مسائل الخلاف، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه، وإلى قوته رضي الله عنه في الصدع بكلمة الحق التي يراها، تشير كلمته المشهورة في مخالفته عمر في متعة الحج وهي قوله: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول:

قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. (و) على فرض صحة حديث ابن عباس فإن ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقى والصلاح والاستقامة وتمام الاقتداء بما عليه الحال المعتبرة شرعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر - يمنع القول بانقيادهم إلى أمر عمر رضي الله عنه في إمضاء الثلاث، والحال أنهم يعرفون ما كان عليه أمر الطلاق الثلاث في ذلك العهد، ومع هذا فلم يثبت بسند صحيح أن أحدا منهم أفتى بمقتضى ما عليه الأمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر حسبما ذكره ابن عباس في حديثه. (ز) ما في حديث ابن عباس من الدلالة على أن عمر أمضى الثلاث عقوبة للناس؛ لأنهم قد استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة. وهذا مشكل، ووجه الإشكال: كيف يقرر عمر رضي الله عنه - وهو هو تقى وصلاحا وعلما وفقها - بمثل هذه العقوبة التي لا تقتصر آثارها على من استحقها، وإنما تتجاوزه إلى طرف آخر ليس له نصيب في الإجرام، ونعني بالطرف الآخر: الزوجات، حيث يترتب عليها إحلال فرج حرام على طرف ثالث، وتحريم فرج حلال بمقتضى عقد الزواج، وحقوق الرجعة، مما يدل على أن حديث طاوس عن ابن عباس فيه نظر. وأما المشايخ: عبد العزيز بن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله خياط، وراشد بن خنين، ومحمد بن جبير - فقد اختاروا القول بوقوع الثلاث واحدة، ولهم وجهة نظر مرفقة، وأما الشيخ صالح بن لحيدان فقد أبدى التوقف.

وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الرابعة عبد الله بن محمد بن حميد عبد الله خياط مخالف ... عبد العزيز بن صالح ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن غديان ... صالح بن لحيدان ... محمد الأمين الشنقيطي عبد المجيد حسن ... سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين عبد الله بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز محمد الحركان ... صالح بن غصون ... محمد بن جبير

وجهة نظر المخالفين

وجهة نظر المخالفين نرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، وقد سبقنا إلى القول بهذا ابن عباس في رواية صحيحة ثابتة عنه، وأفتى به: الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود من الصحابة في رواية عنهم، وأفتى به: عكرمة، وطاووس وغيرهما من التابعين، وأفتى به ممن بعدهم: محمد بن إسحاق، وخلاس بن عمرو، والحارث العكلي، والمجد بن تيمية، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وتلميذه شمس الدين ابن القيم وغيرهم. وقد استدل على ذلك بما يأتي: الدليل الأول: قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) وبيانه: أن الطلاق الذي شرع للزوج فيه الخيار بين أن يسترجع زوجته أو يتركها بلا رجعة حتى تنقضي عدتها فتبين منه مرتان: مرة بعد مرة، سواء طلق في كل مرة منهما طلقة أو ثلاثا مجموعة؛ لأن الله تعالى قال: {مَرَّتَانِ} (¬2) ولم يقل طلقتان، ثم قال تعالى في الآية التي تليها: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) فحكم بأن زوجته تحرم عليه بتطليقه إياها المرة الثالثة حتى تنكح زوجا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة البقرة الآية 230

غيره، سواء نطق في المرة الثالثة بطلقة واحدة أم بثلاث مجموعة، فدل على أن الطلاق شرع مفرقا على ثلاث مرات، فإذا نطق بثلاث في لفظ واحد كان مرة واعتبر واحدة. الدليل الثاني: ما رواه مسلم في [صحيحه] ، من طريق طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم) فأمضاه عليهم (¬1) » . وفي [صحيح مسلم] ، أيضا عن طاوس عن ابن عباس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ ! قال: (قد كان ذلك) ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم) . فهذا الحديث واضح الدلالة على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد، طلقة واحدة وعلى أنه لم ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر؛ ولأن عمر علل إمضاءه ثلاثا بقوله: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة) ولم يدع النسخ ولم يعلل الإمضاء به، ولا بظهوره بعد خفائه؛ ولأن عمر استشار الصحابة في إمضائه ثلاثا، وما كان عمر ليستشير أصحابه في العدول عن العمل بحديث علم أو ظهر له أنه منسوخ. وما أجيب به عن حديث ابن عباس فهو: إما تأويل متكلف، وحمل للفظه على خلاف ظاهره بلا دليل، وإما طعن فيه بالشذوذ والاضطراب ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطلاق (1472) ، سنن النسائي الطلاق (3406) ، سنن أبو داود الطلاق (2199) .

وضعف طاوس، وهذا مردود بأن مسلما رواه في [صحيحه] ، وقد اشترط ألا يروي في كتابه إلا الصحيح من الأحاديث، ثم إن الطاعنين فيه قد احتجوا بقول عمر في آخره: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم) ، فأمضاه عليهم، فكيف يكون آخره حجة مقبولة ويكون صدره مردودا لاضطرابه وضعف راويه؟ وأبعد من هذا ما ادعاه بعضهم من أن العمل كان جاريا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بجعل الطلاق الثلاث واحدة لكنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بذلك، إذ كيف تصح هذه الدعوى والقرآن ينزل والوحي مستمر، وكيف تستمر الأمة على العمل بالخطأ في عهده وعهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر، وكيف يعتذر عمر في عدوله عن ذلك إلى إمضائه عليهم بما ذكر في الحديث من استعجال الناس في أمر كانت لهم فيه أناة. ومن الأمور الواهية التي حاولوا بها رد الحديث معارضته بفتوى ابن عباس على خلافه، ومن المعلوم عند علماء الحديث وجمهور الفقهاء أن العبرة بما رواه الراوي متى صحت الرواية، لا برأيه وفتواه بخلافه، لأمور كثيرة استندوا إليها في ذلك، وجمهور من يقول بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر ثلاثا يقولون بهذه القاعدة، ويبنون عليها الكثير من الفروع الفقهية، وقد عارضوا الحديث أيضا بما ادعوه من الإجماع على خلافه بعد سنتين من خلافة عمر رضي الله عنه مع العلم بأنه قد ثبت الخلاف في اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا، واعتباره واحدة بين السلف والخلف، واستمر إلى يومنا، ولا يصح الاستدلال على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ

واحد ثلاثا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجة رفاعة القرظي عليه حتى تنكح زوجا غيره لتطليقه إياها ثلاثا؛ لأنه ثبت أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، كما رواه مسلم في [صحيحه] فكان الطلاق مفرقا، ولم يثبت أن رفاعة بن وهب النضري جرى له مع زوجته مثل ما جرى لرفاعة القرظي حتى يقال بتعدد القصة، وأن إحداهما كان الطلاق فيها ثلاثة مجموعة، ولم يحكم ابن حجر بتعدد القصة بل قال: إن كان محفوظا - يعني حديث رفاعة النضري - فالواضح تعدد القصة، واستشكل ابن حجر تعدد القصة في كتابه [الإصابة] ، قال: لكن المشكل اتحاد اسم الزوج الثاني عبد الرحمن بن الزبير. الدليل الثالث: ما رواه الإمام أحمد في [مسنده] ، قال: حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد - أخو بني المطلب - امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها، قال: طلقتها ثلاثا قال؟ فقال: في مجلس واحد قال: نعم، فقال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت، قال: فراجعها (¬1) » ، قال: فكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر. قال ابن القيم في كتابه [إعلام الموقعين] : (وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه) ، وضعف أحمد وأبو عبيد والبخاري ما روي من أن ركانة طلق زوجته بلفظ - ألبتة. الدليل الرابع: بالإجماع، وبينه ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن الأمر ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطلاق (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (1/265) .

لم يزل على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة في عهد أبي بكر وسنتين أو ثلاث من خلافة عمر، وأن ما روي عن الصحابة من الفتوى بخلاف ذلك فإنما كان من بعضهم بعدما أمضاه عمر ثلاثا تعزيرا وعقوبة، لما استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، ولم يرد عمر بإمضاء الثلاث أن يجعل ذلك شرعا كليا مستمرا، وإنما أراد أن يلزم به ما دامت الدواعي التي دعت إليه قائمة، كما هو الشأن في الفتاوى التي تتغير بتغير الظروف والأحوال. وللإمام أن يعزر الرعية عند إساءة التصرف في الأمور التي لهم فيها الخيار بين الفعل والترك بقصرهم على بعضها ومنعهم من غيره، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا من زوجاتهم مدة من الزمن عقوبة لهم على تخلفهم عن غزوة تبوك مع أن زوجاتهم لم يسئن، وكالزيادة في عقوبة شرب الخمر، وتحديد الأسعار عند استغلال التجار مثلا للظروف وتواطئهم على رفع الأسعار دون مسوغ شرعي إقامة للعدل، وفي معنى هذا تنظيم المرور، فإنه فيه منع الناس من المرور في طرق قد كان مباحا لهم السير فيها من قبل؛ محافظة على النفوس والأموال، وتيسيرا للسير مع أمن وسلام. الدليل الخامس: قياس الطلاق الثلاث على شهادات اللعان، قالوا: كما لا يعتبر قول الزوج في اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أني رأيتها تزني إلا شهادة واحدة لا أربعا، فكذا لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا لا يعتبر إلا طلقة واحدة لا ثلاثا، ولو قال: أقر بالزنا أربعا مكتفيا بذكر اسم العدد عن تكرار الإقرار لم يعتبر إلا واحدة عند من اعتبر التكرار في الإقرار، فكذا لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا مكتفيا باسم العدد عن تكرار الطلاق لم يعتبر

إلا واحدة، وهكذا كل ما يعتبر فيه تكرار القول لا يكفي فيه عن التكرار ذكر اسم العدد كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات المكتوبة. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم. حرر في 12 \ 11 \ 1393 هـ.

مصادر البحث

مصادر بحث الطلاق الثلاث بلفظ واحد 1 -[تفسير القرطبي] ، طبع مطبعة دار الكتب المصرية - عام 1354 هـ. 2 -[أحكام القرآن] لأحمد بن علي الرازي (الجصاص) طبع بمطبعة البهية المصرية، سنة 1347 هـ. 3 -[أضواء البيان] . 4 -[صحيح البخاري] ، ومعه [فتح الباري] : طبع المطبعة السلفية، بترقيم عبد الباقي، وإشراف محيي الدين الخطيب. 5 -[عمدة القاري] للعيني، طبع المطبعة المنيرية. 6 -[صحيح مسلم وعليه النووي] الطبعة الأولى، طبع بالمطبعة الأزهرية - سنة 1347 هـ. 7 -[مختصر سنن أبي داود] ومعها [المعالم] للخطابي و [تهذيبها] ، لابن القيم: طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية - عام 1367 هـ. 8 -[جامع الترمذي] . 9 -[عارضة الأحوذي على الترمذي] لابن العربي. 10 -[شرح الزرقاني على الموطأ] طبع بمطبعة الاستقامة بالقاهرة - سنة 1373 هـ. 11 -[مسند الإمام أحمد] بتعليق أحمد شاكر، طبع دار المعارف - سنة 1369 هـ.

12 -[مستدرك الحاكم وعليه تلخيصه للذهبي] الطبعة الأولى - سنة 1340 هـ، طبع بمطبعة حيدر آباد. 13 -[نيل الأوطار] طبعة حلبية، الطبعة الثانية - عام 1371 هـ. 14 -[جامع العلوم والحكم] لابن رجب، طبعة حلبية - عام 1382 هـ الطبعة الثالثة. 15 -[سنن ابن ماجه] الطبعة الأولى بالمطبعة النازية. 16 -[سنن سعيد بن منصور] . 17 -[سنن الدارقطني] طبع دار المحاسن للطباعة - طبع عام 1386 هـ. 18 -[السنن الكبرى] للبيهقي - الطبعة الأولى - بمطبعة حيدر آباد. 19 -[المصنف] ، لعبد الرزاق: الطبعة الأولى. 20 -[شرح المواهب اللدنية] للزرقاني المالكي، الطبعة الأولى، بالمطبعة الأزهرية - سنة 1325 هـ. 21 -[شرح معاني الآثار] ، طبع مطبعة الأنوار المحمدية. 22 -[المنتقى] للباجي، طبع مطبعة السعادة - الطبعة الأولى، عام 1332 هـ. 23 -[الجرح والتعديل] ، الطبعة الأولى، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن - عام 1371 هـ. 24 -[تهذيب التهذيب] الطبعة الأولى، بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد الدكن - عام 1327 هـ. 25 -[خلاصة تهذيب تهذيب الكمال] الطبعة الأولى - بالمطبعة الخيرية - عام 1323 هـ.

26 -[الإصابة ومعها الاستيعاب] ، طبع بمطبعة مصطفى محمد. 27 -[المستفاد من مبهمات المتن والإسناد]- طبع مطابع الرياض. 28 -[بدائع الصنائع] للكني - طبع بمطبعة الجمالية بمصر، الطبعة الأولى عام 1328 هـ. 29 -[المبسوط] ، للسرخسي - طبع بمطبعة السعادة، بجوار محافظة مصر، الطبعة الأولى. 30 -[فتح القدير] لابن الهمام - الطبعة الأولى، بالمطبعة الكبرى الأميرية - عام 1315 هـ. 31 -[المدونة] ، الطبعة الأولى، بالمطبعة الخيرية سنة 1324 هـ، ومعها [المقدمات] . 32 -[المقدمات] لابن رشد، ومعها [المدونة] . 33 -[مواهب الجليل] للحطاب: ملتزم الطبع مكتبة النجاح، ليبيا. 34 -[الأم] الطبعة الأولى، بالمطبعة الخيرية - عام 1331 هـ. 35 -[المهذب] الطبعة الحلبية. 36 -[المغني والشرح الكبير] ، الطبعة الأولى، بمطبعة المنار - سنة 1346 هـ. 37 -[الكافي] ، الطبعة الأولى - سنة 1382 هـ - طبع المكتب الإسلامي. 38 -[الإنصاف] ، طبع بمطبعة السنة المحمدية - عام 1377 هـ. 39 -[مجموع فتاوى شيخ الإسلام] . 40 -[زاد المعاد] طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية. 41 -[إعلام الموقعين] الطبعة المنيرية.

42 -[إغاثة اللهفان] طبعة حلبية - عام 1357 هـ. 43 -[مسودة آل تيمية] . 44 -[سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث] ليوسف بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الهادي، طبعه محمد نصيف ضمن مجموعة رأس الحسين. 45 -[المحلى] ، لابن حزم، الطبعة الأولى. 46 -[التجريد في أسماء الصحابة] ، للذهبي، الطبعة الأولى في مطبعة دائرة المعارف النظامية - بحيدر آباد الدكن. 47 -[الناسخ والمنسوخ] ، لابن النحاس، الطبعة الأولى.

حكم النشوز والخلع

(6) حكم النشوز والخلع هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم النشوز والخلع الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وآله وصحبه وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة مسألة النشوز والخلع (¬1) ، وقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس، وهذا نصه: الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد: فبناء على ما تقرر من أن تبحث مسألة النشوز والخلع في الدورة الخامسة، وأن يدرج موضوعها في جدول أعمال تلك الدورة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي: 1 - معنى النشوز والخلع في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثالث، ص 175 -226، لعام 1397 هـ.

2 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوج. 3 - الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوجة. 4 - حكم أخذ العوض على الخلع عند تحقق النشوز أو توقعه. 5 - الحكم فيما إذا كان النشوز منهما جميعا أو ادعاه كل واحد منهما على الآخر. وختمت ذلك بخلاصة لما تضمنه البحث. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء

حكم النشوز والخلع النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء: قال ابن منظور: نشز: النشز والنشز: المتن المرتفع من الأرض، وهو أيضا ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ، والجمع أنشاز ونشوز، وقال بعضهم: جمع النشز: نشوز، وجمع النشز: أنشاز ونشاز، مثل جبل وأجبال وجبال. والنشاز بالفتح كالنشز. ونشز ينشز نشوزا: أشرف على نشز من الأرض وهو ما ارتفع وظهر، يقال: أقعد على ذلك النشاز، وفي الحديث: «إنه كان إذا أوفى على نشز كبر (¬1) » أي: ارتفع على رابية في سفر، قال: وقد تسكن الشين، ومنه الحديث في خاتم النبوة: «بضعة ناشزة» أي: قطعة لحم مرتفعة على الجسم، ومنه الحديث: «أتاه رجل ناشز الجبهة (¬2) » أي: مرتفعها، ونشز الشيء ينشز نشوزا: ارتفع، وتل ناشز: مرتفع، وجمعه نواشز، وقلب ناشز: إذا ارتفع عن مكانه من الرعب، وأنشزت الشيء: إذا رفعته عن مكانه، ونشز في مجلسه ينشز وينشز بالكسر والضم: ارتفع قليلا، وفي التنزيل العزيز: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (¬3) قال الفراء: قرأها الناس بكسر الشين، وأهل الحجاز يرفعونها، قال: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2995) ، صحيح مسلم الحج (1344) ، سنن الترمذي الحج (950) ، سنن أبو داود الجهاد (2770) ، مسند أحمد بن حنبل (2/21) . (¬2) صحيح البخاري المغازي (4351) . (¬3) سورة المجادلة الآية 11

وهما لغتان. قال أبو إسحاق: معناه: إذا قيل: انهضوا فانهضوا وقوموا، كما قال تعالى: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} (¬1) وقيل في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} (¬2) أي: قوموا إلى الصلاة أو قضاء حق أو شهادة فانشزوا، ونشز الرجل ينشز إذا كان قاعدا فقام، وركب ناشز: ناتئ مرتفع، وعرق ناشز منتبر ناشز، لا يزال يضرب من داء أو غيره، وقوله: أنشده ابن الأعرابي: فما ليلى بناشزة القصيرى ... ولا وقصاء لبستها اعتجار فسره فقال: ناشزة القصيرى، أي: ليست بضخمة الجنبين مشرفة القصيرى بما عليها من اللحم. وأنشز الشيء: رفعه عن مكانه. وإنشاز عظام الميت: رفعها إلى مواضعها، وتركيب بعضها على بعض، وفي التنزيل العزيز: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} (¬3) أي: نرفع بعضها على بعض. قال الفراء: قرأ زيد بن ثابت {نُنْشِزُهَا} (¬4) بالزاي، قال: والإنشاز نقلها إلى مواضعها، قال: وبالراء قرأها الكوفيون. قال ثعلب: والمختار الزاي؛ لأن الإنشاز تركيب العظام بعضها على بعض. . وفي الحديث: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم (¬5) » أي: رفعه وأعلاه وأكبر حجمه، وهو من النشز المرتفع من الأرض. قال أبو إسحاق: النشوز يكون بين الزوجين، وهو كراهة كل واحد ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 53 (¬2) سورة المجادلة الآية 11 (¬3) سورة البقرة الآية 259 (¬4) سورة البقرة الآية 259 (¬5) سنن أبو داود النكاح (2059) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .

منهما صاحبه، واشتقاقه من النشز، وهو: ما ارتفع من الأرض، ونشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها تنشز، وتنشز نشوزا وهي ناشز: ارتفعت عليه واستعصت عليه وأبغضته وخرجت عن طاعته وفركته. قال: سرت تحت إقطاع من الليل حتى ... لخمان بيت فهي لا شك ناشز قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (¬1) نشوز المرأة: استعصاؤها على زوجها، ونشز هو عليها نشوزا كذلك، وضربها وجفاها وأضر بها، وفي التنزيل العزيز: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (¬2) وقد تكرر ذكر النشوز بين الزوجين في الحديث، والنشوز: كراهية كل واحد منهما صاحبه وسوء عشرته له، ورجل نشز: غليظ عيل، قال الأعشى: وتركب مني إن بلوت نكيثتي ... على نشز قد شاب ليس بتوئم أي: غلظ ذهب إلى تكبيره وتعظيمه فلذلك جعله أشيب، ونشز بالقوم في الخصومة نشوزا: نهض بهم للخصومة. ونشز بقرنه ينشز به نشوزا: احتمله فصرعه. قال شمر: وهذا كأنه مقلوب، مثل: جذب وجبذ، ويقال للرجل إذا أسن ولم ينقص: إنه لنشز من الرجال، وصتم إذا انتهى سنه وقوته وشبابه. قال أبو عبيد: النشز والنشز: الغليظ الشديد، ودابة نشيزة إذا لم يكد ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 34 (¬2) سورة النساء الآية 128

يستقر الراكب عليها والسرج على ظهرها، ويقال للدابة إذا لم يكد يستقر السرج والراكب على ظهرها: إنها لنشزة. اهـ (¬1) . وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص في تعريف النشوز: وأصل النشوز: الترفع على الزوج بمخالفته، مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها. اهـ (¬2) . وقال القرطبي: والنشوز: العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض. يقال: نشز الرجل ينشز، وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما، ومنه قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (¬3) أي: ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى، فالمعنى: أي: تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج. وقال أبو منصور اللغوي: النشوز: كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه، يقال: نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء، ونشصت تنشص، وهي السيئة للعشرة. وقال ابن فارس: ونشزت المرأة: استصعبت على بعلها، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها، قال ابن دريد: نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد. اهـ. ¬

_ (¬1) [لسان العرب] ، (5 \ 417، 418) . (¬2) [أحكام القرآن] ، للجصاص (2 \ 230) المطبعة البهية المصرية سنة 1347 هـ. (¬3) سورة المجادلة الآية 11

وقال منصور البهوتي: (فصل في النشوز) : وهو كراهة كل من الزوجين صاحبه وسوء عشرته، يقال: نشزت المرأة على زوجها فهي ناشزة وناشز، ونشز عليها زوجها جفاها وأضر بها، قاله في [المبدع] ، وغيره، وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها، مأخوذ من النشز وهو: ما ارتفع من الأرض، فكأنها ارتفعت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف، ويقال: نشصت بالشين المعجمة والصاد المهملة. اهـ المقصود (¬1) . ¬

_ (¬1) [كشاف القناع] ، (5 \ 164، 165) .

النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة

النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة وقد يدعيه كل منهما على صاحبه: أما نشوز الزوج على امرأته: فقد قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬1) قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها يقول: علمت من زوجها {نُشُوزًا} (¬2) يعني: استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها، أثرة عليها وارتفاعا بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أسبابها: إما دمامتها وإما سنها وكبرها أو غير ذلك من أمورها، {أَوْ إِعْرَاضًا} (¬3) يعني: انصرافا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (¬4) يقول: فلا حرج عليهما ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 128 (¬2) سورة النساء الآية 128 (¬3) سورة النساء الآية 128 (¬4) سورة النساء الآية 128

يعني: على المرأة الخائفة - نشوز بعلها أو إعراضه عنها {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (¬1) وهو: أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح، يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬2) يعني: والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والطلاق. . . ثم قال: وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ثم ذكر رحمه الله مجموعة آثار بأسانيدها إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وابن عباس، ورافع بن خديج، وعبيدة، وإبراهيم، وقتادة، ومجاهد، والسدي، والضحاك، وابن زيد (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 128 (¬2) سورة النساء الآية 128 (¬3) انظر: [جامع البيان] (9 \ 267، 278) (تحقيق \ محمود وأحمد شاكر) .

باب مصالحة المرأة زوجها

باب مصالحة المرأة زوجها قال الجصاص: قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (¬1) قيل في معنى النشوز: إنه الترفع عليها لبغضه إياها، مأخوذ من نشز الأرض، وهي: المرتفعة، وقوله {أَوْ إِعْرَاضًا} (¬2) يعني: لموجدة أو أثرة، فأباح الله لهما الصلح. فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 128 (¬2) سورة النساء الآية 128

مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها. وقال عمر: ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية: الآية، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز (¬2) » . وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها، فتقول: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي، فذلك قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (¬3) إلى قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬4) وعن عائشة من طرق كثيرة: «أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به لها (¬5) » ، قال أبو بكر: فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة، وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة. وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة، وأباح الله أن تترك حقها من القسم، وأن تجعله لغيرها من نسائه، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية، إلا أنه إنما يجوز لها ¬

_ (¬1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) . (¬2) سورة النساء الآية 128 (¬1) {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (¬3) سورة النساء الآية 128 (¬4) سورة النساء الآية 128 (¬5) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2594) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770) ، سنن أبو داود النكاح (2138) ، سنن ابن ماجه النكاح (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (6/198) ، سنن الدارمي الجهاد (2423) .

إسقاط ما وجب من النفقة للماضي، فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه، وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها. فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا، ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء؟ لأن ذلك أكل مال بالباطل، أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه؛ لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح، وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر، فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد. فإن قيل: فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة، قيل له: لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد، ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة، والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع، ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها. وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه، أو بعضه أو على الزيادة عليه؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه، وقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬1) قال بعض أهل العلم: يعني: خير من الإعراض والنشوز، وقال آخرون: من الفرقة، وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 128

الأشياء إلا ما خصه الدليل. اهـ (¬1) . وقال القرطبي: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬2) فيه مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ} (¬3) رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده، و {خَافَتْ} (¬4) بمعنى: توقعت، وقول من قال: {خَافَتْ} (¬5) تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى: وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز: التباعد، والإعراض: أن لا يكلمها ولا يأنس بها. ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة، روى الترمذي عن ابن عباس قال: «خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة، ففعل فنزلت: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز (¬7) » ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] ، (2 \ 345، 346) المطبعة البهية بمصر. (¬2) سورة النساء الآية 128 (¬3) سورة النساء الآية 128 (¬4) سورة النساء الآية 128 (¬5) سورة النساء الآية 128 (¬6) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) . (¬7) سورة النساء الآية 128 (¬6) {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}

فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت السنة بذلك ونزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (¬1) وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (¬2) قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية، وقراءة العامة أن يصالحا. وقرأ أكثر الكوفيين {أَنْ يُصْلِحَا} (¬3) وقرأ الجحدري وعثمان البتي {أَنْ يُصْلِحَا} (¬4) والمعنى: يصطلحا ثم أدغم. الثانية: في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ سباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها. قال ابن أبي مليكة: «إن سودة بنت زمعة لما أسنت، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل صلى الله عليه وسلم وماتت وهي من أزواجه (¬5) » . قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة: روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق، فطلقها واحدة، ثم أهملها، حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال: ما شئت: إنما بقيت ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 128 (¬2) سورة النساء الآية 128 (¬3) سورة النساء الآية 128 (¬4) سورة النساء الآية 128 (¬5) سنن الترمذي تفسير القرآن (3040) .

واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك، قالت: بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه، وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬1) قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم: (فآثر الشابة عليها) : يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها، لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع. والله أعلم. . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج. وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول لهذه الكبيرة: أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه، ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 128

وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم. الثالثة: قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة، بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء - فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وهبت يومي لك (¬1) » ، ذكره ابن خويز منداد عن عائشة اهـ (¬2) فإذا كان النشوز من الزوج ولم يتم اصطلاح بين الزوجين، فلا يحل له أن يستمر في نشوزه عليها والعضل لها ليضطرها أن تفتدي نفسها ببذلها ما آتاها أو بعضه ليطلقها بل عليه أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فلا جناح عليهما فيما افتدت به، أو أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة فيباح له حينئذ، عضلها ليأخذ ما آتاها أو بعضه ليطلقها، قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬3) قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} (¬4) ¬

_ (¬1) سنن أبو داود السنة (4602) ، مسند أحمد بن حنبل (6/338) . (¬2) [تفسير القرطبي] (5 \ 403 وما بعده) . (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة البقرة الآية 229

ولا يحل لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن -لطلاقكم وفراقكم إياهن- شيئا مما أعطيتموهن من الصداق وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة، وغير ذلك مما يجب لهن عليكم {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬1) إلى أن قال: فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما ألا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟ قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف عليها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب لها عليه، فذلك حين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له. . . ثم ذكر مجموعة أحاديث بأسانيدها تؤيد ما ذهب إليه من تعيين الحال التي يخاف على الزوجين ألا يقيما حدود الله فيباح للزوجة الافتداء من زوجها، ويباح للزوج أخذ العوض على طلاقها. ومن ذلك قوله: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: «نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، قال: وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ويطيب ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229

لي ذلك؟ قال: نعم، قال ثابت: قد فعلت فنزلت: (¬2) » اهـ (¬3) . وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬4) وذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل العلم في المخاطب بالنهي عن العضل منها: أن المخاطبين بذلك ورثة الأزواج. ومنها: أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم ومنعوهن أن يتزوجن بعدهم إلا بإذنهم. ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين كرهوا زوجاتهم وأمسكوهن ضرارا ليفتدين. ثم قال: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (¬5) قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق، وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة؛ لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين؛ إما ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الطلاق (2057) . (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬1) {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (¬3) [جامع البيان] (4\ 549) وما بعدها. (¬4) سورة النساء الآية 19 (¬5) سورة النساء الآية 19

لزوجها بالتضييق عليها وحبسها وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه إنكاحها، وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما، وكان الوالي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا، فيقال: إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها كان معلوما أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه. . . إلى أن قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) يعني بذلك جل ثناؤه: لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن وأنتم لصحبتهن كارهون وهن لكم طائعات لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 19 (¬2) سورة النساء الآية 19

ثم ذكر رحمه الله أقوال أهل التأويل في معنى الفاحشة: فذكر آثارا بأسانيدها إلى الحسن البصري وعطاء الخراساني والسدي: أن المقصود بالفاحشة: الزنا. وذكر آثارا أخرى بأسانيدها إلى ابن عباس ومقسم، والضحاك بن مزاحم، وقتادة وعطاء بن أبي رباح، أن المقصود بالفاحشة النشوز، ثم قال: وأولى ما قيل في تأويل قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) أنه معني به: كل فاحشة، من بذاء باللسان على زوجها، وأذى له، وزنا بفرجها، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) كل فاحشة متبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 19 (¬2) سورة النساء الآية 19

الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي حدثني يونس بن سليمان البصري قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (¬1) » . حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا يزيد بن الحباب قال: حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في المعروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . فأخبر صلى الله عليه وسلم: أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحدا، وأن لا تعصيه في معروف، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف. ومعلوم: أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حقكم عليهن أن لا يوطئن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .

فرشكم أحدا (¬1) » إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم. وإذا ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه -أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف، وإذا كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها -بمنعه إياها ما له منعها- حقا لها واجبا عليه، وإذا كان ذلك كذلك، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها زوجها ما أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح، وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) وإذا صح ذلك فبين فساد قول من قال: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬3) منسوخ بالحدود؛ لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بفاحشة التي هي الزنا، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها كما أن عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له، وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر. قال أبو جعفر: فمعنى الآية: لا يحل لكم، أيها الذين آمنوا، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (¬4) من صدقاتكم {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} (¬5) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) . (¬2) سورة النساء الآية 19 (¬3) سورة النساء الآية 19 (¬4) سورة النساء الآية 19 (¬5) سورة النساء الآية 19

من زنا أو بذاء عليكم، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم -مبينة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به اهـ (¬1) . وذكر أبو بكر الجصاص (¬2) وأبو بكر بن العربي (¬3) ، والقرطبي (¬4) ، نحوا مما ذكره ابن جرير في الموضوع. وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬5) قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ} (¬6) أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬7) يقول: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر {قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬8) يقول: فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتموهن. . . . . {أَتَأْخُذُونَهُ} (¬9) أتأخذون ما آتيتموهن من مهورهن {بُهْتَانًا} (¬10) يقول: ظلما بغير حق {وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬11) يعني: وإثما قد أبان أمر آخذه أنه بأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم. . {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} (¬12) وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أردتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (¬13) ¬

_ (¬1) [تفسير ابن جرير الطبري] (8\ 110) وما بعدها. (تحقيق\ محمود وأحمد شاكر) . (¬2) [أحكام القرآن] للجصاص (1\ 109- 111) . (¬3) [أحكام القرآن] لابن العربي (1\ 151- 154) . (¬4) [أحكام القرآن] للقرطبي (5\ 99- 101) . (¬5) سورة النساء الآية 20 (¬6) سورة النساء الآية 20 (¬7) سورة النساء الآية 20 (¬8) سورة النساء الآية 20 (¬9) سورة النساء الآية 20 (¬10) سورة النساء الآية 20 (¬11) سورة النساء الآية 20 (¬12) سورة النساء الآية 21 (¬13) سورة النساء الآية 21

فتباشرتم وتلامستم. وهذا كلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ، كما يقول الرجل لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به؟ على معنى التهديد والوعيد. ثم قال بعد ذلك: واختلف في حكم هذه الآية أمحكم أم منسوخ. فقال بعضهم: محكم، وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة الطلاق. وقال آخرون: هي محكمة، وغير جائز له أخذ شيء مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدة للطلاق أو هو، وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله المزني. حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال: سألت بكرا عن المختلعة، أيأخذ منها شيئا؟ قال: لا، {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (¬1) وقال آخرون: بل هي منسوخة، نسخها قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2) ذكر من قال ذلك: ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 21 (¬2) سورة البقرة الآية 229

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (¬1) إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (¬2) قال: ثم رخص بعد فقال: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬3) قال: فنسخت هذه تلك. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: إنها محكمة غير منسوخة وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام ما نفى خلافه من الأحكام على ما قد بينا في سائر كتبنا، وليس في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (¬4) نفي حكم قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬5) ؛ لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬6) أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها. وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬7) فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20 (¬2) سورة النساء الآية 21 (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة النساء الآية 20 (¬5) سورة البقرة الآية 229 (¬6) سورة النساء الآية 20 (¬7) سورة البقرة الآية 229

وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم لإحداها بأنها ناسخة وللأخرى بأنها منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها، وأما ما قاله بكر بن عبد الله المزني -من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره- فليس بصواب؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما كان ساق إلى زوجته وفراقها إذ طلبت فراقه، وكان النشوز من قبلها. اهـ (¬1) . وذكر أبو بكر الجصاص وأبو بكر بن العربي والقرطبي نحوا مما ذكره ابن جرير في تفسير هذه الآية. وقال السمرقندي: إن كان النشوز من جهة الزوج فلا يحل له أن يأخذ شيئا منها، بل له أن يطلقها بلا عوض؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬2) . ¬

_ (¬1) [تفسير ابن جرير] الطبري (8\123-132) تحقيق\ محمود وأحمد شاكر. (¬2) سورة النساء الآية 20

في معرض الكلام عن الخلع: وقال محمد بن رشد في معرض الكلام على الخلع:

وإن كرهها فارقها، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه، وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1) {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (¬2) هذا مذهب مالك رحمه الله تعالى وجميع أصحابه، لا اختلاف بينهم فيه. ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه؛ لقول الله عز وجل: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬3) وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هاهنا، وجعل الاستثناء متصلا. ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة: البغض والنشوز والبذاء باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عليه وبذأت بلسانها، عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه، ومنهم من حمل الفاحشة على العموم، فأباح ذلك للزوج، سواء كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت. والصحيح: ما ذهب إليه مالك رحمه الله؛ لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس منها، ولم يبح الله ذلك إلا عن ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20 (¬2) سورة النساء الآية 21 (¬3) سورة النساء الآية 19

طيب نفسها، فقال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬1) والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذو عليه، وتشتم عرضه، وتخالف أمره؛ لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة، فهي من جهة النطق، وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا، والاستثناء المذكور فيها منفصل، فمعنى الآية: لكن إن نشزت عليكم وخالفت أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، معناه: إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن، ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق، فعلى هذا التأويل تتفق آي القرآن ولا تتعارض، وقد قيل في تأويل الآية غير هذا، وهذا أحسن، وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز، ويسوغ للزوج ما أخذ منها على الطلاق إذا كان النشوز والكراهة منها، وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. وليس قوله مخالفا لما حكيناه عن مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى: من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا قارضها على بعض ذلك؛ لأنه إنما حمل المخافة على بابها، فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه مخافة أن يقع ما إذا كره كل واحد منهما صاحبه، وخاف هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها، وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالعته مخافة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة بها نفسها إذ لم يضطرها إلى ذلك بإضرار كان منه إليها. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 4

وأما ابن بكير فإنما حمل الخوف المذكور في الآية على العلم إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالهما وفرقتم بينهما، فالاختلاف بينه وبين ابن بكير إنما هو في تأويل الآية، لا في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه لا اختلاف في المذهب: أن الزوج يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه؛ لقول الله عز وجل: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (¬1) وإنما له أن يعظها، فإن اتعظت وإلا هجرها في المضاجع، فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا؛ لقول الله عز وجل: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (¬2) فإن هي بذلت له على ألف حل له أن يقبله، إذا لم يتعد أمر الله فيها (¬3) . اهـ المقصود. وقال الشيرازي: وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 19 (¬2) سورة النساء الآية 34 (¬3) الموجود في المطبوع المنقول عنه (إذا لم يتعد أمر فيها الله) وهو ظاهر الخطأ.

كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز؛ لقوله عز وجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} (¬1) قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى (¬2) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا يحل للرجل أن يعضل المرأة ويضيق عليها حتى تعطيه الصداق أو بعضه، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه. اهـ (¬3) . أما إذا كان النشوز من الزوجة، فإن لزوجها حق وعظها، فإن لم يجد الوعظ كان له حق هجرها، فإن لم يفد الهجر كان له ضربها ضربا غير مبرح، فإن لم يجد ذلك كان له عضلها حتى تفتدي نفسها منه ببذلها ما آتاها أو بعضه لقاء تطليقه إياها؛ لأنها باستمرارها على النشوز أتت فاحشة مبينة تبيح للزوج عضلها ليأخذ منها ما آتاها أو بعضه، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (¬4) وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5) ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 128 (¬2) [المهذب] (2\ 70) مطبعة الحلبي. (¬3) [مختصر الفتاوى المصرية] ص 446. (¬4) سورة النساء الآية 34 (¬5) سورة النساء الآية 19

قال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية: قول سعيد بن جبير قال: يعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع. اهـ (¬1) . وقد سبق بعض الكلام على الحال التي تجيز للزوج أن يعضل امرأته لتفتدي نفسها منه، وذلك عند الاستدلال بقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) وبقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬3) على تحريم عضل الزوج امرأته لتفتدي منه. وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أقوالا لأهل التأويل في معنى الخوف ألا يقيما حدود الله: الأول: أن المراد بذلك: أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها. وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى ابن عباس وعروة وجابر بن زيد وهشام بن عروة وغيرهم. الثاني: أن المراد بالخوف من ذلك ألا تبر له قسما ولا تطيع له أمرا وتقول: لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمرا، فحينئذ يحل له عندهم ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] (1\ 175، 176) الطبعة الأولى. (¬2) سورة النساء الآية 19 (¬3) سورة البقرة الآية 229

أخذ ما آتاها على فراقه إياها، ثم ذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي ومجاهد. الثالث: أن المراد بالخوف من ذلك: أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة، ثم ذكر ذلك بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح. والرابع: أن الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صاحبه الآخر. وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الشعبي وطاووس والحسن، ثم اختار هذا القول، وذكر توجيه اختياره إياه (¬1) . فصل: وقال الكاساني: ومنها: التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة فله أن يؤدبها لكن على الترتيب، فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها: كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا، فلعلها تقبل الموعظة فتترك النشوز، فإن نجحت فيها الموعظة ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها، وقيل: يخوفها بالهجر أولا والاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة، فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر. ¬

_ (¬1) [تفسير ابن جرير الطبري] (4\ 549) وما بعدها.

ثم اختلف في كيفية الهجر: قيل: يهجرها بأن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراشه.

وقيل: يهجرها بأن لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها؛ لأن ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر نفسه ويبطل حقه. وقيل: يهجرها بأن يفارقها في المضجع ويضاجع أخرى في حقها وقسمها؛ لأن حقها عليه في القسم في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع. وقيل: يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها؛ لأن هذا للتأديب والزجر، فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليها. فإذا هجرها فإن تركت النشوز وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا شائن، والأصل فيه قوله عز وجل: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (¬1) وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو تحتمل، فإن نفع الضرب وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين، حكما من أهله وحكما من أهلها، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬2) وسبيل هذا سبيل الأمر بالمعروف والنهي ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 34 (¬2) سورة النساء الآية 35

عن المنكر في حق سائر الناس، أن الأمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول، فإن قبلت وإلا غلظ القول به، فإن قبلت وإلا بسط يده فيه، وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد مقدر، فللزوج أن يؤدبها تعزيرا؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للولي أن يعزر مملوكه (¬1) . وقال الشافعي: وأشبه ما سمعت - والله أعلم- في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (¬2) أن لخوف النشوز دلائل، فإذا كانت {فَعِظُوهُنَّ} (¬3) لأن العظة مباحة، فإن لججن فأظهرن نشوزا بقول أو فعل فاهجروهن في المضاجع، فإن أقمن بذلك على ذلك فاضربوهن، وذلك بين أنه لا يجوز هجرة في المضجع وهو منهي عنه ولا ضرب إلا بقول أو فعل أو هما. . . قال: ويحتمل في {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (¬4) إذا نشزن فأبن النشوز فكن عاصيات به أن تجمعوا عليهن العظة والهجرة والضرب. قال: ولا يبلغ في الضرب حدا ولا يكون مبرحا ولا مدميا ويتوقى فيه الوجه. . . قال: ويهجرها في المضجع، حتى ترجع عن النشوز ولا يجاوز بها في هجرة الكلام ثلاثا؛ لأن الله عز وجل إنما أباح الهجرة في المضجع، والهجرة في المضجع تكون بغير هجرة الكلام، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثا، قال: ولا يجوز لأحد أن يضرب ولا يهجر مضجعا بغير بيان نشوزها. ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2\ 334) . (¬2) سورة النساء الآية 34 (¬3) سورة النساء الآية 34 (¬4) سورة النساء الآية 34

قال: وأصل ما ذهبنا إليه من أن لا قسم للممتنعة من زوجها ولا نفقة ما كانت ممتنعة؛ لأن الله تبارك وتعالى أباح هجرة مضجعها وضربها في النشوز، والامتناع نشوز. . . قال: ومتى تركت النشوز لم تحل هجرتها ولا ضربها، وصارت على حقها كما كانت قبل النشوز. اهـ (¬1) . وقال ابن قدامة بعد تعريف النشوز: فمتى ظهرت منها أمارات النشوز مثل أن تتثاقل وتدافع إذا دعاها، ولا تصير إليه إلا بتكره ودمدمة فإنه يعظها، فيخوفها الله سبحانه ويذكر ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة والكسوة، وما يباح له من ضربها وهجرها لقول الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (¬2) فإن أظهرت النشوز - وهو: أن تعصيه وتمتنع من فراشه أو تخرج من منزله بغير إذنه- فله أن يهجرها في المضجع؛ لقول الله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (¬3) قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك، فأما الهجران في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام (¬4) » وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له ضربها في النشوز في أولى مرة. وقد روي عن أحمد: إذا عصت المرأة زوجها فله ضربها ضربا غير ¬

_ (¬1) [الأم] (5\ 194) الطبعة الأولى. (¬2) سورة النساء الآية 34 (¬3) سورة النساء الآية 34 (¬4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2565) ، سنن الترمذي البر والصلة (2023) ، سنن أبو داود الأدب (4916) ، مسند أحمد بن حنبل (2/268) ، موطأ مالك الجامع (1686) .

مبرح، فظاهر هذا إباحة ضربها كما لو أصرت، ولأن عقوبات المعاصي لا تختلف بالتكرار وعدمه كالحدود، ووجه قول الخرقي المقصود: زجرها عن المعصية في المستقبل، وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل، كمن هجم منزله فأراد إخراجه، وأما قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (¬1) الآية، ففيها إضمار تقديره واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن فاضربوهن، كما قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬2) والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز، ولا خلاف أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره، وللشافعي قولان كهذين. فإن لم ترتدع بالوعظ والهجر، فله ضربها؛ لقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح (¬4) » رواه مسلم. معنى " غير مبرح ": غير موجع ولا شديد. وقال الخلال: سألت أحمد بن يحيى عن قوله: «غير مبرح (¬5) » قال: غير شديد، وعليه أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف، وقد روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 34 (¬2) سورة المائدة الآية 33 (¬3) سورة النساء الآية 34 (¬4) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) . (¬5) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1851) ، مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .

أبيه قال: «قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت (¬1) » ، وروى عبد الله بن زمعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم (¬2) » ولا يزيد في ضربها على عشرة أسواط؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله (¬3) » متفق عليه. اهـ (¬4) . مسألة: وقال ابن قدامة أيضا: (والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه -فلا بأس أن تفتدي نفسها منه) . وجملة الأمر: أن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك، وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته -جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬5) وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت لزوجها، فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكره، وقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: خذ منها، فأخذ منها وجلست ¬

_ (¬1) سنن أبو داود النكاح (2142) ، سنن ابن ماجه النكاح (1850) . (¬2) صحيح البخاري النكاح (5204) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2855) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3343) ، سنن ابن ماجه النكاح (1983) ، مسند أحمد بن حنبل (4/17) ، سنن الدارمي النكاح (2220) . (¬3) صحيح البخاري الحدود (6850) ، صحيح مسلم الحدود (1708) ، سنن الترمذي الحدود (1463) ، سنن أبو داود الحدود (4491) ، سنن ابن ماجه الحدود (2601) ، مسند أحمد بن حنبل (4/45) ، سنن الدارمي الحدود (2314) . (¬4) [المغني والشرح الكبير] (8\ 162، 163) الطبعة الأولى. (¬5) سورة البقرة الآية 229

في أهلها (¬1) » ، وهذا حديث صحيح ثابت الإسناد، رواه الأئمة مالك وأحمد وغيرهما، وفي رواية البخاري قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فردتها عليه، وأمره ففارقها (¬2) » . وفي رواية فقال: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة (¬3) » وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام، قال ابن عبد البر: ولا نعلم أحدا خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه لم يجزه، وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (¬4) الآية. وروي عن ابن سيرين وأبي قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5) ولنا الآية التي تلوناها والخبر وأنه قول عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم من الصحابة لم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا، ودعوى النسخ لا تسمع حتى يثبت تعذر الجمع وأن الآية الناسخة متأخرة ولم يثبت شيء من ذلك، إذا ثبت هذا فإن هذا يسمى خلعا؛ لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها، قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬6) ¬

_ (¬1) سنن النسائي الطلاق (3462) ، سنن أبو داود كتاب الطلاق (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1198) ، سنن الدارمي الطلاق (2271) . (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5277) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬3) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬4) سورة النساء الآية 20 (¬5) سورة النساء الآية 19 (¬6) سورة البقرة الآية 187

ويسمى: افتداء؛ لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله، قال الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) ، اهـ. (¬2) . وإذا كان النشوز من المرأة وتعذرت أوبتها منه لبغضها إياه وكراهتها له وعرضت عليه افتداءها منه - فقد أجمع أهل العلم على أنه ينبغي إجابتها، واختلفوا هل يجبر الزوج على ذلك؟ قال ابن مفلح: يباح لسوء عشرة بين الزوجين وتستحب الإجابة إليه واختلف كلام شيخنا في وجوبه، وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء، فقال أبو طالب: إذا كرهته حل أن يأخذ منها ما أعطاها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتردين عليه حديقته؟ (¬3) » اهـ (¬4) . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) [المغني والشرح الكبير] (6\ 173- 174) الطبعة الأولى. (¬3) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬4) [الفروع] (5\ 343) .

وسئل الشيخ حسين ابن الشيخ محمد: إذا كرهت زوجها هل يجبر على الخلع؟ فأجاب: إذا كرهت زوجها فالذي نفتي به أنه مستحب، ولا يجبر الزوج على الخلع (¬1) . اهـ. وقال الشوكاني رحمه الله: قوله: «اقبل الحديقة (¬2) » قال في [الفتح] : هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب، ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته (¬3) . اهـ. ¬

_ (¬1) [الدرر السنية] (6\ 367) . (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬3) [نيل الأوطار] (6\ 263) .

وقال في [حاشية المقنع] على قوله: وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وتخشى ألا يقيم حدود الله - فلا بأس أن تفتدي نفسها منه: أي: فيباح للزوجة والحالة هذه على الصحيح من المذهب، وأما الزوج فالصحيح من المذهب أنه يستحب له الإجابة إليه، وعليه الأصحاب، واختلف كلام الشيخ في وجوب الإجابة إليه، والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس لا أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمرها بردها وأمره ففارقها (¬2) » . رواه البخاري، وبه قال جميع الفقهاء في الأمصار إلا بكر بن عبد الله المزني لم يجزه (¬3) . اهـ. وقال الجصاص: ذكر اختلاف السلف وسائر علماء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع. روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاووس وسعيد بن جبير، وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها. وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا كان النشوز من قبلها حل ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬3) [المقنع مع حاشيته] (3\ 113، 114) منشورات المؤسسة السعيدية، الرياض.

له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد، وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا، فإن فعل جاز في القضاء، وقال ابن شبرمة: تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه، وإن كانت على إضرار منه لم تجز، وقال ابن وهب عن مالك: إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك. وقال الثوري: إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا. وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة: إن كانت ناشزة كان في ثلثها، إن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها -فلا أرى بذلك بأسا. وقال الحسن بن حيي: إذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه، وكذلك قول عثمان البتي، وقال الشافعي: إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا، وتأخذ الفراق به. قال أبو بكر: قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات، منها: قوله تعالى:

{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1) فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله، فلذلك قال أصحابنا: لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا، وقال تعالى في آية أخرى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2) فأباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله، وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما، فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد، والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع، ولكن ما زاد مخصوص بالسنة، وقال تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬3) قيل فيه: إنه خطاب للزوج، وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، قيل فيها: إنها هي الزنا، وقيل: إنها النشوز من قبلها، وهذه نظير قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4) وقال تعالى في آية أخرى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬5) وسنذكر حكمها في ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة النساء الآية 19 (¬4) سورة البقرة الآية 229 (¬5) سورة النساء الآية 35

مواضعها إن شاء الله تعالى، وذكر تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬1) وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬2) وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها. فقلنا: إذا كان النشوز من قبله لم يحل أخذ شيء منها؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬3) وقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (¬4) وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بغض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما -جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد، وكذلك {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5) وقد قيل فيه: إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها. وأما قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬6) فهذا في غير حال الخلع، بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به، وقول من قال: إنه لما جاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز في ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 4 (¬2) سورة البقرة الآية 237 (¬3) سورة النساء الآية 20 (¬4) سورة النساء الآية 19 (¬5) سورة النساء الآية 19 (¬6) سورة النساء الآية 4

الخلع خطأ؛ لأن الله تعالى قد نص على الموضعين، في أحدهما بالحظر، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬2) وفي الآخر بالإباحة، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬3) فقول القائل: لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة من نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية: «أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ فقالت: أنا حبيبة بنت سهل، قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها، فلما جاءه ثابت بن قيس قال له: هذه حبيبة بنت سهل، فذكرت ما شاء الله أن تذكره، فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت: خذ منها، فأخذ منها، وجلست هي في أهلها (¬4) » . وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها: «خل سبيلها» وفي بعضها: «فارقها» ، وإنما قالوا: إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال: حدثنا ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20 (¬2) سورة البقرة الآية 229 (¬3) سورة النساء الآية 4 (¬4) سنن النسائي الطلاق (3462) ، سنن أبو داود كتاب الطلاق (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1198) ، سنن الدارمي الطلاق (2271) .

محمد بن يحيى بن أبي سمينة: قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: «أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تردين إليه ما أخذت منه "؟ قالت: نعم وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما الزيادة فلا» وقال أصحابنا: لا يأخذ منها الزيادة لهذا الخبر، وخصوا به ظاهر الآية، وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) لفظ محتمل لمعان، والاجتهاد سائغ فيه، وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة، وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد، وهو كقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬3) وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬4) لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به -جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به، وإنما قال أصحابنا: إذا خلعها على أكثر مما أعطاها، أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنها أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (¬5) » . وأيضا: فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد، وإنما تعلق بمعنى ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة النساء الآية 19 (¬3) سورة النساء الآية 43 (¬4) سورة البقرة الآية 237 (¬5) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .

في غيره، وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها، ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها، فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة، وبيع حاضر لباد، وتلقي الركبان ونحو ذلك، وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره، وكذلك الصلح عن دم العمد. كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل، وهو بدل البضع - كذلك جائز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها؛ لأنه بدل من البضع في الحالين. . فإن قيل: لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن. قيل له: قولك: إن الخلع فسخ للعقد، خطأ، وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل، ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة؛ لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق، والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن، ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء، وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان، فروي عن الحسن وابن سيرين: أن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان، وقال سعيد بن جبير: لا يكون الخلع حتى يعظها، فإن اتعظت وإلا هجرها، فإن اتعظت إلا ضربها، فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان، فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق، وإن رأى أن يجمع جمع. وروي عن علي، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وشريح، وطاووس، والزهري في آخرين: أن الخلع جائز دون السلطان، وروى سعيد عن قتادة

قال: كان زياد أول من رد الخلع دون السلطان، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان. وكتاب الله يوجب جوازه، وهو قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) وقال تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس: «أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فقال للزوج: " خذها وفارقها (¬3) » يدل على ذلك أيضا؛ لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله: اخلعها بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما، كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها، بل فرق بينهما، كما روى سهل بن سعد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين (¬4) » ، كما قال في حديث آخر: «لا سبيل لك عليها (¬5) » . ولم يرجع ذلك إلى الزوج، فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه (¬6) » انتهى المقصود. وقال ابن حجر رحمه الله على قول البخاري في صحيحه: وقول الله عز وجل: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬7) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة النساء الآية 19 (¬3) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬4) صحيح البخاري الطلاق (5309) ، صحيح مسلم اللعان (1492) ، سنن النسائي الطلاق (3402) ، سنن أبو داود الطلاق (2251) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2066) ، مسند أحمد بن حنبل (5/337) ، موطأ مالك كتاب الطلاق (1201) ، سنن الدارمي النكاح (2229) . (¬5) صحيح البخاري الطلاق (5312) ، صحيح مسلم اللعان (1493) ، سنن الترمذي كتاب الطلاق (1203) ، سنن النسائي الطلاق (3473) ، سنن أبو داود الطلاق (2257) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2069) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك الطلاق (1202) ، سنن الدارمي النكاح (2231) . (¬6) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) . (¬7) سورة البقرة الآية 229

وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها: العقاص: بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة: جمع عقصة، وهو: ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه. وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في أمالي أبي القاسم بن بشران من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان، وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا، وقال في آخره: فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه. وهذا يدل على أن معنى (دون) : سوى، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها، وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم كان يقال: الخلع ما دون عقاص رأسها. وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها، ومن طريق قبيصة بن ذؤيب إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، ثم تلا: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) وسنده صحيح. ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من طبقات النساء قال: أنبأنا يحيى بن عباد، حدثنا فليح بن سليمان، حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: كان بيني وبين ابن عمي كلام - وكان زوجها- قالت: فقلت له: لك كل شيء ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229

وفارقني، قال: قد فعلت، فأخذ كل شيء حتى فراشي، فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك، خذ كل شيء حتى عقاص رأسها. قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها، وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك، لكنه ليس من مكارم الأخلاق. . . ثم ساق شرح باقي الحديث، وقال بعد ذلك: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم (¬1) : أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها. وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين: لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا، أخرجه ابن أبي شيبة، وكأنهما لم يبلغهما الحديث، واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك، مع ما دل عليه الحديث، ثم ظهر لي لما قاله ابن سيرين توجيه: وهو تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه، فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة ولا يحب أن يفضحها، فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها ¬

_ (¬1) أي: من [فتح الباري] . (¬2) سورة النساء الآية 19

فليس في ذلك مخالفة للحديث؛ لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها. واختار ابن المنذر: أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين، ولا يخالف ما ورد فيه، وبه قال طاووس والشعبي وجماعة من التابعين. وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية: بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا، ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخالفة إليها لذلك، وعن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا. انتهى المقصود (¬1) . وقال محمود العيني: أي: هذا باب في بيان الخلع -بضم الخاء المعجمة وسكون اللام- مأخوذ من خلع الثوب والنعل ونحوهما، وذلك لأن المرأة لباس للرجل كما قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬2) وإنما جاء مصدره بضم الخاء تفرقة بين الأجرام والمعاني، يقال: خلع ثوبه ونعله خلعا بفتح الخاء، وخلع امرأته خلعا وخلعة بالضم. وأما حقيقته الشرعية فهو: فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له، هكذا قاله شيخنا في شرح الترمذي، وقال: هو الصواب، وقال كثير من ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (9\394، 397، 401) المطبعة السلفية. (¬2) سورة البقرة الآية 187

الفقهاء: هو مفارقة الرجل امرأته على مال ليس بجيد، فإنه لا يشترط كون عوض الخلع مالا، فإنه لو خالعها عليه من دين أو خالعها على قصاص لها عليه فإنه صحيح، وإن لم يأخذ الزوج منها شيئا، فلذلك عبرت بالحصول لا بالأخذ. قلت: قال أصحابنا: الخلع إزالة الزوجية بما يعطيه من المال، وقال النسفي: الخلع: الفصل من النكاح بأخذ المال بلفظ الخلع وشرطه شرط الطلاق وحكمه وقوع الطلاق البائن، وهو من جهته يمين، ومن جهتها معاوضة، وأجمع العلماء على مشروعية الخلع إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور، حكاه ابن عبد البر في [التمهيد] ، وقال عقبة بن أبي الصهباء: سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل يريد أن يخالع امرأته، فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: فأين قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) ؟ قال: هي منسوخة. قلت: وما نسخها؟ قال: ما في سورة النساء، قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬2) الآية. قال ابن عبد البر: قول بكر بن عبد الله هذا خلاف السنة الثابتة في قصة ثابت بن قيس وحبيبة بنت سهل، وخالف جماعة الفقهاء والعلماء بالحجاز والعراق والشام. انتهى. وخصص ابن سيرين وأبو قلابة جوازه بوقوع الفاحشة، فكانا يقولان: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة النساء الآية 20

لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلا؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) قال أبو قلابة: فإذا كان ذلك فقد جاز له أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه، قال أبو عمر: ليس هذا بشيء؛ لأن له أن يطلقها، أو يلاعنها، وأما أن يضارها ليأخذ مالها فليس له ذلك. اهـ (¬2) . قال في حاشية [المقنع] على قوله: (ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فإن فعل كره وصح) : إذا تراضيا على الخلع بشيء صح وإن كان أكثر من الصداق، وهذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقبيصة والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص رأسها كان ذلك جائزا، وقال عطاء وطاووس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما أعطاها. وروي ذلك عن علي بإسناد منقطع، واختاره أبو بكر، فإن فعل رد الزيادة. واحتجوا بما روي: «أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتب على ثابت في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد (¬3) » ، رواه ابن ماجه. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 19 (¬2) [عمدة القاري] (20\260) . (¬3) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) .

ولنا قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) ولأنه قول من سمينا من الصحابة. وقالت الربيع بنت معوذ: «اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك علي (¬2) » ، لكن لا يستحب أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وهذا المذهب، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وإسحاق وأبو عبيد، ولم يكرهه أبو حنيفة ومالك والشافعي (¬3) . اهـ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سنن النسائي الطلاق (3498) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2058) . (¬3) [المقنع مع حاشيته] (3\119، 120) منشورات السعيدية.

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع في [صحيح البخاري] : عن ابن عباس، «أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة (¬1) » . وفي [سنن النسائي] : عن الربيع بنت معوذ، «أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها - وهي: جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول - فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فقال: خذ الذي لها عليك وخل سبيلها. قال: نعم، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها (¬2) » . وفي [سنن أبي داود] : عن ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس بن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬2) سنن النسائي الطلاق (3497) .

شماس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة (¬1) » ، وفي [سنن الدارقطني] في هذه القصة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ قالت: نعم، وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا، ولكن حديقته. قالت: نعم، فأخذ ماله، وخلى سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، (¬2) » قال الدارقطني: إسناده صحيح. فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام، أحدها: جواز الخلع، كما دل عليه القرآن، قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬3) ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس، خالفت النص والإجماع، وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره. ومنعه طائفة بدون إذنه. والأئمة الأربعة، والجمهور: على خلافه، وفي الآية دليل على حصول البينونة؛ لأنه سبحانه وتعالى سماه (فدية) ولو كان رجعيا - كما قال بعض الناس - لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له، ودل قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4) على جوازه بما قل أو كثر، وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ¬

_ (¬1) قال المنذري (3: 144حديث 2137) وذكر أنه روي مرسلا، وأخرجه الترمذي مسندا، وقال: حسن غريب. (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬3) سورة البقرة الآية 229 (¬4) سورة البقرة الآية 229

وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه، فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجازه، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه. وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع، أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها، وكل ثوب لها حتى نقبتها. ورفعت إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه امرأة نشزت عن زوجها فقال: (اخلعها ولو من قرطها) ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن الحكم بن عتبة عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (لا يأخذ منها فوق ما أعطاها) . وقال طاوس: (لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها) ، وقال عطاء: (إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها) ، وقال الزهري: (لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها) . وقال ميمون بن مهران: (إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان) . وقال الأوزاعي: (كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها) . والذين جوزوه: احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة. والذين منعوه: احتجوا بحديث أبي الزبير: أن ثابت بن قيس بن

شماس لما أراد خلع امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته " قالت: نعم، وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما الزيادة فلا (¬1) » قال الدارقطني: سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح. قالوا: والآثار من الصحابة مختلفة. فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة. ومنهم من روي عنه إباحتها. ومنهم من روي عنه كراهتها. كما روي عن وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي: (أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها) والإمام أحمد أخذ بهذا القول، ونص على الكراهة، وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال: ترد عليها. . وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: «أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أبغض زوجي، وأحب فراقه قال: " أفتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ " قالت: نعم، وزيادة من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما الزيادة من مالك فلا، ولكن الحديقة " قالت: نعم، فقضى بذلك على الزوج (¬2) » وهذا وإن كان مرسلا فحديث أبي الزبير مقو له، وقد رواه ابن جريج عنهما اهـ. (¬3) . أما إذا ادعى كل من الزوجين نشوز صاحبه عليه وخيف الشقاق بينهما، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5273) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬3) [زاد المعاد] (4\63-67) مطبعة السنة المحمدية. (¬4) سورة النساء الآية 35

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد من الآية فيمن يبعث الحكمين، وما صفتهما، وهل هما حاكمان لهما الفصل في الخصومة بين الزوجين، أو أنهما ينفذ تصرفهما في حدود وكالتهما، أم أنهما جهة نظر يرفعان ما يريانه إثر التحقيق مع الزوجين إلى الحاكم ليتولى نفسه الفصل في خصومتهما؟ وقال ابن جرير رحمه الله في تفسيره هذه الآية: يعني بقوله جل ثناؤه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (¬1) وشاقته بقول عادته. . . ثم ذكر اختلاف أهل التأويل في المراد بالمخاطبين في هذه الآية ببعث الحكمين. فذكر أثرين بسنديهما إلى سعيد بن جبير والضحاك بأن المأمور بذلك السلطان الذي يرفع ذلك إليه. وذكر أثرا بسنده إلى السدي: أن المأمور بذلك الرجل والمرأة. وذكر جملة آثار بأسانيدها إلى علي وابن عباس والحسن وقتادة: أن المأمور بذلك السلطان غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما. ثم ذكر رحمه الله اختلاف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان، وما ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وجه بعثهما بينهما؟ فقال بعضهم: يبعثهم الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما وليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا ما وكلاهما به أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه أو توكيل من وكل منهما في ذلك. وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإلى السدي تؤيد القول بأن الحكمين وكيلان ليس لهما أن يعملا شيئا في أمرهما إلا في حدود ما وكلا به. وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين السلطان غير أنه يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما، ثم ذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى الحسن وقتادة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن زيد تدل على ذلك. وذكر رأيا ثالثا: في أن الذي يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق. وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى ابن عباس ومعاوية وابن سيرين وسعيد بن جبير وعامر وإبراهيم وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك. ثم قال بعد ذلك: وأولى الأقوال بالصواب في قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) أن الله سبحانه خاطب المسلمين ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

بذلك وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض. وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين أو من أقامه في ذلك مقام نفسه.

واختلفوا في الزوجين والسلطان ومن المأمور بالبعثة في ذلك: الزوجان أو السلطان؟ ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمة فيه مختلفة. وإذا كان الأمر على ما وصفنا فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يكون مخصوصا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها، وإذ كان ذلك كذلك فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن شمله حكم الآية والأمر بقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) إذ كان مختلفا بينهما، هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا؟ - وكان ظاهر الآية قد عمهما- فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال: إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله لينظر في أمرهما وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك لما له على صاحبه ولصاحبه عليه فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه، وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

وعليه أو بما له أو بما عليه إلا الحكمين كليهما لم يجز إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما، وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء وإنما بعثاهما للنظر بينهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما - لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق أو أخذ مال أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك. انتهى المقصود. . (¬1) . وذكر أبو بكر الجصاص: أن الحكمين وكيلان ليس لهما إلا ما وكلا فيه، وأن أمر الجمع بين الزوجين أو التفريق خاص بالحاكم، وأن الخطاب في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ} (¬2) للحاكم الناظر بين الخصمين؛ لأن الله قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن قامت على نشوزها، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما، فقال. . . باب: الحكمين كيف يعملان، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬3) وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم؟ فروي عن سعيد بن جبير والضحاك: أنه السلطان الذي يترافعان إليه. وقال السدي: الرجل والمرأة. ¬

_ (¬1) [جامع البيان لأحكام القرآن] (8\318- 330) . (¬2) سورة النساء الآية 35 (¬3) سورة النساء الآية 35

قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} (¬1) هو خطاب للأزواج؛ لما في نسق الآية من الدلالة عليه، وهو قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (¬2) وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (¬3) الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم؛ وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر، ثم بضربها إن أقامت على نشوزها، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما، وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب، وقال: ما ولدت إذ ذاك، فقلت: إنما أعني حكمي شقاق قال: إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ (¬4) بعثوا حكمين فأقبلا على من جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر، فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما، فما حكما من شيء فهو جائز. وروى عبد الوهاب قال: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان؛ فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل كذا ويفعل كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا، فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 34 (¬2) سورة النساء الآية 34 (¬3) سورة النساء الآية 35 (¬4) قوله (درء. . . إلخ) الدرء: الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ (المصححة) .

فوق يده، وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع. قال أبو بكر: وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء، في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله، فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما، وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما، فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله. ويدل أيضا قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال: فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها، فهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا، وإن شاءا فرقا بغير أمرهما، وزعم إسماعيل بن إسحاق: أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين. قال أبو بكر: هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء، قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬2) ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه، وأمر ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35 (¬2) سورة ق الآية 18

الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب، فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة؟ ! ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج. وكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي: ما شأن هذين؟ قالوا: بينهما شقاق، قال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬1) فقال علي: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله، فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت، فأخبر علي: أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين، فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج، وذلك أن لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها. فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضا الزوج وتوكيله، ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها؛ فلذلك قال أصحابنا: إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضا الزوجين. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين؛ لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان، وإنما الحكمان وكيلان لهما، أحدهما وكيل المرأة، والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك. قال إسماعيل: الوكيل ليس بحكم، ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره وإن أبى، وهذا غلط منه؛ لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة؛ لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه وفيما وكل به، فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة، وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما، فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا. وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه، ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا، والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات. قال إسماعيل: والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن؛ لأنه إنما سمي هاهنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه. وأما قوله: إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا، فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا؛ لأنهما وكيلان، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما، ويعرف أمور المانع من الحق منهما

حتى ينقلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما، فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا، وينهى الظالم منهما عن ظلمه، فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما، وجائز أن يكونا سميا بذلك؛ لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكلا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح -سميا حكمين؛ لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل، فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق - مضى ما أنفذاه، فسميا حكمين من هذا الوجه. فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح -سميا حكمين، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما، إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما، وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج؛ لأنه لم يرض بكتاب الله. قال: ولم يأخذه بالتوكيل، وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله. وليس هذا على ما ذكر؛ لأن الرجل لما قال: أما الفرقة فلا، قال علي: كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت، فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة، وأمره بأن يوكل بالفرقة، وما قال الرجل: لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه، وإنما قال: لا أرضى بالفرقة بعد رضا المرأة بالتحكيم، وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها، قال: ولما قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬1) علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

الحكم، قال: وهذا لا يقال للوكيلين؛ لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به، والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة؛ لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك. وأخبر الله تعالى أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما، فلا فرق بين الوكيل والحكم؛ إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح، فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به. قال: وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاووس وإبراهيم قالوا: ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز، وهذا عندنا كذلك أيضا، ولا دلالة فيه على موافقة قوله؛ لأنهم لم يقولوا: إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضا الزوجين، بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضا الزوجين بالتوكيل، ولا يكونان حكمين إلا بذلك، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز، وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه، ويخرجا المال عن ملكها، وقد قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬1) وقال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 4 (¬2) سورة البقرة الآية 229

وهذا الخوف المذكور هاهنا هو المعني بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما، وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به؟ ! فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2) فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه، وقال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (¬3) فأخبر تعالى: أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (¬4) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار (¬5) » . فثبت بذلك: أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه، وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35 (¬2) سورة النساء الآية 29 (¬3) سورة البقرة الآية 188 (¬4) مسند أحمد بن حنبل (5/73) . (¬5) صحيح البخاري الحيل (6967) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن النسائي آداب القضاة (5401) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .

ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له، فالحكمان إنما يبعثان بينهما وليشهدا على الظالم منهما، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} (¬1) الآية، قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه، وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك، وكذلك روي عن عطاء. قال أبو بكر: في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا، وهو قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬2) ولم يقل: إن يريدا فرقة، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما، وينكرا عليه ظلمه، وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده، فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه، وقالا له: لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك، وإن كانت هي الظالمة قالا لها: قد حلت لك الفدية، وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها، فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع - كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا، وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا، فهما في حال شاهدان، وفي حال مصلحان، وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق، وأما قول من قال: إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل الزوجين فهو تعسف خارج عن الكتاب والسنة، والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ. (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35 (¬2) سورة النساء الآية 35 (¬3) [أحكام القرآن] (2\230-235) المطبعة البهية عام 1347هـ.

وذكر أبو بكر بن العربي: بأن الحكمين قاضيان لا وكيلان، وذكر نصا عن الشافعي بأنهما وكيلان، وناقشه، ثم ذكر توجيه قول المالكية بأنهما قاضيان فقال: قال الشافعي ما نصه: الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما، وذلك أني وجدت الله سبحانه وتعالى أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إن أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك، ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين. قال القاضي أبو بكر: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به، وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم، وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر.

والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول: أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح، بل هو نصه، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء، فإن الله تعالى قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 34

ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما، وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان، ودعه لا يكون نصا، يكون ظاهرا. فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر، وكيف يقول الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) ؟ فنص عليهما جميعا ويقول هو: يشبه أن يكون فيما عمهما وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه، ثم قال: فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فيتحقق الغيرية، وأما قوله: لا يبعث الحكمين إلا مأمونين فصحيح، وأما قوله: برضا الزوجين بتوكيلهما، فخطأ صراح، فإن الله تعالى خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين. وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن هاهنا. المسألة الأولى: قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} (¬2) قال السدي: يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته، تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري وحالي ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35 (¬2) سورة النساء الآية 35

كذا، ويبعث الرجل حكما من أهله، ويقول له: حالي كذا، قاله ابن عباس ومال إليه الشافعي، وقال سعيد بن جبير: المخاطب السلطان، ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين، وقال مالك: قد يكون السلطان، وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين، فأما من قال: إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا، وأما من قال: إنه السلطان فهو الحق. وأما قول مالك: إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى، وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان، وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال: جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بما في كتاب الله لي وعلي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا؛ فقال: لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت. قال القاضي أبو إسحاق: فبين علي أن الأمر إلى الحكمين اللذين بعثا من غير أن يكون للزوج والزوجة أمر في ذلك ولا نهي، فقالت المرأة بعدما مضيا من عند علي: رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي، وقال الزوج: لا أرضى، فرد عليه تركه الرضا بما في كتاب الله تعالى، وأمره أن يرجع عليه كما يجب على كل مسلم أو ينفذ بما فيه بما يجب من الأدب، فلو كانا وكيلين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما؟ إنما كان يقول: أتدريان بما

وكلتما، ويسأل الزوجين: ما قالا لهما؟ المسألة الثانية: قوله تعالى: {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) هذا نص من الله سبحانه وتعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ، فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر، فذلك تلبيس وإفساد للأحكام، وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله تعالى وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت، فإن رأيا للجمع وجها جمعا، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما، كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: اصبر لي وأنفق عليك، وكان إذا دخل عليها قالت: يا بني هاشم، لا يحبكم قلبي أبدا، أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم؟ أين عتبة بن ربيعة؟ أين شيبة بن ربيعة؟ فيسكت، حتى دخل عليها يوما وهو برم، فقالت له: أين عتبة بن ربيعة؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت، فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما، وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف، فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما. وفي رواية: أنهما لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوءا من الصوت، فقال له معاوية: ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا، وقال ابن عباس: أفلا نمضي فننظر أمرهما، فقال معاوية: فتفعل ماذا؟ فقال ابن عباس: أقسم ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما. فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة، وذكرا بالله تعالى وبالصحبة، فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي، فإن يكن ما اطلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما، وقاله جماعة منهم: علي وابن عباس والشعبي ومالك وهي: المسألة الثالثة: وقال الحسن وابن زيد: هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان، ويشهدان بما ظهر إليهما، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، والذي صح عن ابن عباس ما قدمنا من أنهما حكمان لا شاهدان، فإذا فرقا بينهما وهي: المسألة الرابعة: تكون الفرقة، كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة، فإن قيل: إذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح، بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد، قلنا: هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال. فأما عقود الأبدان فلا يتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة، وبأي وجه رأياها من المتاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة وهي: المسألة الخامسة: جاز ونفذ عند علمائنا، وقال الطبري والشافعي: لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه، وبه قال كل من جعلهما

شاهدين، وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان، وأن فعلهما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية كما ينفذ فعل الحكمين في جزاء الصيد وهي أختها. اهـ (¬1) . قال ابن رشد: باب في بعث الحكمين: اتفق العلماء على جواز بحث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر أعني: المحق من المبطل؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬2) الآية. وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين: أحدهما: من قبل الزوج، والآخر: من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما. وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما. وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل. واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك؟ فقال مالك وأصحابه: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين والإذن منهما في ذلك. ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] لابن العربي (1\176) وما بعدها. (¬2) سورة النساء الآية 35

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق. وحجة مالك: ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الحكمين: إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع. وحجة الشافعي وأبي حنيفة: أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا. فقال ابن القاسم: تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة: تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا. والأصل: أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك. وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال: فاعتبر في ذلك إذنه، ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين. اهـ (¬1) . وذهب الشافعي: إلى أن الحكمين وكيلان وأنه ليس لهما إلا ما ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد] (2\98، 99) الطبعة الثالثة، 1379هـ \1960م.

وكلا فيه. ففي كتاب [الأم] للشافعي ما نصه: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (¬1) الآية، قال: الله أعلم بمعنى ما أراد من خوف الشقاق الذي إذا بلغاه أمره أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، والذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما، وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج أن يصطلحا، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأذن في نشوز المرأة بالضرب، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع، ودلت السنة أن ذلك برضا من المرأة وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج غيرهما، وكان يعرفهما بإباية الأزواج أن يشتبه حالاهما في الشقاق فلا يفعل الرجل الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية أو تكون الفدية لا تجوز من قبل مجاوزة الرجل ما له من أدب المرأة وتباين حالهما في الشقاق. والتباين هو: ما يصيران فيه من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن، ويمتنعان كل واحد منهما من الرجعة ويتماديان فيما ليس لهما، ولا يعطيان حقا لا يتطوعان ولا واحد منهما بأمر يصيران به في معنى ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

الأزواج غيرهما، فإذا كان هكذا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمان إلا مأمونين وبرضا الزوجين ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك. أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي في هذه الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) ثم قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي رضي الله تعالى عنه: (كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به) ، قال: فقول علي رضي الله تعالى عنه يدل على ما وصفت من أن ليس للحاكم أن يبعث حكمين دون رضا المرأة والرجل بحكمهما، وعلى أن الحكمين إنما هما وكيلان للرجل والمرأة بالنظر بينهما في الجمع والفرقة. فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟ قلنا: لو كان الحكم إلى علي رضي الله تعالى عنه دون الرجل والمرأة بعث هو حكمين، ولم يقل: ابعثوا حكمين. فإن قال قائل: فقد يحتمل أن يقول: ابعثوا حكمين فيجوز حكمهما بتسمية الله إياهما حكمين، كما يجوز حكم الحاكم الذي يصيره الإمام، ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

فمن سماه الله تبارك وتعالى حاكما أكثر معنى، أو يكونا كالشاهدين إذا رفعا شيئا إلى الإمام أنفذه عليهما، أو يقول: ابعثوا حكمين، أي: دلوني منكم على حكمين صالحين كما تدلوني على تعديل الشهود. قلنا: الظاهر ما وصفنا، والذي يمنعنا من أن نحيله عنه مع ظهوره أن قول علي رضي الله عنه للزوج: (كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به) ، يدل على أنه ليس للحكمين أن يحكما إلا بأن يفوض الزوجان ذلك إليهما، وذلك أن المرأة فوضت، وامتنع الزوج من تفويض الطلاق فقال علي رضي الله تعالى عنه: (كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به) ، يذهب إلى أنه إن لم يقر لم يلزمه الطلاق وإن رأياه، ولو كان يلزمه طلاق بأمر الحاكم أو تفويض المرأة لقال له: لا أبالي أقررت أم سكت، وأمر الحكمين أن يحكما بما رأياه، اهـ. (¬1) . وذكر الشيرازي قولين في المذهب: أحدهما: أنهما وكيلان. والثاني: أنهما حاكمان، فقال: فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم، فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬2) ¬

_ (¬1) [الأم] (5\115، 116) . (¬2) سورة النساء الآية 35

واختلف قوله في الحكمين: فقال في أحد القولين: هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما؛ لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما. وقال في القول الآخر: هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض؛ لقوله عز وجل: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) فسماهما حكمين، ولم يعتبر رضا الزوجين. وروى أبو عبيدة: أن عليا رضي الله تعالى عنه بعث رجلين فقال لهما: أتدريان ما عليكما؟ ! عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما) ، فقال الرجل: أما هذا فلا، فقال: كذبت، لا والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي. ولأنه وقع الشقاق واشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا، والمستحب أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها للآية، لأنه روي أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية، فبعث عثمان رضي الله تعالى عنه حكما من أهله، وهو: ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وحكما من أهلها، وهو: معاوية رضي الله تعالى عنه، ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال، وإن كان من غير أهلهما جاز؛ لأنهما في أحد القولين حاكمان، وفي الآخر ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

وكيلان، إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق، لا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان، فإن قلنا: إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا فقيهين، وإن قلنا: إنهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة. اهـ (¬1) . والمشهور لدى الحنابلة: أنهما وكيلان لا حاكمان. قال المرداوي: اعلم أن الصحيح من المذهب: أن الحكمين وكيلان عن الزوجين لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا عليه، قال الزركشي: هذا هو المشهور عند الأصحاب، حتى إن القاضي في [الجامع الصغير] ، والشريف أبا جعفر وابن البنا لم يذكروا فيه خلافا، ورضيه أبو الخطاب، قال في [تجريد العناية] : هذا أشهر، وقطع به في [الوجيز] و [المنور] و [منتخب الأزجي] وغيرهم. . . وقدمه في [الهداية] ، و [المذهب] ، و [مسبوك الذهب] ، و [المستوعب] ، و [الخلاصة] ، و [الهادي] ، و [المحرر] ، و [الرعايتين] ، و [الحاوي الصغير] ، و [النظم] ، و [الفروع] ، وغيرهم. وعنه: أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره، أو وكلت المرأة في بذل العوض برضاها، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك فهذا يدل على أنهما حكمان يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق بعوض أو غيره من غير رضا الزوجين. قال الزركشي: وهو ظاهر الآية الكريمة. انتهى. ¬

_ (¬1) [المهذب] ، (2\70) .

واختاره ابن هبيرة والشيخ تقي الدين رحمه الله. . . وهو ظاهر كلام الخرقي، قاله في [الفروع] ، وأطلقهما في [الكافي] و [الشرح] ، اهـ (¬1) . وقال ابن القيم: حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزوجين يقع الشقاق بينهما. روى أبو داود في [سننه] من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر بعضها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: خذ بعض مالها وفارقها، فقال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ ! قال: نعم، قال: فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -: خذهما فارقها، ففعل (¬2) » . وقد حكم الله بين الزوجين يقع الشقاق بينهما بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (¬3) وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين: هل هما حاكمان أو وكيلان؟ على قولين: أحدهما: أنهما وكيلان، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول، وأحمد في رواية. الثاني: أنهما حاكمان، وهذا قول أهل المدينة، ومالك، وأحمد في ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (8\380، 381) الطبعة الأولى. (¬2) سنن أبو داود الطلاق (2228) . (¬3) سورة النساء الآية 35

الرواية الأخرى، والشافعي في القول الآخر، وهذا هو الصحيح. والعجب كل العجب ممن يقول: هما وكيلان، لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين، ولو كانا وكيلين لقال: فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها. وأيضا: فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل. وأيضا: فإنه جعل الحكم إليهما، فقال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬1) والوكيلان لا إرادة لهما، إنما يتصرفان بإرادة موكليهما. وأيضا: فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العرف العام ولا الخاص. وأيضا: فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام، وليس للوكيل شيء من ذلك. وأيضا: فإن الحكم أبلغ من حاكم؛ لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك. فإذا كان الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه؟ ! وأيضا: فإنه سبحانه وتعالى خاطب بذلك غير المتزوجين، وكيف يصح أن يوكل على الرجل والمرأة غيرهما؟ وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا: وإن خفتم شقاق بينهما فمروهما أن يوكلا وكيلين: وكيلا من أهله، ووكيلا من أهلها. ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير، وأنها لا تدل عليه بوجه، بل هي دالة على خلافه، وهذا بحمد الله واضح. وبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، فقيل لهما: (إن رأيتما أن تفرقا فرقتما) وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال للحكمين بين الزوجين: (عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما) فهذا عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم. والله أعلم. وإذا قلنا: إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره، وتوكيل الزوجة في بذل العوض، أو لا يجبران؟ على روايتين: فإن قلنا: يجبران، فلم يوكلا، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضا الزوجين. وإن قلنا: إنهما حكمان لم يحتج إلى رضا الزوجين، وعلى هذا النزاع: ينبغي ما لو غاب الزوجان أو أحدهما. فإن قيل: إنهما وكيلان لم ينقطع نظر الحكمين. وإن قيل: حكمان انقطع نظرهما، لعدم الحكم على الغائب. وقيل: يبقى نظرهما على قولين؛ لأنهما يتصرفان بحظهما، فهما كالناظرين، وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين. وإن قيل: إنهما وكيلان؛ لأنهما فرع الموكلين، ولم ينقطع إن قيل: إنهما حكمان؛ لأن الحاكم يلي على المجنون.

وقيل: ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما، فكأنهما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان، فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، فمن العلماء من رجح جانب الوكالة، ومنهم من اعتبر الأمرين. اهـ (¬1) ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (4\63) وما بعدها.

الخلاصة

الخلاصة معنى كل من النشوز والخلع لغة وشرعا أولا: (أ) النشوز: مصدر نشز ينشز، بضم الشين وكسرها في المضارع، معناه: ارتفع، وهو مأخوذ من النشز بسكون الشين وفتحها، وهو ما ارتفع من الأرض، ويطلق أيضا على ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ، وقال أبو عبيد: النشز: الغليظ الشديد، ويجمع النشز مطلقا عن أنشاز ونشوز، وقيل: يجمع ساكن الشين على نشوز ومفتوحها عن أنشاز، ونشاز بكسر النون، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أنشز عظام الميت إنشازا إذا رفعها إلى مواضعها، وركب بعضها على بعض، ومنه قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} (¬1) ويطلق النشوز على النهوض إلى الشيء بقوة، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} (¬2) ويقال للدابة: نشزة إذا لم يكد يستقر الراكب عليها ولا السرج على ظهرها، ونشوز الزوجين: كراهية كل منهما الآخر، وسوء عشرته له، يقال: نشزت الزوجة بزوجها وعلى زوجها فهي ناشز أبغضته، وترفعت عليه وخرجت عن طاعته واستعصت عليه، ونشز الزوج على امرأته جفاها، وترفع عليها لبغضه إياها، وقد يفضي هذا إلى طلاقها، أو منعها حقها في المبيت أو النفقة مثلا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 259 (¬2) سورة المجادلة الآية 11

(ب) الخلع: مصدر خلع يخلع على وزن منع يمنع، ويطلق لغة على معان: منها: فصل القبيلة لرجل منها لسوء حاله حتى لا تتحمل جريرته، وهو خليع ومخلوع، ويطلق على التواء العرقوب وانتقاله عن محله، ويطلق على خلع الملابس، ويطلق بمعنى: النزع، إلا أنه أقل منه شدة، ويطلق على فصم عروة النكاح وإنهاء الحياة الزوجية، وكلها تدور على معنى الفصل، وخص في الشرع بفصم عقدة النكاح ومفارقة الرجل زوجته بعوض منها أو من غيرها. ثانيا: إذا لم يعاشر الرجل زوجته بالمعروف بأن جفاها أو ترفع عليها، أو قصر فيما وجب لها عليه من نفقة أو بيت مثلا، أو توقع من نفسه حصول ما يسوءها فإن لم يكن ذلك عن إساءة منها إليه، فعليه أن يمسك عن ذلك، ويعاشرها بمعروف أو يفارقها بإحسان، ولا يجوز له أن يعضلها أو يضارها ليأخذ منها شيئا أو لتتنازل له عن بعض حقوقها؛ لقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) وقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) وللزوجة إذا تحققت من زوجها النشوز أو الإعراض عنها، أو توقعت ذلك منه، ورغبت في البقاء معه لمصلحة تراها: أن تصالح زوجها على التنازل عن بعض حقوقها عليه، أو على مال تدفعه إليه ليبقيها في عصمته؛ لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬3) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) سورة النساء الآية 19 (¬3) سورة النساء الآية 128

ولقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬1) ولأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة لتبقى زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم فأقر ذلك، ولا حرج على الزوج فيما تصالحا عليه إلا أن يكون عن مضارة منه لها. ثالثا: إذا نشزت المرأة فتركت الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها دون أن يكون منه إليها ما يسوءها وعظها ثم هجرها ثم أدبها، فإن أطاعته عاشرها بالمعروف، وإلا جاز له أن يضارها حتى تفتدي نفسها منه فيطلقها أو يخالعها على عوض، سواء كان نشوزها ترفعا عليه أم امتناعها من فراشه أم قولها له: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطأ لك فراشا، ولا أبر لك قسما، أم كان خروجا من بيته بغير إذنه، أم تمكينا لأحد من فراشه، أم زناها، إلى غير هذا مما يدل على سوء العشرة، وقال أبو قلابة وابن سيرين: لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا. ومنشأ الخلاف بينهما وبين الجمهور: الخلاف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2) هل المراد بها خصوص الزنا، أو كل ما يدل على سوء العشرة وترك الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها. وقال بكر بن عبد الله وعطاء والمالكية: لا يحل له أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 4 (¬2) سورة النساء الآية 19

أتت بفاحشة من زنا أو بذاء أو نشوز لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1) الآيتين، وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2) وادعوا أن الإذن في العضل إذا أتت بفاحشة منسوخ بهذه النصوص. وأجاب الجمهور عن ذلك: بمنع النسخ، لإمكان الجمع بحمل الإذن في العضل والمضارة على ما إذا أتت بفاحشة، وحمل النهي عن المضارة وأخذ العوض على ما إذا لم يحصل منها نشوز. وقيل: لا يجوز أخذ الزوج العوض منها إلا إذا خافا جميعا ألا يقيما حدود الله، لكراهية كل منهما الآخر؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (¬3) و [هو] اختيار ابن جرير، واعترض عليه بأنه يلزمه ألا يحل للزوج أخذ الفدية إذا كان سوء العشرة من قبلها فقط. وأجاب عنه: بأن الأمر ليس كما ظن، فإن سوء عشرتها يقتضي كراهيته إياها وذلك يقتضي الخوف ألا يقيما حدود الله. رابعا: اتفق العلماء على بعث حكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين ولم يعلم الناشز منهما، أو كان كل منهما ناشزا فأبى الزوج أن يمسك بمعروف ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20 (¬2) سورة النساء الآية 4 (¬3) سورة البقرة الآية 229

أو يسرح بإحسان، وأبت الزوجة أن تؤدي الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها. واتفقوا: على أن أحد الحكمين يكون من أهل الزوج والآخر من أهلها إن أمكن، وإلا فمن غيرهما حسب ما تقضتيه المصلحة. واتفقوا: على أن الحكمين ينفذ ما رأياه في الصلح بينهما، وعلى أنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما. واختلفوا بعد ذلك في مسائل: الأولى: اختلافهم في المخاطب ببعث الحكمين في قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1) فقيل: السلطان أو نائبه؛ لأنه هو الذي إليه الفصل في الخصومات والأخذ على يد الظالم، وقيل المخاطب بذلك: الزوجان؛ لأن الشأن شأنهما، وكل منهما أدرى بمن يحرص على استيفاء حقه والدفاع عنه، وقيل: أولياء الزوجين. ويمكن أن يقال: إن الأمر ببعث الحكمين مطلق فإن قام به الزوجان فبها، وإلا بعث أولياؤهما من يقوم بالواجب، فإن لم يتم البعث من قبل أوليائهما تعين على السلطان أو نائبه بعثهما. الثانية: اختلافهم في الحكمين، هل هما وكيلان أو بمنزلة القضاة؟ فقيل: هما وكيلان ينفذ قولهما فيما وكلا فيه فقط؛ لأن الطلاق بيد ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 35

الزوج لا يملكه غيره إلا بتوكيل منه؛ ولأن التعويض عن الطلاق لا يكون إلا برضا الزوجة وطيب نفسها، ولحديث علي وفيه: فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: (والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة) فاعتبر بذلك إذنه كما أذنت. وقيل: هما حاكمان فينفذ قولهما إذ هما بمنزلة السلطان، والسلطان يطلق بالضرر إذا تبين كما في مسألة العنين، ولحديث علي، فإنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما، إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، ولتسمية الله المبعوثين حكمين، والحكم كالقاضي ينفذ ما حكم به من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض، رضي الزوجان بذلك أم كرها. وقال بعض العلماء: إذا بعث السلطان أو نائبه حكمين فليس لهما إلا النظر لمعرفة المسيء منهما والنصح لهما والإصلاح بينهما، فإن تم الصلح فبها، وإلا رفعا الأمر للسلطان أو نائبه، كانا بمنزلة الشاهدين، أما الحكم فإلى السلطان أو نائبه دونهما. الثالثة: هل الخلع طلاق أو فسخ؟ وهل ينفذ طلاق الحكمين إذا طلقا ثلاثا دون تفويض في ذلك من الزوج؟ وهل للزوج الرجعة بعد الخلع ما دامت المخالعة في العدة؟ وهل يجوز الخلع دون السلطان أو لا يكون إلا عن طريقه؟ وهل الخلع خاص بحال الشقاق بين الزوجين أو عام فيها وفي غيرها؟ في كل هذه المسائل خلاف. خامسا: اختلف العلماء في مقدار ما يؤخذ من العوض في الخلع:

فقيل: لا يأخذ الزوج أكثر مما أعطاها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمن أرادت فراق زوجها: «تردين إليه ما أخذت منه. قالت: نعم، وزيادة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا» ، ويمكن أن يخصص عموم نصوص الافتداء بهذا الحديث؛ لما فيها من الاحتمال. وقيل: يجوز بأكثر مما أعطاها؛ لعموم قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) ولما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري في مخالعة الأنصاري لأخته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «تردين عليه حديقته ويطلقك قالت: نعم، وأزيده. قال: ردي عليه حديقته وزيديه» . ويمكن أن يقال: إن هذا الحديث مقابل لحديث منع الزيادة على ما أعطاها، وعلى هذا يتم الاستدلال بعموم الآية على جواز أخذه ما تراضيا عليه أو حكم به حاكم، ولو كان أزيد مما دفع لها أو يقال: في كل من الحديثين مقال: فيتم الاستدلال بعموم الآية على ما ذكر. سادسا: لم نقف على تحديد مدة تضرب للناشز، عقوبة لها وتأديبا أو زجرا لها عن النشوز عسى أن ترجع عن تقصيرها في حقوق زوجها، وتطيعه في أداء ما وجب عليها له شرعا، ويظهر أن ضرب مدة للنشوز وتحديدها من باب التعزير، وهو مما يختلف باختلاف الظروف والأحوال، وما يترتب عليه من أضرار قد تربو على سوء عشرتها للزوج وقد تنقص عنه، وما يرجى من جدوى التعزير وصلاح الأحوال به، وما يخشى من سوء ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229

عاقبة الزيادة في التعزير من توتر العلاقات بين أسر المجتمع، وما قد يحدث عن شدته للنواشز من الانحدار إلى ما لا تحمد مغبته. سابعا: ذهب بعض العلماء إلى أن حكم ولي الأمر أو نائبه بما يراه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض نافذ، سواء رضي الزوج بالطلاق أم أبى، ورضيت الزوجة بدفع العوض أم كرهت رعاية لمصلحة الأسرة خاصة ومصلحة المجتمع الإسلامي عامة، ورأوا أن هذا نظير التفريق باللعنة والإيلاء والعسر بالنفقة وطول الغيبة، وغير ذلك مما يلجأ فيه إلى التفريق لدفع المضرة والقضاء على مادة الفساد وذارئعه. وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز التفريق إلا برضا الزوج؛ لأن الطلاق جعل بيده شرعا فلا يكون إلا منه أو بتوكيله، ولا يجوز أخذ عوض من الزوجة عن الفراق إلا برضاها وعن طيب نفس منها؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) ولحديث: «إن أموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا (¬2) » ولحديث: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه (¬3) » . ويمكن أن يقال: إن هذه النصوص عامة دخلها التخصيص والاستثناء منها بالأدلة التفصيلية فليكن التفريق بالطلاق أو الفسخ من غير رضا الزوج، وكذا أخذ العوض من الزوجة مستثنى من عموم هذه النصوص كذلك بما ذكر من أدلة الرأي الأول؛ جمعا بين الأدلة بدلا من ضرب ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 188 (¬2) صحيح البخاري الحج (1739) ، سنن الترمذي الفتن (2193) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (5/73) .

بعضها ببعض ومن وقوف المسلمين منها موقف الحيرة أو الاختلاف. هذا ما تيسر إيراده، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن موضوع النشوز

قرار هيئة كبار العلماء رقم (26) وتاريخ 21\8\1394 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا بني بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء من اختيار موضوع النشوز ليكون من جملة الموضوعات التي تعد فيها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحوثا أعدت في ذلك بحثا، وعرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين الخامس من شهر شعبان عام 1394 هـ والثاني والعشرين منه. وبعد اطلاع المجلس على ما أعد من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها، وبعد تداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي: أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة، وترغيبها في الانقياد لزوجها، وطاعته، وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته، وأنها إن أصرت فلا نفقة لها عليه، ولا كسوة، ولا سكنى، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنها تكون دافعة الزوجة إلى العودة لزوجها، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها، فإن استمرت على نفرتها وعدم الاستجابة عرض عليهما الصلح، فإن لم يقبلا ذلك نصح الزوج بمفارقتها، وبين له أن عودتها إليه أمر بعيد، ولعل الخير في غيرها ونحو ذلك مما يدفع الزوج إلى مفارقتها، فإن أصر على إمساكها وامتنع من مفارقتها، واستمر الشقاق بينهما بعث القاضي حكمين عدلين ممن يعرف حالة الزوجين من أهلهما حيث أمكن ذلك، فإن لم يتيسر فمن غير أهلهما ممن يصلح لهذا الشأن، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على

أيديهما فبها، وإلا أفهم القاضي الزوج أنه يجب عليه مخالعتها، على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها، فإن أبى أن يطلق حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوض أو بغير عوض، فإن لم يتفق الحكمان، أو لم يوجدا وتعذرت العشرة بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما، وفسخ النكاح حسبما يراه شرعا بعوض أو بغير عوض. والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (¬1) ويدخل في هذا العموم الزوجان في حالة النشوز، والقاضي إذا تولى النظر في دعواهما. وقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (¬2) الآية، والوعظ كما يكون من الزوج لزوجته الناشز يكون من القاضي؛ لما فيه من تحقيق المصلحة. وقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬3) فكما أن الإصلاح مشروع إذا كان النشوز من الزوج، فهو مشروع إذا كان من الزوجة أو منهما. وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (¬4) الآية، وهذه ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 114 (¬2) سورة النساء الآية 34 (¬3) سورة النساء الآية 128 (¬4) سورة النساء الآية 35

الآية عامة في مشروعية الأخذ بما يريانه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض. وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬1) وأما السنة: فما روى البخاري في [الصحيح] عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما - قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فردت عليه، فأمره ففارقها (¬2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (¬3) » فهذا يدل بعمومه على مشروعية الخلع عند عدم الوئام بين الزوجين وخشية الضرر. وأما الأثر: فما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر: بلغني أن عثمان بعثهما، وقال: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا، ورواه النسائي أيضا. وما رواه الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة قال: جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهم، فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 229 (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5277) ، سنن النسائي الطلاق (3463) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2056) . (¬3) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .

المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا، فقال علي: (كذبت والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به) . ورواه النسائي في [السنن الكبرى] ورواه الشافعي والبيهقي، وقال ابن حجر: إسناده صحيح. وما أخرجه الطبري في [تفسيره] ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الحكمين أنه قال: (فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز) . وأما المعنى: فإن بقاءها ناشزا مع طول المدة أمر غير محمود شرعا؛ لأنه ينافي المودة والإخاء، وما أمر الله من الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، مع ما يترتب على الإمساك من المضار والمفاسد والظلم والإثم، وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر، وتوليد العداوة والبغضاء. وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الخامسة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد الله بن حميد ... عبد الله الخياط ... عبد الرزاق عفيفي محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

حكم الشفعة بالمرافق الخاصة

(7) حكم الشفعة بالمرافق الخاصة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم الشفعة بالمرافق الخاصة (¬1) . إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه، وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة مسألة (الشفعة بالمرافق الخاصة) وقد قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس هذا نصه: الحمد لله وحده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة المتقرر انعقادها في أول ربيع الثاني عام 1396 هـ. وحيث إن دراسة أي موضوع يستلزم إعداد بحث فيه، فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على تعريف الشفعة في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي، وعلى مستند ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الثالث، ص 229 - 264، لعام 1397 هـ.

مشروعيتها، وحكمة ذلك، وعلى مجموعة من مسائل الشفعة مما هي موضع خلاف بين أهل العلم، وفي مقدمة ذلك الشفعة بالمرافق الخاصة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تعريف الشفعة

تعريف الشفعة: الشفعة في اللغة: الشفعة: من شفع يشفع شفعا، كمنع بمعنى: الضم والزيادة، وتطلق أيضا فيراد بها المال المشفوع فيه، وتطلق ويراد بها: تملك ذلك المال، قال في [المصباح المنير] : شفعت الشيء شفعا من باب نفع ضممته إلى الفرد، وشفعت الركعة جعلتها ثنتين، ومن هنا اشتقت الشفعة، وهي مثال غرفة؛ لأن صاحبها يشفع ماله بها، وهي اسم للملك المشفوع، مثل اللقمة اسم للشيء الملقوم، وتستعمل بمعنى التملك لذلك الملك، ومنه قولهم: من ثبت له شفعة فأخر الطلب بغير عذر بطلت شفعته، ففي هذا المثال جمع بين المعنيين، فإن الأولى للمال والثانية للتملك. اهـ. وفي [لسان العرب] : الشفع من الأعداد: ما كان زوجا، تقول: كان وترا فشفعته بآخر، وشفعة الضحى: ركعتا الضحى. إلى أن قال: وسئل أبو العباس عن اشتقاقها في اللغة، قال: الشفعة: الزيادة، وهو أن يشفعك فيما تطلب حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده، وتشفعه بها: أي أن تزيده بها، أي إنه كان وترا واحدا فضم إليه ما زاده وشفعه به. اهـ.

الشفعة في الاصطلاح الشرعي

الشفعة في الاصطلاح الشرعي: اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في تعريف الشفعة تبعا لاختلافهم في موجباتها، ولشروطها وفيمن لهم حق الشفعة: فذهب الحنفية: إلى أن الشفعة حق تملك المرء ما بيع من عقار أو ما هو في حكم العقار مما هو متصل بعقاره من شركة أو جوار بمثل الثمن الذي قام عليه المشتري؛ وذلك لدفع ضرر الشراكة أو الجوار. وذهب المالكية: إلى أن الشفعة استحقاق لشريك أخذ مبيع شريكه بثمنه. قوله: (شريك) قيد أخرج به الجار والشريك في حق المبيع. وقوله: (مبيع) قيد أخرج الموهوب بلا عوض، وكذا الموروث (¬1) . وذهب الشافعية: إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه بمثل العوض المسمى (¬2) وذهب الحنابلة: إلى أن الشفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة لشريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد، فقوله: (الشريك) قيد خرج به الجار والشريك في حق المبيع. وقوله: (إن كان مثله أو دونه) قيد خرج به الكافر فلا شفعة له على مسلم، وقوله: (بثمنه الذي استقر عليه العقد) خرج به الموهوب والموروث وما ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (3\377) . (¬2) [مغني المحتاج] (2\296) .

كان صداقا أو عوض خلع أو نحوهما (¬1) . مما تقدم: تتضح العلاقة بين المعنيين اللغوي والشرعي، فإذا كانت الشفعة لغة بمعنى: الضم والزيادة، فإن الشفيع بانتزاعه حصة شريكه من يد من انتقلت إليه بضم تلك الحصة إلى ما عنده فيزيد بها تملكه، فالضم والزيادة موجودان في المعنيين اللغوي والشرعي، غير أن الشفعة في عرف الشرع اعتبر فيها قيود جعلتها أخص من معناها في اللغة. ¬

_ (¬1) [المغني] (5\255) ، حاشية المقنع (2\256) .

مشروعية الشفعة

مشروعية الشفعة الشفعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) وأما السنة فقد ورد بمشروعيتها جملة أحاديث وآثار نذكر منها ما يلي: 1 - قد ثبت في [الصحيحين] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم (¬2) » . 2 - روى البخاري في [صحيحه] وأبو داود والترمذي في [سننهما] بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬3) » ولمسلم بسنده إلى جابر قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة ¬

_ (¬1) سورة الحشر الآية 7 (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي البيوع (1312) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، موطأ مالك الشفعة (1420) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) صحيح البخاري الشفعة (2257) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

ما لم تقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، وإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬1) » وفي رواية أخرى لمسلم قال: «الشفعة في كل شرك من أرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع، فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه (¬2) » وفي رواية للترمذي: «من كان له شريك في حائط فلا يبيع نصيبه من ذلك حتى يعرضه على شريكه (¬3) » . 3 - ولأبي داود بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعة فيها (¬4) » قال الشوكاني في [النيل] : ورجال إسناده ثقات، ورواه ابن ماجه بمعناه. 4 - وللترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء (¬5) » ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال كما قال الترمذي. وفي رواية للطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شيء» ، قال الشوكاني في [النيل] : إسناد حديث جابر لا بأس برواته، كما قاله الحافظ. 5 - وللبخاري وأبي داود والنسائي، واللفظ للبخاري بإسناده إلى عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتاعهما، فقال المسور: والله لتبتاعنهما، فقال سعد: والله لا أزيدك على. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي البيوع (1312) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬4) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬5) سنن الترمذي الأحكام (1371) .

منجمة أو مقطعة، فقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحق بسقبه (¬1) » ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاه إياها. 6 - ولأحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا (¬2) » قال في [البلوغ] : ورجاله ثقات. قال الصنعاني في [شرحه] : أحسن المصنف بتوثيق رجاله وعدم إعلاله، وإلا فإنهم قد تكلموا في هذه الرواية بأنه انفرد بزيادة قوله: «إذا كان طريقهما واحدا (¬3) » عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي. قلت: وعبد الملك ثقة مأمون لا يضر انفراده، كما عرف في الأصول وعلوم الحديث. 7 - وفي [الموطأ] أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها، ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل) . قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا. 8 - ولابن ماجه بسند ضعيف إلى ابن عمر رضي الله عنهما: (الشفعة كحل العقال) ورواه ابن حزم وزاد: (فإن قيدها مكانه ثبت حقه، وإلا فاللوم عليه) . وأخرج عبد الرزاق عن شريح: إنما الشفعة لمن واثبها. وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على القول بها، ولم يعرف فيها مخالف إلا ما نقل عن أبي بكر بن الأصم من إنكارها، بحجة: أن في إثباتها إضرارا بأرباب الأملاك، حيث إن المشتري يحجم عن الشراء إذا علم أن ما يشتريه سينتزع منه فيتضرر الملاك بذلك. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) ، سنن الدارمي البيوع (2627) .

وقد رد ابن قدامة رحمه الله شبهته في معرض بحثه إجماع الأمة على القول بالشفعة، فقال: وأما الإجماع فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط، والمعنى في ذلك: أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والاستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر، فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه، ولا نعلم أحدا خالف هذا إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة؛ لأن في ذلك إضرارا بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك. وهذا ليس بشيء؛ لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله. والجواب عما ذكره من وجهين: أحدهما: أنا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من يشتري منهم غير شركائهم، ولم يمنعهم استحقاق الشفعة من الشراء. الثاني: أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فيسقط استحقاق الشفعة. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [المغني] (5\255) .

دفع شبه القول بمنافاتها للقياس

دفع شبه القول بمنافاتها للقياس لقد تكلم بعض أهل العلم في الشفعة من حيث زعم بعضهم منافاتها لبعض الأصول والمبادئ الشرعية: فقال السرخسي: وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله: أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة؛ لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحا له بغير رضاه، وذلك لا يجوز، فإنه من نوع الأكل بالباطل، وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه (¬1) » ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه، وليس لأحد أن يدفع الضرر على نفسه بالإضرار بغيره (¬2) . وأورد ابن القيم رحمه الله شبهة لنفاة الحكم والتعليل والقياس فقال: وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة. وقد رد رحمه الله على هذه الشبهة وعلى دعوى منافاة مشروعية الشفعة لأصول الشريعة ومبادئها، فقال: من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة، ولا يليق بها غير ذلك، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به. ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (5/73) . (¬2) [المبسوط] (14\90) .

بعضهم على بعض: شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة، وانفراد أحد الشريكين بالجملة، إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك، فإن أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان، فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي، ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع؛ لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (2\111) .

الحكمة في مشروعية الشفعة

الحكمة في مشروعية الشفعة لا شك أن الشريعة الإسلامية تهدف بتشريعاتها إلى تحقيق العدل، وتعميم الرخاء، وتحصيل المصالح، ودرء المفاسد، فهي عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه. والشفعة شرع الله، شرعها تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن لمشروعيتها حكمة اقتضاها عدله تعالى بين عباده، ورحمته بين خلقه، ولا شك أن من الحكمة في مشروعيتها: إزالة الضرر بين الشركاء، أو الضرر مطلقا، فإن الشركات في الغالب تعتبر موطنا للخصومات ومحلا للتضرر والتعديات، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (¬1) قال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن ¬

_ (¬1) سورة ص الآية 24

الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض، شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة. اهـ (¬1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الشفعة: فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع؛ لما في الشركة من التضرر. اهـ (¬2) . ونقل علي حيدر عن [مجمع الأنهر] : أن الحكمة في مشروعيتها دفع ما ينشأ من سوء الجوار من الضرر على وجه التأبيد، كإيقاد النار، وإعلاء الجدار، وإثارة الغبار، ومنع ضوء النهار، وإقامة الدواب والصغار. اهـ (¬3) . وباستعراض ما تقدم من تعاريف الشفعة لدى أهل العلم وحكمة مشروعيتها يتضح ما يلي: 1 - اتفاقهم على القول بالشفعة على وجه الإجمال. 2 - اتفاقهم على ثبوت الشفعة للشريك المسلم بشرطه. 3 - اتفاقهم على عدم اعتبار رضا الشريك والمشفوع عليه في انتزاع الشفيع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه. 4 - اتفاقهم في الجملة على ثبوت الشفعة في العقار. ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (2\111) . (¬2) [مجموع فتاوى ابن تيمية] (29\178) . (¬3) [درر الأحكام شرح مجلة الأحكام] (4\672) .

5 - اختلافهم في سبب الشفعة، حيث اتفق الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، على أن الشفعة خاصة للشريك، فلا شفعة بجوار ولا بمرفق خاص مشترك كطريق وبئر ومسيل، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة، حيث أثبت الشفعة بالجوار وبالمرافق الخاصة، ووافقه في ذلك الإمام أحمد في رواية عنه في الشفعة بالمرافق الخاصة. 6 - اختلافهم في الشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار؛ كالحمام الصغير والحانوت. 7 - اختلافهم في الشركة في المنقولات هل فيها شفعة؟ 8 - اختلافهم في الكافر: هل له حق الشفعة على المسلم؟ حيث اتفق الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي على إثبات الشفعة له على المسلم، وخالفهم في ذلك الإمام أحمد، حيث منعها عنه بحجة أنه ليس له مثل حق المسلم. 9 - اختلافهم فيما إذا انتقلت الحصة إلى الغير بعوض غير مسمى. 10 - اختلافهم في الوقف هل تثبت فيه وبه الشفعة؟ 11 - اختلافهم في شفعة غير المكلف؛ كالصبي والمجنون. 12 - اختلافهم في شفعة الغائب. 13 - اختلافهم في إرث الحق في الشفعة.

ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر

وفيما يلي ذكر بعض من أقوال أهل العلم فيما اختلفوا فيه مما ذكر: 1 - الاشتراك فيما لا يقبل القسمة من العقار اختلف أهل العلم في ثبوت الشفعة بالشركة فيما لا يقبل القسمة من العقار، كالحمام الصغير والحانوت: فذهب جمهور الشافعية والحنابلة: إلى أن الشركة في ذلك لا تعتبر سببا للأخذ بالشفعة؛ لأن الشفعة مشروعة لدفع ضرر مئونة القسمة، واستحداث المرافق، وهذا غير موجود فيما لا يقبل القسمة، فانتفت الشفعة. قال في [المنهاج] : وكل ما لو قسم بطلت منفعته المقصودة كحمام ورحى لا لشفعة فيه على الأصح. اهـ (¬1) . وقال في [المجموع] : ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب، فأما ما لا تجب قسمته؛ كالرحى، والبئر الصغيرة، والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة، وقال أبو العباس: تثبت فيه الشفعة؛ لأنه عقار، فتثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته، والمذهب الأول؛ لما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر، والأرف تقطع كل شفعة، ولأن الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة، وذلك لا يوجد فيما لا يقسم. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) [المنهاج] ومعه شرحه [المغني] (2\297) . (¬2) [المجموع] (14\132) والأرف: جمع أرفة، كغرفة، وهي الحد بين الشيئين.

وذكر الشربيني وجه الخلاف في المذهب في ذلك فقال: هذا الخلاف مبني على ما مر من أن علة ثبوت الشفعة دفع ضرر مئونة القسمة واستحداث المرافق. . إلخ. والثاني: مبني على أن العلة دفع ضرر الشركة فيما يدوم، وكل من المسلمين حاصل قبل البيع، ومن حق الراغب فيه من الشريكين أن يخلص صاحبه منهما بالبيع له فإذا باع لغيره سلطه الشرع على أخذه منه؛ لما روى مسلم عن جابر: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬1) » اهـ (¬2) . وقال ابن قدامة رحمه الله: الشرط الثالث: أن يكون المبيع مما يمكن قسمته، فأما ما لا يمكن قسمته من العقار؛ كالحمام الصغير، والرحى الصغيرة، والعضادة، والطريق الضيقة، والعراص الضيقة، فعن أحمد روايتان. إحداهما: لا شفعة فيه، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي. والثانية: فيها الشفعة. إلى أن قال: والأول ظاهر المذهب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة» والمنقبة: الطريق الضيقة، رواه أبو الخطاب في [رءوس المسائل] ، وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: (لا شفعة في بئر ولا فحل) ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع؛ لأنه لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬2) [مغني المحتاج] (2\297) .

يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة، وقد يمنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع، وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها. ويمكن أن يقال: إن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من إحداث المرافق الخاصة، ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم. وقولهم: إن الضرر هاهنا أكثر لتأبده. قلنا: إلا أن الضرر في محل الوفاق من غير جنس هذا الضرر، وهو ضرر الحاجة إلى إحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية، وفي الشفعة هاهنا ضرر غير موجود في محل الوفاق، وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق. اهـ (¬1) . وقد اختلفت الرواية عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك: قال أبو عبد الله المواق: قال ابن رشد: الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم، وهذا أمر اختلف فيه أصحاب مالك في [المدونة] : قال مالك: إذا كانت نخلة بين رجلين فباع أحدهما حصته فلا شفعة لصاحبه فيها، وفي [المدونة] أيضا، قال مالك: في الحمام الشفعة، وهو أحق أن تكون فيه الشفعة من الأرض؛ لما في قسم ذلك من الضرر، وقاله ¬

_ (¬1) [المغني] (5\259، 260) .

مالك وأصحابه أجمع. اهـ (¬1) . وذهب الحنفية ومن وافقهم من الشافعية والمالكية والحنابلة: إلى ثبوت الشفعة في العقار مطلقا، سواء أمكن قسمته أم لم تمكن. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أصحابه، كما اختاره بعض أصحاب الشافعي؛ كأبي العباس بن سريج، وهو رواية [المهذب] عن الإمام مالك رحمه الله. قال السرخسي: واستحقاق الشفعة في الحمام والرحى قولنا، وذكر توجيه ذلك بأنه لدفع ضرر البادئ بسوء المجاورة على الدوام، وذلك فيما لا يحتمل القسمة موجود لاتصال أحد المالكين بالآخر على وجه التأبيد والقرار. وحجتنا في ذلك ما روينا من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفعة في كل شيء، ربع أو حائط (¬2) » ولأن الحمام لو كان مهدوما فباع أحد الشريكين نصيبه كان للشريك الشفعة، وما يستحق بالشفعة مهدوما يستحق بالشفعة مثبتا، كالشقص من الجدار. ثم أجاب عن القول: بأن علة الشفعة دفع ضرر مئونة القسمة، وأنه لا قسمة فيما لا يقبلها فقال: وبهذا يتبين أن مئونة المقاسمة إن كانت لا تلحقه في الحال فقد تلحقه في الثاني، وهو ما بعد الانهدام إذا طلب أحدهما قسمة ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل على شرح مختصر خليل] (5\315) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

الأرض بينهما. اهـ (¬1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة قسمة الإجبار؛ كالقرية، والبستان، ونحو ذلك، وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار، وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي، هل تثبت فيه الشفعة؟ على قولين: أحدهما: تثبت، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره بعض أصحاب الشافعي؛ كابن سريج، وطائفة من أصحاب أحمد؛ كأبي الوفاء بن عقيل، وهي رواية [المهذب] عن مالك، وهذا القول هو الصواب، كما سنبينه إن شاء الله. والثاني: لا تثبت فيه الشفعة. تم قال: والقول الأول: أصح، فإنه قد ثبت في [الصحيح] عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به (¬2) » ، ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض والربعة والحائط أن يكون مما يقبل القسمة، فلا يجوز تقييد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير دلالة من كلامه، لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة، وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا، ففي [الصحيحين] ، «عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا ¬

_ (¬1) [المبسوط] (14\135) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

شفعة (¬1) » فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود وصرف الطرق، وهذا الحديث في الصحيح عن جابر، وفي [السنن] عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا (¬2) » فإذا قضى بها للاشتراك في الطريق فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى. إلى أن قال: وأيضا فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما يقبل القسمة، فما لا يقبل القسمة أولى بثبوت الشفعة فيه، فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة، وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد، وظن من ظن أنها تثبت لرفع ضرر المقاسمة لا لضرر المشاركة كلام ظاهر البطلان، فإنه قد ثبت بالنص والإجماع أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها وجبت إجابته إلى المقاسمة. ولو كان ضرر المشاركة (¬3) أقوى لم يرفع أدنى الضررين بالتزام أعلاهما، ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل، فإن شريعة الله منزهة عن مثل هذا. وأما قولهم: هذا يستلزم ضرر الشريك البائع. فجوابه: أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين، فإن العين تباع ويجبر الممتنع على البيع ويقسم الثمن بينهما، وهذا مذهب جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد. اهـ (¬4) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2214) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3518) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) . (¬3) هكذا في المطبوع، ولعل الصواب: ضرر المقاسمة. (¬4) [المجموع] (30\381 - 384) .

وقال ابن قدامة رحمه الله في معرض توجيه القول بثبوت الشفعة فيما لا تمكن قسمته بعد أن ذكر أنه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: ووجه هذا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم (¬1) » وسائر الألفاظ العامة، ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر؛ لأنه يتأبد ضرره. اهـ (¬2) . وسئل الشيخ حمد بن ناصر والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله عن الشفعة في أرض لا تمكن قسمتها إجبارا. فأجابا: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها وفيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد. الأولى: أن الشفعة لا تثبت إلا في المبيع الذي تمكن قسمته، فأما ما لا تمكن قسمته من العقار؛ كالحمام الصغير، والعضادة، والطريق الضيقة، فلا شفعة فيه، وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة والشافعي. وهذا هو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة. قال الموفق في [المغني] : وهو ظاهر المذهب؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا شفعة في فناء، ولا في طريق، ولا في منقبة» والمنقبة: الطريق الضيق، رواه أبو الخطاب في [رءوس المسائل] . والرواية الثانية: تثبت الشفعة فيه، وهو قول: أبي حنيفة، والثوري، ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬2) [المغني] (5\259) .

وابن سريج، ورواية عن مالك، واختاره ابن عقيل، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين. قال الحارثي: وهو الحق؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم (¬1) » وسائر الألفاظ، ولأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر بالمشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر؛ لأنه يتأبد ضرره، وهذا هو المفتى به عندنا، وهو الراجح. اهـ (¬2) . وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله إجابة لسؤال وجه إليه عن رأيه في اشتراط أن تكون الشفعة في أرض تجب قسمتها ما نصه: وأما المسألة الثانية وهي: أنهم رحمهم الله لم يثبتوا الشفعة إلا في العقار الذي يمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته فهذا ضعيف أيضا؛ لأن حديث جابر المرفوع «قضى صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم (¬3) » وهو في [الصحيح] صريح في عموم الشفعة في كل عقار لم يقسم، سواء أمكنت قسمته بلا ضرر أم لا. ومن جهة المعنى الذي أثبت الشارع الشفعة فيه للشريك لإزالة ضرر الشركة، وهذا المعنى موجود في الأرض التي لا يمكن قسمتها أكثر من غيرها لتمكنه في غيرها بإزالة ضرر الشركة في القسمة فيما يقسم بلا ضرر، وأما ما لا يمكن قسمته إلا بضرر فهو أعظم ضررا من غيره فكيف لا تثبت به؟ ! وهذا هو الصحيح، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد. اهـ (¬4) . ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬2) [الدرر السنية] (5\226) . (¬3) صحيح البخاري الشفعة (2257) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬4) [الفتاوى السعدية] ص 437.

الاشتراك في المنقولات

2 - الاشتراك في المنقولات لا يخلو أمر المنقول من حالين: إما أن يكون متصلا بالأرض؛ كالبناء، والغراس مما يباع مع الأرض فهذا يؤخذ بالشفعة تبعا لأصله. قال ابن قدامة رحمه الله بعد أن حكاه قولا واحدا في المذهب بغير خلاف: ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافا. اهـ (¬1) . وإما أن يكون منفصلا عنه: كالزرع والثمرة وغيرهما من المنقولات: فذهب الشافعية والحنابلة: إلى أن الشفعة لا تثبت فيه تبعا ولا منفردا؛ لأن الشفعة بيع في الحقيقة، وما كان منفصلا لا يدخل في البيع تبعا. قال الشربيني في شرحه قول صاحب [المنهاج] : (لا تثبت في منقول) . ما نصه: لا تثبت الشفعة في منقول كالحيوان والثياب، سواء أبيعت وحدها أم مضمومة إلى أرض للحديث المار (¬2) فإنه يخصها بما تدخله القسمة والحدود والطرق، وهذا لا يكون في المنقولات، ولأن المنقول لا يدوم بخلاف العقار فيتأبد فيه ضرر المشاركة، والشفعة تملك بالقهر فناسب مشروعيتها عند شدة الضرر، والمراد بالمنقول: ابتداء لتخرج الدار إذا انهدمت بعد ثبوت الشفعة، فإن نقضها يؤخذ بالشفعة. اهـ. وقال أيضا في شرحه قول صاحب [المنهاج] : وكذا ثمر لم يؤبر في الأصح. ما نصه: ويأخذ الشفيع الشجر بثمرة حدثت بعد البيع ولم تؤبر ¬

_ (¬1) [المعني] (5\258) . (¬2) أي الحديث الذي مر في [مغني المحتاج] . اهـ. الناشر.

عند الأخذ؛ لأنها قد تعبت الأصل في البيع فتبعته في الأخذ بخلاف ما إذا أبرت عنده فلا يأخذها لانتفاء التبعية. أما المؤبرة عند البيع إذا دخلت بالشرط فلا تؤخذ؛ لما سبق من انتفاء التبعية، فتخرج بحصتها من الثمن. اهـ (¬1) . وقال ابن قدامة رحمه الله: القسم الثاني: ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا، وهو: الزرع، والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض، فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل، ثم ذكر توجيه ذلك بقوله: لأنه لا يدخل في البيع تبعا فلا يؤخذ بالشفعة؛ كقماش الدار، وعكسه البناء، والغراس، وتحقيقه: أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضا المشتري فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة؛ لأنها تتبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض. وأما ما بيع مفردا من الأرض فلا شفعة فيه، سواء كان مما ينقل؛ كالحيوان، والثياب، والسفن، والحجارة، والزرع، والثمار، أو لا ينقل؛ كالبناء، والغراس، إذا بيع مفردا، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي. اهـ (¬2) . وذهب الحنفية: إلى أن الثمرة في الأرض تابعة للأرض في استحقاق الشفعة استحسانا إذا شرطها المبتاع، وأما القياس فإن الشفيع لا يأخذها؛ ¬

_ (¬1) [مغني المحتاج] (2\296، 297) . (¬2) [المغني] (5\258) .

لأنها في حكم المنفصل أشبه المتاع في الدار. قال في [الهداية] : ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها، ومعناها: إذا ذكر الثمر في البيع؛ لأنه لا يدخل مع غير ذكر، وهذا الذي ذكره استحسان. وفي القياس: لا يأخذه؛ لأنه ليس يتبع، ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار، وجه الاستحسان: أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع. اهـ (¬1) . وأما ما كان منفصلا عن الأرض؛ كأثاث الدار، والعروض، والسفن، والحيوانات، وغير ذلك من المنقولات فلا شفعة فيها؛ لأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام، والملك في المنقول لا يدوم مثل دوامه في العقار فلا تلحق به. (¬2) واختلفت الروايات عن الإمام مالك رحمه الله في الثمرة على الأرض هل تؤخذ بالشفعة أم لا؟ قال ابن رشد: فتحصيل مذهب مالك: أنها في ثلاثة أنواع: أحدها: مقصود، وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين. ¬

_ (¬1) [الهداية] (4\34) . (¬2) [فتح القدير] لابن الهمام (7 \ 434) .

والثاني: ما يعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول كالبئر. والثالث: ما تعلق بهذه كالثمار، وفيها عنه خلاف. اهـ (¬1) . وقد ذكر ابن رشد في [مقدماته] : أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه: الأول: ألا يكون فيها ثمرة أصلا، أو يكون فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر، وهذه الحال لا خلاف في أن الشفيع يأخذ النخل بثمرته. الثاني: أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة مؤبرة. وقد ذكر الخلاف في استحقاق الثمرة تبعا للأصل، فذكر أن قول المدنيين في [المدونة] وهو قول أشهب وأكثر الرواة: أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت، وأصل الخلاف في ذلك هل الأخذ بالشفعة كالأخذ بالبيع أو أن الثمرة تصير غلة بالإبار. الثالث: أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت، وهذا الوجه كالوجه الثاني فيه الخلاف بين أصحاب مالك، وقد قال ابن القاسم في [المدونة] : أن الشفيع أحق بها ما لم تجذ ويأخذها الشفيع بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة (¬2) . وأما المنقولات المفصلة؛ كالسفن، والحيوانات، والأثاث وغيرها ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد، (2\254) . (¬2) [مقدمات ابن رشد] (2\586 - 589) .

فلا شفعة فيها. قال في [المدونة] : قلت: ولا شفعة في دين ولا حيوان ولا سفن ولا بر ولا طعام ولا في شيء من العروض ولا سارية ولا حجر ولا في شيء من الأشياء سوى ما ذكرت لي كان مما يقسم أو لا يقسم في قول مالك؟ قال: نعم، لا شفعة في ذلك ولا شفعة فيما ذكرت لك. (¬1) . وذهب بعض أهل العلم إلى أن الشفعة ثابتة في كل شيء حتى في الثوب؛ لما روى الترمذي بسند جيد عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعا: «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء (¬2) » ورواه مرسلا وصحح المرسل. قال الحافظ: ورواه الطحاوي بلفظ: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء» ورجاله ثقات (¬3) . لأن الشفعة شرعت لدفع ضررا لمشاركة. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد. قال ابن قدامة رحمه الله في معرض كلامه على الشفعة في المنقولات ما نصه: واختلف عن مالك وعطاء، فقالا مرة كذلك، ومرة قالا: الشفعة في كل شيء حتى في الثوب، قال ابن أبي موسى: وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى: أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجارة والسيف والحيوان وما في معنى ذلك. اهـ (¬4) . وقال في [حاشية الروض المربع] للشيخ عبد الله العنقري على قول ¬

_ (¬1) [المدونة] (5\402) . (¬2) سنن الترمذي الأحكام (1371) . (¬3) [بلوغ المرام] ومعه شرحه [السبل] (3\62) . (¬4) [المغني] (5\258) .

الشارح: (فلا شفعة في منقول كسيف ونحوه) ما نصه: قوله: فلا شفعة في منقول، إلى قوله: ونحوها. قال في [الإنصاف] : والرواية الثانية فيه الشفعة، اختاره ابن عقيل، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين. قال الحارثي: وهو الحق، وعنه يجب في كل مال، حاشا منقولا ينقسم. اهـ (¬1) . وممن قال بذلك ابن حزم، ففي [المحلى] ما نصه: الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم بين اثنين فصاعدا من أي شيء كان مما ينقسم ومما لا ينقسم: من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، أو عبد، أو ثوب، أو أمة، أو من سيف، أو من طعام، أو من حيوان، أو من أي شيء بيع. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) [الروض المربع] (2\402) . (¬2) [المحلى] (10\3) .

الجوار

3 - الجوار لا يخلو أمر الجار من حالين: إما أن يكون شريكا لجاره في مرافق خاصة كشرب ومسيل وطريق غير نافذ ونحو ذلك، وإما ألا يشاركه في شيء من ذلك. فإن كان شريكا لجاره في المرافق الخاصة فقد ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة: إلى القول بعدم الشفعة في ذلك؛ لما في [صحيح البخاري] عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق

فلا شفعة (¬1) » ولما روى مسلم في [صحيحه] عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط (¬2) » حيث دل الحديثان على حصر الشفعة فيما هو مشترك ولم يقسم، فإذا قسم فلا شفعة؛ ولأن الشفعة مشروعة لرفع ضرر الاشتراك والمقاسمة، ولما في المقاسمة من احتمال نقص قيمة حصة الشريك بعد المقاسمة لما تستلزمه المقاسمة في الغالب من إحداث مرافق خاصة لما يقتسم. قال في [المدونة] : قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوما اقتسموا دارا بينهم فعرف كل رجل منهم بيوته ومقاصيره إلا أن المساحة بينهم لم يقتسموها أتكون الشفعة بينهم أم لا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا شفعة بينهم إذا اقتسموا، قلت: وإن لم يقتسموا المساحة وقد اقتسموا البيوت فلا شفعة بينهم في قول مالك؟ قال: نعم. قلت: أرأيت السكة غير النافذة تكون فيها دار لقوم فباع بعضهم داره، أيكون لأصحاب السكة الشفعة أم لا في قول مالك؟ قال: لا لشفعة لهم عند مالك. قلت: ولا تكون الشفعة في قول مالك بالشركة في الطريق؟ قال: نعم، لا شفعة بينهم إذا كانوا شركاء في طريق. ألا ترى أن مالكا قال: لا شفعة بينهم إذا اقتسموا الدار اهـ (¬3) . وقال ابن رشد في معرض تعداد ما لا شفعة فيه: وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار. اهـ (¬4) . وقال الشربيني على قول صاحب [المنهاج] : (ولا شفعة إلا لشريك) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) [المدونة] (5\402) . (¬4) [بداية المجتهد] (2\255) .

ما نصه: ولا شفعة إلا لشريك في رقبة العقار، فلا تثبت للجار لخبر البخاري المار (¬1) ، ولا للشريك في غير رقبة العقار كالشريك في المنفعة فقط. ولو باع دارا وله شريك في ممرها فقط التابع لها، فإن كان دربا غير نافذ فلا شفعة له فيها؛ لانتماء الشركة فيها. اهـ (¬2) . وقال النووي: وأما المقسوم فهل تثبت فيه الشفعة بالجوار، فيه خلاف: فذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء لا تثبت بالجوار، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ويحيى الأنصاري، وأبي الزناد، وربيعة، ومالك، والأوزاعي، والمغيرة بن عبد الرحمن، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، اهـ (¬3) . وذكر ابن قدامة رحمه الله: أن الشفعة لا تثبت إلا بشروط أربعة: أحدها: أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم، فأما الجار فلا شفعة له. ثم ذكر من اختار هذا القول من أهل العلم ومن خالفه، كأبي حنيفة وغيره، ثم وجه القول بحصر الشفعة في الملك غير المقسوم، فقال: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬4) » وروى ابن جريج عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أو عن أبي سلمة أو عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قسمت الأرض وحددت فلا ¬

_ (¬1) أي: للحديث المار في كتاب [مغني المحتاج] اهـ. الناشر. (¬2) [مغني المحتاج] (2\298) . (¬3) [شرح النووي لصحيح مسلم] (11\46) . (¬4) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .

شفعة (¬1) » رواه أبو داود. ولأن الشفعة تثبت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه، وبيان انتفاء المعنى هو: أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم. . . إلى أن قال: إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة. قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب، إذا وقعت الحدود فلا شفعة. اهـ (¬2) . وقال البهوتي رحمه الله: ومن أرضه بجوار أرض لآخر ويشربان من نهر أو بئر واحدة فلا شفعة بذلك. اهـ (¬3) . وذهب الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم: إلى أن الشفعة تثبت للخليط في حق المبيع إذا لم يكن ثم من يحجبه عنه، كوجود خليط في المبيع نفسه؛ وذلك لما روى الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جار الدار أحق بالدار (¬4) » رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجار أحق بداره ينتظر به إذا كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا (¬5) » رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وقال الحافظ في [البلوغ] : رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات، ولأن ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬2) [المغني] (5\256، 257) . (¬3) [شرح المنتهى] (2\434، 435) . (¬4) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) . (¬5) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) ، سنن الدارمي البيوع (2627) .

اتصال ملكه به يدوم ويتأبد فهو مظنة التضرر بالاختلاط في حقوق المبيع كالشركة. قال في [الهداية] في معرض توجيهه القول بثبوت الشفعة للخليط في حق المبيع تم للجار ما نصه: ولنا ما روينا، ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع؛ وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار، إذ هو مادة المضار على ما عرف، وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى. اهـ (¬1) . وقد قال بثبوت الشفعة بالشركة في مصالح العقار بعض الحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وصاحب [الفائق] وهو اختيار الحارثي. قال أبو الحسن المرداوي: وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب، وقد سأله عن الشفعة. فقال: إذا كان طريقهما واحدا لم يقتسموا، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة، وهذا هو الذي اختاره الحارثي. وذكر ظاهر كلام الإمام أحمد المتقدم، ثم قال: وهذا الصحيح الذي يتعين المصير إليه، ثم ذكر أدلته، وقال في هذا المذهب جمعا بين الأخبار دون غيره فيكون أولى بالصواب. اهـ (¬2) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال، أعدلها هذا القول: أنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا. اهـ (¬3) ¬

_ (¬1) [الهداية] (4\24، 25) . (¬2) [الإنصاف] (6\255) . (¬3) [مجموع الفتاوى] (30\383) .

وقال ابن القيم رحمه الله: والصواب: القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث: أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة، وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة، بل كان كل واحد منهما متميزا ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة، وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي؟ فقال: إذا كان طريقهما واحدا، فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين: سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري. . . إلى أن قال: والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري، فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه، فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة، وأقربها إلى العدل، وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه حيث قال: لا شفعة فيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطريق، وحيث أثبتها فيما إذا لم تصرف الطرق، فإنه قد روي عنه هذا وهذا. وكذلك ما روي عن علي رضي الله عنه، فإنه قال: (إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ومن تأمل أحاديث شفعة الجار رآها صريحة في ذلك، وتبين له بطلان حملها على الشريك، وعلى حق الجوار غير الشفعة، وأجاب رحمه الله عن حديث أبي

هريرة: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (¬1) » بأن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود، فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة؛ بل بعضها حاصل، وبعضها منتف، فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (¬2) . وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هل تثبت الشفعة بالشركة في الطريق والبئر والشركة في السيل؟ فأجاب: تثبت للجار إذا كان شريكا في الطريق والبئر، ولا تثبت الشفعة بالشركة بالجدار، ولا بالشركة في السيل. وأجاب ابنه عبد الله بما نصه: قولك: هل تثبت الشفعة بالشركة في البئر والطريق ومسيل الماء؟ فالمفتى به عندنا: أنها تثبت بذلك، كما هو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من العلماء. اهـ. وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ثبوت الشفعة بالشركة بالسيل؟ فأجاب: المذهب: عدم ثبوت الشفعة بالطريق والسيل مثله، واختيار الشيخ. التشفيع بمرافق الأملاك من الطريق والبئر والسيل، وهو الذي عليه الفتوى عند أئمة الدعوة؛ لحديث: «الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا (¬3) » ولمفهوم حديث: «فإذا وقعت ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬2) [إعلام الموقعين] (2\126 - 135) . (¬3) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة (¬1) » وهو الذي نفتي به. اهـ (¬2) . وقال ابن حزم: والشفعة واجبة، وإن كانت الأجزاء مقسومة، إذا كان الطريق إليها واحدا متملكا نافذا أو غير نافذ لهم، فإن قسم الطريق أو كان نافذا غير متملك لهم فلا شفعة حينئذ، كان ملاصقا أو لم يكن. برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة (¬3) » فلم يقطعها عليه السلام إلا باجتماع الأمرين معا: وقوع الحدود، وصرف الطرق، لا بأحدهما دون الآخر. اهـ (¬4) . وأما الجار غير الشريك: فقد ذهب الحنفية إلى القول بحقه في الأخذ بالشفعة على شرط انتفاء من هو أحق منه بها؛ كالخليط في المبيع أو في حقه، وذهب إلى القول بذلك: ابن شبرمة، والثوري، وابن أبي ليلى. قال في [الهداية] : الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع، ثم للخليط في حق المبيع؛ كالشرب، والطريق، ثم للجار. أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب. أما الثبوت: فلقوله عليه الصلاة والسلام: «الشفعة لشريك لم يقاسم» ولقوله عليه الصلاة والسلام: «جار الدار أحق بالدار، ينتظر له، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا (¬5) » ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الجار أحق ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) . (¬2) [الدرر السنية] (5\224، 225) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) . (¬4) [المحلى] (10\33) . (¬5) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) .

بسقبه قيل: يا رسول الله، ما سقبه؟ قال: شفعته (¬1) » . ويروى «الجار أحق بشفعته (¬2) » . إلى أن قال: وأما الترتيب: فلقوله عليه الصلاة والسلام: «الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع» فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار. اهـ (¬3) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) . (¬2) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) ، سنن الدارمي البيوع (2627) . (¬3) [الهداية] (2\24) .

أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها

أ - أدلة القائلين بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الجار أو الشريك في حق المبيع ومناقشتها: استدل القائلون بقصر الشفعة على الشريك في المبيع دون الشريك في حق المبيع أو الجار بما يأتي: 1 - ما في [صحيح البخاري] عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬1) » وفي لفظ: «إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم (¬2) » إلخ. 2 - ما في [صحيح مسلم] من حديث أبي الزبير عن جابر قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط، ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (¬3) » إلى آخر الحديث. 3 - ما روى الشافعي بإسناده إلى أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2214) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

«الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (¬1) » . 4 - ما في [سنن أبي داود] بإسناد صحيح إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها (¬2) » . 5 - ما في [الموطأ] بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة (¬3) » . 6 - ما ذكره سعيد بن منصور بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - قال: (إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم) . فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن الشفعة مشروعة فيما هو مشاع غير مقسوم، ولأن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والأحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة الملك بالقسمة. أما إذا قسمت الأرض فوقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة حينئذ لانتفاء الضرر بذلك. ووجه القائلون بذلك القول: حصر الشفعة للشريك دون غيره، وأجابوا عن الأحاديث الوارثة بالشفعة للجار. فقال ابن القيم رحمه الله: قالوا: وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا، ففي الشركة ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2214) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

حقوق لا توجد في الجوار، فإن الملك في الشركة مختلط، وفي الجوار متميز، ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي؛ أما المطالبة ففي القسمة، وأما المنع فمن التصرف، فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار؛ فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف، والمعنى الذي وجبت به الشفعة: رفع مئونة المقاسمة، وهي مئونة كثيرة، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمئونة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع؛ لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه، فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيلا، فرجح جانبه، وثبت له الاستحقاق، قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري، ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري، فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله، وإذا سلط الجار على إخراجه وانتزع داره منه أضر به إضرارا بينا. وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وتطلبه دارا لا جوار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر، فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق؛ لئلا يضر الناس بعضهم بعضا، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده، وهذا بخلاف الشريك وأن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به. قالوا: وحينئذ تعين حمل أحاديث

شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك. ووجه هذا الإطلاق: المعنى، والاستعمال: أما المعنى: فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه، فهما جاران حقيقة، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران؛ ولذا سميت الزوجة جارة، كما قال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقة . . . . . . . . . . . . فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى. وقال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لي. . هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة، فأما إن كان المراد بالحق فيها: حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة، وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع، فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري، ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع. اهـ (¬1) . وقد ناقش القائلون بثبوت الشفعة للجار هذه الأدلة بما يأتي: 1 - بالنسبة لحديث جابر: فإن قوله: «فإن وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬2) » . . فقد ذكر أبو حاتم بأنه مدرج من قول جابر، قالوا: ويؤيد ذلك أن مسلما لم يخرج هذه الزيادة. وأجيب عن ذلك: بأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (2\122 - 124) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

الإدراج بدليل، فضلا عن أن هذه الزيادة قد وردت في حديث آخر، كحديث أبي هريرة. 2 - وأما القول: بأن العقار إذا كان مقسوما معروف الحدود مصرفة طرقه فلا ضرر على مالكه بتداول الأيدي المجاورة فغير صحيح. ذلك أن في الضرر الذي قصد الشارع رفعه ضرر سوء الجوار، فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا، فيعلي الجدار، ويتتبع العثار، ويمنع الضوء، ويشرف على العورة، ويطلع على العثرة، ويؤذي جاره بأنواع الأذى، وقد أجمعت الأدلة على ثبوت الشفعة للشريك لدفع الضرر الناشئ عنه اشتراك في الغالب، فإذا ثبتت الشفعة في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها. 3 - وأما الاحتجاج بما في [صحيح البخاري] : «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬1) » فعلى فرض انتفاء الإدراج من جابر فإن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما، مثل: أن يكون طريقهما واحدا، أو أدنى يشتركا في شرب أو مسيل أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه، إذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة، بل بعضها حاصل، وبعضها منتف، إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق (¬2) . 4 - وأما القول بأن الشفعة شرعت للشريك لدفع ضرر المقاسمة فغير ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) . (¬2) انظر [إعلام الموقعين] (2\116 -126) و [نيل الأوطار] (5\352، 353) .

مسلم به، فمشروعيتها لرفع الضرر مطلقا، سواء كان الضرر ناتجا عن المقاسمة أم عن الاشتراك. وتخصيص الشفعة برفع ضرر معين دون غيره من الأضرار تخصيص يحتاج إلى ما يسنده شرعا، وأيضا فلو كانت الشفعة مشروعة لدفع ضرر المقاسمة فقط؛ لثبتت مشروعيتها في المنقولات المشتركة لرفع ضرر المقاسمة فيها.

أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع ومناقشتها

ب - أدلة القائلين بثبوت الشفعة بحق المبيع ومناقشتها: استدل القائلون بثبوت الشفعة بالمرافق الخاصة وبالجوار بما يأتي: 1 - ما روى البخاري في [صحيحه] عن عمرو بن الشريد، قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي، إذ جاء أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد، ابتع مني بيتي في دارك، فقال سعد: والله ما أبتاعهما، فقال المسور: والله لتبتاعنها فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة، فقال أبو رافع: لقد أعطيت بها خمسمائة دينار، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجار أحق بسقبه (¬1) » ما أعطيتكها بأربعة آلاف، وأنا أعطى بها خمسمائة دينار، فأعطاه إياها. وجه الدلالة من ذلك قوله: «الجار أحق بسقبه (¬2) » أي: بقربه، أي: إن الجار أحق بالدار من غيره لقربه، ويدل على أن المقصود بأحقية الجار شفعته الأحاديث الآتية: 2 - روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي بإسناده إلى جابر بن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) . (¬2) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .

عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا (¬1) » وقد حسنه الترمذي. 3 - روى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جار الدار أحق بالدار من غيره (¬2) » . 4 - روى أحمد والنسائي وابن ماجه «عن الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله، أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال: الجار أحق بسقبه ما كان (¬3) » . كما استدلوا من جهة المعنى: بقولهم: واللفظ لابن القيم رحمه الله: إن حق الأصيل - وهو الجار - أسبق من حق الدخيل، وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار، فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا، ويتأذى بعضهم ببعض، ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود، والضرر بذلك دائم متأبد، ولا يندفع ذلك إلا برضا الجار، إن شاء أقر الدخيل على جواره، وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مئونة المجاورة ومفسدتها، وإذا كان الجار يخاف التأذي على وجه اللزوم كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم؛ فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع. اهـ (¬4) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬2) سنن الترمذي الأحكام (1368) ، سنن أبو داود البيوع (3517) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) . (¬3) سنن النسائي البيوع (4703) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2496) . (¬4) [إعلام الموقعين] (2\120، 121) .

المناقشة أجاب القائلون بحصر الشفعة في الشريك دون غيره بما يأتي: 1 - بالنسبة لحديث أبي رافع رضي الله عنه: فقد ذكر الحافظ ابن حجر في معرض شرحه هذا الحديث، وإيراده وجه استدلال الحنفية به على ثبوت الشفعة للجار، وإلزام الشافعية بالقول به؛ لكون الجار حقيقة في المجاورة، مجازا في الشريك، قال ما نصه: إن محل ذلك عند التجرد وقد قامت القرينة هنا على المجاز، فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا؛ لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك، والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا، ثم المشارك في الطريق، ثم الجار على من ليس بمجاور، فعلى هذا يتعين تأويل قوله: (أحق) بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك. اهـ (¬1) . 2 - بالنسبة لحديث جابر «الجار أحق بشفعة جاره (¬2) » إلخ، فقال الترمذي: لا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث، ثم قال: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به، ويروى عن جابر خلاف هذا. اهـ. قال شعبة: سها فيه عبد الملك، فإن روى حديثا مثله طرحت ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (4\438) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

حديثه، ثم ترك شعبة التحديث عنه، وقال أحمد: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين: لم يروه غير عبد الملك، وقد أنكروه عليه. اهـ (¬1) . وقد أجاب ابن القيم رحمه الله عن الطعن في حديث جابر فقال: إن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق، ولم يتعرض له أحد بجرح ألبتة، وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم، وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬2) » . ولا تحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري، وقد صح هذا من رواية جابر عن الزهري عن أبي سلمة عنه، ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه، ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه، فخالفه العرزمي؛ ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه، ولم يقدموه على حديث هؤلاء. . إلى أن قال: وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريح فيه، فإنه قال: «الجار أحق بسقبه ينتظر به، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا (¬3) » فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق، ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله: «فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة (¬4) » فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة، فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه، وجابر روى اللفظين. . . إلى أن قال: وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن ¬

_ (¬1) [نيل الأوطار] (3\355) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬3) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) . (¬4) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) .

البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب. اهـ (¬1) . 3 - وأما حديث الشريد بن سويد، فقال الخطابي: قد تكلم أهل الحديث في إسناده، واضطراب الرواة عنه، فقال بعضه: عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع، وقال بعضهم: عن أبيه عن أبي رافع، وأرسله بعضهم. وذكر ابن قدامة رحمه الله عن ابن المنذر قوله: الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي رويناه، وما عداه من الأحاديث فيها مقال (¬2) . وأجيب عن ذلك: بما ذكره ابن القيم رحمه الله عن البخاري بخصوص حديث الشريد بن سويد، أو عمرو بن الشريد قال: قال البخاري: وهو أصح عندي من رواية عمرو عن أبي رافع - يعني: حديث أبي رافع مع سعد ابن أبي وقاص - وقال أيضا: كلا الحديثين عندي صحيح (¬3) . وقال ابن حزم في معرض مناقشته الأحاديث والآثار التي استدل بها أهل هذا القول ما نصه: ثم نظرنا في حديث عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن أبيه فوجدناه لا متعلق لهم به؛ لأنه ليس فيه إلا «الجار أحق بسقبه (¬4) » وليس فيه للشفعة ذكر ولا أثر، وقد حدثنا همام، حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي قال: سمعت عمرو بن الشريد يحدث عن الشريد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (2\119 - 125) . (¬2) [المغني] (5\257) . (¬3) [إعلام الموقعين] (2\117) . (¬4) صحيح البخاري الشفعة (2258) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/10) .

«المرء أحق وأولى بصقبه (¬1) » ، قلت لعمرو: ما صقبه؟ قال: الشفعة، قلت: زعم الناس أنها الجوار، قال: الناس يقولون ذلك، فهذا راوي الحديث عمرو بن الشريد لا يرى الشفعة بالجوار، ولا يرى لفظ ما روى يقتضي ذلك، فبطل كل ما موهوا به. ثم لو صحت هذه الأحاديث ببيان واضح أن الشفعة للجار لكان حكمه عليه الصلاة والسلام، وقوله وقضاؤه: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬2) » يقضي على ذلك كله ويرفع، فكيف ولا بيان في شيء منها. اهـ (¬3) . 4 - وأما حديث سمرة: ففي سماع الحسن من سمرة، مقال معروف لدى علماء الحديث، قال يحيى بن معين: لم يسمع الحسن من سمرة، وإنما هي صحيفة وقعت إليه، وقال غيره: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة. وقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله حيث قال: قد صح سماع الحسن من سمرة، وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب، فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه، ولا يقول هذا كتاب، وكذلك خلفاؤه من بعده والناس إلى اليوم، فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل، والحفظ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحيل (6981) ، سنن النسائي البيوع (4702) ، سنن أبو داود البيوع (3516) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2495) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2213) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) . (¬3) [المحلى] (10\42) ] .

يخون، والكتاب لا يخون. اهـ (¬1) . ويمكن أن يجاب عن قول ابن القيم رحمه الله: بأن الغالب على طالب العلم أن يسجل كل ما عن له من صحيح وضعيف، وما له وجه وما لا وجه له، على أمل أن يتم له النظر لإبعاد ما لا وجه له ولا صحة، ويحمل أن يعجله الأجل قبل ذلك بخلاف ما يؤلفه طالب العلم وينشره بين الناس فإنه بنشره يعتبر في حكم المقتنع بوجاهته وصحة ما فيه مما يراه، وكذا ما يكتبه الوالي إلى عماله أو غيرهم، فإنه يكتب ما يكتب عن اقتناع بوجاهة ما كتبه. 5 - وأما الاحتجاج على مشروعية الشفعة للجار بالمعنى، فقد أجاب عن ذلك ابن القيم رحمه الله، وسبق نقل ذلك عنه (¬2) . ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (2\117) (¬2) انظر [إعلام الموقعين] (2\122 - 124) .

الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى

4 - الشفعة فيما انتقل إلى الغير بعوض غير مسمى إذا انتقل ما يجب فيه الشفعة إلى الغير بعوض غير مسمى: فقد ذهب الحنفية إلى نفي الشفعة فيه. قال في [الهداية] : ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا؛ لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مجادلة المال بالمال لما بينا، وهذه الأعواض ليست بأموال، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع،

وقلب الموضوع. . . إلى أن قال: أو يصالح عنها بإنكار؛ لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه كما إذا أنكر صريحا. اهـ (¬1) . وذهب المالكية إلى إثباتها: قال في [المدونة] : قلت: أرأيت إن تزوجت على شقص من دار، أو خالعت امرأتي على شقص من دار، أيكون في ذلك الشفعة في قول مالك؟ قال: نعم، مثل: النكاح والخلع، وقلت: فبماذا يأخذ الشفيع في الخلع والنكاح والصلح في دم العمد الشقص؟ قال: أما في النكاح والخلع، فقال لي مالك: يأخذ الشفيع الشقص بقيمته، وأرى الدم العمد مثله يأخذه بقيمته اهـ (¬2) . وذهب الشافعية إلى ثبوت الشفعة فيما أخذ بعوض غير مالي: قال الشربيني على قول صاحب [المنهاج] : وإنما تثبت في ملك بمعاوضة ملكا لازما متأخرا عن ملك الشفيع، كمبيع ومهر وعوض خلع وصلح دم ونجوم وأجرة ورأس مال مسلم. قال: بمعاوضة محضة كالبيع، أو غير محضة كالمهر، أما البيع فبالنص والباقي بالقياس عليه، بجامع الاشتراك في المعاوضة مع لحوق الضرر. اهـ (¬3) . وأما الحنابلة: فالصحيح من المذهب: أنه لا شفعه فيه؛ لأنه مملوك بلا مال أشبه الموهوب والموروث، ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل وبقيمته؛ ¬

_ (¬1) [الهداية] (4\35، 36) . (¬2) [المدونة] (5\441) . (¬3) [مغني المحتاج] (2\298) .

لأنها ليست عوض الشقص. قال المرداوي: قوله: ولا شفعة فيما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين، وأطلقهما في [الهداية] و [المذهب] و [المستوعب] و [التلخيص] و [المحرر] و [الرعاية الكبرى] و [الفروع] و [الفائق] وظاهر [شرح] : الإطلاق: أحدهما: لا شفعة في ذلك، وهو الصحيح من المذهب، قال في [الكافي] : لا شفعة فيه في ظاهر المذهب، قال الزركشي: هذا أشهر الوجهين عند القاضي وأكثر أصحابه، قال ابن منجى: هذا أولى، قال الحارثي: أكثر الأصحاب قال بانتفاء الشفعة، منهم: أبو بكر، وابن أبي موسى، وأبو علي بن شهاب، والقاضي، وأبو الخطاب في [رءوس المسائل] وابن عقيل والقاضي يعقوب، والشريفان: أبو جعفر وأبو القاسم الزبدي، والعكبري، وابن بكروس، والمصنف، وهذا هو المذهب؛ ولذلك قدمه في المتن. اهـ. وهو ظاهر كلام الخرقي، وصححه في [التصحيح] و [النظم] وجزم به في [العمدة] و [الوجيز] و [المنور] و [الحاوي الصغير] وغيرهم، وقدمه في [المغني] و [الشرح] وفى شرح الحارثي، وغيرهم. والوجه الثاني: فيه الشفعة، اختاره ابن حامد، وأبو الخطاب في [الانتصار] وابن حمدان في [الرعاية الصغرى] وقدمه ابن رزين في [شرحه] . فعلى هذا القول يأخذه بقيمته على الصحيح. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (6\252، 253) .

الشفعة بشركة الوقف

5 - الشفعة بشركة الوقف اختلف العلماء رحمهم الله في جواز الشفعة في الوقف: فذهب الحنفية إلى أن لا شفعة للوقف ولا في الوقف؛ لأنه لا مالك له معين: قال في [الدر المختار] ما نصه: ولا شفعة في الوقف، ولا له نوازل، ولا بجواره، قال المصنف: قلت: وحمل شيخنا الرملي الأول على الأخذ به، والثاني على أخذه بنفسه إذا بيع، وأما إذا بيع بجواره أو كان بعض المبيع ملكا وبعضه وقفا وبيع الملك فلا شفعة للوقف. وقال في [الحاشية] : قوله: أو كان بعض المبيع ملكا. . . إلخ، حاصله: أنه لا شفعة له بجوار ولا بشركة، فهو صريح بالقسمين، كما أشار الشارح بنقل عبارة النوازل، ونبهنا عليه، قوله: فلا شفعة للوقف إذ لا مالك له. اهـ (¬1) . وقال الكاساني في معرض تعداده شروط الأخذ بالشفعة ما نصه: ومنها: ملك الشفيع وقت الشراء في الدار التي يأخذها بالشفعة؛ لأن سبب الاستحقاق جوار الملك، والسبب إنما ينعقد سببا عند وجود الشرط، والانعقاد أمر زائد على الوجود، فإذا لم يوجد عند البيع كيف ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (6\223)

ينعقد سببا، فلا شفعة له بدار يسكنها بالآجار والإعارة، ولا بدار باعها قبل الشراء، ولا بدار جعلها مسجدا، ولا بدار جعلها وقفا، وقضى القاضي بجوازه أو لم يقض على قول من يجيز الوقف؛ لأنه زال ملكه عنها لا إلى أحد. اهـ (¬1) . وذهب المالكية إلى أنه لا شفعة بالوقف إلا للواقف نفسه بشرط أن يضيف ما يأخذ بالشفعة إلى ما أوقفه، أو أن يجعل ذلك للناظر بأن ينص في ولايته على الأخذ بالشفعة ليضاف إلى الوقف، أو أن يئول الوقف إلى الموقوف عليهم، فلهم حق الأخذ بالشفعة ولو لم يوقفوا، أو أن يئول النظر أو الاستحقاق إلى بيت المال فللسلطان الأخذ له بالشفعة. قال أبو البركات أحمد الدردير في معرض تعداد من يجوز لهم الأخذ بالشفعة ما نصه: أو كان الشفيع محبسا لحصته قبل بيع شريكه فله الأخذ بالشفعة ليحبس الشقص المأخوذ أيضا، قال: منها: دار بين رجلين حبس أحدهما نصيبه على رجل وولده، وولد ولده، فباع شريكه في الدار نصيبه، فليس للذي حبس ولا للمحبس عليهم أخذ بالشفعة إلا أن يأخذ المحبس فيجعله في مثل ما جعل نصيبه الأول. انتهى. وهذا إذا لم يكن مرجعها له، وإلا فله الأخذ ولو لم يحبس. كأنه يوقف على عشرة مدة حياتهم، أو يوقف مدة معينة فله الأخذ مطلقا، كسلطان له ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (6\2704) .

الأخذ بالشفعة لبيت المال، قال سحنون في المرتد: يقتل، وقد وجبت له شفعة: أن للسلطان أن يأخذها إن شاء لبيت المال. اهـ (¬1) . وذهب الشافعية إلى أن الوقف إن كان كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين ونحو ذلك فلا شفعة به وإن كان خاصا فلا شفعة لواقفه لزوال ملكه عنه. وقد اختلف علماء الشافعية في ثبوت للموقوف عليه العين لاختلاف ما نقل عن الشافعي رحمه الله: هل يملك الموقوف عليه رقبة الوقف أم لا؟ قال في [المجموع] : وأما إذا كان حصة الخليط وقفا نظر في الوقف: فإن كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين، أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع - فلا يستحق به شفعة في المبيع، وإن كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه أو على جماعة بأعيانهم - فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه من الوقف. فأما الموقف عليه فقد اختلف قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا؟ على قولين: أحدهما: يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة. والوجه الثاني: لا شفعة له؛ لأنه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير] ومعه [حاشية الدسوقي] (3\425) . (¬2) [المجموع] (14\141)

وذهب جمهور الحنابلة إلى القول بنفي الشفعة عن الخلطة بالوقف: لأن من شروط الأخذ بالشفعة: أن يكون الشفيع مالكا لما يشفع به، والوقف لا يعتبر ملكا تماما لمن هو بيده، سواء كان ناظرا أو موقوفا عليه؛ لأنه ليس مطلق التصرف فيه. قال ابن قدامة رحمه الله: ولا شفعة بشركة الوقف، ذكره القاضيان: ابن أبي موسى، وأبو يعلى، وهو ظاهر مذهب الشافعي؛ لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب فيه كالمجاور وغير المنقسم؛ ولأننا إن قلنا: هو غير مملوك، فالموقوف عليه غير مالك، وإن قلنا: هو مملوك فملكه غير تام؛ لأنه لا يفيد إباحة التصرف في الرقبة، فلا يملك به ملكا تاما. وقال أبو الخطاب: إن قلنا: هو مملوك وجبت به الشفعة؛ لأنه مملوك بيع في شركة شقص فوجبت الشفعة كالطلق، ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة كالطلق، فوجبت فيه كوجوبها في الطلق، وإنما لم يستحق بالشفعة؛ لأن الأخذ بها بيع، وهو مما لا يجوز بيعه. اهـ (¬1) . وللشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله رأي في ثبوت الشفعة به فقد قال ما نصه: فلو باع الشريك الذي ملكه طلق فلشريكه الذي نصيبه وقف الشفعة؛ لعموم الحديث المذكور ووجود المعنى، بل صاحب الوقف إذا لم يثبت له شفعة يكون أعظم ضررا من صاحب الطلق؛ لتمكن المالك من البيع، ¬

_ (¬1) [المغني] (5\284) .

بخلاف مستحق الوقف فإنه يضطر إلى بقاء الشركة، وأما استدلال الأصحاب بقولهم: إن ملكه ناقص، فالحديث لم يفرق بين الذي ملكه ناقص أو كامل، ومنعنا إياه من البيع لتعلق حقوق من بعده به، فالصواب إثبات الشفعة إذا باع الشريك، سواء كان شريكه صاحب ملك طلق أو مستحقا للوقف. اهـ (¬1) . وقال المنقور نقلا عن [جمع الجوامع] : للوقف ثلاث صور: الأولى: إذا كان البعض وقفا والبعض ملكا، فبيع الملك هل يأخذ رب الوقف بالشفعة؟ على وجهين. والثانية: إذا كان كذلك وبيع الوقف حيث جاز بيعه هل يأخذ الشريك بالملك؟ على وجهين: المختار: نعم. الثالثة: إذا كان الكل وقفا وبيع البعض حيث جاز بيعه فهل يجوز لرب الوقف الآخر الأخذ بها؟ على وجهين: الصحيح: لا يجوز. اهـ (¬2) . ولعل مصدر الاختلاف في ذلك الخلاف، هل لجهات الوقف شخصية اعتبارية تكون أهلا للإلزام والالتزام كالحال في جماعة المسلمين حيث يتكافئون، ويسعى بذمتهم أدناهم، فيكون الوقف ملكا لهم، فإذا تصرف بعضهم أو النائب عنهم - وهو: الناظر - تصرفا فيه مصلحة للوقف وغبطة لجهاته كان كتصرفهم جميعا، أم أن الوقف لا مالك له في الحقيقة، وأن الشخصية الاعتبارية وهم وخيال لا مجال لها في واقع الأمر وحقيقته؟ ¬

_ (¬1) [الفتاوى السعدية] ص 438. (¬2) [الفواكه العديدة في المسائل المفيدة] (1\397) .

شفعة غير المسلم

6 - شفعة غير المسلم اتفق الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي على القول بجواز شفعة غير المسلم على المسلم. قال السرخسي: والذكر والأنثى، والحر والمملوك، والمسلم والكافر في حق الشفعة سواء؛ لأنه من المعاملات، وإنما ينبني الاستحقاق على سبب متصور في حق هؤلاء. وثبوت الحكم بثبوت سببه. اهـ (¬1) . وفي [المدونة] ما نصه: قيل لابن القاسم: هل لأهل الذمة شفعة في قول مالك؟ فقال: سألت مالكا عن المسلم والنصراني تكون الدار بينهما فيبيع المسلم نصيبه، هل للنصراني فيه شفعة؟ قال: نعم، أرى ذلك له مثل ما لو كان شريكه مسلما. اهـ (¬2) . وقال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن كان له شريك» فهو عام يتناول المسلم والكافر والذمي، فتثبت للذمي الشفعة على المسلم، كما تثبت للمسلم على الذمي، هذا قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، والجمهور. اهـ (¬3) . وانفراد الإمام أحمد رحمه الله عنهم بمنع شفعة الكافر على المسلم؛ لأن تسليط الكافر على المسلم يعتبر سبيلا إليه، قال تعالى: ¬

_ (¬1) [المبسوط] (14\99) . (¬2) [المدونة] (5\399) . (¬3) [شرح صحيح مسلم] (11\46) .

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬1) قال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي: (ولا شفعة لكافر على مسلم) : وجملة ذلك: أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه، روي ذلك عن الحسن والشعبي، وروي عن شريح وعمر بن عبد العزيز: أن له الشفعة، وبه قال النخعي، وإياس بن معاوية، وحماد بن أبي سليمان، والثوري، ومالك، والشافعي، والعنبري، وأصحاب الرأي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، وإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به (¬2) » ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب. ولنا: ما روى الدارقطني في كتاب [العلل] بإسناده عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا شفعة لنصراني» وهذا يخص عموم ما احتجوا به، ولأنه معنى يملك به يترتب على وجود ملك مخصوص، فلم يجب للذمي على المسلم كالزكاة، ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان، يحققه أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه، فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم دفع ضرر الذمي، فإن حق المسلم أرجح، ورعايته أولى؛ ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم، وليس الذمي في معنى المسلم، فيبقى فيه على مقتضى ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 141 (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

الأصل اهـ (¬1) . وقد نصر ابن القيم رحمه الله القول بنفي شفعة الكافر على المسلم، وناقش القائلين بثبوتها، ورد عليهم قولهم، فقال ما نصه: ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم، وأخذ بذلك الإمام أحمد، وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة؛ لأن الشقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم، وهذا خلاف الأصول. والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم؛ كإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه، أو يخطب على خطبته، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة؟ قال: لا. وكذلك نقل أبو طالب وصالح وأبو الحارث والأثرم كلهم عنه: ليس للذمي شفعة، زاد أبو الحارث: مع المسلم، قال الأثرم: قيل له: لم؟ قال: لأنه ليس له مثل حق المسلم واحتج فيه. قال الأثرم: ثنا الطباع، ثنا هشيم، أخبرنا الشيباني عن الشعبي: أنه كان يقول: ليس لذمي شفعة. وقال سفيان عن حميد عن أبيه: إنما الشفعة لمسلم، ولا شفعة لذمي. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن ليث، عن مجاهد أنه قال: ليس ليهودي ولا لنصراني ¬

_ (¬1) [المغني] (5\320، 321) .

شفعة. وقال الخلال: أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال: سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي، قال: ليس لذمي شفعة، ليس له حق المسلم. أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة، إنما ذلك للمسلمين بينهم. وقال في رواية إسحاق بن منصور: ليس لليهودي والنصراني شفعة، قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (¬1) » وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي. واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج: إحداها: أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، فلا حق للذمي فيها. ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك. الحجة الثانية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه (¬2) » وتقرير الاستدلال من هذا: أنه لم يجعل لهم حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين، فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا؟! بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه، وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا. الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (¬3) » . ووجه الاستدلال من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإخراجهم من أرضهم ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007) ، موطأ مالك الجامع (1651) . (¬2) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، سنن أبو داود الأدب (5205) . (¬3) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007) ، موطأ مالك الجامع (1651) .

ونقلها إلى المسلمين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها!؟ وأيضا فالشفعة حق يختص العقار فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان، يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به، فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم منه قهرا وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم؟! فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا؟! وأيضا فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضرر بالمشتري، فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق الذمي على حق المسلم، وهذا ممتنع، وأيضا فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارا بالدين وتملك دار المسلمين منهم قهرا وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه، وهذا خلاف قواعد الشرع؛ ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن، ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين ولا حد القذف، ولا يمكنون من تملك رقيق مسلم، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬1) ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا، وقد قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (¬2) . إلى أن قال: وأيضا فلو كانوا مالكين حقيقة لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 141 (¬2) سورة الحشر الآية 20

بإخراجهم من جزيرة العرب، وقال: «لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب (¬1) » هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له، فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا؛ ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة لهم على مسلم. إلى أن قال: وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله، ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من الأمة، وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات، كقوله «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم (¬2) » وقوله: «من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (¬3) » ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق، وإنما سيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك (¬4) من أهل الملة وغيرهم، وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم، فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس، وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا. ثم ذكر مجموعة من الأحكام يختلف فيها المسلم عن الكافر. ثم قال: وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط، فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلامة، وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا واستيلائه عليه؟ إلى آخر ما ذكره (¬5) . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767) ، سنن الترمذي السير (1606) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/29) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2214) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/296) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3513) ، مسند أحمد بن حنبل (3/316) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬4) كذا في المطبوع، ولعل الصواب: الملاك. (¬5) [أحكام أهل الذمة] (1\291 -299) .

شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون

7 - شفعة غير المكلف من صبي أو مجنون ذهب جمهور أهل العلم منهم الحسن وعطاء وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وسوار والعنبري إلى القول بثبوت الشفعة للصبي والمجنون يتولاها وليه إن رأى له في ذلك مصلحة وغبطة. قال السرخسي: والصغير كالكبير في استحقاق الشفعة. ثم ذكر توجيه ذلك فقال: ولكنا نقول سبب الاستحقاق متحقق في حق الصغير، وهو الشركة، أو الجوار من حيث اتصال حق ملكه بالمبيع على وجه التأبيد فيكون مساويا للكبير في الاستحقاق به. ثم قال: ثبت له حق الشفعة ثم يقوم بالطلب من يقوم مقامه شرعا في استيفاء حقوقه، فإن لم يكن له أحد من هؤلاء فهو على شفعته إذا أدرك؛ لأن الحق قد ثبت له، ولا يتمكن من استيفائه قبل الإدراك. اهـ (¬1) . وفي [المدونة] : قلت: أرأيت لو أن صبيا وجبت له الشفعة من يأخذ له بشفعته؟ قال: الوالد، قيل: فإن لم يكن له والد؟ قال: فالوصي، قيل: فإن لم يكن له وصي؟ قال: فالسلطان، قلت: فإن كان في موضع لا سلطان فيه، ولا أب له ولا وصي؟ قال: فهو على شفعته إذا بلغ، قال: وهذا كله قول مالك. اهـ (¬2) . وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي: (وللصغير إذا كبر المطالبة ¬

_ (¬1) [المبسوط] (14\98، 99) . (¬2) [المدونة] (5\403) .

بالشفعة) ما نصه: وجملة ذلك: أنه إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء، منهم: الحسن، وعطاء، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وسوار، والعنبري، وأصحاب الرأي. ثم قال بعد مناقشة القائلين بمنع شفعة الصبي: إذا ثبت هذا، فإن ظاهر قول الخرقي: أن للصغير إذا كبر الأخذ بها، سواء عفا عنها الولي أو لم يعف، وسواء كان الحظ في الأخذ بها أو في تركها، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، له الشفعة إذا بلغ فاختار ولم يفرق، وهذا قول الأوزاعي، وزفر، ومحمد بن الحسن، وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه؛ لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها، سواء كان الحظ فيها أو لم يكن فلم يسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها. إلى أن قال: والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصغير سواء؛ لأنه محجور عليه لحظه، وكذلك السفيه لذلك. وأما المغمى عليه فلا ولاية عليه، وحكمه حكم الغائب والمجنون، ينتظر إفاقته. اهـ (¬1) . وذهب بعض أهل العلم إلى القول بمنع الصغير من الشفعة حيث لا يمكنه أخذها في الحال ولا يمكن الانتظار بها حتى يبلغ لما في ذلك من الإضرار بالمشتري، وليس لوليه أخذها؛ لأنه لا يملك العفو عنها فهو لا ¬

_ (¬1) [المغني] (5\280 - 283) .

يملك الأخذ بها. ويروى هذا القول عن النخعي، والحارث العكلي، وابن أبي ليلى. وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أهل هذا القول، فقال ما نصه: قولهم: لا يمكن الأخذ غير صحيح؛ فإن الولي يأخذ بها كما يرد المعيب، وقولهم: لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها، وبالرد بالعيب، فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو، ويمكنه الرد؛ ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظرا له، وفي العفو تضييع وتفريط في حقه، ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه التضييع، ولأن العفو إسقاط لحقه والأخذ استيفاء له. . . إلى أن قال: وما ذكروه من الضرر في الانتظار يبطل بالغائب. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [المغني] (5\281) .

شفعة الغائب

8 - شفعة الغائب ذهب جمهور أهل العلم إلى: أن الغائب على حقه في الشفعة وإن طالت غيبته، روى ذلك شريح والحسن وعطاء، وبه قال الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والثوري والأوزاعي والعنبري؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة فيما لم يقسم (¬1) » . قال ابن رشد: فإن الذي له الشفعة رجلان: حاضر، أو غائب، فأما الغائب فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه. واختلفوا إذا علم وهو غائب. فقال قوم: تسقط شفعته. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) .

وقال قوم: لا تسقط، وهو مذهب مالك، والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر: أنه قال: «الجار أحق بصقبه» أو قال: «بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا (¬1) » وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة فوجب عذره. وعمدة الفريق الثاني: أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها. اهـ (¬2) . وفي [المدونة] : قلت: أرأيت الغائب إذا علم بالشراء وهو شفيع ولم يقدم يطلب الشفعة حتى متى تكون له الشفعة؟ قال: قال مالك: لا تقطع عن الغائب الشفعة بغيبته. قلت: علم أو لم يعلم؟ قال: ليس ذلك عندي إلا فيما علم، وأما فيما لم يعلم فليس فيه كلام ولو كان حاضرا. اهـ (¬3) . وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي: (ومن كان غائبا وعلم بالبيع وقت قدومه فله الشفعة وإن طالت غيبته) . ما نصه: وجملة ذلك: أن الغائب له شفعة في قول أكثر أهل العلم. وذكر توجيه القول بذلك فقال: ولنا عموم قوله عليه السلام: «الشفعة فيما لم يقسم (¬4) » وسائر الأحاديث، ولأن الشفعة حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فيثبت له كالإرث؛ ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة. اهـ (¬5) . ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الأحكام (1369) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2494) ، مسند أحمد بن حنبل (3/303) ، سنن الدارمي البيوع (2627) . (¬2) [بداية المجتهد] (2\259) . (¬3) [المدونة] (5\418) . (¬4) سنن أبو داود البيوع (3515) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2497) . (¬5) [المغني] (5\274) .

وذهب بعض أهل العلم: إلى القول بمنع الغائب من الشفعة؛ لما فيه من الإضرار بالمشتري بامتناعه عن التصرف في ملكه حسب اختياره خشية انتزاعه منه، وهذا القول مروي عن النخعي والحارث العكلي والبتي. ورد ابن قدامة القول بتضرر المشتري بأن ضرره يندفع بإيجاب القيمة له، وقد يرد على ذلك بأن غيبته ما دامت غير محددة بحيث تصل إلى عشر سنين أو أكثر، فإن تضرر المشتري ببقاء مشتراه معلقا حتى يحضر فيقرر رغبته في الشفعة من عدمها لا يقابل برد القيمة إليه؛ لما في ذلك من تعطل هذه القيمة عن الإدارة، فضلا عما في ذلك من تعطيل هذا العقار عن التعمير لتكون منفعته العامة والخاصة أكثر.

شفعة الوارث

9 - شفعة الوارث اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز شفعة الوارث من عدمه تبعا لاختلافهم في متعلق حق الشفعة: هل هو متعلق بالملك فيورث، أم بالمالك فيمتنع إرثه لموت صاحبه، وقد تحصل من اختلافهم في المسألة ثلاثة أقوال: أحدهما: إذا لم يأخذها الشفيع قبل موته فلا يجوز لوارثه أخذها مطلقا، سواء طالب بها مورثه أم لم يطالب بها؛ لأن سبب أخذه الشفعة زال بموته وهو الملك، وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت الحق في ذلك، وقد قال بهذا القول جمهور أهل الرأي. قال السرخسي: وإذا مات الشفيع بعد البيع، وقبل أن يأخذ بالشفعة لم

يكن لوارثه حق الأخذ بالشفعة عندنا، ثم علل ذلك بقوله: ونحن نقول: مجرد الرأي والمشيئة لا يتصور فيه الإرث؛ لأنه لا يبقى بعد موته ليخلفه الوارث فيه، والثابت له بالشفعة مجرد المشيئة بين أن يأخذ أو يترك، ثم السبب الذي به كان يأخذ بالشفعة يزول بموته وهو ملكه، وقيام السبب إلى وقت الأخذ شرط لثبوت حق الأخذ له. اهـ (¬1) . وقال في [الدر المختار] : ويبطلها موت الشفيع قبل الأخذ بعد الطلب أو قبله، ولا تورث خلافا للشافعي. قال في الحاشية: قوله: (ويبطلها موت الشفيع. . إلخ) لأنها مجرد حق التملك، وهو لا يبقى بعد موت صاحب الحق فكيف يورث؟! اهـ (¬2) . القول الثاني: أن حق الشفعة لا يورث إلا إذا طالب بها الشفيع قبل موته؛ لأنه متعلق بالمالك، دون الملك، فحيث مات قبل طلب حقه في الشفعة فإن موته مسقط لذلك الحق، وهذا قول جمهور العلماء من الحنابلة وغيرهم. قال ابن قدامة رحمه الله في كلامه على قول الخرقي: (والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها) ما نصه: وجملة ذلك: أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بها لم يخل من حالين: أحدهما: أن يموت قبل الطلب بها فتسقط ولا تنتقل إلى الورثة. ¬

_ (¬1) [المبسوط] (14\116) . (¬2) [حاشية ابن عابدين] (6\241) .

وقال أحمد: الموت يبطل به ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار، لم يكن للورثة هذه الثلاثة الأشياء إنما هي بالطلب، فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا، وأني قد طلبته، فإذا مات بعده كان لوارثه الطلب به. وروي بسقوطه بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري وإسحاق وأصحاب الرأي، ثم ذكر المستند لذلك فقال: ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث، كالرجوع في الهبة، ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول. الحال الثاني: إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة قولا واحدا، ذكره أبو الخطاب، وقد ذكرنا نص أحمد عليه؛ لأن الحق يتقرر بالطلب، ولذلك لا يسقط بتأخير الأخذ بعده، وقبله يسقط. وقال القاضي: يصير الشقص ملكا للشفيع بنفس المطالبة، وقد ذكرنا أن الصحيح غير هذا، فإنه لو صار ملكا للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها، كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها. فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على حسب مواريثهم؛ لأنه حق مالي موروث، فينتقل إلى جميعهم كسائر الحقوق المالية. اهـ (¬1) . القول الثالث: ثبوت الشفعة للورثة إذا مات مورثهم قبل العفو والأخذ ¬

_ (¬1) [المغني] (5\310، 311) .

لكون الشفعة حقا متعلقا بالملك الموروث فهي حق من حقوقه، وقد قال بهذا القول: مالك، والشافعي، والعنبري، وغيرهم، وذكر أبو الخطاب من الحنابلة أن هذا القول يمكن تخريجه؛ لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب. قال الشيرازي: وإذا مات الشفيع قبل الأخذ والعفو انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته؛ لأنه قبض استحقه بعقد البيع، فانتقل إلى الورثة كقبض المشتري في البيع ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب (¬1) . وقال ابن رشد في معرض ذكره جملة من أحكام الشفعة هي موضع خلاف بين أهل العلم ما نصه: فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة: فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث، كما أنه لا يباع. وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة، قياسا على الأموال (¬2) . وقد رد ابن قدامة رحمه الله على أبي الخطاب في قياسه الشفعة على خيار الرد بالعيب فقال: ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث؛ كالرجوع في الهبة، ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول، فأما ¬

_ (¬1) [المجموع ومعه المهذب] (14\176) . (¬2) [المدونة] (2\260) .

خيار الرد بالعيب فإنه لاستدراك جزء فات من المبيع. اهـ (¬1) . هذا ما تيسر ذكره، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ¬

_ (¬1) [المغني] (5\310) .

قرار هيئة كبار العلماء بشأن الشفعة فيما لا يمكن قسمته من العقار

قرار هيئة كبار العلماء رقم (44) وتاريخ 13\4\1396 هـ المتعلق بمسألة الشفعة فيما لا يمكن قسمته من العقار الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وآله وصحبه، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس هيئة كبار العلماء، المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395هـ من إدراج مسألة الشفعة بالمرافق الخاصة في جدول أعمال الدورة الثامنة فقد جرى دراسة المسألة المذكورة في دورة المجلس الثامنة المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر في مدينة الرياض. كما جرى دراسة مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار. وبعد الاطلاع على البحث المعد في (مسألة الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار) من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد تداول الرأي والمناقشة من الأعضاء، وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية: أن الشفعة تثبت بالشركة في المرافق الخاصة؛ كالبئر، والطريق، والمسيل، ونحوها. كما تثبت الشفعة فيما لا تمكن قسمته من العقار؛ كالبيت، والحانوت،

الصغيرين ونحوهما؛ لعموم الأدلة في ذلك؛ ولدخول ذلك تحت مناط الأخذ بالشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك في المبيع، وفي حق المبيع، ولأن النصوص الشرعية في مشروعية الشفعة تتناول ذلك، ومن ذلك ما رواه الترمذي بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء (¬1) » وفي رواية الطحاوي بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «قضى بالشفعة في كل شيء» . قال الحافظ: حديث جابر لا بأس برواته، ولما روى الإمام أحمد والأربعة بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا (¬2) » قال في [البلوغ] : ورجاله ثقات، ولما روى البخاري في [صحيحه] وأبو داود والترمذي في [سننهما] بإسنادهم إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (¬3) » . ووجه الاستدلال بذلك: ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه: [إعلام الموقعين] : أن الجار المشترك مع غيره في مرفق خاص ما، مثل: أن يكون طريقهما واحدا، أو أن يشتركا في شرب أو مسيل، أو نحو ذلك من المرافق الخاصة لا يعتبر مقاسما مقاسمة كلية، بل هو شريك لجاره في بعض حقوق ملكه، وإذا كان طريقهما واحدا لم تكن الحدود كلها واقعة، بل بعضها حاصل، وبعضها منتف، إذ وقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق. اهـ. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الأحكام (1371) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2495) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3518) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) صحيح البخاري الشفعة (2257) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) .

وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الثامنة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي محمد الحركان لي وجهة نظر ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد صالح بن غصون ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين محمد بن جبير لي وجهة نظر مرفقة ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر المخالفين

وجهة نظر المخالفين بالنسبة إلى الشفعة بالشركة في المرافق هو: أن الشفعة لا تثبت إلا في العقار المشترك شركة مشاعة، ولا تثبت بالاشتراك في المرافق، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وبالله التوفيق. عضو المجلس ... عضو المجلس محمد بن إبراهيم بن جبير ... محمد بن علي الحركان

المجلد الثاني - إصدار: سنة 1425 هـ - 2004 م

(1) حكم تشريح جثة المسلم هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم تشريح جثة المسلم (¬1) إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد ... فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396هـ موضوع (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. حكم تشريح جثة المسلم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد: فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثامنة المنعقدة بالرياض في شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ من إعداد بحث في (حكم تشريح جثة مسلم من أجل تحقيق مصالح وخدمات طبية) وإدراج ذلك في جدول أعمال الدورة التاسعة - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الرابع، ص35 - 81، سنة 1398هـ.

والإفتاء بحثا في ذلك، وضمنته ما يأتي: أولا: بيان حرمة المسلم، ووجوب تكريمه حيا وميتا، وعصمة دمه حيا. ثانيا: بيان أقسام التشريح والحاجة الداعية إلى كل قسم منها، وما يترتب على ذلك من مصالح. ثالثا: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم، واقتضت شق جسمه أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا. رابعا: المقارنة بين ما أباحه علماء الإسلام من ذلك بدافع الضرورة وتحقيق المصلحة وما يجريه الأطباء على جثث الأموات لمصالح طبية أو مصالح عامة، كإثبات الحقوق وحفظ الأمن وتحقيق السلام والاطمئنان، ثم بيان ما يترتب على ذلك من منع التشريح أو إباحته. والله الموفق.

الموضوع الأول بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا

بسم الله الرحمن الرحيم الموضوع الأول: بيان حرمة المسلم ووجوب تكريمه حيا أو ميتا وعصمة دمه ووجوب حقنه حيا: ثبتت عصمة دم المسلم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا يحل لأحد أن يسفك دم مسلم أو يجني على بشرته أو عضو من أعضائه إلا إذا ارتكب من الجرائم ما يبيح ذلك منه أو يوجبه شرعا، كأن يقتل مؤمنا عمدا عدوانا، أو يزني وهو محصن، أو يترك دينه ويفارق الجماعة، أو يحارب الله ورسوله، ويسعى في الأرض فسادا، أو نحو ذلك مما أوجبت الشريعة فيه قصاصا أو حدا أو تعزيرا، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (¬1) إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬2) وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (¬3) وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: «خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: أتدرون أي يوم هذا؟ ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 92 (¬2) سورة النساء الآية 93 (¬3) سورة الإسراء الآية 33

قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلي. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس ذي الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟! قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (¬1) » . وعن ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك الجماعة (¬2) » . ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري بشرح فتح الباري] (3\453) طبع \ عبد الرحمن محمد. (¬2) [صحيح البخاري] (8\ 38) .

كما وردت نصوص كثيرة في تكريمه ورعاية حرمته بعد موته: ففي [سنن أبي داود] وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (¬1) » وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على القبور» . إلى غير ذلك مما تدل على عصمة دم المسلم، ووجوب تكريمه حيا أو ميتا، حتى صار ذلك معلوما من الدين بالضرورة، فأغنى عن الاستدلال عليه. ويلتحق بالمسلم في عصمة دمه وحرمته في الجملة من كان معاهدا، سواء كان عهده عن صلح أو أمان أو اتفاق على جزية، فلا يحل دمه ولا إيذاؤه ما دام في عهده، ولا تحل إهانته بعد وفاته؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (¬2) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (¬3) وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (¬4) ولما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهدا في غير كنهه حرم الله عليه الجنة (¬5) » . وقال: «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما (¬6) » ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) . (¬2) سورة النحل الآية 91 (¬3) سورة النحل الآية 92 (¬4) سورة الإسراء الآية 34 (¬5) [سنن أبي داود] (3\191) رقم الحديث (2760) . (¬6) [فتح الباري بشرح صحيح البخاري] (12\259) رقم الحديث (6914) .

وما ثبت في حديث علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬1) » . وما رواه أبو داود في [سننه] عن سليم بن عامر -رجل من حمير - أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية، فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء (¬2) » فرجع معاوية (¬3) . بل جاء الإسلام بحقن دماء أولاد الكفار المحاربين ونسائهم، وتحريم التمثيل بقتلاهم في الجملة عدلا منه ورحمة، كما هو معروف في حديث بريدة بن الحصيب وغيره في ذلك. وفي [سنن أبي داود] وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا! (¬4) » . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7300) ، صحيح مسلم الحج (1370) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2127) ، سنن النسائي القسامة (4734) ، سنن أبو داود كتاب الديات (4530) ، سنن ابن ماجه الديات (2658) ، مسند أحمد بن حنبل (1/119) ، سنن الدارمي الديات (2356) . (¬2) سنن الترمذي السير (1580) ، سنن أبو داود الجهاد (2759) ، مسند أحمد بن حنبل (4/113) . (¬3) [سنن أبي داود] (3\190، 191) رقم الحديث (2759) . (¬4) [سنن أبي داود] (3\543، 544) رقم الحديث (3207) .

الموضوع الثاني بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها

الموضوع الثاني: بيان أقسام التشريح والضرورة الداعية إلى كل منها وما يترتب على ذلك من مصالح: ينقسم التشريح من حيث الغرض منه إلى ثلاثة أقسام: (أ) التشريح لمعرفة سبب الوفاة عند الاشتباه في جريمة، ويسمى الطب الشرعي. (ب) التشريح لمعرفة سبب الوفاة عموما، ويسمى التشريح المرضي. (ج) التشريح لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه وغير ذلك من أجل تعلم الطب عموما. وليس المقصود من البحث الاستقصاء في معرفة تفاصيل ما كتب عن هذه الأقسام، إذ ليس الغرض تعلم أنواع التشريح أو نوع منه، وإنما المقصود معرفة الحاجة إليه ومداها، وما يترتب عليه من مصالح عامة أو خاصة تخول الحكم عليه بالمنع والجواز، فكان من المناسب الوقوف بالبيان عند الحد الذي يمكن معه الحكم. ففي القسم الأول: يقوم الطبيب الشرعي بتشريح الجثة عند الاشتباه في جريمة؛ ليعرف ما إذا كانت الوفاة نتيجة اعتداء بخنق، أو وخز، أو ضرب بمحدد، أو سقي سم، أو غير ذلك من ألوان الاعتداء، فتثبت الجريمة في نفسها، ثم يبحث في المتهم عن أمارات قد تصله بالجريمة أو تنتهي إلى اعترافه بها، وفي هذا إثبات للحق والحد من الاعتداء، وردع من تسول له نفسه أن يقتل خفية أو بوسائل يرى فيها الخلاص من ضبطه وعقوبته، وبهذا تحقن الدماء وتحفظ النفوس، ويعم الأمن والاطمئنان.

وقد ينتهي التشريح بإثبات الوفاة بسبب عادي لا اعتداء فيه أو باعتداء من الشخص على نفسه، ويتأكد ذلك بمعرفة أحواله والأمور الملابسة له مما قد يحدث له أزمات ومضايقات نفسية، وبهذا تذهب الظنون والأوهام، ويخلى سبيل المتهم. وربما يعثر على بعض الجثة، بالبحث عن باقيها يعثر على أجزاء أخرى قد تكون منها وقد تكون من غيرها، فيعرف الطبيب الشرعي بالتشريح أوصاف كل جزء ومميزاته من حيث السن، والذكورة والأنوثة، وطول العظام وقصرها وخواص الجلد، وما إلى ذلك من الأوصاف المميزة، وقد يتوصل بذلك إلى أن الأجزاء من جثة واحدة أو أكثر، وربما انتهى الأمر بالبحث والاستقصاء إلى نتيجة تعود على أولياء الدم بالخير، وعلى الأمة بالأمن والاطمئنان. وفي القسم الثاني: من التشريح يعرف الطبيب المرض الذي سبب الوفاة، وقد تكثر الوفاة بسبب هذا المرض، ويخشى على الأمة انتشار الوباء فيها، فيبلغ الطبيب أولياء الأمور ليقوموا بما يلزم للحد من انتشار هذا المرض أو القضاء عليه. وفي القسم الثالث: يقوم الطلاب بتشريح أجسام الموتى تحت إشراف الأطباء لمعرفة تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة ومفاصلها، ومعرفة أجهزته ومكان كل جهاز منها ووظيفته وحجمه، ومقاسه صحيحا أو مريضا، وعلامة مرضه، وكيفية علاجه، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته طلاب كلية الطب في مراحل الدراسة للنهوض بهم علميا وعمليا، وإعدادهم لخدمة الأمة في مختلف الجوانب الصحية - وقاية منها، وتشخيصا وعلاجا لها.

هذه وغيرها هي الدواعي التي دعت المسئولين عامة وعلماء الطب خاصة إلى الإقدام على تشريح جثث الموتى، وترخص للمسلمين منهم في ذلك مع اعتقادهم حرمة المسلم ومن في حكمه ووجوب تكريمه، لكن هل يكفي ذلك مبررا للتشريح ومرخصا فيه أو موجبا له؟ هذا مما يتبين إن شاء الله بعد بحث الموضوعات التالية.

الموضوع الثالث نقول عن العلماء لحالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق جسمه

الموضوع الثالث: ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق جسمه حيا أو جثته أو قطع عضو منه حيا أو ميتا: تمهيد: نظرا إلى أن من أقدم على التشريح من علماء الطب والمسئولين في الأمم قد بنوا ذلك على ما شعروا به من الحاجة إليه، وما اعتقدوه من المصالح الخاصة والعامة المترتبة عليه، ونظرا إلى أن علماء الإسلام قد بنوا ما استثنوه من القاعدة العامة في عصمة دم المسلم ومن في حكمه، ووجوب رعاية حرمته على الحاجة والمصلحة - كان لزاما علينا أن نمهد بكلمة في أنواع المصلحة ومراتبها، ثم نتبع ذلك بأقوال علماء الإسلام في المسائل المستثناة؛ ليتبين بذلك ما ينهض من المصالح للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما ينزل منها عن درجة الاعتبار، فلا تبنى عليه الأحكام. فسر العلماء المصلحة: بجلب المنفعة أو دفع المضرة. وقسموها من حيث شهادة نص معين لها بالاعتبار، أو عليها بالإلغاء،

أو عدم شهادته لها أو عليها ثلاثة أقسام: الأول: مصلحة شهد لها نص معين بالاعتبار: كالحدود التي شرعت نصا لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فهذه مصلحة معتبرة شرعا. والثاني: مصلحة شهد النص المعين بإلغائها: كإيجاب صيام شهرين متتابعين كفارة على من جامع من الملوك ومن في حكمهم عمدا في نهار رمضان وهو صائم، ولم ير العتق مجزئا، لكونه غير رادع لمثله؛ لسهولته بالنسبة له، فهذه مصلحة ملغاة. والثالث: مصلحة لم يشهد نص معين باعتبارها ولا بإلغائها: ومثلوا لها بإلزام الولاة رعيتهم بدفع ضرائب عند شدة الحاجة إليها، ويسمى هذا القسم بـ: (المصلحة المرسلة) ، وفي الاحتجاج بها خلاف مشهور بين أئمة الفقهاء: فمنهم من اعتبرها، ومنهم من ألغاها، ومنهم من اعتبرها إذا كانت واقعة في رتبة الضرورات دون الحاجات والتحسينات. وذلك أنها تقسم من حيث القوة إلى ثلاث مراتب: واقعة في رتبة الضرورات، وواقعة في رتبة الحاجات، وواقعة في رتبة التحسينات. فأقواها الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة. وقد ذكر الغزالي تفصيل ذلك، وفيما يلي نصه: الأصل الرابع من الأصول الموهومة: الاستصلاح: وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها، فنقول: المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:

(أ) قسم شهد الشرع لاعتبارها. (ب) وقسم شهد لبطلانها. (ج) وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها. القسم الأول: أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة، ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو: اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع (¬1) ، فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة، ومثاله: حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر؛ لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة (¬2) اهـ. القسم الثاني: ما شهد الشرع لبطلانها، مثاله: قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان: إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به، فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال، ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي. ¬

_ (¬1) انظر [المستصفى] 02\101) . (¬2) [المستصفى] (1\139) .

القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر، وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات، وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات. ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها. ولنفهم أولا معنى المصلحة، ثم أمثلة مراتبها: أما المصلحة فهي: عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس. وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال

التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق؛ ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر، أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة: فكقولنا: المماثلة مرعية في استيفاء القصاص؛ لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل، وكقولنا: القليل من الخمر إنما حرم؛ لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ، فهذا دون الأول؛ ولذلك اختلفت فيه الشرائع، أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة؛ لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد. الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه يحتاج إليه في اقتناء المصالح، وتقييد الاكتفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المأكل، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله، فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق، أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر، والتظاهر بالأصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها. أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا: لا تزوج الصغيرة إلا من كفء بمهر مثل، فإنه أيضا مناسب، ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح؛ ولهذا اختلف العلماء فيه. الرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع

التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، من حيث إن العبد نازل القدر والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة. أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات؛ لأن ذلك مناسب للمصلحة، إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا، والعبد مستغرق بالخدمة، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى، ولكن قول القائل: سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله: سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا، وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع. ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى، بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه، والمناسب قد يكون منقوصا فيترك، أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفء، فهو في الرتبة الثالثة؛ لأن الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد؛ لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة، ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج. وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالإعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة. وعلى الجملة فيلحق برتبة التحسينات، فإذا عرفت هذه

الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، كأن يجري مجرى الضرورات فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس. أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين، ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا، وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم، ثم يقتلون الأسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال. فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق، وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذ بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف كلها ضرورية قطعية كلية، وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس، إذ لا ضرورة وفينا غنية عن القلعة فنعدل عنها، إذ لم نقطع بظفرنا بها؛ لأنها ليست قطعية، بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا، وإلا غرقوا

بجملتهم؛ لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين؛ لأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها. وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه؛ لأنه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للإضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد، لكن ربما يكون القطع لسبب ظاهرا في الهلاك، فيمنع منه؛ لأنه ليس فيه يقين الخلاص، فلا تكون المصلحة قطعية. وبعد أن ذكر حكم الضرب في التهمة وقتل الزنديق ولو تاب، والساعي في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة وإغراء الظلمة بالناس وأموالهم وحرماتهم ودمائهم وإثارة الفتن ... قال: (فإن قيل) : فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس، بل يدرك ذلك بغلبة الظن (قلنا) : لا جرم، ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة، وعللوا بأن ذلك مظنون، ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو الظن القريب من القطع (¬1) ، والظن القريب من القطع إذا صار كليا، وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه. (فإن قيل) : إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك، وغلب ذلك على الظن بما عرف من ¬

_ (¬1) والظن: القريب من القطع.

طبيعته وعادته المجربة طول عمره (قلنا) : لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك، بل هو أولى من الترس، فإنه لم يذنب ذنبا، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل، وكأنه التحق بالحيوانات الضارية؛ لما عرف من طبيعته وسجيته (فإن قيل) : كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس، وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان، وهذا يخالف قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬2) وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر؟ فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها حظر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك، فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام، فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين، ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى (قلنا) : لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد المنع من ذلك، ويتأيد بمسألة السفينة، وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة؛ إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا، وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد، وإنما نشأ ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 93 (¬2) سورة الأنعام الآية 151

هذا من الكثرة، ومن كونه كليا، لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد، وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل، ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم، وإن كان التحريم عاما، ولكن نخصصه بغير هذه الصورة، فكذلك هاهنا التخصيص ممكن. وقول القائل: هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع، والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل. اهـ. وبعد ما تقدم من التهميد بالحديث عن المصالح، وبيان ما يصلح منها للاعتبار وبناء الأحكام عليه، وما لا يصلح لذلك نذكر مسائل فقهية لا تعدو أن تكون نظرية اجتهادية، وقد بنى الفقهاء حكمهم فيها نفيا وإثباتا على رعاية المصلحة. ومن هذه المسائل ضرب من تترس به الكفار من أسارى المسلمين مثلا في الحرب، وشق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي بالأمارات، ورمي أحد ركاب سفينة خشي عليهم الغرق، فيرمى أحدهم بقرعة لينجو الباقون، وأكل مضطر من جثة إنسان ميت إنقاذا لنفسه من الهلاك، وتبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والصبيان. وفيما يلي بيان أقوال فقهاء الإسلام في هذه المسائل، وما بنوه عليه من الدليل والمصلحة.

المسألة الأولى ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين

المسألة الأولى: ضرب أو رمي من تترس به الكفار من أسارى المسلمين سبق في التمهيد أن ذكر الغزالي هذه المسألة، وبين أنها مبنية على مصلحة واقعة في رتبة الضرورات، حيث إن رمي الكفار وقتلهم بما يستتبع قتل أسارى المسلمين أو إصابتهم فيه نصر المسلمين وحفظ دينهم وديارهم، ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وهذه من الضرورات التي اتفقت الشرائع على حفظها، وفيه أيضا تقديم المصلحة العامة للإسلام وللأمة على المصلحة الخاصة، وهي حفظ دماء المسلمين الذين تترس بهم الكفار، وهذا يتفق مع قاعدة تقديم أقوى المصلحتين عند تعارضهما، وارتكاب أدنى المفسدتين وأخفهما تفاديا لأشدهما، فكان رمي الكفار قصدا بما يستتبع قتل متترسهم من المسلمين متفقا مع مقاصد الشريعة، لكن لما تعارضت مصلحة حفظ دماء أسرى المسلمين أو من بين الكفار من المسلمين حين الحرب، ومصلحة الجهاد وما يترتب عليه من منافع، وما يترتب على تركه من مضار - كانت المسألة مثار خلاف بين الفقهاء، فرأى بعضهم قتال الكفار بما يعم كالرمي بالمنجنيق والإغراق والغازات الخانقة وأمثالها إن لم يتغلب عليهم إلا بذلك؛ رعاية للمصلحة العامة، ورأى آخرون: أنه لا يجوز رميهم بما يعم. وفيما يلي نصوص يتبين منها خلاف الفقهاء في ذلك وما استند إليه كل منهم من دليل أو تعليل: أ - قال السرخسي: ولا بأس بإرساله الماء إلى مدينة أهل الحرب وإحراقهم بالنار ورميهم بالمنجنيق، وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسرى أو تجار. وقال الحسن بن زياد رحمه الله: إذا علم أن

فيهم مسلما، وأنه يتلف بهذا الصنع لم يحل له ذلك؛ لأن الإقدام على قتل المسلم حرام، وترك قتل الكافر جائز، ألا ترى أن للإمام ألا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين، فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه، ولكنا نقول: أمرنا بقتالهم، فلو اعتبرنا هذا المعنى لأدى إلى سد باب القتال معهم، فإن حصونهم ومدائنهم قل ما تخلو من مسلم عادة، ولأنه يجوز لنا أن نفعل ذلك بهم وإن كان فيهم نساؤهم وصبيانهم، وكما لا يحل قتل المسلم لا يحل قتل نسائهم وصبيانهم، ثم لا يمتنع ذلك لمكان نسائهم وصبيانهم فكذلك لمكان المسلم فلا يستقيم منع هذا، وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم: نصب المنجنيق على الطائف وأمر أسامة بن زيد رضي الله عنه بأن يحرق، وحرق حصن عوف بن مالك. وكذلك إن تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمي إليهم، وإن كان الرامي يعلم أنه يصيب المسلم، وعلى قول الحسن رضي الله عنه لا يحل له ذلك، وهو قول الشافعي؛ لما بينا أن التحرز عن قتل المسلم فرض، وترك الرمي إليهم جائز. ولكنا نقول: القتال معهم فرض، وإذا تركنا ذلك لما فعلوا أدى إلى سد باب القتال معهم، ولأنه يتضرر المسلمون بذلك فإنهم يمتنعون من الرمي لما أنهم تترسوا بأطفال المسلمين فيجترئون بذلك على المسلمين، وربما يصيبون منهم إذا تمكنوا من الدنو من المسلمين والضرر مدفوع، إلا أن على المسلم الرامي أن يقصد به الحربي؛ لأنه لو قدر على التمييز بين الحربي والمسلم فعلا كان ذلك مستحقا عليه، فإذا عجز عن ذلك كان عليه أن يميز بقصده؛ لأنه وسع مثله اهـ. ب- وفي كتاب الجهاد من [بداية المجتهد] لابن رشد: اتفق عوام

الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمنجنيق، سواء كان فيها نساء وذرية أم لم يكن؛ لما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين) فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق، وبه قال الأوزاعي، وقال الليث: وذلك جائز، ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬1) وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة. ج- وقال في [الأم] قال الشافعي رضي الله عنه: (إذا كان في حصن المشركين نساء وأطفال وأسرى مسلمون، فلا بأس بأن ينصب المنجنيق على الحصن دون البيوت التي فيها السكان إلا أن يلتحم المسلمون قريبا من الحصن، فلا بأس أن ترمى بيوته وجدرانه، فإذا كان في الحصن مقاتلة محصنون رميت البيوت والحصون، وإذا تترسوا بالصبيان المسلمين أو غير المسلمين والمسلمون ملتحمون - فلا بأس أن يعمدوا المقاتلة دون المسلمين والصبيان، وإن كانوا غير ملتحمين أحببت له الكف عنهم حتى يمكنهم أن يقاتلوهم غير متترسين، وهكذا إن أبرزوهم فقالوا: إن رميتمونا وقاتلتمونا قتلناهم، والنفط والنار مثل المنجنيق، وكذا الماء والدخان) (¬2) اهـ. د- وقال محمد الشربيني الخطيب الشافعي: (فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر أو نحوه جاز ذلك، أي: الرمي بما ذكر وغيره [على المذهب] ؛ لئلا ¬

_ (¬1) سورة الفتح الآية 25 (¬2) [الأم] (4\287) ط 1 عام 1381 هـ.

يتعطل الجهاد بحبس مسلم عندهم، وقد لا يصيب المسلم وإن أصيب رزق الشهادة) . تنبيه: تعبيره بالجواز لا يقتضي الكراهة، سواء اضطروا إلى ذلك أم لا. وملخص ما في [الروضة] ثلاثة طرق: المذهب: إن لم يكن ضرورة كره تحرزا من إهلاك المسلم، ولا يحرم على الأظهر، وإن كان ضرورة كخوف ضررهم، أو لم يحصل فتح القلعة إلا به - جاز قطعا، وكالمسلم الطائفة من المسلمين، كما قاله الرافعي، وقضيته عدم الجواز إذا كان في المسلمين كثرة وهو كذلك (ولو التحم حرب فتترسوا بنساء) وخناثي (وصبيان) ومجانين منهم (جاز) حينئذ (رميهم) إذا دعت الضرورة إليه، ونتوقى من ذكر؛ لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد، وطريقا إلى الظفر بالمسلمين؛ لأنا إن كففنا عنهم لأجل التترس بمن ذكر لا يكفون عنا، فالاحتياط لنا أولى من الاحتياط لمن ذكر (وإن دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم) وجوبا؛ لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة، وقد نهينا عن قتلهم، وهذا ما رجحه في [المحرر] . والثاني: وهو المعتمد كما صححه في [زوائد الروضة] جواز رميهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد، أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم، واحترز المصنف بقوله: دفعوا بهم عن أنفسهم عما إذا فعلوا ذلك مكرا وخديعة لعلمهم بأن شرعنا يمنع من قتل نسائهم وذراريهم، فلا يوجب ذلك ترك حصارهم ولا الامتناع من رميهم، وإن أفضى إلى قتل من ذكر قطعا. قاله الماوردي. قال في [البحر] : وشرط جواز الرمي أن يقصد

بذلك التوصل إلى رجالهم. (وإن تترسوا بمسلمين) ولو واحدا أو ذميين كذلك (فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم) وجوبا صيانة للمسلمين وأهل الذمة، وفارق النساء والصبيان على المعتمد بأن المسلم والذمي محقونا الدم لحرمة الدين والعهد، فلم يجز رميهم بلا ضرورة، والنساء والصبيان حقنوا لحق الغانمين، فجاز رميهم بلا ضرورة. (وإلا) بأن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم حال التحام القتال بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم (جاز رميهم) حينئذ (في الأصح) المنصوص، ونقصد بذلك قتال المشركين، ونتوقى المسلمين وأهل الذمة بحسب الإمكان؛ لأن مفسدة الإعراض أعظم من مفسدة الإقدام، ويحتمل هلاك طائفة للدفع عن بيضة الإسلام ومراعاة الأمور الكلية. والثاني: المنع إذا لم يتأت رمي الكفار إلا برمي مسلم أو ذمي، وكالذمي المستأمن. اهـ (¬1) . هـ - وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله: (¬2) وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم، ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان، ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد، وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ¬

_ (¬1) [مغني المحتاج] (4\223، 224) ط \ الحلبي. (¬2) [المغني] (9\276، 277) .

يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب. فصل: ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا؛ لما روى سعيد: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: «لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها، فقال: ها دونكم فارموها فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها» . ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها؛ لأن ذلك من ضرورة رميها، وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم الماء أو تحرضهم على القتال؛ لأنها في حكم المقاتل، وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع قتله منهم. وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم؛ لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم، فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه، وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم؛ لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار، وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي، فقال الأوزاعي والليث: لا يجوز رميهم؛ لقول الله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} (¬1) الآية. قال الليث: ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق، وقال الأوزاعي: كيف يرمون من لا يرونه؟ إنما يرمون أطفال المسلمين، وقال القاضي والشافعي: يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة؛ لأن تركه ¬

_ (¬1) سورة الفتح الآية 25

يفضي إلى تعطيل الجهاد. اهـ. (و) وقال المرداوي في [الإنصاف] : قوله: (وإن تترسوا بمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار، وهذا بلا نزاع، وظاهر كلامه: أنه إذا لم يخف على المسلمين، ولكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي: عدم الجواز. وهذا المذهب نص عليه، وقدمه في [الفروع] وجزم به في [الوجيز] ، وقال القاضي: يجوز رميهم حال قيام الحرب؛ لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد. وجزم به في [الرعاية الكبرى] (¬1) . ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (4 \ 129) .

المسألة الثانية شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي

المسألة الثانية: شق بطن امرأة ماتت وفي بطنها ولد علم أنه حي: شق بطن الميتة لإخراج ولدها الحي فيه انتهاك لحرمتها، ومخالفة للأدلة التي دلت على وجوب تكريمها وحرمة إيذائها، لكن فيه الإبقاء على حياة الحمل المعصوم، وترك شق بطنها فيه تكريمها والمحافظة على حرمتها، لكن يلزمه القضاء على حياته، ومخالفة للأدلة الدالة على ذلك، فكان هذا التعارض منشأ اختلاف بين الفقهاء: فمنهم من منع شق بطنها رعاية لمصلحة تكريمها، ورأى أنها لا تهان لمصلحة غيرها، ومنهم من أجاز أو أوجب شق بطنها إن لم يمكن إخراج الولد منها حيا إلا بذلك؛ إيثارا لجانب الحي على جانب الميت، ويمكن أن يقال: إن رعاية عصمة الدم آكد من رعاية حرمة الميت، فإن الاعتداء على الميت بقطع رقبته، أو عضو من أعضائه مثلا لا يوجب قصاصا ولا دية، وإنما يوجب تعمده

تعزيرا، بخلاف قتل الحي مسلما أو ذميا فإنه يوجب في الجملة قصاصا أو دية، والمسألة على كل حال اجتهادية. ويلتحق بذلك شق بطن من مات لإخراج ما قد بلعه من الدنانير أو الدراهم أو نحوهما، حيث وقع فيه الخلاف أيضا، فمنهم من منعه رعاية لحرمة الميت، ومنهم من أجازه رعاية لحق المال. وفيما يلي أقوال بعض الفقهاء في ذلك: أ - قال ابن المواق: (وبقر عن مال كثر ولو بشاهد ويمين) . سحنون: يبقر عن دنانير في بطن الميت إلا على ما قل، عبد الحق: في كون ما قل دون ربع دينار أو نصاب الزكاة خلاف. وأجاب أبو عمران عن مقيم شاهد على ميت لم يدفن أنه بلع دنانير يحلف ليبقر بطنه قائلا: اختلف في القصاص بشاهد واحد [لا عن جنين] من [المدونة] . قال مالك: لا يبقر بطن الميتة إذا كان جنينها يضطرب في بطنها. وقال سحنون: إن كملت حياته ورجي خلاصه بقر. وقال ابن عبد الحكم: رأيت رجلا مبقورا على ناقة مبقورة، قال سند: وإذا بقر فمن خاصرتها اليسرى، ابن يونس: الصواب عندي البقر، لأن الميت لا يؤلمه. وقد رأى أهل العلم قطع الصلاة خوف وقوع صبي أو أعمى في بئر، وقطع الصلاة فيه إثم، ولكن أبيح لإحياء نفس، فكذلك يباح بقر الميتة لإحياء ولدها الذي يتحقق موته إن ترك، والواقع في البئر قد يحيا فكان البقر أولى، ويحمل قول عائشة: كسر عظام الميت ككسرها حيا: إذا فعل ذلك عبثا، وأما لأمر هو واجب فلا، ألا ترى الحي لو أصابه أمر في جوفه يتحقق أن حياته باستخراجه لبقر عليه، ولم يكن آثما في فعل ذلك

بنفسه أو بولده أو عبده مع أن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت؟ قال اللخمي: إن كان الجنين في وقت لو أسقطته وهي حية لم يعش لم يبقر، وإن كان في شهر يعيش فيه الولد إذا وضعته كالتي دخلت في السابع أو التاسع أو العاشر، وكان متى بقر عليه رجيت حياته، فقال مالك: لا يبقر عليه، وقال أشهب وسحنون: يبقر عليه وهو أحسن، وإحياء نفس أولى من صيانة ميت (وتؤولت أيضا على البقر إن رجي) . أما اللخمي وابن يونس فقد اختارا البقر كما تقدم، مصرحين بأنه خلاف قول مالك، وذكر ابن عرفة في المسألة ثلاثة أقوال (وإن قدر على إخراجه من محله فعل) قال مالك: إن قدر على أن يستخرج الولد من حيث يخرج في الحياة فعل. اهـ. ب - قال أحمد الدردير: و (بقر) أي: شق بطن ميت (عن مال) له أو لغيره ابتلعه حيا (كثر) بأن كان نصابا (ولو) ثبت (بشاهد ويمين) ومحل التقييد بالكثير إذا ابتلعه لخوف عليه أو لمداواة، أما لقصد حرمان الوارث فيبقر ولو قل (لا) يبقر (عن جنين) رجي لإخراجه ولا تدفن به إلا بعد تحقق موته ولو تغيرت (وتؤولت أيضا على البقر) وهو قول سحنون، وقد تأولها عليه عبد الوهاب (إن رجي) خلاصه حيا وكان في السابع أو التاسع فأكثر (وإن - قدر على إخراجه من محله) بحيلة (فعل) اللخمي: وهو مما لا يستطاع. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] (1 \ 429) .

وقال النووي في [المجمع] على قول الشيرازي في المذهب: (وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها؛ لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت) . (الشرح) هذه المسألة مشهورة في كتب الأصحاب وذكر صاحب الحاوي أنه ليس للشافعي فيها نص، قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وابن الصباغ وخلائق من الأصحاب: قال ابن سريج: إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها وأخرج، فأطلق ابن سريج المسألة، قال أبو حامد والماوردي والمحاملي وابن الصباغ: قال بعض أصحابنا: ليس هو كما أطلقها ابن سريج، بل يعرض على القوابل، فإن قلن: هذا الولد إذا أخرج يرجى حياته، وهو أن يكون له ستة أشهر فصاعدا شق جوفها وأخرج، وإن قلن: لا يرجى بأن يكون له دون ستة أشهر لم يشق؛ لأنه لا معنى لانتهاك حرمتها فيما لا فائدة فيه. قال الماوردي: وقول ابن سريج هو قول أبي حنيفة وأكثر الفقهاء (قلت) : وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه والعبدري في [الكفاية] وذكر القاضي حسين والفوراني والمتولي والبغوي وغيرهم في الذي لا يرجى حياته وجهين: (أحدهما) يشق (والثاني) لا يشق، قال البغوي: وهو الأصح، قال جمهور الأصحاب: فإذا قلنا: لا نشق لم تدفن حتى تسكن حركة الجنين ويعلم أنه قد مات، هكذا صرح به الأصحاب في جميع الطرق. . . ومختصر المسألة: إن رجي حياة الجنين وجب شق جوفها وإخراجه وإلا فثلاثة أوجه (أصحها) لا تشق ولا تدفن حتى يموت (والثاني) تشق ويخرج (والثالث) يثقل بطنها بشيء ليموت وهو غلط، وإذا

قلنا: يشق جوفها شق في الوقت الذي يقال: إنه أمكن له، هكذا قال الشيخ أبو حامد (¬1) . اهـ. ج - قال النووي في [الروضة] : ولو ابتلع في حياته مالا ثم مات وطلب صاحبه الرد شق جوفه ويرد، قال في [العدة] : إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته فلا ينبش على الأصح، وقال القاضي أبو الطيب: لا ينبش بكل حال، ويجب الغرم في تركته، ولو ابتلع مال نفسه ومات فهل يخرج؟ وجهان: قال الجرجاني: الأصح يخرج. قلت: وصححه أيضا العبدري، وصحح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في [كتاب المجرد] ، عدم الإخراج، وقطع به المحاملي في [المقنع] ، وهو مفهوم كلام صاحب [التنبيه] ، وهو الأصح. والله أعلم. وحيث قلنا: يشق جوفه ويخرج فلو دفن قبل الشق ينبش كذلك (¬2) اهـ. د - وقال أبو محمد بن قدامة: قال: (والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، فلا يشق بطنها عليه، ويسطو عليه القوابل فيخرجنه) . معنى (يسطو القوابل) : أن يدخلن أيديهن في فرجها، فيخرجن الولد من مخرجه، والمذهب: أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها، مسلمة كانت أو ذمية، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركته، وإن لم يوجد نساء لم يسط الرجال عليه، وتترك أمه حتى يتيقن موته ثم تدفن، ومذهب مالك وإسحاق قريب من هذا، ويحتمل أن يشق بطن الأم، إن غلب على ¬

_ (¬1) [المجموع] للنووي (1 \ 301) . (¬2) [الروضة] للنووي (2 \ 140، 141) .

الظن أن الجنين يحيا، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه إتلاف جزء من الميت لإبقاء حي، فجاز، كما لو خرج بعضه حيا، ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق، ولأنه يشق لإخراج المال منه، فلإبقاء الحي أولى. ولنا: أن هذا الولد لا يعيش عادة، ولا يتحقق أنه يحيا، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم، وقد قال عليه السلام: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي (¬1) » رواه أبو داود، وفيه مثلة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وفارق الأصل، فإن حياته منتفية، وبقاءه مظنون، فعلى هذا إن خرج بعض الولد حيا ولم يمكن إخراجه إلا بشق، شق المحل؛ وأخرج لما ذكرنا، وإن مات على تلك الحال فأمكن إخراجه أخرج وغسل، وإن تعذر غسله ترك، وغسلت الأم وما ظهر من الولد، وما بقي ففي حكم الباطن لا يحتاج إلى التيمم من أجله؛ لأن الجميع كان في حكم الباطن، فظهر البعض، فتعلق به الحكم، وما بقي فهو على ما كان عليه، ذكر هذا ابن عقيل، وقال: هي حادثة سئلت عنها، فأفتيت فيها. فصل: وإن بلع الميت مالا، لم يخل من أن يكون له أو لغيره، فإن كان له لم يشق بطنه، لأنه استهلكه في حياته، ويحتمل أنه إن كان يسيرا ترك، وإن كثرت قيمته شق بطنه وأخرج، لأن فيه حفظ المال عن الضياع، ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله بمرضه، وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذنه فهو كماله، لأن صاحبه أذن في إتلافه، وإن بلعه غصبا ففيه وجهان: أحدهما: لا يشق بطنه، ويغرم من تركته؛ لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى. والثاني: يشق إن كان كثيرا؛ لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617) .

إليه، وعن الميت بإبراء ذمته، وعن الورثة بحفظ التركة لهم، ويفارق الجنين من وجهين: أحدهما: أنه لا يتحقق حياته، والثاني: أنه ما حصل بجنايته، فعلى هذا الوجه إذا بلي جسده، وغلب على الظن ظهور المال، وتخلصه من أعضاء الميت - جاز نبشه وإخراجه، وقد روى أبو داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا قبر أبي رغال، وآية ذلك أن معه غصنا من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس، فاستخرجوا الغصن (¬1) » ، ولو كان في أذن الميت حلق أو في إصبعه خاتم أخذ، فإن صعب أخذه، برد، وأخذ؛ لأن تركه تضييع للمال (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3088) . (¬2) [المغني] ، لابن قدامة (3 \ 497 - 499) .

هـ - وقال المرداوي في [الإنصاف] : قوله: (وإن ماتت حامل لم يشق بطنها) وهذا المذهب نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، قال الزركشي: هذا المنصوص، وعليه الأصحاب. وقوله: (ويحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن أنه يحيا) وهو وجه في ابن تميم وغيره. فعلى المذهب (تسطو عليه القوابل فيخرجنه) إذا احتمل حياته على الصحيح من المذهب، وقال القاضي في الخلاف: إن لم يوجد أمارات الظهور بانتفاخ المخارج وقوة الحركة فلا تسطو القوابل. فعلى الأول: إن تعذر إخراجه بالقوابل: فالمذهب: أنه لا يشق بطنها، قاله في [المغني] و [الشرح] و [الفروع] وغيرها. وعليه أكثر الأصحاب، واختار ابن هبيرة: أنه يشق ويخرج الولد. قلت: وهو أولى. فعلى المذهب: يترك ولا تدفن حتى يموت. قال في [الفروع] : هذا الأشهر،

واختاره القاضي، والمصنف، وصاحب [التلخيص] ، وغيرهم وقدمه في [الرعايتين] ، و [الحاويين] ، وعنه: يسطو عليه الرجال، والأولى بذلك المحارم، اختاره أبو بكر، والمجد: كمداواة الحي، وصححه في [مجمع البحرين] ، وهو أقوى من الذي قبله. وأطلقهما ابن تميم ولم يقيده الإمام أحمد بالمحرم، وقيده ابن حمدان بذلك. اهـ (¬1) . ووقال ابن حزم في [المحلى] : مسألة: ومن بلع درهما أو دينارا أو لؤلؤة شق بطنه عنها؛ لصحة نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، ولا يجوز أن يجبر صاحب المال على أخذ غير عين ماله، ما دام عين ماله ممكنا؛ لأن كل ذي حق أولى بحقه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (¬2) » فلو بلعه وهو حي حبس حتى يرميه، فإن رماه ناقصا ضمن ما نقص، فإن لم يرمه ضمن ما بلع، ولا يجوز شق بطن الحي؛ لأن فيه قتله، ولا ضرر في ذلك على الميت ولا يحل شق بطن الميت بلا معنى، لأنه تعد، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} (¬3) اهـ المقصود (¬4) . وقال أيضا (¬5) : مسألة: ولو ماتت امرأة حامل والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولا ويخرج الولد؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬6) ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (2 \ 556) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) . (¬3) سورة البقرة الآية 190 (¬4) [المحلى] لابن حزم (5 \ 166، 167) ط. منيرية. (¬5) [المحلى] لابن حزم (5 \ 166، 167) ط. منيرية. (¬6) سورة المائدة الآية 32

ومن تركه عمدا حتى يموت فهو قاتل نفس، ولا معنى لقول أحمد رحمه الله: تدخل القابلة يدها فتخرجه، لوجهين: أحدهما: أنه محال لا يمكن ولو فعل ذلك لمات الجنين بيقين قبل أن يخرج، ولولا دفع الطبيعة المخلوقة المقدرة له وجر، ليخرج لهلك بلا شك. والثاني: أن مس فرجها لغير ضرورة حرام. اهـ. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على ذلك: أما إخراج الولد الحي من بطن الحامل إذا ماتت فإنه واجب، وأما كيف يخرج فهذا من شأن أهل هذه الصناعة من الأطباء والقوابل.

المسألة الثالثة أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد شيئا غيره

المسألة الثالثة: أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد شيئا غيره: ثبت بالأدلة الصحيحة أن للمسلم ومن في حكمه حرمة، وأنه يجب تكريمه حيا وميتا، ومقتضى ذلك أنه لا يباح للمضطر أن يأكل من جسمه حيا ولا من جثته ميتا، ولو لم يجد غيره، ولو أدى ذلك إلى هلاكه؛ لما في ذلك من انتهاك حرمته لمصلحة غيره، وثبت بالأدلة الصحيحة أيضا أنه يجب على الإنسان أن يحافظ على حياته، حتى إنه يجوز له أن يأكل حال الضرورة ما هو محرم عليه حال عدمها من ميتة الأنعام والدم ولحم الخنزير. . . إلخ، بل يجب عليه أن يأكل من ذلك إذا خشي على نفسه الهلاك، ومقتضى ذلك أنه يجوز له أو يجب أن يأكل ميتة الآدمي إبقاء على

حياته، وعلى هذا نجد بين الأمرين تعارضا، وهو مثار الخلاف بين الفقهاء في حكم هذه المسألة، حيث منع بعضهم أكل المضطر من ميتة آدمي ولو كانت ميتة ذمي، ترجيحا لحرمة الميت وإعمالا لأدلتها، وأجاز آخرون له الأكل منها إذا لم يجد غيرها؛ إيثارا لحق الحي على حق الميت. وتقدم ما يمكن أن يعتبر مرجحا لهذا الجانب. وفيما يلي ذكر بعض أقوالهم في حكم المسألة، مع توجيه كل منهم لما ذهب إليه: (والنص عدم جواز أكله) ابن القصار: المضطر إلى أكل لحم الميتة لا يجد إلا لحم آدمي لا يأكله وإن خاف التلف، ابن رشد: الصحيح: أن الميت من بني آدم ليس بنجس. . . ثم قال: والميت من بني آدم لا يسمى ميتة، فليس برجس ولا نجس، ولا حرم أكله لنجاسته، وإنما حرم أكله إكراما له، ألا ترى أنه لما لم يسم ميتة لم يجز للمضطر أن يأكله بإباحة الله له أن أكل الميتة على الصحيح من الأقوال. (وصحح أكله) ابن عرفة تعقب عبد الحق قول ابن القصار: المضطر لا يأكل ميتة آدمي. اهـ المقصود منه (¬1) . أ - وقال أحمد الدردير في الشرح الكبير على مختصر خليل: النص المعول عليه (عدم جواز أكله) أي: أكل الآدمي الميت ولو كافرا (لمضطر) ولو مسلما لم يجد غيره، إذ لا تنتهك حرمة مسلم لآخر (وصحح أكله) ابن عرفة: أي: صحح ابن عبد السلام القول بجواز أكله للمضطر (¬2) . اهـ. ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل] (3 \ 77) . (¬2) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] (1 \ 429) .

ب - وقال النووي في [الروضة] : ثبت المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان: مسكر، وغيره، فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله قطعا، وكذا الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة على الأصح منهم. ولو كان له قصاص على غيره، ووجده في حالة اضطرار، فله قتله قصاصا وأكله، وإن لم يحضره السلطان، وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب ففي [التهذيب] : أنه لا يجوز قتلهم للأكل، وجوزه الإمام، والغزالي؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، والمنع من قتلهم ليس لحرمة أرواحهم؛ ولهذا لا كفارة فيهم. قلت: الأصح: قول الإمام، والله أعلم. والذمي، والمعاهد، والمستأمن معصومون، فيحرم أكلهم، ولا يجوز للوالد قتل ولده للأكل، ولا للسيد قتل عبده، ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا، فالصحيح حل أكله، قال الشيخ إبراهيم المروذي إلا إذا كان الميت نبيا، فلا يجوز قطعا. قال في [الحاوي] : فإذا جوزنا لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق؛ حفظا للحرمتين، قال: وليس له طبخه وشيه، بل يأكله نيئا؛ لأن الضرورة تندفع بذلك، وطبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الإقدام عليه، بخلاف سائر الميتات، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة، ولو كان المضطر ذميا، والميت مسلما، فهل له أكله؟ حكى فيه صاحب [التهذيب] وجهين. قلت: القياس تحريمه، والله أعلم. ولو وجد ميتة ولحم آدمي أكل الميتة وإن كانت لحم خنزير، وإن وجد المحرم صيدا ولحم آدمي أكل الصيد، ولو أراد المضطر أن يقطع قطعة من

فخذه أو غيرها ليأكلها، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد حرم، وإلا جاز على الأصح، بشرط أن لا يجد غيره، فإن وجد حرم قطعا، ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر. اهـ (¬1) . ج - وقال ابن قدامة في [المغني] : (فصل) : وإن لم يجد إلا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه، مسلما كان أو كافرا؛ لأنه مثله، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه، وهذا لا خلاف فيه، وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله؛ لأن قتله مباح، وهكذا قال أصحاب الشافعي؛ لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع، وإن وجده ميتا أبيح أكله؛ لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته، وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا، وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح، وهو أولى؛ لأن حرمة الحي أعظم، قال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء، واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي (¬2) » . واختار أبو الخطاب أن له أكله، قال: لا حجة في الحديث ههنا؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم. اهـ د - وقال المرداوي في [الإنصاف] : فإن لم يجد إلا آدميا مباح الدم كالحربي والزاني المحصن - حل قتله وأكله، هذا المذهب وعليه جماهير ¬

_ (¬1) [روضة الطالبين] (3 \ 284، 285) . (¬2) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617) .

الأصحاب، وقال في [الترغيب] : يحرم أكله وما هو ببعيد. قوله: وإن وجد معصوما ميتا ففي جواز أكله وجهان، وأطلقها في المذهب و [المحرر] و [النظم] : أحدهما: لا يجوز، وعليه جماهير الأصحاب، قال المصنف والشارح: اختاره الأكثر، كذا قال في [الفروع] وجزم به في [الإفصاح] وغيره. قال في [الخلاصة] ، و [الرعايتين] ، و [الحاويين] : لم يأكله في الأصح، قال في [الكافي] : هذا اختيار غير أبي الخطاب، قال في [المغني] : اختاره الأصحاب. الثاني: يجوز أكله، وهو المذهب على ما اصطلحناه، صححه في [التصحيح] ، واختاره أبو الخطاب في [الهداية] ، و [المصنف] أو [الشارح] ، قال في الكافي: هذا أولى. وجزم به في [الوجيز] و [المنور] ومنتخب الآدمي، وقدمه في [الفروع] . فائدتان: إحداهما: يحرم عليه أكل عضو من أعضائه على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب وقطعوا به، وقال في [الفنون] عن حنبل: إنه لا يحرم، انتهى (¬1) . هـ - وقال ابن حزم في [المحلى] : مسألة: وكل ما حرم الله من المآكل والمشارب من خنزير أو صيد حرام أو ميتة أو دم أو لحم سبع طائر أو ذي أربع أو حشرة أو خمر أو غير ذلك - فهو كله عند الضرورة حلال، حاشا ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (10 \ 376) ، وانظر الفائدة الثانية في نفس الصفحة المذكورة (الناشر) .

لحوم بني آدم وما يقتل من تناوله، فلا يحل شيء من ذلك أصلا، لا بضرورة ولا بغيرها. . . وبعد أن ذكر وجه حل ذلك للمضطر قال: وأما استثناء لحوم بني آدم فلما ذكرنا قبل من الأمر بمواراتها فلا يحل غير ذلك. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [المحلى] (5 \ 426) .

المسألة الرابعة إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر

المسألة الرابعة: إلقاء أحد ركاب سفينة خشي عليها العطب فيلقى أحدهم في البحر بقرعة لينجو الباقون: الأصل في المسلمين أنهم سواء في عصمة الدم ووجوب المحافظة على حياتهم، فإذا ركب منهم جماعة سفينة ثم أحدق بها الخطر وخشي من فيها على أنفسهم الغرق وعلموا أو غلب على ظنهم أن لا نجاة لهم إلا بتخفيف السفينة بإلقاء واحد منهم بالقرعة، فهل يجوز لهم ذلك أو لا؟ هذا محل نظر واجتهاد: لذا اختلف فيه العلماء: فبعضهم لا يرى القرعة في مثل هذه المسألة؛ لاستواء الركاب في عصمة الدم، ووجوب محافظة كل منهم على حياته، فيحرم على كل منهم أن يلقي بنفسه في اليم لإنقاذ الباقين، ويحرم عليهم جميعا أن يلقوا واحدا منهم بقرعة أو بدونها؛ لأن مصلحة إنقاذ الباقين جزئية لا كلية، ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية، وبعضهم يرى إلقاء واحد منهم لإنقاذ الباقين؛ لأن المصلحة هنا وإن كانت جزئية فهي متضمنة للمحافظة على أقوى المصلحتين، وهو إنقاذ الجماعة التي لم تلق في اليم بتفويت مصلحة من ألقي فيه، وهذا مستلزم لارتكاب أخف المفسدتين وهو إلقاء أحدهم في اليم تفاديا لأشدهما، وهو هلاك الجميع إذا لم يلق أحدهم بالقرعة، وكون نجاة

من بقي ظنية لا تأثير له في منع إلقاء واحد ما دام ظنا غالبا لا وهما، فإن الظن الغالب تبنى عليه الأحكام، فإن القتل العمد العدوان يثبت به حق القصاص بشهادة عدلين، وشهادتهما إنما تفيد غلبة الظن، وكذا شهادة عدلين بالسرقة، وأربعة بزنا البكر والمحصن إلى غير هذا مما يفيد غلبة الظن وتثبت به الأحكام في الضروريات الخمس المعروفة. أما اعتبار القرعة أصلا تبنى عليه الأحكام فهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه بعد ثبوته وبناء الأحكام عليه في الكتاب والسنة في مسائل كثيرة متنوعة، قد يفيد استقراؤها القطع بثبوت هذا الأصل. وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في العمل بالقرعة في مواضع كثيرة منها هذه المسألة. أ - وقال في [نتائج الأفكار] : قوله: والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل. قال الشراح: هذا جواب الاستحسان، والقياس يأباها؛ لأن استعمال القرعة تعليق الاستحقاق بخروج القرعة وهو في معنى القمار، والقمار حرام؛ ولهذا لم يجوز علماؤنا استعمالها في دعوى النسب ودعوى الملك وتعيين العتق أو المطلقة، ولكنا تركنا القياس ههنا بالسنة والتعامل الظاهر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، وليس هذا في معنى القمار؛ لأن أصل الاستحقاق في القمار، يتعلق بما يستعمل فيه، أو فيما نحن فيه لا يتعلق أصل الاستحقاق بخروج القرعة؛ لأن القاسم لو قال: أنا عدلت في القسمة فخذ أنت هذا الجانب وأنت ذاك الجانب كان مستقيما، إلا أنه ربما يتهم في ذلك فيستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفي تهمة الميل عن نفسه، وذلك جائز، ألا يرى أن يونس

عليه السلام في مثل هذا استعمل القرعة مع أصحاب السفينة، كما قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬1) ؛ وذلك لأنه علم أنه هو المقصود، ولكن لو ألقى نفسه في الماء ربما نسب إلى ما لا يليق بالأنبياء، فاستعمل القرعة، كذلك زكريا عليه السلام، استعمل القرعة مع الأحبار في ضم مريم إلى نفسه مع علمه بكونه أحق بها منهم؛ لكون خالتها عنده تطييبا لقلوبهم، كما قال الله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬2) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد السفر تطييبا لقلوبهن. انتهى كلامهم. وعزى في [النهاية] و [معراج الدراية] هذا التفصيل إلى [المبسوط] . أقول: بين أول كلامهم هذا وآخره تدافع؛ لأنهم صرحوا أولا بأن مشروعية استعمال القرعة ههنا جواب الاستحسان، والقياس يأبى ذلك؛ لكونه في معنى القمار، وقالوا آخرا: إن هذا ليس في معنى القمار، وبينوا الفرق بينه وبين القمار، وذكروا: ورود نظائر له في الكتاب والسنة فقد دل ذلك على أنه ليس مما يأباه القياس أصلا، بل هو مما يقتضيه القياس أيضا فتدافعا. اهـ. ب - وقال في [كتاب الأم] (كتاب القرعة) : أخبرنا الربيع بن سليمان قال: أخبرنا الشافعي قال: قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬3) إلى قوله: {يَخْتَصِمُونَ} (¬4) وقال الله عز وجل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬5) {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (¬6) {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬7) (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الصافات الآية 141 (¬2) سورة آل عمران الآية 44 (¬3) سورة آل عمران الآية 44 (¬4) سورة آل عمران الآية 44 (¬5) سورة الصافات الآية 139 (¬6) سورة الصافات الآية 140 (¬7) سورة الصافات الآية 141

فأصل القرعة في كتاب الله في قصة المقترعين على مريم والمقارعي يونس مجتمعة، فلا تكون القرعة - والله أعلم - إلا بين قوم مستوين في الحجة ولا يعدو - والله تعالى أعلم - المقترعون على مريم أن يكونوا سواء في كفالتها فتنافسوها. ثم قال: فالقرعة تلزم أحدهما ما يدفع عن نفسه وتخلص له ما يرغب فيه لنفسه وتقطع ذلك عن غيره ممن هو مثل حاله، (قال) : وهكذا معنى قرعة يونس لما وقفت بهم السفينة فقالوا: ما يمنعها من أن تجري إلا علة بها، وما علتها إلا ذو ذنب فيها فتعالوا نقترع، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس عليه السلام فأخرجوه منها وأقاموا فيها، وهذا مثل معنى القرعة في الذين اقترعوا على كفالة مريم؛ لأن حال الركبان كانت مستوية وإن لم يكن في هذا حكم يلزم أحدهم في حالة شيئا لم يلزم قبل القرعة، ويزيل عن آخر شيئا كان يلزمه، فهو يثبت على بعض حقا ويبين في بعض أنه بريء منه، كما كان في الذين اقترعوا على كفالة مريم غرم وسقوط غرم، (قال الشافعي) : وقرعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه، وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معا فجعل العتق تاما لثلثهم وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة، وذلك أن المعتق في مرضه أعتق ماله ومال غيره، فجاز عتقه في ماله ولم يجز في مال غيره، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم العتق في ثلثه ولم يبعضه كما يجمع القسم بين أهل المواريث ولا يبعض عليهم، وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر، فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن، فأقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وسقط حق غيرها في غيبته بها، فإذا حضر عاد للقسم لغيرها ولم يحسب عليها أيام

سفرها، وكذلك قسم خيبر، فكان أربعة أخماسها لمن حضر ثم أقرع، فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله وانقطع منه حق غيره وانقطع حقه عن غيره. أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول عن ابن المسيب، «أن امرأة أعتقت ستة مملوكين لها عند الموت ليس لها مال غيرهم، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة (¬1) » . أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب عن رجل عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: «أن رجلا من الأنصار إما قال: أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين ليس له شيء غيرهم، وإما قال: أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة (¬2) » . إلى أن قال: (أخبرنا) ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن أبي الزناد: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قضى في رجل أوصى بعتق رقيقه وفيهم الكبير والصغير، فاستشار عمر رجالا منهم خارجة بن زيد بن ثابت فأقرع بينهم. ثم قال أبو الزناد: حدثني رجل عن الحسن: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بينهم (¬3) » . . . ثم ساق كلاما، وقال بعده: (قال الشافعي) وبهذا كله نأخذ. وحديث القرعة عن عمران بن حصين وابن المسيب موافق قول ابن عمر في العتق لا يختلفان في شيء حكي فيهما ولا في واحد منهما، وذلك أن المعتق أعتق رقيقه عند الموت ولا مال له غيرهم، وإن كان أعتقهم عتق بتات في حياته فهكذا فيما أرى الحديث، فقد دلت السنة على معاني منها: إن أعتق البتات عند الموت إذا لم يصح المريض قبل أن يموت فهو وصية كعتقه بعد الموت، فلما أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق الثلث وأرق الثلثين، استدللنا ¬

_ (¬1) سنن أبو داود العتق (3958) ، مسند أحمد بن حنبل (5/341) . (¬2) صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/428) . (¬3) صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/446) ، موطأ مالك العتق والولاء (1506) .

على أن المعتق أعتق ماله ومال غيره، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ماله ورد مال غيره. اهـ المقصود (¬1) . ج - وقال ابن حجر في [فتح الباري] (¬2) عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬3) الآية: أشار البخاري بذكر هذه الآية إلى الاحتجاج بهذه القصة في صحة الحكم بالقرعة، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، ولا سيما إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وساقه مساق الاستحسان والثناء على فاعله، وهذا منه. اهـ. وقال في تفسير قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬4) والاحتجاج بهذه الآية في إثبات القرعة يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهو كذلك ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذه المسألة من هذا القبيل؛ لأنه كان في شرعهم جواز إلقاء البعض لسلامة البعض، وليس ذلك في شرعنا؛ لأنهم مستوون في عصمة الأنفس فلا يجوز إلقاؤهم بقرعة ولا بغيرها. اهـ. وقال (¬5) : والمشهور عند الحنفية والمالكية عدم اعتبار القرعة، قال عياض: هو مشهور عند مالك وأصحابه؛ لأنه من باب الخطر والقمار، ¬

_ (¬1) [الأم] للشافعي (8 \ 3، 4) الطبعة الأولى 1381هـ (¬2) [فتح الباري] (5\292) . (¬3) سورة آل عمران الآية 44 (¬4) سورة الصافات الآية 141 (¬5) [فتح الباري] (9 \ 311)

وحكي عن الحنفية إجازتها. اهـ. وقد قالوا به في مسألة الباب، واحتج من منع من المالكية بأن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها، فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى. وقال القرطبي: ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص مشروعية القرعة بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح. اهـ. وفيه مراعاة للمذهب مع الأمن من رد الحديث أصلا لحمله على التخصيص، فكأنه خصص العموم بالمعنى.

وقال ابن حجر في [فتح الباري] : مشروعية القرعة مما اختلف فيه: والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل المصنف ضابطها الأمر المشكل، وفسرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر، وتقع المشاحة فيه فيقرع لفصل النزاع، وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال الشيء من الحق، كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثم يقترعوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا، فيضم في موضع بعينه، ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه، لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة ألا يختار واحد منهم شيئا معينا فيختاره الآخر فيقطع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية، وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقد الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات

والمؤذنين والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم، والحاضنات إذا كن في درجة، والأولياء في التزويج، والاستباق إلى الصف الأول، وفي إحياء الموات، وفي نقل المعدن، ومقاعد الأسواق، والتقديم بالدعوى عند الحاكم، والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في الخان المسبل ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القسم، والدخول في ابتداء النكاح، وفي الإقراع بين العبيد إذا أوصى بعتقهم ولم يسعهم الثلث، وهذه الأخيرة من صور القسم الثاني أيضا، وهو تعيين الملك، ومن صور تعيين الملك: الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة. اهـ (¬1) . د - قال ابن القيم في [الطرق الحكمية] فصل القرعة: ومن طرق الأحكام الحكم بالقرعة، قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (¬2) قال قتادة: (كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا عليها بسهامهم أيهم يكفلها، فقرع زكريا، وكان زوج خالتها، فضمها إليه) ، وروي نحوه عن مجاهد، وقال ابن عباس: (لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى، وهم يكتبون الوحي، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها) وهذا متفق عليه بين أهل التفسير. وقال تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬3) {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (¬4) {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬5) ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (5 \ 293، 294) . (¬2) سورة آل عمران الآية 44 (¬3) سورة الصافات الآية 139 (¬4) سورة الصافات الآية 140 (¬5) سورة الصافات الآية 141

أي: (فقارع فكان من المغلوبين) . فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم. وفي [الصحيحين] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا (¬1) » . وفي [الصحيحين] أيضا عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (¬2) » . وفي [صحيح مسلم] عن عمران بن حصين: «أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا (¬3) » . وفي [صحيح البخاري] عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين، فسارعوا إليه، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين: أيهم يحلف (¬4) » . وفي سنن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها، فليستهما عليها (¬5) » ، وفي رواية أحمد: «إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها (¬6) » ، وفيه أيضا «أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس لواحد منهما بينة، فقال: استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها (¬7) » . وفي [الصحيحين] عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، يختصمان في مواريث لهما، لم تكن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأذان (615) ، صحيح مسلم الصلاة (437) ، سنن الترمذي الصلاة (225) ، سنن النسائي الأذان (671) ، سنن أبو داود الأدب (5245) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) ، موطأ مالك النداء للصلاة (295) . (¬2) صحيح البخاري كتاب المغازي (4141) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (2770) ، سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3180) ، سنن أبو داود الأدب (5219) ، سنن ابن ماجه الحدود (2567) ، مسند أحمد بن حنبل (6/198) ، سنن الدارمي النكاح (2208) . (¬3) صحيح مسلم الأيمان (1668) ، سنن الترمذي الأحكام (1364) ، سنن النسائي الجنائز (1958) ، سنن أبو داود العتق (3958) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2345) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) ، موطأ مالك العتق والولاء (1506) . (¬4) صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3616) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/489) . (¬5) صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3617) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) . (¬6) صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3617) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) . (¬7) صحيح البخاري الشهادات (2674) ، سنن أبو داود الأقضية (3616) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/524) .

لهما بينة إلا دعواهما، فقال: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار (¬1) » رواه أبو داود في السنن، وفيه: «فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحالا (¬2) » . فهذه السنة - كما ترى - قد جاءت بالقرعة، كما جاء بها الكتاب، وفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده. قال البخاري في [صحيحه] : (ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد) وقد صنف أبو بكر الخلال مصنفا في القرعة، وهو في جامعه، فذكر مقاصده. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد: القرعة جائزة. وقال يعقوب بن بختان: سئل أبو عبد الله عن القرعة ومن قال: إنها قمار؟ قال: إن كان ممن سمع الحديث فهذا كلام رجل له خبر يزعم أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قمار. وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن ابن أكثم يقول: إن القرعة قمار، قال: هذا قول رديء خبيث، ثم قال: كيف؛ وقد يحكمون هم بالقرعة في وقت إذا قسمت الدار ولم يرضوا قالوا: يقرع بينهم، وهو يقول: لو أن رجلا له أربع نسوة فطلق إحداهن وتزوج الخامسة ولم يدر أيتهن التي طلق، قال: يورثهن جميعا، ويأمرهن أن يعتددن جميعا، وقد ورث من لا ميراث لها. وقد أمر أن تعتد من لا عدة عليها، والقرعة تصيب الحق، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبو الحارث: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله، فقلت: إن بعض الناس ينكر القرعة ويقول: هي قمار اليوم، ويقول: هي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) . (¬2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) .

منسوخة؟ فقال أبو عبد الله: من ادعى أنها منسوخة فقد كذب، وقال الزور، القرعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع في ثلاثة مواضع: أقرع بين الأعبد الستة، وأقرع بين نسائه لما أراد السفر، وأقرع بين رجلين تدارأا في دابة، وهي في القرآن في موضعين. قلت: يريد أنه أقرع بنفسه في ثلاثة مواضع، وإلا فأحاديث القرعة أكثر، وقد تقدم ذكرها. قال: وهم يقولون إذا اقتسموا الدار والأرضين أقرع بين القوم، فأيهم أصابته القرعة كان له ما أصاب من ذلك يجبر عليه. وقال الأثرم. إن أبا عبد الله ذكر القرعة واحتج بها وبينها وقال: إن قوما يقولون: القرعة قمار، ثم قال أبو عبد الله: هؤلاء قوم جهلوا، فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنن، قال الأثرم: وذكرت له أنا حديث الزبير في الكفن فقال: حديث أبي الزناد؛ فقلت: نعم، قال أبو عبد الله: قال أبو الزناد يتكلمون في القرعة وقد ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله قال في قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬1) أي: أقرع فوقعت القرعة عليه، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القرعة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه، فمن رد القرعة فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءه وفعله، ثم قال: سبحان الله لمن قد علم بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2) وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬3) قال حنبل: وقال عبد الله بن الزبير ¬

_ (¬1) سورة الصافات الآية 141 (¬2) سورة الحشر الآية 7 (¬3) سورة المائدة الآية 92

الحميدي: من قال بغير القرعة فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته التي قضى بها، وقضى بها أصحابه بعده. وقال في رواية الميموني: في القرعة خمس سنن: حديث أم سلمة: «أن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث وأشياء درست بينهم فأقرع بينهم (¬1) » ، وحديث أبي هريرة حين تدارأا في دابة فأقرع بينهما، وحديث الأعبد الستة، وحديث: أقرع بين نسائه، وحديث علي، وقد ذكر أبو عبد الله من فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ابن الزبير وابن المسيب، ثم تعجب من أصحاب الرأي وما يردون من ذلك. قال الميموني: وقال لي أبو عبيد القاسم بن سلام - وذاكرني أمر القرعة - فقال: أرى أنها من أمر النبوة، وذكر قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬2) وقوله: {فَسَاهَمَ} (¬3) وقال أحمد في رواية الفضل بن عبد الصمد: القرعة في كتاب الله، والذين يقولون: القرعة قمار قوم جهال، ثم ذكر أنها في السنة، وكذلك قال في رواية ابنه صالح: أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع، وهي في القرآن في موضعين. وقال أحمد في رواية المروزي: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن عروة، قال: أخبرني ابن الزبير: «أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم، فقال: المرأة، المرأة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2458) ، صحيح مسلم الأقضية (1713) ، سنن الترمذي الأحكام (1339) ، سنن النسائي كتاب آداب القضاة (5422) ، سنن أبو داود الأقضية (3583) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2317) ، مسند أحمد بن حنبل (6/320) ، موطأ مالك الأقضية (1424) . (¬2) سورة آل عمران الآية 44 (¬3) سورة الصافات الآية 141

قال الزبير: فتوهمت أنها أمي صفية، قال: فخرجت أسعى، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فلهدت في صدري وكانت امرأة جلدة، وقالت: إليك عني لا أم لك، قال: فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك، فرجعت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما، قال: فجئت بالثوبين ليكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، قلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فقدرناهما، فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد في الثوب الذي صار له (¬1) » . وقال في رواية صالح وحديث الأجلح عن الشعبي عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم: وهو مختلف فيه. اهـ. وقد ذكر كيفية القرعة ومواضعها. ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/165) .

المسألة الخامسة تبييت المشركين أو رميهم بما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والأطفال

المسألة الخامسة: تبييت المشركين أو رميهم بالمنجنيق ونحوه مما يعم الإهلاك به وفيهم النساء والأطفال الكفار بالنسبة للمسلمين، إما أهل حرب، أو أهل ذمة، فأهل الذمة يعاملون في الجملة معاملة المسلمين في عصمة الدم ورعاية حرمتهم أحياء وأمواتا، وإن كان ذلك في المسلمين للإسلام وفي الذميين للوفاء بالعهد. وقد سبق الكلام عنهم في المسألة الأولى والثانية والثالثة تبعا للحديث عن المسلمين. أما الكفار المحاربون فدمهم هدر، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل من لا

شأن لهم في الحرب منهم كالنساء والصبيان، وقد سبق الكلام على تبييت المحاربين من الكفار وقتالهم بما يعم إهلاكه وفيهم نساؤهم وصبيانهم في المسألة الأولى تبعا لقتالهم بما يعم وفيهم مسلمون أسارى أو تجار فأغنى عن إعادته هنا.

إجابة فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا عن حكم الطب المرضي

وقد كتب إلى فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا سؤال عن حكم الطب المرضي: فأجاب بجوازه بناء على المصلحة. وفيما يلي نص السؤال والجواب. السؤال: ما هو الحكم في إحضار الحكيم المعمول به في بعض الممالك الإسلامية الشرقية لأجل الاطلاع على من يخبر بموته وشهادته بصحة الخبر واكتشاف سبب الموت حتى لا يدفن الإنسان حيا، ولا يخفى المرض المعدي، وفي ذلك مما يفيد الأمة في حالتها الصحية ما لا يخفى، فهل ذلك - رعاكم الله - مما لا يجوز مطلقا، ولو كان الحكيم مسلما ولم يستتبع الكشف على الميت أدنى عملية جراحية أو ما يوجب أقل إهانة لكرامة الميت ولو مع تخصيص حكيم لمباشرة الرجل وحكيمة لمباشرة المرأة، أو يسوغ مطلقا أم المقام فيه تفصيل، أفيدونا تؤجروا وترحموا؟ . الجواب: ليس في هذه المسألة نص عن الشارع، وهي من المسائل الدنيوية التي تتبع فيها قاعدة: درء المفاسد وجلب المصالح، وحينئذ يختلف الحكم باختلاف الأموات، فإذا وقع الشك في موت من ظهرت عليه علامات الموتى وعلم أن الطبيب يمكنه أن يعرف الحقيقة بالكشف عليه - فإن الكشف عليه يكون متعينا، ويحرم دفنه مع بقاء الشك في موته وإبقائه عرضة للخطر، ويختار الطبيب الذي يوثق به للعلم ببراعته وأمانته

على غيره؛ لأن العبرة في ذلك بالثقة، فإذا لم يوجد طبيب مسلم يوثق به ووجد غيره اعتمد عليه، بل إذا وجد طبيب مسلم غير موثوق به وطبيب غير مسلم موثوق به بتكرار التجربة يرجح الاعتماد على الثاني؛ لأن المسألة ليست عبادة فيكون الترجيح فيها بالدين، بل أقول: إن من اشترط من الفقهاء إسلام الطبيب الذي يؤخذ بقوله في المرض الذي يبيح ترك الغسل والوضوء إلى التيمم ليس لاعتبار ذلك من أركان العدالة التي هي سبب الثقة، وقد صرحوا حتى في هذه المسألة الدينية بأن المريض إذا صدق الطبيب الكافر بأن الماء يؤذيه في مرضه كان له أن يعمل بقوله، وإذا كان من اشتبه في موته امرأة ووجدت طبيبة يوثق بها قدمت على الطبيب حتما، فإن لم توجد كشف عليها الطبيب، كما هو الشأن في جميع الأمراض، ومن درء المفاسد والقيام بالمصالح العامة ما تفعله (مصلحة الصحة) بمصر وحيث توجد من مقاومة أسباب الوباء والأمراض المعدية، ومن أعمالهم ما هو مفيد قطعا، ومنه ما تظن فائدته، فإذا علم أن في الكشف على الميت لمعرفة سبب مرضه مصلحة عامة - لم يكن ما يعبرون عنه بتكريم الميت مانعا من ذلك، نعم، إن إهانة الميت محظورة، ولكن الإهانة تكون بالقصد، وهو منتف هنا على أن درء المفاسد وحفظ المصالح العامة من الأصول التي لا تهدم بهذه الجزئيات، والمدار على العلم بأن هنا مفسدة يجب درؤها أو مصلحة يجب حفظها، فإذا علم أولو الأمر ذلك عملوا به والشرع عون لهم عليه.

إجابة فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف عن حكم إحراق جثث الموتى وتشريحهم

وقد سئل فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف عن حكم إحراق جثث الموتى وتشريحهم؟ فأجاب جوابا مستفيضا بين فيه المصالح التي تدعو إلى

التشريح وتبرره. وفيما يلي نص السؤال والجواب: السؤال: طلبت إحدى المصالح الحكومية بيان حكم الشريعة الغراء في إحراق جثث الموتى من المسلمين في زمن الأوبئة وفي حالة الوصية بذلك من المتوفى؟ . الجواب: اعلم أن تطبيب الأجسام وعلاج الأمراض أمر مشروع حفظا للنوع الإنساني حتى يبقى إلى الأمد المقدر له، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، وأمر به من أصابه مرض من أهله وأصحابه، وقال: «تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء (¬1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله (¬2) » ودرج بعده أصحابه على هديه في التداوي والعلاج. فكان الطب تعلما وتعليما مشروعا بقول الرسول وفعله، بل بدلالة الآيات الواردة بالترخيص للمريض بالفطر تمكينا له من العلاج، وبعدا عما يوجب تفاقم العلة أو الهلاك، والترخيص لمن به أذى في رأسه في الإحرام، وهو علاج للعلة وسبب للبرء، والترخيص للمريض بالعدول عن الماء إلى التراب الطاهر حمية له أن يصيب جسده، في ذلك كله تنبيه على حرص الشارع على التداوي وإزالة العلل والحمية من كل ما يؤذي الإنسان من الداخل أو الخارج، كما أشار إليه الإمام ابن القيم في زاد المعاد، فكان فن الطب علما وعملا من فروض الكفاية التي يجب على الأمة قيام طائفة منها بها، وتأثم الأمة جميعها بتركه وعدم النهوض به، كما أن جميع ما تحتاج إليه الأمة من العلوم والصناعات في تكوينها وبقائها من ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطب (2038) ، سنن أبو داود الطب (3855) ، سنن ابن ماجه الطب (3436) . (¬2) سنن ابن ماجه الطب (3438) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .

فروض الكفاية التي أمر بها الشارع، وحث عليها، وحذر من التهاون فيها. ومن مقدمات فن الطب، بل من مقوماته تشريح الأجسام، فلا يمكن الطبيب أن يقوم بطب الأجسام وعلاج الأمراض بأنواعها المختلفة إلا إذا أحاط خبرا بتشريح جسم الإنسان علما وعملا، وعرف أعضاءه الداخلية وأجزاءه المكونة لبنيته واتصالاتها ومواضعها وغير ذلك، فهو من الأمور التي لا بد منها لمن يزاول الطب حتى يقوم بما أوجب الله عليه من تطبيب المرضى وعلاج الأمراض، ولا يمتري في ذلك أحد، ولا يقال: قد كان فيما سلف طب، ولم يكن هناك تشريح؛ لأنه كان طبا بدائيا لعلل ظاهرة، وكلامنا في طب واف لشتى الأمراض والعلل، والعلوم تتزايد، والوسائل تنمو وتكثر. وإذا كان شأن التشريح ما ذكر كان واجبا بالأدلة التي أوجبت تعلم الطب وتعليمه ومباشرته بالعمل على الأمة لتقوم طائفة منها به، فإن من القواعد الأصولية: أن الشارع إذا أوجب شيئا يتضمن ذلك إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الشيء، فإذا أوجب الصلاة كان ذلك إيجابا للطهارة التي تتوقف الصلاة عليها، وإذا أوجب بما أومأنا إليه من الأدلة على الأمة تعلم فريق منها الطب وتعليمه ومباشرته، فقد أوجب بذلك عليهم تعلم التشريح وتعليمه ومزاولته عملا. هذا دليل جواز التشريح من حيث كونه علما يدرس وعملا يمارس، بل دليل وجوبه على من تخصص في مهنة الطب البشري وعلاج الأمراض، أما التشريح لأغراض أخرى كتشريح جثث القتلى لمعرفة سبب الوفاة وتحقيق ظروفها وملابساتها، والاستدلال به على ثبوت الجناية على القاتل

أو نفيها عن متهم - فلا شبهة في جوازه أيضا إذا توقف عليه الوصول إلى الحق في أمر الجناية؛ للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام حتى لا يظلم بريء، ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم. وكم كان التشريح فيصلا بين حق وباطل، وعدل وظلم، فقد يتهم إنسان بقتل آخر بسبب دس السم له في الطعام، ويشهد شهود الزور بذلك، فيثبت التشريح أنه لا أثر للسم في الجسم، وإنما مات الميت بسبب طبيعي فيبرأ المتهم، ولولا ذلك لكان في عداد القاتلين أو المسجونين، وقد يزعم مجرم ارتكب جريمة القتل ثم أحرق الجثة أن الموت بسبب الحرق لا غير، فيثبت التشريح: أن الموت جنائي، والإحراق إنما كان ستارا أسدل على الجريمة فيقتص من المجرم، ولولا ذلك لأفلت من العقاب وبقي بين الناس جرثومة فساد. وهنا قد يثار حديث كرامة جسم الإنسان وما في كشفه وتشريحه من هوان فيظن جاهل أنه لا يجوز مهما كانت بواعثه، ولكن بقليل من التأمل في قواعد الشريعة يعلم أن مدار الأحكام الشرعية على رعاية المصالح والمفاسد، فما كان فيه مصلحة راجحة يؤمر به وما كان فيه مفسدة راجحة ينهى عنه، فلا شك أن الموازنة بين ما في التشريح من هتك حرمة الجثة وما له من مصلحة في التطبيب والعلاج وتحقيق العدالة، وإنقاذ البريء من العقاب، وإثبات التهمة على المجرم الجاني تنادي برجحان هذه المصالح على تلك المفسدة.

فتوى لفضيلة الشيخ يوسف الدجوي في موضوع التشريح

ثم أتبع فتواه بفتوى في موضوع التشريح لفضيلة الشيخ يوسف الدجوي: قال: وقد اطلعت بعد كتابة هذا على فتوى في هذا الموضوع لشيخنا العلامة المحقق الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله قال فيها ما نصه:

وليس عندنا في كتب الفقه نصوص شافية في هذا الموضوع، وقد يظن ظان أن ذلك محرم لا تجيزه الشريعة التي كرمت الآدمي وحثت على إكرامه وأمرت بعدم إيذائه، ولكن العارف بروح الشريعة وما تتوخاه من المصالح وترمي إليه من الغايات - يعلم أنها توازن دائما بين المصلحة والمفسدة فتجعل الحكم لأرجحهما على ما تقتضيه الحكمة ويوجبه النظر الصحيح، فيجب إذا أن يكون نظرنا بعيدا متمشيا مع المصلحة الراجحة التي تتفق وروح الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان الكفيلة بسعادة الدنيا والآخرة. وإذن نقول: من نظر إلى أن التشريح قد يكون ضروريا في بعض الظروف؛ كما إذا اتهم شخص بالجناية على آخر وقد يبرأ من التهمة عندما يظهر التشريع أن ذلك الآخر غير مجني عليه، وقد يجنى على رجل ثم يلقى بعد الجناية عليه في بئر بقصد إخفاء الجريمة وضياع الجناية إلى غير ذلك مما هو معروف، فضلا عما في التشريح من تقدم العلم الذي تنتفع به الإنسانية كلها وينقذ كثيرا ممن أشفى على الهلكة أو أحاطت به الآلام من كل نواحيه فهو يأتيه الموت في كل مكان وما هو بميت إلى غير ذلك مما لا داعي للإطالة فيه - نقول: من نظر إلى ذلك الإجمال وما يتبعه من التفصيل لم يسعه إلا أن يفتي بالجواز تقديما للمصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، ومتى كان تشريح الميت بهذا القصد لم يكن إهانة له ولا منافيا لإكرامه، على أن هذا أولى بكثير فيما نراه مما قرره الفقهاء ونصوا عليه في كتبهم من أن الميت إذا ابتلع مالا شق بطنه لإخراجه منه ولو كان مالا قليلا، ويقدره بعض المالكية بنصاب السرقة، أي: ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وكلام الشافعية قريب من هذا، وربما كان الأمر عندهم أهون وأوسع في

تقدير المال الذي يبتلعه، فإذا قسنا ذلك المال الضئيل على ما ذكرنا من الفوائد والمصالح وجدنا الجواز لدرء تلك المفاسد وتحصيل تلك المصالح أولى من الجواز لإخراج ذلك المال القليل فهو قياس أولوي فيما نراه. انتهى. غير أنا نرى أنه لا بد من الاحتياط في ذلك حتى لا يتوسع فيه الناس بلا مبالاة فليقتصر فيه على قدر الضرورة، وليتق الله الأطباء وأولو الأمر الذين يتولون ذلك، وليعلموا أن الناقد بصير، والمهيمن قدير، والله يتولى هدى الجميع، والله أعلم.

فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء

ثم كتبت فتوى في جواز نقل عيون الموتى لترقيع قرنية الأحياء: قامت بمصر مؤسسة علمية اجتماعية تسمى: دار الإبصار تأسست في شهر يناير سنة 1951م، ومن أغراضها إيجاد مركز لجمع العيون التي تصلح لعملية ترقيع القرنية وتوفيرها وإيجاد المواد الأخرى اللازمة لهذه العملية الخاصة باسترداد البصر وتحسينه وتوزيع العيون الواردة إلى الدار على الأعضاء، وطلبت الدار من مصلحة الطب الشرعي بتاريخ 31 أكتوبر 1951 م السماح لها بالحصول على العيون اللازمة لهذه العملية من دار فحص الموتى الملحقة بمصلحة الطب الشرعي، ونظرا إلى أن الجثث التي تنقل إلى دار فحص الموتى للتشريح لمعرفة أسباب الوفاة كلها خاصة بحوادث جنائية - طلبت المصلحة بكتابها المؤرخ 18 \ 2 \ 1952 م من قسم الرأي المختص إبداء الرأي في هذا الطلب من الوجهة القانونية، فأرسل إلينا مستشار الدولة كتاب القسم المؤرخ 3 أبريل 1952م برقم (103) المتضمن طلب بيان الحكم الشرعي في هذا الموضوع وأضاف إلى ذلك أن بالولايات المتحدة معاهد مؤسسة دار الإبصار المصرية تقوم بجمع

عيون الموتى وتوزيعها على من يطلبها من الأطباء بعد التأكد من صلاحيتها فنيا لعملية الترقيع القرني، وكذلك في إنجلترا وفرنسا وجنوب إفريقيا وبعض بلدان أوربا تشريعات خاصة لتسهيل الحصول على هذه العيون، وقد اطلعنا على قانون دار الإبصار، وعلى الكتب المشار إليها، وعلى بحث ضاف في هذا الموضوع لسعادة الدكتور محمد صبحي باشا طبيب العيون الشهير. الجواب: إنه واضح مما ذكر أن الباعث على طلب هذه المؤسسة للحصول على عيون بعض الموتى إنما هو التوصل بها فنيا إلى دفع الضرر الفادح عن الأحياء المصابين في أبصارهم وذلك مقصد عظيم تقره الشريعة الإسلامية، بل تحث عليه، فإذن المحافظة على النفس من المقاصد الكلية الضرورية للشريعة الغراء، فإذا ثبت علميا أن ترقيع القرنية لهذه العيون هو الوسيلة الفنية لدرء خطر العمى أو ضعف البصر عند الإنسان - يجوز شرعا نزع عيون بعض الموتى لذلك بقدر ما تستدعيه الضرورة؛ لوجوب المحافظة على النفس؛ ولذا تقررت مشروعية التداوي من الأمراض؛ محافظة على النفس من الآفات، فقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ألم به من الأمراض، وأمر الناس بالتداوي لإزالة العلل والآلام فيما هو أقل شأنا مما نحن بصدده، وذلك يستلزم مشروعية وسائله وجواز استعمال ما تقتضيه ضرورة التداوي والعلاج، ولو كان محظورا شرعا إذا لم يقم غيره مما ليس بمحظور مقامه في نفعه، بأن تعين التداوي به، على أن الواجب شرعا على الأمة أن تختص منها طائفة بالطب والعلاج بقدر ما تستدعيه حاجتها، وبحسب تنوع أمراضها، فيجب أن يكون فيها أطباء في كل فروع الطب،

ومنهم أطباء العيون، سدا لحاجة الأمة في هذا الفرع بحيث إذا قصرت الأمة في ذلك كانت آثمة شرعا، وهذا الواجب هو المعروف في الأصول بالواجب الكفائي أو الفرض الكفائي، ويجب عليهم أن يحذقوا الفن حتى يؤدوا وظائفهم أكمل أداء، فإذا هدوا إلى علاج نافع لأمراض العيون يحفظ حاسة البصر أو يعيدها بعد الفقدان وجب عليهم أن ينفعوا الناس به، ووجب تمكينهم من وسائله بقدر ما تقتضيه الضرورة والحاجة، وللوسائل في الشرع حكم المقاصد؛ ولذلك جاز أن يباشر طلاب الطب وأساتذته تشريح جثث الموتى ما دام ذلك هو السبيل الوحيد لتعلم فن الطب وتعليمه والعمل به، وبدونه لا يكون طب صحيح ولا علاج مثمر، بل لا يعد طبيبا من لا يعرف فن التشريح علما وعملا، كما قرر ذلك جميع الأطباء. فيجب أن يمكن أطباء هذه المؤسسة من القيام بهذه المهمة الإنسانية الجليلة وعلاج عيون الأحياء بعيون الموتى الصالحة لذلك كشفا للضر عنهم، ولا يمنع من ذلك ما يرى فيه من انتهاك حرمة الموتى، فإن علاج الأحياء من الضروريات التي يباح فيها شرعا بارتكاب هذا المحظور، هذا بتسليم أنه انتهاك لحرمة الموتى، ولكن من القواعد الشرعية أن الضروريات تبيح المحظورات؛ ولذا أبيح عند المخمصة أكل الميتة المحرمة، وعند الغصة إساغة اللقمة بجرعة من الخمر المحرمة إحياء للنفس إذا لم يوجد سواهما مما يحل، وجاز دفع الصائل ولو أدى إلى قتله، وجاز شق بطن الميتة لإخراج الولد منها إذا كانت حياته ترجى، بل قيل بجواز شق بطن الميت إذا ابتلع لؤلؤة ثمينة أو دنانير لغيره، وإباحة المحظورات تقديرا للضرورات قاعدة يقتضيها العقل والشرع، وفي الحديث: «لا ضرر ولا

ضرار (¬1) » وقد بني عليها كثير من الأحكام؛ ولذا قال الفقهاء: الضرر يزال، فعملا بهذه القاعدة يجوز نزع عيون بعض الموتى - مع ما فيه من المساس بحرمتهم - لإنقاذ عيون الأحياء من مضرة العمى والمرض الشديد. ومن القواعد العامة: أن الحاجة تنزل منزل الضرورة عامة كانت أو خاصة؛ ولذا أجاز الفقهاء بيع السلم مع كونه بيع المعدوم دفعا لحاجة المفلسين، وأجازوا بيع الوفاء دفعا لحاجة المدينين، ولا شك أن حاجة الأحياء إلى العلاج ودفع ضرر الأمراض وخطرها بمنزلة الضرورة التي يباح من أجلها ما هو محظور شرعا، والدين يسر لا حرج فيه، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2) على أنه إذا قارنا بين مضرة ترك العيون تفقد حاسة الإبصار ومضرة انتهاك حرمة الموتى - نجد الثانية أخف ضررا من الأولى، ومن المبادئ الشرعية: أنه (إذا تعارضت مفسدتان تدرأ أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ضررا، ولا شك أن الإضرار بالميت أخف من الإضرار بالحي، ويجب أن يعلم أن إباحة نزع هذه العيون لهذا الغرض مقيدة بقدر ما تستدعيه الضرورة؛ لما تقرر شرعا أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها فقط؛ ولذلك لا يجوز للمضطر لأكل الميتة إلا قدر ما يسد الرمق، وللمضطر لإزالة الغصة بالخمر إلا الجرعة المزيلة لها فقط، ولا يجوز أن تستر الجبيرة من الأعضاء الصحيحة إلا القدر الضروري لوضعها، ولا يجوز للطبيب أن ينظر من العورة إلا بقدر الحاجة الضرورية، وغير خاف أن ابتناء الأحكام ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) . (¬2) سورة الحج الآية 78

على المبادئ العامة والقواعد الكلية مسلك أصولي في تعريف الأحكام الجزئية للحوادث والوقائع النازلة التي لم يرد فيها بعينها نص عن الشارع، ولذلك نجد الشريعة الإسلامية لا تضيق ذرعا بحادث جديد، بل تفسح له صدرها وتشمله قواعدها الكلية ومبادئها العامة. وإذ قد علم من هذا: أنه يجوز شرعا، بل قد يتعين نزع عيون بعض الموتى لهذا الغرض العلمي الإنساني بقدر ما تستدعيه الضرورة - يعلم أنه لا يجوز أن يكون ذلك بقانون عام يخضع له جميع الموتى على السواء؛ لأن ذلك - فضلا عن أنه لا تقتضيه الضرورة كما هو ظاهر - مفض إلى مفسدة عامة لا وزن بجانبها لمصلحة علاج مريض أو مرضى، مظهرها ثورة أولياء الموتى وأهليهم إذا أريد انتزاع عيون موتاهم قهرا ثورة جامحة عامة، فيجب أن يقتصر في ذلك على عيون بعض الموتى ممن ليس لهم أولياء ولا يعرف لهم أهل، ومن الجناة الذين يحكم عليهم بالإعدام قصاصا، والتحديد بهذا واف بالغرض دون اعتراض أحد أو مساس بحقه. والله أعلم.

فتوى الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في حكم أخذ جزء من جسد إنسان وتركيبه في آخر مضطر إليه برضا من أخذ منه

ولفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي فتوى تتعلق بالموضوع رأينا إثباتها. وفيما يلي نصها (¬1) : سؤال: هل يجوز أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه برضا من أخذ منه؟ . جواب: جميع المسائل التي تحدث في كل وقت، سواء حدثت ¬

_ (¬1) [الفتاوى السعدية] للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ص 143 - 148.

أجناسها أو أفرادها - يجب أن تتصور قبل كل شيء، فإذا عرفت حقيقتها، وشخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورا تاما بذاتها ومقدماتها ونتائجها - طبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية، فإن الشرع يحل جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية، يحلها حلا مرضيا للعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، ويشترط أن ينظر فيه البصير من جميع نواحيه وجوانبه الواقعية والشرعية، فنحن في هذه المسألة قبل كل شيء نقف على الحياد، حتى يتضح لنا اتضاحا تاما للجزم بأحد القولين. فنقول: من الناس من يقول: هذه الأشياء لا تجوز؛ لأن الأصل أن الإنسان ليس له التصرف في بدنه بإتلاف أو قطع شيء منه أو التمثيل به؛ لأنه أمانة عنده لله؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1) والمسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه. أما المال: فإنه يباح بإباحة صاحبه، وبالأسباب التي جعلها الشارع وسيلة لإباحة التملكات. وأما الدم: فلا يباح بوجه من الوجوه، ولو أباحه صاحبه لغيره، سواء كان نفسا أو عضوا أو دما أو غيره، إلا على وجه القصاص بشروطه، أو في الحالة التي أباحها الشارع، وهي أمور معروفة ليس منها هذا المسئول عنه. ثم إن ما زعموه من المصالح للغير، معارض بالمضرة اللاحقة لمن قطع منه ذلك الجزء، فكم من إنسان تلف أو مرض بهذا العمل. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 195

ويؤيد هذا قول الفقهاء: من ماتت وهي حامل بحمل حي لم يحل شق بطنها لإخراجه، ولو غلب الظن، أو لو تيقنا خروجه حيا، إلا إذا خرج بعضه حيا فيشق للباقي، فإذا كان هذا في الميتة فكيف حال الحي؛ فالمؤمن بدنه محترم حيا وميتا. ويؤخذ من هذا أيضا أن الدم نجس خبيث، وكل نجس خبيث لا يحل التداوي به، مع ما يخشى عند أخذ دم الإنسان من هلاك أو مرض، فهذا من حجج هذا القول. ومن الناس من يقول: لا بأس بذلك؛ لأننا إذا طبقنا هذه المسألة على الأصل العظيم للمحيط الشرعي - صارت من أوائل ما يدخل فيه، وأن ذلك مباح، بل ربما يكون مستحبا، وذلك أن الأصل: إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، فإن رجحت المفاسد أو تكافأت منع منه، وصار درء المفاسد في هذه الحال أولى من جلب المصالح، وإن رجحت المصالح والمنافع على المفاسد والمضار اتبعت المصالح الراجحة. وهذه المذكورات مصالحها عظيمة معروفة، ومضارها إذا قدرت فهي جزئية يسيرة منغمرة في المصالح المتنوعة. ويؤيد هذا: أن حجة القول الأول، وهي: أن الأصل أن بدن الإنسان محترم لا يباح بالإباحة، متى اعتبرنا فيه هذا الأصل، فإنه يباح كثير من ذلك للمصلحة الكثيرة المنغمرة في المفسدة بفقد ذلك العضو أو التمثيل به، فإنه يباح لمن وقعت فيه الآكلة التي يخشى أن ترعى بقية بدنه، يجوز قطع العضو المتآكل لسلامة الباقي، وكذلك يجوز قطع الضلع التي لا خطر في قطعها، ويجوز التمثيل في البدن بشق البطن أو غيره؛ للتمكن من علاج

المرض، ويجوز قلع الضرس ونحوه عند التألم الكثير، وأمور كثيرة من هذا النوع أبيحت لما يترتب عليها من حصول مصلحة أو دفع مضرة. وأيضا فإن كثيرا من هذه الأمور المسئول عنها، يترتب عليها المصالح من دون ضرر يحدث، فما كان كذلك فإن الشارع لا يحرمه، وقد نبه الله تعالى على هذا الأصل في عدة مواضع من كتابه، ومنه قوله عن الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1) فمفهوم الآية: أن ما كانت منافعه ومصالحه أكثر من مفاسده وإثمه، فإن الله لا يحرمه ولا يمنعه، وأيضا فإن مهرة الأطباء المعتبرين متى قرروا تقريرا متفقا عليه أنه لا ضرر على المأخوذ من جسده ذلك الجزء، وعرفنا ما يحصل من ذلك من مصلحة الغير، كانت مصلحة محضة خالية من المفسدة، وإن كان كثير من أهل العلم يجوزون، بل يستحسنون إيثار الإنسان غيره على نفسه بطعام أو شراب هو أحق به منه، ولو تضمن ذلك تلفه أو مرضه ونحو ذلك، فكيف بالإيثار بجزء من بدنه لنفع أخيه النفع العظيم من غير خطر تلف، بل ولا مرض، وربما كان في ذلك نفع له، إذا كان المؤثر قريبا أو صديقا خاصا، أو صاحب حق كبير، أو أخذ عليه نفعا دنيويا ينفعه، أو ينفع من بعده. ويؤيد هذا أن كثيرا من الفتاوى تتغير بتغير الأزمان والأحوال والتطورات، وخصوصا الأمور التي ترجع إلى المنافع والمضار. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 219

ومن المعلوم أن ترقي الطب الحديث له أثره الأكبر في هذه الأمور، كما هو معلوم مشاهد، والشارع أخبر بأنه ما من داء إلا وله شفاء، وأمر بالتداوي خصوصا وعموما، فإذا تعين الدواء وحصول المنفعة بأخذ جزء من هذا، ووضعه في الآخر، من غير ضرر يلحق المأخوذ منه - فهو داخل فيما أباحه الشارع، وإن كان قبل ذلك، وقبل ارتقاء الطب فيه ضرر أو خطر، فيراعى كل وقت بحسبه؛ ولهذا نجيب عن كلام أهل العلم القائلين: بأن الأصل في أجزاء الآدمي تحريم أخذها، وتحريم التمثيل بها، فيقال: هذا يوم كان ذلك خطرا أو ضررا، أو ربما أدى إلى الهلاك، وذلك أيضا في الحالة التي ينتهك فيها بدن الآدمي وتنتهك حرمته، فأما في هذا الوقت، فالأمران مفقودان: الضرر مفقود، وانتهاك الحرمة مفقود، فإن الإنسان قد رضي كل الرضا بذلك، واختاره مطمئنا مختارا، لا ضرر عليه، ولا يسقط شيء من حرمته، والشارع إنما أمر باحترام الآدمي تشريفا له وتكريما، والحالة الحاضرة غير الحالة الغابرة. ونحن إنما أجزنا ذلك إذا كان المتولي طبيبا ماهرا، وقد وجدت تجارب عديدة للنفع وعدم الضرر، فبهذا يزول المحذور. ومما يؤيد ذلك ما قاله غير واحد من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه إذا أشكل عليك شيء، هل هو حلال أم حرام، أو مأمور به أو منهي عنه؛ فانظر إلى أسبابه الموجبة وآثاره ونتائجه الحاصلة، فإذا كانت منافع ومصالح وخيرات وثمراتها طيبة، كان من قسم المباح أو المأمور به، وإذا كان بالعكس، كانت بعكس ذلك. طبق هذه المسألة على هذا الأصل، وانظر أسبابها وثمراتها، تجدها

أسبابا لا محذور فيها، وثمراتها خير الثمرات. وإذ قال الأولون: أما ثمراتها - (غير متيقنة) فنحن نوافق عليها، ولا يمكننا إلا الاعتراف بها، ولكن الأسباب محرمة كما ذكرنا في أن الأصل في أجزاء الآدمي: التحريم، وأن استعمال الدم استعمال للدواء الخبيث، فقد أجبنا عن ذلك بأن العلة في تحريم الأجزاء إقامة حرمة الآدمي، ودفع الانتهاك الفظيع، وهذا مفقود هنا. وأما الدم فليس عنه جواب إلا أن نقول: إن مفسدته تنغمر في مصالحه الكثيرة، وأيضا ربما ندعي أن هذا الدم الذي ينقل من بدن إلى آخر ليس من جنس الدم الخارج الخبيث المطلوب اجتنابه والبعد عنه، وإنما هذا الدم هو روح الإنسان وقوته وغذاؤه، فهو بمنزلة الأجزاء أو دونها، ولم يخرجه الإنسان رغبة عنه، وإنما هو إيثار لغيره، وبذل من قوته لقوة مخيره، وبهذا يخف خبثه في ذاته، وتلطفه في آثاره الحميدة؛ ولهذا حرم الله الدم المسفوح، وجعله خبيثا، فيدل (هذا) على أن الدماء في اللحم والعروق، وفي معدنها قبل بروزها ليست محكوما عليها بالتحريم والخبث. فقال الأولون: هذا من الدم المسفوح، فإنه لا فرق بين استخراجه بسكين أو إبرة أو غيرها، أو ينجرح الجسد من نفسه فيخرج الدم، فكل ذلك دم مسفوح محرم خبيث، فكيف تجيزونه، ولا فرق بين سفحه لقتل الإنسان أو الحيوان، أو سفحه لأكل، أو سفحه للتداوي به، فمن فرق بين هذه الأمور فعليه الدليل. فقال هؤلاء المجيزون: هب أنا عجزنا عن الجواب عن حل الدم المذكور فقد ذكرنا لكم عن أصول الشريعة ومصالحها ما يدل على إباحة

أخذ جزء من أجزاء الإنسان لإصلاح غيره، إذا لم يكن فيه ضرر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (¬1) » و «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد (¬2) » . فعموم هذا يدل على هذه المسألة، وأن ذلك جائز. فإذا قلتم: إن هذا في التواد والتراحم والتعاطف، كما ذكره النبي لا في وصل أعضائه بأعضائه. قلنا: إذا لم يكن ضرر، ولأخيه فيه نفع فما الذي يخرجه من هذا، وهل هذا إلا فرد من أفراده؛ كما أنه داخل في الإيثار، وإذا كان من أعظم خصال العبد الحميدة مدافعته عن نفس أخيه وماله ولو حصل عليه ضرر في بدنه أو ماله - فهذه المسألة من باب أولى وأحرى، وكذلك من فضائله تحصيل مصالح أخيه، وإن طالت المشقة، وعظمت الشقة، فهذه كذلك وأولى. ونهاية الأمر: أن هذا الضرر غير موجود في هذا الزمن، فحيث انتقلت الحال إلى ضدها وزال الضرر والخطر، فلم لا يجوز؛ ويختلف الحكم فيه لاختلاف العلة. ويلاحظ أيضا في هذه الأوقات التسهيل، ومجاراة الأحوال، إذا لم تخالف نصا شرعيا؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون، وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولم يلتزم. فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر، ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك؛ لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير، كما يلاحظ أيضا أن العرف عند الناس: أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزا دون المصالح الخالصة أو الراجحة، بل يجاري الأحوال والأزمان ويتتبع المنافع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) . (¬2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .

والمصالح الكلية والجزئية، فإن الملحدين يموهون على الجهال أن الدين الإسلامي لا يصلح لمجاراة الأحوال والتطورات الحديثة، وهم في ذلك مفترون، فإن الدين الإسلامي به الصلاح المطلق من كل وجه، الكلي والجزئي، وهو حلال لكل مشكلة خاصة أو عامة، وغير قاصر من جميع الوجوه.

الموضوع الرابع المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بني عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم

الموضوع الرابع: المقارنة بين المصالح التي بني عليها تشريح جثث الآدمي والمصالح التي بني عليها فقهاء الإسلام الاستثناء من قاعدة عصمة دماء بني آدم ووجوب تكريمهم ورعاية حرمتهم: إن شريعة الإسلام تنزيل من حكيم حميد، عليم بما كان وما سيكون، وأنزلها على خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، وجعلها قواعد كلية، ومقاصد سامية شاملة، فكانت تشريعا عاما خالدا صالحا لجميع طبقات الخلق في كل زمان ومكان. إن كثيرا من الجزئيات والوقائع التي حدثت لا نجدها منصوصا عليها نفسها في الكتاب أو السنة، وربما لم تكن وقعت من قبل فلا يعرف لسلفنا الصالح فيها حكم، لكن يتبين لبحث علماء الإسلام عنها أنها مندرجة في قاعدة شرعية عامة، ومن ثم يعرف حكمها، ومسألة تشريح جثث موتى بني آدم لا تعدو أن تكون جزئية من هذه الجزئيات التي لم ينص عليها في نص خاص، فشأنها شأن الوقائع التي جدت، لا بد أن تكون مشمولة بقاعدة كلية من قواعد الشريعة، وراجعة لمقصد عام من مقاصدها العالية: (ضرورة كمال الشريعة وشمولها، وصلاحيتها لجميع الخلق، وختمها

بمن أرسل رحمة للعالمين) قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬1) وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬2) وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3) وثبت في الحديث «لا أحد أحب إليه العذر من الله (¬4) » . من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وبالبحث عن مسألة التشريح تبين أنها مندرجة تحت قواعد الشريعة العامة، وراجعة إلى المصالح المعتبرة شرعا، وأن لها نظائر من المسائل التي حكم فيها الفقهاء مع اختلاف نظرهم واجتهادهم فيها، وهذا مما ينير الطريق، ويهدي الباحث في مسألة التشريح ويساعده على الوصول إلى ما قد يكون صوابا إن شاء الله. إن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة: أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديا لأشدهما، ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال، فإن مصلحة حرمة الميت مسلما كان أو ذميا تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة والمتهم عند الاشتباه، فقد ينتهي الأمر بالتشريح والتحقيق مع المتهم إلى إثبات الجناية عليه، وفي ذلك حفظ لحق أولياء الميت، وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن، وردع لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه ¬

_ (¬1) سورة مريم الآية 64 (¬2) سورة النساء الآية 165 (¬3) سورة المائدة الآية 3 (¬4) صحيح البخاري التوحيد (7416) ، صحيح مسلم اللعان (1499) ، مسند أحمد بن حنبل (4/248) ، سنن الدارمي النكاح (2227) .

الجريمة خفية، وقد ينتهي الأمر بثبوت موته موتا عاديا، وفي ذلك براءة المتهم، كما أن في التشريح المرضي معرفة ما إذا كان هناك وباء، ومعرفة نوعه، فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة، وفي هذا المحافظة على نفوس الأحياء والحد من أسباب الأمراض، وقد حثت الشريعة على الوقاية من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها، وفي هذا مصلحة للأمة ومحافظة على سلامتها وإنقاذها مما يخشى أن يصيبها جريا على ما اقتضت به سنة الله شرعا وقدرا. وفي تعريف الطلاب تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة والأجهزة الباطنة ومواضعها وحجمها صحيحة ومريضة، وتدريبهم على ذلك عمليا وتعريفهم بإصاباتها وطرق علاجها - في هذا وغيره مما تقدم بيانه في الموضوع الثاني، وما ذكر في فتوى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف وما ذكره الأطباء - مصالح كثيرة تعود على الأمة بالخير العميم، فإذا تعارضت مصلحة المحافظة على حرمة الميت مع هذه المصالح نظر العلماء أي المصلحتين أرجح فبني عليها الحكم منعا أو إباحة، وقد يقال: إن مصلحة الأمة في مسألتنا أرجح لكونها كلية عامة، ولكونها قطعية، كما دل على ذلك الواقع والتجربة، وهي عائدة إلى حفظ نفوس الناس وحفظها من الضروريات التي جاءت بمراعاتها وصيانتها جميع شرائع الأنبياء، وقد وجدت نظائر لمسألة التشريح بحثها فقهاء الإسلام، منها: المسائل الخمس التي تقدم ذكرها، فقد بحثوها وبينوا الحكم فيها على ما ظهر لهم، فمسألة تترس الكفار بأسرى المسلمين ونحوهم في الحرب رجح كثير منهم رمي الترس إيثارا للمصلحة العامة، وكذا رجح كثير منهم شق بطن

من ماتت وفي بطنها جنين حي، وأكل المضطر لحم آدمي ميت؛ إبقاء على حياته، وإيثار الجانب الحي على الجانب الميت، وبإلقاء أحد ركاب سفينة خيف عليهم الغرق ولا نجاة لهم إلا بإلقاء واحد منهم، إيثارا لمصلحة الجماعة على مصلحة الواحد، وقد سبق تفصيل ذلك، فلا يبعد أن يقال يجوز التشريح إلحاقا له بهذه النظائر في الحكم. وقد يقال: إن الحوادث كانت منذ كان الناس، والطب قديم، والحاجة إلى تشخيص الأمراض ومعرفة أسبابها وطرق علاجها كان في العهود الأولى، ولم يتوقف شيء من ذلك على التشريح؛ ولهذا لم يقدم الأطباء قديما على التشريح، فلم نقدم عليه اليوم؟ وقد أورد فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف هذا السؤال على نفسه وأوضحه ثم أجاب عنه في فتواه التي سبق ذكرها. وقد يقال أيضا: إن اقتضت المصلحة - ولا بد - تشريح إنسان ميت فليقتصر على تشريح المحاربين فإن دمهم هدر، ويستثنى منهم من نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم كنسائهم وصبيانهم، ولا ينافي ذلك ما ورد عنه من النهي عن التمثيل بقتلاهم فإن نهيه عنه مقيد بما إذا لم يوجد ما يقتضي التمثيل بهم، وهنا قد وجدت الضرورة، وبهذا يجمع بين مصلحة حرمة الميت المسلم والذمي ومصلحة الخدمات الطبية. وربما نوقش ذلك باحتمال عدم الكفاية بتشريح المحاربين أو عدم تيسر الحصول عليهم فيعود الأمر إلى البحث في تشريح جثث موتى المسلمين ومن في حكمهم، قد يقال: لا ضرورة تلجئ إلى تشريح جثث الموتى مطلقا، إذا يمكن أن يستغنى عن ذلك بتشريح الحيوانات بعد ذبح ما يذبح منها ذبحا شرعيا محافظة على المال.

ففي ذلك غنية عن تشريح جثث بني آدم وجمع بين مصلحة موتى الآدميين ومصلحة الخدمات الطبية، فإن لم يتيسر الاكتفاء بتشريحها فلا أقل من أن لا تشرح جثث بني آدم، إلا فيما لا يمكن الاكتفاء فيه بتشريح جثث الحيوانات، تقليلا للمفسدة ومحافظة على حرمة الموتى بقدر الإمكان. وللدكتور محمد عبد الفتاح هدارة كلمة بين فيها أوجه الشبه والخلاف بين جسم الإنسان وجسم الحيوانات الأخرى القريبة الشبه به قد تعتبر جوابا عن ذلك من مختص في علم التشريح المقارن وفيما يلي نصها: أوجه الشبه والخلاف يستلزم تدريب الطبيب للممارسة الصحيحة للطب والجراحة أن يعرف حجم وشكل ومكان وتركيب كل عضو وما يجاوره من الأعضاء الأخرى في الجسم السليم، إذ يمكنه بعدئذ أن يعرف ما قد يطرأ من تغييرات على حجم وشكل ومكان وتركيب أي من هذه الأعضاء بسبب المرض. فالمعرفة المذكورة المطلوبة معرفة تفصيلية دقيقة يصعب تصورها أو الحصول عليها دون تشريح الأجسام البشرية، ولا يمكن الاستعاضة في هذا المضمار عن الجسم البشري بجسم حيوان آخر. فأقرب الحيوانات إلى شكل الإنسان هي مجموعة الأنواع التي تعرف بذوات الثدي أو الثدييات، وهي التي تلد وترضع أولادها، والشبه بينها وبين الإنسان عام، ولكن هناك الاختلافات الكثيرة، ولا تفيد دراسة تفاصيل جسم حيوان ثديي في فهم تفاصيل الجسم البشري التي تعين على تشخيص الأمراض في أحوال كثيرة.

فالاعتماد على تشريح الحيوانات الثديية وحدها، حتى أقربها إلى الإنسان شكلا لا يعطي فكرة صادقة عن تفاصيل الجسم البشري، وقد يزرع في ذهن الأطباء عامة صورة غير صادقة عن تركيب الجسم البشري تكون سببا في ارتكاب الأطباء للأخطاء الفنية. وخير ما يدل هو إبراز بعض أوجه الخلاف. الهيكل العظمي وما يتصل به من مفاصل وعضلات: يختلف هيكل الإنسان عن هيكل الثدييات الأخرى في مقاييس العظام المكونة له واعتداله، وتقوسات العمود الفقري، وشكل الحوض والقفص الصدري، كما تختلف نسب وأشكال عظام الأطراف والمفاصل التي بينها وخاصة اليد والقدم، وعظام العضوين المذكورين تختلف في عددها وطرق تفصيلها والعضلات المتصلة بها، وأما اليد فعضو إنساني بلغ في الإنسان مبلغا من الدقة لا يوجد في سائر الثدييات. أما الرأس فنسب الأعضاء فيه مختلفة اختلافا كبيرا في سائر الثدييات فهيكل الفكين في الثدييات يكون جزءا كبيرا من الجمجمة في حين أن صندوق الدماغ فيها صغير نسبيا، ووضع تجاويف الأنف وحجاج العين يختلف في الثدييات عن الإنسان. الأحشاء الداخلية: الأحشاء الداخلية سواء كانت في الصدر أم في البطن - تختلف في نسبها وشكلها العام في الإنسان عن سائر الثدييات، فمعدة الإنسان بسيطة، وقد تكون متعددة الأجزاء في الحيوانات المجترة، وأمعاؤه تخالف في الطول وفي الوضع أمعاء الثدييات الأخرى. ورحم الإنسان بسيط، وقد يكون ذا قرنين معقدين في كثير من

الثدييات. وكلية الإنسان ذات سطح ناعم لا أخاديد به رغم تعدد ما بها من الفصوص، وكلى الثدييات تختلف، فبعضها ذات فص واحد، وبعضها متعدد الفصوص، ولكن يفصل بين فصوصها أخاديد تبدو على سطحها. ودماغ الإنسان أكبر بكثير من أدمغة الحيوانات الثديية التي تماثله حجما، بل والتي تكبره بكثير مع اختلاف شكل دماغ الإنسان ونسب أجزائه عن أدمغة الثدييات الأخرى. وهناك فروق كثيرة في التركيب الميكروسكوبي لأعضاء الإنسان وأعضاء الثدييات، وإن كان الشبه بين أعضاء الثدييات عاما، بالإضافة إلى أن هناك فروقا في التركيب الميكروسكوبي للأعضاء السليمة والأعضاء المريضة في جسم الإنسان لا بد من معرفتها حتى يعرف طبيعة المرض. هذا ما تيسر إعداده، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم. حرر في 21 \ 7 \ 1396 هـ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية

قرار هيئة كبار العلماء رقم (47) وتاريخ 20 \ 8 \ 1396هـ الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ - جرى الاطلاع على خطاب معالي وزير العدل رقم (3231 \ 2 \ خ) المبني على خطاب وكيل وزارة الخارجية رقم (34 \ 1 \ 2 \ 13446 \ 3) وتاريخ 6 \ 8 \ 1395 هـ المشفوع به صورة مذكرة السفارة الماليزية بجدة - المتضمنة استفسارها عن رأي وموقف المملكة العربية السعودية من إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم، وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية. كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية. الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلما وتعليما. وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه - قرر المجلس ما يلي:

بالنسبة للقسمين الأول والثاني: فإن المجلس يرى: أن في إجازتهما تحقيقا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع: إجازة التشريح لهذين الغرضين، سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا. وأما بالنسبة للقسم الثالث: وهو التشريح للغرض التعليمي فنظرا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها. وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان. وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة: فإن المجلس يرى: جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلا أنه نظرا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتا كعنايتها بكرامته حيا؛ وذلك لما روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (¬1) » . ونظرا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثث أموات غير معصومة: فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .

والحال ما ذكر. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة محمد بن علي الحركان عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله بن خياط ... عبد الرزاق عفيفي عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

القسامة

(2) القسامة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم القسامة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد (¬1) : فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ موضوع (القسامة، هل الورثة هم الذين يحلفون أيمان القسامة، أو أن العصبة بالنفس هم الذين يحلفون ولو كانوا غير وارثين إذا كانوا ذكورا بالغين؟) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء من أن يدرج موضوع القسامة ضمن المواضيع التي اتفق المجلس على إعداد بحوث فيها - فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الرابع، ص83 - 181، سنة 1398 هـ.

يشتمل على العناصر التالية: 1 - بيان اشتقاق القسامة، وتحديد معناها في اللغة، والمراد بها عند الفقهاء. 2 - بيان مستند من عمل بالقسامة، ومستند من لم يعمل بها، ومناقشة كل منهما. 3 - ضابط اللوث وبيان صوره، واختلاف العلماء فيها، ومنشأ ذلك، مع المناقشة. 4 - هل يتعين أن يكون المدعى عليه في القسامة واحدا، أو يجوز أن يكون أكثر ولو مبهما، مع ذكر الدليل والمناقشة. 5 - ذكر اختلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا، من مدع ومدعى عليه، ومستند كل مع المناقشة. 6 - ذكر خلاف العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة، وبيان ذلك، ومستند كل مع المناقشة، وهل ترد الأيمان إذا نقص العدد أو لا؟ 7 - خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول، مع الأدلة والمناقشة. 8 - ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية، وذكر مستند كل، مع المناقشة. 9 - خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليهم أكثر من واحد، وفي العدول عن القتل إلى دفع الدية، مع الأدلة والمناقشة. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

العنصر الأول معنى القسامة

الأول: معنى القسامة: المراد بالقسامة في اللغة: أ - قال أحمد بن فارس: (قسم) القاف والسين والميم أصلان صحيحان يدل أحدهما على جمال وحسن، والآخر على تجزئة شيء. . . وبعد كلامه على الأصل الأول قال: والأصل الآخر: القسم، مصدر قسمت الشيء قسما، والنصيب قسم بكسر القاف، فأما اليمين فالقسم، قال أهل اللغة: أصل ذلك من القسامة، وهي: الأيمان تقسم على أولياء المقتول إذا ادعوا دم مقتولهم على ناس اتهموهم به. ب - وقال ابن منظور نقلا عن ابن سيده: والقسامة: الجماعة يقسمون على الشيء أو يشهدون، ويمين القسامة منسوبة إليهم، وفي حديث: «الأيمان تقسم على أولياء الدم» . وقال أيضا نقلا عن ابن زيد: جاءت قسامة الرجل، سمي بالمصدر، وقتل فلان فلانا بالقسامة، أي: باليمين، وجاءت قسامة من بني فلان وأصله اليمين ثم جعل قوما، وقال أيضا نقلا عن الأزهري: القسامة: اسم من الإقسام، وضع موضع المصدر، ثم يقال للذين يقسمون: قسامة (¬1) . ج - وقال الحسين بن أحمد السيافي: وقد اختلف كلام أهل اللغة في معناها: فقيل: هي اسم للأيمان تقسم على خمسين رجلا من أهل المحلة التي يوجد فيها القتيل لا يعلم قاتله، وهي على هذا مأخوذة من التقسيم، وقيل: هي اسم للجماعة يقسمون على الشيء ويشهدون به ويمين القسامة ¬

_ (¬1) [لسان العرب] (15 \ 381، 382)

منسوبة إليهم ثم أطلقت على الأيمان نفسها، ذكره في [المحكم] ونحوه في [القاموس] ، وقيل: بل هي اسم للأيمان، وهي مصدر أقسم يقسم قسما وقسامة ... (¬1) . ¬

_ (¬1) [الروض النظير، (4 \ 285) .

المراد بالقسامة عند الفقهاء

المراد بالقسامة عند الفقهاء: أ - قال الكاساني: هي: اليمين بالله تبارك وتعالى بسبب مخصوص، وعدد مخصوص، وعلى شخص مخصوص، وهو المدعى عليه، وعلى وجه مخصوص، وهو أن يقسم خمسون من أهل المحلة إذا وجد قتيل فيها بالله ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلا، فإذا حلفوا يغرمون الدية، وهذا عند أصحابنا رحمهم الله تعالى (¬1) . ب - وقال أحمد الشلبي: ثم القسامة عبارة عن الأيمان التي تعرض على خمسين رجلا من أهل المحلة أو الدار إذا وجد فيها قتيل لم يعرف قاتله، فإن لم يبلغ الرجال خمسين رجلا تكررت اليمين إلى أن تتم خمسين يمينا (¬2) . ج - وقال خليل والدردير: والقسامة من البالغ العاقل خمسون يمينا متتالية، فلا تفرق على أيام أو أوقات بتا قطعا؛ بأن يقول: بالله الذي لا إله إلا هو من ضربه مات، أو لقد قتله، واعتمد البات على ظن قوي، ولا يكفي قوله: أظن أو في ظني، وإن أعمى أو غائبا حال القتل لاعتماد كل على اللوث المتقدم بيانه يحلفها في الخطأ من يرث المقتول من المكلفين وإن ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع، (5 \ 286) ، ويرجع أيضا إلى [فتح القدير] ، (8 \ 384) . (¬2) [حاشية الشلبي على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] (6 \ 169) .

واحدا أو امرأة ولو أختا لأم وتوزع على قدر الميراث؛ لأنها سبب في حصوله (¬1) . د - وقال ابن حجر: وصفتها: أن يحلف أولياء الدم خمسين يمينا في المسجد الأعظم بعد الصلاة عند اجتماع الناس أن هذا قتله (¬2) . هـ - وقال ابن حجر: وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم أو على المدعى عليهم الدم وخص القسم على الدم بلفظ القسامة (¬3) . وقال الرملي: واصطلاحا: اسم لأيمانهم، وقد تطلق على الأيمان مطلقا إذ القسم اليمين (¬4) . ووقال أبو محمد بن قدامة: والمراد بالقسامة هاهنا: الأيمان المكررة في دعوى القتل. ¬

_ (¬1) [مختصر خليل والشرح الكبير] ، وعليها [حاشية الدسوقي] (4 \ 260 - 261) . (¬2) [قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية] ص 377. (¬3) [فتح الباري] ، (12 \ 231) . (¬4) [نهاية المحتاج] (7 \ 387) .

العنصر الثاني

الثاني: بيان مستند من عمل بالقسامة ومستند من لم يعمل بها ومناقشة كل منهما: اختلف أهل العلم في حكم القسامة: فمنهم من عمل بها، ومنهم من لم يعمل بها. وفيما يلي نذكر طائفة من كلام من عمل بالقسامة مع المناقشة، ثم نذكر طائفة من كلام من لم يعمل بها وأدلتهم مع المناقشة:

أ - قال السمرقندي: القسامة مشروعة في القتيل الذي يوجد به علامة القتل من الجراح وغيرها، ولم يعلم له قاتل بالأحاديث الصحيحة، وقضاء عمر رضي الله عنه، إجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ب - وقال القاضي عياض: وهذه الإيمان هي أيمان القسامة، وهي أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد أحكامه، وركن من أركان مصالح العباد، أخذ به علماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به. بواسطة الأبي. وقال محمد بن رشد: أما وجوب الحكم بها على الجملة: فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأحمد وسفيان وداود وأصحابهم، وغير ذلك من فقهاء الأمصار (¬1) . ج - وقال الشافعي بعد ذكره لحديث محيصة وحويصة: وبهذا نقول (¬2) . د - وقال البعلي: نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (2 \ 304) . (¬2) [الأم] (6 \ 78) .

كان مثل المدعى عليه يفعل هذا (¬1) . ¬

_ (¬1) [الاختيارات الفقهية] ص 295.

مستند من لم يعمل بالقسامة

مستند القائلين بعدم العمل بالقسامة مع المناقشة: استدلوا بالسنة والإجماع والأثر: أما السنة فدليلان: أحدهما: ما رواه مسلم في [الصحيح] بالسند المتصل إلى سليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (¬1) » . وفي رواية له أيضا عن ابن شهاب، وزاد - أي: عن رواية سليمان بن يسار -: «وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود (¬2) » . والقسامة التي وقعت في الجاهلية أخرج البخاري صفتها في [الصحيح] بالسند المتصل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى، فانطلق معه في إبله، فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا، فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا، فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؛ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؛ قال: فحذفه بعصا كان فيها أجله، فمر به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؛ قال: ما أشهد، وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670) ، سنن النسائي القسامة (4707) ، مسند أحمد بن حنبل (5/432) . (¬2) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670) ، سنن النسائي القسامة (4708) ، مسند أحمد بن حنبل (5/432) .

قال: فكنت: إذا أنت شهدت الموسم فناد: يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد: يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فاسأل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال، ومات المستأجر فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا: هذه قريش، قال: يا آل بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة: أن فلانا قتله في عقال. فأتاه أبو طالب فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به، فأتى قومه فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران، فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا، قال ابن عباس: (فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف) (¬1) . وقد أجاب الصنعاني عن الاستدلال بذلك فقال: هو إخبار عن القصة التي في حديث سهل بن أبي حثمة، وقد عرفت أنه صلى الله عليه وسلم: لم يقض بها فيه ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري] (4 \ 236، 237) .

كما قررناه (¬1) . . . ثم قال: (وقد عرفت من حديث أبي طالب أنها كانت في الجاهلية على أن يؤدي الدية القاتل لا العاقلة، كما قال أبو طالب: إما أن تؤدي مائة من الإبل. فإنه ظاهر أنها من ماله لا من عاقلته، أو يحلف خمسون من قومك، أو تقتل، وهاهنا في قصة خيبر لم يقع شيء من ذلك، فإن المدعى عليهم لم يحلفوا ولم يسلموا الدية ولم يطلب منهم الحلف، وليس هذا قدحا في رواية الراوي من الصحابة، بل في استنباطه؛ لأنه قد أفاد حديثه أنه استنبط قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة من قصة أهل خيبر، وليس في تلك القصة قضاء، وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا، وإنما روايته للحديث بلفظه أو بمعناه هي التي يتعين قبولها) اهـ. وقد استشعر الصنعاني إيرادا على قوله: (وعدم صحة الاستنباط جائز على الصحابي وغيره اتفاقا، فأجاب عنه بقوله: وأما قول أبي الزناد: (قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان) . فإنه قال في [فتح الباري] : (إنما نقله أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه روى عن عشرة من الصحابة فضلا عن ألف) . قلت: لا يخفى أن تقريره لما رواه أبو الزناد؛ لثبوت ما رواه عن خارجة ¬

_ (¬1) سيأتي ما قرره جوابا عن الاستدلال بالدليل الثاني

ابن زيد الفقيه الثقة، وإنما دلس بقوله: (قتلنا) وكأنه يريد قتل معشر المسلمين وإن لم يحضرهم. ثم لا يخفى أن غايته بعد ثبوته عن خارجة فعل جماعة من الصحابة وليس بإجماع حتى يكون حجة، ولا شك في ثبوت فعل عمر بالقسامة وإن اختلف عنه في القتل، وإنما نزاعنا في ثبوت فعل عمر وإن اختلف عنه في القتل، وإنما نزاعنا في ثبوت حكمه صلى الله عليه وسلم بها فإنه لم يثبت (¬1) . ويمكن أن يجاب عن قول الصنعاني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يقض بالقسامة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في القسامة، ووجه كونه صلى الله عليه وسلم قضى بها أنه طلب من الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن لهم على اليهود خمسين يمينا وتبرأ اليهود من دم الأنصاري فلم يقبل الأنصار أيمان اليهود، فلم يكن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم لأولياء الدم لكون القسامة غير مشروعة، بل لإبائهم أن يحلفوا؛ لأنهم لم يشاهدوا الحدث ولم يقبلوا أيمان اليهود؛ لأنهم قوم كفار. الثاني: قصة عبد الله بن سهل، فأخرج البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي، عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه - قال: «انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: " كبر كبر " - وهو أحدث القوم ¬

_ (¬1) [سبل السلام] (3 \ 257) .

- فسكت، فتكلما فقال: " أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم " قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ ! قال: " فتبرئكم يهود بخمسين "، قالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار؛ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده (¬1) » . وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: " فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم " قالوا: يا رسول الله، (¬2) » . . . . وذكر الحديث نحوه. وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بأمرين: الأمر الأول: ما ذكره الصنعاني بقوله: أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بها وإنما كانت حكما جاهليا، فتلطف بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يجري الحكم بها على أصول الإسلام، وبيان أنه لم يحكم بها أنهم لما قالوا: وكيف نحلف ولم نحضر ولم نشاهد؟ لم يبين لهم أن هذا الحلف في القسامة من شأنه ذلك بأنه حكم الله فيها وشرعه، بل عدل إلى قوله: «يحلف لكم يهود (¬3) » فقالوا: ليسوا بمسلمين، فلم يوجب صلى الله عليه وسلم عليهم، ويبين لهم أن ليس لكم إلا اليمين من المدعى عليهم مطلقا مسلمين كانوا أو غيرهم، بل عدل إلى إعطاء الدية من عنده صلى الله عليه وسلم، ولو كان الحكم ثابتا لبين لهم وجهه، بل تقريره صلى الله عليه وسلم على أنه لا حلف إلا على شيء مشاهد مرئي - دليل على أنه لا حلف في القسامة، ولأنه لم يطلب اليهود للإجابة عن خصومهم في دعواهم، فالقصة منادية بأنها لم تخرج مخرج الحكم الشرعي، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذا أقوى دليل بأنها ليست حكما شرعيا، وإنما تلطف صلى الله عليه وسلم في بيان أنها ليست بحكم شرعي بهذا التدريج المنادي بعدم ثبوتها شرعا، وأقرهم صلى الله عليه وسلم أنهم لا يحلفون على ما لا يعلمونه ولا شاهدوه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجزية (3173) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

ولا حضروه، ولم يبين لهم بحرف واحد أن أيمان القسامة من شأنها أن تكون على ما لا يعلم. انتهى المقصود (¬1) . ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن يقال: الرسول صلى الله عليه وسلم عرض على الأنصار أن يحلفوا خمسين يمينا فامتنعوا، ثم بين لهم أن لهم على اليهود خمسين يمينا يحلفها خمسون منهم، فبينوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا يقبلون أيمانهم، وهذا يدل على مشروعيتها، إذ لا يصح أن يحمل هذا التصرف منه صلى الله عليه وسلم على العبث والألغاز التي لا يرشد إليها الكلام، وإنما يحمل عليها الكلام بمجرد الظنون والأوهام. الأمر الثاني: أن هذا الدليل مضطرب، والاضطراب علة مانعة عن العمل به فيكون مردودا، ويمكن أن نبين وجوه الاضطراب والجواب عن كل وجه بعده. الوجه الأول: الاضطراب بالزيادة والنقص وفي البدء بتوجيه الأيمان، فإن هذا الحديث ليس فيه طلب البينة أولا من المدعين، كما أنه يدل على البدء بتوجيه الأيمان إلى المدعين، وقد جاء ما يخالف ذلك: فروى البخاري في الصحيح بسنده المتصل إلى بشير بن يسار، زعم أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة - وذكر الحديث وفيه - فقال لهم: «تأتون بالبينة على من قتله " قالوا: ما لنا بينة، قال: " فيحلفون "، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود (¬2) » . . . . الحديث. وقد أجاب ابن حجر عن ذلك بقوله: وطريق الجمع أن يقال: حفظ ¬

_ (¬1) [سبل السلام] (3 \ 257) . (¬2) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان، فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا. وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين، فدعوى نفي العلم مردودة، فإنه وإن سلم أنه لم يسكن مع اليهود فيها أحد من المسلمين، لكن في نفس القصة أن جماعة من المسلمين خرجوا يمتارون تمرا، فيجوز أن تكون طائفة أخرى خرجوا لمثل ذلك وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك، وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهدا من وجه آخر، أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر فقال رسول صلى الله عليه وسلم: أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليك برمته قال: يا رسول الله، أنى أصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلا على أبوابهم (¬1) » . . . الحديث، وهذا السند صحيح حسن، وهو نص في الحمل الذي ذكرته فتعين المصير إليه. وقد أخرج أبو داود أيضا من طريق عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال: «أصبح رجل من الأنصار بخيبر مقتولا، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم " قال: لم يكن ثم أحد من المسلمين وإنما هم اليهود، وقد يجترئون على أعظم من هذا (¬2) » . ¬

_ (¬1) سنن النسائي القسامة (4720) ، سنن ابن ماجه الديات (2678) . (¬2) [فتح الباري] (12 \ 234) .

الوجه الثاني: أن الحديث مضطرب لاختلاف العبارات، وقد وقع هذا في كثير من روايات الحديث لمن تأملها. ويمكن أن يجاب عنه: بأن الرواية بالمعنى جائزة، وما دام أن اختلاف الألفاظ لا يترتب عليه اختلاف تضاد في الحكم - فلا أثر له. الوجه الثالث: أن الحديث مضطرب؛ لوجود الاختلاف في دفع الدية، ففي رواية البخاري: «فوداه مائة من إبل الصدقة (¬1) » ، وفي رواية مسلم: «فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده (¬2) » ، وفي رواية النسائي: «فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها (¬3) » . ويجاب عن هذا: أولا بما قاله ابن حجر: قوله: (من إبل الصدقة) زعم بعضهم: أنه غلط من سعيد بن عبيد؛ لتصريح يحيى بن سعيد بقوله: (من عنده) وجمع بعضهم بين الروايتين باحتمال أن يكون اشتراها من إبل الصدقة بمال دفعه من عنده، أو المراد بقوله: من عنده، أي: بيت المال المرصد للمصالح، وأطلق عليه صدقة باعتبار الانتفاع به مجانا؛ لما في ذلك من قطع المنازعة وإصلاح ذات البين، وقد حمله بعضهم على ظاهره، فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء: جواز صرف الزكاة في المصالح العامة واستدل بهذا الحديث وغيره، قلت: وتقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة في الكلام على حديث أبي لاس قال: حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة في الحج، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬3) سنن النسائي القسامة (4720) ، سنن ابن ماجه الديات (2678) .

أمره وحكمه، وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم. قال القرطبي في [المفهم] : فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه وحسن سياسته، وجلبا للمصلحة، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق، ورواية من قال: " من عنده " أصح من رواية من قال: " من إبل الصدقة ". وقد قيل: إنها غلط، والأولى: أن لا يغلط الراوي ما أمكن فيحتمل أوجها منها، فذكر ما تقدم وزاد: أن يكون تسلف ذلك من إبل الصدقة ليدفعه من مال الفيء، أو أن أولياء القتيل كانوا مستحقين للصدقة فأعطاهم، أو أعطاهم ذلك من سهم المؤلفة استئلافا لهم، واستجلابا لليهود. انتهى (¬1) . ويجاب ثانيا عن رواية النسائي بأمرين: أحدهما: من جهة السند والثاني: من جهة الدلالة. أما من جهة السند: فإن النسائي رحمه الله تعالى ذكر هذه الترجمة (ذكر اختلاف الناقلين لخبر سهل فيه) وساق عدة روايات، وقال بعد ذلك: (خالفهم عمرو بن شعيب أخبرنا محمد بن معمر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. . . وذكر الحديث، وقال في آخره: «فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها (¬2) » . وقال ابن القيم: قال النسائي: لا نعلم أحدا تابع عمرو بن شعيب على ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12 \ 235) . (¬2) [سنن النسائي] (8 \ 12) .

هذه الرواية. ويمكن أن يقال: إن عمرو بن شعيب انفرد بهذه الزيادة وهو مختلف في الاحتجاج به، فتكون هذه الزيادة مردودة. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه سبق ما ذكر عن بعض العلماء كالإمام أحمد وابن المديني وغيرهما أنهم يحتجون به. وبناء على أنه حجة فيقال من جهة دلالته: يمكن الجمع بينه وبين ما جاء دالا على أنه صلى الله عليه وسلم وداه من عنده، ووجه الجمع أن يقال: إن قول الراوي (فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديته عليهم) أي: على اليهود، أي: على تقدير: أن يقروا بذلك، كأنه أرسل إلى يهود أن يقسم الدية عليهم ويعينهم بالنصف إن أقروا فلما لم يقروا وداه من عنده (¬1) . الوجه الرابع: أن الحديث مضطرب؛ لوجود ذكر الحلف دون عدد الأيمان والحالفين في بعض الروايات، ففي رواية البخاري " أتحلفون؟ " فذكر الحلف ولم يذكر عدد الأيمان ولا عدد الحالفين، وفي رواية البخاري " أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ "، ففيها بيان عدد الحالفين، وفي رواية مالك في [الموطأ] " أتحلفون خمسين يمينا؟ " ففي هذا عدد الأيمان. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الروايات التي لم يذكر فيها عدد الأيمان وعدد الحالفين مجملة، والروايات التي جاء فيها عدد الحالفين ¬

_ (¬1) [شرح السيوطي لسنن النسائي] (8 \ 13) .

وعدد الأيمان مفسرة لهذا الإجمال، وذلك أن القصة واحدة فيكون المفسر مبينا للمجمل فيحدد معناه، وبهذا تجتمع الروايات وإذا أمكن الجمع وجب المصير إليه. وأما الإجماع: فقد سبق ما نقل عن السمرقندي وهو قوله: وإجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (¬1) . وقول خارجة بن زيد: فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم ليقتلوه (¬2) . قال ابن حجر: وقد تمسك مالك بقول خارجة المذكور، فأجمع أن القود إجماع (¬3) . وقد تقدم ما نقله أبو الزناد عن خارجة من قوله: قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان، وسبقت مناقشته. ويرد دعوى الإجماع في عهد عمر بن عبد العزيز ما نقل عنه: أنه كان لا يرى القسامة؛ ولهذا نصب أبو قلابة للناس ليعلن أبو قلابة رأيه في عدم مشروعية القسامة. ويرد على دعوى إجماع أهل المدينة: ما ذكره ابن حجر بقوله: وسبق عمر بن عبد العزيز إلى إنكار القسامة سالم بن عبد الله بن عمر فأخرج ابن المنذر عنه أنه كان يقول: (يا لقوم يحلفون على أمر لم يروه ولم يحضروه، ¬

_ (¬1) انظر ص94 الحاشية رقم (1) . (¬2) [الفتح] (12 \ 231) . (¬3) [الفتح] (12 \ 232) .

لو كان لي من أمر لعاقبتهم ولجعلتهم نكالا ولم أقبل لهم شهادة) وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القود بالقسامة، فإن سالما من أجل فقهاء المدينة (¬1) . وأما الآثار: فقد وردت آثار عن الخلفاء الأربعة وغيرهم تدل على مشروعية القسامة، وبعضها لا يخلو من مقال ¬

_ (¬1) يرجع إلى [نصب الراية] (4 \ 393) وما بعدها، و [المحلى] (11 \ 65) .

من قال بالعمل بالقسامة ومستنده في ذلك

القائلون بعدم العمل بالقسامة: قال الأبي نقلا عن القاضي عياض: وأبطل الأخذ به - أي: بهذا الركن - فلم يثبت للقسامة حكما في الشرع سالم بن عبد الله، والحكم بن عيينة، وسليمان بن يسار، وقتادة، وابن علية، ومسلم بن خالد، وأبو قلابة، والمكيون، وإليه نحا البخاري، واختلف قول مالك في الأخذ به في قتل الخطأ. ط - والشهير عنه إثباتها فيه، وعنه: أنه لا قسامة فيه (¬1) . ونسبة البخاري إلى معاوية وعمر بن عبد العزيز، وستأتي مناقشة ما نسبه إليهما. مستند القائلين بالعمل بالقسامة مع المناقشة: احتجوا بالسنة والاستصحاب والأثر. أما السنة: فقال ابن حزم: نظرنا فيما يمكن أن يحتج به فوجدناه من ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم] (4 \ 394) .

طريق نا طاهر نا ابن وهب عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (¬2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك (¬3) » . قالوا: فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال، وبين الدعوى في الدماء والأموال، وأبطل كل ذلك، ولم يجعله إلا بالبينة واليمين على المدعى عليه، فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا، لا فيمن يحلف ولا في عدد يمين ولا في إسقاط الغرامة إلا بالبينة ولا مزيد. وهذا كله حق، إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا، وهو أن الذي حكم بما ذكروا وهو المرسل إلينا من الله تعالى - هو الذي حكم بالقسامة، وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة، ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها، إذ كلها من عند الله تعالى وكلها حق، وفرض الوقوف عنده والعمل به، وليس بعض أحكامه علمه السلام أولى بالطاعة من بعض، ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية وتحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (¬4) ولا فرق بين من ترك حديث «بينتك أو يمينه (¬5) » لحديث القسامة وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث (¬6) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) . (¬3) صحيح مسلم الإيمان (139) ، سنن الترمذي الأحكام (1340) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) . (¬4) سورة البقرة الآية 85 (¬5) صحيح مسلم الإيمان (139) ، سنن الترمذي الأحكام (1340) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) . (¬6) [المحلى] (11 \ 77) .

ومما يوضح جواب ابن حزم رحمه الله ما قاله الخطابي رحمه الله، قال: هذا حكم خاص جاءت به السنة لا يقاس على سائر الأحكام، وللشريعة أن تخص كما لها أن تعم، ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة، كما لها أن توفق بينها ولها نظائر كثيرة في الأصول (¬1) . وجاء معنى ذلك عن ابن المنذر (¬2) وابن حجر (¬3) . وقد أورد ابن حزم: رحمه الله اعتراضا على جوابه: وأجاب عنه فقال: فإن قالوا: الدماء حدود ولا يمين في الحدود. قيل لهم: ما هي الحدود؟ لأن الحدود ليست بموكولة إلى اختيار أحد إن شاء أقامها وإن شاء عطلها، بل هي واجبة لله تعالى وحده، لا خيار فيها لأحد ولا حكم، وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي؛ إن شاء استقاد، وإن شاء عفا، فبطل أن تكون من الحدود وصح أنها من حقوق الناس، وفسد قول من فرق بينهما وبين حقوق الناس من أموال وغيرها إلا حيث فرق الله تعالى ورسوله بين الدماء والحقوق وغيرها وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط (¬4) . وقد أجاب شيخ الإسلام: بأن القسامة من الحدود لا من الحقوق، فقال: وهذه الأمور - أي: أمثلة منها القسامة - من الحدود في المصالح العامة ليس من الحقوق الخاصة، وقال: فلولا القسامة في الدماء لأفضى ¬

_ (¬1) [معالم السنن] (6 \ 315) . (¬2) [الجامع لأحكام القرآن] (1 \ 458) . (¬3) [فتح الباري] (12 \ 197) . (¬4) [المحلى] (11 \ 77) .

إلى سفك الدماء، فيقتل الرجل عدوه خفية، ولا يمكن لأولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين (¬1) . وقد أجاب ابن القيم: رحمه الله بجواب آخر عن هذا الدليل فقال: وأما حديث ابن عباس: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه (¬2) » فهذا إنما يدل على أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه دم رجل ولا ماله، وأما في القسامة فلم يعط الأولياء فيها بمجرد دعواهم، بل البينة وهي ظهور اللوث وأيمان خمسين لا بمجرد الدعوى. وظهور اللوث وحلف خمسين بينة بمنزلة الشهادة أو أقوى، وقاعدة الشرع: أن اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين؛ ولهذا يقضى للمدعي بيمينه إذا نكل المدعى عليه كما حكم به الصحابة؛ لقوة جانبه بنكول الخصم المدعى عليه؛ ولهذا يحكم له بيمينه إذا أقام شاهدا واحدا لقوة جانبه بالشاهد فالقضاء بها في القسامة مع قوة جانب المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى (¬3) . انتهى المقصود. وقد بسط ابن القيم رحمه الله هذا الجواب في موضع آخر (¬4) . وجواب ثالث عن مالك بن أنس رحمه الله قال: إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق: أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما ¬

_ (¬1) [الفتاوى المصرية] (4 \ 291) . (¬2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) . (¬3) [تهذيب سنن أبي داود] (6 \ 235، 326) . (¬4) [إعلام الموقعين] (2 \ 331، 332) .

يلتمس الخلوة، قال: فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق - هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها فيها؛ ليكف الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك (¬1) . أما الاستصحاب: فقال ابن رشد: وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها: فمنها: أن الأصل في الشرع ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا، أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل، بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر؛ ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه. فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضب القوم وقالوا: نقول: القسامة القود بها الحق، قد أقاد بها الخلفاء. فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ - ونصبني للناس - فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ ! قال: لا. قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق ¬

_ (¬1) [المنتقى شرح موطأ الإمام مالك] للإمام الباجي (7 \ 61) .

بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أخذت بشهادتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: أنهم إذا أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا، قالوا: ومنها: أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء، ومنها: أن من الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (¬1) . والجواب عن هذا الدليل من وجوه: أحدها: بأن التعليق في عدم اعتبار القسامة بأنها من قبيل الحلف على ما لا يعلمه الحالف وهو غير مشروع قد أجيب عنه بما يلي: أ- قال الإمام الشافعي: (واحتج - أي: القائل بهذا - بأن قال: أحلفتهم على ما لا يعلمون؟ قلت: فقد يعلمون بظاهر الأخبار ممن يصدقون ولا تقبل شهادتهم، وإقرار القاتل عندهم بلا بينة، ولا يحكم بادعائهم عليه الإقرار وغير ذلك، قال: العلم ما رأوا بأعينهم أو سمعوا بآذانهم، قلت: ولا علم ثالث؛ قال: لا. قلت: فإذا اشترى ابن خمس عشرة سنة عبدا ولف بالمشرق منذ خمسين ومائة سنة ثم باعه فادعى الذي ابتاعه أنه كان آبقا فكيف تحلفه؟ قال: على البينة، قلت: يقول لك: تظلمني؛ فإن هذا ولد قبلي وببلد غير بلدي وتحلفني على البينة وأنت تعلم أني لا أحيط بأن لم يأبق قط علما، قال: يسأل، قلت: يقول لك: فأنت تحلفني على ما تعلم ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد] (2 \ 427، 428) .

أني لا أبر فيه؟ قال: وإذا سئلت فقد وسعك أن تحلف، قلت: أفرجل قتل أبوه فغبي من ساعته فسأل أولى أن يعلم؟ قال: نعم، قال بعض من حضره: بل من قتل أبوه؟ فقلت: فقد عبت يمينه على القسامة ونحن لا نأمره أن يحلف إلا بعد العلم، والعلم يمكنه واليمين على القسامة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت برأيك يحلف على العبد الذي وصفت. اهـ. وقال الشافعي أيضا: وإذا وجبت القسامة فلأهل القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتيل؛ لأنه قد يمكن أن يعلموا باعتراف القتيل أو بينة تقوم عندهم لا يقبل الحاكم منهم ومن غيرهم غير ذلك من وجوه العلم التي لا تكون شهادة بقطع، وينبغي للحاكم أن يقول: اتقوا الله ولا تحلفوا إلا بعد الاستثبات ويقبل أيمانهم متى حلفوا. اهـ (¬1) . ب - وقال ابن قدامة: (قال القاضي: يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم (¬2) » وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر، ولأن الإنسان يحلف على غالب ظنه، كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه؛ لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه، وكذلك إذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف، وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده - كان له أن يحلف أنه باعه بريئا من العيب، ولا ينبغي أن ¬

_ (¬1) [الأم]] (6 \ 79) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة الظن (¬1) . ج - ويمكن أن يقال: لا يلزم أن تكون اليمين على اليقين مطلقا، وتقرير ذلك أن شريعة الإسلام تبنى أحكامها على الظاهر، لا على الباطن. وعلى الظن لا على اليقين، وهذا جار في أسانيد الأدلة ودلالاتها وبقائها، وفي الجزئيات التطبيقية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبار الآحاد ظنية الثبوت، ودلالة العموم على جميع أفراده مع احتمال مخصص، ودلالة المطلق على بعض ما يتناوله مع احتمال مقيد، ودلالة النص على مقتضاه مع احتمال ناسخ، ودلالة الظاهر على معناه مع احتمال دليل صارف له عن ظاهره إلى التأويل. هذه الأمور كلها ظنية ومع ذلك يعمل بها، ولو ترك العمل بهذا الباب فقيل: لا يعمل إلا باليقينيات لتعطل كثير من مواضع تطبيق الشريعة. وأما من الناحية التطبيقية في حياته صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قضية اللعان، فبعدما انتهى المتلاعنان قال صلى الله عليه وسلم: «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ (¬2) » ثلاثا فهو صلى الله عليه وسلم قضى بمقتضى اللعان مع أن أحدهما كاذب يقينا، وهذا الاحتمال لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من إجراء الحكم على الظاهر. د - ويمكن أن يقال أيضا: إذا حلف أنه لم يقتل ولا يعلم قاتلا فهذا يقين في الظاهر من الجهتين، فإن قوله: (لم يقتله) هذا نفي لصدور القتل منه، وقوله: (ولا يعلم له قاتلا، هذا نفي لعلمه بالقاتل ومورد النفي في الصورتين مختلف، لكن كل منهما يقين في الظاهر بحسبه، وتحقق مطابقة الظاهر للباطن لا يتوقف عليه ربط الحكم الشرعي بالظاهر وإن كان مخالفا ¬

_ (¬1) [المغني] (8 \ 91 - 94) . (¬2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4747) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3179) ، سنن أبو داود الطلاق (2256) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2067) ، مسند أحمد بن حنبل (1/239) .

للباطن. ثانيها: روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: إني أريد أن أدع القسامة: يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا وكذا فيحلفون، قال: فقلت له: ليس ذلك لك، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده. وإنك إن تتركها أوشك الرجل أن يقتل عند بابك فيطل دمه فإن للناس في القسامة حياة (¬1) . ثالثها: يمكن أن يقال: إن قصة أبي قلابة أكثر ما يقال فيها: إنها أثر تابعي فهل يصح أن يكون معارضا لقول معصوم؛ كلا، فلا عبرة بقول من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم. رابعها: ويمكن أن يقال: إن قولهم: (الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء) غير صحيح؛ لأن المشرع هو الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطرق الإثبات في الشريعة كثيرة ومتنوعة وكل طريق منها أصل بنفسه والمشرع هو الذي جعله أصلا، فلا يصح أن تعارض هذه الأصول بعضها ببعض، بل كل أصل منها يعمل في موضعه، ومن ذلك القسامة الثابتة في قوله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (¬2) » ، وفي رواية مسلم «فيسلم إليكم» . خامسها: قولهم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر، قد سبق الجواب عنه في معرض الإجابة عن الدليل الأول من أدلة القائلين بعدم العمل بالقسامة. ¬

_ (¬1) [المصنف] (10 \ 39) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

قال الممانعون من العمل بالقسامة: ومما يؤيد دليل الاستصحاب أن ما ورد من الأحاديث في الحكم بالقسامة ليس نصا في ذلك، بل هي محتملة يتطرق إليها التأويل، فلم تنهض لمقاومة الاستصحاب فوجب تأويلها لتتفق مع الأصول الأخرى. قال ابن رشد: ومن حجتهم: أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة، وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام. ولذلك قال لهم: «أتحلفون خمسين يمينا (¬1) » أعني: لولاة الدم وهم الأنصار، «قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: " فيحلف لكم اليهود " قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ (¬2) » قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشاهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي السنة. قالوا: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة، والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى (¬3) . وأما الأثر فمن ذلك: ما قال البخاري في [صحيحه] : قال ابن أبي مليكة: لم يقد بها معاوية. قال ابن حجر: وقد وصله حماد بن سلمة في [مصنفه] ، ومن طريقه ابن المنذر، قال حماد عن ابن أبي مليكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة، فأخبرته: أن عبد الله بن الزبير أقاد بها، وأن معاوية - يعني: ابن أبي سفيان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1631) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4716) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬3) [بداية المجتهد] (2 \420) .

- لم يقد بها، وهذا المسند صحيح. واعترض عليه بما نسبه ابن حجر إلى ابن بطال قال: وقد توقف ابن بطال في ثبوته فقال: قد صح عن معاوية أنه أقاد بها، ذكر ذلك عنه أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق، قلت - القائل ابن حجر -: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ومن طريقه أخرجه البيهقي قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان، ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ، فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه، فركبت إلى معاوية في ذلك فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقا فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إلى سعيد فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا. وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بثلاثة أجوبة ذكرها بقوله: ويمكن الجمع: بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه، ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك، ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك، أو بالعكس (¬1) . وقد أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة أخرى قضى فيها معاوية بالقسامة، لكن لم يصرح فيها بالقتل. ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12 \ 231، 232) .

ويمكن أن يجاب عن هذا الأثر بالأجوبة السابقة. وقال البخاري في [صحيحه] : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وكان أمره على البصرة - في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين: إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة. قال ابن حجر: وصله سعيد بن منصور حدثنا هشام حدثنا حميد الطويل قال: كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز. . . . وذكر الأثر، وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن حميد قال: وجد قتيل بين قشير وعائش فكتب فيه عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز فذكر نحوه، وهذا صحيح. وقد اعترض على هذا الأثر بقول ابن حجر: وقد اختلف على عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة، كما اختلف على معاوية، فذكر ابن بطال أن في [مصنف حماد بن سلمة] ، عن ابن أبي مليكة: أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمرته على المدينة (¬1) . وقد أجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض بقوله: ويجمع بأنه كان يرى ذلك لما كان أميرا على المدينة، ثم رجع لما ولي الخلافة، ولعل سبب ذلك ما سيأتي في آخر الباب من قصة أبي قلابة، حيث احتج على عدم القود بها فكأنه وافقه على ذلك (¬2) . والقصة التي أشار إليها ابن حجر هي ما رواها البخاري في [الصحيح] ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12 \ 231، 232) . (¬2) فتح الباري (12 \ 232) .

من حديث أبي قلابة الطويل وفيه: قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ - أي: في القسامة، ونصبني للناس - فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا. قلت: فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام (¬1) . ومما يدل على أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يرى العمل بها ثم رجع: ما أخرجه ابن المنذر من طريق الزهري قال: قال لي عمر بن عبد العزيز إني أريد أن أدع العمل بالقسامة، يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت: إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة (¬2) . هذا وقد ذكر ابن حزم رحمه الله مجموعة من الآثار الدالة على أنه لا يقاد بالقسامة ولا يحكم بها، وناقشها، وقد تركنا ذكرها اختصارا واكتفاء بما سبق من الأدلة. ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12 \ 230) . (¬2) [فتح الباري] (12 \ 232) ، و [المحلى] (11 \ 65 ـ 70) .

العنصر الثالث ضابط اللوث وبيان صوره واختلاف العلماء فيها ومنشأ ذلك مع المناقشة

الثالث: ضابط اللوث وبيان صوره واختلاف العلماء فيها ومنشأ ذلك مع المناقشة: ضابط اللوث (أ) ضابط اللوث في اللغة: قال الفيروزآبادي: اللوث: القوة، وعصبة العمامة، والشر، واللوذ، والجراحات والمطالبات بالأحقاد، وشبه الدلالة، واللوث بالضم: الاسترخاء والضعف، والالتياث: الاختلاط والالتفاف، والإبطاء، والقوة، والتلويث: التلطيخ والخلط والمرس كاللوث (¬1) . قال الرملي: لوث بمثلثة من اللوث بمعنى القوة لقوة تحويله اليمين لجانب المدعي أو الضعف، لأن الأيمان حجة ضعيفة (¬2) . (ب) ضابط اللوث عند الفقهاء: ا- قال أحمد الشلبي: وسببها وجود قتيل لا يدرى قاتله في محلة أو دار أو موضع يقرب إلى القرية بحيث يسمع الصوت منه. 2 - وقال الأبي: واللوث: هي القرائن الظاهرة الدالة على قتل القاتل. ¬

_ (¬1) [القاموس المحيط] (1 \ 173، 174) ، وجاء ما يوافق ذلك في [لسان العرب] (2 \ 185، 186) . (¬2) [نهاية المحتاج شرح المنهاج] (7 \ 379) .

3 - وقال النووي والرملي: واللوث قرينة حالية أو مقالية مؤيدة تصدق المدعي بأن توقع في القلب صدقه في دعواه ولا بد من ثبوت هذه القرينة (¬1) . 4 - أما عند الحنابلة: ففي ضابطه روايتان: الأولى: قال ابن قدامة: هو العداوة الظاهرة، وعنه: أنه يغلب على الظن صحة الدعوى به (¬2) . ¬

_ (¬1) [المنهاج] وشرحه [نهاية المحتاج] (7 \ 389) . (¬2) [المقنع] (3 \ 432، 433) .

بيان صور اللوث

3 - بيان صوره واختلاف العلماء فيها: نذكر فيما يلي مجمل صور مما نص عليه المالكية، والشافعي رحمه الله، والحنابلة، ثم نتبعها بالكلام على كل صورة في حدود ما تيسر الاطلاع عليه. مجمل الصور: 1 - قال ابن جزي: وشهادة الشاهد العدل على القتل لوث، واختلف في شهادة غير العدل وفي شهادة الجماعة إذا لم يكونوا عدولا، وفي شهادة النساء والعبيد، وشهادة العدلين على الجرح لوث، إذا عاش المجروح بعد الجرح وأكل وشرب، واختلف في شهادة عدل واحد على إقرار القاتل هل يقسم بذلك أم لا؟ ومن اللوث أن يوجد رجل بقرب المقتول ومعه سيف أو شيء من آلة القتل أو متلطخا بالدم، ومن اللوث أن يحصل المقتول في دار مع قوم فيقتل بينهم، أو يكون في محلة قوم أعداء له، ومن اللوث عند مالك وأصحابه التدمية في العمد، وهو قول المقتول: فلان قتلني، أو دمي عند فلان، سواء أكان المدمى عدلا أو مسخوطا، ووافقه الليث بن سعد

في القسامة بالتدمية، وخالفهما سائر العلماء، واختلف في المذهب في كون التدمية في الخطأ لوثا على قولين (¬1) . وقال الباجي: وذكر أبو محمد في معونته قسما سادسا في فئتين اقتتلتا فوجد بينهما قتيل فيها روايتان (¬2) وساقهما، وذكر وجه كل منهما، وسيأتي ذلك في موضعه. وقتيل الزحام نقله الأبي، كما سيأتي. وقال الشافعي رحمه الله تعالى بعد سياقه لقصة قتل عبد الله بن سهل قال: فإذا كان مثل هذا السبب الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالقسامة حكمنا بها وجعلنا فيها الدية على المدعى عليهم، فإذا لم يكن مثل ذلك السبب لم نحكم بها. فإن قال قائل: وما مثل السبب الذي حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: كانت خيبر دار يهود التي قتل فيها عبد الله بن سهل محضة لا يخلطهم غيرهم وكانت العداوة بين الأنصار واليهود ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر ووجد قتيلا قبل الليل، فكاد أن يغلب على من علم هذا أنه لم يقتله إلا بعض يهود، وإذا كانت دار قوم مجتمعة لا يخلطهم غيرهم وكانوا أعداء للمقتول أو قبيلته ووجد القتيل فيهم فادعى أولياؤه قتله فيهم فلهم القسامة، وكذلك إذا كان مثل هذا المعنى مما يطلب على الحاكم أنه كما يدعي المدعي على جماعة أو واحد، وذلك مثل أن يدخل نفر بيتا فلا يخرجون ¬

_ (¬1) [قوانين الأحكام الفقهية] ص 378. (¬2) [المنتقى] (7 \ 56) .

منه إلا وبينهم قتيل، وكذلك إن كانوا في دار وحدهم أو في صحراء وحدهم؛ لأن الأغلب أنهم قتلوه أو بعضهم، وكذلك أن يوجد قتيل بصحراء أو ناحية ليس إلى جنبه عين ولا أثر إلا رجل واحد مختضب بدمه في مقامه ذلك، أو يوجد قتيل فتأتي بينة متفرقة من المسلمين من نواح لم يجتمعوا فيثبت كل واحد منهم على الانفراد على رجل أنه قتله فتتواطأ شهادتهم ولم يسمع بعضهم شهادة بعض، وإن لم يكونوا ممن يعدل في الشهادة، أو يشهد شاهد عدل على رجل أنه قتله؛ لأن كل سبب من هذا يغلب على عقل الحاكم أنه كما ادعى ولي الدم أو شهد من وصفت وادعى ولي الدم، ولهم إذا كان ما يوجب القسامة على أهل البيت أو القرية أو الجماعة أن يحلفوا على واحد منهم أو أكثر، فإذا أمكن في المدعى عليه أن يكون في جملة القتلة جاز أن يقسم عليه وحده وعلى غيره ممن أمكن أن يكون في جملتهم معه دعوى، وإذا لم يكن معه ما وصفت لا يجب بها القسامة، وكذلك لا تجب القسامة في أن يوجد قتيل في قرية يختلط بهم غيرهم أو يمر به المارة - إذا أمكن أن يقتله بعض من يمر ويلقيه (¬1) . وقال المزني زيادة عما تقدم نقله عن الشافعي قال: أو صفين في حرب أو ازدحام جماعة (¬2) . 3 - وقال موسى الحجاوي في الكلام على شروط القسامة: الثاني: اللوث، ولو في الخطأ وشبه العمد، واللوث: العداوة الظاهرة، كنحو ما كان بين ¬

_ (¬1) [الأم] (6 \ 78، 79) . (¬2) [مختصر المزني] بهامش [الأم] (6 \ 147) .

الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بثأر، وما بين أحياء العرب وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرط واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن قتله. . . إلى أن قال: ويدخل في اللوث لو حصل عداوة بين سيد عبد وعصبته، فلو وجد قتيل في صحراء وليس معه غير عبده كان ذلك لوثا في حق العبد ولورثة سيده القسامة، فإن لم تكن عداوة ظاهرة ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل أو كان عصبته من غير عداوة ظاهرة، أو وجد قتيلا عند من معه سيف ملطخ بدم، أو في زحام أو شهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان والفساق أو عدل واحد وفسقة، أو تفرق فئتان عن قتيل أو شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين، أو شهد أن هذا القتيل قتله أحد هذين أو شهد أحدهما أن إنسانا قتله والآخر أنه أقر بقتله، أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف والآخر بسكين، ونحو ذلك - فليس بلوث، ولا يشترط مع العداوة ألا يكون في الموضع الذي به القتل غير العدو ولا أن يكون بالقتيل أثر القتل كدم في أذنه أو أنفه. وقول القتيل: قتلني فلان ليس بلوث، ومتى ادعى القتل عمدا أو غيره، أو وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه على قاتل مع عدم اللوث حلف المدعى عليه يمينا واحدا وبرئ، وإن نكل لم يقض عليه بالقود، بل بالدية (¬1) . وقال ابن قدامة - بعد ذكر الرواية الأولى -: وعنه أنه ما يغلب على الظن ¬

_ (¬1) [متن الإقناع] (4 \ 238، 240) .

صحة الدعوى به كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ولطخ بدم، وشهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان ونحو ذلك (¬1) . 3- بيان صوره واختلاف العلماء فيها مع المناقشة: ¬

_ (¬1) [المقنع] (3 \ 434، 435) .

الصورة الأولى التدمية

الصورة الأولى: التدمية. قال الأبي: (ع) وصور الشبهة سبعة: الأولى: قول الميت دمي عند فلان أو هو قتلني أو جرحني أو ضربني، وإن لم يظهر أثر ولا جرح أثبت مالك القسامة بذلك وقال: وعليه إجماع الأئمة في القديم والحديث، وشرط بعض أصحابنا ظهور الأثر والجرح إلا لم تكن قسامة، وخالف مالكا في ذلك سائر فقهاء الأمصار، ولم يوافقه عليه إلا الليث، وروي عن عبد الملك بن مروان. واحتج أصحابنا لذلك: بأن القتل حال تطلب فيه الغيلة والاستتار، والمرء عند آخر عهده بالدنيا يتحرى الصدق، ويرد المظالم، ويتزود من البر. واحتج مالك بقضية البقرة في قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (¬1) فأحيي الرجل وأخبر بمن قتله. . . إلى أن قال: قلت: ألغى القسامة بذلك ابن عبد الحكم ومن الأندلسيين عبد الرحمن بن بقي وعبيد الله بن يحيى، وقيل: إن ادعاه على من لا يليق به لفضله وصلاحه ألغيت تدميته وإلا أعملت، فالأقوال في المذهب ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 73

ثلاثة، ثالثها: الفرق المذكور. ابن عبد السلام: وإنما خالف مالكا والليث سائر الفقهاء؛ لأن فيه قبول الدعوى دون بينة، وقد علم أن الأموال أضعف حرمة من الدماء، ومع ذلك لم تقبل فيها الدعوى، فكيف تقبل دعوى القتل بهذه الحجة الضعيفة؟ ! فإن قلت: قيل: كما يحتاط للدماء أن تراق فكذلك يحتاط لها أن تضيع. قلت: شتان ما بين الاحتياطين. الثاني: دم فات وهذا دم يراق، إلا أنه كما قال بعض المفتين: لأن يقال: ألم تقتله؟ أحب إلي من أن يقال: لم قتلته؟ فإن قلت: أفتى مالك بحضرة أصحابه بقتل رجل، فلما ذهب به ليقتل جعل مالك يتطاول بعنقه وقد اصفر لونه، ثم قال لأصحابه: لا تظنوا أني ندمت في فتياي، ولكنني خفت أن يذهب من أيديهم فتضيع حدود الله. قلت: هذا مسلم؛ لأنه في قصاص ثبت، والقائل بإعمال التدمية وإن لم يظهر أثر- أصبغ، وهو ظاهر إطلاق الروايات، والقائل بإلغائها حتى يظهر الأثر - ابن كنانة، واختاره اللخمي وابن رشد، وبه العمل. قال اللخمي: إلا أن يعلم أنه قد كان بينهما قتال ويلزم الفراش عقب ذلك أو كان يتصرف تصرف مشتك عليه دليل المرض، وتمادى به ذلك حتى هلك. وباختيار اللخمي هذا أفتيت في نازلة (وقعت من سنة خمس عشرة وثمانمائة أرسل بها إلي الخليفة المعظم أبو فارس عبد العزيز بن الخليفة المرحوم أبي العباس أحمد الحفصي فأمر أن نفتي فيها بما ظهر لي صوابه)

والنازلة هي: أنه وقعت هوشة بين جماعتي مارغنة بالراء والغين المعجمة، ومزاتة بالزاي والتاء المثناة من فوق، وانكشف الجميع عن جرحى من الفريقين، فبعد أيام جاء رجل من مزاتة إلى العدول بسوسة، وادعى على جماعة مارغنة وليس به جرح ولا أثر ضرب حسبما ضمن ذلك شهود الرسم ثم مات من الغد، ونص فتياي: (الحمد لله، إذا لزم المدمى الفراش عقب الهوشة أو كان يتصرف تصرف مشتك عليه دليل المرض ودام به ذلك حتى مات، وكان أعيان المارغنيين المدعى عليهم معروفة ولم تكن فئة المدمى هي المبتدئة والأخرى دافعة - فالتدمية صحيحة، وإن لم يكن بالمدمى جرح ولا أثر ضرب ويستحقون قتل واحد أو يقبلون الدية، إلا أن يكون الميت أوصى أن يقبل فيه [الدية] فليس إلا الدية) هذا اختيار اللخمي في المسألة، وليس ببعيد من الصواب. والله أعلم. وليس من التدمية البيضاء، لأن البيضاء هي التي ليس فيها سبب حتى يستند إليه قول المدمى، وليس فيها إلا قول المدمى دمي عند فلان كقضية اللؤلئي، فإذا لم تكن من التدمية البيضاء فلترجع لتدمية قتيل الصفين. ولا يعترض على هذا بأنه قال في [المدونة] : ولا قسامة في قتيل الصفين؛ لأن معناه عند الأكثر، إذا كان ذلك بدعوى الأولياء، وأما بقول القتيل فإنه يقسم معه، وسئل عنها المعين للفتيا في التاريخ فأجاب: بأنها من التدمية البيضاء التي جرى العمل على إلغائها، وإليك الترجيح بين الجوابين والله أعلم بالصواب. واختلف إذا قال الميت: دمي عند فلان خطأ: فلمالك في [المدونة] ، يقسم على قوله. وفي [الموازية] ، لا يقسم لتهمة أنه أراد غنى ورثته، وفي

[المدونة] : وإن ادعى الورثة خلاف دعوى الميت من عمد أو خطأ فليس لهم أن يقسموا إلا على قوله، ولم أسمعه من مالك. وفي [الموازية] إن ادعوا خلاف قول الميت فلا قسامة لهم وليس لهم أن يرجعوا إلى قول الميت، وفي المدونة أيضا إذا قال: دمي عند فلان ولم يذكر عمدا أو خطأ، فما ادعاه ولاة الدم من عمد أو خطأ أقسموا عليه واستحقوا عليه واستحقوه. ابن الحارث: وفي المجالس عن ابن القاسم: أحسن من هذا أن قوله باطل، وفي [المدونة] ، أيضا: قال بعضهم: عمدا، وقال بعضهم: خطأ، فإن حلفوا كلهم استحقوا دية الخطأ بينهم وبطل الدم، فإن نكل مدعي الخطأ فليس لمدعي العمد أن يقسموا ولا دم ولا دية. واختلف في تدمية الزوجة: فظاهر المذهب: أنها كالأجنبية، وذكر ابن عات عن ابن حزين أنه قال: لا قود على الزوج إلا أن يتعمد واحتج: بأن الله أذن له في ضرب الأدب في قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} (¬1) قال: فالذي يريد أن يدمى فيه أصله الجواز، ولا تقام الحدود إلا بأمرين؛ لحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات (¬2) » ، وكذلك معلمو الصبيان يضرب أحدهم فيما يجوز له فيتعدى طرف الشراك أو عود الدرة فيفقأ العين، وإنما عليه العقل إلا أن يتعمد، وكذلك على الزوج، قال: وهذا الذي تعلمنا من شيوخنا (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 34 (¬2) سنن الترمذي الحدود (1424) . (¬3) [إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم] (4 \ 369 - 399) .

وقال الباجي: فأما قول القتيل: دمي عند فلان فهو عند مالك في الجملة لوث يوجب القسامة، خلاف لأبي حنيفة والشافعي. قد استدل أصحابنا في ذكره بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬1) الآية. ففي [المجموعة] و [الموازية] قال مالك: وما ذكره الله سبحانه وتعالى من شأن البقرة التي ضرب القتيل بلحمها فحيي فأخبر عمن قتله دليل على أنه سمع من قول الميت. فإن قيل: إن ذلك آية، قيل: إنما الآية في إحيائه، فإذا صار حيا لم يكن كلامه آية وقد قبل قوله فيه، وهذا مبني على أن شريعة من قبلنا شرع لنا إلا ما ثبت نسخه (¬2) . وقال ابن العربي: فإن قيل: فإنما قتله موسى صلى الله عليه وسلم بالآية، قلنا: ليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه أو صدقه جبريل فقتله موسى بعلمه، كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد بالمجذر بن زياد بإخبار جبريل عليه السلام له بذلك. انتهى المقصود. وقال الباجي أيضا: واستدل أصحابنا على ذلك بما روى هشام بن زيد عن أنس: «أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها، فقتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق فقال: " أقتلك فلان؟ " فأشارت برأسها أن لا، ثم ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 67 (¬2) [المنتقى على الموطأ] (7 \ 56) .

قال الثانية، فأشارت برأسها: أن نعم (¬1) » ، وهذا الحديث رواه قتادة عن أنس فزاد فيه، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر، فرض رأسه بالحجارة (¬2) أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما على اختلاف في الروايات مع الاتفاق على أصل القصة. وجه الدلالة: قال المازري: استدل به- أي: بحديث الجارية المذكورة - بعضهم، أي: بعض المالكية- على التدمية؛ لأنها لو لم تعتبر لم يكن لسؤال الجارية فائدة، قال: ولا يصح اعتباره مجردا؛ لأنه خلاف الإجماع فلم يبق إلا أنه يفيد القسامة. وقال النووي: ذهب مالك إلى ثبوت قتل المتهم بمجرد قول المجروح، واستدل بهذا الحديث، ولا دلالة فيه، بل هو قول باطل؛ لأن اليهودي اعترف كما وقع التصريح به في بعض طرقه. ونازعه بعض المالكية فقال: لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا: إن قول المحتضر عند موته: (فلان قتلني) لوث يوجب القسامة، فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور، واحتج من قال بالتدمية: أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهو وقت خلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا- يدل على أنه لا يقول إلا حقا، قالوا: وهي أقوى من قول الشافعية: إن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين؛ لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6879) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4740) ، سنن أبو داود الديات (4529) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/171) ، سنن الدارمي الديات (2355) . (¬2) [المنتقى على الموطأ] (7\56) .

انتهى بواسطة ابن حجر (¬1) . وقد ناقش ابن حزم الاستدلال بهذا الحديث أيضا، فقال أبو محمد رحمه الله: وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى مسلم نا عبد بن حميد، نا عبد الرزاق، نا معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس: «أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، وأخذ فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت (¬2) » . وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد العطار، كلاهما عن قتادة عن أنس. فإن قالوا: إن شعبة زاد ذكر دعوى المقتول في هذه القصة وزيادة العدل مقبولة. قلنا: صدقتم، وقد زاد همام بن يحيى عن قتادة، عن أنس في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها كما روينا من طريق مسلم: نا هداب بن خالد، نا همام عن قتادة عن أنس: «أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديا، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة (¬3) » . . فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي إلا بإقراره لا بدعوى المقتولة. ووجه آخر: وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه- عليه السلام- إنما قتله بدعواها- لكان هذا الخبر حجة عليهم، ولكانوا مخالفين له؛ لأنه ليس فيه ذكر قسامة أصلا وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة البتة حتى يحلف ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12\199) (¬2) صحيح البخاري الديات (6877) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4742) ، سنن أبو داود الديات (4528) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) . (¬3) صحيح البخاري الديات (6877) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4742) ، سنن أبو داود الديات (4529) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) .

اثنان فصاعدا من الأولياء خمسين يمينا ولا بد. وأيضا فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ، والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ؛ لأنه ذكر جارية ذات أوضاح، وهذه الصفة عن العرب- الذين بلغتهم تكلم أنس - إنما يوقعونها على الصبية لا على المرأة البالغة، فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه ولاح خلافهم في ذلك فوجب القول به، ولا يحل لأحد العدول (¬1) . وقال الباجي أيضا: واستدلوا من جهة المعنى: بأن الغالب من أحوال الناس عند الموت ألا يتزودوا من الدنيا قتل النفس التي حرم الله، بل يسعى إلى التوبة والاستغفار، والندم على التفريط، ورد المظالم، ولا أحد أبغض إلى المقتول من القاتل، فمحال أن يتزود من الدنيا سفك دم حرام يعدل إليه ويحقن دم قاتله. قال الباجي بعد ذكره لاستدلال المالكية بقصة البقرة والجارية: وهذا الدليل من المعنى. قال: وهذا عمدة ما يتعلق به أصحابنا في هذه المسألة وهي مسألة فيها نظر، والله أعلم وأحكم (¬2) . 2 - وقال ابن قدامة رحمه الله على قول الخرقي رحمه الله تعالى: (وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال: دمي عند فلان، فليس ذلك بموجب القسامة ما لم يكن لوث) قال: هذا قول أكثر أهل العلم، منهم: الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي، وقال مالك والليث: هو لوث؛ لأن ¬

_ (¬1) [المحلى] لابن حزم (11\84) ، ويرجع أيضا إلى [شرح معاني الآثار] للطحاوي (2\190، 191) . (¬2) [المنتقى] للباجي (7\ 56) .

قتيل بني إسرائيل قال: قتلني فلان فكان حجة. وروي هذا القول عن عبد الملك بن مروان، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم (¬1) » ، ولأنه يدعي حقا لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت، ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثا كالولي. فأما قتيل بني إسرائيل فلا حجة فيه، فإنه لا قسامة فيه، ولأن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام، حيث أحياه الله تعالى بعد موته، وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه، ولم يكن الله ينطقه بالكذب بخلاف الحي، ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم، ثم ذاك في تنزيه المتهمين فلا يجوز تعديتها إلى تهمة البريئين (¬2) . وجاء في [حاشية المقنع] : ونقل الميموني: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل مثل هذا (¬3) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/288) . (¬2) [المغني] (8\498، 499) . (¬3) [حاشية المقنع] (3\ 435) .

الصورة الثانية شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل

الصورة الثانية: شهادة بينة غير قاطعة على معاينة القتل: 1 - قال الأبي: (ع) : الصورة الثانية: اللوث من غير بينة قاطعة على معاينة القتل. لم يختلف قول مالك في أن شهادة العدل الواحد أو اللفيف من الناس وإن لم يكونوا عدولا لوث، وإنما اختلف قوله في شهادة الواحد غير العدل وفي شهادة المرأة هل ذلك لوث؟ وجعل بعض أصحابنا شهادة النساء والصبيان لوثا، وأباه أكثرهم، وجعل ربيعة ويحيى بن سعيد والليث

شهادة الذميين والعبيد لوثا (¬1) . 2 - وقال النووي والرملي: وشهادة العدل الواحد: أي: إخباره ولو قبل الدعوى بأن فلانا قتله لوث؛ لأنه يفيد الظن، وشهادته بأن أحد هذين قتله لوث في حقهما، كما علم مما مر أول الباب، فيعين الولي أحدهما أو كليهما ويقسم، وكذا عبيد أو نساء، يعني: إخبار اثنين فأكثر أن فلانا قتله، وفي [الوجيز] : أن القياس أن قول واحد منهم لوث، وجرى عليه في [الحاوي الصغير] فقال: وقول راو، وجزم به في [الأنوار] وهو المعتمد. وقيل: يشترط تفرقهم لاحتمال التواطؤ، ورد بأن احتماله كاحتمال الكذب في إخبار العدل. وقول فسقة وصبيان وكفار لوث في الأصح؛ لأن اجتماعهم على ذلك يؤكد ظنه. والثاني قال: لا اعتبار بقولهم في الشرع، ولو ظهر لوث في قتيل فقال أحد ابنيه مثلا: (قتله فلان) وكذبه الابن الآخر صريحا- بطل اللوث، فلا يحلف المستحق؛ لانخرام ظن الصدق بالتكذيب الدال على عدم قتله، إذ جبلة الوارث على التشفي، فنفيه أقوى من إثبات الآخر، بخلاف ما إذا لم يكذبه كذلك بأن صدقه أو سكت، أو قال: لا أعلم أنه قتله، أو قال: إنه قتله. وبحث البلقيني أنه لو شهد عدل بعد دعوى أحدهم خطأ أو شبه عمد- لم يبطل اللوث بتكذيب الآخر قطعا، فلمن لم يكذبه أن يحلف معه خمسين يمينا ويستحق، وفي قول: لا يبطل كسائر الدعاوى، ورد بما مر من الجبلة هنا، وقيل: لا يبطل بتكذيب فاسق، ويرد بما مر أيضا، إذ الجبلة لا فرق فيها بين الفاسق وغيره، ولو عين كل غير ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم] (4\ 399) ، ويرجع أيضا إلى [المنتقى] (7\56) .

معين الآخر من غير تعرض لتكذيب صاحبه أقسم كل الخمسين على ما عينه وأخذ حصته. انتهى (¬1) . 3 - قال ابن قدامة: السادس: أن يشهد بالقتل عبيد ونساء، فهذا فيه عن أحمد روايتان: إحداهما: أنه لوث؛ لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه فأشبه العداوة. الثانية: ليس بلوث؛ لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما لو شهد به الكفار. وإن شهد به فساق أو صبيان فهل يكون لوثا؟ على وجهين: أحدهما: ليس بلوث؛ لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الأطفال والمجانين. والثاني: يثبت بها اللوث؛ لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء والعبيد. وقول الصبيان معتبر في الإذن في دخول الدار وقبول الهدية ونحوها، وهذا مذهب الشافعي، ويعتبر أن يجئ الصبيان متفرقين لئلا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب، فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث؛ لأنها يغلب على الظن صدق المدعي أشبه العداوة. وروي أن هذا ليس بلوث، وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام؛ لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل، ولا يجوز القياس؛ لأن الحكم ثبت بالمظنة، ولا يجوز القياس في المظان؛ لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه، والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم، والظنون تختلف ولا تأتلف، وتتخبط ولا تنضبط، وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص، فلا يمكن ربط الحكم ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (7\391، 392) .

بها، ولا تعديته بتعديتها، ولأنه يعتبر في التعدية به والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضى، ولا سبيل إلى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها، فعلى هذه الرواية حكم هذه الصورة حكم غيرها مما لا لوث فيه (¬1) . ¬

_ (¬1) [المغني] (8\490) .

الصورة الثالثة شهادة عدلين بجرح وعدل بالقتل

الصورة الثالثة: شهادة عدلين بجرح، وعدل بالقتل: 1 - قال الأبي: (ع) : الصورة الثالثة: شهادة عدلين بجرح وحيي بعده حياة بينة ثم مات بعده قبل أن يفيق منه، قال مالك وأصحابه والليث: ذلك لوث. واختلف عندنا في شهادة العدل الواحد هل هي لوث؟ والأصح: الأول، وأنه لا بد من شاهدين، ولم ير الشافعي والحنفية في هذا قسامة، ورأوا فيه القصاص إن ثبت بشاهدين، قلت: قال ابن الحارث: إلا أن يكون ما شهد به العدلان من الجرح قد أنفذ مقاتله، فإن أنفذها فلا قسامة فيه، وهو كمقتول، والمشهور في شهادة الواحد أنها لوث، نص على ذلك في [المدونة] وفي [العتبية] لا قسامة فيه. واختلف في شهادة الواحد على إقرار القاتل بالقتل: فقال أشهب: فيه القسامة، وفي [الموازية] : لا قسامة فيه (¬1) . 2 - وقال النووي والرملي: وشهادة العدل الواحد، أي: إخباره ولو قبل الدعوى بأن فلانا قتله لوث؛ لأنه يفيد الظن، وشهادته بأن أحد هذين قتله لوث في حقهما، كما علم مما مر في أول الباب، فيعين الولي أحدهما ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (4\ 399، 400) ، ويرجع أيضا إلى [المنتقى شرح الموطأ] (7\56) .

أو كليهما ويقسمه (¬1) . 3 - وقال ابن قدامة: فصل: وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين - لم تثبت هذه الشهادة، ولم يكن لوثا عند أحد علمائنا، قوله: وإن شهد رجلان أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين، أو شهد أحدهما أن هذا قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله، أو شهد أحدهما أن هذا قتله بسيف، وشهد الآخر أنه قتله بسكين- لم تثبت الشهادة ولم يكن لوثا، هذا قول القاضي واختياره، والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالإقرار بقتله أنه يثبت القتل، واختار أبو بكر ثبوت القتل هاهنا، وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين؛ لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته. وقال الشافعي: هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين، وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث؛ لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد. ولنا أنها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم يكن لوثا كالصورة الأولى (¬2) . ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (7\391) . (¬2) [المغني] (8\490، 491) .

الصورة الرابعة وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره

الصورة الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل أو عليه أثره: 1 - قال الأبي: (ع) : الرابعة: وجود المتهم بقرب القتيل أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل وعليه أثر كالتلطخ بالدم وشبهه، فروى ابن وهب وقاله ابن عبد الحكيم هو لوث. وقال الشافعي: نحوه، قال ذلك إذا لم يوجد هناك أحد ولا به أثر سبع قال: ومنه إذا وجد في بيت أو صحراء وليس هناك

سواهم وتفرقوا عن قتيل، وهذا كله شبهة توجب القسامة. قلت: رواية ابن وهب ذكرها ابن الجلاب كأنها المذهب، قال: وإن وجد قتيل وبقربه رجل وبيده آلة القتل أو عليه شيء من دم القتيل أو عليه أثر القتل- فذلك لوث يقسم معه (¬1) . 2 - وقال ابن قدامة: الرابع: أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله، مثل: أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل، أو سبعا يحتمل ذلك فيه (¬2) . ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم] (3\400) ، أيضا إلى [المنتقى] (7\ 56) . (¬2) [المغني] (8\ 489) .

الصورة الخامسة قتيل الصفين

الصورة الخامسة: قتيل الصفين: 1 - قال الأبي: (ع) الخامسة: قتيل الصفين، تقتتل الفئتان فيوجد بينهما قتيل لا يدرى من قتله، ففيه عندنا روايتان: الأولى: للأولياء أن يقسموا على من يعينونه منها أو على من يدعي عليه الميت كان منهما أو من غيرهما بالقسامة، قال الشافعي: وقال عقله على الفئة المنازعة، وإن عينوا رجلا ففيه القسامة. قلت: الرواية الثانية في [المدونة] ، قال فيها: ولا قسامة في قتيل الصفين، لكن اختلف: فقيل: معنى قوله: لا قسامة إذا عينه الأولياء، وأما إذا عينه المقتول ففيه القسامة. وقيل: لا قسامة عينه المقتول أو الأولياء، وعلى الأول حمل [المدونة] ، الأكثر، ووجه ابن عات رواية القسامة بأن وجوده بينهما يغلب على الظن أن قتله لم يخرج عنهما، وذلك لوث،

ووجه الرواية الأخرى بأن القسامة لا تكون إلا مع لوث في مشار إليه معين، فإن اللوث إذا تعلق بواحد معين أثر في القسامة، أما إذا تعلق بجماعة على أن القاتل واحد منهم غير معين فلا يؤثر (¬1) 2 - وقال الشافعي: إذا اقتتل القوم فانجلوا عن قتيل فادعى أولياؤه على أحد بعينه أو على طائفة بعينها أو قالوا: قد قتلته إحدى الطائفتين ولا يدرى أيتهما قتلته، قيل لهم: إن جئتم بما يوجب القسامة على إحدى الطائفتين أو بعضهم أو واحد بعينه أو أكثر قيل لكم اقسموا على واحد، فإن لم تأتوا بذلك فلا عقل ولا قود، ومن شئتم أن نحلفه لكم على قتله أحلفناه ومن أحلفناه أبرأناه، وهكذا إن كان جريحا ثم مات ادعى على أحد أو لم يدع عليه، إذا لم أقبل دعواه فيما هو أقل من الدم، لم أقبلها في الدم وما أعرف أصلا ولا فرعا لقول من قال: تجب القسامة بدعوى الميت، ما القسامة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل إلا على خلاف ما قال، فيها دعوى ولا لوث من بينة. 3 - وقال ابن قدامة: الثاني: أن يتفرق جماعة عن قتيل، فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم، فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه، ذكره القاضي، وهو مذهب الشافعي؛ لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة (¬2) . ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (4\ 401) ويرجع أيضا إلى [المنتقى] (7\56) . (¬2) [المغني] (8\589) .

وقال ابن قدامة: الخامس: أن يقتتل فئتان، فيتفرقون عن قتيل من إحداهما- فاللوث على الأخرى ذكره القاضي، فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل، هذا قول الشافعي. وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه، وهذا قول مالك، وقال ابن أبي ليلى. على الفريقين جميعا؛ لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه. وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح، وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شيء؟ على وجهين، ذكرها ابن حامد (¬1) . ¬

_ (¬1) [المغني] (8\ 489، 490) .

الصورة السادسة قتيل الزحام

الصورة السادسة: قتيل الزحام: 1 - قال الأبي: (ع) : الصورة السادسة: قتيل الزحام، قال مالك: دمه هدر، وقال الشافعي: فيه القسامة والدية، وقال الثوري وإسحاق: عقله في بيت المال، وعن عمر وعلي مثله، وقال الحسن والزهري: عقله على من حضر. قلت: الذي حكى أبو عمر عن الشافعي: إنما هو لا شيء فيه كقول مالك (¬1) . وقال الباجي نقلا عن [الموازية] : وذلك أنه لا تتعلق التهمة بمعين ولا معينين (¬2) . وقال النووي والرملي: أو تفرق عنه جمع محصور يتصور اجتماعهم ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (4\401) ، و [المنتقى] (7\114) . (¬2) [المنتقى] (7\114) .

على قتله وإن لم يكونوا أعداءه في نحو دار أو ازدحام على الكعبة أو بئر، وإلا فلا قسامة حتى يعين منهم محصورين فيكن من الدعوى والقسامة، فلا بد من وجود أثر قتل وإن قل، وإلا فلا قسامة، وكذا في سائر الصور خلافا للأسنوي (¬1) . وقال ابن قدامة: الثالث: أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد قتيل، فظاهر كلام أحمد: أن هذا ليس بلوث فإنه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة: فديته في بيت المال، وهذا قول إسحاق. وروي ذلك عن عمر وعلي فإن سعيدا روى في [سننه] عن إبراهيم قال: قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله، فقال علي: يا أمير المؤمنين. لا يطل دم امرئ مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعط ديته من بيت المال. وقال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام: ينظر من كان بينه وبينه شيء في حياته، يعني: عداوة يؤخذون، فلم يجعل الحضور لوثا وإنما جعل اللوث العداوة. وقال الحسن والزهري فيمن مات في الزحام: ديته على من حضر؛ لأن قتله حصل منهم، وقال مالك: دمه هدر؛ لأنه لا يعلم له قاتل، ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إليه في رجل وجد قتيلا لم يعرف قاتله، فكتب إليهم: إن من القضايا قضايا لا يحكم فيها إلا في الدار الآخرة، وهذا منها (¬2) . ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (7\390) (¬2) [المغني] (8\489) .

الصورة السابعة وجود قتيل في محلة

الصورة السابعة: وجود قتيل في محلة: 1 - قال شمس الدين السرخسي رحمه الله تعالى. (وإذا وجد الرجل

قتيلا في محلة قوم فعليهم أن يقسم منهم خمسون رجلا بالله: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا: ثم يغرمون الدية، بلغنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أحاديث مشهورة. منها: حديث سهل بن أبي حثمة: «أن عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة خرجوا في التجارة إلى خيبر، وتفرقوا بحوائجهم فوجدوا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب من قلب خيبر يتشحط في دمه، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبروه فأراد عبد الرحمن - وهو أخو القتيل- أن يتكلم فقال: عليه الصلاة والسلام: الكبر الكبر، فتكلم أحد عميه حويصة ومحيصة، وهو الأكبر منهما، وأخبره بذلك قال: ومن قتله؟ قالوا: ومن يقتله سوى اليهود، قال: تبرئكم اليهود بأيمانها؟ فقالوا: لا نرضى بأيمان قوم كفار لا يبالون ما حلفوا عليه، قال عليه السلام: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد؟! فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة (¬1) » . وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب: أن القسامة كانت من أحكام الجاهلية، فقررها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل من الأنصار وجد في حي ليهود، وذكر الحديث. . . إلى أن قال: فألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الدية والقسامة. وفي رواية: فكتب إليهم: «إما أن يدوه أو يأذنوا بحرب من الله (¬2) » وذكر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل خيبر: أن هذا قتيل وجد بين أظهركم، فما الذي يخرجه عنكم؟ فكتبوا إليه إن مثل هذه الحادثة وقعت في بني إسرائيل، فأنزل الله على موسى عليه السلام أمرا، فإن كنت نبيا فاسأل الله مثل ذلك، فكتب إليهم: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4716) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) .

إن الله أراني أن أختار منكم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، ثم يغرمون الدية قالوا: لقد قضيت فينا بالناموس، يعني: الوحي» . وروى حنيف عن زياد بن أبي مريم قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان، فقال: اختر من شيوخهم خمسين رجلا فيحلفون بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، قال: وليس لي من أخي إلا هذا؟ قال: نعم، ومائة من الإبل» . وفي الحديث: أن رجلا وجد بين وادعة وأرحب وكان إلى وادعة أقرب فقضى عليهم عمر رضي الله عنه بالقسامة والدية، فقال حارث بن الأصبع الوادعي: يا أمير المؤمنين، لا أيماننا تدفع عن أموالنا ولا أموالنا تدفع عن أيماننا، فقال: حقنتم دماءكم بأيمانكم وأغرمكم الدية لوجود القتيل بين أظهركم. فهذه الآثار تدل على ثبوت حكم القسامة والدية في القتيل الموجود في المحلة على أهلها ونوع من المعنى يدل عليه أيضا، وهو أن الظاهر أن القاتل منهم؛ لأن الإنسان قلما يأتي من محلة إلى محلة ليقتل مختارا فيها، وإنما تمكن القاتل منهم من هذا الفعل بقوتهم ونصرتهم، فكانوا كالعاقلة، فأوجب الشرع الدية عليهم؛ صيانة لدم المقتول عن الهدر، وأوجب القسامة عليهم لرجاء أن يظهر القاتل بهذه الطريق فيتخلص غير الجاني إذا ظهر الجاني؛ ولهذا يستحلفون بالله: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا. ثم على أهل كل محلة حفظ محلتهم عن مثل هذه الفتنة؛ لأن التدبير في محلتهم إليهم، فإنما وقعت هذه الحادثة؛ لتفريط كان منهم في الحفظ حين تغافلوا عن الأخذ على أيدي السفهاء منهم ومن غيرهم، فأوجب الشرع القسامة

والدية عليهم لذلك، ووجوب القسامة والدية على أهل المحلة مذهب علمائنا. اهـ (¬1) . قال الأبي: (ع) : الصورة السابعة: القتيل يوجد بمحلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم فقال مالك والشافعي: دمه هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة قوم ليلطخهم به. قال الشافعي: إلا أن يكون مثل قضية الأنصار التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعداوة الظاهرة بين الأنصار واليهود، وخيبر مختصة باليهود ليس فيها غيرهم، وخرج عبد الله بعد العصر فوجد مقتولا قبل الليل. وقال أحمد نحوه، وتأوله النسائي على مذهب مالك، وذهب أبو حنيفة ومعظم الكوفيين إلى أن للقتيل يوجد في القرية والمحلة القسامة ولا سبب عندهم من الوجوه السبعة للقسامة سواه؛ لأنها الصورة التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحلف خمسون رجلا خمسين يمينا ويستحقون الدية على ما تقدم من مذهبهم في العمل بها، وذلك إذا وجد القتيل وبه أثر وإلا فلا قسامة فيه، وإن وجد القتيل في مسجد أهل المحلة فالدية في بيت المال إذا ادعوا بذلك على أهل المحلة. وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة وإن لم يكن فيه أثر على ما تقدم من مذهب. وقال داود: لا قسامة إلا في العمد دون الخطأ على أهل القرية الكبيرة والمدينة، وهم أعداء المقتول. قلت في [المدونة] : وإن وجد قتيل في قرية قوم أو دارهم لا يدرى من ¬

_ (¬1) [المبسوط] (26\106- 108) .

قتله - فدمه هدر، ولا دية في بيت المال ولا في غيره. ابن يونس: يريد إن لم يوجد معه، وإن وجد معه رجل عليه أثر قتله قتل به مع القسامة. ابن رشد: ولو وقع مثل قضية الأنصاري في زماننا الواجب الحكم به، ولم يصح أن يتعدى إلى غيره (¬1) . وقال ابن حزم: واعترض المالكيون ومن لا يرى القسامة في هذا بأن قالوا: والقتيل قد يقتل ثم يحمله قاتله فيلقيه على باب إنسان أو في دار قوم. فجوابنا وبالله تعالى التوفيق: أن هذا ممكن، ولكن لا يعترض على حكم الله تعالى وحكم رسوله - عليه السلام- بأنه يمكن أمر كذا، وبيقين يدري كل مسلم أنه قد يمكن أن يكذب الشاهد، ويكذب الحالف، ويكذب المدعي أن فلانا قتله هذا أمر لا يقدر أحد على دفعه. . . ومضى إلى أن أيد ذلك بقصة عبد الله بن سهل (¬2) 3 - وقال النووي والرملي: واللوث قرينة حالية أو مقالية مؤيدة، تصدق المدعي، بأن توقع في القلب صدقه في دعواه. ولا بد من ثبوت هذه القرينة (بأن) أي: كأن، إذ القرائن لم تنحصر فيما ذكره، وجد قتيل أو بعضه وتحقق موته في محلة منفصلة عن بلد كبير أو في قرية صغيرة لأعدائه أو أعداء قبيلته دينا أو دنيا حيث كانت العداوة تحمل على الانتقام بالقتل، ولم يساكنهم غيرهم، كما صححه في [الروضة] وهو المعتمد، والمراد بغيرهم: ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (4\401، 402) ، ويرجع أيضا إلى [المنتقى] (7\ 52، 114) . (¬2) [المحلى] (11\82، 83) .

من لم تعلم صداقته للقتيل، ولا كونه من أهله، أي: ولا عداوة بينهما، كما هو واضح، وإلا فاللوث موجود فلا تمتنع القسامة، قال ابن أبي عصرون وغيره، وهو ظاهر. قال الأسنوي تبعا لابن الرفعة: ويدل له قصة خيبر. فإن إخوة القتيل كانوا معه، ومع ذلك شرعت القسامة. قال العمراني وغيره. ولو لم يدخل ذلك المكان غير أهله لم تعتبر العداوة، قال الأذرعي: ويشبه اشتراط ألا يكون هناك طريق جادة كثيرة الطارقين، وخرج بالصغيرة الكبيرة فلا لوث، بل وجد فيها قتيل فيما يظهر، إذ المراد بها من أهله غير محصورين، وعند انتفاء حصرهم لا تتحقق العداوة بينهم فتنتفي القرينة (¬1) . 4 - وقال ابن قدامة: واختلفت الرواية فيه- أي. في اللوث المشترط في القسامة - فروي عنه: أن اللوث: هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين أهل البغي وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله. نقل مهنا عن أحمد في من وجد قتيلا في المسجد الحرام، ينظر من بينه وبينه في حياته شيء- يعني: ضغنا- يؤخذون به، ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة إلا أنه قد قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل، فاللوث على الطائفة التي القتيل من غيرها، سواء كان القتلى بالتحام، أو مراماة بالسهام، وإن لم تبلغ السهام، فاللوث على طائفة القتيل. إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط مع العداوة ألا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو، نص عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها، وكلام الخرقي يدل ¬

_ (¬1) [المنهاج وشرحه نهاية المحتاج] (7\389، 390) .

عليه أيضا. واشترط القاضي: أن يوجد القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم، وهذا مذهب الشافعي؛ لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن فيها إلا اليهود، وجميعهم أعداء، ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير، ثم ناقض القاضي قوله، فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل: إن كان في القوم من بينهم وبينه عداوة وأمكن أن يكون هو قتله، لكونه بقربه- فهو لوث. فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو. ولنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار: هل كان بخيبر غير اليهود أم لا؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها؛ لأنها كانت أملاكا للمسلمين، يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها، وعمارتها، والاطلاع عليها، والامتيار منها، ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها، وقول الأنصار: (ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود) يدل على أنه قد كان بها غيرهم من ليس بعدو؛ ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من وجود اللوث في حق واحد، وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله، فلأن يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى. وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث، فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه، ولا ينافيه الاحتمال، ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الأيمان، ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة؛ لأنه يحتمل أن القاتل غيره، ولا على الجماعة، لأنه يحتمل ألا يشترك الجميع في قتله. والرواية الثانية عن أحمد: أن اللوث ما يغلب على الظن صدق

المدعي، وذلك في دار أو غيرها، من وجوه: أحدها: العداوة المذكورة (¬1) وسنذكر البقية موزعة في مواضعها. ¬

_ (¬1) [المغني] (8\7-9) (الطبعة المشتركة مع الشرح الكبير)

تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف

تحرير محل النزاع في اللوث مع بيان منشأ الخلاف: اتفق من يقولون بالقسامة على أنها لا تثبت بمجرد دعوى أولياء الدم، واتفقوا على أنها تثبت بالدعوى إذا اقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بمقتضاها، ثم اختلفوا في الصور التي تتحقق فيها هذه الشبهة، ومنشأ الخلاف في ذلك اختلافهم في تطبيق ضابط هذه الشبهة المسماة لوثا على هذه الصور، فمن رآها متحققة في صورة من الصور السبع المذكورة أو نحوها أثبت بها القسامة، ومن لم يجد في نفسه غلبة الظن توجب الحكم بها في صورة لم يثبت الحكم بها في تلك الصورة. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر [فتح الباري] (12\197) بتصرف.

العنصر الرابع هل يتعين أن يكون المدعى عليه في القسامة واحدا أو يجوز أن يكون أكثر ولو مبهما

الرابع: هل يتعين أن يكون المدعى عليه في القسامة واحدا أو يجوز أن يكون أكثر ولو مبهما، مع ذكر الدليل والمناقشة؟ لقد سبق الكلام على معنى اللوث وخلاف العلماء في صوره، وكان مما تقدم: أن القسامة عند الحنفية لا تكون إلا في صورة واحدة من الصور التي سبق الكلام عليها، وهي الواقعة بين الأنصار واليهود في خيبر، وتقدم النقل عنهم في هذه الصورة مستوفيا أدلتهم من السنة والآثار. ومما تقدم يتبين: أن أبا حنيفة رحمه الله يرى: أن الدعوى في القتل تكون على مبهم، فتركنا إعادة ذلك النقل اكتفاء بما سبق ذكره، ومعلوم أن هذا

الرأي يخالف قوله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم (¬1) » . وأما المذاهب الثلاثة ففيما يلي تفصيل أقوالهم وما استندوا إليه، ومعلوم أن الأصل في هذا الباب هو قصة خيبر، وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (¬2) » . 1 - قال مالك: (وإذا كان القسامة لم تكن إلا على رجل واحد ولم يقتل غيره ولم نعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد. قال الباجي: هذا قول مالك وأكثر أصحابه. وقال أشهب: إن شاءوا أقسموا على واحد أو على اثنين أو على جميعهم ثم لا يقتلون إلا واحدا ممن أدخلوه في القسامة، كان ذلك لقول الميت: دمي عند فلان أو فلان أو لشهادة شاهد على القتل أو شاهدين على الضرب ثم عاش أياما. وجه قول مالك: أنه لا يقتل في القسامة إلا واحد فلا معنى للقسامة على غيره. ووجه قول أشهب: أن القتيل إذا ادعى قتل جماعة له فيجب أن تكون القسامة على قدر ذلك؛ لأن الأيمان لا تكون إلا موافقة للدعوى (¬3) . وقال الباجي في الكلام على من يستحق القتل بالقسامة: قال: وإذا قلنا: لا يقتل إلا واحد فهل يقسم على واحد أو على جماعة؟ ففي المجموعة من رواية ابن القاسم عن مالك: لا يقسم إلا على واحد سواء ثبتت القسامة بدعوى الميت أو بلوث أو بينة على القتل أو بينة على الضرب ثم عاش أياما. وقال أشهب: إن شاءوا أقسموا على واحد أو على اثنين أو على أكثر أو على جميعهم ثم لا يقتلون إلا واحدا ممن أدخلوه في قسامتهم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬3) [الموطأ بشرح المنتقى] (7\62) .

وجه القول الأول: أن القسامة فائدتها القصاص من المدعى عليه القتل فلا معنى للقسامة على من لا يقتل ولا تؤثر فيه القسامة حكما. ووجه القول الثاني: أن القسامة إنما هي على قدر الدعوى محققة لها ولا يجوز أن يكون في بعضه، فإذا وجب لهم القصاص بالقسامة المطابقة لدعواهم كان لهم حينئذ تعيين من يقتص منه؛ لأن القسامة قد تناولته. وقال سحنون فيما جاء في القسامة على الجماعة في العموم: قال: قلت: أرأيت إن ادعوا الدم على جماعة رجال ونساء؟ قال: قال مالك: إذا ادعوا الدم على جماعة أقسموا على واحد منهم وقتلوا إذا كان لهم لوث من بينة، أو تكلم بذلك المقتول، أو قامت البينة على أنهم ضربوه ثم عاش بعد ذلك ثم مات- قلت: فللورثة أن يقسموا على أيهم شاءوا ويقتلوه؟ قال: نعم، عند مالك. قلت: فإن ادعوا الخطأ وجاءوا بلوث من بينة على جماعة أقسم الورثة عليهم كلهم بالله الذي لا إله إلا هو أنهم قتلوه ثم تفرق الدية على قبائلهم في ثلاث سنين؟ قال: نعم. وكذلك سألت مالكا فقال لي مثلما قلت لك، وقال لي مالك: ولا يشبه هذا العمد (¬1) وقال ابن رشد: واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة، هل يقتل بها أكثر من واحد؟ فقال مالك: لا تكون القسامة إلا على واحد، وبه قال أحمد بن حنبل. وقال أشهب: يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء وهو ¬

_ (¬1) [المدونة الكبرى] (16\224) .

ضعيف. وقال المغيرة المخزومي: كل من أقسم عليه قتل. وقال مالك والليث: إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب أنه مات من ذلك الضرب وقيد به، وهذا كله ضعيف (¬1) . 2 - قال الشافعي في باب القسامة: ولهم- أي: ولاة الدم- إذا كان ما يوجب القسامة على أهل البيت أو القرية أو الجماعة أن يحلفوا على واحد منهم أو أكثر، فإذا أمكن في المدعى عليه أن يكون في جملة القتلة جاز أن يقسم عليه وحده وعلى غيره ممن أمكن أن يكون في جملتهم (¬2) . . . . . وقال أيضا في اختلاف المدعى عليه في الدم، قال: فإن ادعى أولياؤه- أي: القتيل- على أهل المحلة لم يحلف لهم منهم إلا من أثبتوا بعينه فقالوا: نحن ندعي أنه قتله، فإن أثبتوهم كلهم وادعوا عليهم وهم مائة أو أكثر وفيهم نساء ورجال وعبيد مسلمون كلهم أو مشركون كلهم أو فيهم مسلم ومشرك أحلفوا كلهم يمينا يمينا؛ لأنهم يزيدون على خمسين وإن كانوا أقل من خمسين ردت الأيمان عليهم، فإن كانوا خمسة وعشرين حلفوا يمينين يمينين؛ وإن كانوا ثلاثين حلفوا يمينين يمينين؛ لأن على كل واحد منهم يمينا وكسر يمين، ومن كان عليه كسر يمين حلف يمينا تامة، وليس الأحرار المسلمون أحق بالأيمان من العبيد ولا العبيد من الأحرار ولا الرجال من النساء ولا النساء من الرجال، كل بالغ فيها سواء، ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد] (2\432) . (¬2) [الأم] (6\75) .

وإن كان فيهم صبي ادعوا عليه لم يحلف، وإذا بلغ حلف فإن مات قبل البلوغ فلا شيء عليه، ولا يحلف واحد منهم إلا واحد ادعوا عليه بنفسه، فإذا حلفوا برئوا. وقال الشافعي: بيان ما يحلف عليه في القسامة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: وينبغي للحاكم أن يسأل من وجبت له القسامة: من صاحبك؟ فإذا قال فلان، قال: فلان وحده؟ فإن قال: نعم، قال: عمدا أو خطأ؟ فإن قال: عمدا سأله ما العمد؟ فإن وصف ما يجب بمثله قصاص ولو قامت بينة أحلفه على ذلك، وإن وصف من العمد ما لا يجب فيه القصاص وإنما يكون فيه العقل- أحلفه على ذلك بعد إثباته، وإن قال: قتله فلان ونفر معه، لم يحلفه حتى يسمي النفر، فإن قال: (لا أعرفهم وأنا أحلف على هذا أنه فيمن قتله) لم يحلفه حتى يسمي عدد النفر معه، فإن كانوا ثلاثة أحلفه على الذي أثبته، وكان له عليه ثلث الدية أو على عاقلته، وإن كانوا أربعة نفر فربعها، وإن لم يثبت عددهم لم يحلف؛ لأنه لا يدري كم يلزم هذا الذي يثبت ولا عاقلته من الدية لو حلف عليه، ولو عجل الحاكم فأحلفه قبل أن يسأله عن هذا كان عليه أن يعيد عليه اليمين إذا أثبت كم عدد من قتل معه، ولو عجل الحاكم فأحلفه لقتل فلان فلانا ولم يقل عمدا ولا خطأ أعاد عليه عدد ما يلزمه من الأيمان؛ لأن حكم الدية في العمد أنها في ماله وفي الخطأ أنها على عاقلته، ولو عجله فأحلفه لقتله مع غيره عمدا ولم يقل قتله وحده أعاد عليه اليمين لقتله وحده، ولو عجل فأحلفه لقتله من غيره ولم يسم عدد الذين قتلوه معه أعاد عليه الأيمان إذا عرف العدد، ولو أحلفه لقتله وثلاثة معه ولم يسمهم قضى عليه بربع الدية أو على عاقلته،

فإن جاء بواحد من الثلاثة فقال: (قد أثبت هذا) أحلفه أيضا عدة ما يلزمه من الأيمان، فإن كان هذا الوارث وحده أحلفه خمسين يمينا لقتله مع هؤلاء الثلاثة، فإن كان يرث النصف فنصف الأيمان ولم تعد عليه الأيمان الأولى، ثم كلما أثبت واحدا معه أعاد عليه ما يلزمه من الأيمان كما يبتدئ استحلافه على واحد لو كانت دعواه عليه منفردة، وإن كان له وارثان فأغفل الحاكم بعض ما وصفت أنه عليه أن يحلفه عليه، وأحلفه مغفلا خمسين يمينا، ثم جاء الوارث الآخر فحلف خمسا وعشرين يمينا، أعاد على الأول خمسا وعشرين عينا، لأنها هي التي تلزمه مع الوارث معه، وإنما أحلفه أولا خمسا وعشرين يمينا؛ لأنه لا يستحق نصيبه من الدية إلا بها إذا لم تتم أيمان الورثة معه خمسين يمينا (¬1) . 3 - قال ابن قدامة: ذكر الخرقي من شروط القسامة: أن تكون الدعوى عمدا توجب القصاص إذا ثبت القتل وأن تكون الدعوى على واحد. وقال غيره: ليس بشرط، لكن إن كانت الدعوى عمدا محضا لم يقسموا إلا على واحد معين ويستحقون دمه، وإن كانت خطأ أو شبه عمد فلهم القسامة على جماعة معينين ويستحقون الدية (¬2) . وقال في [حاشية المقنع] : قوله: (وأن تكون الدعوى على واحد) : إذا كانت الدعوى عمدا محضا لم يقسموا إلا على واحد معين ويستحقون دمه، وهذا بلا نزاع. قال الشارح: لا يختلف المذهب أنه لا يستحق ¬

_ (¬1) [الأم] (6\81) . (¬2) [المقنع] (3 \ 432، 433) .

بالقسامة أكثر من قتل واحد، وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: يستحق بها قتل جماعة؛ لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة، وقول أبي ثور نحو هذا. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (¬1) » فخص بها الواحد. ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه وتبقى على الأصل. وأما إن كانت الدعوى خطأ أو شبه عمد: فقال في [لإنصاف] فالصحيح من المذهب والروايتين ليس لهم قسامة ولا تشرع على أكثر من واحد وعليه جماهير الأصحاب منهم: الخرقي والقاضي وجماعة من أصحابه؛ كالشريف وأبي الخطاب والشيرازي وابن البنا وابن عقيل، وغيرهم وجزم به في [الوجيز] و [المنور] و [منتخب الآدمي] ، وغيرهم، وقدمه في [المحرر] و [النظم] ، و [الحاوي الصغير] و [الفروع] وغيرهم. وعنه: لهم القسامة على جماعة معينين ويستحقون الدية، وهو الذي قاله المصنف هنا، وجزم به في [الهداية] و [المذهب] و [المستوعب] ، و [الخلاصة] وقدمه في [الرعايتين] ، وظاهر كلام المصنف هنا أن غير الخرقي ما قال ذلك، وتابعه الشارح وابن منجا وليس الأمر كذلك، فقد ذكرنا عن غير الخرقي من اختار ذلك. انتهى. قلت: والذي جزم به في [الإقناع] أن لهم القسامة في الخطأ كالعمد؛ لأن الخطأ أحد القتلين أشبه العمد، ويقسمون ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

على واحد معين كالعم158د، وهو معنى ما جزم به في [الإنصاف] (¬1) . ¬

_ (¬1) [حاشية المقنع] (3\433، 434)

العنصر الخامس ذكر خلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا من مدع ومدعى عليه ومستند كل

الخامس: ذكر خلاف العلماء فيمن توجه إليه أيمان القسامة أولا من مدع ومدعى عليه ومستند كل مع المناقشة: اختلف أهل العلم القائلون بالقسامة فيمن توجه إليه أيمان القسامة ابتداء: فذهبت طائفة منهم إلى أنه يبدأ بالمدعين فتوجه إليهم الأيمان. قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا، والذي سمعت ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أنه يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون (¬1) . وقال ابن رشد: قال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم: يبدأ المدعون (¬2) . وجاء في [المقنع] وحاشيته: ويبدأ بأيمان المدعين، فيحلفون خمسين يمينا، هذا المذهب، فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا، وهذا قول يحيى بن سعيد وربيعة وأبى الزناد والليث ومالك والشافعي (¬3) . واستدلوا لذلك بالسنة والإجماع والاستصحاب والنظر والقياس: أما السنة: فروى الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ¬

_ (¬1) [المنتقى] على [الموطأ] (7\55) ، و [إكمال إكمال المعلم] (4\395) . (¬2) [بداية المجتهد] (2\439) . (¬3) [المقنع] وحاشيته (3\ 439) .

ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن عن سهل بن أبي حثمة: أنه أخبره رجال من كبراء قومه: «أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فتفرقا في حوائجهما فأتى محيصة فأخبر: أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم، فأقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول، فذهب محيصة يتكلم- وهو الذي كان بخيبر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة كبر كبر يريد: السن، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا: لا، قال: فتحلف يهود؟ قالوا: ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار. قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء (¬1) » . وعورض هذا الحديث: أولا: بما روى أبو داود عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن بجيد بن قيظي أحد بني حارثة، قال محمد بن إبراهيم: وايم الله ما كان سهل بأعلم منه، ولكنه كان أسن منه، قال: والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احلفوا على ما لا علم لكم به) ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار: أنه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلا، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أجاب ابن قدامة رحمه الله عن ذلك: فقال: ولنا حديث سهل، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

وهو صحيح متفق عليه، ورواه مالك في [موطئه] وعمل به، وما عارضه من الحديث لا يصح؛ لوجوه: أحدها: أنه نفي فلا يرد به قول المثبت. والثاني: أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد القصة وعرفها حتى أنه قال: ركضتني ناقة من تلك الإبل، والأخرى يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة. والثالث: أن حديثنا مخرج في [الصحيحين] متفق عليه، وحديثهم بخلافه. والرابع: أنهم لا يعملون بحديثهم، ولا حديثنا، فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه فيه (¬1) . وعورض حديث سهل ثانيا: بما جاء في البخاري من رواية سعيد بن عبيد: فقال لهم: «تأتون بالبينة على من قتله، قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة (¬2) » . وما جاء في البخاري من رواية أبي قلابة، وفيه قال: «أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه، فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون، قال: أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم، قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده (¬3) » . وأجاب ابن حجر عن هذا الاعتراض: بعد ذكره لمجموعة من الروايات ¬

_ (¬1) [المغني] (8\495، 496) . (¬2) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬3) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .

فيها تقديم تحليف المدعين قال: كذا في رواية سعيد بن عبيد لم يذكر عرض الأيمان على المدعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولا، وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولا فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم (¬1) فأبوا. وقال أيضا: وأجابوا عن رواية سعيد بن عبيد - يعني: المذكورة في حديث الباب- بقول أهل الحديث: إنه وهم من رواية أسقط من السياق تبرئة المدعين باليمين؛ لكونه لم يذكر فيه رد اليمين، واشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة من ثقة حافظ، فوجب قبولها، وهي تقضي على من لم يعرفها. نقله ابن حجر عن القاضي عياض (¬2) . وما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة» . قال ابن حجر في الكلام على سند هذا الحديث: قوله: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر إلا في القسامة (¬3) » الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر من حديث مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به، قال أبو عمر إسناده لين، وقد رواه عبد الرازق عن ابن جريج عن عمرو مرسلا، وعبد الرزاق أحفظ من مسلم بن خالد وأوثق، ورواه ابن عدي والدارقطني من حديث عثمان بن ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12\234) . (¬2) [فتح الباري] (12\236) (¬3) سنن الترمذي الأحكام (1341) .

محمد عن مسلم، عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وهو ضعيف أيضا، وقال البخاري: ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب فهذه علة أخرى (¬1) . أما الإجماع: فقال البيهقي: وأصح ما روي في القتل بالقسامة وأعلاه بعد حديث سهل ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار - وهو سكران- رجلا آخر من الأنصار من بني النجار في عهد معاوية، ولم يكن على ذلك شهادة إلا لطيخ وشبهته، قال: فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه. قال خارجة بن زيد: فركبنا إلى معاوية وقصصنا عليه القصة فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص - فذكر- الحديث، وفيه فقال سعيد: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين، فاغدوا على بركة الله، فغدونا عليه فأسلمه إلينا سعيد بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينا. وفي بعض طرقه: وفي الناس يومئذ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة. انتهى بواسطة ابن القيم (¬2) . وأما الاستصحاب: فقد نقل الأبي عن القاضي عياض: أن القسامة أصل في نفسها شرعت لحياة الناس، وليرتدع المعتدي، والدعاوى في ¬

_ (¬1) [تلخيص الحبير] (4\39) . (¬2) [شرح ابن القيم لسنن أبي داود] وعليها [عون المعبود] (12\254) .

الأموال على سننها فكل أصل صحيح في نفسه يتبع ولا تطرح سنة بسنة (¬1) . وقد سبق ذكر هذا دليلا، ونوقش هناك، فأكتفي به عن إعادة مناقشته خشية الإطالة. وأما النظر: فقال الأبي نقلا عن القاضي عياض: القسامة إنما تكون مع الشبهة القوية على القتل ومع الشبهة صارت اليمين له (¬2) . وأما القياس: فقال ابن قدامة: ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين، كاللعان (¬3) . ويمكن أن يقال: بأن هذا قياس مع النص، وهو ما ورد من الأدلة دالا على البدء بالمدعى عليهم بالأيمان. وسيأتي ذكرها. ويمكن أن يعارض هذا الجواب: بالأدلة الدالة على البدء بالمدعين، وقد مضى الكلام في ذلك من جهة الجمع بين الأدلة المتعارضة ومن جهة الترجيح- فلا نطيل الكلام بإعادتها. وذهبت طائفة أخرى من أهل العلم إلى أنه يبدأ أولا بالمدعى عليهم، فتوجه إليهم الأيمان. قال الأبي نقلا عن الإمام مالك رحمه الله: وقال الكوفيون وكثير من البصريين والمدنيين: ويروى عن عمر: أن المبدأ المدعى عليهم (¬4) . ثم قال: قلت: واختلف هؤلاء: ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (4\395) . (¬2) [إكمال إكمال المعلم] (4\395) . (¬3) [المغني] (8\496) . (¬4) [إكمال إكمال المعلم] (4\395) .

فقال بعضهم: إن حلفوا برئوا، وقال بعضهم: يحلفون وتكون الدية عليهم. وقال ابن قدامة: وقال الحسن: يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا، ويبرءون، فإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين أن حقنا قبلكم، ثم يعطون الدية. وقال أيضا: وقال الشعبي والنخعي والثوري وأصحاب الرأي: يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل: بالله ما قتلناه، ولا علمنا قاتلا، ويغرمون الدية (¬1) . وقد استدل أصحاب هذا القول بالسنة والأثر والقياس: أما السنة: فمن ذلك ما أخرجه البخاري بالسند المتصل قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار. . . . الحديث إلى أن قال لهم: «تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة (¬2) » ، وفي رواية أبي قلابة قال: «أترضون نفل خمسين من اليهود مما قتلوه، فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون، قال: أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم، قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده (¬3) » . ويمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين: الأول: الجمع، وسبق ذكر ذلك في مناقشة الدليل الأول للقائلين بأنه ¬

_ (¬1) [المغني] (8\495) . (¬2) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬3) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .

يبدأ بالمدعين. الثاني: قال القاضي عياض: وما احتج به الآخرون من رواية من روى أنه بدأ بالمدعى عليهم: قال المحدثون هي وهم من راويها (¬1) . ويمكن أن يناقش هذان الجوابان بما ذكره ابن رشد: من أن الذين يرون البدء بالمدعى عليهم بالأيمان قالوا: وأحاديثنا هذه أولى من التي تروى فيها تبدئة المدعين بالأيمان؛ لأن الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه. ويناقش الجواب الثاني بما ذكره ابن رشد: من أن الأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة (¬2) . ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة: بقول الحطاب: الرواية الصحيحة المستفيضة أنه إنما بدأ فيه بالمدعين (¬3) . ومنها: ما رواه أبو داود في [سننه] قال: حدثنا الحسن بن محمد الصباح الزعفراني، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار: «زعم أن رجلا من الأنصار يقال له: سهل بن أبي حثمة أخبره: أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صاحبنا؟ فقالوا: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لهم: تأتون بالبينة على من ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (4\ 395) (¬2) [بداية المجتهد] (2\ 430) (¬3) [إكمال إكمال المعلم] (4\ 395)

قتل هذا؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة (¬1) » . ورد هذا الحديث بقول النسائي: (لا نعلم أحدا تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار) . وبقول مسلم: (رواية سعيد بن عبيد غلط ويحيى بن سعيد أحفظ منه) . وقال ابن القيم: والصواب: رواية الجماعة- الذين هم أئمة أثبات- أنه بدأ بأيمان المدعين، فلما لم يحلفوا ثنى باليهود، وهذا هو المحفوظ في هذه القصة وما سواه وهم (¬2) . ويقول الخطابي في [المعالم] : في الحديث حجة لمن رأى أن اليمين على المدعى عليهم، إلا أن أسانيد الأحاديث المتقدمة أحسن اتصالا وأصح متونا. وقد روى ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في اليمين بالمدعين: سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج وسويد بن النعمان (¬3) . هذا ويمكن أن تجرى فيه المناقشة التي مضت في الدليل الأول. ومنها: ما رواه أبو داود في [سننه] ، قال: حدثنا الحسن بن علي بن راشد، أنبأنا هشيم عن أبي حيان التيمي، أخبرنا عباية. بن رفاعة، «عن رافع بن خديج قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر، فانطلق ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6898) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4523) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬2) [عون المعبود شرح سنن أبي داود] ومعه [معالم السنن] للخطابي (12\ 249، 250) (¬3) [عون المعبود شرح سنن أبي داود] ومعه [معالم السنن] للخطابي (12\ 254) .

أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله، لم يكن ثم أحد من المسلمين، إنما هم اليهود، وقد يجترئون (يجترون) على أعظم من هذا، قال: " فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم"، فاستحلفهم فأبوا، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده (¬1) » . ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأمرين: أحدهما: ما مضى من المناقشة من جهة المتن والدرجة. الثاني: أن هذا الحديث في سنن الحسن بن علي بن راشد، وقد رمي بشيء من التدليس، قاله ابن حجر (¬2) . ويجاب عن المناقشة الثانية: بأنه جاء في السند: وأخبرنا هشيم، فزالت تهمة التدليس بذلك، وقد حسن ابن التركماني إسناده، فقال: ومنها ما أخرج أبو داود بسند حسن عن رافع بن خديج، وساق الحديث (¬3) . ومنها: ما رواه أبو داود في [سننه] قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، أخبرنا (حدثني) محمد - يعني: ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عبد الرحمن بن بجيد قال: إن سهلا وإن أوهم الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى اليهود: أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلناه وما علمنا له قاتلا، قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة (¬4) » . ورد هذا الحديث أولا بقول المنذري: في إسناده محمد بن إسحاق ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الديات (4524) . (¬2) [أضواء البيان] (3\ 503) (¬3) [الجوهر النقي على سنن البيهقي] لابن التركماني (8\ 120) (¬4) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

وقد تقدم الكلام فيه، وبقول الإمام الشافعي: فقال قائل: ما منعك أن تأخذ بحديث ابن بجيد؟ قلت: لا أعلم ابن بجيد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن سمع منه فهو مرسل فلسنا وإياك نثبت المرسل، وقد علمت سهلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه وساق الحديث سياقا لا يثبت به الإثبات فأخذت به كما وصفت. انتهى بواسطة المنذري. وفي الإصابة في ترجمة عبد الرحمن بن بجيد قال أبو بكر بن أبي داود: له صحبة، وقال ابن أبي حاتم: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جدته. وقال ابن حبان: يقال له صحبة، ثم ذكره في ثقات التابعين. وقال البغوي: لا أدري له صحبة أم لا. وقال ابن عمر: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه فيما أحسب وفي صحبته نظر؛ لأنه روى فمنهم من يقول: إن حديثه مرسل وكان يذكر بالعلم انتهى (¬1) . ويجاب ثانيا بما أجيب به عن الحديث الأول من هذه الأدلة. ومنها ما رواه أبو داود في [سننه] قال: حدثنا الحسن بن علي، أخبرنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال (رجل) من الأنصار: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود - وبدأ بهم-: يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا، فقال للأنصار استحقوا (¬2) . فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله ¬

_ (¬1) [عون المعبود شرح سنن أبي داود] (12\ 252) (¬2) سنن أبو داود الديات (4526) .

دية على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم» . ورد هذا الحديث بقول المنذري: قال بعضهم: وهذا حديث ضعيف لا يلتفت إليه، وقد قيل للإمام الشافعي رضي الله عنه: ما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب؟ فقال: مرسل والقتيل أنصاري والأنصاريون بالعناية أولى بالعلم به من غيرهم، إذ كان كل ثقة وكل عندنا بنعمة الله ثقة. قال البيهقي رضي الله عنه: وأظنه أراد بحديث الزهري ما روى عنه معمر عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار، وذكر هذا الحديث (¬1) . وقال ابن القيم: وهذا الحديث له علة، وهي: أن معمرا انفرد به عن الزهري وخالفه ابن جريج وغيره، فرووه عن الزهري، بهذا الإسناد بعينه عن أبي سلمة وسليمان عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى فيها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود) . ذكره البيهقي. وفي قول الشافعي: إن حديث ابن شهاب مرسل نظر، والرجال من الأنصار لا يمتنع أن يكونوا صحابة، فإن أبا سلمة وسليمان كل منهما من التابعين قد لقي جماعة من الصحابة، إلا أن الحديث غير مجزوم باتصاله لاحتمال كون الأنصاريين من التابعين (¬2) . وأجيب عن هذا: بقول ابن رشد عند ذكره لهذا الحديث بسنده هذا، قال: وهو حديث صحيح الإسناد؛ لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة (¬3) . ¬

_ (¬1) [عون المعبود شرح سنن أبي داود] (12\ 254، 255) (¬2) [عون المعبود شرح سنن أبي داود] (12\ 253، 254) (¬3) [بداية المجتهد] (2\ 430)

ويناقش بما سبق من أن جميع الروايات التي فيها البدء بالمدعى عليهم قال المحدثون: هي وهم من راويها. ومنها: ما رواه مسلم في [صحيحه] : «ولكن اليمين على المدعى عليه (¬1) » وفي لفظ: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه (¬2) » رواه الشافعي في مسنده. وقد أجاب ابن قدامة عن الاستدلال بهذا الحديث: فقال: اليمين على المدعى عليه لم ترد به هذه القضية؛ لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم، هاهنا قد أعطوا بدعواهم على أن حديثنا أخص منه، فيجب تقديمه، ثم هو حجة عليهم؛ لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم، وقد رواه ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، إلا في القسامة» وهذه الزيادة يتعين العمل بها؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة (¬3) . وأجاب الخطابي أيضا، فقال: وأما عن الحديثين الآخرين: حديث «شاهداك أو يمينه (¬4) » ، «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (¬5) » - فإن القسامة أصل في نفسها شرع الحكم بها لتعذر إقامة البينة حينئذ؛ لأن القاتل في الغالب إنما يقصد الخلوة والغيلة بخلاف سائر الحقوق. وأيضا فإنها لم تخرج عن ذلك الأصل؛ لأنه إنما كان القول قول المدعى عليه في تلك الحقوق؛ لقوة جنبته بشهادة الأصل وهو أن الأصل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الرهن (2514) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن الترمذي الأحكام (1342) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن أبو داود الأقضية (3619) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) ، مسند أحمد بن حنبل (1/363) . (¬2) سنن الترمذي الأحكام (1341) . (¬3) [المغني] (8\ 396) (¬4) صحيح البخاري الرهن (2516) . (¬5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4552) ، صحيح مسلم الأقضية (1711) ، سنن النسائي آداب القضاة (5425) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2321) .

براءة الذمة، وهذا المعنى موجود هنا، فإنا لم نجعل القول قول المدعي إلا لقوة جنبته باللوث الذي يشهد بصدقه، فقد أهملنا ذلك الأصل ولم نطرحه بالكلية (¬1) . وأما الأثر: فقال ابن رشد: واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك: أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد، وكان أجرى فرسه فوطئ على إصبع الجهني فنزي فيها فمات، فقال عمر للذي ادعى عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا أن يحلفوا وتحرجوا، فقال للمدعين: احلفوا فأبوا، فقضى عليهم بشطر الدية (¬2) . ويمكن أن يجاب عن هذا: بأنه أثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تقديم المدعين، فلا تعارض الأحاديث الصحيحة بالآثار. وهناك آثار لا تخلو من مقال تركنا ذكرها اختصارا، ومن أراد الرجوع إليها فعليه بمراجعة: [نصب الراية] و [الدراية] و [تلخيص الحبير] و [شرح ابن القيم لسنن أبي داود] . وأما القياس: فقال ابن الهمام: ولأن اليمين حجة في الدفع لا الاستحقاق وحاجة الولي إلى الاستحقاق؛ ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل فأولى ألا يستحق النفس المحترمة (¬3) . ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (4\ 395) (¬2) [بداية المجتهد] (2\ 430) . (¬3) [فتح القدير] (8\ 385)

ويمكن أن يجاب عن هذا القياس: أولا: بأنه قياس مع الفارق، وقد بين ذلك الإمام مالك رحمه الله فقال: وإنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق: أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه حقه وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس وإنما يلتمس الخلوة. قال: فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون فيها ليكف الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول (¬1) . وثانيا: أنه قياس مع النص والقياس مع النص لا يصح والنص ما ورد من الأدلة الصحيحة على البدء بالمدعين. ¬

_ (¬1) [الموطأ على المنتقى] (7\ 61)

العنصر السادس ذكر خلاف العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة ومستند كل مع المناقشة

السادس: ذكر خلاف العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة ومستند كل مع المناقشة، وهل ترد الأيمان إذا نقص العدد أم لا؟ 1 - من يحلف من المدعين: اختلف أهل العلم في ذلك: فمنهم: من رأى أن الوارث هو الذي يقسم. ومنهم: من رأى أن العصبة هم الذين يقسمون. فمن القائلين: بأن الورثة هم الذين يقسمون الإمام الشافعي - رحمه الله- وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.

وفيما يلي ذكر بعض ما قالوه في ذلك مع الأدلة والمناقشة: 1 - قال الشافعي رحمه الله تحت ترجمة: (من يقسم فيه ويقسم عليه) قال: يحلف في القسامة الوارث البالغ غير المغلوب على عقله من كان منهم مسلما أو كافرا عدلا أو غير عدل ومحجور عليه، والقسامة في المسلمين على المشركين والمشركين على المسلمين والمشركين فيما بينهم مثلها على المسلمين لا تختلف؛ لأن كلا ولي دمه، ووارث دية المقتول وماله، إلا أنا لا نقبل شهادة مشرك على مسلم، ولا نستدل بقوله بحال؛ لأن من حكم الإسلام إبطال أخذ الحقوق بشهادة المشركين. وقال الشافعي أيضا تحت ترجمة: (الورثة يقسمون) : وإذا قتل الرجل فوجبت فيه القسامة لم يكن لأحد أن يقسم عليه إلا أن يكون وارثا، كان قتله عمدا أو خطأ، وذلك أنه لا تملك النفس بالقسامة إلا دية المقتول ولا يملك دية المقتول إلا وارث، فلا يجوز أن يقسم على مال يستحق إلا من له المال بنفسه أو من جعل الله تعالى له المال من الورثة. وقال الشافعي: ولو وجبت في رجل القسامة وعليه دين وله وصايا فامتنع الورثة من القسامة، فسأل أهل الدين أو الموصى لهم أن يقسموا لم يكن ذلك لهم، وذلك أنهم ليسوا المجني عليه الذي وجب له على الجانين المال، ولا الورثة الذين أقامهم الله تعالى مقام الميت في ماله بقدر ما فرض له منه. وقال الشافعي: ولو ترك القتيل وارثين فأقسم أحدهما فاستحق به نصف الدية أخذها الغرماء من يده، فإن فضل منها فضل أخذ أهل الوصايا ثلثها من يده، ولم يكن لهم أن يقسموا ويأخذوا النصف الآخر، فإن أقسم

الوارث الآخر أخذ الغرماء من يده ما في يده حتى يستوفوا ديونهم، وإن استوفوها أخذ أهل الوصايا الثلث مما في يده، وإن كان للغرماء مائة دينار فاستوفوها من نصف الدية الذي وجب للذي أقسم أولا ثم أقسم الآخر رجع الأول على الآخر بخمسين دينارا ولا يرجع عليه في الوصايا؛ لأن أهل الوصايا إنما يأخذون منه ثلث ما في يده لا كله كما يأخذه الغرماء. قال الشافعي: ولا يقسم ذو قرابة ليس بوارث ولا ولي يتيم من ولد الميت حتى يبلغ اليتيم، فإن مات اليتيم قام ورثته في ذلك مقامه، وإن طلب ذو قرابة وهو غير وارث القتيل: أن يقسم جميع القسامة لم يكن ذلك له فإن مات ابن القتيل أو زوجة له، أو أم، أو جدة فورثه ذو القرابة كان له أن يقسم؛ لأنه صار وارثا (¬1) . وقد أورد الشافعي رحمه الله تعالى اعتراضا على تخصيصه الوارث، وأجاب عنه: قال الشافعي: فإن قال قائل: ففي حديث ابن أبي ليلى ذكر أخي المقتول ورجلين معه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: تحلفون وتستحقون فكيف لا يحلف إلا وارث؟ قلت: قد يمكن أن يكون قال ذلك لوارث المقتول هو وغيره، ويمكن أن يكون قال ذلك لوارثه وحده: تحلفون لواحد، أو قال ذلك لجماعتهم يعني به: يحلف الورثة أن كان مع أخيه الذي حكى أنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وارث غيره، أو كان أخوه غير وارث له، وهو يعني بذلك: الورثة. فإن قال قائل: ما الدلالة على هذا؟ فإن جميع حكم الله وسنن رسول الله ¬

_ (¬1) [الأم] (6\ 80)

صلى الله عليه وسلم فيما سوى القسامة أن يمين المرء لا تكون إلا فيما يدفع بها الرجل عن نفسه، كما يدفع قاذف امرأته الحد عن نفسه وينفي بها الولد، وكما يدفع بها الحق عن نفسه والحد من غيره، وفيما يأخذ بها الرجل مع شاهد ويدعي المال فينكل المدعى عليه، وترد عليه اليمين، فيأخذ بيمينه، ونكول صاحبه ما ادعى عليه، لا أن الرجل يحلف فيبرأ غيره، ولا يحلف فيملك غيره بيمينه شيئا، فلما لم يكن في الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها لغير وارث ويستحق بها الوارث لم يجز فيها- والله أعلم- إلا تكون في معاني ما حكم الله عز وجل من الأيمان ثم رسوله صلى الله عليه وسلم ثم المسلمون من أنه لا يملك أحد بيمين غيره شيئا. قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولا يجب على أحد حق في القسامة حتى تكمل أيمان الورثة خمسين يمينا، وسواء كثر الورثة أو قلوا، وإذا مات الميت وترك وارثا واحدا أقسم خمسين يمينا واستحق الدية، وإن ترك وارثين أو أكثر فكان أحدهما صغيرا أو غائبا أو مغلوبا على عقله، أو حاضرا بالغا فلم يحلف فأراد أحدهما اليمين- لم يحبس على غائب ولا صغير، ولم يبطل حقه من ميراثه من دمه بامتناع غيره من اليمين ولا إكذابه دعوى أخيه ولا صغره، وقيل للذي يريد اليمين: أنت لا تستوجب شيئا من الدية على المدعى عليهم ولا على عواقلهم إلا بخمسين يمينا، فإن شئت أن تعجل فتحلف خمسين يمينا وتأخذ نصيبك من الميراث لا يزاد عليه قبلت منك، وإن امتنعت فدع هذا حتى يحضر معك وارث تقبل يمينه فتحلفان خمسين يمينا أو ورثته فتكمل أيمانكم خمسين يمينا، كل رجل منكم بقدر ما يجب عليه من الأيمان أو أكثر، ولا يجوز أن يزاد على وارث

في الأيمان على قدر حصته من الميراث إلا في موضعين: أحدهما: ما وصفت من أن يغيب وارث أو يصغر أو ينكل فيريد أحد الورثة اليمين فلا يأخذ حقه إلا بكمال خمسين يمينا، فيزاد عليه في الأيمان في هذا الموضع، ولا يجبر على الأيمان، أو يدع الميت ثلاثة بنين فتكون حصة كل واحد منهم سبعة عشر يمينا إلا ثلث يمين فلا يجوز في اليمين كسر، ولا يجوز أن يحلف واحد ستة عشر يمينا وعليه ثلثا يمين، ويحلف آخر سبعة عشر (¬1) ، ولا سبعة عشرة زيادة، ويحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا، فيكون عليهم زيادة يمين بينهم، وهكذا من وقع عليه أو له كسر يمين جبرها. وإن لم يدع القتيل وارثا إلا ابنه أو أباه أو أخاه أجزأه أن يحلف خمسين يمينا؛ لأنه مالك المال كله، وكل من ملك شيئا حلف عليه، وهكذا لو لم يدع إلا ابنته وهي مولاته حلفت خمسين يمينا، وأخذت الكل: النصف بالنسب، والنصف بالولاء، وهكذا لو لم يدع إلا زوجته وهي مولاته، وإذا ترك أكثر من خمسين وارثا سواء في ميراثه كأنهم بنون معا أو إخوة معا أو عصبة في القعدد إليه سواء، حلف كل واحد منهم يمينا وإن جازوا خمسين أضعافا؛ لأنه لا يأخذ أحد مالا بغير بينة ولا إقرار من المدعى عليه بلا يمين منه، ولا يملك أحد بيمين غيره شيئا، ولو كانت فيهم زوجة فورثت الربع أو الثمن حلفت ربع الأيمان ثلاثة عشر يمينا، يزاد عليها كسر ¬

_ (¬1) قوله: (ولا سبعة عشر) إلخ كذا في الأصل.

يمين أو ثمن الأيمان سبعة أيمان يزاد عليها كسر يمين، لما وصفت من أنه لا يجوز إذا كان على وارث كسر يمين إلا أن يأتي بيمين تامة (¬1) . 2 - قال ابن قدامة: والرواية الثانية: لا يقسم إلا الوارث، وتفرض الأيمان على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب مواريثهم، هذا ظاهر قول الخرقي، واختيار أبي حامد، وقول الشافعي. فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم، فإن انقسمت من غير كسر، مثل: أن يخلف المقتول اثنين أو أخا وزوجا حلف كل واحد منهم خمسة وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة بنين، أو جدا وأخوين جبر الكسر عليهم، فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا؛ لأن تكميل الخمسين واجب، ولا يمكن تبعيض اليمين، ولا حمل بعضهم لها عن بعض، فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم، وإن خلف أخا من أب وأخا من أم، فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان، ثم يجبر الكسر، فيكون عليه تسع أيمان، وعلى الأخ من الأب اثنان وأربعون، وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه؛ لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى، وعن مالك أنه قال: ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط الآخر. ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم (¬2) » . ¬

_ (¬1) [الأم] (6\ 80- 82) (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1631) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

وأكثر ما روي عنه في الأيمان خمسون، ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين، وهذا خلاف النص، ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة. ويفارق اليمين على المدعى عليه، فإنها ليست حجة للمدعي، ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق كل واحد؛ كاليمين المنكسرة في القسامة، فإنها تجبر وتكمل في حق كل واحد؛ لكونها لا تتبعض، وما لا يتبعض يكمل؛ كالطلاق، والعتاق. وما ذكره مالك لا يصح؛ لأنه إسقاط لليمين عمن عليه بعضها، فلم يجز، كما لو تساوى الكسران، بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها، أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها، وبالقياس على من عليه أكثرها؛ ولأن اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد، ويستوي من له في المدعي كثير وقليل، كذا هاهنا؛ ولأنه يفضي إلى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه فلم يجز ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكثر (¬1) . 3 - قال الخرقي: (وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا، حرا أو عبدا، إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل؛ لأن القسامة توجب القود إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية) . قال ابن قدامة: أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف، سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا، فإن الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر، فاتهم اليهود بقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة. ¬

_ (¬1) [المغني، (10\ 27، 28) (الطبعة المشتركة مع الشرح الكبير)

وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا، وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله، وهو المماثل له في حاله- ففيه القسامة، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي. وقال الزهري والثوري ومالك والأوزاعي: لا قسامة في العبد؛ لأنه مال فلم تجب القسامة فيه، كقتل البهيمة. ولنا: أنه قتل موجب للقصاص، فأوجب القسامة كقتل الحر. وفارق البهيمة؛ فإنه لا قصاص فيها. ويقسم على العبد سيده؛ لأنه المستحق لدمه. وأم الولد والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة، كالقن؛ لأن الرق ثابت فيهم، وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا، والحر يقتل عبدا- فلا قسامة فيه، في ظاهر قول الخرقي، وهو قول مالك؛ لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود. وقال القاضي: فيهما القسامة، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي؛ لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم، ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد الكافر كالبينة. ولنا: أنه قتل لا يوجب القصاص، فأشبه قتل البهيمة، ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع عدمه، بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص. ذكره القاضي؛ لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك، ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة (¬1) . ومن القائلين بأن العصبة هم الذين يحلفون: الإمام مالك رحمه الله، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) [المغني] (8\ 504. 505)

وفيما يلي ذكر بعض ما قالوا في ذلك: 1 - قال مالك رحمه الله: والقسامة تصير إلى عصبة المقتول وهم ولاة الدم الذين يقسمون عليه والذين يقتل بقسامتهم. وقال مالك أيضا: يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا (¬1) . وقال الباجي: قوله: (يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا، يحتمل أن يريد إن كان الولاة أكثر من خمسين حلف خمسون، فتكون (من) للتبعيض، ويحتمل أن يريد به يحلف من هذا الجنس خمسون، فتكون (من) للجنس إذا كان ولاة الدم خمسين فلا خلاف أن جميعهم يحلف، وإن كانوا أكثر من خمسين فقد حكى القاضي أبو محمد في ذلك روايتين: إحداهما: يحلف منهم خمسون خمسين يمينا. والرواية الثمانية: يحلف جميعهم، والذي ذكر ابن عبدوس وابن المواز من رواية ابن القاسم وابن وهب عن مالك يحلف من الولاة خمسون، وقال المغيرة وأشهب وعبد الملك: وإن كانوا أكثر من خمسين وهم في العقد سواء، ففي [الموازية] كالإخوة وغيرهم فليس عليهم أن يحلف منهم إلا خمسون، وهذا المشهور من المذهب في كتب المغاربة من المالكيين، وإنما اختلفوا إذا كان الأولياء خمسين فأرادوا أن يحلف منهم رجلان خمسين يمينا، ففي [المجموعة] عن عبد الملك: لا يجزئهم ذلك، وهو كالنكول. وقال ابن المواز: ذهب ابن القاسم إلى أن يمين رجلين منهم خمسين يمينا يجزئ وينوب عمن بقي، قال محمد. وقول ¬

_ (¬1) [الموطأ] وعليه [المنتقى] (7\ 58)

ابن القاسم صواب؛ لأن أهل القسامة تجزئ أيمان بعضهم عن بعض، ولو لم يجوز ذلك لم يقل أشهب: إن كانوا ثلاثة يحلفون يمينا يمينا ثم يحلف عشرون منهم عشرين يمينا ولو كانوا مائة متساوين أجزأ يمين خمسين. قال: وأما إذا تشاح الأولياء ولم يرضوا أن يحمل بعضهم عن بعض- فلا بد من قول أشهب، وبه قال ابن القاسم. فرع: وهذا إذا كان إمساك عن اليمين يحمل ذلك عنه، وأما أن امتنع عن اليمين فتسقط الدية. قاله ابن القاسم (¬1) . قال الباجي: مسألة: ولا يحلف في القسامة على قتل العمد أقل من اثنين. قاله مالك في [المجموعة] و [الموازية] ، قال ابن القاسم: كأنه من ناحية الشهادة، إذ لا يقتل بأقل من شاهدين. قال أشهب: وقد جعل الله لكل شهادة رجل في الزنا يمينا من الزوج في التعانه. قال عبد الملك: ألا ترى أنه لا يحلف النساء في العمد؛ لأنهن لا يشهدن فيه، وإنما عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة والجماعة اثنان فصاعدا، قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬2) وأصل هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحارثيين: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (¬3) » وإنما كان ولي الدم رجلا واحدا، وهو عبد الرحمن بن سهل أخو المقتول عبد الله بن سهل، وإنما كان حويصة ومحيصة ابني عم، فلما علق النبي صلى الله عليه وسلم الأيمان بجماعتهم، ولم يقصرها على ولي الدم كان الظاهر ¬

_ (¬1) [المنتقى على الموطأ] (7\ 58، 59) (¬2) سورة النساء الآية 11 (¬3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

أنها لا تثبت إلا في حكم الجماعة، وأقل الجماعة اثنان، وقد نص عليه ابن الماجشون واحتج عليه بآية الميراث {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬1) ولا خلاف أن الأخوين يحجبان الأم عن الثلث إلى السدس كما يفعل الثلاثة الإخوة، ولا يحجبها الأخ الواحد؛ لأن اسم الإخوة لا يتناوله. فرق: والفرق بين ولاة القتيل لا يقسم منهم أقل من اثنين ويقسم من جنبة القاتل واحد وهو القاتل- أن جنبة القتيل إذا عدم منهم اثنان وبطلت القسامة في جنبته فرجعت في جنبة القاتل، فإن لم يكن معه من يحلف معه من جهتهم كان للطالب بالدم ما يرجع إليه وهو أيمان القاتل وأولياؤه ولو لم يقبل من القاتل، وقد يعدم أولياء يحلفون معه لم يكن له ما يرجع إليه في تبرئة نفسه (¬2) . قال الباجي: مسألة: فإن كان ولاة الدم اثنين حلف كل رجل منهم خمسا وعشرين يمينا؛ وليس لأحدهما أن يتحمل عن صاحبه شيئا من الأيمان، قال ابن المواز عن ابن القاسم: ووجه ذلك: أنه لا يجوز أن يحلف أحد في العمد أكثر من خمس وعشرين يمينا، قال ابن المواز عن ابن الماجشون: ولهما أن يستعينا بمن أمكنهما من العصبة، ويبدأ بيمين الأقرب فالأقرب، يحلفون بقدر عددهم مع المعينين، فإن حلف الأولياء أكثر مما ينوبهم في العدد مع المعينين جاز ذلك، وإن حلف المعينون أكثر لم يجز ذلك، ووجه ذلك عندي: أنه نوع من النكول. وأما إذا تساووا على حسب العدد أو كانت أيمان الولاة أكثر فإنها على وجه العون للولاة، ولو حلف أحد الوليين خمسا وعشرين، ثم استعان ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 11 (¬2) [المنتقى على الموطأ] (7\ 59)

الآخر بأربعة وعشرين من العصبة لم يجزه أن يحلف إلا ثلاثة عشر يمينا؛ لأن المعينين تتوجه معونتهم إليه وإلى صاحبه كما لو حلفوا قبل أن يحلف الولي الأول. قال الباجي: مسألة: فإن كان ولي الدم واحدا جاز له أن يستعين من العصبة بواحد وأكثر من ذلك ما بينه وبين خمسين رجلا. والأصل في ذلك ما روى أبو قلابة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحارثيين اللذين ادعيا على اليهود: أتحلفون وتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم (¬1) » فكان الظاهر أن هذا العدد لا يزاد عليه، لأن عدد الأنصار كان أكثر من ذلك، وتكون الأيمان بينهم على ما تقدم من التفسير. وقال مالك: القسامة في قتل الخطأ يقسم الذين يدعون الدم، ويستحقون بقسامتهم يحلفون خمسين يمينا تكون على قسم مواريثهم من الدية، فإن كان في الأيمان كسور، وإذا قسمت بينهم نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الأيمان إذا قسمت فيجبر عليه تلك اليمين. قال الباجي: وهذا على ما قال أن ولاة الدم الذين يدعون الدم يقسمون في قتل الخطأ مع الشاهد على القتل. قال أشهب: وكذلك إذا قال: دمي عند فلان قتلني خطأ. وقال عبد الملك: ويؤخذ في ذلك بشهادة النساء فيمن علم الناس بموته. وقال ابن المواز: اختلف قول مالك في القسامة على قول القتيل في الخطأ. وقال عيسى بن دينار: أخبرني من أثق به أن قول مالك في الغريم لا يقسم في الخطأ بقول الميت، ثم رجع فقال: يقسم مع قوله، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجه القول الأولى أنه يتهم أن يريد غنى ولده وحرمة الدم أعظم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6899) .

ووجه القول الذي رجع إليه أنه معنى يوجب القسامة في العمد فأوجبها في الخطأ كالشاهد العدل. (فرع) : فإذا قلنا: إنه يقسم مع قول القتيل فإنه يقسم مع قول المسخوط والرجال والنساء ما لم يكن صغيرا أو عبدا أو ذميا (¬1) . قال الباجي: وقوله: (يحلفون خمسين يمينا) علق ذلك بالعدد؛ لأنها قسامة في دم فما اختصت بالخمسين كالعمد؛ ولهذا المعنى يبدأ فيها المدعون وتكون الأيمان على الورثة إن كانوا يحيطون بالميراث على قدر مواريثهم، فإن كان في الأيمان كسر فالقسامة على أكثرهم حظا منها، قاله مالك في [المجموعة] . قال عبد الملك. لا ينظر إلى كثرة ما عليه من الأيمان وإنما ينظر إلى تلك اليمين. قال ابن القاسم: إذا كان على أحدهم نصفها، وعلى الآخر ثلثها، وعلى الآخر سدسها- جبرت على صاحب النصف، وإن كان الوارث لا يحيط بالميراث فإنه لا يأخذ حصته من الدية حتى يحلف خمسين يمينا (¬2) . قال مالك: فإن لم يكن للمقتول ورثة إلا النساء فإنهن يحلفن ويأخذن الدية، فإن لم يكن له وارث إلا رجل واحد حلف خمسين يمينا وأخذ الدية، وإنما يكون ذلك في قتل الخطأ ولا يكون في قتل العمد. قال الباجي: وهذا على ما قال: أن حكم القسامة في قتل الخطأ غير حكمها في قتل العمد. . .؛ لأنها لما اختصت القسامة في الخطأ بالمال ¬

_ (¬1) [المنتقى على الموطأ] (7\ 63) . (2) (¬2) [المنتقى على الوطأ] (7\ 63، 74)

كان ذلك للورثة رجالا كانوا أو نساء، قل عددهم أو كثر، ولا يحلف في ذلك إلا وارث، وأما قتل العمد فإن مقتضاه القصاص، وإنما يقوم به العصبة من الرجال، فلذلك تعلقت الأيمان بهم دون النساء (¬1) . قال الأبي: (ع) : والأيمان في القسامة خمسون لا ينقص منها لنص الحديث يحلفها في الخطأ الورثة، فإن لم تكن إلا امرأة لم تأخذ فرضها حتى تحلف الخمسين، وكذلك إن لم تكن الورثة إلا نساء فإنهن لا يأخذن فرضهن حتى يحلفن الخمسين يمينا، وإن كانت الورثة جماعة وزعت الأيمان على قدر المواريث. قال الأبي: قلت: وإنما وزعت كذلك؛ لأن الأيمان هي السبب في حصول الدية فتوزع كما توزع الدية، فإن انكسرت منها يمين أو أكثر فإن استوت الأجزاء أكملت اليمين على كل واحد من المنكسر عليهم، وإن اختلف كما لو كان الوارث ابنا فالمشهور: أنه إنما تكمل اليمين على صاحب الجزء الأكبر، وقيل: تكمل على كل واحد من المنكسر عليهم (¬2) . قال الأبي: (ع) : فإن لم يحضر من الورثة إلا واحد وغاب الباقون لم يأخذ الحاضر نصيبه حتى يحلف الخمسين يمينا، فإذا قدم الغائب لم يأخذ حظه من الميراث حتى يحلف نصيبه من الأيمان، ولا يكتفي بحلف الحاضر (¬3) . 2 - قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد فيمن تجب عليه أيمان ¬

_ (¬1) [المنتقى على الموطأ] (7\ 64) (¬2) [الأبي] (4\ 395، 396) . (¬3) [الأبي] (4\ 396)

القسامة، فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلا، كل واحد منهم يمينا واحدة، وهذا قول لمالك، فعلى هذا يحلف الوارث منهم الذين يستحقون دمه، فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة، يؤخذ الأقرب منهم فالأقرب من قبيلته التي ينتسب إليها ويعرف كيفية نسبه من المقتول. فأما من عرف أنه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم يقسم، مثل: أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشي، ولا يعرف كيفية نسبه منهم- فلا يقسم، لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح، وكلهم يرجعون إلى أب واحد، ولو قتل من لا يعرف نسبه لم يقسم عنه سائر الناس، فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم، وقسمت بينهم، فإن انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين (¬1) . جاء في [حاشية المقنع] : قوله: (وعنه يحلف من العصبة. . . إلخ) هذا قول لمالك ونصره جماعة من الأصحاب منهم الشريف وأبو الخطاب والشيرازي وابن البناء (¬2) . ¬

_ (¬1) [المغني] (8\ 501) (¬2) [حاشية المقنع] (3\ 440)

من يحلف من المدعى عليهم

2 - من يحلف من المدعى عليهم: إذا لم يحلف المدعون حلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا، هذا في المذاهب الثلاثة، ويوافقهم المذهب الحنفي في أنه يحلف خمسون رجلا خمسين يمينا، وهذا إذا أمكن عند الجميع، وإذا لم

يمكن فسيأتي بيانه في رد الأيمان، وقد بسط الكاساني رحمه الله الكلام على تحليف المدعى عليهم مع بيان خلاف أئمة المذهب الحنفي، وفي مقدمتهم أبو حنيفة رحمه الله، فذكرنا كلامه مفصلا. قال الكاساني: وأما بيان سبب وجوب القسامة والدية: فنقول: سبب وجوبهما هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع الذي وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة والحفظ؛ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع القدرة على الحفظ- صار مقصرا بترك الحفظ الواجب، فيؤخذ بالتقصير زجرا عن ذلك، وحملا على تحصيل الواجب، وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان أولى بتحمل القسامة والدية؛ لأنه أولى بالحفظ فكان التقصير منه أبلغ، ولأنه إذا اختص بالموضع ملكا أو يدا بالتصرف كانت منفعته له فكانت النصرة عليه، إذ الخراج الضمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تبارك وتعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬1) ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد أو جماعة؛ إما بالملك أو باليد وهو التصرف فيه فيتهمون أنهم قتلوه، فالشرع ألزمهم القسامة دفعا للتهمة، والدية- لوجود القتيل بين أظهرهم. وإلى هذا المعني أشار سيدنا عمر رضي الله عنه حينما قيل: أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال: (أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم) ، وإذا عرف هذا فنقول: القتيل إذا وجد في المحلة فالقسامة والدية على أهل المحلة، للأحاديث وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 286

ولأن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم، وهم المتهمون في قتله فكانت القسامة والدية عليهم. وكذلك إذا وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة لما قلنا: فيحلف منهم خمسون، فإن لم يكمل العدد خمسين رجلا تكرر الأيمان عليهم حتى تكمل خمسين يمينا. لما روي عن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: أنه حلف رجالا القسامة، فكانوا تسعة وأربعين رجلا، فأخذ منهم واحدا وكرر عليه اليمين حتى كملت خمسين يمينا، وكان ذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه خالفه أحد فيكون إجماعا. ولأن هذه الأيمان حق ولي القتيل فله أن يستوفيها ممن يمكن استيفاؤها منه، فإن أمكن الاستيفاء من عدد الرجال الخمسين استوفى، وإن لم يمكن يستوفي عدد الأيمان التي هي حقه. وإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر اليمين على بعضهم- ليس له ذلك، كذا ذكر محمد رحمه الله؛ لأن موضوع هذه الأيمان على عدد الخمسين في الأصل، لا على واحد، وإنما التكرار على واحد لضرورة نقصان العدد ولا ضرورة عند الكمال. وإن كان في المحلة قبائل شتى؛ فإن كان فيها أهل الخطة والمشترون فالقسامة والدية على أهل الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة. وقال أبو يوسف رحمه الله: عليهم وعلى المشترين جميعا. وجه قوله: أن الوجوب على أهل الخطة باعتبار الملك، والملك ثابت للمشترين؛ ولهذا إذا لم يكن من أهل الخطة أحد كانت القسامة على

المشترين. وجه قولهما: أن أهل الخطة أصول في الملك؛ لأن ابتداء الملك ثبت لهم، وإنما انتقل عنهم إلى المشترين، فكانوا أخص بنصرة المحلة وحفظها من المشترين، فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم، وكان المشتري بينهم كالأجنبي، فما بقي واحد منهم لا ينتقل إلى المشتري. وقيل: إن أبا حنيفة بنى الجواب على ما شاهد بالكوفة، وكان تدبير أمر المحلة فيها إلى أهل الخطة، وأبو يوسف رأى التدبير إلى الأشراف من أهل المحلة كانوا من أهل الخطة أو لا، فبنى الجواب على ذلك، فعلى هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة؛ لأن كل واحد منهما عول على معنى الحفظ والنصرة. فإن فقد أهل الخطة وكان في المحلة ملاك وسكان فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف عليهم جميعا. لما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب القسامة على أهل خيبر وكانوا سكانا ولأن للسكان اختصاصا بالدار يدا، كما أن للمالك اختصاصا بها ملكا، ويد الخصوص تكفي لوجوب القسامة. وجه قولهما: أن المالك أخص بحفظ الموضع ونصرته من السكان؛ لأن اختصاصه اختصاص ملك أنه أقوى من اختصاص اليد ألا يرى أن السكان يسكنون زمانا ثم ينتقلون. وأما إيجاب القسامة على يهود خيبر فممنوع؛ لأنهم كانوا سكانا، بل كانوا ملاكا، فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم ووضع الجزية على رءوسهم، وما كان يؤخذ منهم كان يؤخذ على وجه الجزية

لا على سبيل الأجرة. ولو وجد قتيل في سفينة؛ فإن لم يكن معهم ركاب فالقسامة والدية على أرباب السفينة وعلى من يمدها ممن يملكها أو لا يملكها، وإن كان معهم فيها ركاب فعليهم جميعا، وهذا في الظاهر يؤيد قول أبي يوسف في إيجاب القسامة والدية على الملاك والسكان جميعا. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يفرقان بين السفينة والمحلة؛ لأن السفينة تنقل وتحول من مكان إلى مكان، فتعتبر فيها اليد دون الملك كالدابة إذا وجد عليها قتيل، بخلاف الدار فإنها لا تحتمل النقل والتحويل فيعتبر فيها الملك والتحويل ما أمكن لا اليد، وكذا العجلة حكمها حكم السفينة، لأنها تنقل وتحول ولو وجد القتيل ومعه رجل يحمله على ظهره فعليه القسامة والدية؛ لأن القتيل في يده، ولو جريح معه وبه رمق يحمله حتى أتى به أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لا يضمن عند أبي يوسف، وقال أبو يوسف: وفي قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه يضمن. وجه القياس: أن الحامل قد ثبتت يده عليه مجروحا، فإذا مات من الجرح فكأنه مات في يده، وهذا تفريع على من جرح في قبيلة فتحامل إلى قبيلة أخرى فمات فيهم، وقد ذكرناه فيما تقدم. وكذلك إذا كان على دابة ولها سائق أو قائد وعليها راكب فعليه القسامة والدية؛ لأنه في يده وإن اجتمع السائق والقائد والراكب فعليهم جميعا؛ لأن القتيل في أيديهم فصار كأنه وجد في دارهم. وإن وجد على دابة لا سائق لها ولا قائد ولا راكب عليها؛ فإن كان ذلك الموضع ملكا لأحد فالقسامة والدية على المالك، وإن كان لا مالك له

فعلى أقرب المواضع إليه من حيث يسمع الصوت من الأمصار والقرى، وإن كان بحيث لا يسمع فهو هدر لما قلنا فيما تقدم. فإن وجدت الدابة في محلة فعلى أهل تلك المحلة. وكذلك إذا وجد في فلاة من الأرض فإنه ينظر إن كان ذلك المكان الذي وجد فيه ملكا لإنسان فالقسامة والدية عليه، وإن لم يكن له مالك فعلى أقرب المواضع إليه من الأمصار والقرى إذا كانت بحيث يبلغ الصوت منها إليه، وإن كان بحيث لا يبلغ فهو هدر لما قلنا، وذكر في الأصل في قتيل وجد بين قريتين أنه يضاف إلى أقربهما. لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يذرع بين قريتين في قتيل وجد بينهما (¬1) » . وكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه في قتيل وجد بين وادعة وأرحب وكتب إليه عامله بذلك، فكتب إليه سيدنا عمر رضي الله عنه: أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب فألزمهم، فوجد القتيل إلى وادعة أقرب، فألزموا القسامة والدية، وذلك كله محمول على ما إذا كان بحيث يبلغ الصوت إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل، كذا ذكر محمد في الأصل، حكاه الكرخي رحمه الله، والفقه ما ذكرنا فيما تقدم. وكذا إذا وجد بين سكتين فالقسامة والدية على أقربهما، فإن وجد في المعسكر في فلاة من الأرض فإن كانت الأرض التي وجد فيها لها أرباب فالقسامة والدية على أرباب الأرض؛ لأنهم أخص بنصرة الموضع وحفظه فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم وهذا على أصلهما؛ لأن المعسكر كالسكان والقسامة على الملاك، فأما على أصل أبي يوسف ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (3/39) .

رحمه الله فالقسامة والدية عليهم جميعا، وإن يكن في ملك أحد بأن وجد في خباء أو فسطاط، فعلى من يسكن الخباء والفسطاط وعلى عواقلهم القسامة والدية؛ لأن صاحب الخيمة خص بموضع الخيمة من أهل العسكر بمنزلة صاحب الدار مع أهل المحلة، ثم القسامة على صاحب الدار إذا وجد فيها قتيل لا على أهل المحلة، كذا ها هنا. وإن وجد خارجا من الفسطاط والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط منهم القسامة والدية، كذا ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن الأقرب أولى بإيجاب القسامة والدية لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا وجد بين الخيام فالقسامة والدية على جماعتهم كالقتيل يوجد في المحلة، جعل الخيام المحمولة كالمحلة على هذه الرواية. . . هذا إذا لم يكن العسكر لقوا عدوا، فإن كانوا قد لقوا عدوا فقاتلوا فلا قسامة ولا دية في قتيل يوجد بين أظهرهم؛ لأنهم إذا لقوا عدوا وقاتلوا فالظاهر أن العدو قتله لا المسلمين؛ إذ المسلمون لا يقتل بعضهم بعضا. ولو وجد قتيل في أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهل القرية فالقسامة والدية على صاحب الأرض لا على أهل القرية؛ لأن صاحب الأرض أخص بنصرة أرضه وحفظها من أهل القرية فكان أولى بإيجاب القسامة والدية عليه كصاحب الدار مع أهل المحلة. . . ولو وجد قتيل في دار إنسان وصاحب الدار من أهل القسامة، فالقسامة والدية على صاحب الدار وعلى عاقلته. كذا ذكر في الأصل ولم يفصل بينهما إذا كانت العاقلة حضورا أو غيبا، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله: أن

القسامة على رب الدار وعلى عاقلته حضورا كانوا أو غيبا. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا قسامة على العاقلة هكذا ذكر فيه. وقال الكرخي رحمه الله: أن كانت العاقلة حضورا في المصر دخلوا في القسامة وإن كانت غائبة، فالقسامة على صاحب الدار تكرر عليه الأيمان، والدية عليه وعلى عاقلته. أما دخول العاقلة في القسامة إذا كانوا حضورا فهو قولهما، وظاهر قول أبي يوسف: (لا قسامة على العاقلة) يقتضي ألا يدخلوا في القسامة. وجه قول زفر رحمه الله: أنه لما لزمتهم الدية لزمتهم القسامة كأهل المحلة، ولأبي يوسف أن صاحب الدار أخص بالنصرة وبالولاية والتهمة، فلا تشاركه العاقلة كما لا يشارك أهل المحلة غيرهم. ووجه قولهما: أن العاقلة إذا كانوا حضورا يلزمهم حفظ الدار ونصرتها. . . كما يلزم صاحب الدار، وكذا يتهمون بالقتل كما يتهم صاحب الدار، فقد شاركوه في سبب وجوب القسامة فيشاركونه في القسامة أيضا، وبهذا يقع الفرق بين حال الحضور والغيبة على ما ذكره الكرخي رحمه الله؛ لأن معنى التهمة ظاهر الانتفاء من الغيب وكذا معنى النصرة، لئلا يلحق ذلك الموضع نصرة من جهتهم إلا أنه تجب عليهم الدية؛ لأن وجوب الدية على العاقلة لا يتعلق بالتهمة، فإنهم يتحملون عن القاتل المعين إذا كان صبيا أو مجنونا أو خاطئا، وسواء كانت الدار فيها ساكن أو كانت مفرغة مغلقة فوجد فيها قتيل فعلى رب الدار، وعلى عاقلته القسامة والدية. أما على أصل أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما فظاهر؛ لأنهما

يعتبران الملك دون السكنى، فكان وجود السكنى فيها والعدم منزلة واحدة. وأما أبو يوسف رحمه الله فإنما يوجب على الساكن لاختصاصه بالدار يدا ولم يوجد ها هنا، وسواء كان الملك الذي وجد فيه القتيل خاصا أو مشتركا فالقسامة والدية على أرباب الملك لما قلنا، وسواء اتفق قدر أنصباء الشركاء أو اختلف فالقسامة والدية بينهم بالسوية، حتى لو كانت الدار بين رجلين لأحدهما الثلثان وللأخر الثلث فالقسامة عليهما، وعلى عاقلتهما نصفان، ويعتبر في ذلك عدد الرءوس لا قدر الأنصباء كما في الشفعة؛ لأن حفظ الدار واجب على كل واحد منهما والحفظ لا يختلف، ولهذا تساويا في استحقاق الشفعة؛ لأن الاستحقاق لدفع ضرر الدخيل وأنه لا يختلف باختلاف قدر الملك، وذكر في [الجامع الصغير] فيمن باع دارا ووجد فيها قتيل قبل أن يقبضها المشتري: أن القسامة والدية على البائع إذا لم يكن في البيع خيار، فإن كان فيه خيار فعلى من الدار في يده في قول أبي حنيفة. وعند أبي يوسف ومحمد: الدية على مالك الدار إن لم يكن في البيع خيار فإن كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له، وعند زفر رحمه الله: الدية على المشتري، إلا أن يكون للبائع خيار فتكون الدية عليه. وجه قول زفر: أن الملك للمشتري إذا لم يكن فيه خيار، وكذا إذا كان الخيار للمشتري؛ لأن خيار المشتري لا يمنع دخول المبيع في ملكه عنده، فإذا كان الخيار للبائع فالملك له؛ لأن خياره يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف. وجه قولهما: أنه إذا لم يكن فيه خيار فالملك للمشتري وإنما للبائع

صورة يد من غير تصرف، وصورة اليد لا مدخل لها في القسامة، كيد المودع فكانت القسامة والدية على المشتري، وإذا كان فيه خيار فعلى من تصير الدار له؛ لأنه إذا صارت للبائع فقد انفسخ البيع وجعل كأنه لم يكن، وإن صارت للمشتري فقد انبرم البيع، وتبين أنه ملكها بالعقد من حين وجوده. وأما تصحيح مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فمشكل من حيث الظاهر؛ لأنه يعتبر الملك فيما يحتمل النقل والتحويل لا اليد، وإن كانت اليد يد تصرف كيد الساكن والثابت للبائع صورة يد من غير تصرف فأولى أن يعتبره، لكن لا إشكال في الحقيقة؛ لأن الوجوب بترك الحفظ، والحفظ باليد حقيقة، إلا أنه يضاف الحفظ إلى الملك؛ لأن استحقاق اليد به عادة فيقام مقام اليد فكانت الإضافة إلى ما به حقيقة أولى، إلا أن مطلق اليد لا يعتبر، بل اليد المستحقة بالملك وهذه يد مستحقة بالملك بخلاف يد الساكن، وإذا وجد رجل قتيلا في دار نفسه فالقسامة والدية على عاقلته لورثته في قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وفي قولهما رحمهما الله: لا شيء فيه، وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهما الله، وروي عن أبي حنيفة مثل قولهم. وجه قولهم: أن القتل صادفه والدار ملكه، وإنما صار ملك الورثة عند الموت والموت ليس بقتل؛ لأن القتل فعل القاتل ولا صنع لأحد في الموت، بل هو من صنع الله تبارك وتعالى، فلم يقتل في ملك الورثة، فلا سبيل إلى إيجاب الضمان على الورثة وعواقلهم، ولأن وجوده قتيلا في دار نفسه بمنزلة مباشرة القتل بنفسه كأنه قتل نفسه بنفسه فيكون هدرا. ولأبي حنيفة رضي الله عنه: أن المعتبر في القسامة وقت ظهور القتيل

لا وقت وجود القتل، بدليل: أن من مات قبل ذلك لا يدخل في الدية، والدار وقت ظهور القتيل لورثته فكانت القسامة والدية عليهم وعلى عواقلهم تجب كما لو وجد قتيلا في دار ابنه. فإن قيل: كيف تجب الدية عليهم وعلى عواقلهم وأن الدية تجب لهم فكيف تجب لهم وعليهم، وكذا عاقلتهم تتحمل عنهم لهم أيضا، وفيه إيجاب لهم أيضا وعليهم، وهذا ممتنع؟ فالجواب: ممنوع أن الدية تجب لهم، بل للقتيل؛ لأنها بدل نفسه فتكون له، بدليل أنه يجهز منها وتقضى منها ديونه وتنفذ منها وصاياه، ثم ما فضل عن حاجته تستحقه ورثته لاستغناء الميت عنه، والورثة أقرب الناس إليه، وصار كما لو وجد الأب قتيلا في دار ابنه أو في بئر حفرها ابنه أليس أقرب أنه تجب القسامة والدية على الابن وعلى عاقلته، ولا يمتنع ذلك لما قلنا، كذا هذا. وإن اعتبرنا وقت وجود القتيل فهو ممكن أيضا؛ لأنه تجب على عاقلته لتقصيرهم في حفظ الدار فتجب عليهم الدية حقا للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته عند فراغه عن حاجته، وذكر محمد: إذا وجد ابن الرجل أو أخوه في داره قتيلا فإن على عاقلته دية ابنه ودية أخيه وإن كان هو وارثه؛ لما قلنا أن وجد القتيل في الدار كمباشرة صاحبها القتل فيلزم عاقلته ذلك المقتول ثم يستحقها صاحب الدار بالإرث، ولو وجد مكاتب قتيلا في دار نفسه فدمه هدر؛ لأن داره في وقت ظهور القتيل ليست لورثته، بل هي على حكم ملك نفسه إلى أن يؤدي بدل الكتابة فصار كأنه قتل نفس فهدر دمه. رجلان كانا في بيت ليس معهما ثالث وجد أحدهما مذبوحا قال أبو يوسف: يضمن الآخر، وقال محمد: لا ضمان عليه.

وجه قوله: أنه يحتمل أنه قتل صاحبه، ويحتمل أنه قتل نفسه فلا يجب الضمان بالشك. ولأبي يوسف: أن الظاهر أنه قتل صاحبه؛ لأن الإنسان لا يقتل نفسه ظاهرا أو غالبا، واحتمال خلاف الظاهر ملحق بالعدم، ألا ترى أن مثل هذا الاحتمال ثابت في قتيل المحلة ولم يعتبر (¬1) إذا كان في المدعين والمدعى عليهم نساء وصبيان فهل عليهم قسامة؟ الأدلة والمناقشة: 1 - قال الكاساني: ولا تدخل المرأة في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها؛ لأن وجوبهما بطريق النصرة وهي ليست من أهلها، وإن وجد في دارها أو في قرية لها لا يكون بها غيرها عليها القسامة، فتستحلف ويكرر عليها الأيمان وهذا قولهما. وقال أبو يوسف: عليها لا على عاقلتها. وجه قوله: أن لزوم القسامة لزوم النصرة وهي ليست من أهل النصرة، فلا تدخل في القسامة؛ ولهذا لم تدخل مع أهل المحلة. وجه قولهما: أن سبب الوجوب على المالك هو الملك مع أهلية القسامة وقد وجد في حقها، أما الملك فثابت لها، وأما الأهلية فلأن القسامة يمين، وأنها من أهل اليمين ألا يرى أنها تستحلف في سائر الحقوق. ومعنى النصرة يراعى وجوده في الجملة لا في كل فرد كالمشقة في السفر، وهل تدخل مع العاقلة في الدية، ذكر الطحاوي ما يدل على أنها ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (7\290-294) .

لا تدخل، فإنه قال: لا يدخل القاتل في التحمل إلا أن يكون ذكرا عاقلا بالغا، فإذا لم تدخل عند وجود القتل منها عينا فهاهنا أولى. وأصحابنا رضي الله عنهم قالوا: إن المرأة تدخل مع العاقلة في الدية في هذه المسألة، وأنكروا على الطحاوي قوله.. وقالوا: إن القاتل يدخل في البداية بكل حال، ويدخل في القسامة والدية: الأعمى، والمحدود في القذف، والكافر؛ لأنهم من أهل الاستحلاف والحفظ، والله سبحانه وتعالى أعلم (¬1) . وقال أيضا: الصبي والمجنون لا يدخلان في القسامة في أي موضع وجد القتيل، سواء وجد في غير ملكهما أو في ملكهما؛ لأن القسامة يمين وهما ليسا من أهل اليمين، ولهذا لا يستحلفان في سائر الدعاوى؛ ولأن القسامة تجب على من هو من أهل النصرة وهما ليسا من أهل النصرة فلا تجب القسامة عليهما، وتجب على عاقلتهما إذا وجد القتيل في ملكهما؛ لتقصيرهم بترك النصرة اللازمة. وهل يدخلان في الدية مع العاقلة؟ فإن وجد القتيل في غير ملكهما كالمحلة وملك إنسان لا يدخلان فيها وإن وجد في ملكهما يدخلان؛ لأن وجود القتيل في ملكهما كمباشرتهما القتل، وهما مؤاخذان بضمان الأفعال، وعلى قياس ما ذكره الطحاوي رحمه الله لا يدخلان في الدية مع العاقلة أصلا لكنه ليس بسديد؛ لأن هذا ضمان القتل والقتل فعل والصبي والمجنون مؤاخذان بأفعالهما (¬2) . ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (7\294، 295) . (¬2) [بدائع الصنائع] (7\294) .

قال الشافعي: ومن وجبت له القسامة وهو غائب أو مخبول أو صبي فلم يحضر الغائب أو حضر فلم يقسم ولم يبلغ الصبي ولم يفق المعتوه، أو بلغ هذا وأفاق هذا فلم يقسموا ولم يبطلوا حقوقهم في القسامة حتى ماتوا - قام ورثتهم مقامهم في أن يقسموا بقدر مواريثهم منه (¬1) . فقوله: ولم يبلغ الصبي. نص منه رحمه الله أنه لا يرى دخوله في أيمان القسامة حتى يبلغ. 2 - قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا: أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء، وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفو (¬2) . قال الباجي: قوله: لا يحلف في قسامة العمد أحد من النساء، يريد أنه لا يقسم إلا الأولياء من الرجال ومن له تعصيب، وأما من لا تعصيب له من الخولة وغيرهم فلا قسامة لهم، وإذا كان للقتيل أم فإن كانت معتقة أو أعتق أبوها أو جدها أقسم مواليها في العمد قاله ابن القاسم في [الموازية] ، و [المجموعة] ، وإن كانت أمه من العرب فلا قسامة في عمده. قال محمد: لأن العرب خولته ولا ولاية للخولة، ومن شهد شاهد عدل بقتله عمدا، وقال: دمي عند فلان ولم يكن له عصبة وكان له من الأقارب نساء وخولة فإنه لا قسامة فيه، ويحلف المدعى عليهم القتل. انتهى المقصود (¬3) . 3 - سبق في كلام الشافعي رحمه الله: أن النساء يدخلن في القسامة. 4 - قال الخرقي: والنساء والصبيان لا يقسمون. ¬

_ (¬1) [الأم] (6\80) . (¬2) [الموطأ] (7\62) . (¬3) [المنتقى] على [الموطأ] (7\62) .

قال ابن قدامة: يعني: إذا كان المستحق نساء وصبيانا لم يقسموا؛ أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون، سواء كانوا من الأولياء أو مدعى عليهم؛ لأن الأيمان حجة للحالف، والصبي لا يثبت بقوله حجة. ولو أقر على نفسه لم يقبل، فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى. وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن، وبهذا قال ربيعة والثوري والليث والأوزاعي. وقال مالك: لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد، قال ابن القاسم: ولا يقسم في العمد إلا اثنان فصاعدا، كما أنه لا يقتل إلا بشاهدين. وقال الشافعي: يقسم كل وارث بالغ؛ لأنها يمين في دعوى، فتشرع في حق النساء كسائر الأيمان. ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون رجلا منكم، وتستحقون دم صاحبكم (¬1) » . ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فلا تسمع من النساء، كالشهادة، ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل، ولا مدخل للنساء في إثباته، وإنما يثبت المال ضمنا، فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها، فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين، ولا بشهادة رجل وامرأتين، وإن كان مقصودها المال، فأما إن كانت المرأة مدعى عليها القتل، فإن قلنا: إنه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضا؛ لأن ذلك مختص بالرجال، وإن قلنا: يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف؛ لأنها لا تثبت بقولها حقا ولا قتلا، وإنما هي لتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث. فعلى هذا: إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) .

النساء، وإن كان فيهم صبيان ورجال بالغون، أو كان فيهم حاضرون وغائبون، فقد ذكرنا من قبل أن القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب. فكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبي؛ لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة، والبينة أيمان الأولياء كلهم، والأيمان لا تدخلها النيابة، ولأن الحق إن كان قصاصا فلا يمكن تبعيضه، فلا فائدة في قسامة الحاضر البالغ، وإن كان غيره فلا تثبت، وقد سبق كلام مالك رحمه الله في قسامة النساء في القتل الخطأ إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضا. وقال القاضي: إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير، ولا الحاضر حتى يقدم الغائب؛ لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال، وإن كان موجبا للمال؛ كالخطأ وعمد الخطأ، فللحاضر المكلف أن يحلف، ويستحق قسطه من الدية، وهذا قول أبي بكر وابن حامد ومذهب الشافعي. واختلفوا في كم يقسم الحاضر؟ فقال ابن حامد: يقسم بقسطه من الأيمان، فإن كان الأولياء اثنين أقسم الحاضر خمسا وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يمينا. وإن كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يمينا، وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه؛ لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه وكذلك إذا غاب بعضهم، كما في سائر الحقوق، ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان. وقال أبو بكر: يحلف الأول خمسين يمينا، وهذا قول الشافعي؛ لأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة والبينة هي الأيمان كلها؛ ولذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما لم يستحق نصيبه منه إلا بالبينة المثبتة لجميعه، ولأن

الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق، ولو ادعى مالا له فيه شركة له بعد شاهد لحلف يمينا كاملة، كذلك هذا. فإذا قدم الثاني أقسم خمسا وعشرين يمينا، وجها واحدا عند أبي بكر؛ لأنه يبني على أيمان أخيه المتقدمة. وقال الشافعي: فيه قول آخر: أنه يقسم خمسين يمينا أيضا؛ لأن أخاه إنما استحق بخمسين فكذلك هو، فإذا قدم ثالث وبلغ فعلى قول أبي بكر يقسم سبع عشرة يمينا؛ لأنه يبني على أيمان أخويه، وعلى قول الشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه يقسم سبع عشرة يمينا. والثاني: خمسين يمينا، وإن قدم رابع، كان على هذا المثال. قال ابن قدامة: (فصل) فإن كان فيهم من لا قسامة عليه بحال، وهو النساء سقط حكمه، فإذا كان ابن وبنت حلف الابن الخمسين كلها، وإن كان أخ وأخت لأم وأخ وأخت لأب قسمت الأيمان بين الأخوين على أحد عشر، على الأخ من الأم ثلاثة، وعلى الآخر ثمانية، ثم يجبر الكسر عليهما، فيحلف الأخ من الأب سبعا وثلاثين يمينا، والأخ من الأم أربع عشرة يمينا (¬1) هل ترد الأيمان إذا نقص العدد أم لا؟ الأيمان قد تكون من المدعين، وقد تكون من المدعى عليهم، وفي كلتا الحالتين قد يكون العدد الذي اتجهت إليه الأيمان كافيا فيكون خمسين رجلا، وقد ينقص العدد، وعلى هذا الأساس فالرد يكون في جانب المدعين كما يكون في جانب المدعى عليهم. ¬

_ (¬1) [المغني] (8\502) .

وفيما يلي بعض من أقوال أهل العلم في ذلك: الرد في جانب المدعين: 1 - قال الباجي: (مسألة) : ولا يحمل بعض الورثة عن بعض شيئا من الأيمان في الخطأ كما يتحملها بعض العصبة عن بعض في العمد إلا في جبر بعض اليمين، فإنها تجبر على أكثرهم حظا منها على ما تقدم، قاله ابن القاسم، قال ابن المواز؛ لأنه مال، ولا يتحمل أحد اليمين عن غيره كالديون (¬1) 2 - وقال مالك: لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا، فترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينا، ثم قد استحقا الدم، وذلك الأمر عندنا (¬2) . قال الباجي: قوله: لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا، يريد أنه: إن لم يوجد من يستحق أن يحلف من الأولياء إلا واحد، فإن الأيمان لا تثبت في جنبتي القتيل، ولكن ترد على القاتل، فيحلف وحده بأن لم يوجد من يحلف معه، والفرق بينه وبينه: أن جنبة القتيل لا يحلف لإثبات الدم إلا اثنان، وفي جنبة القاتل يحلف لنفي الدم واحد؛ لأن جنبة القتيل إذا تعذرت القسامة فيها لم يبطل الحق؛ لأن رد الأيمان على جنبة القاتل فيه استيفاء حقهم، وجنبة القاتل لو لم تقبل أيمانه وحده مع كثرة وجود ذلك لم يكن لما فاته من الحق بدل يرجع إليه؛ لأن الأيمان ترد إلى جنبة القتيل بانتقالها إلى جنبة القاتل، والله أعلم (¬3) . ¬

_ (¬1) [المنتقى] على [الموطأ] (7\64) . (¬2) [المنتقى] على [الموطأ] (7\62) . (¬3) [المنتقى] على [الموطأ] (7 \62)

3 - وأما رد الأيمان في المدعين إذا كانوا أقل من خمسين عند الشافعي: فقد مضى في الكلام على من يحلف من الورثة. 4 - قال ابن مفلح: فانفرد واحد منهم- أي: المدعين الذين توجهت إليهم اليمين- حلفها، نص عليه ونقل عنه الميموني أنه قال: لا اجترئ عليه، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يحلف خمسون منكم على رجل منهم، قلت: فبم يأخذ من قال بذلك، قال: بحديث معاوية فإنه قصرها على ثلاثة، وكذا ابن الزبير، وفي [مختصر ابن رزين] يحلف الولي يمينا وعنه خمسين، انتهى المقصود (¬1) . وقد مضى أيضا الكلام على رد الأيمان في أثناء الكلام على من يحلف من الورثة. ترديد الأيمان على المدعى عليهم: 1 - قال شمس الدين السرخسي: (فإن لم يكن العدد خمسين رجلا كررت عليهم الأيمان حتى يكملوا خمسين يمينا، لما روي أن الذين جاءوا إلى عمر رضي الله عنه من أهل وادعة كانوا تسعة وأربعين رجلا منهم، فحلفهم ثم اختار منهم واحدا فكرر عليه اليمين؛ وهذا لأن عدد اليمين في القسامة منصوص عليه، ولا يجوز الإخلال بالعدد المنصوص عليه. وقال: (وإن لم يكمل أهل المحلة كررت الأيمان عليهم حتى تتم خمسين) . لما روي أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة ¬

_ (¬1) [الفروع] (3\455) .

وأربعون رجلا فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين، ثم قضى بالدية، وعن شريح والنخعي رحمهما الله مثل ذلك، ولأن الخمسين واجب بالسنة، فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يطالب فيه الوقوف على الفائدة لثبوتها بالسنة، ثم فيه استعظام أمر الدم، فإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر على أحدهم فليس له ذلك؛ لأن المصير إلى التكرار ضرورة الإكمال (¬1) . قال الزيلعي: (قوله: روي عن عمر أنه قضى بالقسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلا، فكرر اليمين على رجل منهم حتى يتم خمسين، ثم قضى بالدية، وعن شريح والنخعي مثل ذلك. قلت: أما حديث عمر فرواه ابن أبي شيبة في [مصنفه] بنقض، فقال: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن عبد الله بن يزيد الهذلي عن أبي مليح أن عمر بن الخطاب رد عليهم الأيمان حتى وفوا. انتهى. ورواه عبد الرزاق في [مصنفه] بتغيير، فقال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب استحلف امرأة خمسين يمينا على مولى لها أصيب ثم جعل عليها الدية، ثم قال الزيلعي: حديث مرفوع في الباب رواه عبد الرزاق في [مصنفه] أخبرنا ابن جريج عن عبد العزيز: أن في كتاب عمر بن عبد العزيز: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في القسامة أن يحلف الأولياء، فإن لم يكن عدد يبلغ الخمسين ردت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا» . اهـ. أثر عن أبي بكر رواه الواقدي في كتاب الردة: حدثني الضحاك بن عثمان الأسدي عن المقبري عن نوفل بن مساحق العامري ¬

_ (¬1) [المبسوط] (26\110) . اهـ

عن المهاجر بن أبي أمية قال: كتب إلي أبو بكر: أن افحص لي عن داودي، وكيف كان أمر قتله إلى أن قال: فكتب أبو بكر إلى المهاجر أن ابعث إلي بقيس بن مكشوح في وثاق، فلما دخل عليه جعل قيس يتبرأ من قتل داودي، ويحلف بالله: ما قتله، فأحلفه أبو بكر خمسين يمينا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم مردودة عليه: بالله ما قتله ولا يعلم له قاتلا، ثم عفا عنه أبو بكر، مختصر. . . وهو بتمامه في قصة الأسود العنسي (¬1) باب قسامة النساء. ثم قال الزيلعي: (قوله: وعن شريح والنخعي مثل ذلك، قلت: حديث شريح رواه ابن أبي شيبة في [مصنفه] حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث عن ابن سيرين بلغ عن شريح قال: جاءت قسامة فلم يوفوا خمسين فردد عليهم القسامة حتى أوفوا. اهـ. حدثنا وكيع ثنا سفيان عن هشام عن ابن سيرين عن شريح، قال: إذا كانوا أقل من خمسين رددت عليهم الأيمان. انتهى. وحديث النخعي رواه عبد الرزاق في [مصنفه] أخبرنا الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال: إذا لم تبلغ القسامة كرروا حتى يحلفوا خمسين يمينا. انتهى. ورواه ابن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن حماد عن إبراهيم نحوه سواء. انتهى. 2 - قال الباجي: (فصل) وقوله: (فإن لم يبلغوا - أي: المدعى عليهم - ¬

_ (¬1) [نصب الراية] (4\395، 396) ، والحديث عند عبد الرازق [المصنف] (10\49)

خمسين رجلا ردت عليهم الأيمان) يحتمل أن يريد به إن لم يكن من يجوز أن يحلف من أولياء القاتل من يبلغ خمسين رجلا يريد- وكان من وجد منهم اثنان فزائد- ردت الأيمان على من وجد منهم حتى يستوفوا خمسين يمينا، قال ابن الماجشون في الواضحة: لهم أن يستعينوا بولاتهم وعصبتهم وعشيرتهم كما كان ذلك لولاة المقتول وقاله المغيرة وأصبغ. وقال مطرف عن مالك: لا يجوز للمدعى عليه واحدا كان أو جماعة أن يستعينوا بمن يحلف معهم، كما يفعل ولاة المقتول؛ لأنهم إنما يبرئون أنفسهم وقد تقدم ذكره. ويحتمل أن يريد به فإن لم يبلغ الذين تطوعوا بالأيمان معه خمسين رجلا؛ لأن غيره ممن كان يصح أن يحلف معه أبوا من ذلك فإن الخمسين يمينا ترد على من تطوع بذلك. قال الباجي: (فصل) وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا وبريء. والفرق بين الأيمان والحالفين: أن الأيمان لا ضرورة تدعو إلى التبعيض فيها عن العدد المشروع، وقد يعدم في الأغلب عدد الحالفين (¬1) . 3 - قال المزني: وقال الشافعي: وإذا وجد قتيل في محلة قوم يخالطهم غيرهم أو في صحراء أو في مسجد أو في سوق فلا قسامة، وإن ادعى وليه على أهل المحلة لم يحلف إلا من أثبتوه بعينه، وإن كانوا ألفا فيحلفون يمينا يمينا؛ لأنهم يزيدون على خمسين، فإن لم يبق منهم إلا واحد حلف خمسين يمينا وبرئء. فإن نكلوا حلف ولاة الدم خمسين ¬

_ (¬1) [المنتقى] (7\60، 61)

يمينا، واستحقوا الدية في أموالهم إن كان عمدا، على عواقلهم في ثلاث سنين إن كان خطأ (¬1) 4 - قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (فصل) إذا ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا- لم تجز على أكثر من واحد، فيحلف خمسين يمينا. وإن كانت عن غير عمد؛ كالخطأ، وشبه العمد، فظاهر كلام الخرقي: أنه لا قسامة في هذا؛ لأن القسامة من شرطها اللوث، والعداوة إنما أثرها في تعمد القتل لا في خطئه، فإن احتمال الخطأ في العمد وغيره سواء. وقال غيره من أصحابنا: فيه قسامة، وهو قول الشافعي؛ لأن اللوث لا يختص العداوة عندهم، فعلى هذا تجوز الدعوى على الجماعة، فإذا ادعي على جماعة لزم كل واحد منهم خمسون يمينا. وقال بعض أصحابنا: تقسم الأيمان بينهم بالحصص، كقسمها بين المدعين، إلا أنها هاهنا تقسم بالسوية؛ لأن المدعى عليهم متساوون فيها فهم كبني الميت. وللشافعي قولان كالوجهين. والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تبرئكم يهود بخمسين يمينا (¬2) » . وفي لفظ قال: «فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرءون من دمه (¬3) » . ولأنهم أحد المتداعين في القسامة فتسقط الأيمان على عددهم كالمدعين. وقال مالك: يحلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم حتى تكمل ¬

_ (¬1) [مختصر المزني] بهامش [الأم] (5\152) . (¬2) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4714) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/3) .

خمسين يمينا، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف وحده خمسين يمينا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا (¬1) » . ولنا: أن هذه أيمان يبرئ بها كل واحد نفسه من القتل، فكان على كل واحد خمسون، كما لو ادعى على كل واحد وحده قتيل. ولأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد؛ ولأن كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه بخلاف المدعين، فإن أيمانهم على شيء واحد فلا يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله ومقصوده (¬2) . ولابن حزم رحمه الله كلام فيمن يحلف وكم يحلف، مع ذكر المذاهب والأدلة ومناقشتها - رأت اللجنة أن تختم هذه الفقرة بذكره. 5 - قال ابن حزم: فيمن يحلف بالقسامة، قال أبو محمد رحمه الله: اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له، واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه، منها: هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا؟ وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا؟ وهل تحلف المرأة فيهم أم لا؟ وهل يحلف المولى من فوق أم لا؟ وهل يحلف المولى الأسفل فيهم أم لا؟ وهل يحلف الحليف أم لا؟ فوجب لما تنازعوا ما أوجبه الله تعالى علينا عند التنازع، إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3) ففعلنا، فوجدنا رسول الله ¬

_ (¬1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) [المغني] (8\503، 504) ، (¬3) سورة النساء الآية 59

صلى الله عليه وسلم في حديث القسامة الذين لا يصح عنه غيره، كما قد تقصيناه قبل: «تحلفون وتستحقون، ويحلف خمسون منكم (¬1) » فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة عصبة المقتول، وبيقين يدري كل ذي معرفة أن ورثة عبد الله بن سهل رضي الله عنه لم يكونوا خمسين، وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده، وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه: محيصة، وحويصة، وهما غير وارثين له، فصح أن العصبة يحلفون، وإن لم يكونوا وارثين، وصح أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له، سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب ابني العم كما خاطب الأخ خطابا مستويا لم يقدم أحدا منهم، وكذلك لم يدخل في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالانتساب إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم، ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار؛ كبني عبد الأشهل، وبني ظفر وبني زعورا، وهم أخوة بني حارثة، فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد رحمه الله: فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم إلا أن أباه تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك فإنه يحلف معهم إن شاء؛ لأنه منهم ولم يخص عليه السلام إذ قال: «خمسون منكم (¬2) » حرا من عبد إذا كان منهم، كما كان عمار بن ياسر رضي الله عنه من طينة عنس، ولحقه الرق لبني مخزوم، وكما كان عامر بن فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق؛ لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر رضي الله عنه، وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا ولحقه الرق من قبل أمه، وبالله تعالى التوفيق. وأما المرأة فقد ذكرنا قبل: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحلف ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4713) ، سنن أبو داود الديات (4520) .

امرأة في القسامة وهي طالبة، فحلفت، وقضى لها بالدية على مولى لها. وقال المتأخرون: لا تحلف المرأة أصلا. واحتجوا: بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة، وهذا باطل مؤيد بباطل؛ لأن النصرة واجبة على كل مسلم، بما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا معتمر بن سليمان عن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما. قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه (¬1) » ، وروينا من طريق مسلم، نا أحمد بن عبد الله بن يونس، نا زهير: هو ابن معاوية -نا أشعث - هو: ابن أبي الشعثاء - ني معاوية بن سويد بن مقرن قال: دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام (¬2) » فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬3) نعم، ونصر أهل الذمة فرض، قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (¬4) فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام، فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحلف خمسون منكم (¬5) » وهذا اللفظ يعم النساء والرجال، وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع، فأما الصبيان والمجانين فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين، قال صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2444) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) . (¬2) صحيح البخاري النكاح (5175) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) ، مسند أحمد بن حنبل (4/284) . (¬3) سورة الحجرات الآية 10 (¬4) سورة الأنفال الآية 72 (¬5) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4713) .

ثلاثة فذكر الصبي والمجنون (¬1) » مع إنه إجماع أن لا يحلفا في القسامة متيقن لا شك فيه، وأما المولى من فوق، والمولى من أسفل، والحليف، فإن قوما قالوا: قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مولى القوم منهم، (¬2) » «ومولى القوم من أنفسهم (¬3) » وأثبت الحلف في الجاهلية قالوا: ونحن نعلم يقينا أنه كان لبني حارثة موال من أسفل وحلفاء، ولا شك في ذلك ولا مرية، فوجب أن يحلفوا معهم. قال أبو محمد رحمه الله: أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم ومن أنفسهم (¬4) » فصحيح، وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحلفون وتستحقون، ويحلف خمسون منكم (¬5) » حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم أو مولى لهم، ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم أو حليف لهم لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم، وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى، فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له. فإن قيل: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم (¬6) » يغني عن حضور الموالي هنالك، والحليف أيضا يسمى في لغة العرب مولى، كما قال عليه السلام للأنصار أول ما لقيهم: «أمن موالي يهود» يريد: من حلفائهم، قلنا: وبالله تعالى التوفيق: قد قال عليه الصلاة والسلام ما ذكرتم، وقال أيضا: «ابن أخت القوم منهم (¬7) » وقد أوردناه قبل بإسناده في كتاب العاقلة ولا خلاف في أنه لا حفص مع أخواله، فنحن نقول: إن ابن أخت القوم منهم حق؛ لأنه متولد من امرأة ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحدود (1423) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) . (¬2) سنن الترمذي كتاب الزكاة (657) ، سنن النسائي الزكاة (2612) ، سنن أبو داود الزكاة (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) . (¬3) صحيح البخاري الفرائض (6761) . (¬4) سنن الترمذي كتاب الزكاة (657) ، سنن النسائي الزكاة (2612) ، سنن أبو داود الزكاة (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) . (¬5) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4715) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬6) سنن الترمذي كتاب الزكاة (657) ، سنن النسائي الزكاة (2612) ، سنن أبو داود الزكاة (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) . (¬7) صحيح البخاري المناقب (3528) ، صحيح مسلم الزكاة (1059) ، سنن الترمذي المناقب (3901) ، سنن النسائي الزكاة (2611) ، مسند أحمد بن حنبل (3/246) ، سنن الدارمي السير (2527) .

هي منهم بحق الولادة، والحليف والمولى أيضا منهم؛ لأنهما من جملتهم، وليس في هذا القول منه عليه السلام ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم، وقد صح إجماع أهل الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش ولا حليفهم ولا ابن أخت القوم وإن كان منهم، والقسامة في العمد والخطأ، سواء فيما ذكرنا فيمن يحلف فيها ولا فرق. انتهى المقصود (¬1) . وقال أيضا: كم يحلف في القسامة؟ اختلف الناس في هذا. فقالت طائفة: لا يحلف إلا خمسون، فإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر بطل حكم القسامة، وعاد الأمر إلى التداعي. وقال آخرون: إن نقص واحد فصاعدا رددت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين، فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد، وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين، وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم. وقال آخرون: يحلف خمسون، فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا ردت الأيمان عليهم حتى يرجعوا إلى واحد، فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد بطلت القسامة وعاد الحكم إلى التداعي، وهذا قول مالك. وقال آخرون: تردد الأيمان، وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده، وهو قول الشافعي، وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم: أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد، ويجبر الكسر عليهم، فلما اختلفوا ¬

_ (¬1) [المحلى] (11\89 - 91) .

وجب أن ننظر فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: أن في كتاب لعمر بن عبد العزيز: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء، فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا» . ومن طريق ابن وهب، أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسين يمينا ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه، ثم يقتل قاتله، أو تؤخذ ديته، ويحلف عليه أولياؤه من كانوا قليلا أو كثيرا، فمن ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف، فإن نكلوا كلهم حلف المدعى عليهم خمسين يمينا: ما قتلناه ثم يطل دمه، وإن نكلوا كلهم عقله المدعى عليهم، ولا يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا. قال أبو محمد رحمه الله: هذا لا شيء؛ لأنهما مرسلان والمرسل لا تقوم به حجة، أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه أن يحلف الأولياء وهذا لا يقول به الحنفيون، فإن تعلق به المالكيون، والشافعيون قيل للمالكيين: هو أيضا حجة عليكم؛ لأنه ليس فيه أن لا يحلف إلا اثنان، وأيضا فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب، وهو مخالف لقول جميعهم؛ لأن فيه إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ولا يقول به مالكي، ولا شافعي، وفيه القود بالقسامة، ولا يقول به حنفي ولا شافعي، وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص أن يكونا اثنين، كما يقول مالك (¬1) ¬

_ (¬1) [المحلى] (11\91، 92) .

العنصر السابع خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول

السابع: خلاف العلماء في الحكم على الناكل بمجرد النكول مع الأدلة والمناقشة: لا يخلو أمر النكول من أحوال: فإما أن ينكل المدعون جميعهم عن الأيمان، أو ينكل بعضهم، وفي هذه الحال لا يخلو؛ إما أن يكون الناكل وارثا بالفعل أو بالإمكان. إما أن ينكل المدعى عليهم عن الأيمان جميعهم أو ينكل بعضهم. وفيما يلي بعض من أقوال أهل العلم في ذلك: أ- نكول المدعين عن الأيمان أو نكول بعضهم: سبق فيما تقدم: أن الحنفية لا يرون البدء بالمدعين في الأيمان كما يراه غيرهم من الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد؛ ولهذا لا تأتي عندهم مسألة نكول المدعين أو بعضهم إلا في حال الرد عليهم بعد نكول المدعين. 1 - المذهب المالكي: (أ) قال الباجي: مسألة: لو نكل ولاة الدم عن القسامة وقد وجبت لهم، زاد أبو زيد عن ابن القاسم: يحلف المدعى عليهم وبرئوا، وقد قال ابن المواز: فعلى المدعين الجلد والسجن، قال: ولم يختلف أصحاب مالك إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: إذا نكلوا فلا جلد ولا سجن وليحلف كل من ادعي عليه القتل خمسين يمينا، ويسلم من الضرب والسجن، ومن لم يحلف حبس أبدا حتى يحلف. وجه القول الأول: أن العقوبة قد ثبتت بما أوجب القسامة فالضرب

والسجن حق الله تعالى، قاله عبد الملك بن الماجشون، والقتل حق الأولياء، فإن أسقط الأولياء حقهم بالنكول من القصاص لم يملكوا إسقاط حق الله تعالى كما لو عفوا أو عفا السلطان عن الجلد،: إنه لا يملك ذلك. ووجه القول الثاني: أن القتل يثبت قبله فيجب عليه عقوبته، ونكول الأولياء يبطل ما ادعوه من القتل، فلا تجب فيه عقوبة سجن ولا ضرب (¬1) ب- قال الباجي: في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحلف لكم يهود (¬2) » قال: يحتمل أن يكون على وجه رد الأيمان على المدعى عليهم حين نكول المدعين، وهي السنة عند مالك والشافعي: أن يبدأ المدعون بالأيمان، فإن نكلوا ردت على المدعى عليهم، وقال أبو حنيفة: يبدأ المدعى عليهم بالأيمان فإن أقسموا برئوا وإن نكلوا ردت على المدعي، والدليل على ما نقوله الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارثيين: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود (¬3) » قال القاضي أبو محمد: قلنا: من هذا الحديث دليلان: أحدهما: أنه بدأ المدعين بالأيمان. والثاني: أنه نقلها عند نكولهم إلى المدعى عليهم وقد روى أبو قلابة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين بالأيمان،» وهو حديث مقطوع وما رواه مسند من رواية أهل المدينة. ومن جهة المعنى: أن اليمين إنما تثبت في إحدى الجنتين واللوث، وهو الشاهد العدل قد قوى جهة المدعين فتثبت الأيمان في ¬

_ (¬1) [المنتقى] (7\127) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) .

جنبتهم (¬1) قال الإمام مالك: يحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عنه، فإن نكل أحد من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم. قال يحيى: قال مالك: وإنما ترد الأيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز لهم العفو عن الدم، وإن كان واحدا فإن الأيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الأيمان، ولكن الأيمان إذا كان ذلك ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الأيمان على من حلف منهم، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف هو خمسين يمينا وبرئ. قال الباجي: قوله: فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم، يريد: إن قل عدد المعينين من العصبة أو نكل بعضهم، فإن كانوا أكثر من اثنين فنكل بعضهم عن معونه الولاة فإن من بقي مع الولاة ترد عليهم الأيمان حتى يستوفوا خمسين يمينا، فلا تبطل القسامة بنكول بعض المعينين من العصبة مع بقاء الولاء أو الأولياء عن القيام بالدم والمطالبة به. ولو نكل الولي لم يكن للمعينين القسامة ولا المطالبة بالدم، وكذلك لو كان الأولياء جماعة فنكل واحد منهم لم يكن لغيرهم قسامة في المشهور من المذهب؛ لأنه لا قسامة لغيرهم، وترد الأيمان على المدعى عليهم. ¬

_ (¬1) [المنتقى] (7\55) . اهـ.

وجه القول الأول: أنهم لما تساووا في الحق لم يكن نكول بعضهم مؤثرا في سقوط حق الباقين أصله قتل الخطأ. ووجه الرواية الثانية: أن الحق لجماعتهم وليس بعضهم أولى ببعض بإثباته وهو لا يتبعض. (فرع) قال القاضي أبو محمد: وهذا في العصبة، وأما البنون والإخوة فرواية واحدة أن من نكل منهم ردت الأيمان على المدعى عليهم. ووجه ذلك: أن البنين والإخوة يردون الأم من الثلث إلى السدس فكان لقرابتهم مزية، والله أعلم. وترد الأيمان على المدعى عليهم وفي [العتبية] وغيرها لابن القاسم ورواية عن مالك إذا نكل ولاة الدم عن القسامة ثم أرادوا أن يقسموا لم يكن ذلك لهم إن كان نكولا بينا، ومن نكل عن اليمين فقد أبطل حقه. ووجه ذلك أن نكول من يجب عليه اليمين توجب رد اليمين على المدعى عليه كالمدعي حقا يشهد له شاهد فينكل عن اليمين مع شاهده فإن اليمين ترد على المدعى عليه. (مسألة) وإذا حلف الأولياء مع المعينين لهم من العصبة بدئ بالولي، ولا يبدأ بأيمان المعينين لهم، قاله في [المجموعة] و [الموازية] ابن القاسم قال: وإنما يعين الولي من قرابته منه معروفة يلتقي معه إلى جد يوارثه، فأما من هو من عشيرته من غير نسب معروف فلا يقسم كان للمقتول أو لم يكن (¬1) ¬

_ (¬1) [المنتقى] (6\60) . .

قال الباجي: (فصل) وقوله: ولكن ترد الأيمان على المدعى عليهم، فيحلف منهم خمسون رجلا، يريد أنه يحلف الجماعة في النكول كما يحلف الجماعة في الدعوى؛ لأن أيمان القسامة لما لم يحلف فيها إلا اثنان فما زاد من المدعى عليهم. وقد روى ابن حبيب عن مطرف عن مالك أنه لا يحلف إلا المدعى عليه وحده بخلاف المدعي، وقال مطرف: لأن الحالف المدعى عليه إنما يبرئ نفسه. ووجه رواية ابن القاسم: ما روى أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمدعين: «أترضون خمسين يمينا من اليهود ما قتلوه (¬1) » فمقتضى ذلك أن القسامة مختصة بهذا العدد ولا يزاد عليه؛ لأن اليهود كانوا أكثر من خمسين، ومن جهة المعنى أنه لما جاز أن يحلف مع ولي الدم المدعي له غيره جاز أن يحلف مع المدعى عليه المنكر له غيره. ووجه آخر: أن الدماء مبنية على هذا، وهو: أن يتحملها غير الجاني مع الجاني كالدية في قتل الخطأ، فإن الأيمان لما كانت خمسين وكانت اليمين الواحدة لا تتبعض- لم يجز أن يكون الحالفون أكثر من خمسين. (مسألة) : فإذا قلنا: يحلف غيره من عصبته فقد قال ابن القاسم، ورواه هو وابن وهب عن مالك: يحلف خمسون من أولياء المقتول خمسين يمينا وإن لم يكن منهم من يحلف إلا اثنان حلفا خمسين يمينا وبرئ المدعى عليه، ولا يحلف هو معهم فيحلف هو بعضها وهم بعضها، فإن لم يوجد من يحلف من عصبته إلا واحد لم يحلف معه وحلف المدعى عليه وحده خمسين يمينا. وقال عبد الملك: يحلف هو ومن استعان به من عصبته على السواء، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6899) .

وله أن يحلف هو أكثر منهم، فإن لم يوجد من يعينه حلف هو وحده خمسين يمينا. قال محمد: قول ابن القاسم أشبه بقول مالك في [موطئه] ، وإنما أراد محمد قول مالك: يحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا. قال الباجي: (فصل) وقوله: خمسين يمينا، وجه ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا (¬1) » ، ومن جهة المعنى: أن الأيمان المردودة يعتبر بعدتها فيما انتقلت عنه كأيمان الحقوق، فكذلك الأيمان الثانية في الخمسين، فإن عددها فيها سواء كأيمان اللعان (¬2) . قال ابن المواق على قول خليل: ونكول المعين غير معتبر بخلاف غيره ولو بعد، انظر قوله: فسيأتي أن أولياء الدم كانوا أعماما أو أبعد منهم، فإن مالكا حلفهم مرة كالبنين ومرة قال: إن رضي اثنان إن كان لهما أن يحلفا ويستحقا حقهما من الدية، قال ابن شاس: إن كان الولي واحدا استعان ببعض عصبته ثم نكول المعين غير معتبر، فأما نكول أحد الأولياء فمسقط للقود، وعن ابن يونس قال ابن القاسم: إن أكثر أولياء الدم أجزأ أن يحلف اثنان إذا تطاوعا ولم يترك باقيهم اليمين نكولا، قال في [المدونة] : فإن نكل واحد من ولاة الدم الذين يجوز عفوهم إن عفوا فلا سبيل إلى القتل كانوا اثنين أو أكثر، قال محمد: فرق مالك بين نكول أحد الأولياء عن القسامة أو بعد أن حلف جماعتهم فقال: إن نكل منهم من له العفو قبل القسامة فلا قسامة لبقيتهم، ولا دم ولا دية، ويحلف المدعى عليه خمسين ¬

_ (¬1) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) [المنتقى] (7\60) .

يمينا إن لم يجد من يحلف معه، وإن نكل بعد يمين جماعتهم لم يسقط حظ من بقي من الدية، ونكول هذا كعفوه راجعه فيه ابن عرفة، قول ابن شاس: نكول المعين لغو واضح؛ لعدم استحقاقه ما يحلف عليه (¬1) انتهى المقصود. 2 - المذهب الشافعي: قال الشافعي رحمه الله تحت ترجمة نكول الورثة واختلافهم في القسامة ومن يدعى عليهم. قال الشافعي رحمه الله تعالى: فإذا كان للقتيل وارثان فامتنع أحدهما من القسامة لم يمنع ذلك الآخر من أدن يقسم خمسين يمينا ويستحق نصيبه من الميراث، وكذلك إذا كان الورثة عددا كثيرا ونكلوا إلا واحدا (¬2) . 3 - المذهب الحنبلي: 1 - قال الخرقي: (فإن لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ) . 2 - وقال ابن قدامة: -على ذلك- هذا ظاهر المذهب، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد ومالك والليث والشافعي وأبو ثور، وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد: أنهم يحلفون ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار، وهو قول أصحاب الرأي. ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم (¬3) » أي: يتبرءون ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل على مواهب الجليل] (6\274) . (¬2) [الأم] (6\82) . (¬3) صحيح البخاري الأدب (6142) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4712) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، مسند أحمد بن حنبل (4/142) ، موطأ مالك القسامة (1631) .

منكم، وفي لفظ قال: «فيحلفون خمسين يمينا ويبوءون من دمه (¬1) » . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود، وأنه أداها من عنده. ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الأيمان؛ ولأن ذلك إعفاء لمجرد الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل، فإن قول الإنسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال وسائر الحقوق، ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق (¬2) . 3 - قال الخرقي: (فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال) . 4 - وقال ابن قدامة: - على ذلك- يعني: أدى ديته' لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا، وقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهة أن يطل دمه. فإن تعذر فداؤه من بيت المال لم يجب على المدعى عليهم شيء؛ لأن الذي يوجبه عليهم اليمين، وقد امتنع مستحقوها من استيفائها فلم يجب لهم غيرها كدعوى المال (¬3) . 5 - قال ابن مفلح: (وإن نكلوا أو كانوا نساء، أي: المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ، وعنه يغرم الدية من ماله، وعنه من بيت المال، اختاره أبو بكر، وقدم في [الموجز] : أنه يحلف يمينا واحدة، وهو رواية في [التبصرة] . . . فإن لم يرض الأولياء بيمين المدعى عليه فداه الإمام ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (4/3) . (¬2) [المغني] (8\497) . (¬3) [المغني] (8\498) .

من بيت المال (¬1) . نكول المدعى عليهم: أ- قال شمس الدين السرخسي: (فإن نكلوا -أي: المدعى عليهم- عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن الأيمان في القسامة حق مقصود لتعظيم أمر الدم ومن لزمه حق مقصود لا تجري النيابة في إيفائه، فإن امتنع منه فإنه يحبس ليوفي ككلمات اللعان) (¬2) . ب- وقال أيضا: (وإذا أبى الذين وجد فيهم القتيل أن يقسموا حبسوا حتى يقسموا؛ لأن القسامة عليهم باعتبار تهمة القتيل وقد ازدادت بنكولهم والأيمان مقصوده هاهنا فيحبسون لإيفائها) (¬3) . ج- قال ابن الهمام على قول صاحب المتن: (ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف) لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم؛ ولهذا يجمع بينه وبين الدية بخلاف النكول في الأموال؛ لأن اليمين بدل عن أصل حقه؛ ولهذا يسقط ببذل المدعى، وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم، والدعوى في العمد أو الخطأ؛ لأنهم لا يتميزون عن الباقي. ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ، فكذلك الجواب يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب هكذا الجواب في [المبسوط] ، وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل: أن في القياس تسقط ¬

_ (¬1) [الفروع] (3\456) . (¬2) [المبسوط] (26\111) . (¬3) [المبسوط] (26\121) .

القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة، ويقال للولي: ألك بينة؟ فإن قال: لا، يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة، ووجهه أن القياس يأباه؛ لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم. وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم؛ لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم تكن استحلفه يمينا واحدة؛ لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس، ثم إن حلف برئ، وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، إن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى (¬1)) . . قال قاضي زاده على صاحب المتن: (ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف) : قال تاج الشريعة: هذا إذا ادعى الولي القتل عمدا، أما إذا ادعاه خطأ فنكل أهل المحلة فإنه يقضي بالدية على عاقلته، ولا يحبسون ليحلفوا انتهى. (وأما سائر الشراح فلم يقيد أحد منهم هاهنا مثل ما قيده تاج الشريعة إلا أن صاحبي [النهاية] و [العناية] قالا في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية إن حلفوا والحبس حتى يحلفو إن أبوا لو ادعى الولي العمد، ولو ادعى الخطأ فالقضاء بالدية عند النكول) انتهى. ¬

_ (¬1) [فتح القدير] (8\388، 389

ولا يخفى أن ظاهر ما ذكراه يطابق تاج الشريعة هنا. أقول: لا يذهب عليك أن الظاهر من إطلاقه جواب مسألة الكتاب هنا، ومن اقتضاء دليلها الذي ذكره المصنف ومن دلالة قوله فيما بعد، هذا الذي ذكرناه إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذلك إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد والخطأ أن يكون الحبس إلى أن يحلف الناكل موجب النكول في كل واحدة من صورتي دعوى العمد ودعوى الخطأ، ومن هذا ترى أصحاب المتون قاطبة أطلقوا جواب هذه المسألة، وكذا أطلقه الإمام قاضي خان في [فتاواه] حيث قال: فإن امتنعوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا. انتهى. وكذا حال سائر ثقات الأئمة في تصانيفهم، وكأن صاحب العناية تنبه لهذا حيث قال في صدر هذا الباب: حكم القسامة القضاء بوجوب الدية على العاقلة في ثلاث سنين عندنا وعند الشافعي إذا حلفوا برئوا، وأما إذا أبوا القسامة فيحبسون حتى يحلفوا أو يقروا. انتهى، فإنه جرى في بيان حكمها أيضا على الإطلاق كما ترى. ثم أقول: التحقيق هاهنا هو أن في جواب هذه المسألة روايتين إحداهما أنهم إن نكلوا حبسوا حتى يحلفوا على الإطلاق وهو ظاهر الروايتين عن أئمتنا الثلاثة، والأخرى أنهم إن نكلوا لا يحبسون، بل يقضي بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين بلا تقييد بدعوى الخطأ، وهو رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف، وقد أفصح عنه في المحيط البرهاني، حيث قال: ثم في كل موضع وجبت القسامة، وحلف القاضي خمسين رجلا فنكلوا عن الحلف حبسوا حتى يحلفوا، هكذا ذكر في الكتاب، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه قال: لا يحبسون ولكن يقضي

بالدية على عاقلتهم في ثلاث سنين، وقال ابن أبي مالك: هذا قوله الآخر، وكان ما ذكر في هذه الرواية قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول، إلى هنا لفظ المحيط. ثم أقول: بقي هاهنا إشكال وهو أنه قد مر في باب اليمين من كتاب الدعوى أن من ادعى قصاصا على غيره فجحد استحلف بالإجماع، ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لزمه الأرش في النفس وفيما دونها. انتهى. فمقتضى إطلاق ذلك أن يكون موجب النكول في القسامة أيضا هو القضاء بالدية دون الحبس عند أبي يوسف ومحمد، وإن ادعى ولي القتيل القصاص مع أن المذكور في عامة الكتب أن يكون موجب النكول في القسامة هو الحبس إلى الحلف بلا خلاف فيه من أبي يوسف ومحمد، كما هو ظاهر الرواية، نعم، قد ذكر أيضا في المحيط والذخيرة. أنه روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: أنه يقضى بالدية في القسامة أيضا عند النكول. لكن يبقى إشكال التنافي بين ما ذكر في المقامين على قول أبي يوسف في ظاهر الرواية، وعلى قول محمد مطلقا، فتأمل في الدفع (¬1) . وقال أيضا على قوله: (وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة؛ لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فتوجبه بالنص لا بالقياس) قوله فيه بحث؛ لأنه إن أراد بإطلاق النصوص إطلاقها ¬

_ (¬1) [نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار] ، وهو تكملة [فتح القدير] (8\388، 389) .

بحسب لفظها فهو مسلم، لكن لا يجدي هنا نفعا، إذ من القواعد المقررة عندهم أن النص الوارد على خلاف القياس يختص بمورده، والنصوص فيما نحن فيه واردة على خلاف القياس كما صرحوا به، فلا بد وأن تكون مخصوصة بموردها، وهو ما إذا وجد القتيل في مكان ينسب إلى المدعى عليهم، والمدعي يدعي القتل عليهم، كما ذكر في وجه القياس، وإن أراد إطلاقها بحسب المورد أيضا فهو ممنوع، إذ لم يسمع في حق القسامة نص ورد فيما إذا ادعى الولي القتل على بعض أهل المحلة بعينه كما لا يخفى على من تتبع النصوص الواردة في هذا الباب. (¬1) . المذهب المالكي: قال الباجي: (فصل) وقوله: فإن لم يجد المدعى عليه القتل من يحلف معه حلف وحده خمسين يمينا وبرئ. . وقوله: وبرئ: يريد: برئ من الدم، وعليه جلد مائة وسجن عام، قاله مالك وابن القاسم. وإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، وفي النوادر: وقد ذكر ابن القاسم فيه عن مالك قولا لم يصح عند غيره؛ أن المدعى عليهم إذا ردت عليهم الأيمان فنكلوا - فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة، ويقتص منه في الجرح، يريد: فيمن ثبت جرحه واحتيج إلى القسامة أنه من ذلك الجرح مات، وقال القاضي أبو محمد: في المدعى عليه القتل، وأتى المدعون بما يوجب القسامة، ونكلوا عن اليمين حلف المدعى عليه القتل، وتسقط عنه الدعوى نكل ففيها روايتان: ¬

_ (¬1) [نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار] ، وهو تكملة [فتح القدير] (8\389، 390) .

إحداهما: يحبس إلى أن يحلف. والثانية: تلزمه الدية في ماله وأراه أشار لرواية ابن القاسم (فرع) فإذا قلنا: أنه يحبس إلى أن يحلف، فإن حبس وطال حبسه فقد روى القاضي أبو محمد: يخلى سبيله، وفي [العتبية] ، و [الموازية] : يحبس حتى يحلف، قال ابن المواز: فقد اتفقوا على أن هذا إن نكل سجن أبدا حتى يحلف (¬1) . المذهب الشافعي: قال الشافعي في كلامه على المدعى عليهم في القسامة: (فإذا حلفوا برئوا، وإذا نكلوا عن الأيمان حلف ولاة الدم خمسين يمينا واستحقوا الدية إن كانت عمدا، ففي أموالهم ورقاب العبيد منهم بقدر حصصهم فيها، وإن كانت خطأ فعلى عواقلهم، وإن كان ولي القتيل ادعى على اثنين منهم فحلف أحدهما وامتنع الآخر من اليمين - برئ الذي حلف وحلف ولاة الدم على الذي نكل، ثم لزمه نصف الدية في ماله إن كان عمدا، وعلى عاقلته إن كان خطأ، أنهم إنما ادعوا أنه قاتل مع غيره وسواء في النكول عن اليمين المحجور عليه وغير المحجور عليه إذا نكل منهم واحد حلف المدعى عليه) (¬2) . وقال الشافعي في (باب الإقرار والنكول والدعوى في الدم) : وإذا ادعوا على عشرة فيهم صبي رفعت حصة الصبي عنهم من الدية إن استحقت، وإن نكلوا حلف ولاة الدم وأخذوا منه تسعة أعشار الدية، فإذا بلغ الصبي ¬

_ (¬1) [المنتقى] (6\61) . (¬2) [الأم] (6\85) في اختلاف المدعي والمدعى عليه في الدم.

حلف فبرئ أو نكل فحلف الولي وأخذ منه العشر إذا كان القتل عمدا، قال الشافعي: وإذا ادعوا على جماعة فيهم معتوه فهو كالصبي لا يحلف، وذلك أنه لا يؤخذ بإقراره على نفسه، فإن أفاق من العته أحلف وتسعه اليمين بعد مسألته عما ادعوا عليه، وإن نكل حلف ولاة الدم واستحقوا عليه حصته من الدية، وإن ادعوا على قوم فيهم سكران لم يحلف السكران حتى يفيق ثم يحلف، فإن نكل حلف أولياء الدم واستحقوا عليه حصته من الدية. المذهب الحنبلي: 1 - قال ابن قدامة: وإن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا، وعن أحمد رواية أخرى: أنهم يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة، ولنا: أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان، إذا ثبت هذا فإنه لا يجب القصاص بالنكول؛ لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم، كالشاهد واليمين، قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال، نص عليه أحمد، وروى عنه حرب بن إسماعيل: أن الدية تجب عليهم، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى، ولأن وجوبها في بيت المال يفضي إلى إهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان جبره، فلم يجز كسائر الدعاوى، ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن إيجاب المال

بها، فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه، كما في سائر الدعاوى، وها هنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله، ولم يجبر على اليمين؛ لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية، وقال أصحاب الشافعي: إذا نكل المدعى عليهم ردت الأيمان على المدعين، إن قلنا: موجبها المال، فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا فلا شيء لهم. وإن قلنا: موجبها القصاص فهل ترد على المدعين؟ فيه قولان: وهذا القول لا يصلح؛ لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي، فلا ترد عليه كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعوى، ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين، فلا ترد على من ردها كدعوى المال (¬1) . 2 - قال ابن مفلح: وإن نكل - أي: المدعى عليه - فعنه كذلك - أي: فداه الإمام من بيت المال - وعنه: أنه يحبس حتى يقر أو يحلف، وعنه يلزمه الدية، وهي أظهر، ولو رد اليمين على المدعي فليس له أن يحلف، وفي [الترغيب] على القول بالرد فيه وجهان وهما في كل نكول عن اليمين مع القود إليها في مقام آخر، هل له ذلك لتعدد المقام؟ أو لا لنكوله مرة (¬2) . قال علي بن سليمان المقدسي: مسألة (6، 7) قوله: وإن لم يرض الأولياء يمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال، وإن نكل فعنه كذلك، وعنه يحبسه حتى يقر أو يحلف، وعنه تلزمه الدية، وهي أظهر. ¬

_ (¬1) [المغني] (8\ 498) . (¬2) [الفروع] (3\ 456) .

انتهى، اشتمل كلامه على مسألتين. المسألة الأولى: إذا طلبوا أيمانهم ونكلوا فهل يحبس حتى يقر أو يحلف أم لا؟ أطلق الخلاف وأطلقه الزركشي: (أحدهما) : لا يحبس، وهو الصحيح، جزم به في [الهداية] و [المذهب] و [الخلاصة] ، و [المقنع] و [الهادي] و [الوجيز] وغيرهم، وقدمه في [المغني] و [الشرح] و [النظم] و [الرعايتين] و [الحاوي الصغير] ، وغيرهم. (الرواية الثانية) : يحبس حتى يقر أو يحلف. تنبيه: ظهر أن في إطلاق المصنف شيئا، وأن الأولى أنه كان يقدم أنه لا يحبس. المسألة الثانية: إذا قلنا: لا يحبس فهل تلزمه الدية، أو تكون في بيت المال؟ أطلق الخلاف وأطلق في [الهداية] و [المذهب] و [مسبوك الذهب] و [المستوعب] و [الخلاصة] و [الهادي] و [الزركشي] وغيرهم: (إحداهما) : تلزمه الدية، وهو الصحيح. قال المصنف هنا: وهو أظهر، واختاره أبو بكر، والشريف، وأبو الخطاب، والشيخ الموفق وغيرهم، وصححه الشارح، والناظم، وقدمه في [الرعايتين] . والرواية الثانية: (يكون في بيت المال قدمه في [المحرر] و [الحاوي الصغير] ) (¬1) ¬

_ (¬1) [الفروع] (3\ 456) . .

العنصر الثامن ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية وذكر مستند كل

الثامن: ذكر خلاف العلماء فيما يثبت بالقسامة من قود أو دية وذكر مستند كل مع المناقشة: اختلف القائلون بمشروعية القسامة: فمنهم من ذهب إلى أن القسامة توجب القود، ومنهم: من ذهب إلى أنه لا يجب بها إلا الدية. أما القائلون بوجوب القود فقالوا: إن دعوى القتل إما أن تكون موجهة على أنه عمد أو خطأ، فإذا كان القتل خطأ فليس فيه إلا الدية اتفاقا، وإذا كان القتل عمدا: أ- فقال الأبي (ع) : وعلى إثباتها فالمستحق بها في الخطأ الدية، واختلف في العمد، فقال مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه: يجب فيها القصاص (¬1) . ب- وقال النووي: نقلا عن القاضي عياض: واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدا هل يجب القصاص بها؟ فقال معظم الحجازيين: يجب، وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وهو قول الشافعي في القديم وروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، قال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان (¬2) . ¬

_ (¬1) [الأبي] (4\ 395) . (¬2) [شرح النووي على مسلم] (11\ 143، 144) ، ويرجع أيضا إلى [المغني] (8\ 416) .

ج- وقال ابن مفلح: ويجب القود في قسامة العمد بشرطه، نص عليه كسائر قتل العمد، قال أحمد: الذي يدفع القتل في هذا قد يبيحه بأيسر منه فيبيحه بغلبة الظن، فلو حمل عليه السلاح ليأخذ متاعه أليس دمه هدرا؟ وإنما هو شيء وقع في نفسه لم ينله بشيء، فكذا بما دفع في أنفسهم وعرفوه ويقسمون عليه (¬1) . د- وأجاب شيخ الإسلام - رحمه الله - عن سؤال وجه إليه فقال: إذا شهد لأولياء المقتول شاهدان ولم يثبت عدالتهما فهذا لوث إذا حلف معه المدعون خمسين يمينا - أيمان القسامة - على واحد بعينه حكم لهم بالدم، وإن أقسموا على أكثر من واحد ففي القود نزاع، وأما إن ادعوا أن القتل كان خطأ أو شبه عمد، مثل: أن يضربوه بعصا ضربا لا يقتل مثله غالبا، فهنا إذا ادعوا على الجماعة أنهم اشتركوا في ذلك فدعواهم مقبولة، ويستحقون الدية (¬2) . واحتجوا على ذلك بالسنة والأثر: أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم. قال الباجي: نص على أن المستحق هو الدم، ولا خلاف أنه أظهر في القصاص (¬3) . وقال ابن قدامة: أراد دم القاتل، لأن دم القتيل ثابت لهم قبل ¬

_ (¬1) [الفروع] (3\ 454) . (¬2) [مجموع الفتاوى] (34\ 150، 151) . (¬3) [المنتقى شرح الموطأ] (7\ 55) .

اليمين (¬1) . وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بما يأتي: 1 - أجاب محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة عنه بقوله: إنما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (¬2) » يعني: بالدية ليس بالقود، وإنما يدل ذلك على أنه إنما أراد الدية دون القود، قوله في أول الحديث: «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تؤذنوا بحرب (¬3) » فهذا يدل على آخر الحديث وهو قوله: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (¬4) » لأن الدم قد يستحق بالدية كما يستحق بالقود؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لهم: تحلفون وتستحقون دم من ادعيتم، فيكون هذا على القود، وإنما قال لهم: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم فإنما عنى به: تستحقون دم صاحبكم بالدية؛ لأن أول الحديث يدل على ذلك وهو قوله: إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تؤذنوا بحرب وقد قال عمر بن الخطاب: القسامة توجب العقل، ولا تشيط الدم في أحاديث كثيرة فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. 2 - وأجاب السرخسي بقوله: أما قوله: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (¬5) » فلا تكاد تصح هذه الزيادة، وقد قال جماعة من أهل الحديث: أوهم سهل بن أبي حثمة، ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (¬6) » (¬7) . ¬

_ (¬1) [المغني] (8\ 497) . (¬2) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬3) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) . (¬4) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬5) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬6) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) . (¬7) [المبسوط] (26\ 8109) .

3 - وأجاب أيضا بقوله: (ولو ثبت فإنما قال ذلك على طريق الإنكار لا على طريق الأمر لهم بذلك، فإنه لو كان على سبيل الأمر لكان يقول: أتحلفون فتستحقون دم صاحبكم) فأما قوله: أتحلفون وتستحقون؟ فعلى سبيل الإنكار، كقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (¬1) {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} (¬2) الآية، وكذلك قوله: تحلفون معناه: أتحلفون، كقوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} (¬3) معناه: أتريدون، وكان - عليه الصلاة والسلام - رأى منهم الرغبة في حكم الجاهلية حين أبوا أيمان اليهود بقولهم: (لا نرضى بأيمان قوم كفار) فقال ذلك على سبيل الزجر، فلما رأوا كراهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك رغبوا عنه بقولهم: كيف نحلف على أمر لم نعاين ولم نشاهد (¬4) . وقد أيد ذلك الطحاوي (¬5) . 4 - وأجاب أيضا بقوله: (ثم يحتمل أن يكون اليهود ادعوا عليهم بنقل القتيل من محلة أخرى إلى محلتهم فصاروا مدعى عليهم فلهذا عرض عليهم اليمين (¬6) . وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (¬7) » . قال القاضي عياض: أي: بالحبل الذي ربط به هذا أصله ثم استعمل فيمن دفع للقود (¬8) . ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 165 (¬2) سورة الشعراء الآية 166 (¬3) سورة الأنفال الآية 67 (¬4) [المبسوط] (26\ 8109) . (¬5) [شرح معاني الآثار] (3\ 302) وما بعدها. (¬6) [المبسوط] (26\ 8109) . (¬7) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬8) [مشارق الآثار على صحاح الآثار] (1\ 291) .

وقال ابن دقيق العيد: يستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، ولو أن الواجب الدية لبعد استعمال هذا اللفظ فيها وهو في استعماله في تسليم القاتل أظهر (¬1) . وقال ابن قدامة بعد أن ذكره دليلا لوجوب الدم قال: والرمة: الحبل الذي يربط به من عليه القود (¬2) . وأجيب عن الاستدلال بهذا الدليل: بقول النووي: وتأوله القائلون لا قصاص بأن المراد أن يسلم؛ ليستوفي منه الدية؛ لكونه ثبتت عليه (¬3) . ومن ذلك ما رواه أبو داود، عن عمرو بن شعيب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك. ومن هذا الطريق رواه البيهقي (¬4) ، وأورده المنذري، وبناء على هذا الطريق: فقد أعله البيهقي بالانقطاع، والمنذري بقوله: (هذا معضل، وعمرو بن شعيب اختلف في الاحتجاج بحديثه) . ويجاب عن هذا الاعتراض بوجوه: أحدها: أن هذا الحديث ورد في [سنن أبي داود] هكذا: حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد، قالا: نا، ح، ونا محمد بن الصباح بن سفيان أنا الوليد، عن أبي عمرو، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث. ¬

_ (¬1) [إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام] ، وعليه [العدة] (4\ 311) ، و [المغني] (8\ 77) . (¬2) [المغني] (8\ 77) . (¬3) [شرح النووي على مسلم] (11\ 149) . (¬4) [السنن الكبرى] للبيهقي (8\ 127) .

الثاني: أن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة. قال بذلك ابن العربي (¬1) والدارقطني وابن عبد البر (¬2) ، قال البخاري: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به (¬3) . ومنها: ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الزهري عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن القسامة كانت في الجاهلية، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر (¬4) » . واعترض عليه بقول ابن حجر: وهذا - أي: الاستدلال بهذا الحديث على القود - يتوقف على ثبوت أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون في القسامة (¬5) . ويجاب عن هذا: بقول البيهقي: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الله، أنبأنا أحمد بن عبيد، حدثنا ابن ملحان، حدثنا يحيى هو ابن بكير، أنبأنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، عن أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود (¬6) » . ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] (1\ 12) . (¬2) [الجامع لأحكام القرآن] (1\ 459) . (¬3) [سنن الدارقطني] (2\ 310) . (¬4) صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1670) ، سنن النسائي القسامة (4708) ، مسند أحمد بن حنبل (4/62) . (¬5) [فتح الباري] (12\ 198) . (¬6) [السنن الكبرى] للبيهقي (8\ 122) .

وأما الأثر: فمن ذلك ما ذكره البيهقي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي بخسرو جرد، أنبأ أبو عمرو عثمان بن بشر، ثنا إسماعيل بن إسحاق، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن أباه قال: كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم، يعني: من أهل المدينة يقولون: يبدأ باليمين في القسامة الذين يجيئون من الشهادة على اللطخ والشبهة الخفية ما لا يجيء خصماؤهم وحيث كان ذلك كانت القسامة لهم. قال أبو الزناد: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أن رجلا من الأنصار قتل وهو سكران رجلا ضربه بشوبق ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبهة ذلك وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالقسامة ويرونها للذي يأتي به من اللطخ والشبهة أقوى مما يأتي به خصمه، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره. ثم قال البيهقي: (ورواه ابن وهب عن ابن أبي الزناد وزاد فيه: أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص إن كان ما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلم إلينا. أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن هشام بن عروة أخبره أن رجلا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينهم وبين رجل من آل صهيب منازعة فذكر الحديث في قتله قال: فركب يحيى بن عبد الرحمن

ابن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب فثنى عليهم الأيمان، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما، فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد ليقتلوه، فحلفوا على الصهيبي فقتلوه. قال هشام: فلم ينكر ذلك عروة، ورأى أن قد أصيب فيه الحق. وروينا فيه عن الزهري وربيعة ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير أنهما أقادا بالقسامة) (¬1) اهـ كلام البيهقي. وما ذكره عن أبي الزناد من القتل بالقسامة بمحضر عدد كبير من الصحابة - رضي الله عنهم - ذكره القاضي عياض بلفظ: (وقتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان) وقد علق الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: (قلت: إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن ألف) (¬2) . وأما ما ذكره البيهقي عن معاوية أنه أقاد بالقسامة، فقد نقل الحفاظ عن ابن بطال أنه قال: وصح عن معاوية بن أبي سفيان أنه أقاد بالقسامة، ذكر ذلك عن أبي الزناد في احتجاجه على أهل العراق، ثم قال الحافظ بن حجر العسقلاني: (قلت: هو في صحيفة عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، ومن طريقه أخرجه البيهقي قال: - أي: أبو الزناد - حدثني خارجة بن زيد بن ثابت ¬

_ (¬1) [السنن الكبرى] (8\ 137) . (¬2) [فتح الباري] (12\ 197) .

قال: قتل رجل من الأنصار رجلا من بني العجلان ولم يكن على ذلك بينة ولا لطخ - فأجمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلوه، فركبت إلى معاوية في ذلك، فكتب إلى سعيد بن العاص: إن كان ما ذكره حقا، فافعل ما ذكروه، فدفعت الكتاب إليه فأحلفنا خمسين يمينا ثم أسلمه إلينا) (¬1) . وقد جمع الحافظ بين ما رواه حماد بن سلمة في [مصنفه] ومن طريق ابن المنذر قال: عن ابن أبي مليكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة، فأخبرته: أن عبد الله بن الزبير أقاد بها، وأن معاوية - يعني: ابن أبي سفيان - لم يقد بها، وهذا سند صحيح، وجاء في باب القسامة من [صحيح البخاري] بلفظ: (وقال ابن أبي مليكة: لم يقد بها معاوية) جمع الحافظ بين هذا وبين ما تقدم عن معاوية أنه أقاد بها، بقوله: (قلت: يمكن الجمع بأن معاوية لم يقد بها لما وقعت له وكان الحكم في ذلك، ولما وقعت لغيره وكل الأمر في ذلك إليه ونسب إليه أنه أقاد بها لكونه أذن في ذلك) قال: (ويحتمل أن يكون معاوية كان يرى القود بها ثم رجع عن ذلك أو بالعكس) (¬2) . وأما ما ذكره البيهقي عن ابن الزبير أنه أقاد بالقسامة، فقد قال ابن حزم: (صح عنه من أجل إسناد أنه أقاد بالقسامة وأنه رأى القود بها في قتيل وجد، وأنه رأى الحكم للمدعين بالأيمان، وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة للواحد، وروى ذلك عنه أوثق الناس سعيد بن المسيب، وقد شاهد تلك ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12\ 193) . (¬2) المرجع السابق (12\ 193) .

القصة كلها عبد الله بن أبي مليكة قاضي ابن الزبير) (¬1) . أما ما ذكره البيهقي عن عمر بن عبد العزيز أنه أقاد بالقسامة، فقد قال ابن حزم: (صح عنه - أي: عن عمر بن عبد العزيز - أنه أقاد بالقسامة صحة لا مغمز فيها (¬2) . وقد مضت مناقشة ما نقل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز عند الكلام عن حكم القسامة. وقال النووي نقلا عن القاضي عياض: وقال الكوفيون والشافعي - رضي الله عنه - في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص، وإنما تجب الدية، وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي (¬3) والحسن بن صالح، وروي أيضا عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهم - (¬4) . واحتجوا لذلك بالسنة والأثر: أما السنة: ما رواه مالك في [الموطأ] عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل، عن سهل بن أبي حثمة، أنه أخبره رجال من كبراء قومه: «أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر: أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير بئر أو عين، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة، وهو أكبر منه، ¬

_ (¬1) [المحلى] (11\ 70) . (¬2) [المحلى] (11\ 111) . (¬3) كذا في الأصول. (¬4) [شرح النووي على مسلم] (11\ 144) ، ويرجع أيضا إلى [المغني] (8\ 416) .

وعبد الرحمن، فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كبر كبر يريد: السن، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يأذنوا بحرب فكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا: لا، قال: أفتحلف لكم يهود؟ قالوا: ليسوا مسلمين. فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار (¬1) » ، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء) (¬2) . قال القرطبي: (قالوا: - أي: الذين لا يرون سوى الدية في القسامة - هذا يدل على الدية لا على القود) (¬3) . ومنها: ما رواه البخاري في (باب القسامة) قال: (حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، حدثني أبو رجاء من آل أبي قلابة: حدثني أبو قلابة، أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: ما تقولون في القسامة؟ قالوا: نقول: القسامة القود بها حق وقد أقاد بها الخلفاء. قال لي: ما تقول يا أبا قلابة ونصبني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) [الموطأ بشرح الزرقاني] (4\ 52) من رواية يحيى الليثي. (¬3) [الجامع لأحكام القرآن] (1\ 159) .

على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا، قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه؟ قال: لا، قلت: فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في ثلاث، فقال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام. إلى آخر الحديث (¬1) . ووجه الاستدلال من هذا الحديث الطويل: ما جاء في رواية أبي قلابة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم. ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري] (12\200-204) .

وأما قصة الهذليين فليس فيها تصريح بما صنع عمر هل أقاد بالقسامة أو حكم بالدية؟ كذا في [فتح الباري] (12\ 204) ثم وجدنا في [مصنف عبد الرزاق] (10\ 48) ما يدل على أن عمر حكم بالدية في هذه القضية، فقد روى عبد الرزاق في (باب الخلع) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: (خلع قوم هذليون سارقا منهم كان يسرق الحاج، قالوا: قد خلعناه فمن وجده يسرق فدمه هدر، فوجدته رفقة من أهل اليمن يسرقهم، فقتلوه، فجاء قومه عمر بن الخطاب فحلفوا بالله: ما خلعناه، ولقد كذب الناس علينا، فأحلفهم عمر خمسين يمينا، ثم أخذ عمر بيد رجل من الرفقة فقال: أقرنوا هذا إلى أحدكم حتى تؤتوا بدية صاحبكم، ففعلوا، فانطلقوا حتى دنوا من أرضهم. . . أصابهم مطر شديد فاستنزوا بجبل طويل وقد أمرسوا، فلما نزلوا كلهم انقض الجبل عليهم فلم ينج منهم أحد ولا من ركابهم إلا التريك وصاحبه، فكان يحدث بما لقي قومه) اهـ.

ومما أجيب به عن قوله - صلى الله عليه وسلم - للحارثيين: «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تؤذنوا بحرب (¬1) » . وما ذكره الباجي قال: يحتمل أن يريد بقوله: أن تدوا صاحبكم إعطاء الدية؛ لأنه قد جرى في كلام الحارثيين أنهم طلبوا الدية دون القصاص، ويحتمل أنهم لم يكونوا ادعوا حينئذ قتله عمدا، ويحتمل أنهم لما لم يعينوا القاتل، وإنما قالوا: إن بعض يهود قتله، ولا يعرف من هو - لم يلزم في ذلك قصاص، وإنما يلزم فيه الدية، كالقتيل بين الصفين لا يعرف من قتله، ولا يقول: دمي عند فلان، ولا يشهد شاهد بمن قتله، فإن ديته على الفرقة المنازعة له دون قسامة؛ ولذلك لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بالقسامة في هذا المقام، ولعل هذا كان يكون الحكم إن لم يقطع يهود بأنها لم تقتل ولم تنف ذلك عن أنفسها وتقول: لا علم لنا، وإنما أظهر في المقام ما يجب من الحق إن لم يقع النفي للقتل الموجب للقسامة أن عليهم أن يؤدوا الدية، فإن امتنعوا من الواجب عليهم في ذلك فلا بد من محاربتهم في ذلك حتى يؤدوا الحق ويلتزموا من ذلك حكم الإسلام (¬2) . اهـ. ومنهم من طعن في هذا الحديث لما جاء فيه: وإما أن تؤذنوا بحرب قال الخطابي: وقد أنكر بعض الناس قوله: وإما أن تؤذنوا بحرب وقال: إن الأمة على خلاف هذا القول، فدل على أن خبر القسامة غير معمول به. وقد أجاب الخطابي عن هذا بقوله بعد ما ذكرت (قلت: ووجه الكلام بين، وتأويله صحيح، وذلك أنهم إذا امتنعوا من القسامة ولزمتهم الدية ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) . (¬2) [المنتقى شرح الموطأ] (8\ 53) .

فأبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بحرب كما يؤذنون بها إذا منعوا الجزية) . وأما استدلال أبي قلابة بترك القود بالقسامة، لقوله: «فوالله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، ورجل حارب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وارتد عن الإسلام (¬1) » . فقد قال فيه الحافظ ابن حجر: (لم يظهر لي وجه استدلال أبي قلابة بأن القتل لا يشرع إلا في الثلاث لرد القود بالقسامة مع أن القود قتل نفس بنفس وهو أحد الثلاثة، وإنما النزاع في الطريق إلى ثبوت ذلك) (¬2) . وأما قول أبي قلابة: «وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه نفر من الأنصار فتحدثوا عنده فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل، فخرجوا بعده فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، صاحبنا كان تحدث معنا فخرج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشحط في الدم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من تظنون أو ترون قتله؟ قالوا: نرى أن اليهود قتلته، فأرسل إلى اليهود فدعاهم، فقال: أنتم قتلتم هذا قالوا: لا، قال: أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه؟ فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينتفلون، قال: فتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده - قلت: وقد كانت هذيل خلعوا خليعا لهم في الجاهلية فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6899) . (¬2) [فتح الباري] (12\ 204) .

فانتبه له رجل منهم فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم (¬1) » إلخ. فقد أجاب البيهقي عن ذلك بقوله: (وحديث - أي: أبي قلابة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القتيل مرسل، وكذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة الهذلي (¬2) . ومما استدلوا به من السنة: ما رواه أبو داود في المراسيل، عن هارون بن زيد عن أبي الزرقاء عن أبيه عن محمد بن راشد بن مكحول: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود» . ومن هذا الطريق أخرجه البيهقي في باب ترك القود بالقسامة، قال: أخبرنا محمد بن محمد، أنبأنا الفسوي، ثنا اللؤلؤي، ثنا أبو داود فذكره (¬3) . والجواب عن هذا الحديث: أنه منقطع، قال ابن القيم: وأما حديث محمد بن راشد المكحول عن مكحول: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض في القسامة بقود» - فمنقطع (¬4) . وما رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وإسحاق بن راهويه والبزار في [مسانيدهم] والبيهقي في [سننه] من طريق أبي إسرائيل الملائي، واسمه: إسماعيل بن إسحاق عن عطية عن أبي سعيد الخدري: «أن قتيلا وجد بين حيين، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أقربهما فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر (¬5) » ، قال الخدري: كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم، ورواه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الديات (6899) . (¬2) [السنن الكبرى] (8\ 129) . (¬3) المرجع السابق (8\ 129) . (¬4) [تهذيب سنن أبي داود] (6\ 352) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (3/89) .

ابن عدي والعقيلي في كتابيهما بلفظ: فألقى ديته على أقربهما (¬1) . والجواب قد أعله ابن عدي والعقيلي في كتابيهما بأبي إسرائيل، فضعفه ابن عدي عن قوم ووثقه عن آخرين، وقال فيه البزار: أبو إسرائيل قال النسائي فيه: ليس بثقة، كان يسب عثمان - رضي الله عنه - قال: وثقه ابن معين (¬2) . وقال ابن حجر: قال العقيلي: لا أصل له (¬3) . وقال ابن حزم: هالك؛ لأنه انفرد به عطية بن سعيد العوفي، وهو ضعفه هشيم وسفيان الثوري ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وما ندري أحدا وثقه، وذكر عن أحمد بن حنبل: أنه كان يأتي الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ثم يكنيه بأبي سعيد، ويحدث بها عن أبي سعيد فيوهم الناس أنه الخدري، وهذا من تلك الأحاديث. والله أعلم، فهو ساقط، ثم أيضا من رواية أبي إسرائيل الملائي هو إسماعيل بن إسحاق فهو بلية عن بلية، والملائي هذا ضعيف جدا، وليس في الذرع بين القريتين خبر غير هذا لا مسندا ولا مرسلا (¬4) . وقال البيهقي تحت عنوان (باب ما روي في القتيل يوجد بين القريتين ولا يصح) : أخبرنا أبو بكر بن فورك، أنبأنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا أبو إسرائيل عن عطية عن أبي سعيد: «أن قتيلا ¬

_ (¬1) [نصب الراية] (4\ 396) . (¬2) المرجع السابق (4\ 396، 397) . (¬3) [التلخيص الحبير] (4\ 39) . (¬4) [المحلى] (11\ 86) .

وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب، فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر (¬1) » ، قال أبو سعيد: كأني أنظر إلى شبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى ديته عليهم. وأخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأ أبو أحمد بن عدي، أنبأ الفضل ابن الحباب، ثنا أبو الوليد الطيالسي عن أبي إسرائيل الملائي بنحوه. تقول به أبو إسرائيل عن عطية العوفي. وكلاهما لا يحتج بروايتهما. اهـ نص كلامه في [السنن الكبرى] (¬2) . وقال في [المعرفة] : (إنما روى هذا الحديث أبو إسرائيل الملائي عن عطية العوفي، وكلاهما ضعيف) اهـ (¬3) . وقال ابن القيم: (وأما حديث أبي سعيد الخدري: «أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاس إلى أيهما أقرب فوجد أقرب إلى أحد الحيين بشبر فألقى ديته عليهم (¬4) » - فرواه أحمد في [مسنده] وهو من رواية أبي إسرائيل الملائي عن عطية العوفي فيه ضعف) . اهـ. . ولو لم يكن في إسناد هذا الحديث سوى البلية أبي إسرائيل لكفى ذلك في تضعيفه، فقد قال ابن عدي: حدثنا الآجري، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا عفان قال: قال لي بهز: قال لي أبو إسرائيل الملائي: عثمان كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، روى ذلك الحافظ الذهبي ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (3/89) . (¬2) [السنن الكبرى] (8\ 126) . (¬3) [نصب الراية] (4\ 397) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (3/89) .

عن ابن عدي بسنده إليه (¬1) . هذا وعند ابن عدي هذا الحديث أيضا من رواية الصبي بن أشعث بن سالم السلولي، سمعت عطية العوفي عن الخدري به، ولكن الصبي هنا لينه ابن عدي، وقال: إن في بعض حديثه ما لا يتابع عليه، قال: ولم أر للمتقدمين فيه كلاما، ورواه عن عطية أبو إسرائيل. اهـ (¬2) . وقال ابن القيم: لا تجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به، وهو ابن صبيح الذي لم يسفر صباح صدقه (¬3) . وأما الآثار: فمنها ما ذكره ابن حزم قال: قال ابن أبي شيبة: نا عبد السلام بن حرب عن عمرو هو ابن عبيد عن الحسن البصري، أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة. وما ذكره البيهقي قال: أخبرنا أبو بكر الأردستاني، أنبأنا أبو نصر العراقي، أنبأنا سفيان بن محمد الجوهري، ثنا علي بن الحسن، ثنا عبد الله بن الوليد، ثنا سفيان عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: القسامة توجب العقل ولا تشيط ¬

_ (¬1) [ميزان الاعتدال] (4\ 390) . (¬2) [نصب الراية] (4\ 397) . (¬3) [تهذيب السنن] (6\ 324) .

الدم (¬1) . وما ذكره ابن حزم: قال أبو بكر بن أبي شيبة، نا وكيع، نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: (انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب فوجداه قد صدر عن البيت عامدا إلى منى فطاف بالبيت، ثم أدركاه فقصا عليه قصتهما، فقالا: يا أمير المؤمنين، إن ابن عم لنا قتل، نحن إليه شرع سواء في الدم، وهو ساكت لا يرجع إليهما شيئا حتى ناشداه الله، فحمل عليهما، ثم ذكراه الله فكف عنهما، قال عمر بن الخطاب: ويل لنا إذا لم نذكر بالله، وويل لنا إذا لم نذكر الله. فيكم شاهدان ذوا عدل يجيئان به على من قتله فنقيدكم منه. وإلا حلف من بيدكم بالله: ما قتلنا ولا علمنا له قاتلا، فإن نكلوا حلف منكم خمسون ثم كانت لكم الدية. إن القسامة قد تستحق بها الدية ولا يقاد بها (¬2) . وما ذكره ابن حجر قال: أخرج الثوري في [جامعه] وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي قال: وجد قتيل بين حيين من العرب فقال عمر: قيسوا ما بينهما، وأيهما وجدتموه إليه أقرب، فحلفوهم خمسين يمينا وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي: أن عمر كتب في قتيل بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر، فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية فقال: حقنت ¬

_ (¬1) [السنن الكبرى] (8\ 129) . (¬2) نقله ابن حزم عن ابن أبي شيبة في [المحلى] (11\ 65) .

أيمانكم دماءكم ولا يطل دم رجل مسلم (¬1) . وروى عبد الرزاق عن معمر عن عمرو وغيره عن الحسن قال: يستحقون بالقسامة الدية، ولا يستحقون بها الدم (¬2) . ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق عن معمر قال: قلت لعبد الله بن عمر العمري: أعلمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر. قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فلم تجترئون عليها؟ فسكت (¬3) . والجواب عنه: أولا: أنه معارض بما أخرجه أبو عوانة في [صحيحه] وأصله عند الشيخين من طريق حماد بن زيد عن أيوب وحجاج الصواف عن أبي رجاء: أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم: هي حق قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقضى بها الخلفاء. وثانيا: أن من قال: إنه قضى بها مثبت، ومن قال: لم يقض بها ناف، والمثبت معه زيادة علم فيقدم على النافي. وثالثا: كونه لا يعلم، لا يلزم منه عدم الوقوع، فعدم علمه ليس بدليل. ورابعا: هو معلول بالإرسال، قال ابن حزم: لا يصح؛ لأنه مرسل، إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص. وما أخرجه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي، قال الدارقطني: نا محمد بن القاسم بن زكريا، نا هشام بن يونس، نا محمد بن يعلى، عن ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12\ 198، 199) . (¬2) [المصنف] (10\ 41) . (¬3) [فتح الباري] (12\ 199) .

عمر بن صبيح، عن مقاتل بن حيان، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن المسيب: أنه قال: لما حج عمر حجته الأخيرة التي لم يحج غيرها، غودر رجل من المسلمين قتيلا في بني وادعة، فبعث إليهم عمر، وذلك بعدما قضى النسك، فقال لهم: هل علمتم لهذا القتيل قاتلا منكم؟ قال القوم: لا، فاستخرج منهم خمسين شيخا، فأدخلهم الحطيم، فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام، ورب هذا البلد الحرام، ورب هذا الشهر الحرام أنكم لم تقتلوه، ولا علمتم له قاتلا، فحلفوا بذلك، فلما حلفوا قال: أدوا دية مغلظة في أسنان الإبل أو من الدنانير والدراهم دية وثلثا، فقال رجل منهم، يقال له: سنان: يا أمير المؤمنين، أما تجزيني من مالي؟ قال: لا، إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فأخذ ديته دنانير دية وثلث دية (¬1) . والجواب عن هذا الحديث: بأن فيه عمر بن صبيح، وهو متروك، قال ذلك الدارقطني والبيهقي وابن القيم، فقال الدارقطني: في سنده عمر بن صبيح، متروك (¬2) . وقال البيهقي: رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني: قوله: (إنما قضيت فيكم بقضاء نبيكم) منكر، وهو مع انقطاعه من رواية من أجمعوا على تركه (¬3) . ونقل الزيلعي عن البيهقي أنه قال في كتاب [المعرفة] : أجمع أهل الحديث على ترك الاحتجاج بعمر بن صبيح، وقد خالفت روايته هذه ¬

_ (¬1) [سنن الدارقطني] (2\ 355) . (¬2) المرجع السابق (2\ 355) . (¬3) [السنن الكبرى] (8\ 125) .

رواية الثقات الأثبات (¬1) . وذكر ابن حزم: أن ذلك صحيح عن الحسن ونصه: وأما الحسن فصح عنه أنه قال: لا يقاد بالقسامة، لكن يحلف المدعى عليهم بالله: ما فعلنا، ويبرءون، فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية، هذا في القتيل يوجد، كما ذكر ابن حزم أنه صح عن قتادة: أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها. اهـ (¬2) . والجواب عن هذه الآثار ما يأتي: أما ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري: أن أبا بكر والجماعة الأولى لم يكونوا يقيدون بالقسامة فهو مرسل. قال: إنه لا يصح، لأنه عن الحسن وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب (¬3) . وأما ما رواه الثوري عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر بن الخطاب قال: القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم - فقد قال البيهقي فيه: (هذا منقطع) (¬4) ، وقال ابن القيم: أما ما رواه الثوري في [جامعه] عن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم - فمنقطع موقوف (¬5) . اهـ كلام ¬

_ (¬1) [نصب الراية] (4\ 395) . (¬2) [المحلى] (11\ 70، 71) . (¬3) المرجع السابق (11\ 69) . (¬4) [السنن الكبرى] (8\ 129) . (¬5) [تهذيب السنن] (6\ 324) .

ابن القيم. وقد رواه ابن أبي شيبة، ومن طريقه ابن حزم قال ابن أبي شيبة: نا وكيع، نا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: انطلق رجلان من أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب، فذكر الحديث المتقدم، وفيه: (أن القسامة تستحق بها الدية ولا يقاد بها) . ثم ذكر ابن حزم: في رواية القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر بن الخطاب منقطعة قال: لم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر) (¬1) . وأما الأثر الذي أخرجه الثوري في [جامعه] وابن أبي شيبة عن منصور بسند صحيح إلى الشعبي: أنه وجد قتيل بين حيين من العرب، فقال: عمر: قيسوا ما بينهما، الحديث، وأخرجه الشافعي، وفي روايته: تسمية الحيين: خيوان ووادعة - فقد قال فيه ابن حزم: (إنه مرسل؛ لأنه عن عمر من طريق الشعبي ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها) (¬2) . وقال البيهقي في الجواب عنه من ناحية ما فيه من مخالفة النصوص الدالة على البدء بولاة الدم في الأيمان - قال: أما الأثر الذي أخبرنا أبو حازم الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن خميرويه، أنبأ أحمد بن نجدة، ثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر - يعني: الشعبي - أن قتيلا وجد ¬

_ (¬1) [المحلى] (11\ 69) . (¬2) المرجع السابق (11\ 69) .

في خربة وادعة همدان فرفع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأحلفهم خمسين يمينا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، ثم غرمهم الدية ثم قال: يا معشر همدان، حقنتم دماءكم بأيمانكم فما يطل دم هذا الرجل المسلم. وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، ثنا سفيان عن منصور عن الشعبي: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة: أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليهم منهم خمسون رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم بالدية، فقالوا: ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا، قال عمر - رضي الله عنه -، كذلك الأمر. قال الشافعي: وقال غير سفيان عن عاصم الأحول عن الشعبي قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حقنتم بأيمانكم دماءكم ولا يطل دم مسلم. فقد ذكر الشافعي - رحمه الله - في الجواب عنه ما يخالفون عمر - رضي الله عنه - في هذه القصة من الأحكام ثم قيل له: أفثابت هو عندك؟ قال: لا، إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث مجهول، ونحن نروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الثابت أنه بدأ بالمدعين، فلما لم يحلفوا قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا وإذا قال: تبرئكم فلا يكون عليهم غرامة، ولما لم يقبل الأنصاريون أيمانهم وداه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجعل على يهود والقتيل بين أظهرهم شيئا، قال الربيع: أخبرني بعض أهل العلم عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: حارث الأعور كان كذابا، وروي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر - رضي الله عنه - ومجالد غير محتج به. وروى عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع عن عمر، وأبو

إسحاق لم يسمع من الحارث بن الأزمع، قال علي بن المديني عن أبي زيد عن شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يحدث حديث الحارث بن الأزمع: أن قتيلا وجد بين وادعة وخيوان فقلت: يا أبا إسحاق، من حدثك؟ قال: حدثني مجالد عن الشعبي عن الحارث بن الأزمع، فعادت رواية أبي إسحاق إلى حديث مجالد، واختلف فيه على مجالد في إسناده، ومجالد غير محتج به والله أعلم. هذا كلام البيهقي في [السنن الكبرى] (¬1) . وأخرج في [المعرفة] عن ابن عبد الحكم أنه قال: سمعت الشافعي يقول: سافرت إلى خيوان ووادعة أربع عشرة سفرة وأنا أسألهم عن حكم عمر بن الخطاب في القتيل وأنا أحكي لهم ما روي فيه، فقالوا: هذا شيء ما كان ببلدتنا قط (¬2) . اهـ. وفي هذا دليل على عناية الشافعي - رحمه الله - بحالة هذا الأثر. وقد ناقش ابن التركماني ما ذكره البيهقي في [السنن الكبرى] عن الشافعي من ناحية كون الأثر من رواية الحارث الأعور، وادعوا جهالته فقال: قلت: لم يذكر أحد فيما علمنا: أن الشعبي رواه عن الحارث الأعور غير الشافعي، ولم يذكر سنده في ذلك، وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي عن الحارث الوادعي، هو ابن الأزمع، وسيأتي: أن مجالدا رواه عنه الشعبي كذلك. ورواية أبي إسحاق لهذا الأثر عن الحارث هذا عن عمر أمارة على أنه الواسطة، لا الحارث الأعور، كما زعم الشافعي، ورواه أيضا عبد الرزاق (¬3) ¬

_ (¬1) [السنن الكبرى] (8\ 124) . (¬2) [نصب الراية] (4\ 355) . (¬3) [المصنف] (10\ 35) .

عن الثوري عن منصور عن الحكم عن الحارث بن الأزمع، والحارث هذا ذكره أبو عمر وغيره في الصحابة وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، ثم إن الحارث الأعور وإن تكلموا فيه فليس بمجهول كما زعم الشافعي، بل هو معروف روى عنه الطحاوي والشعبي والسبيعي وغيرهم (¬1) . اهـ. ¬

_ (¬1) [الجوهر النقي] بذيل [السنن الكبرى] (8\ 120) .

العنصر التاسع خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد

التاسع: خلاف العلماء فيمن يقتل بالقسامة إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد: اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فمنهم من ذهب إلى أنه لا يقتل إلا واحد، ومنهم من ذهب إلى أنه يستحق بها قتل جماعة، ومنهم من ذهب إلى العدول إلى الدية. أما المذهب الأول: فقال مالك - رحمه الله -: لا يقتل في القسامة إلا واحد، لا يقتل فيها اثنان، وقال الباجي - رحمه الله - على ذلك: لا خلاف في المذهب: أنه لا يستحق بالقسامة إلا قتل رجل واحد، خلافا للشافعي في أحد قوليه. والدليل على ما نقوله: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم (¬1) » . ومن جهة المعنى: أن القسامة أضعف من الإقرار والبينة وفي قتل الواحد ردع، قاله القاضي أبو محمد (¬2) . وقال ابن قدامة - رحمه الله -: لا يختلف المذهب: أنه لا يستحق بالقسامة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4718) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) . (¬2) [المنتقى] (7\ 54) ويرجع إلى [عارضة الأحوذي] (7 \ 193) .

أكثر من قتل واحد، وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي - قال بعد ذكر مذهب آخر سيأتي. ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته (¬1) » فخص بها الواحد، ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه ويبقى الأصل فيما عداه، وبيان مخالفة الأصل بها أنها ثبتت باللوث، واللوث شبهة فغلبه على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها؛ ولأن الأيمان في سائر الدعاوى تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه، وهذا بخلافه، وبيان ضعفها: أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في إثبات حق لغيره فلأن يمنع منه قبول قوله وحده في إثبات حقه أولى وأحرى (¬2) . أما المذهب الثاني: فقال ابن قدامة - رحمه الله -، وقال بعضهم - أي: بعض أصحاب الشافعي -: يستحق بها قتل الجماعة؛ لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة، وهذا نحو قول أبي ثور. وقد ناقش ابن قدامة ذلك فقال: وفارق البينة فإنها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين وفي كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا ولا يدفعوا عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه؛ ولهذا لا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنفي الشبهات (¬3) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669) ، سنن الترمذي الديات (1422) ، سنن النسائي القسامة (4711) ، سنن أبو داود الديات (4520) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، مسند أحمد بن حنبل (4/3) ، موطأ مالك القسامة (1630) ، سنن الدارمي الديات (2353) . (¬2) [المغني] (8\ 506) . (¬3) المرجع السابق (8\ 508) .

وأما المذهب الثالث: فقال النووي: قال الشافعي: إذا ادعوا على جماعة حلفوا عليهم، وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي، وعلى قول: إنه يجب القصاص (¬1) . وقد مضى أن الشافعي - رحمه الله - لم يوجب الدم في القسامة، ومضت أدلة ذلك ومناقشتها. هذا ما تيسر ذكره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ¬

_ (¬1) [شرح النووي على صحيح مسلم] (11\ 149) .

قرار هيئة كبار العلماء بشأن القسامة

قرار هيئة كبار العلماء رقم (41) وتاريخ 13\4\1396هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد، وآله وصحبه، وبعد. ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ - اطلع المجلس على ما سبق أن أجله من الدورة السابعة إلى الدورة الثامنة من بحث القسامة، هل الورثة هم الذين يحلفون أيمان القسامة أو أن العصبة بالنفس هم الذين يحلفون ولو كانوا غير وارثين إذا كانوا ذكورا بالغين عقلاء؟ . وبعد استماع المجلس ما سبق أن أعد في ذلك من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها وتداول الرأي - قرر المجلس بالأكثرية: أن الذي يحلف من الورثة هم الذكور البالغون العقلاء ولو واحدا، سواء كانوا عصبة أو لا؛ لما ثبت في [الصحيحين] من حديث سهل بن أبي حثمة في قصة قتل اليهود لعبد الله بن سهل: «أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ، قالوا: لا - وفي رواية -: يقسم منكم خمسون رجلا (¬1) » ، ولأنها يمين في دعوى حق، فلا تشرع في حق غير المتداعين كسائر الأيمان. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الثامنة عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد متوقف راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأحكام (7192) ، سنن النسائي كتاب القسامة (4710) ، سنن أبو داود الديات (4521) ، سنن ابن ماجه الديات (2677) ، موطأ مالك القسامة (1630) .

هدي التمتع والقران

(3) هدي التمتع والقران هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

(3) هدي التمتع والقران هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم هدي التمتع والقران (¬1) إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة المنعقدة في مدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ موضوع (هدي التمتع والقران، ووقت الذبح ومكانه، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. هدي التمتع والقران الحمد لله رب العالمين، الصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الرابع، ص 183- 231، سنة 1398 هـ.

الطائف في شعبان عام 1395 هـ من الموافقة على إعداد بحث (هدي التمتع والقران) - فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على الأمور الآتية: أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة. ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة. ثالثا: الذبح ليلا مع الأدلة والمناقشة. رابعا: مكان الذبح مع الأدلة والمناقشة. خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة. سادسا: علاج مشكلة اللحوم في منى. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

أولا ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة

أولا: ابتداء وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة اختلف أهل العلم في تحديد ابتداء وقت ذبح هدي التمتع والقران هل يجوز ذبحه قبل يوم النحر أو أنه لا يجوز إلا ابتداء من يوم النحر؟ القول الأول: يبتدئ وقت ذبحه يوم النحر بعد طلوع الشمس وصلاة العيد أو مضي قدرها عند الحنابلة، وبعد رمي جمرة العقبة عند مالك، ويوم النحر عند الحنفية. قال النسفي والزيلعي: وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط، وفي [بداية المبتدئ] : (ولا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر) وجاء معنى ذلك في كثير من كتب الحنفية، تركنا ذكرها اختصارا.

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة. وقال ابن العربي: ولو ذبحه قبل يوم النحر لم يجزه. وقال الباجي: ولا يجوز أن ينحره قبل يوم النحر. وقال المزني: فإن كان معتمرا نحر بعد ما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة وحيث نحر من فجاج مكة أجزأه، وإن كان حاجا نحره بعد ما يرمي جمرة العقبة قبل أن يحلق. انتهى المقصود. وقال الرملي: (ووقته -أي: وقت ذبح الهدي- كوقت ذبح الأضحية على الصحيح. وصححه أيضا النووي والرافعي ... وقال الفتوحي: ووقت ذبح أضحية وهدي نذر وتطوع ومتعة وقران من بعد أسبق صلاة العيد بالبلد أو قدرها لمن لم يصل. انتهى كلامه. ونقل ابن قدامة عن أبي الخطاب: أنه يجب إذا طلع الفجر يوم النحر؛ لأنه وقت إخراجه فكان وقت وجوبه. واستدل للقول بأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى: أما الكتاب فمنه دليلان: الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196

وجه الدلالة: ما ذكره الباجي رحمه الله بقوله: لو جاز قبل يوم النحر لجاز الحلق قبل يوم النحر، ولا سيما على القول بدليل الخطاب، ولا خلاف بينهم في القول به إذا علق بالغاية، وهو قول القاضي أبي بكر وأكثر شيوخنا. ومما يدل على هذا حديث حفصة وهو قولها: «يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟! فقال: "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر" (¬1) » . وهذا يفيد أنه تعذر النحر عليه فوجب لامتناعه من الحلاقة ولو كان النحر مباحا لعلل امتناع الإحلال بغير تأخير النحر ولما صح اعتلاله به. ويمكن أن يناقش الاستدلال بالآية: بأنها في الإحصار، فإن قبلها قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) والكلام في هدي التمتع والقران لا الإحصار. الثاني: قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬3) وجه الدلالة: أن الآية مطلقة من جهة تحديد وقت ذبح الهدي، وقد جاء ما يدل على تحديده وهو قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬4) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬5) الآية. وجه الدلالة: ما ذكره الجصاص وغيره من أن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر، ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هدي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1566) ، صحيح مسلم الحج (1229) ، سنن النسائي مناسك الحج (2781) ، سنن أبو داود المناسك (1806) ، سنن ابن ماجه المناسك (3046) ، موطأ مالك الحج (897) . (¬2) سورة البقرة الآية 196 (¬3) سورة البقرة الآية 196 (¬4) سورة الحج الآية 28 (¬5) سورة الحج الآية 29

البدن دل أنها بدن القران والتمتع؛ لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال، وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجز قبل يوم النحر. وقد نوقش هذا الاستدلال: بقول الجصاص رحمه الله: (إذا كان الصيام بدلا من الهدي، والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم؟) . وأجاب عن ذلك بقوله: لا خلاف في جواز الصيام قبل يوم النحر، وقد ثبت بالسنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر، وأحدها: ثابت بالاتفاق، وبدليل قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬1) والآخر: ثابت بالسنة فالاعتراض عليهما بالنظر ساقط. وأيضا: فإن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان: أحدهما: إتمام العمرة والحج في أشهر الحج، والثاني: ألا يجد حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون الصوم متعة وصار تطوعا، وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة، فلذلك اختص بيوم النحر. واعترض على ذلك بما قاله الجصاص من أن الله تعالى قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬2) فلا يجوز تقديمه على الحج. وأجاب عن ذلك بقوله: لا يخلو قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬3) من أحد معان: إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة الحج وما سماه ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) سورة البقرة الآية 196 (¬3) سورة البقرة الآية 196

النبي صلى الله عليه وسلم حجا وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه قال: «الحج عرفة (¬1) » أو في أشهر الحج؛ لأن الله قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬2) وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به؛ لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال، ويستحيل صوم الثلاثة الأيام منه، ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة، فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج، وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان؛ لمطابقته اللفظ في الآية. وأيضا قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬3) معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه، فإذا كان هذا المعنى موجودا عند إحرامه للعمرة وجب أن يجزئ ولا يكون ذلك خلاف الآية، كما أن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬4) دال على جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (¬5) » لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب، فكذلك قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬6) غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي جاز فعله في الحج. ثم نقده رحمه الله بقوله: لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ولما كان الصوم بدلا عن الهدي لم يجز تقديمه عليه. وأجاب عن ذلك بقوله: هذا اعتراض على الآية؛ لأن نص التنزيل قد ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3016) ، سنن أبو داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد بن حنبل (4/335) ، سنن الدارمي المناسك (1887) . (¬2) سورة البقرة الآية 197 (¬3) سورة البقرة الآية 196 (¬4) سورة النساء الآية 92 (¬5) سنن الترمذي الزكاة (632) . (¬6) سورة البقرة الآية 196

أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر. وأيضا: فإننا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل عنه، وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليها؛ لأنه تعالى قال: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1) فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر إذا لم يجد الهدي، وهدي العمرة يصح إيجابه بعد العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه. انتهى كلامه. ونوقش الاستدلال بالآية على أن (ثم) للتراخي فربما يكون الذبح قبل يوم النحر وقضاء التفث فيه) . وأجيب عنه: بأن موجب ثم بالتراخي يتحقق بالتأخير ساعة فلو جاز الذبح قبل يوم النحر جاز قضاء التفث بعده بساعة وليس كذلك. وأما الأدلة من السنة فكثيرة نكتفي منها بما يأتي: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هديا، فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله (¬2) » الحديث. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) صحيح البخاري الحج (1692) ، صحيح مسلم الحج (1227) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2732) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1805) .

ولهما عن جابر رضي الله عنه قال: «أهللنا بالحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا، فقال: "يا أيها الناس أحلوا، فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم" قال: فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا كما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر، أهللنا بالحج (¬1) » . ولهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال: "بم أهللت؟ " قال: قلت: أهللت بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "سقت من هدي؟ "، قلت: لا، قال: "فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل" فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي (¬2) » . وروى البخاري «عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن متعة الحج؟ فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، وإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعمرتنا، وعلينا الهدي، كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬3) » . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1216) ، مسند أحمد بن حنبل (3/302) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1724) ، صحيح مسلم الحج (1221) ، سنن الدارمي المناسك (1815) . (¬3) سورة البقرة الآية 196

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج (¬1) » . وروى البزار في [مسنده] عن أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة، فلما قدموا مكة طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلوا، فهابوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلوا، فلولا أن معي الهدي لأحللت، فحلوا حتى خلوا إلى النساء (¬2) » . وروى أبو داود عن أنس قال: «بات رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: بذي الحليفة - حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، فحمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما، فلما قدم أمر الناس فحلوا، حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج نحر سبع بدنات بيده قياما (¬3) » . وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن قرط: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الأيام عند الله عز وجل يوم النحر ثم يوم القر (¬4) » قال ثور: وهو اليوم الثاني، قال: وقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات (خمس أو ست) فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، قال. فلما وجبت جنوبها قال: فتكلم بكلمة خفيفة لم أسمعها، فقلت: ما قال؟ قال: من شاء اقتطع. وروى مسلم في [صحيحه] عن جابر بن عبد الله رضي عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن نسائه في حجه بقرة (¬5) » . وفي رواية: قال: «نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر (¬6) » . وروى البخاري ومسلم في [الصحيحين] عن عمرة بنت عبد الرحمن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1247) ، مسند أحمد بن حنبل (3/5) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (3/142) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1551) ، سنن النسائي مناسك الحج (2931) ، سنن أبو داود المناسك (1796) ، مسند أحمد بن حنبل (3/268) . (¬4) سنن أبو داود المناسك (1765) ، مسند أحمد بن حنبل (4/350) . (¬5) سنن أبو داود الأطعمة (3747) ، مسند أحمد بن حنبل (3/301) . (¬6) صحيح مسلم الحج (1319) .

قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل (¬1) » . قالت عائشة: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. قال يحيى: فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد، فقال: أتتك بالحديث على وجهه. ولهما «عن عائشة رضي الله عنها قالت: فلما دخلنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي (¬2) » قالت: «وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر (¬3) » . وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: "اذبح ولا حرج" ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج " فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "ولا حرج (¬4) » . وروى مسلم في [صحيحه] عن جابر رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم (¬5) » . وروى مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بالحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه، وحل بقيتهم (¬6) » . وله أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: «خرجنا محرمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1709) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1560) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، مسند أحمد بن حنبل (6/219) . (¬3) سنن أبو داود المناسك (1782) ، مسند أحمد بن حنبل (6/219) ، سنن الدارمي المناسك (1904) . (¬4) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6665) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، سنن ابن ماجه المناسك (3051) ، مسند أحمد بن حنبل (2/217) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) . (¬5) صحيح مسلم الحج (1318) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3132) . (¬6) صحيح مسلم الحج (1239) ، سنن النسائي مناسك الحج (2871) ، سنن أبو داود المناسك (1804) .

لم يكن معه هدي فليحل فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل (¬1) » . وروى مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، أنه قال: «أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: يا رسول الله، حل ماذا؟ قال: "الحل كله " فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية (¬2) » الحديث. وله أيضا من طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا وبالمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يكن معه هدي فليحل. قلنا: يا رسول الله، أي الحل؟ فقال: "الحل كله " قال: فأتينا النساء، ولبسنا الثياب، ومسسنا الطيب، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج (¬3) » الحديث. وروى الإمام أحمد، عن أنس رضي الله عنه قال: «خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكن سقت الهدي، وقرنت بين الحج والعمرة (¬4) » . وله أيضا، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابه مهلين بالحج، فقال: "من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " قالوا: يا رسول الله، أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا؟ قال: "نعم ". وسطعت المجامر (¬5) » . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1236) ، سنن النسائي مناسك الحج (2992) ، سنن ابن ماجه المناسك (2983) ، مسند أحمد بن حنبل (6/350) . (¬2) صحيح مسلم كتاب الحج (1213) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1785) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1213) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1785) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (3/148) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (2/28) .

وله أيضا وابن ماجه، عن البراء بن عازب قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة قال: " اجعلوا حجكم عمرة". قال: فقال الناس: يا رسول الله، قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه القول فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة وهو غضبان، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ فقال: "وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا أتبع (¬1) » . وروى أبو داود عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان، قال له سراقة بن مالك المدلجي: يا رسول الله، اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، فقال: "إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فقد حل، إلا من كان معه هدي (¬2) » . فهذه الأحاديث منها: ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى، ومنها: ما يدل عليه بمفهوم أو مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى ونحر أصحابه كذلك، ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى، فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة. وأما الإجماع: فقد قال ابن عابدين على قول صاحبي [تنوير الأبصار] وشرحه [الدر المختار] : ويتعين يوم النحر، أي: وقته، هو والأيام الثلاثة لذبح المتعة والقران فقط، فلم يجز قبله قال: (فلم يجزئ) أي: بالإجماع وهو بضم أوله من الإجزاء. وأما الأثر: فقد نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أنه قال: روي عن غير ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه المناسك (2982) . (¬2) سنن أبو داود المناسك (1801) ، مسند أحمد بن حنبل (3/405) .

واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس. وأما المعنى: فقد ذكره ابن قدامة بقوله: لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية، فلا يجوز فيه ذبح الهدي للمتمتع كمثل التحلل من العمرة (¬1) . القول الثاني: أنه يجوز قبل يوم النحر، وهو منقول عن بعض المالكية، وبه قال الشافعي وبعض أصحابه، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول لبعض أصحابه. والذين قالوا بهذا القول: منهم من يرى جواز ذبحه إذا قدم به قبل العشر، وهو رواية عن أحمد، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه إذا حل من العمرة، ومنهم من يرى جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج. وفيما يلي نقول عن القائلين بهذا القول مع مناقشتها ثم نتبع ذلك بأدلتهم ومناقشتها: أ- نقل الأبي عن القاضي عياض رحمه الله - في الكلام على قول جابر رضي الله عنه (فأمرنا إذا أحللنا) - أنه قال: في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل- من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو إحدى الروايات عندنا -أي: المالكية - والأخرى: أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعا. والقول الأول جار على تقديم الكفارة على الحنث، وعلى تقديم الزكاة على الحول. ¬

_ (¬1) [المغني] (5\ 359، 360) .

وقد يفرق بين هذه الأصول، والأول ظاهر الأحاديث؛ لقوله: (فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي) . وقد ناقش محمد بن أحمد بن يوسف الرهوني، ما نقله الأبي عن القاضي عياض، فقال: وأما ما نقله، ويعني: أبا عبد الله الأبي عن عياض فليس فيه أن الرواية بالجواز هي المشهورة أو الراجحة أو مساوية للأخرى على أن قوله: وفي الحديث حجة لمن نحر هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وإن كان في الأبي كذلك (نحر بالنون والحاء والراء) مخالفا لما وجدته لعياض في [الإكمال] فإن الذي وجدته فيه تقليد هدي التمتع (بالتاء والقاف واللام والياء والدال) كذا وجدته في نسخة عتيقة مظنون بها الصحة لم أجد في الوقت غيرها، ويؤيد ما وجدته في أنه ذكر المسألة في موضوع آخر فلم يذكر فيها جواز ذلك (أي: النحر بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج) عند أحد لا من أهل المذهب ولا من غيره، ونصه: وقوله للمتمتعين: فمن لم يجد هديا فليصم {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1) نص في كتاب الله تعالى مما يلزم المتمتع. وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة: فقال جماعة من السلف: ما استيسر من الهدي شاة، وهو قول مالك، وقال جماعة أخرى منهم: بقرة دون بقرة، وبدنة دون بدنة، وقيل: المراد: بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم، وهذا عند مالك للحر والعبد، إذ لا يهدي إلا أن يأذن له سيده، وله الصوم وإن كان واجدا الهدي، ولا يجوز عند مالك وأبي حنيفة نحره قبل يوم النحر، وأجاز ذلك الشافعي بعد إحرامه بالحج. اهـ منه بلفظه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196

ونقله الأبي نفسه مختصرا (عن القاضي عياض) وسلم ذكره قبل كلامه الذي نقله محمد البناني بنحو كراسين في كلامه (أي: القاضي عياض) يفيد اتفاق الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم على أنه لا يجوز نحره قبل الإحرام بالحج، وكذا بعده مالك وأبو حنيفة، خلافا للشافعي، فكيف يذكر بعد ذلك الروايتين عند مالك في جواز نحره قبل الإحرام بالحج؟! ويؤيد ذلك أيضا: أن اللخمي إنما ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر، ونصه: (ولا يقلد هدي المتعة إلا بعد الإحرام بالحج وكذلك القارن، واختلف: إذا قلد وأشعر قبل إحرام بالحج فقال أشهب وعبد الملك في كتاب ابن حبيب: لا يجزئه، وقال ابن القاسم: يجزئه، فلم يجزئ في القول الأول، لأن المتعة إنما تجب إذا أحرم بالحج وإذا قلد وأشعره قبل ذلك كان تطوعا، والتطوع لا يجزئ عن الواجب، وأجزأ في القول الأخير قياسا على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة إذا قرب الحول، والذي تقتضيه السنة التوسعة في جميع ذلك) اهـ منه بلفظه. ولا يخفى على منصف وقف على كلام اللخمي هذا، وعلى كلام عياض: أن الصواب هو ما وجدته في [الإكمال] لا ما نقله عنه الأبي، ونص [الإكمال] قوله: (فأمرنا حين أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدي، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم لوجوب الهدي على المتمتع، كما قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) ؛ لأن هؤلاء صاروا بإحلالهم في أشهر الحج وانتظارهم الحج متمتعين. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196

وقد تقدم الكلام عليها في أول الكتاب، ويحتج به من يجيز الاشتراك في الهدي الواجب ومن يجيز تقليد هدي التمتع عند التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهي إحدى الروايتين عندنا، والأخرى لا يجوز إلا بعد الإحرام؛ لأنه حينئذ صار متمتعا ووجب عليه الدم، والقول الأول على أصل تقديم الكفارة قبل الحنث وتقديم الزكاة قبل الحول على من يقول بها، وقد يفرق بين هذه الأصول إذ ظاهر الحديث يدل على ما قلناه. اهـ محل الحاجة منه بلفظه. ب- قال خليل: (ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله) : لقد ناقش الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله هذه الجملة عن خليل فقال: واعلم أن قول من قال من المالكية: إنه يجب بإحرام الحج، وأنه يجزئ قبله، كما هو ظاهر قول خليل في [مختصره] الذي قال في [ترجمته] مبينا لما به الفتوى (ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله) فقد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي. والتحقيق: أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة، وبه جزم ابن رشد وابن العربي وصاحب [الطراز] وابن عرفة، قال ابن عرفة: سمع ابن القاسم إن مات- يعني: المتمتع- قبل رمي جمرة العقبة فلا دم عليه) ابن رشد، لأنه إنما يجب في الوقت الذي يتعين فيه نحره وهو بعد رمي جمرة العقبة فإن مات قبله لم يجب عليه، ابن عرفة، قلت: ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه لم يجب، وهو خلاف نقل النوادر عن كتاب محمد بن القاسم وعن سماع عيسى: من مات يوم النحر ولم يرم فقد لزمه دم، ثم قال ابن عرفة: فقول ابن الحاجب: يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من

مات قبل وقوفه، ولا أعلم في سقوطه خلافا، ولعبد الحق عن ابن الكاتب عن بعض أصحابنا: من مات بعد وقوفه فعليه الدم. انتهى من الخطاب. فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور: أنه لا يجب على من مات إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة، وفيه قول بلزومه إن مات يوم النحر قبل الرمي، وأضعفها أنه يلزمه إن مات بعد الوقوف بعرفة. أما لو مات قبل الوقوف بعرفة فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية، وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء إلا جواز إشعاره وتقليده، وعليه فلو أشعره أو قلده قبل إحرام الحج كان هدي تطوع فلا يجزئ عن هدي التمتع، فلو قلده وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه؛ لأنه قلده بعد وجوبه، أي: بعد انعقاد الوجوب في الجملة. اهـ، وعن ابن القاسم أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ثم أخر ذبحه إلى وقته أنه يجزئه عن هدي التمتع وعليه فالمراد بقول خليل: وأجزأ قبله، أي: أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده وإشعاره على إحرام الحج، هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية. فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج أو بعده قبل وقت النحر فقد غلط غلطا فاحشا. قال الشيخ المواق في [شرحه] : قول خليل: وأجزأ قبله. ما نصه: ابن عرفة يجزئ تقليده وإشعاره بعد إحرام حجه، ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم. انتهى. وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في [مختصره] ، ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه: فإن قلت: إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف بعرفة أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة

الوجوب هنا. قلت: يظهر في جواز تقليده وإشعاره بعد الإحرام للحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه فلا يجزئ إلا إذا قلد بعد كمال الأركان. وقال الشيخ الحطاب أيضا: والحاصل: أن دم التمتع والقران يجوز تقليدها قبل وجوبها على قول ابن القاسم، ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف، فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة، لا سيما على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج، تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ويكون المعنى: أنه يجب بإحرام الحج وجوبا غير متحتم؛ لأنه معرض للسقوط بالموت والفوات فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب فلا يسقط بالموت، كما نقول في كفارة الظهار: أنها تجب بالعود وجوبا غير متحتم، بمعنى: أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها، فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ولو ماتت الزوجة وطلقها. إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك، والله أعلم، ونصوص المذهب شاهدة لذلك. قال القاضي عبد الوهاب في [المعونة] : ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران قبل يوم النحر، خلافا للشافعي، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) . وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لم يبلغ ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196

محله إلا يوم النحر، وله نحو ذلك في شرح الرسالة. وقال في [التلقين] : الواجب بكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر وله مثله في [مختصر عيون المجالس] ، ثم قال الحطاب رحمه الله: فلا يجوز الهدي عند مالك حتى يحل، وهو قول أبي حنيفة، وجوزه الشافعي من حيث يحرم بالحج، واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج. ودليلنا: أن الهدي متعلق بالتحلل وهو المفهوم من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) اهـ. منه، وكلام العلماء المالكية بنحو هذا كثير معروف. والحاصل: أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك وعامة أصحابه قبل يوم النحر، وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة، وهو لا يعول عليه، وإن قولهم: إنه يجب بإحرام الحج لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج لا شيء آخر فيما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر، كله غلط، إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي، فاعرف هذا التحقيق ولا تغتر بغيره. قال الشافعي: وإذا ساق المتمتع الهدي أو القارن لمتعته أو قرانه فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأه من قبل أن على الناس فرضين: فرضا في الأبدان فلا يكون إلا بعد الوقت، وفرضا في الأموال فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض، وهكذا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196

إن ساقه مفردا متطوعا به، والاختيار إذا ساقه معتمرا أن ينحره بعدما يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة قبل أن يحلق عند المروة، وحيث نحره من فجاج مكة أجزأه، والاختيار في الحج أن ينحره بعد أن يرمي جمرة العقبة وقبل أن يحلق. وقال الشيرازي: ويجب دم التمتع بالإحرام بالحج، وفي وقت جوازه قولان: أحدهما: لا يجوز قبل أن يحرم بالحج، والثاني: يجوز بعد فسخ الإحرام من العمرة، وقال النووي: ووقت وجوبه عندنا الإحرام بالحج بلا خلاف، وأما وقت جوازه فقال أصحابنا: لا يجوز قبل الشروع بالعمرة بلا خلاف، ويجوز بعد الإحرام بالحج بلا خلاف، ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران، لكن الأفضل ذبحه يوم النحر. وهل تجوز إراقته بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مشهوران، وحكاهما جماعة وجهين والمشهور قولان وذكرهما المصنف- يريد: الشيرازي في كتابه [المهذب]- بدليليهما أصحهما الجواز. فعلى هذا هل يجوز قبل التحلل من العمرة؟ فيه طريقان: أحدهما: لا يجوز قطعا، وهو مقتضى كلام المصنف وكثيرين، ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين، ونقل الماوردي اتفاق الأصحاب عليه. والثاني: فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز، والثاني: يجوز بوجود بعض السبب حكاه أصحابنا الخراسانيون وصاحب البيان. فالحاصل في وقت جوازه ثلاثة أوجه: أحدها: بعد الإحرام بالعمرة، وأصحها: بعد فراغها، والثالث: بعد الإحرام بالحج. قال ابن قدامة: أما وقت وجوبه: فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج،

وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة وهو قول مالك واختيار القاضي وقال أبو طالب: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي- قال: ينحره بمكة، وإن قدم قبل العشر نحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق وكذلك قال عطاء: وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على إحرامه وكان قارنا ... انتهى، وقال أيضا: وقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على إحرام الحج. انتهى. وذكر صاحب [الفروع] رواية عن الإمام أحمد أنه يجب بإحرام العمرة. وقال صاحب [الفروع] أيضا: أما وقت ذبحه فجزم جماعة منهم [المستوعب] و [الرعاية] : أنه لا يجوز نحره قبل وقت وجوبه، وقاله القاضي وأصحابه: لا يجوز قبل فجر يوم النحو (و، هـ، م) فظاهره يجوز إذا وجب. أدلة هذا القول: نظرا إلى اختلاف القائلين بهذا القول في تحديد بدء وقت جواز ذبحه فإننا نذكر أدلة كل قول على حدة مع المناقشة: أ- أما رواية أبي طالب عن الإمام أحمد: أنه إن قدم به قبل عشر ذي الحجة جاز ذبحه، وإن قدم به بعد دخول العشر فإنه لا يذبحه إلا يوم النحر، فهذه الرواية مبنية على مصلحة مرسلة، وذلك أنه جاء في رواية أبي

طالب كما في [المغني] ، أنه قال: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي، قال: ينحره بمكة، وإن قدم قبل العشر ينحره حتى لا يضيع أو يموت أو يسرق. انتهى المقصود. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور ثلاثة: أحدها: أن العمل بالمصلحة المرسلة مشروط بعدم مخالفتها نصا، وقد خالفت النص هنا، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ذبح الهدي إلى يوم النحر قصدا، وقال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (¬1) » . الثاني: أنها منتقضة، فإن التعليل بخوف الموت والضياع والسرقة وارد أيضا على الهدي إذا قدم به بعد دخول العشر؛ لأن العشر يحتمل أن يموت فيها الهدي أو يضيع أو يسرق. الثالث: أن التحديد بالعشر لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع. ب- وأما من قال بجواز ذبحه بعد الإحرام بالعمرة، وهو قول عند الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وقول أبي الخطاب من الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم، فاستدل له بالكتاب، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي وغيره: أن هدي التمتع والقران له سببان: هما العمرة والحج في تلك السنة، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة، فجاز الإتيان بالمسبب كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان؛ لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان ¬

_ (¬1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬2) سورة البقرة الآية 196

كفى في وجوب الصوم وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى ولم تنتف الموانع؛ لأن قضاء الصوم فرع من وجوب سابقه في الجملة. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص، ومن القواعد المقررة في باب الاجتهاد: أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص، والنص هو قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬1) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2) وقد سبق الاستدلال بهذه الآية مع مناقشتها في القول الأول فلا نطيل الكلام بالإعادة. ج- وأما من قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، وهو قول للشافعية ومن وافقهم من أهل العلم، فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬3) ووجه الاستدلال بها مع المناقشة يقال فيه ما قيل عند الاستدلال بها للقول قبل هذا. وأما السنة: فما رواه مسلم في [صحيحه] قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأمرنا إذا أحللنا أن ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28 (¬2) سورة الحج الآية 29 (¬3) سورة البقرة الآية 196

نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية (¬1) » وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث. وجه الدلالة: قال النووي: فيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج. ويمكن أن يجاب عن ذلك بثلاثة أمور: أحدها: أن يقال: لا منافاة بين هذا الحديث وبين ما سبق من أدلة السنة للقول الأول وما جاء في معناها؟ فإن جميعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المفرد والقارن اللذين لم يسوقا الهدي بالتحلل، وأمر بالهدي وأمر باشتراك السبعة في البدنة، إلا أنه في هذا الحديث نسق أمرهم بالهدي، وأمرهم بأن يشترك السبعة في البدنة على أمره إياهم بالفسخ بدون فاصل؛ متبعا ذلك قوله: (وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) وليس في تلك الأحاديث هذه اللفظة ولا ذلك التنسيق؛ فمن هنا نشأ الخطأ في استدلال من استدل بهذا الحديث حيث لم يفرق بين زمن الأمر بالشيء وبين زمن فعل المأمور به فظن أن الإشارة في قوله: (وذلك) إلى زمن الذبح وإنما هي إشارة إلى زمن الأمر، والمراد: أن زمن الأمر بالفسخ وزمن الأمر بالهدي والاشتراك فيها زمن واحد، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم، وذلك إنما وقع يوم النحر؛ لأنه لا إحلال من حج ألبتة قبل يوم النحر، فيكون الحديث حجة عليهم لا لهم وهذا يسمى عند الأصوليين بالقلب. الثاني: أنه على تقدير أن قوله: (وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) هذا الحديث مخالف لما سبق، فيقال فيه: إن هذه الزيادة شاذة، ووجه شذوذها مخالفتها لما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1318) .

الزيادة، ومدارها على محمد بن بكر البرساني، وقد رواه عن جابر عدول عن طريق أبي الزبير المكي أئمة: مالك بن أنس والليث بن سعد وأبو خيثمة ومطر الوراق وسفيان بن عيينة، وجميع رواياتهم خالية من هذه الزيادة. الثالث: أن هذا من الأمور التي تتوافر الهمم والداوعي على نقلها، فلو وقع أمره صلى الله عليه وسلم للصحابة بأن يذبحوا الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج- لسارعوا إلى الامتثال، كما سارعوا إلى امتثال أوامره من لبس الثياب والتطيب ومجامعة النساء وغير ذلك، ولو وقع ذلك لنقل، فلما لم ينقل دل على عدم وقوعه ولم يأمرهم بالتحلل من العمرة إلا أنهم ليس معهم هدي. وأما المعنى: فقال الشيرازي: إنه حق مالي يجب بشيئين، فجاز تقديمه على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب. ويمكن أن يناقش ذلك: بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص ولا اجتهاد مع النص، وقد مضى ذلك. د- وأما من قال من الشافعية ومن وافقهم بأنه يجوز بعد الإحرام بالحج فقد استدلوا بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي وغيره من أن الله أوجب الهدي على المتمتع، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا، فوجب حينئذ؛ لأنه يطلق على المتمتع وقد وجد، ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬2) فالصيام ينتهي بأول جزء من ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) سورة البقرة الآية 187

الليل، فكذلك التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام. ويجاب عن الاستدلال بهذه الآية: بما أجيب به عن الاستدلال بها لمن قال بجواز ذبحه إذا أحرم بالعمرة أو بعد تحلله منها وقد سبق. ويجاب أيضا: بأن المتمتع لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال أن الحج قد يفوته بسبب عائق عن الوقوف بعرفة؛ لأنه لو فاته لا يسمى متمتعا. أما السنة فقد استدلوا بأدلة: الأول: ما رواه مسلم في [صحيحه] قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية (¬1) » وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث. وجه الدلالة: قد يقال: إن هذا الحديث يدل على جواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، فيدل بطريق الأولى على جوازه بعد الإحرام بالحج. وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به لمن قال بجواز ذبحه بعد التحلل من العمرة، وبهذا يتبين أنه لا دلالة فيه، ويجاب ثانيا بما أجيب به من الوجه الثاني عن الاستدلال بالآية. الدليل الثاني: ما أخرجه الحاكم في [المستدرك] قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء، عن جابر بن عبد الله قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1318) .

أمرنا بالإحلال ... الحديث إلى أن قال: قال عطاء: قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف، فقام تحت يدي ناقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اصرخ، أيها الناس، هل تدرون أي شهر هذا؟» الحديث ثم قال الحاكم بعد إخراجه هذا الحديث: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي على تصحيحه. ومحل الشاهد من هذا الحديث: قوله: (فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ... ) إلخ. وجه الدلالة قد يقال: إن عطف الوقوف بالفاء على ذبح سعد تيسه عن نفسه يدل على جواز ذبح الهدي بعد الإحرام بالحج. والجواب: أن ذبح سعد للتيس كان يوم النحر، بدليل ما رواه الإمام أحمد في [مسنده] قال: (حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة مولى ابن عباس، زعم أن ابن عباس أخبره: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنما يوم النحر في أصحابه، وقال: اذبحوها لعمرتكم، فإنها تجزئ فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس (¬1) » وقد ذكره الهيثمي في [مجمع الزوائد] وقال: أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح، فرواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم، حينئذ لا دلالة في الحديث. وأما المعنى فمن وجوه: أحدها: ما ذكره الشيرازي بقوله: إن شرائط الدم إنما توجد بوجود الإحرام فوجب أن يتعلق الوجوب به، انتهى. ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .

ويمكن أن يناقش ذلك: بأنه دليل اجتهادي ولا اجتهاد مع النص، وقد سبق ما يدل على خلاف ذلك عند الكلام على أدلة المذهب الأول. الثاني: ويجاب أيضا: بما أجيب به من الوجه الثاني عن الآية التي استدل بها أهل هذا القول. ما سبق من المناقشة لاستدلال أهل القول الأول بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) والمحل المقصود من المناقشة جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر قياسا على جواز الصيام؛ لأنه بدله، والبدل له حكم المبدل منه. الثالث: ويجاب عنه هنا بما أجيب به عنه هناك، تركنا إعادته هنا اختصارا. ما ذكره النووي بقوله: (ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران) . ويناقش ذلك: بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه [زاد المعاد] ، من أنه دم شكران لا دم جبران (¬2) ويمكن أن يناقش ثانيا: بأنه قياس مع النص، فقد وردت أدلة دالة على ذبحه يوم النحر وسبقت من أدلة القول الأول، فيكون هذا القياس فاسد الاعتبار. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) [زاد المعاد] (1\ 217) .

ثانيا نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة

ثانيا: نهاية وقت ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة: اختلف أهل العلم في تحديد نهاية أيام النحر: هل هي يوم العيد ويومان بعده، أو يوم العيد وثلاثة أيام بعده، أو يوم العيد فقط؟.. إلخ ما ستأتي الإشارة إليه من الأقوال التي لا تعتمد على دليل شرعي.

وفيما يلي ذكر المذاهب ومن قال بكل مذهب منها ومستنده مع المناقشة في حدود ما يسره الله: القول الأولى: ينتهي وقت النحر بغروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق، وممن قال بهذا القول: الحنفية وهو مذهب مالك وأحمد. قال الجصاص: ذهب أصحابنا والثوري إلى أنه يوم العيد ويومان بعده. وقال القرطبي: قال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده. وقال ابن قدامة: قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم. وقال ابن القيم: هذا مذهب أحمد. وقال في [الإنصاف] ،: هذا هو الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والأثر والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬1) وجه الدلالة: ما ذكره القرطبي بقوله: (وهذا جمع قلة لكن المتيقن منه الثلاثة وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به) . وأما السنة: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث. وجه الدلالة: ما ذكره الباجي بقوله: ومعلوم أنه أباح الأكل منها في أيام الذبح فلو كان اليوم الرابع منها لكان قد حرم على من ذبح في ذلك اليوم أن ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28

يأكل من أضحيته. انتهى كلام الباجي، وليس هناك فرق بين الأضحية والهدي بالنسبة لانتهاء وقت الذبح. وأما الإجماع: فقد قرره الجصاص بقوله- بعد ذكره هذا الرأي عن بعض الصحابة قال: قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة، واستفاض ذلك عنهم، وغير جائز لمن بعدهم خلافهم إذ لم يرد عن أحد من نظرائهم خلافه فثبتت حجته. وأيضا: فإن سبيل تقدير النحر التوقيف أو الاتفاق، إذ لا سبيل إليها من طريق القياس فلما قال: من ذكرنا قوله من الصحابة الثلاثة صار ذلك توقيفا كما قلنا في مقدار مدة الحيض، وتقدير المهر، ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق، وإذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته، وكان ذلك توقيفا. وأما الأثر: فقد نقله الجصاص وغيره عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب. وأما المعنى: فمن وجهين: أحدها: ما ذكره الجصاص بقوله: قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق؛ لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق، وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر يوم النحر، وقال قائلون: إلى آخر أيام التشريق، وقلنا نحن: يومان بعده وجب أن نوجد فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها. الثاني: ما ذكره الباجي بقوله: هو يوم مشروع النفر قبله فلم يكن من أيام

الذبح كالخامس. القول الثاني: أن وقت الذبح ينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق. وبهذا قال الشافعي: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم من أهل العلم، قال الشافعي: والأضحية جائزة يوم النحر وأيام منى كلها. وقال المرداوي في [الإنصاف] : قال في [الإيضاح] : آخره آخر يوم من أيام التشريق، واختاره ابن عبدوس في [تذكرته] بأن آخره آخر اليوم الثالث من أيام التشريق واختاره الشيخ تقي الدين قاله في [الاختيارات] وجزم به ابن رزين في [نهايته] . والظاهر أنه مراد صاحب [النهاية] فإن كلامه محتمل. وقال ابن القيم في [زاد المعاد] : وهو مذهب إمام أهل الهجرة الحسن وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح وإمام أهل الشام الأوزاعي وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله، واختاره ابن المنذر. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى. أما الكتاب: فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬1) الآية. وجه الدلالة: أن المراد بالمعلومات أيام النحر، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، واستدلوا لهذا التوجيه بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬2) الآية. ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28 (¬2) سورة البقرة الآية 203

قال ابن القيم رحمه الله: هذه الأيام الثلاثة تختص بأنها أيام منى وأيام الرمي وأيام التشريق، ويحرم صيامها فهي إخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع؟ ! وأما السنة: فقد استدلوا بأدلة: الأول: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه يوم النحر ضحى» . وجه الدلالة: ما ذكره الشافعي بقوله: فلما لم يحظر على الناس أن ينحروا بعد يوم النحر بيوم أو يومين لم نجد اليوم الثالث مفارقا لليومين قبله؛ لأنه ينسك فيه ويرمى كما ينسك ويرمى فيهما. الثاني: ما رواه سليمان بن أبي موسى، عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عرفات موقف، وارتفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف، وارتفعوا عن محسر، وكل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح (¬1) » . وهذا نص في الدلالة أن كل أيام النحر بأنها ثلاثة بعد العيد. وأجيب عن هذا الحديث: بما نقله الرازي عن الإمام أحمد: أنه قال جوابا لمن سأله عن هذا الحديث قال: لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم، وأكثر روايته عنه سهو. قال الرازي: وقد قيل: إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: سمعت عبد الله بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح، وعطاء يسمع قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر (¬2) » فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه: " وكل ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (4/82) . (¬2) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .

أيام التشريق ذبح "، ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه؛ لأنه لم يذكره. وأجاب ابن القيم عن ذلك بقوله: وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح (¬1) » ، وروي من حديث جبير بن مطعم، وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون. انتهى. وقد تكلم الزيلعي على هذا الحديث في [نصب الراية] فقال: رواه أحمد في [مسنده] وابن حبان في [صحيحه] في النوع الثالث والأربعين من القسم الثالث من حديث عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل أيام التشريق ذبح، وعرفة كلها موقف (¬2) » إلى آخره، وقد ذكرناه بتمامه في الحج، ورواه البزار في [مسنده] وقال: ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، ورواه البيهقي في [المعرفة] ، ولم يذكر فيه انقطاعا، وأخرجه الدارقطني في [سننه] عن أبي معيد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن دينار عن جبير بن مطعم مرفوعا، وأبو معيد بمثناة فيه لين، وأخرجه هو والبزار عن سويد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه مرفوعا، قال البزار: لا نعلم قال فيه عن نافع بن جبير عن أبيه إلا سويد بن عبد العزيز، وهو ليس بالحافظ، ولا يحتج به إذا انفرد، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب، مع أن ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم. انتهى. وأخرجه أحمد أيضا والبيهقي عن سليمان بن موسى عن جبير بن ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (4/82) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .

مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال البيهقي: وسليمان بن موسى لم يدرك جبير بن مطعم، وأخرج ابن عدي في [الكامل] عن معاوية بن يحيى الصدفي عن ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق كلها ذبح» انتهى. وضعف معاوية بن يحيى عن النسائي والسعدي وابن معين وعلي بن المديني ووافقهم، وقال ابن أبي حاتم في [كتاب العلل] قال أبي: هذا حديث موضوع بهذا الإسناد. انتهى. وقيل: معاوية محمد بن شعيب. وأما الأثر: فقد أخرج البيهقي عدة آثار في ذلك عن ابن عباس والحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى، وذكر ابن قدامة أنه مروي عن علي. وأما المعنى: فإنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلا للنحر كالأولين، ذكر ذلك ابن قدامة. وأما ما عدا هذين القولين من الأقوال فقد تركنا ذكرها؛ لعدم جدوى البحث فيها، فإنها أقوال مبنية على مدارك اجتهادية ولا محل للاجتهاد مع الأدلة، قال ابن عبد البر: ولا يصح عندي في هذا إلا قولان. أحدهما: قول مالك والكوفيين، والثاني: قول الشافعي والشاميين، وهذان القولان مرويان عن الصحابة، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة وما خرج عن هذين فمتروك. انتهى المقصود. بواسطة نقل القرطبي عنه في [جامعه] .

ثالثا ذبح الهدي ليلا مع الأدلة والمناقشة

ثالثا: ذبح الهدي ليلا مع الأدلة والمناقشة: اختلف أهل العلم في جواز الذبح ليلا: فمنهم من يرى أنه لا يجوز،

ومنهم من قال بجوازه. وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة: القول الأول: لا يجوز الذبح ليلا. وممن قال به مالك وأصحابه إلا أشهب، وهو رواية عن أحمد وهي ظاهر كلام الخرقي، قال الباجي: ولا يجوز نحر الهدي ليلا، وعلى هذا قول مالك وأصحابه، إلا أشهب فقد روى عنه ابن الحارث أنه يجوز نحر الهدي أو ذبحه ليلا، وقال ابن قدامة: ولا يجزئ- أي: الذبح- في ليلتهما في قول الخرقي، قال: واختلفت الرواية عن أحمد في الذبح في ليلتي يومي التشريق ففيه لا يجزئ نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية الأثرم. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬1) وجه الدلالة: قد يقال: إن الله ذكره بلفظ الأيام وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك. ومن وجه آخر قال الباجي: إن الشرع ورد بالذبح في زمن مخصوص وطريق تعلق النحر والذبح بالأوقات الشرعية لا طريق له غير ذلك، فإذا ورد الشرع بتعلقه بوقت مخصوص؛ كقوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (¬2) وبنحر النبي صلى الله عليه وسلم وذبحه أضحيته نهارا علمنا جواز ذلك نهارا، ولم يجز أن نعديه إلى الليل إلا بدليل. وقد طلبنا في الشرع فلم نجد دليلا، ولو كان لوجدناه مع البحث ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28 (¬2) سورة الحج الآية 28

والطلب، فهذا من باب الاستدلال بعدم الدليل فيما تتوقف شرعيته على وجود الدليل. وأجاب ابن حزم عن هذا الاستدلال بقوله: هذا إيهام منهم يمقت الله عليه؛ لأن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية ذبحا ولا تضحية ولا نحرا، لا في نهار ولا في ليل، إنما أمر الله تعالى بذكره في تلك الأيام المعلومات، أفترى يحرم ذكره في لياليه إن هذا لعجب! ومعاذ الله من هذا، وليس هذا النص بمانع من ذكره تعالى وحمده على ما رزقنا من بهيمة الأنعام في ليل ونهار في العام كله، ولا يختلفون فيمن حلف ألا يكلم زيدا ثلاثة أيام أن الليل يدخل في ذلك مع النهار. وأما السنة: فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الذبح ليلا. وهذا نص في الدلالة على عدم جواز الذبح ليلا. وقد أجاب عنه ابن حزم بقوله: وذكروا حديثا لا يصح رويناه من طريق بقية بن الوليد عن مبشر بن عبيد الحلبي، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالليل» وبقية ليس بالقوي، ومبشر بن عبيد مذكور بوضع الحديث عمدا ثم هو مرسل. انتهى كلام ابن حزم. وقال ابن حجر في مبشر بن عبيد: هو متروك. ويجاب عن ذلك: بأن البيهقي أخرج في [سننه] حديثا فيه النهي عن الذبح ليلا قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن علي بن عفار، ثنا يحيى بن آدم، ثنا حفص بن عياش عن شيث بن عبد الملك عن الحسن قال: «نهى عن جذاذ الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل» .

وأجاب عنه البيهقي بقوله: إنما كان ذلك من شدة حال الناس كان الرجل يفعله ليلا فنهى عنه ثم رخص في ذلك. وأما المعنى: فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة: أحدهما: أنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر. الثاني: أن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب ولا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود. وأجاب ابن حزم عن الدليل الأول فقال: هذا قياس، والقياس كله باطل، ثم لو كان حقا لكان هذا من عين الباطل؛ لأن يوم النحر هو مبدأ دخول وقت التضحية وما قبله ليس وقتا للتضحية ولا يختلفون معنا في أن من طلوع الشمس إلى أن يمضي بعد ابيضاضها وارتفاعها وقت واسع من يوم النحر لا يجوز فيه التضحية، فيلزمهم أن يقيسوا على ذلك اليوم ما بعده من أيام التضحية فلا يجيزون التضحية فيها إلا بعد مضي مثل ذلك الوقت وإلا فقد تناقضوا وظهر فساد قولهم، وما نعلم أحدا من السلف قبل مالك منع من التضحية ليلا. القول الثاني: أنه يجوز الذبح ليلا بمنى: قال ذلك أبو حنيفة، وروي عن مالك: إن فعل ذلك أجزأه، وقال به أشهب من المالكية، والشافعي، وهو رواية عن أحمد، وقول أكثر الصحابة، وبه قال ابن حزم، قال الباجي نقلا عن القاضي أبي الحسن: وقد روي عن مالك فيمن فعل ذلك أجزأه، ونقل الباجي القول عن أشهب فيه: أنه يجوز الذبح ليلا، وقال الشافعي رحمه الله: ويذبح في الليل والنهار، وإنما أكره ذبح الليل لئلا يخطئ رجل في الذبح، أو لا يوجد مساكين حاضرون، فأما إذا أصاب الذبح ووجد مساكين فسواء.

وقال النووي مذهبنا جواز الذبح ليلا ونهارا في هذه الأيام، لكن يكره ليلا، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور والجمهور، وهو الأصح عن أحمد. وقال ابن قدامة بعد ذكره لرأى الخرقي: وقال غيره من أصحابنا: يجوز ليلتي يومي التشريق الأوليين، وهو أكثر الفقهاء، وقال في الشرح، وروي عن أحمد: أن الذبح يجوز ليلا اختاره أصحابنا المتأخرون، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه، انتهى كلامه. واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (¬1) وجه الدلالة: يمكن أن يقال: إن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن حمل الآية على ظاهرها، وهو أنها تتناول الأيام دون الليالي أحوط من حملها على تناول الليل والنهار. وأما المعنى: فمن وجهين ذكرهما عبد الرحمن بن قدامة: أحدهما: أن هاتين الليلتين داخلتان في مدة الذبح، فجاز الذبح فيهما كالأيام. الثاني: أن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار. ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28

رابعا مكان ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة

رابعا: مكان ذبح الهدي مع الأدلة والمناقشة: لم نطلع على كلام أحد من أهل العلم، أن هدي التمتع والقران يجوز ذبحه خارج الحرم، ولم يرد في القرآن، ولم نطلع على شيء من السنة يدل

على جواز ذبحه خارج الحرم، وقد جاءت أدلة من القرآن، خاصة في غير هدي التمتع والقران وجاءت آية دالة بعمومها على محل هدي التمتع والقران، وجاءت أدلة من السنة تدل على ذبحه في أي موضع من الحرم. وفيما يلي بيان هذه الأدلة: قال تعالى في المحصر: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1) وفسر محله بأنه الحرم عند القدرة على إيصاله، وقوله تعالى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬2) ومعلوم أنه لم يرد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم، وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬3) وهذا عام في الهدايا، ومنها هدي التمتع والقران. وأما الأحاديث فقد روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر (¬4) » . ولتمام الفائدة نورد ما ذكره الزيلعي على هذا الحديث قال: روي من حديث جابر ومن حديث أبي هريرة، فحديث جابر أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر (¬5) » انتهى بلفظ أبي داود، ومثله لفظ ابن ماجه. إلا أن فيه تقديما وتأخيرا، ولاختلاف لفظهما فرقهما ابن عساكر في موضعين من ترجمة عطاء عن جابر في أطرافه فجعلها حديثين وليس ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) سورة المائدة الآية 95 (¬3) سورة الحج الآية 33 (¬4) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) . (¬5) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .

بجيد، والصواب: ما فعله شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه، فإنه ذكره في ترجمة واحدة، والشيخ زكي الدين المنذري قلد ابن عساكر فلم يعزه في [مختصر السنن] لابن ماجه، والله أعلم. وأسامة بن زيد الليثي قال في [التنقيح] : روى له مسلم متابعة فيما أرى، ووثقه ابن معين في روايته، انتهى. فالحديث حسن. واعلم أن بعض الحديث في مسلم أخرجه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم (¬1) » . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود في الصوم، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف (¬2) » انتهى. قال المنذري في [مختصره] : قال ابن معين: محمد بن المنكدر لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: أبو زرعة لم يلق أبا هريرة، انتهى. ورواه البزار في [مسنده] وقال: محمد بن المنكدر لا نعلمه سمع من أبي هريرة. انتهى. وروى الواقدي في كتاب [المغازي] : حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عمرة القضية- وهديه عند المروة -: «هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر (¬3) » فنحر عند المروة، انتهى كلام الزيلعي. وقال ابن حجر في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي مولاهم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1218) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) . (¬2) سنن الترمذي الصوم (697) ، سنن أبو داود الصوم (2324) ، سنن ابن ماجه الصيام (1660) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (1/98) .

أبو إسماعيل المدني: ضعيف من السابعة، روى له أبو داود والترمذي والنسائي.

خامسا حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة والمناقشة

خامسا: حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته مع الأدلة والمناقشة: دل الكتاب والسنة والإجماع وسد الذرائع على أنه لا يجوز أن يستعاض عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1) وجه الدلالة: أن الله جل وعلا أوجب على المتمتع الهدي في حال القدرة عليه، فإذا لم يجد هديا أو ثمنه فإنه ينتقل إلى الصيام، ولم يجعل الله واسطة بين الهدي والصيام، ولا بدلا عن الصيام عند العجز عنه وما كان ربك نسيا، وقد بين الله ما يجب على المريض إذا عجز مطلقا عن الصيام من الإطعام- بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬2) وإذا كان قادرا على القضاء فقد بين حكمه بقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) وبين في كفارة اليمين: أنه يجب العتق أو الإطعام أو الكسوة، وعند العجز يصوم ثلاثة أيام متتاليات، وبين في كفارة من أصيب بمرض أو أذى في رأسه واحتاج إلى ارتكاب محظور؛ ليتخلص مما أصيب به- بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) سورة البقرة الآية 184 (¬3) سورة البقرة الآية 185 (¬4) سورة البقرة الآية 196

وقال في كفارة القتل خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬1) إلى أن قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (¬2) وقال في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬3) {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (¬4) الآية. وأما السنة: فإن أدلتها في هذا الموضوع متفقة مع القرآن. وأما الإجماع: فإن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين أخذوا بما دل عليه القرآن ودلت عليه السنة من وجوب الهدي على المتمتع والقارن، فإذا لم يجد هديا أو لم يجد ثمنه فإنه يصوم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن قال بالتصدق فإنه يطالب بدليل يخالف ذلك. وأما سد الذرائع: فإنه لو أجيز القول بالاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته- لأدى ذلك إلى التوسع في أبواب الشريعة، فمثلا يقال: تخرج نفقة الحج بدلا من الحج نظرا لصعوبته في هذا العصر. وهناك شبه قد يتعلق بها من تسول له نفسه القول بالجواز نذكرها فيما يلي، ثم نتبع كل شبهة بجوابها. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 92 (¬2) سورة النساء الآية 92 (¬3) سورة المجادلة الآية 3 (¬4) سورة المجادلة الآية 4

الشبهة الأولى: قد يقال بالجواز نظرا لصعوبة تنظيم الذبح في الوقت الحاضر مع بقاء المفسدة على حالها، بل وربما زادت مع تزايد عدد الحجاج. ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بأمور: أحدها: أن سوء تطبيق الناس لأمر كلفوا به لا يجوز نقلهم عنه إلى أمر لم يشرع لهم بدعوى أنه يسهل عليهم تطبيقه، بل يجب السعي في تسهيل الذبح عليهم وحسن تطبيقه. الثاني: أن هذا حكم مبني على مصلحة ملغاة، وقد قرر العلماء على أن المصالح ثلاثة أقسام: مصلحة معتبرة فيعمل بها بالإجماع، ومصلحة ملغاة فلا يعمل بها بالإجماع، ومصلحة مرسلة، وفي العمل بها خلاف، والمصلحة المذكورة هنا مصلحة ملغاة، فإن الشرع لم يعتبرها بعد ذكره للهدي، وفي حالة عدم القدرة عليه أو على ثمنه ينتقل إلى الصيام. الثالث: أن المقصود من هذه العبادة إراقة الدم، وأما اللحوم فهي مقصودة بالقصد الثاني، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬1) وفي الاكتفاء بالتصدق بالثمن دون إراقة الدم إضاعة للقصد الأول. الشبهة الثانية: ما يجري عليه بعض الحجاج من تسليم ثمن الهدي الواجب عليهم للمطوفين وعمالهم بأنفسهم بصفة التوكيل حيث لا يباشرون بأنفسهم عمليات الشراء والذبح والتصدق باللحوم؛ لتعذر ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 37

ذلك عليهم، وخوف الهلاك من ممدة الازدحام أو المشقة والحرج. ويمكن أن يجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الأولى، ويضاف إلى ذلك أن الحاج إذا وكل شخصا يشتري عنه هديا ويذبحه ويوزعه على المستحقين على الصفة الشرعية- فقد خرج بذلك عن عهدة الهدي، وصارت العهدة على من صار وكيلا للقيام بالشراء والذبح والتصدق، فإن هذا مما يجوز التوكيل فيه شرعا. الشبهة الثالثة: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وبالتالي فإن هذا درء للمفاسد عن الأمة وجلب لمصالحها. ويجاب عن هذه الشبهة بما أجيب به عن الشبهة الأولى، ويضاف إلى ذلك: أولا: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، لكن لا يصح أن يقال: أن ذبح الهدايا مفسدة، وأن درءها بما ذكروه من إلغاء هذه الشعيرة والتصدق بثمنها؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة: أن المفاسد درجات، وأن المصالح درجات، وأنه يجوز تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكاب أخف المفسدتين لاجتناب كبراهما، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فيما ليس فيه دليل شرعي، وفيما إذا كانت المفسدة أرجح من المصلحة وما نحن فيه ليس كذلك، بل قام الدليل على خلافه، والمصلحة أرجح مما ظن مفسدة بتحريف النصوص عن مواضعها ومقاصدها. ثانيا: أن هذا يفتح باب تلاعب في الشريعة، فلا يكون للنصوص قيمة، وإنما القيمة لما يصدر من سفهاء العقول من تصورات يزعمون أنها مصالح

تستحق أن تقدم على الأدلة. ثالثا: أن النسك عبادة، والعبادات مبنية على التوقيف، فلا يجوز العدول عن المشروع إلا بدليل شرعي موجب للعدول عنه، وكل تشريع مبني على التوقيف فإنه لا يدخله الاجتهاد ومنه القول بالمصلحة المدعاة هنا. رابعا: أن من وجب عليه الهدي يجب عليه إيصاله إلى مستحقه، كما في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ} (¬1) وكذلك سائر ما يجب عليه من الحقوق؛ كالزكاة والنذر والكفارات وغيرها. خامسا: أن الشارع لم يمنع الذبح في أي محل من الحرم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، وفجاج مكة طريق ومنحر (¬2) » فالحاج ينحره في أي موضع من فجاج مكة ويوزعه على الفقراء. ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28 (¬2) صحيح مسلم الحج (1218) .

سادسا علاج مشكلة اللحوم في منى

سادسا: علاج مشكلة اللحوم في منى: مشكلة اللحوم يمكن أن تعالج بالأمور الآتية: الأول: الكشف على ما يباع للتأكد من صلاحيته هديا من حيث السن والسمن والسلامة من الأمراض وموانع الإجزاء، وتوضع علامة يعرف بها أن هذه الذبيحة تجزئ وما عدا ذلك يمنع. الثاني: التوسع في توعية الحجاج ببيان المجزئ وما لا يجزئ حتى لا يقدموا إلا على بصيرة. الثالث: الإكثار من عدد المجازر في أماكن مختلفة من منى، وفجاج مكة، وإرشاد الناس إليها.

رابعا: تسهيل طريق الحصول على هذه اللحوم للفقراء، وذلك بما يأتي: أ- إيصاله إليهم إن أمكن. 2 - معاونتهم على إيصاله إلى منازلهم. 3 - التوسع في توزيع ما زاد على فقراء الحرم خارج الحرم، ويكون إعطاء الفقراء الذين هم خارج الحرم بمنزلة دفع الزكاة لفقراء بلد المال إذا أعطى فقراء بلد المال حاجتهم ولم يوجد أحد يستحق، فكذلك الهدي ينقل إلى فقراء البلدان المجاورة لمكة. التوسع في التوكيل على ذبح الهدي بطرق منظمة تضمن مصلحة صاحب الهدي ومصلحة الفقير والمصلحة العامة، ويكون فيه أناس يشرفون من قبل الدولة على تطبيق ذلك. هذا ما تيسر ذكره. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن هدي التمتع والقران

قرار هيئة كبار العلماء رقم (43) وتاريخ 13 \ 4 \ 1396 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: بناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في النصف الأول من شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع (هدي التمتع والقران) في جدول أعمال الدورة الثامنة، وإعداد بحث في ذلك، فقد اطلعت الهيئة في الدورة الثامنة المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الثاني عام 1396 هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في وقت الذبح ومكانه، وحكم الاستعاضة عن الهدي بالتصدق بقيمته وعلاج مشكلة اللحوم. وبعد تداول الرأي تقرر بالإجماع ما يلي: 1 - لا يجوز أن يستعاض عن ذبح هدي التمتع والقران بالتصدق بقيمته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على منع ذلك مع أن المقصود الأول من ذبح الهدي هو التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء، كما قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬1) ؛ ولأن من القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع، والقول بإخراج القيمة يفضي إلى التلاعب بالشريعة فيقال- مثلا-: تخرج نفقة الحج بدلا من الحج لصعوبته في هذا العصر، ولأن المصالح ثلاثة أقسام: مصلحة معتبرة بالإجماع، ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 37

ومصلحة ملغاة بالإجماع، ومصلحة مرسلة، والقول بإخراج القيمة مصلحة ملغاة؛ لمعارضتها للأدلة، فلا يجوز اعتبارها. 2 - قرر المجلس بالأكثرية أن أيام الذبح أربعة: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، ويجوز الذبح في ليالي أيام التشريق؛ لقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬1) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2) فإن قضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر، ولما رتب هذه الأفعال على ذبح الهدي دل على أنه هدي القران والتمتع؛ لأن جميع الهدايا لا يترتب عليها هذه الأفعال، ولأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذبح هديه يوم العيد، وكذلك ذبح هدي التمتع والقران عن نسائه يوم العيد، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه ذبح قبل يوم العيد ولا بعد أيام التشريق، ولما روى سليمان بن موسى، عن ابن أبي حسين، عن جبير بن مطعم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عرفات موقف (¬3) » الحديث. . . إلى أن قال: «وكل أيام التشريق ذبح (¬4) » . قال ابن القيم رحمه الله روي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر، انتهى المقصود. 3 - لا يخصص الذبح بمنى، بل يجوز الذبح في مكة، وفي أي موضع من الحرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر (¬5) » . ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28 (¬2) سورة الحج الآية 29 (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/82) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (4/82) . (¬5) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .

4 - ما ترك من اللحوم في المجازر فإن على الحكومة حفظه على وجه يحفظ نفعه حتى يوزع بين فقراء الحرم. 5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل: الجلد والعظام والصوف، ونحو ذلك بما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم مما يتركه أهله رغبة عنه. 6 - ينبغي للحكومة- وفقها الله- أن تعنى بتكثير المجازر في منى ومكة وبقية الحرم على وجه يمكن الحجاج من ذبح هداياهم بيسر وسهولة، وأن يستفيدوا من لحومها ما شاءوا. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الثامنة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر محمد الحركان ... عبد المجيد حسن لي وجهة نظر لابتداء وانتهاء وقت ذبح هدي التمتع والقران ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع لي وجهة نظر بالنسبة لوقت ذبح هدي التمتع والقران

وجهة نظر لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع

وجهة نظر لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع إن وجهة نظري تتلخص في الملاحظات الآتية: أولا: جاء في الصفحة الثالثة من البحث الاستدلال على تحديد وقت ذبح هدي التمتع والقران بالإطلاق في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) وبالتقييد في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬2) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬3) الآية، ولا شك أن بعض أهل العلم استدل بهذا، ولكن الأمانة العلمية تقتضي مناقشة هذا الاستدلال. إذ يمكن مناقشته بما يلي: إن كمال الآية المراد بها تقييد عموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬4) وقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬5) {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬6) الآية، وقد ذكر جمع كثير من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء: أن المراد بالأيام المعلومات عشر ذي الحجة، فقد ذكر الجصاص في كتابه [أحكام القرآن] أنه روى عن ابن عباس بإسناد صحيح: أن المعلومات: العشر، والمعدودات: أيام التشريق، وهو قول الجمهور من التابعين منهم: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) سورة الحج الآية 28 (¬3) سورة الحج الآية 29 (¬4) سورة البقرة الآية 196 (¬5) سورة الحج الآية 28 (¬6) سورة الحج الآية 29

الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم، وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: أن المعلومات: العشر، والمعدودات: أيام التشريق (¬1) وروى البيهقي بإسناده إلى الشافعي أنه قال: الأيام المعلومات: أيام العشر كلها، والمعدودات: أيام منى فقط. اهـ (¬2) وقال النووي في [المجموع] : وأما الأيام المعلومات فمذهبنا: أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر. . . إلى أن قال: وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في [تفسيره] : قال أكثر المفسرين: الأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة. اهـ (¬3) فعلى هذا لا حجة في الآية على قول بتحديد وقت الذبح بيوم النحر وأيام التشريق، بل قد يكون فيه دليل على القول بذبح هدي التمتع والقران في الأيام المعلومات التي هي العشر الأوائل من ذي الحجة؛ لأن المقصود بذكر الله على بهيمة الأنعام في هذه الآية التسمية عند ذبحها، وعلى القول الآخر لأهل العلم بأن المقصود بالمعلومات: يوم النحر وأيام التشريق فليس في الآية أمر صريح بتحديد وقت الذبح، وإذا كان الدليل يفهم من ترتيب قضاء التفث على ذكر الله على بهيمة الأنعام- فإن هذا يعني بطلان أعمال الحج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة إذا فعل ذلك قبل الذبح أو النحر. ولا يخفى ما عليه إجماع أهل العلم قاطبة من أن ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] (5 \ 67) . (¬2) [أحكام القرآن] للشافعي، جمع البيهقي (1 \ 134) . (¬3) [المجموع] (8 \ 295) .

الترتيب فيها مستحب، وأنه لا حرج في تقديم واحد منها على الآخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن تقديم بعض هذه الأفعال على بعض قال: «افعل ولا حرج (¬1) » فدل ذلك على أن غاية الأمر أن يكون مفهوم الترتيب الاستحباب، وبذلك ينتفي الاستدلال بالآية. ثانيا: جاء في الصفحة الثالثة من البحث مناقشة الجصاص الاعتراض على منع تقديم ذبح هدي التمتع والقران بإجازة الصوم الذي هو بدل عنه قبل يوم النحر، وقد كانت مناقشة في حاجة إلى مناقشة بما يلي: أ- جاء في قوله: إنه ثبت في السنة امتناع ذبح الهدي قبل يوم النحر. ويرد على ذلك: بأنه لو كان الأمر كما ذكر من ثبوت امتناع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر بالسنة لما حصل الخلاف كما هو الحال في الأضحية، فقد ثبت بالسنة بدء وقت ذبحها، فانتفى الخلاف في ذلك. والثابت بخصوص الهدي إنما هو في الهدي المسوق تطوعا يجوز ذبحه قبل يوم النحر، أما هدي المتعة والقران فإن القائلين بجواز ذبحه قبل يوم النحر يطالبون بالنص الصريح الثابت في امتناع ذبحه قبل يوم النحر من كتاب أو سنة، بل إنهم يستدلون بهما على جواز ذلك. ب- ما ذكر: بأن الصوم مراعى ومنتظر به شيئان إلى آخر قوله) . هذا القول يمكن أن يقال في هدي المتعة. وأيضا فإذا وجد المعنيان إتمام الحج والعمرة صح الهدي عن المتعة، وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون هدي متعة وصار هدي تطوع كصيام التطوع. ج- قوله: بأن الهدي رتب عليه أفعال أخرى من حلق وقضاء تفث وطواف زيارة فلذلك اختص بيوم النحر. مناقشة ذلك ما مر في الملاحظة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العلم (124) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، سنن ابن ماجه المناسك (3051) ، مسند أحمد بن حنبل (2/202) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) .

الأولى. ثالثا: جاء في الصفحة الثامنة من البحث ما نصه: فهذه الأحاديث منها ما هو نص في أن بدء وقت النحر للمتمتع والقارن يوم الأضحى، ومنها ما يدل عليه بمفهومه أو مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه المناسك وقد نحر عن نفسه وعن أزواجه يوم الأضحى، ونحر أصحابه كذلك، ولم يعرف عن أحد منهم أنه نحر هديه لتمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى فكان ذلك عمدة في التوقيت بما ذكر من جهات عدة. إن ذلك ممكن أن يناقش بما يلي: أ- إن المتتبع لجميع ألفاظ الأحاديث الواردة في البحث لا يجد فيها نصا على تحديد بدء وقت نحر هدي التمتع والقران بيوم الأضحى، وإنما النص في بعضها على أن من ساق الهدي فلا يجوز له الإحلال حتى ينحر هديه، ولا شك أن الهدي الذي ساقه صلى الله عليه وسلم وساقه بعض أصحابه ودخلوا به مكة في حجهم معه صلى الله عليه وسلم- هدي تطوع، دخل فيه هدي التمتع أو القران، فهو متصل به اتصال الجزء بكله بحيث لا يمكن فصله عنه. ب- إن القول: بأن منها- أعني: الأحاديث الواردة في البحث- ما يدل مع أمره صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنه مناسكنا على بدء التحديد بيوم النحر- يرد عليه بإجماع الأمة على جواز ذبح هدي التمتع أو القران في اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق، وهو صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد وقال: «خذوا عني مناسككم (¬1) » فلو كان عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (¬2) » واردا على ذلك- لكان الذبح في أيام التشريق غير جائز للمخالفة، وقد لا يمكن القول بأن العموم مخصص بقوله صلى الله عليه وسلم: «وكل أيام التشريق ذبح (¬3) » فقد تكلم رجال الحديث في ¬

_ (¬1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/82) .

هذه الزيادة بما لا يتسع المقام لذكره، وبما يبطل الاستدلال به للتخصيص، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (¬1) » عام في جميع أفعال النسك من ركن وواجب ومستحب، وفي قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) تخصيص لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (¬3) » . ج- إن ما نحره نفسه هو هديه الذي ساقه صلى الله عليه وسلم تطوعا ودخل به مكة محرما،. وكان سوقه سبب امتناع عن الإحلال، وأما نحره صلى الله عليه وسلم عن أزواجه في حجه فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك أضحية منه عنهن. قال ابن حزم: ووجدنا ما رويناه من طريق مسلم، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة، فكنت فيمن أهل بعمرة، فقدمنا مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " دعي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي وأهلي بالحج " قالت: ففعلت، فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفني، وخرج بي إلى التنعيم، فأهللت بعمرة، وقضى الله حجنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم (¬4) » . . . إلى أن قال: فإن قيل: قد صح أنه عليه السلام أهدى عن نسائه البقر، قلنا: نعم، وقد بين معنى ذلك الإهداء سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: أنه ¬

_ (¬1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬2) سورة البقرة الآية 196 (¬3) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬4) صحيح البخاري الحج (1786) ، صحيح مسلم الحج (1211) .

كان أضاحي، لا هدي متعة، ولا هديا عن قران. اهـ (¬1) . وعلى فرض أن ما ذبحه صلى الله عليه وسلم عن نسائه هدي تمتع أو قران فقد فعل الأفضل، ولا شك أن الأفضل ذبح ذلك يوم العيد. د- وأما القول بأنه لم يعرف أحد من أصحابه نحر هدي تمتعه أو قرانه قبل يوم الأضحى- فإنه يمكن مناقشته: بأن عدم معرفة أحد من الصحابة نحر هديه قبل يوم الأضحى لا يعني منع ذلك، ولا نفي أن أحدا من الصحابة فعله، ثم إن الحديث الذي أخرجه الحاكم في [مستدركه] وذكر أنه على شرط مسلم، وأقره الذهبي - صريح في أن سعد بن أبي وقاص ذبح هديه قبل يوم النحر، وقد أخرجه الطبراني في [الكبير] وذكر: أن رجاله ثقات، وسيأتي مزيد من نقاش لهذا الحديث والاعتراض عليه بما في [مجمع الزوائد] عن عكرمة. رابعا: جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج لذلك القول بالإجماع بما ذكره ابن عابدين، ويمكن أن يناقش ذلك بما يلي: لعل ابن عابدين رحمه الله يقصد بالإجماع: إجماع أهل مذهبه، مع أن ابن قدامة رحمه الله نسب إلى أبي حنيفة القول بوجوب هدي التمتع بالإحرام بالحج، وذلك في كتاب [المغني] كما نسب ذلك إليه ابن العربي في كتاب [أحكام القرآن] وابن مفلح في كتابه [الفروع] . أما أن يقصد ابن عابدين إجماع الأمة على منع ذلك فبعيد جدا؛ لوجود الخلاف القوي في المسألة بين العلماء من مالكيين، وشافعيين، وحنابلة، ¬

_ (¬1) [المحلى] (7 \ 193، 194) .

وغيرهم، ولأن مثل ابن عابدين لا يخفى عليه الخلاف في المسألة، لا سيما وهو خلاف مشهور، وعلى فرض أن ابن عابدين يقصد بالإجماع إجماع الأمة فما ذكره غير صحيح، والخلاف في ذلك مشهور يعرفه الخاص والعام. خامسا: جاء في الصفحة الثامنة من البحث الاحتجاج بالمعنى بما ذكره ابن قدامة رحمه الله بقوله: لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه. . . إلى آخره. ويمكن نقاش ذلك بما ذكره ابن قدامة نفسه توجيها للقول بجواز تقديم ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حيث قال: ووجه جوازه: أنه دم يتعلق بالإحرام وينوب عنه الصيام، فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب، واللباس؛ ولأنه يجوز إبداله قبل يوم النحر فجاز أداؤه قبله كسائر الفديات. اهـ (¬1) وبما ذكره في توجيه رواية الوجوب بعد الإحرام بالحج بقوله؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) وهذا قد فعل ذلك؛ ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬3) . وبما ذكره الشافعي رحمه الله بقوله: وإذا ساق المتمتع الهدي معه أو ¬

_ (¬1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (3 \ 505) . (¬2) سورة البقرة الآية 196 (¬3) سورة البقرة الآية 187

القارن لمتعته أو قرانه، فلو تركه حتى ينحره يوم النحر كان أحب إلي، وإن قدم فنحره في الحرم أجزأ عنه من قبل أن على الناس فرضين: فرضا في الأبدان، فلا يكون إلا بعد الوقت، وفرضا في الأموال، فيكون قبل الوقت إذا كان شيئا مما فيه الفرض، اهـ (¬1) . وبما ذكره ابن رجب في [قواعده] قال: العبادات كلها- سواء كانت بدنية أو مالية أو مركبة منهما- لا يجوز تقديمها على سبب الوجوب، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب، أو قبل شرط الوجوب، ويتفرع على ذلك مسائل كثيرة، وذكر منها ما ذكرتم قال: ومنها صيام التمتع والقران، فإن سببه العمرة السابقة للحج في أشهره، فبالشروع في إحرام العمرة قد وجد السبب فيجوز الصيام بعده، وإن كان وجوبه متأخرا عن ذلك، وأما الهدي فقد التزمه أبو الخطاب في انتصاره، ولنا رواية: أنه يجوز ذبحه لمن دخل قبل العشر لمشقة حفظه عليه إلى يوم النحر. اهـ (¬2) . كما أنه يمكن مناقشة ما ذكره ابن قدامة رحمه الله من قياسه الهدي على الأضحية بما ذكره ابن مفلح في [الفروع] حيث قال: وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى. اهـ (¬3) سادسا: جاء في الصفحة التاسعة من البحث: اعتراض الرهوني على ما ذكره الأبي عن القاضي عياض في شرحه رواية مسلم: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من ¬

_ (¬1) [الأم] للشافعي (2 \ 217) . (¬2) [القواعد] لابن رجب ص 6، 7. (¬3) الفروع، (2 \ 249) .

حجهم. مع أن في الحديث حجة لمن يجيز للمتمتع نحر هديه بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلى آخره، حيث ذكر الرهوني أن لديه نسخة عتيقة مظنونا فيها الصحة، وليس فيها جواز نحر هدي المتمتع بعد التحلل من العمرة، وإنما ذكر فيها جواز تقليد الهدي قبل الإحرام بالحج إلى آخر ما ذكره الرهوني. ويمكن مناقشة ذلك بما يلي: أ- إن عبارة القاضي عياض في جواز نحر الهدي قبل الإحرام بالحج قد تناقلها شيوخ كبار في مذهب الإمام مالك، فقد نقلها عنه الأبي والسنوسي والدسوقي والبناني ومحمد عابد - فلم يعترض عليها واحد منهم، بل احتج بها بعضهم على رد تأويلات بعض شراح مختصر خليل في قوله: وأجزأ- أي: دم التمتع- قبله- أي: قبل يوم النحر- حينما قال بعضهم: إن المقصود بذلك تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه. ب- إن احتجاج الرهوني لدعواه التصحيف بما لديه من نسخة يدعي قدمها والوثوق بها- فيه نظر، ولو سلم له احتجاجه لكان ذلك من أقصر الطرق لرد آراء العلماء وأقوالهم بإنكار نسبتها إليهم بالتصحيف فيما كتب عنهم، ثم هل يمكن أن تكون نسخة الرهوني هي الصحيحة الثابتة دون ما عداها مما لدى شيوخه وشيوخهم، إن العكس هو القريب الممكن المعقول. ج- إن اللجنة أيدت دعوى التصحيف بما ذكره بأن اللخمي ذكر الخلاف في التقليد لا في النحر، وهذه الحجة ليست أكثر عجبا من سابقتها، فإن عدم ذكر الشخص الشيء لا يعني نفيه من الوجود واللخمي

كغيره من عباد الله ينطبق عليه القول: (علمت شيئا وغابت عنك أشياء) . على أن المرء يقف حائرا في تكييف وجه الخلاف بين علماء المذهب المالكي في جواز تقليد الهدي وإشعاره بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج إلا أن يكون المراد بذلك مآل التقليد والإشعار، وهو الذبح حسبما يفهم من التمثيل على جواز ذلك بقياسه على تقديم الكفارة قبل الحنث والزكاة قبل الحول، وأن ذلك مما تقتضيه السنة توسعة في جميع ذلك، فإن اقتضاء السنة التوسعة على العباد لا يعني الحرج وإيجاد العسر والمشقة في رعاية الهدي المقلد والمشعر حتى يأتي يوم النحر، فإن الحاج في شغل عنه بتهيئة أسباب حجه، من زاد وراحلة وغير ذلك، وإنما التوسعة عليه في إراحته من ملازمته ورعايته بذبحه بعد وجوبه، ولا شك أن المتتبع بإنصاف لنصوصهم يقوى لديه الظن بأنهم يقصدون بذلك الذبح؛ لما في جميع ذلك من التوسعة التي تقتضيها السنة. د- إن الرهوني تعقب ما نقله الأبي عن المازري من قوله: مذهبنا: أن هدي التمتع إنما يجب بالإحرام بالحج وفي وقت جوازه ثلاثة أوجه: فالصحيح والذي عليه الجمهور أنه يجوز بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج. اهـ (¬1) . فقال: ليس فيه أن المراد بالجمهور جمهور أهل المذهب، وقد تقدم: أن المراد بهذه العبارة حيث أطلقها أهل الخلاف الكبير: جمهور المجتهدين، وإن كانت تشمل الإمام مالكا، لكن لا تصريح بنسبة ذلك ¬

_ (¬1) [إكمال إكمال المعلم] (3 \ 451) .

إليه. اهـ (¬1) . وهذا ما يفرح به القائلون بتقديم ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر، فلأن يكون هذا القول قول جمهور المجتهدين من علماء الإسلام أمثال الإمام مالك أحب إليهم من أن يكون قول جمهور المالكيين من أمثال الرهوني وأترابه. هـ- إن المتتبع لحواشي الرهوني يخرج من تتبعها بالحكم عليه بأنه ليس في مستوى قيادي في مذهبه يريد أن يقلل من شأن القول بجواز الذبح قبل يوم النحر بإنكار أن الجمهور القائلين به حسبما ذكره المازري جمهور المالكيين، وإنما هم جمهور المجتهدين أمثال مالك وغيره، وهذا تقوية للقول من حيث لا يدري مع أن المتتبع لقول المازري يخرج من تتبعه أنه يتحدث عن مذهبه وعن فقهاء مذهبه وأقوالهم، مما يدل على أن ما ذكرنا في الرهوني وارد، وإذا كان الرهوني على مستوى يسمح باعتباره إماما في مذهبه ومحققا، وإذا كانت نسخته هي المظنون بها الصحة، فكيف لنا تفسير نقله من نسخته، هذه التي لم يجد غيرها في ذلك الوقت حسبما ذكر، نقله آية من كتاب الله تعالى وأوردت خطأ دون أن يشير إلى تصحيحها، فقد جاء في [حاشيته] ونقلته اللجنة عنه في السطر الثامن من الصفحة التاسعة من البحث ما نصه: ونصه: وقوله للمتمتعين: (فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) نص في كتاب الله تعالى مما يلزم التمتع. إن صحة الآية: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬2) ¬

_ (¬1) [حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي مختصر خليل] (2 \ 434) . (¬2) سورة البقرة الآية 196

سابعا: جاء في الصفحتين العاشرة والحادية عشرة من البحث نقل طويل لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - وفيه يشير إلى تغليط من يجيز على المذهب المالكي ذبح الهدي قبل الإحرام بالحج بعد أن أورد مجموعة نصوص لشراح [مختصر خليل] يؤولون قوله: وأجزأ بما قبله. ويمكن مناقشة ما ذكره بعض شراح المختصر من التأويلات بما قاله الدسوقي بعد أن أورد قول بعضهم: إن المراد بذلك: تقليد الهدي وإشعاره لا ذبحه. قال: فيه نظر، فقد قال الأبي في [شرح مسلم] على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي: وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ما نصه: (عياض) في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد الإحلال بالعمرة وقبل الإحرام بالحج، وهي إحدى الروايتين عندنا، والأخرى: أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعا، وذكر بعضهم: أنه بعد الإحرام بالعمرة. اهـ. وبه تعلم أنه يتعين صحة إبقاء كلام المصنف - أي: خليل - على ظاهره، وسقوط تعقب الشراح عليه، وتأويلهم له من غير داع لذلك. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [حاشية الدسوقي على شرح الدردير على مختصر خليل] (2\ 27) .

وقال الشيخ محمد عابد في شرح قول الماتن: ولا يجوز نحر هدي التمتع. قال: تبع في ذلك الحطاب في [مناسكه] والدردير وعبد الباقي على خليل عند قوله: وأجزأ قبله، حيث قال كل منهم: أي: إشعاره وتقليده لا نحره إذ لم يقل به أحد، وفي البناني ما يخالف ذلك، وحاصل ما فيه: أنه أطبق كثير من شراح خليل على تأويل قوله: أجزأ قبله - أي: الإشعار والتقليد - محتجين بأنه لم يصرح أحد من أهل المذهب بأن نحر الهدي قبل الإحرام بالحج مجزئ، وهو غير ظاهر؛ لقول الأبي في [شرح مسلم] على أحاديث الاشتراك في الهدي على قول الراوي: وأمرنا إذا أحللنا أن نهدي، ما نصه: عياض في الحديث حجة لمن يجوز نحر الهدي للمتمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج، ثم ساق بقية كلام القاضي (عياض) وكلام المازري عن طريق الأبي (¬1) . ثامنا: جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الرواية عن الإمام أحمد بجواز ذبح هدي من قدم به مكة قبل العشر خشية ضياعه أو سرقته، ويمكن نقاش ذلك بأن هذه المسألة خارجة عن موضوعنا؛ لأنها خاصة فيمن قدم مكة ومعه هدي، وموضوعنا خاص فيمن تمتع بالعمرة إلى الحج فاستوجب الهدي أيذبحه بعد وجوبه أم يؤخر ذبحه حتى يوم النحر؟ تاسعا: جاء في الصفحة الرابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال على جواز الذبح قبل يوم النحر بآية: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) ¬

_ (¬1) [هداية المناسك] . (¬2) سورة البقرة الآية 196

بأن هذا مجرد فهم للآية باجتهاد عارضه نص، هو قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (¬1) الآية. وقد سبق مناقشة الاستدلال بهذه الآية في الملاحظة الأولى مما يغني عن إعادته. عاشرا: جاء في الصفحة الخامسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث أبي الزبير عن جابر: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدي، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم. في هذا الحديث أمور ثلاثة يمكن أن تناقش بما يلي: أ - التسليم بنفي التعارض بينه وبين الأحاديث الواردة في البحث، إذ ليس فيها ما يدل بصريح العبارة على منع تقديم ذبح هدي التمتع أو القران على يوم النحر، وقد سبقت مناقشة القول بدلالتها على المنع في الملاحظة الثالثة، وعليه فإن دلالة الحديث على إجازة الذبح بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج - قد فهمها علماء كبار من رجال الحديث وشراحه، أمثال: النووي والقاضي عياض والمازري والأبي والسنوسي وغيرهم. ب - إن القول: بأن المقصود بقول جابر: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي. التحلل من الحج يرده مزيد التأمل والتدبر في نهاية الحديث، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم، فلقد أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين أحرموا بالحج معه أن يحلوا منه إلى عمرة واشتد غضبه صلى الله عليه وسلم على قوم ترددوا في الأخذ ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 28

بقوله وأمره. أما التحلل من الحج يوم العيد فإنه لا يكون بأمر، وإنما يحصل بأفعال يفعلها الحاج يوم العيد من رمي وحلق أو تقصير وطواف زيارة، وفضلا عن ذلك كله فإن راوي الحديث عن جابر - وهو: أبو الزبير - قد أبان المقصود من ذلك، فقد ذكر أبو عبد الله الأبي في شرحه [صحيح مسلم] عند كلامه على حديث جابر ما نصه: ويعني بقوله حين أمرهم: يعني: إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع. اهـ. إن القول: بأن في الحديث زيادة شاذة لمخالفتها ما سبق من الأدلة الصحيحة الخالية من هذه الزيادة، وأن مدارها على محمد بن بكر البرساني - يمكن أن يناقش بما يلي: 1 - نفي الشذوذ في هذه الزيادة، إذ هي لم تخالف غيرها من الروايات، فليس هناك حديث صحيح ينص على بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر، وإنما غاية ما في الأمر مفاهيم لا يجوز أن يحكم بها على زيادة من عدل رواها مسلم في [صحيحه] إذ الزيادة من العدل مقبولة. 2 - إن القول: بأن مدار هذه الزيادة على محمد بن بكر البرساني غير صحيح، فقد روى الإمام أحمد في [مسنده] هذا الحديث بكامل هذه الزيادة عن محمد بن بكر وروح بن عبادة القيسي فقال: حدثنا محمد بن بكر وروح قالا: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في البدنة وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجتهم (¬1) » . اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (3/378) . (¬2) [مسند الإمام أحمد] (3\ 378) .

وروح هو: روح بن عبادة القيسي، قال الحافظ ابن حجر: كان أحد الأئمة، وثقه علي بن المديني ويحيى بن معين ويعقوب بن شيبة وأبو عاصم وابن سعد والبزار، وأثنى عليه أحمد وغيره، وقال يعقوب بن شيبة: قلت لابن معين: زعموا أن ابن القطان كان يتكلم فيه فقال: باطل ما تكلم فيه. . إلى أن قال الحافظ: قلت: احتج به الأئمة كلهم. اهـ. (¬1) . وقال الحافظ ابن حجر في محمد بن بكر ما نصه: وثقه أبو داود والعجلي، وقال عثمان الدارمي عن يحيى بن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ محله الصدق. إلى آخر ما قال (¬2) . وقال في [تهذيب التهذيب] : قال حنبل بن إسحاق عن أحمد: صالح الحديث، وقال الدوري عن ابن معين: ثنا البرساني، وكان والله ظريفا صاحب أدب، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة، وقال أبو داود والعجلي: ثقة. قال الحافظ: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال هو وابن سعد وآخرون: مات سنة ثلاث ومائتين، زاد ابن سعد: بالبصرة في ذي الحجة وكان ثقة، وذكر الحافظ أنه أجاب عن قول الذهبي في البرساني، روى عن عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة في حديث بسرة في مس الذكر: أو أنثييه أو فرجه فرفع الزيادة، وإنما هي من قول عروة قال: قد أوضحت ذلك في المدرج وذكرت فيه من شاركه في رفع هذه الزيادة لكن عن غير شيخه وبينت سبب الإدراج ومستنده (¬3) . ¬

_ (¬1) [هدي الساري] (2\ 127) . (¬2) [هدي الساري] (2\ 159) . (¬3) [تهذيب التهذيب] (9\ 78) .

3 - إن هذه الزيادة غير شاذة، ففضلا عن أن محمد بن بكر لم ينفرد بها، بل اشترك معه في روايتها عند أحمد روح بن عبادة وأنه ليس في الروايات الأخرى نص صريح في مخالفتها فقد تأيدت بما روى الحاكم في [مستدركه] والطبراني في [الكبير] من «أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحلال من الحج وفسخه إلى عمرة إلا من ساق معه الهدي، ثم قسم صلى الله عليه وسلم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه (¬1) » . وسيأتي مزيد نقاش لحديث الحاكم. ج - إن القول: بأن مسألة ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر من الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها لو كان فيها نص بالجواز، يمكن نقاشه: بأن الهمم والدواعي تتوافر أيضا على نقل ما فيها من نصوص تقتضي المنع لو كانت هناك نصوص في ذلك، وحيث لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح في منع ذلك، وتعيين البدء بيوم النحر حتى يمكن أن يكون مخصصا لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) - تعين الأخذ بعموم الآية، مع ما هناك من أدلة أخرى تسند الجواز، فمتى دخل الحاج في معنى التمتع وجب عليه الهدي، واستقر في ذمته حتى يؤديه؛ كاستقرار الكفارات في ذمة مستوجبها، وكوجوب الدماء في ذمة من استوجبها. الحادية عشرة: جاء في الصفحة الخامسة عشرة من البحث الاستدلال للقائلين بجواز تقديم الذبح قبل يوم النحر بما ذكره الشيرازي. ولو أضيف ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/307) . (¬2) سورة البقرة الآية 196

إليه ما ذكره الشافعي في [الأم] وابن قدامة في [المغني] وابن رجب في [قواعده] مما تقدم لنا ذكره في الملاحظة الخامسة - لكان ذلك من إيفاء البحث حقه. ومع ذلك فإن مناقشته بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص قد تقدم ردها بالمطالبة بالنص الصريح الثابت من كتاب أو سنة أو قول صحابي في تحديد بدء وقت ذبح هدي التمتع والقران بيوم النحر. جاء في الصفحة السادسة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بآية {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) في أن التمتع يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام إلى آخره. من أن التمتع قد لا يتحقق بإحرام الحج لاحتمال فوات الوقوف بعرفة. ويمكن نقاش ذلك: بأن هذا لا يمنع من لم يجد هديا أن يعدل إلى بدله وهو الصوم مع احتمال عدم التمكن من إكمال التمتع، فإذا جاز ذلك في البدل جاز في المبدل عنه. الثانية عشرة: جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة الاستدلال بحديث الحاكم بما رواه الإمام أحمد في [مسنده] عن طريق عكرمة مولى ابن عباس، وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ غنما يوم النحر في أصحابه وقال: " اذبحوها لعمرتكم فإنها تجزئ (¬2) » إلى آخره. من أن رواية الإمام أحمد مفسرة لرواية الحاكم. ويمكن مناقشة ذلك بما يلي: إن الروايتين لا يصلح أن تكون إحداهما مفسرة للأخرى؛ لانتفاء الإجمال في رواية الحاكم، فإنها صريحة في أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 187 (¬2) مسند أحمد بن حنبل (1/307) .

النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنم في أصحابه بعد الإحلال من العمرة وقبل الوقوف بعرفة، كما يتضح ذلك من سياق الحديث الذي لم تذكره اللجنة بتمامه. وتأسيسا عليه في النقاش فإنه يتعين ذكر نصه بتمامه. روى الحاكم في [مستدركه] قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا حمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن جابر بن عبد الله قال: «كثرت القالة من الناس: فخرجنا حجاجا حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال، فيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقام خطيبا فقال: " أبالله تعلموني أيها الناس، فأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا، ولحللت كما أحلوا، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن وجد هديا فلينحر " فكنا ننحر الجزور عن سبعة، قال عطاء: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " اصرخ أيها الناس، هل تدرون أي شهر هذا؟ ! (¬1) » إلى آخر الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي على تصحيحه. فقوله صلى الله عليه وسلم: " أبالله تعلموني أيها الناس ". . . إلى قوله: " ومن وجد هديا فلينحر " صريح في الأمر بالنحر في ذلك الوقت الذي ألقى فيه كلمته التوجيهية. وقول جابر: فكنا ننحر الجزور عن سبعة، صريح في الامتثال ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7367) ، سنن النسائي كتاب مناسك الحج (2805) ، مسند أحمد بن حنبل (3/366) .

لأمره صلى الله عليه وسلم يومئذ. وقول ابن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه عن نفسه (¬1) » - بين أن ذلك هو زمن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل من الحج وفسخه إلى عمرة، ويؤيد ذلك روايتا مسلم وأحمد عن أبي الزبير عن جابر: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم. ورواية عكرمة عن ابن عباس صريحة في أن الغنم التي قسمها صلى الله عليه وسلم في أصحاب سعد كان يوم النحر. وبذلك يتضح التعارض بين الروايتين ويتعين المصير إلى الترجيح. وعليه فيمكننا ترجيح رواية الحاكم على رواية الإمام أحمد بالأمور الآتية: أ - إن رواية الحاكم فيها قصة، ورجال الحديث وحفاظه متفقون على أن القصة في الحديث من أدلة حفظه. قال ابن القيم - رحمه الله - في معرض توجيهه القول بالأخذ بحديث عائشة في إنكارها على زيد بن أرقم بيعه بالعينة - قال: وأيضا فإن في الحديث قصة. وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ (¬2) . ب - إن دلالة رواية الحاكم على أن سعد بن أبي وقاص ذبح تيسه بعد إحلاله من العمرة - مؤيدة برواية مسلم وأحمد عن جابر: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم. قال أبو الزبير راوي الحديث عن جابر: ويعني بقوله: حين ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/307) . (¬2) [إعلام الموقعين] (3\ 217) .

أمرهم، يعني: إحلال الفسخ الذي أمرهم به في حجة الوداع. اهـ. ج - إن رجال رواية الحاكم ثقات، وعلى شرط مسلم، كما ذكر ذلك الحاكم، وأقره الذهبي، وفيهم عطاء أفقه الناس في المناسك، ومن أكثرهم علما وورعا وتقى. وقد روى صدرها عن جابر عطاء ومجاهد، وروى عجزها عن ابن عباس عطاء. د - إن رواية الحاكم مؤيدة بما روى الطبراني عند الهيثمي في [مجمع الزوائد] في باب الخطب في الحج حيث قال: وعن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما، فأصاب سعد بن أبي وقاص تيسا فذبحه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف، فقام تحت يدي ناقته وكان رجلا صيتا، فقال: " اصرخ: أيها الناس، أتدرون أي شهر هذا؟ !» . . . إلى آخره، قال الهيثمي: رواه الطبراني في [الكبير] ورجاله ثقات (¬1) ، فقد رتب رواية وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة وخطبته في الناس على رواية تقسيمه صلى الله عليه وسلم الغنم في أصحابه وإصابة سعد بن أبي وقاص تيسا منها وذبحه، كما هو الحال في رواية الحاكم. هـ - إن رواية الإمام أحمد التي فيها: قسم غنما يوم النحر في أصحابه. من طريق عكرمة مولى ابن عباس، ولا يخفى ما لعطاء على عكرمة من الفضل والتقديم والثقة. فإن عكرمة وإن اعتبره بعض أهل العلم، فيكفينا لرد الاحتجاج بروايته إذا عارضت رواية رجال ثقات أمثال عطاء وغيره ممن اعتبرهم أهل العلم ووثقوهم - يكفينا لذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في ¬

_ (¬1) [مجمع الزوائد] (3\271) .

كتابه [ميزان الاعتدال] حيث قال عن عكرمة ما يلي: قال محمد بن سيرين: ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة، ولكنه كذاب، وقال ابن المسيب لمولاه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وقال وهيب: شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ذكر عكرمة فقال: كذاب. وروى جرير عن يزيد بن أبي زيادة عن عبد الله بن الحارث قال: دخلت على علي بن عبد الله، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت له: ألا تتق الله، فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبي. وقال ابن أبي ذئب: رأيت عكرمة وكان غير ثقة. وقال مطرف بن عبد الله: سمعت مالكا يكره أن يذكر عكرمة ولا رأى أن يروى عنه. قال أحمد بن حنبل: ما علمت أن مالكا حدث بشيء لعكرمة إلا في الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة، رواه عن ثور عن عكرمة. وقال محمد بن سعد: كان عكرمة كثير الحديث والعلم بحرا من البحور، وليس يحتج بحديثه ويتكلم الناس فيه، وقال خالد بن خداش: شهدت حماد بن زيد في آخر يوم مات فيه فقال: أحدثكم بحديث لم أحدث به قط؛ لأني أكره أن ألقى الله ولم أحدث به. سمعت أيوب يحدث عن عكرمة أنه قال: إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضل به، قلت - القائل الحافظ الذهبي -: ما أسوأها عبارة وأخبثها، بل أنزله ليهدي به ويضل الفاسقين، وقال قطر بن خليفة: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: قال ابن عباس: سبق الكتاب الخفين. فقال: كذب عكرمة، سمعت ابن عباس يقول: لا بأس بمسح الخفين وإن دخلت الغائط، قال عطاء: والله إن كان بعضهم ليرى أن المسح على القدمين يجزئ، وثبت عن أحمد بن حنبل أنه قال في عكرمة: كان يرى رأي الصفرية، وقال ابن

المديني: كان يرى رأي نجدة الحروري، وقال عطاء: كان أباضيا. وقال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج. وقال يحيى بن بكير: قدم عكرمة مصر وهو يريد المغرب، قال: فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا. إلى آخر ما ذكره (¬1) . وما في رواية عكرمة من الإشكال في قوله: " اذبحوها لعمرتكم، فإنها تجزئ " إذ ليس على العمرة دم، والتمتع والقران لا يسمى أحدهما عمرة فما نوع هذه العمرة المستوجبة للدم؟ ثم إن التعبير بلفظ: فإنها تجزئ، تعبير رديء ركيك ساذج ينزه الأسلوب النبوي عن مستواه. إنه يشبه من يقدم لشخص جائع طعاما ثم يقول له: كله فإنه يرفع الجوع ويدفعه. اللهم إلا أن يكون الغرض من ذلك أنه قسم غنما رديئة لا يجزئ مثلها هديا فاعتبر لها حكما خاصا في الإجزاء كعناق خال البراء بن عازب. وهذا مما لا نستطيع اعتباره والقول به، فمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفع وأعلى من أن يرتضي لربه نسائك رديئة يتقرب بها إليه. وقد تقرب صلى الله عليه وسلم لربه بهدي جزل بلغ مائة بدنة. الثالثة عشرة: جاء في الصفحة السابعة عشرة من البحث مناقشة ما ذكره الشيرازي من الأمر المعنوي في جواز الذبح قبل يوم النحر بأمور ثلاثة يمكن نقاش أحدها بنفي وجود النص الصريح المقتضي منع ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر حتى يقال بمصادمته للاجتهاد فضلا عن أن القول بالجواز مؤيد بالكتاب والسنة وعمل الصحابة، وقد مر بسط ذلك ¬

_ (¬1) [ميزان الاعتدال] (3\ 93 - 96) .

مما يغني عن إعادته. كما يمكن نقاش الأمر الثاني بما ذكره في الملاحظة الثانية. ويمكن نقاش الأمر الثالث بأن ما يذكره ابن القيم - رحمه الله - أو غيره من أهل العلم لا يكون حجة حتى يستند قوله على ما يؤيده من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح. أما إذا كان قوله مجرد رأي فإنه رجل وغيره رجال. الرابعة عشرة: جاء في الصفحة الثامنة عشرة من البحث نفي الفرق بين الأضحية والهدي في الوقت. ويمكن نقاش ذلك: بأنه قياس مع الفارق، فالأضحية عبادة مستقلة جاء النص الصريح بتحديد بدء وقت جواز ذبحها، وكاد الإجماع ينعقد على تحديد نهاية الوقت بنهاية اليوم الثاني أو الثالث من أيام التشريق على خلاف بين أهل العلم، أما الهدي الواجب للتمتع أو القران فليس عبادة مستقلة، وإنما هو جزء من أعمال الحج لم يرد نص صريح من كتاب أو سنة بتحديد انتهاء وقته، وقد جاء النص بوجوبه عند حصول التمتع، قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فقد وجب عليه الهدي واستقر في ذمته حتى يؤديه، قال ابن حزم - رحمه الله - بعد أن ذكر أن هدي التمتع يجب بالإحرام بالحج بعد التحلل من العمرة - قال ما نصه: وأما ذبحه ونحره بعد ذلك فلأن هذا الهدي قد بين الله تعالى أول وقت وجوبه، ولم يحدد آخر وقت وجوبه بحد، وما كان هكذا فهو دين باق أبدا حتى يؤدى، والأمر به ثابت حتى يؤدى، ومن خصه بوقت محدود فقد قال ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196

على الله ما لم يقله عز وجل، وهذا عظيم جدا. اهـ (¬1) . وقد رد بعض أهل العلم قياس هدي التمتع والقران على الأضحية أو هدي التطوع، فقال ابن مفلح: وقاسوه على الأضحية والهدي وهي دعوى (¬2) . اهـ. وقال النووي: ويخالف الأضحية؛ لأنه منصوص على وقتها. اهـ (¬3) . الخامسة عشرة: جاء في الصفحة الثامنة عشرة الاحتجاج على تحديد وقت انتهاء الذبح باليوم الثاني من أيام التشريق بالإجماع بما ذكره الجصاص عن بعض الصحابة، وأنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم. ويمكن نقاش ذلك بأمرين: أحدهما: أن المقصود بالذبح ذبح هدي التطوع والأضاحي لا ذبح هدي المتعة والقران؛ لورود النص فيهما دون هدي المتعة والقران ولاختلافه عنهما. الثاني: استبعاد أن الجصاص يقصد بقوله: وأنه لا يجوز لمن بعدهم مخالفتهم؛ انعقاد الإجماع على ذلك، وعلى فرض أنه يقصد الإجماع فإن النقل عن بعض الصحابة في حكم مسألة لا يعني إجماع كل الصحابة على القول به حتى يرد النص بنفي الخلاف بينهم فيها ما لم تكن مبنية على نص صريح ثابت من كتاب أو سنة. السادسة عشرة: جاء في الصفحة الثانية من البحث نقول عن الرملي ¬

_ (¬1) [المحلى] (7\ 155) . (¬2) [الفروع] (2\ 249) . (¬3) [المجموع] (7\ 180) .

والفتوحي من الشافعية: بأن وقت ذبح الهدي محدود بوقت ذبح الأضحية على الصحيح، وصحح ذلك النووي والرافعي. ويمكن نقاش ذلك: بأن مقصود الرملي والنووي والرافعي بالهدي هو هدي التطوع. وفيما يلي بعض النصوص في بيان ذلك: قال النووي: (فرع) في وقت ذبح الأضحية والهدي المتطوع بهما والنذور، فيدخل وقتهما إذا مضى قدر صلاة العيد وخطبتين معتدلتين بعد طلوع الشمس يوم النحر، سواء صلى الإمام أو لم يصل، وسواء صلى المضحي أو لم يصل، ويبقى إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق، ويجوز في الليل لكنه مكروه. . . إلى أن قال: وأما الدماء الواجبة في الحج بسبب التمتع أو القران أو اللبس أو غير ذلك من فعل محظور أو ترك مأمور، فوقتها من حين وجوبها بوجود سببها، ولا تختص بيوم النحر ولا غيره. اهـ (¬1) . وقال في موضع آخر: ووقت وجوب دم التمتع إذا أحرم بالحج، فإذا وجب جازت إراقته ولم يتوقت بوقت كسائر دماء الجبرانات. اهـ. (¬2) . وقال الشربيني: وسيأتي في آخر الباب محرمات الإحرام على الصواب ما نصه: ووقته وقت الأضحية على الصحيح هذا بناه المصنف على ما فهمه من أن مراد الرافعي بالهدي هنا المساق تقربا إلى الله تعالى فاعترضه ¬

_ (¬1) [الإيضاح] ص 375، 376. (¬2) [الإيضاح] ص 522.

هنا، وفي [الروضة] و [المجموع] واعترض الأسنوي المصنف بأن الهدي يطلق على دم الجبرانات والمحظورات، وهذا لا يختص بزمان، وهو المراد هنا، وفي قوله: أولا ثم يذبح من معه هدي، وعلى ما يساق تقربا إلى الله، وهذا هو المختص بوقت الأضحية على الصحيح، وهو المذكور في آخر باب محرمات الإحرام فلم يتوارد الكلامان على محل واحد حتى يعد ذلك تناقضا. وقد أوضح الرافعي ذلك في باب الهدي من [الشرح الكبير] فذكر: أن الهدي يقع على الكل، وأن الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو ما يسوقه المحرم، لكنه لم يفصح في [المحرر] عن المراد كما أفصح عنه في [الكبير] فظن المصنف - هو النووي - أن المسألة واحدة فاستدرك عليه، وكيف يجيء الاستدراك مع تصريح الرافعي هناك بما يبين المراد؟ ! . اهـ (¬1) . وبهذا يتضح أن النووي والرافعي والرملي يقصدون بتوقيت ذبح الهدي بوقت الأضحية ما يساق هديا تقربا إلى الله تعالى على سبيل التطوع أو النذر، أما هدي المتعة والقران فنصوصهم صريحة متضافرة على جواز ذبحها بعد وجوبها. هذا ما تيسر إيراده، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ¬

_ (¬1) [مغني المحتاج] (1\ 504) .

مصادر ومراجع البحث

مصادر ومراجع هذا البحث (باب الهدي من كتاب الحج) 1 - المذهب الحنفي: [أحكام القرآن] للجصاص، [لباب المناسك] للسندي، [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] ، [مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر] ، [المبسوط] للسرخسي، [كتاب الآثار] لأبي يوسف، [فتح القدير] . 2 - المذهب المالكي: [المدونة] للإمام مالك، [المنتقى] للباجي، [حاشية الرهوني على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل] ، [أحكام القرآن] للقرطبي، [أضواء البيان] للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، [شرح الرسالة] لابن أبي زيد، [شرح الأبي على مسلم] . 3 - المذهب الشافعي: [الأم] للشافعي، [شرح صحيح مسلم] للنووي، [فتح الباري] ، [المجموع شرح المهذب] ، [الإيضاح] للنووي، [المنهاج] وشرحه [مغني المحتاج] ، [الأشباه والنظائر] للسيوطي، [أحكام القرآن] للشافعي، [القرى لقاصد أم القرى] للطبري. 4 - المذهب الحنبلي: [تفسير ابن كثير] ، [المغني] لابن قدامة، [الشرح الكبير] لابن قدامة، [حاشية المقنع] ، [زاد المعاد] لابن قدامة، [الإنصاف] للمرداوي، [مسائل الإمام أحمد] لابنه عبد الله، [القواعد] لابن رجب، [الفروع] لابن مفلح، [المحرر] لمجد الدين أبي البركات، [تحفة الودود في أحكام المولود] لابن قيم الجوزية، [القياس في الشرع الإسلامي] .

5 - كتب أخرى: [المحلى] لابن حزم، [السنن الكبرى] للبيهقي، [سنن الدارقطني] ، [نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية] للزيلعي، [التلخيص الحبير] لابن حجر العسقلاني، [الدراية] ، [شرح معاني الآثار] للطحاوي، [سنن أبي داود] ، [معالم السنن] للخطابي، [بلوغ المرام] لابن حجر العسقلاني.

حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد

(4) حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق وحكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال وحكم الرمي ليالي أيام التشريق هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق وحكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال وحكم الرمي ليالي أيام التشريق إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد (¬1) : فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية المنعقدة في مدينة الرياض في المدة من 1\ 8\ 1392 هـ إلى 13\ 8\ 1392 هـ. موضوع (حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق. وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال. وحكم الرمي ليالي أيام التشريق) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 19 - 50، عام 1405 هـ.

أما بعد: فهذا بحث في بيان حكم رمي جمرة العقبة ليلة النحر، ورميها ليلة القر، وتقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق، والرمي في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر، وبيان أدلة الترخيص للرعاة. وطريقة البحث هي: تحرير محل الخلاف، وذكر المذاهب، وبعض القائلين بكل مذهب وبيان مآخذهم، ومناقشة هذه المآخذ، والمقارنة بينها على القدر الذي يسره الله جل وعلا وترك الترجيح لأصحاب السماحة والفضيلة أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء. وقد روعي في إعداد هذا البحث نسبة كل قول إلى من قال به مع ذكر المصدر الذي أخذ منه. وسيكون في آخر البحث قائمة تشتمل على بيان كاف للمصادر التي أخذ منها حتى يتيسر الأمر لمن أراد الاطلاع عليها. والله ولي التوفيق.

المسألة الأولى حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد

رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق المسألة الأولى: حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد القول الأول: اختلف العلماء متى يبتدئ وقت رميها: فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه يجوز رميها بعد منتصف الليل من ليلة النحر، وممن قال به الشافعي (¬1) ، وقال المرداوي (¬2) : وهو الصحيح من المذهب مطلقا، وقول أكثر الأصحاب، وقال ابن قدامة (¬3) : وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: « (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم، اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم) تعني: عندها (¬4) » . رواه أبو داود وسكت عنه. قال أبو حازم (¬5) : قال أبو داود في رسالته لأهل مكة: وليس في كتاب [السنن] الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء، وقال ابن كثير (¬6) : انفرد به أبو داود، وهو إسناد ¬

_ (¬1) [الأم] (2\ 180) . (¬2) [الإنصاف] (4\ 37) . (¬3) [المغني والشرح] (3\ 49) . (¬4) سنن أبو داود المناسك (1942) . (¬5) [شروط الأئمة الخمسة] ص 54. (¬6) [البداية والنهاية] (5\ 182) .

جيد، وقال ابن حجر (¬1) : إسناده صحيح، وقال ابن قدامة (¬2) : واحتج به أحمد. وجه الدلالة: قال الشافعي (¬3) : وهذا لا يكون إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة. وقد اعترض على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ودلالته: أما الاعتراض عليه من جهة سنده: فإنه روي مرسلا وموصولا مسندا، قال القرطبي (¬4) : روى معمر قال: أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة: أن تصبح بمكة يوم النحر وكان يومها (¬5) » قال أبو عمر: اختلف على هشام في هذا الحديث؛ فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا، كما رواه معمر، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمر أم سلمة بذلك) مسندا، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا، وكلهم ثقاة. انتهى. قال العراقي (¬6) : إذا اختلف الثقات في حديث فرواه بعضهم متصلا وبعضهم مرسلا فاختلف أهل الحديث هل الحكم لمن وصل أو لمن أرسل أو للأكثر أو للأحفظ؟ على أربعة أقوال: أحدها: الحكم لمن وصل، وهو الأظهر الصحيح، ¬

_ (¬1) [الدراية في تخريج أحاديث الهداية] (2\ 24) . (¬2) [المغني والشرح] (3\ 49) . (¬3) [الأم] (2\ 180) . (¬4) [تفسير القرطبي] (3\ 625) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (6/291) . (¬6) [شرح ألفية العراقي] (1\ 174) .

كما صححه الخطيب، وقال ابن الصلاح: إنه الصحيح في الفقه أصوله، وقد اعتضد هذا الحديث بما رواه الخلال (¬1) بسنده عن سليمان بن داود عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني أم سلمة قالت: «قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة، قالت: فرميت بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى» . قال ابن القيم: قلت: سليمان بن أبي داود هذا هو الدمشقي الخولاني، ويقال: ابن داود، قال أبو زرعة عن أحمد: رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء، وقال عثمان بن سعيد: ضعيف. انتهى. قال ابن حجر (¬2) : قال فيه ابن حبان: سليمان بن داود الخولاني، من أهل دمشق ثقة مأمون، وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، ثم قال أيضا: قلت: أما سليمان بن داود الخولاني فلا ريب أنه صدوق. انتهى. قال الخطيب البغدادي (¬3) : إذا عدل جماعة رجلا وجرحه أقل عدد من المعدلين فإن الذي عليه جمهور العلماء: أن الحكم للجرح والعمل به أولى، وقالت طائفة: بل الحكم للعدالة، وهذا خطأ؛ لأجل ما ذكرناه من أن الجارحين يصدقون المعدلين في العلم بالظاهر، ويقولون: عندنا زيادة علم لم تعلموه من باطن أمره، وقد اعتلت هذه الطائفة بأن كثرة المعدلين تقوي حالهم وتوجب العمل بخبرهم، وقلة الجارحين تضعف خبرهم، ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (1\ 470) . (¬2) [تهذيب التهذيب] (4\ 189، 190) . (¬3) [الكفاية في علم الرواية] ص 107.

وهذا بعد ممن توهمه؛ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك، وقالوا: نشهد أن هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك من أن يكونوا أهل تعديل أو جرح؛ لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه وإن لم يعلموه فثبت ما ذكرناه. وقال أيضا: والذي يقوى عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالما. وقد أبطل ابن القيم - رحمه الله - حديث أم سلمة بما ثبت في [الصحيحين] عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: «استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة: أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة، قالت: فأذن لها، فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه، ولأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة أحب إلي من مفروح به (¬1) » . وجه الدلالة: أن الحديث الصحيح يبين: أن نساءه غير سودة إنما دفعن معه. وقد رد هذا الاستدلال بما رواه الدارقطني وغيره، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر نساءه أن يخرجن من جمع ليلة جمع، فيرمين الجمرة، ثم تصبح في منزلها، وكانت تصنع ذلك حتى ماتت (¬2) » . وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن هذا الرد فقال: يرده محمد بن حميد أحد رواته، كذبه غير واحد، ويرده أيضا: حديثها الذي في [الصحيحين] وقولها: (وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة) . ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (1\470، 471) . (¬2) سنن النسائي مناسك الحج (3066) .

وقد أورد على جواب ابن القيم: بأنه ثبت في [صحيح مسلم] عن أم حبيبة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل (¬1) » . فأجاب عنه: بأنها من الضعفة التي قدمها صلى الله عليه وسلم. ثم أورد ابن القيم اعتراضا فقال: فما تصنعون بما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم (بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر) (¬2) » . فأجاب عنه بقوله: قيل: نقدم عليه حديثه الآخر الذي رواه أيضا الإمام أحمد والترمذي وصححه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله، وقال: " لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس (¬3) » ، ولفظ أحمد فيه: «قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا، من جمع - قال سفيان: بليل - فجعل يلطخ أفخاذنا، ويقول: أي بني، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس (¬4) » لأنه أصح منه، وفيه «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رمي الجمرة قبل طلوع الشمس» وهو محفوظ بذكر القصة فيه، والحديث الآخر: إنما فيه: أنهم رموها مع الفجر. انتهى كلام ابن القيم. وأما الاعتراض عليه من جهة متنه: فقال ابن القيم: وأما حديث عائشة رضي الله عنها - «أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5) » تعني: عندها، رواه أبو داود - فحديث منكر أنكره الإمام أحمد وغيره، ومما يدل على إنكاره أن فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرها أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة) وفي رواية: (توافيه بمكة، وكان يومها فأحب أن توافيه) وهذا من المحال قطعا، قال ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1292) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) ، سنن الدارمي المناسك (1885) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (1/320) . (¬3) سنن الترمذي الحج (893) ، سنن أبو داود المناسك (1941) . (¬4) سنن أبو داود المناسك (1940) ، سنن ابن ماجه المناسك (3025) ، مسند أحمد بن حنبل (1/311) . (¬5) سنن أبو داود المناسك (1942) .

الأثرم: قال لي أبو عبد الله: حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة (¬1) » لم يسنده غيره وهو خطأ، وقال وكيع عن أبيه مرسلا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة أو نحو هذا، وهذا أعجب، أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة؟ ينكر ذلك، قال: فجئت إلى يحيى بن سعيد فسألته، فقال عن هشام عن أبيه (أمرها أن توافي) ليس (توافيه) قال: وبين ذين فرق، قال: وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن عنه، فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام عن أبيه، قال الخلال: سها الأثرم في حكايته عن وكيع (توافيه) وإنما قال وكيع: (توافي منى) وأصاب في قوله: (توافي) كما قال أصحابه وأخطأ في قوله: (منى) . انتهى المقصود. فقد اعتمد ابن القيم - رحمه الله - في إنكار هذا الحديث على إنكار الإمام أحمد، كما اعتمد عليه ابن التركماني (¬2) ، والطحاوي (¬3) . ولكن يرد استنكار الإمام أحمد - رحمه الله - لهذا الحديث قول ابن قدامة (¬4) - رحمه الله - بعد ذكره لهذا الحديث: واحتج به أحمد. وقد سبق ذكر طائفة من أهل العلم بالحديث ورجاله أنهم صححوه، واعتماد ابن القيم - رحمه الله -، وكذلك الطحاوي وابن التركماني على استنكار الإمام أحمد غير صحيح فقد تبين أنه احتج به فبطل الأصل، وببطلانه يبطل قول من اعتمد عليه. وصرح ابن حجر (¬5) في [التلخيص الحبير] بسلامته من الزيادة ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (6/291) . (¬2) [الجوهر النقي على سنن البيهقي] (5\ 132) . (¬3) [شرح معاني الآثار] (2\ 221) . (¬4) [المغني والشرح الكبير] (3\ 449) . (¬5) [التلخيص الحبير] (2\ 258) .

التي استنكرها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -، أي: سلامة رواية أبي داود. وأما الاعتراض على حديث أم سلمة من ناحية الدلالة فمن وجهين: أحدهما: أنه خاص بها. قال الخطابي (¬1) : وقال غيره - أي: الشافعي - إنما هذا رخصة خاصة لها فلا يجوز أن يرمى قبل الفجر. وقال الزرقاني (¬2) : ويؤيده كون ذلك اليوم يوم نوبتها منه صلى الله عليه وسلم، وله أن يخص من شاء بما شاء. ويجاب عن هذا: بأن القاعدة المقررة في علم الأصول: أن خطاب المواجهة يعم إلا إذا أول الدليل على الخصوص (¬3) . ويرد ذلك: بورود الأدلة الدالة على نهي ابن عباس وأمثاله عن الرمي قبل طلوع الشمس، وكذلك رميه صلى الله عليه وسلم ضحى مع قوله: «خذوا عني مناسككم (¬4) » . ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن حديث عائشة محمول على الجواز، وحديث ابن عباس محمول على الأفضل. أو أن حديث ابن عباس محمول على غير أهل الأعذار، وحديث عائشة محمول على أهل الأعذار. الوجه الثاني: أن الرخصة لأم سلمة رضي الله عنها أن ترمي في الليل ¬

_ (¬1) [معالم السنن] (2\ 405) . (¬2) [شرح المواهب اللدنية (8\ 188) . (¬3) [روضة الناظر] (2\ 100، 101) . (¬4) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .

عام في النساء فقط، لكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن (¬1) . وقد يفهم تخصيص ذلك بالنساء من تصرف النسائي حيث ترجم هذه الترجمة (الرخصة في ذلك للنساء) وساق حديث عائشة، وذلك بعد روايته لحديث ابن عباس الذي في (النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس) . وقال محمد شمس الحق العظيم أبادي (¬2) : وهذا الحكم مختص بالنساء، فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت؛ لورود الأدلة بخلاف ذلك، لكنه يجوز لمن ذهب معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن، ويجري في هذا الوجه من المناقشة والمقارنة ما جرى في الوجه الذي قبله. الدليل الثاني: عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر «أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي فصلت، ثم قالت: يا بني، هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم حلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ فقلت: نعم، قالت: (فارتحلوا) فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت: يا هنتاه، ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني، إن رسول الله قد أذن للظعن (¬3) » هذا لفظ البخاري، وعن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه قال: إن مولاة أسماء بنت أبي بكر أخبرته قالت: «جئنا ¬

_ (¬1) [الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير] للسياغي (3\ 53) . (¬2) [عون المعبود] (2\ 139) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) .

مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما منى بغلس، قالت: فقلت لها: لقد جئنا منى بغلس، فقالت: (كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك (¬1) » أخرجه مالك في [الموطأ] والنسائي في [السنن] . وأخرج أبو داود: قال عطاء: أخبرني مخبر «عن أسماء: أنها رمت الجمرة قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: (إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) » وقول أسماء رضي الله عنها: (كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك) و (كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) له حكم الرفع، كما هو مقرر في علم أصول الحديث (¬3) . وجه الدلالة (¬4) : في هذا الحديث دليل على أنه يجوز للنساء الرمي لجمرة العقبة في النصف الأخير من الليل (¬5) ، وحد القبلية: نصف الليل بشهادة العرف وظاهره، سواء كان ثمة عذر أم لا، ولذلك قالت أسماء: كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطاب المواجهة يعم كما سبق، وقد سبق في رواية البخاري (قد أذن للظعن) . وقد رد هذا الوجه: بأن أسماء إنما رمت بعد طلوع الفجر فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز رميها قبل طلوع الفجر. قال ابن القيم (¬6) : ليس في هذا - يعني: حديث أسماء - دليل على جواز رميها - أي: جمرة العقبة - بعد نصف الليل، فإن القمر يتأخر في الليلة ¬

_ (¬1) موطأ مالك كتاب الحج (889) . (¬2) سنن أبو داود المناسك (1943) . (¬3) [شرح ألفية العراقي] (1\ 128) . (¬4) [عون المعبود] (2\ 139) . (¬5) [الروض النضير] (3\ 53) . (¬6) [تهذيب السنن] (2\ 406) .

العاشرة إلى قبيل الفجر، وقد ذهبت أسماء بعد غيابه من مزدلفة إلى منى فلعلها وصلت مع الفجر أو بعده فهي واقعة عليه، ومع هذا فهي رخصة للظعن، وإن دلت على تقدم الرمي فإنما تدل على الرمي بعد طلوع الفجر. انتهى. وقال الطحاوي (¬1) متعقبا الاستدلال بحديث أسماء على جواز الرمي بعد نصف الليل قال: فقد يحتمل - أي: قول مولى أسماء لها: قد غلسنا - أن يكون أراد التغليس في الدفع من مزدلفة، ويجوز أن يكون أراد التغليس في الرمي، فأخبرته أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أذن لهم في التغليس لما سألها عن التغليس به من ذلك، وقال بعد ذلك في (باب رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر) قد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب حديث - أسماء أنها رمت ثم رجعت إلى منزلها فصلت الفجر، فقلت لها: قد غلسنا، فقالت: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للظعن) فأخبرت: أن ما قد كان رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك للظعن هو الإفاضة من المزدلفة في وقت ما يصيرون إلى منى في حال مآلهم أن يصلوا صلاة الصبح. انتهى. وتعقبه أيضا ابن كثير (¬2) فقال: إن كانت أسماء بنت الصديق رمت الجمار قبل طلوع الشمس كما ذكر هاهنا عن توقيف فروايتها مقدمة على رواية ابن عباس؛ لأن إسناد حديثها أصح من إسناد حديثه، اللهم إلا أن يقال: إن الغلمان أخف حالا من النساء وأنشط؛ فلهذا أمر الغلمان بألا ¬

_ (¬1) [شرح معاني الآثار] (2\ 216 - 218) . (¬2) [البداية والنهاية] (5\ 182) .

يرموا قبل طلوع الشمس، وأذن للظعن في الرمي قبل طلوع الشمس؛ لأنهم أثقل حالا وأبلغ في التستر، وإن كانت أسماء لم تفعله عن توقيف فحديث ابن عباس مقدم على فعلها، لكن يقوي الأول قول أبي داود. . . «عن أسماء أنها رمت الجمرة بليل قلت: إنا رمينا الجمرة بليل، قالت: (إنا كنا نصنع هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) » انتهى كلام ابن كثير. والغلس: - محركة- ظلمة آخر الليل (¬2) ، والليل والليلات من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق أو الشمس (¬3) . انتهى. وإذا كان رميها قد وقع قبل الفجر فتجري فيه المناقشة والمقارنة التي مضت في الجواب عن الاعتراض الثاني على حديث أم سلمة من جهة دلالته. الدليل الثالث: القياس، ونصه: ولأنه وقت للدفع من مزدلفة وكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس (¬4) . ويجاب عن (¬5) هذا: بأن أوقات المناسك لا تعرف قياسا. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود المناسك (1943) . (¬2) [القاموس المحيط] (2\ 232) . (¬3) [القاموس المحيط] (4\ 48) . (¬4) [المغني] لابن قدامة (3\ 449) . (¬5) [بدائع الصنائع] (2\ 138) .

القول الثاني لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها

القول الثاني: لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر، ومن رماها قبل طلوع الفجر أعادها. وقال القرطبي (¬1) : قال الإمام مالك: لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل طلوع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\ 5) .

الفجر أعادها. انتهى كلام القرطبي. وكذلك قال بالمنع أبو حنيفة وأصحابه (¬1) . واستدل لهذا القول بالأدلة الآتية: الدليل الأول: عن كريب عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأمر نساءه وثقله من صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسواد، وأن لا يرموا الجمرة إلا مصبحين» أخرجه البيهقي في [السنن الكبرى] والطحاوي في [شرح معاني الآثار] . وعن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في الثقل وقال: «لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا (¬2) » أخرجه الطحاوي في [شرح معاني الآثار] . وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن رمي جمرة العقبة إذا قدموا منى حتى يصبحوا (¬3) ، إذ المعنى: حتى تدخلوا في الصباح وهو يحصل بأول الفجر، ورد (¬4) هذا الاستدلال بأن اللفظ مطلق يدل على فرد شائع مما يحتمله اللفظ، ومن جملة ما تصح إرادته الوقت الذي بعد طلوع الشمس لدخوله في مطلق الإصباح فيكون مجملا، وقد بين بفعله صلى الله عليه وسلم حيث رماها ضحى، فكان هو المراد، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى تطلع الشمس (¬5) » لعدم التفاوت بين طلوعها ووقت الضحى الذي هو انبساطها وإشراق نورها إذ فيه تحقيق للبعدية. انتهى. ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2\ 137) ، و [المغني والشرح] (3\ 449) . (¬2) سنن الترمذي الحج (893) ، سنن أبو داود المناسك (1941) . (¬3) [الروض النضير] (3\ 53) . (¬4) [الروض النضير] (3\ 54) . (¬5) سنن الترمذي الحج (893) ، سنن أبو داود المناسك (1941) .

الدليل الثاني: وأما قول مالك رحمه الله: (لم يبلغنا) يعارض بما سبق في حديث أم سلمة وأسماء. القياس، وهو (¬1) : أن النصف الآخر من الليل وقت الوقوف فلم يكن وقتا للرمي كالنصف الأول. ويجاب عنه: بأن (¬2) أوقات المناسك لا تعرف قياسا. ¬

_ (¬1) [المنتقى] للباجي (2\22) (¬2) [بدائع الصنائع] (2\ 138)

القول الثالث أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس

القول الثالث: أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس، وهو قول النخعي والثوري (¬1) ، واختيار ابن القيم (¬2) . واستدل لهذا القول بأدلة: الدليل الأول: عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابرا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (¬3) » رواه مسلم. وجه الدلالة: قال النووي (¬4) : وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا مناسككم (¬5) » فهذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته، وهي. مناسككم، فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس، وهذا الحديث ¬

_ (¬1) [المغني والشرح] (3\ 449) (¬2) زاد المعاد (1\ 471) (¬3) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) . (¬4) [شرح النووي على صحيح مسلم] (9\ 43) (¬5) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .

أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أصلي (¬1) » انتهى. الدليل الثاني: عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله بغلس، ويأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس (¬2) » . رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي (¬3) والنووي (¬4) وابن القيم (¬5) . ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، وقد مضى إيراد ابن القيم على هذا الحديث ودفعه ومناقشته لحديث أم سلمة وأسماء. الدليل الثالث: حديث أسماء المتفق عليه، وقد سبق، قال فيه: قالت: (يا بني هل غاب القمر؟) قلت: نعم، قالت: (فارتحلوا) فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا قالت: «يا بني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن (¬6) » اهـ. وجه الدلالة: هذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس، بل بغلس وهو بقية الظلام. وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك للظعن، ومفهومه: أنه لم يأذن للذكور الأقوياء (¬7) انتهى. وقد مضت مناقشة هذا الدليل عند الاستدلال به للمذهب الأول. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7246) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) . (¬2) سنن الترمذي الحج (893) ، سنن أبو داود المناسك (1941) ، سنن ابن ماجه المناسك (3025) . (¬3) [جامع الترمذي مع التحفة] (2\ 103) (¬4) [المجموع شرح المهذب] (8\ 180) (¬5) [زاد المعاد] (1\ 471) (¬6) صحيح البخاري الحج (1679) ، صحيح مسلم الحج (1291) ، مسند أحمد بن حنبل (6/347) . (¬7) [أضواء البيان] (5\ 279)

الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه، وفيه: أنه كان يقدم ضعفة أهله وأن منهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (رخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وجه الدلالة (¬1) : حديث ابن عمر هذا المتفق عليه يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس، كما ترى ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك. وقد جمع ابن القيم بين أدلة هذا الباب فقال (¬2) : لا تعارض بين هذه الأحاديث فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء فرمين قبل طلوع الشمس للعذر والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم، وهذا الذي دلت عليه السنة جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر بمرض أو كبر يشق معه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك. انتهى. وبعد سرده للمذاهب في هذه المسألة قال (¬3) : والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر؛ لا نصف الليل، وليس مع من حده بالنصف دليل. وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬4) : الذي يقتضي الدليل رجحانه ¬

_ (¬1) [أضواء البيان] (5\ 279) . (¬2) [زاد المعاد] (1\ 471) . (¬3) [زاد المعاد] (1\ 472) . (¬4) [أضواء البيان] (5\ 280) .

في هذه المسألة: أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس؛ لحديث أسماء وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك، وأما رميهم - أعني: الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر- فهو محل نظر فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن يقتضي منعه. والقاعدة المقررة في علم الأصول هي: أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين وقت فضيلة ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة وحديث عائشة على وقت الجواز، وله وجه من النظر. أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس؛ لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور. انتهى المقصود.

المسألة الثانية حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر

المسألة الثانية: حكم رمي جمرة العقبة ليلة النفر في هذه المسألة مذهبان: المذهب الأول: إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فإنه يرميها. قال الطحاوي: وقال أبو حنيفة: إن ترك رجل رمي جمرة العقبة في يوم

النحر ثم رماها في الليلة التي بعدها فلا شيء عليه وإن لم يرمها حتى أصبح من غده رماها وعليه دم لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ (¬1) . انتهى. وقال الكاساني: فإن لم يرم حتى غربت الشمس فيرمي قبل طلوع الفجر من اليوم الثاني أجزأ، ولا شيء عليه في قول أصحابنا (¬2) . انتهى. هذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وأما مذهب مالك فقد جاء في [المدونة] ، (¬3) هذا النص: ما قول مالك فيمن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر حتى الليل؟ قال مالك: من أصابه مثل ما أصاب صفية حين احتبست على ابنة أخيها، فأتت بعد ما غابت الشمس فرمت، ولم يبلغنا أن ابن عمر أمرهما في ذلك بشيء. . . قال مالك: وأما أنا فأرى على من كان في مثل حال صفية ولم يرم حتى غابت الشمس أن عليه الدم. . . قال مالك: من ترك رمي جمرة العقبة حتى تغيب الشمس فعليه دم. قلت: أرأيت إن ترك بعض رمي جمرة العقبة من يوم النحر ترك حصاة أو حصاتين حتى غابت الشمس؟ قال: قال مالك: يرمي ما ترك من رميه ولا يستأنف جميع الرمي ولكن يرمي ما نسي من عدد الحصا، قلت: فهل عليه دم؟ قال ابن القاسم: قد اختلف قوله في هذا وأحب إلي أن يكون عليه دم. ¬

_ (¬1) [شرح معاني الآثار] ، (1\ 415) . (¬2) [بدائع الصنائع] (2\ 137) . (¬3) [المدونة] (1\ 323) .

قلت: فيرمي ليلا في قول مالك هذا الذي ترك من رمي جمرة العقبة شيئا أو ترك الجمرة كلها؟ قال: نعم، يرميها في قول مالك ليلا، قلت فيكون عليه الدم؟ قال: كان مالك مرة يرى ذلك عليه ومرة لا يرى ذلك عليه. انتهى. وأما المذهب الشافعي: فقد نص الشافعي (¬1) على أنه يرمي ليلا ولا شيء عليه، وقال النووي (¬2) : لو ترك رمي جمرة العقبة فالأصح أنه يتداركه في الليل وفي أيام التشريق ويشترط فيه الترتيب فيقدمه على أيام التشريق، ويكون أداء على الأصح، وإذا قلنا بالأصح: إن المتدارك أداء لا قضاء كان تعجيل كل يوم للمقدار المأمور به وقت اختيار وفضيلة كأوقات الاختيار للصلاة. انتهى. هذا ما تيسر تفصيله للمذاهب الثلاثة، فهم متفقون على رميها، لكن هل هو قضاء أو أداء، وهل فيه دم أو لا شيء فيه؟ بينهم خلاف كما سبق. واستدل لقولهم بجواز رميها بعد غروب الشمس بأدلة: الدليل الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: "لا حرج"، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح ولا حرج " فقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: " لا حرج (¬3) » رواه البخاري. وقد بسط الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬4) الكلام على هذا الدليل ¬

_ (¬1) [الأم] للشافعي (2\ 181) (¬2) [الإيضاح] ص406 (¬3) صحيح البخاري الحج (1735) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) . (¬4) [أضواء البيان] (5\ 281- 285) .

فنسوق المقصود من كلامه: فقالوا: قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعدما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل. ورد هذا الاستدلال بأن مراد السائل بقوله: (بعدما أمسيت) يعني به: بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل. قالوا: والدليل الواضح على ذلك أن حديث ابن عباس المذكور (كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى) الحديث. فتصريحه بقوله (يوم النحر) يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار؛ لأن الإمساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل. قال ابن حجر في [فتح الباري] في شرح الحديث المذكور، قال: (رميت بعدما أمسيت) أي: بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام فلم يتعين؛ لكون الرمي المذكور كان بالليل. انتهى. وقال ابن منظور في [لسان العرب] : المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم: إلى نصف الليل. قالوا: فالحديث صريح في أن المراد بالمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا. وأجاب القائلون بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة: الأول: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «"لا حرج (¬1) » بعد قول السائل: (رميت بعدما أمسيت) ، يشمل لفظه نفي الحرج عمن رمى بعدما أمسى، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1721) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) .

ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار. الثاني: أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور ما هو أعم من يوم النحر وهو صادق قطعا بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيه لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق: (رميت بعدما أمسيت) لا ينصرف إلا إلى الليل؛ لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي. قال أبو عبد الرحمن النسائي في [سننه] : أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد- هو: ابن زريق- قال: حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول: "لا حرج "، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "لا حرج "، فقال رجل: رميت بعدما أمسيت؟ قال: "لا حرج (¬1) » وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى؛ لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن بزيع، وهو ثقة معروف، وهو من رجال مسلم في [صحيحه] ، وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا، وقوله في هذا الحديث الصحيح: (أيام منى) بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل. . . فإن قيل: صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري، فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصيصه به، ويؤيد ذلك أن في رواية أبي داود وابن ماجه؛ لحديث ابن عباس المذكور يوم منى بالإفراد. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1735) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) .

فالجواب: أن المقرر في الأصول: أن ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور (¬1) ، سواء كان العام وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين. وللمخالفين القائلين: لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا: رواية النسائي العامة في أيام منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول: «"لا حرج (¬2) » وأنه «سأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: "لا حرج (¬3) » ولم يعين اليوم الذي قال فيه: رميت بعدما أمسيت؟ وعموم أيام منى صادق بيوم النحر، وقد بينت رواية البخاري: أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر أيام منى، ولا ينافي ذلك أنه قال: «"لا حرج (¬4) » في أشياء أخر في بقية أيام منى، وغاية ذلك أن أيام منى عام، ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه: (رميت بعدما أمسيت) . الثالث: هو ما قدمناه في [الموطأ] عن ابن عمر من أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلا جائز. انتهى. وقد يقال: إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر؛ لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها (¬5) . انتهى المقصود. الدليل الثاني: عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن ابنة أخ لصفية بنت أبي ¬

_ (¬1) يريد بذلك. أنه لا يخصصه إذا كان متفقا معه في حكمه. (¬2) صحيح البخاري الحج (1721) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1735) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) . (¬4) صحيح البخاري الحج (1721) ، صحيح مسلم الحج (1307) ، سنن النسائي مناسك الحج (3067) ، سنن أبو داود المناسك (1983) ، سنن ابن ماجه المناسك (3050) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) . (¬5) [أضواء البيان] (5\ 285- 288) .

عبيد نفست بالمزدلفة فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر فأمرها عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئا. رواه مالك في [الموطأ] ، وابن أبي شيبة في [المصنف] وقد سبق بيان وجه الاستدلال منه. الدليل الثالث: عن ابن جريج عن عمرو قال: أخبرني من رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ترمي غربت أو لم تغرب، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في [المصنف] . الدليل الرابع: ما رواه الثوري عن رجل عن نافع، قال: قال ابن عمر: (إذا نسيت رمي الجمرة يوم النحر إلى الليل فارمها بالليل، وإذا كان من الغد فنسيت الجمار حتى الليل فلا ترمي حتى يكون من الغد عند زوال الشمس ارم الأول فالأول) ، ورواه عبيد الله عن نافع عن عمر مختصرا بلفظ: «من نسي أيام الجمار وقال: رمي الجمار إلى الليل فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد» رواه البيهقي في [السنن الكبرى] . الدليل الخامس: عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراعي يرمي بالليل ويرمى بالنهار» رواه البيهقي في [السنن] والطحاوي في [شرح معاني الآثار] (¬1) ، وأورد على هذا الاستدلال بأنه رخص لهم للعذر. وأجيب (¬2) : بأنه ما كان لهم عذر؛ لأنه كان يمكن أن يستنيب بعضهم ¬

_ (¬1) [المنتقى] (3\ 51) . (¬2) [بدائع الصنائع] (2\ 137) .

بعضا فيأتي بالنهار فيرمي، فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر فيدل على الجواز مطلقا.

المذهب الثاني إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال

المذهب الثاني: إذا غربت الشمس من يوم النحر وهو لم يرم جمرة العقبة فلا يرميها إلا من الغد بعد الزوال، وهذا مذهب أحمد والرواية الثانية عن الشافعي. واستدل لهذا: بأن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد) وقد سبق أنه رواه البيهقي، وهذا الأثر معارض بما تقدم ذكره عن ابن عمر، ففيه فرق بين رمي جمرة العقبة يوم النحر، ورمي غيرها، وهو الدليل الرابع من أدلة القائلين بجواز رميها في ليلة القدر.

المسألة الثالثة حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة

المسألة الثالثة: حكم تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة: وفيه مذاهب: المذهب الأولى: لا يجوز تقديم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق الثلاثة، ومن رمى قبل الزوال أعاده، وممن ذهب إلى هذا مالك (¬1) ، والشافعي (¬2) ، وهو الصحيح من مذهب أحمد (¬3) . ويستدل لهذا المذهب بما يأتي: الدليل الأول: ما جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر من حديث جابر ¬

_ (¬1) [المدونة] (2\ 183) (¬2) [الأم] (2\ 180) (¬3) [المغني والشرح] (3\ 476) ، و [الإنصاف] (4\ 45)

رضي الله عنه «لتأخذوا عني مناسككم (¬1) » . وقد مضى بيان معنى هذه الجملة وهو وجه الاستدلال من الحديث بصفة عامة، وأن هذه اللام لام الأمر، وقد (¬2) جاء في بعض الروايات التصريح بالأمر، وكونه صلى الله عليه وسلم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس في هذه الأيام الثلاثة. هذا بيان لوقت بدء الرمي، وهذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم «لتأخذوا عني مناسككم (¬3) » وقد تقرر في علم الأصول: أن البيان تابع للمبين في الحكم، والحكم هنا هو الأمر، والأمر في الأصل يقتضي الوجوب إلا بقرينة تصرفه عنه، فيكون الرمي بعد الزوال واجبا، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فلا يجوز الرمي قبل الزوال. ومن الأدلة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرم في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال: ما رواه جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال (¬4) » رواه مسلم في الصحيح، ورواه الترمذي والنسائي وأبو داود، وقال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن صحيح، وأخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم. قال ابن حجر (¬5) : وقد وصله مسلم وابن خزيمة وابن حبان من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر. اهـ. وفي حديث عائشة رضي الله عنها «ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات (¬6) » الحديث رواه أحمد في [المسند] ، وأبو داود والبيهقي في [السنن الكبرى] ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) . (¬2) [فتح الباري] (3\ 579) (¬3) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) . (¬4) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، سنن الدارمي المناسك (1896) . (¬5) [فتح الباري] (3\579) (¬6) سنن أبو داود المناسك (1973) ، مسند أحمد بن حنبل (6/90) .

والحاكم في [المستدرك] ، وابن حبان في [صحيحه] . الدليل الثاني: عن وبرة بن عبد الرحمن السلمي قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما: متى أرمي الجمار؟ قال: (إذا رمى إمامك) فأعدت عليه المسألة قال: (كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا) أخرجه البخاري في [الصحيح] . ورواية مالك في [الموطأ] عن ابن عمر رضي الله عنهما: لا ترمى الجمار حتى تزول الشمس. وجه الاستدلال قال ابن الأثير (¬1) : (نتحين) تحينت الوقت، أي: طلبت الحين وهو الوقت. وقال ابن حجر (¬2) : فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) [جامع الأصول] (3\ 278) . (¬2) [الفتح] (3\ 580)

المذهب الثاني يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا

المذهب الثاني: يجوز رمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة قبل الزوال مطلقا: ونسب ابن حجر (¬1) والعيني (¬2) هذا المذهب إلى عطاء وطاوس، ولكن بالنسبة لعطاء قد ورد عنه ما يدل على خلاف هذا المذهب المنسوب إليه، فقد روى الحاكم في [المستدرك] بسنده عن ابن جريج عن عطاء: أنه قال: (لا أرمي حتى تزيغ الشمس: إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر قبل الزوال، فأما بعد ذلك فعند الزوال (¬3) » قال الحاكم بعد سياق سنده ومتنه: هذا صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في تلخيصه. ¬

_ (¬1) [الفتح] (3\ 580) (¬2) [عمدة القاري] (10\ 86) (¬3) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، سنن الدارمي المناسك (1896) .

المذهب الثالث مذهب أبي حنيفة وفيه تفصيل

المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة، وفيه تفصيل، هذا بيانه مع المستند، وجوابه عن أدلة الجمهور. قال الكاساني (¬1) : وأما وقت الرمي من اليوم الأول والثاني من أيام التشريق، وهو اليوم الثاني والثالث من أيام الرمي- فبعد الزوال حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة: أن الأفضل أن يرمي في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، فإن رمى قبله جاز. ووجه هذه الرواية: أن قبل الزوال وقت الرمي في يوم النحر، فكذا في اليوم الثاني والثالث " لأن الكل أيام النحر. وجه الرواية المشهورة: ما روي عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رمى الجمرة يوم النحر ضحى ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، (¬2) » وهذا باب لا يعرف بالقياس، بل بالتوقيف. وأما وقت الرمي في اليوم الثالث من أيام التشريق- وهو اليوم الرابع من أيام الرمي- فالوقت المستحب له بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال يجوز في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا يجوز، واحتجا بما روي عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم «رمى الجمرة يوم النحر ضحى، ورمى في بقية الأيام بعد الزوال، (¬3) » وأوقات المناسك لا تعرف قياسا، فدل أن وقته بعد الزوال، ولأن هذا يوم من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه بعد الزوال كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق. ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2\ 136، 137) (¬2) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، سنن الدارمي المناسك (1896) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1299) ، سنن الترمذي الحج (894) ، سنن النسائي مناسك الحج (3063) ، سنن أبو داود المناسك (1971) ، سنن ابن ماجه المناسك (3053) ، سنن الدارمي المناسك (1896) .

ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال (إذا انتفخ النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي) ، والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو باب لا يدرك بالرأي والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا الحديث، أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب، ولأن له أن ينفر قبل الرمي، ويترك الرمي في هذا اليوم رأسا، فإذا جاز له ترك الرمي أصلا فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى. انتهى. قال الزيلعي (¬1) : ورواية البيهقي عن ابن عباس (إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر) انتهى في [مسند طلحة بن عمر] وضعفه البيهقي، قال: والانتفاخ: الارتفاع. انتهى. وقال ابن منظور (¬2) : وانتفخ النهار علا قبل الانتصاف بساعة. وقال البابرتي (¬3) : قوله في المشهور من الرواية احتراز عما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه إن كان من قصده أن يتعجل في النفر الأول- فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن رمى بعده فهو أفضل، وإن لم يكن ذلك من قصده فلا يجوز أن يرمي إلا بعد الزوال، وذلك لدفع الحرج؛ لأنه إذا نفر بعد الزوال لا يصل إلى مكة إلا بالليل فيحرج في تحصيل موضع المنزل. ¬

_ (¬1) [نصب الراية] (3\85) (¬2) [لسان العرب] (4\ 31) (¬3) [العناية على الهداية] (2\ 185)

وقال ابن الهمام (¬1) : وقوله في المشهور من الرواية احتراز عما روي عن أبي حنيفة رحمه الله: قال: أحب إلي ألا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، فإن رمى قبل ذلك أجزأه. وحمل المروي من قوله عليه السلام على اختيار الأفضل، وجه الظاهر: ما قدمناه من وجوب اتباع المنقول؛ لعدم المعقولية، ولم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك لينفتح باب التخفيف بالتقديم وهذه الزيادة يحتاج إليها أبو حنيفة وحده. انتهى. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطى (¬2) : بعد سياقه للأدلة الدالة على أنه لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال في أيام التشريق، قال: وبهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وقول إسحاق: إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه - كل ذلك خلاف التحقيق؛ لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك خالف في الترخيص أبا حنيفة صاحباه محمد وأبو يوسف، ولم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك، فالقول بالرمي قبل الزوال في أيام التشريق لا مستند له البتة، مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لأحد أن يفعله. ¬

_ (¬1) [فتح القدير] (2\ 185) (¬2) [أضواء البيان] (5\ 295)

المسألة الرابعة حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها

المسألة الرابعة: حكم رمي الجمار في ليلتي اليوم الثاني عشر والثالث عشر عن اليوم الذي قبلها: في هذه المسألة مذهبان: المذهب الأول: الجواز. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية. أما الحنفية: فقال السندي (¬1) : (ولو لم يرم يوم النحر) أي: اليوم الأول أو (الثاني أو الثالث رماه في الليلة المقبلة) أي: الآتية لكل من الأيام الماضية (ولا شيء عليه سوى الإساءة) أي: لتركه السنة (إن لم يكن عذر) أي: ضرورة (ولو رمى ليلة الحادي عشر أو غيرها من غدها) أي: من أيامها المقبلة لم يصح؛ لأن الليالي (في الحج) أي: في حقه (في حكم الأيام الماضية لا المستقبلة) أي: فيجوز رمي اليوم الثاني من أيام النحر ليلة الثالث، ولا يجوز فيها رمي اليوم الثالث، كما أن الوقوف جائز في ليلة العاشر، ولا يجوز فيها من أفعال ذلك اليوم من الوقوف بمزدلفة والرمي ونحوهما (ولو لم يرم في الليل) أي: من ليالي أيامها الماضية أداء (رماه في النهار) أي: في نهار الأيام التالية على التأليف (قضاء) أي: اتفاقا (وعليه الكفارة) الدم عند الإمام ولا شيء عليه عندهما. انتهى. وأما المالكية: ففي [المدونة] (¬2) قلت: فإن ترك رمي جمرة من الجمار في اليوم الذي بعد يوم النحر ما عليه في قول مالك؟ قال: قد اختلف قول مالك: مرة يقول: من نسي رمي الجمار حتى تغيب الشمس فليرم ولا شيء ¬

_ (¬1) [لباب المناسك وشرحه المسلك في المنسك المتوسط] ص 161. (¬2) [المدونة] (1\ 323)

عليه، ومرة قال: ليرم وعليه دم، قال: وأحب إلي أن يكون عليه الدم، قلت: وكذلك اليوم الذي بعده؟ قال: نعم. انتهى. وفي [الموطأ] (¬1) : قال يحيى: سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي؟ قال: ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار، كما يصلي الصلاة إذا نسيها ثم ذكرها ليلا أو نهارا. انتهى المقصود. وفي [مختصر خليل وشرحه] للدردير (¬2) : (والليل) عقب كل يوم (قضاء) لذلك اليوم الذي يجب فيه الدم. وقال الباجي (¬3) بعد سياقه للدليل الدال على مشروعية الرمي بعد الزوال وكلامه عليه- قال: إذا ثبت ذلك فإن أول أداء الرمي لكل يوم من أيام التشريق زوال الشمس منه وآخره غروب الشمس، ووقت القضاء: من غروب الشمس إلى بقية أيام التشريق، الليل والنهار سواء في القضاء، يبين ذلك ما روي عن مالك في رمي رعاء الإبل الجمار أنهم لا يرمون اليوم الذي يلي يوم النحر إلا في اليوم الذي بعده " لأنه لا يقضي شيء حتى يجب، فإذا وجب ومضى كان القضاء بعد ذلك. وأما الشافعية: فقال النووي (¬4) : إذا ترك شيئا من الرمي نهارا فالأصح أنه يتدراكه ليلا أو فيما بقي من أيام التشريق سواء تركه عمدا أو سهوا، وإذا تداركه فيها فالأصح أنه أداء لا قضاء. انتهى المقصود. ¬

_ (¬1) [الموطأ مع المنتقى] (3\ 53) . (¬2) [مختصر خليل وشرحه] للدردير (2\ 48) . (¬3) [المنتقى] (3\ 51) . (¬4) [الإيضاح] ، ص 406.

وقال الرملي (¬1) : وإذا ترك رمي يوم أو يومين من أيام التشريق عمدا أو سهوا أو جهلا تداركه في باقي الأيام منها في الأظهر بالنص في الرعاء وأهل السقايا وبالقياس في غيرهم، إذ لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي لم يفترق الحال فيها بين المعذور وغيره، كما في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والمتدارك أداء كما مر، ولو تدارك قبل الزوال أو ليلا أجزأه، كما جزم به في الأول في أصل [الروضة] و [المجموع] و [المناسك] واقتضاه نص الشافعي رحمه الله، وبالثاني لابن الصباغ في [شامله] وابن الصلاح والمصنف في [مناسكهما] ، وإن جزم ابن المقري تبعا لجمع بخلافه فيهما إذ جملة أيام الرمي كوقت واحد وكل يوم لرميه وقت اختيار، لكن لا يجوز تقديم رمي كل يوم عن زوال شمسه كما مر. انتهى. الأدلة: قد بنى الحنفية مذهبهم على الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا، وعندهم أنه ليس خاصا بهم، بل هو عام، كما سيأتي في الكلام على أدلة الرخصة للرعاة، وهي المسألة الخامسة. وبنوه أيضا على أن الليلة في حكم اليوم الذي قبلها في الحج كما سبق عن السندي. وأما المالكية: فأما مالك فإنه يقوله في الناسي فقط، حسبما اطلعنا عليه. وقد بناه قياسا على من نسي صلاة أخذا من حديث: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها (¬2) » الحديث. ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (2\315) (¬2) سنن الترمذي الصلاة (177) ، سنن النسائي المواقيت (615) ، سنن ابن ماجه الصلاة (698) .

وأما الباجي ومن وافقه: فقد استدل بحديث الرعاء، وسيأتي في كلام الباجي مع بيان وجه الاستدلال به عند الكلام على أدلة الرخصة للرعاة أن يرموا ليلا. وأما الشافعية: فإنهم يقولون به بالنص للرعاء وأهل السقاية، وبالقياس في غيرهم، وسيأتي الكلام على أحاديث الرخصة للرعاء ومناقشتها. وأما أهل السقاية: فإن الرخصة التي وردت في حقهم هي الرخصة في المبيت لا الرخصة في الرمي هذا حسبما وقفنا عليه، وفي حالة عدم ثبوت دليل يدل على الرخصة لهم في الرمي فلا يصح القياس عليهم، وقد مضت مناقشة الاستدلال بالقياس في العبادات، ويمكن أن يستدل للقول بجواز الرمي ليلا عن اليوم الذي قبله- برواية النسائي التي سبقت، وقد جاء فيها: كان يسأل أيام منى، فسأله رجل فقال: رميت بعدما أمسيت؟ قال: «ارم ولا حرج (¬1) » ، وقد مضى الكلام على هذا الدليل. المذهب الثاني: ومن غربت عليه الشمس في اليوم الحادي عشر والثاني عشر من أيام التشريق وهو لم يرم الجمار لذلك اليوم فإنه يرميها من الغد بعد الزوال. وهذا مذهب أحمد ومن وافقه، واستدل به (¬2) ابن قدامة في [المغني] بقول ابن عمر رضي الله عنهما: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد. وقد مضى هذا الأثر. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العلم (83) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، مسند أحمد بن حنبل (2/217) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) . (¬2) كذا بالأصل، ولعلها: (واستدل له) . الناشر.

قال المرداوي (¬1) : وقال ابن عقيل: نصه للرعاة خاصة الرمي ليلا، نقله ابن منصور. انتهى. ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (4\ 37)

المسألة الخامسة أدلة الترخيص للرعاة في الرمي

المسألة الخامسة: أدلة الترخيص للرعاة في الرمي: عن عاصم بن عدي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر (¬1) » ، هذا لفظ [الموطأ] . قال مالك: (تفسير ذلك فيما نرى- والله أعلم- أنهم يرمون يوم النحر، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول، ويرمون لليوم الذي مضى، ثم يرمون ليومهم ذلك " لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك، فإن بدا لهم في النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ونفروا) وأخرجه في [الموطأ] . قال الباجي (¬2) : قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى يقتضي أن هناك منعا خاصا هذا منه؛ لأن لفظة: رخصة لا تستعمل إلا فيما يخص من المحظور للعذر، وذلك أن للرعاء عذرا في الكون مع الظهر الذي لا بد من مراعاته والرعي به للحاجة إلى الظهر في الانصراف إلى بعيد البلاد، وقد قال تعالى: ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (955) ، سنن النسائي مناسك الحج (3069) ، سنن أبو داود المناسك (1975) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) . (¬2) [المنتقى] (3\ 51)

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} (¬1) فأبيح لهم ذلك لهذا المعنى. انتهى. قال الكاساني (¬2) : ولا يقال: إنه رخص لهم ذلك لعذر، لأنا نقول ما كان لهم عذر؛ لأنه كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي بالنهار فيرمي، فثبت أن الإباحة كانت لغير عذر، فيدل على الجواز مطلقا، فلا يجب الدم. انتهى المقصود. وقال الباجي (¬3) : وقوله: يرمون يوم النحر: أخبر أن رميهم يوم النحر لا يتعلق به رخصة ولا يغير عن وقته ولا إضافة إلى غيره، ثم يرمون الغد يريد أنه يرمي لليومين، فقال: يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، فذكر الأيام التي يرمي لها وهي الغد من يوم النحر وبعد الغد، وهما أول أيام التشريق وثانيهما، ولم يذكر وقت الرمي، وإنما يرمي لهما في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال؛ ولذلك جمع بينهما في اللفظ، فقال: ليومين، وقد فسر ذلك مالك على ما تقدم ذكره، وفي رواية الترمذي قال: أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما. قال: قال مالك: ظننت أنه قال في الأول منهما ثم يرمون يوم النفر، وفي أخرى له ولأبي داود والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما (¬4) » . ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 7 (¬2) [بدائع الصنائع] (2\ 137) . (¬3) [المنتقى] (3\ 51) . (¬4) سنن الترمذي الحج (954) ، سنن أبو داود المناسك (1976) ، سنن ابن ماجه المناسك (3036) ، مسند أحمد بن حنبل (5/450) .

وفي أخرى للنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر، واليومين اللذين بعده يجمعونه في أحدهما (¬1) » . قال ابن الأثير (¬2) : إسناد هذا الحديث في [الموطأ] عن أبي البداح عاصم بن عدي عن أبيه، وفي نسخة أخرى عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه. وفي الترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، وقال: وقد روى مالك بن أنس عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه، قال الترمذي: ورواية مالك أصح. وأخرجه أبو داود عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه، وأخرجه هو أيضا، والترمذي عن أبي البداح بن عدي عن أبيه الرواية الثانية. وأخرج النسائي مرة عن أبي البداح بن عدي عن أبيه، ومرة عن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه. قال صاحب [التحفة] (¬3) عند الكلام على رواية الترمذي (رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما) قال: يعني: يجوز لهم أن يرموا اليوم الأول من أيام التشريق، ويذهبوا إلى إبلهم فيبيتوا عندها، ويدعوا يوم النفر الأول، ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع رميهم لليوم الثالث، وفيه تفسير ثان: وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون، ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (955) ، سنن النسائي مناسك الحج (3069) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) . (¬2) [جامع الأصول] (3\ 281، 282) . (¬3) [تحفة الأحوذي شرح الترمذي] (2\ 121) .

فاتهم، ثم يرمون عن ذلك اليوم، كما تقدم، وكلاهما جائز. كذا في النيل. وقال صاحب [عون المعبود] (¬1) عند الكلام على رواية أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد بيومين ويرمون يوم النفر (¬2) » قال: فظاهر الحديث أنهم يرمون بعد يوم النحر، وهو اليوم الحادي عشر لذلك اليوم، ولليوم الآتي وهو الثاني عشر ويجمعون بين رمي يومين بتقديم الرمي على يومه، وفي الترمذي والنسائي وغيرهما من هذا الوجه بلفظ: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرموه في أحدهما، (¬3) » وهذا الظاهر خلاف ما فسره مالك لهذا الحديث. ويدل لفهم الإمام مالك رواية سفيان الآتية بلفظ: «رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما (¬4) » . قال الخطابي: أراد يوم النفر هاهنا النفر الكبير. انتهى المقصود. قال أيضا (¬5) : وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمى فيه: فقال مالك: يرمون يوم النحر، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد، وذلك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى، ويرمون ليومهم ذلك " وذلك لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه. ¬

_ (¬1) [عون المعبود] (2\ 148) . (¬2) سنن أبو داود المناسك (1975) ، سنن ابن ماجه المناسك (3037) ، موطأ مالك الحج (935) ، سنن الدارمي المناسك (1897) . (¬3) سنن الترمذي الحج (955) ، سنن النسائي مناسك الحج (3069) . (¬4) سنن الترمذي الحج (954) ، سنن أبو داود المناسك (1976) ، سنن ابن ماجه المناسك (3036) ، مسند أحمد بن حنبل (5/450) . (¬5) [عون المعبود] (2\ 148) .

وقال الشافعي نحوا من قول مالك، وقال بعضهم: هم بالخيار؛ إن شاءوا قدموا، وإن شاءوا أخروا. انتهى. وقد وردت أدلة تدل على أن الرعاء يرمون ليلا في ليالي أيام التشريق، فروى مالك في [الموطأ] عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح: أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل يقول: في الزمان الأول. قال الباجي (¬1) : إنما أبيح لهم؛ ذلك؛ لأنه أرفق بهم، وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل؛ لأن الليل وقت لا ترعى فيه الإبل ولا تنتشر، فيرمون في ذلك الوقت. وقال ابن المواز: إن رعوا بالنهار ورموا بالليل فلا بأس به، ويحتمل أيضا: أن يرموا على هذا في كل ليلة لاستغنائهم في ذلك الوقت عن حفظ الإبل على وجه الرعي، ويحتمل إن كان ذلك عليهم مشقة أن يكون رميهم بالليل على حكم رميهم بالنهار من الجمع. وقال الباجي أيضا (¬2) : وقوله: في الزمان الأول يقتضي إطلاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول زمان هذه الشريعة، فعلى هذا هو مرسل. ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء، فيكون موقوفا متصلا. وقال الزرقاني (¬3) على قوله: (يقول: في الزمان الأول) أي: زمن الصحابة وبهم القدوة، وبهذا قال محمد بن المواز، وهو كما قال بعضهم: وفاقا للمذهب؛ لأنه إذا أرخص لهم في تأخير اليوم الثاني فرميهم ¬

_ (¬1) [المنتقى] (3\ 52) . (¬2) [المنتقى] (3\ 52) (¬3) [شرح الزرقاني على الموطأ] (2\ 260) .

بالليل أولى. وقال القرطبي (¬1) بعد سياقه لرواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء المتقدمة وكلام الباجي قال: (قلت: هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرجه الدارقطني وغيره، وقد ذكرناه في [المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس] ) . انتهى المقصود. والحديث الذي أشار إليه القرطبي رواه الدارقطني (¬2) بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأي ساعة من النهار شاءوا (¬3) » . وقد أعل هذا الحديث بما نقله الزيلعي بقوله (¬4) : قال ابن القطان في كتابه: وإبراهيم بن يزيد هذا إن كان هو الخوزي فهو ضعيف، وإن كان غيره فلا يدرى من هو؟ وبكر بن بكار قال فيه ابن معين: ليس بالقوي، ودون بكر بن بكار جعفر بن محمد الشيرازي، لا خالد، قال: وروى البزار هذا الحديث عن ابن عمر بإسناد أحسن من هذا. والحديث الذي أشار إليه ابن القطان: أن البزار رواه قد أخرجه الزيلعي (¬5) فقال: وأما حديث ابن عمر فرواه البزار في [مسنده] . . . (عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص لرعاء الإبل أن يرموا بالليل (¬6) » . وقد أعل هذا الحديث بما نقله الزيلعي بقوله (¬7) : قال ابن القطان: ومسلم بن خالد الزنجي شيخ الشافعي ضعفه قوم، ووثقه آخرون. قال ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\ 5) ط\ دار إحياء التراث العربي. (¬2) [سنن الدارقطني] (2\ 276) (¬3) موطأ مالك الحج (936) . (¬4) [نصب الراية] (3\86) . (¬5) [نصب الراية] (3\86) . (¬6) موطأ مالك الحج (936) . (¬7) [نصب الراية] (3\ 86) .

البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وقال ابن حجر (¬1) : رواه البزار بإسناد حسن والحاكم والبيهقي. انتهى. وذكر الزيلعي (¬2) : أن الطبراني رواه، وذكر الحديث بسند الطبراني. وقال الهيثمي (¬3) : رواه الطبراني في [الكبير] وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك. انتهى. وقال الزيلعي (¬4) : ورواه ابن أبي شيبة في [مسنده] حدثنا محمد بن الصباح عن خالد بن عبد الله عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم. . . إلى آخره، وفيه أن يرموا الجمار، رواه في [مصنفه] : حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا. انتهى. قال ابن حجر (¬5) : وروى ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء مرسلا مثله ووصله في [مسنده] بذكر ابن عباس، لكنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن عطاء، ولم يسمع عبد الرحمن من عطاء، وإنما رواه عن إسحاق بن أبي فروة أحد المتروكين، رواه مسدد والطبراني عن طريقه. انتهى. وإلى هنا انتهى ما يسره الله جل وعلا من الكلام على هذا البحث. ¬

_ (¬1) [تلخيص الحبير] (2\ 263) (¬2) [نصب الراية] (3\ 85، 86) (¬3) [مجمع الزوائد] (3\ 260) (¬4) [نصب الراية] (3\ 86) (¬5) [الدراية في تخريج أحاديث الهداية] (2\28، 29) .

وترى اللجنة أن يضاف إلى هذا البحث ما كتبه سماحة المفتي رحمه الله في رسالته التي سماها [تحذير الناسك مما أحدثه ابن محمود في المناسك] وحيث إن الرخصة للرعاة فرع من فروع قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وأنه قد يتمسك بالمشقة في مناسك الحج ويجري فيها التغيير عما تقتضيه الأدلة الشرعية- فقد رأت اللجنة أن تلحق بهذا البحث خاتمة تشتمل على أصل هذه القاعدة، وأسباب تخفيف المشقة، وأقسام المشقة، وضابط المشقة المؤثرة، وموضع اعتبار الحرج والمشقة، وأنواع تخفيفات الشرع، وموارد هذه القاعدة من الشريعة.

قاعدة المشقة تجلب التيسير

المشقة تجلب التيسير أصل هذه القاعدة الكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) ، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2) وأما السنة: فعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا (¬3) » رواه البخاري ومسلم. قال ابن حجر: وقال النووي: لو اقتصر على "يسروا" لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال: "ولا تعسروا" لنفي التعسير في جميع الأحوال. وأخرجه أحمد في [المسند] من حديث جابر وأبي أمامة رضي الله ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 6 (¬2) سورة البقرة الآية 286 (¬3) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732) ، سنن أبو داود الأدب (4835) ، مسند أحمد بن حنبل (4/412) .

عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بالحنيفية السمحة (¬1) » . وأخرج أحمد في [مسنده] والطبراني والبزار وغيرهما عن ابن عباس قال: «قيل: يا رسول الله، أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: "الحنيفية السمحة (¬2) » ، وروى أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «إن دين الله يسر (¬3) » ثلاثا، وروى أحمد أيضا من حديث الأعرابي بسند صحيح: «خير دينكم أيسره (¬4) » . أسباب التخفيف: ذكر ابن نجيم (¬5) أنها سبعة: وهي: السفر، والإكراه، والنسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى، والنقص، وأمثلتها ظاهرة. أقسام المشقة: قال القرافي (¬6) : المشاق قسمان: أحدهما: لا تنفك عنه العبادة؟ كالوضوء والغسل في البرد، والصوم في النهار الطويل، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، ونحو ذلك، فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة؛ لأنه قرر معها. وثانيهما: المشاق التي تنفك عنها العبادة، وهي ثلاثة أنواع: في الرتبة العليا؛ كالخوف على النفوس والأعضاء والمنافع فيوجب التخفيف؛ لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة، فلو حصلنا هذه العبادة لثوابها لذهب أمثال هذه العبادة. ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (5/266) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (1/236) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (5/69) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (3/479) . (¬5) [لأشباه والنظائر] ص 75- 82. (¬6) [الفروق] (1\ 118، 119) .

ونوع في المرتبة الدنيا: كأدنى وجع في إصبع، فتحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة؛ لشرف العبادة وخفة هذه المشقة. النوع الثالث: مشقة بين هذين النوعين: فما قرب من العليا أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجبه، وما توسط يختلف فيه؟ لتجاذب الطرفين، فعلى تحرير هاتين القاعدتين تتخرج الفتاوى في مشاق العبادات. انتهى. ثم قال: فائدة (¬1) : قال بعض العلماء: المشاق تختلف باختلاف رتب العبادات، فما كان في نظر الشرع أهم يشترط في إسقاطه أشد المشاق أو أعمها، فإن العموم بكثرته يقوم مقام العظم، كما يسقط التطهر من الخبث في الصلاة التي هي أهم العبادات بسبب التكرار؛ كثوب المرضع، ودم البراغيث، وكما سقط الوضوء فيها بالتيمم " لكثرة عدم الماء والحاجة إليه، أو العجز عن استعماله، وما لم تعظم مرتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة، وتحرير هاتين القاعدتين يطرد في الصلاة وغيرها من العبادات وأبواب الفقه، وكما جدت المشاق في الوضوء ثلاثة أقسام: متفق على عدم اعتباره، ومتفق على اعتباره، ومختلف فيه، فكذلك تجده في الصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة، والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل، وغضب الحكام وجورهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك، وكذلك الغرر والجهالة في البيع ثلاثة أقسام، واعتبر ذلك في ¬

_ (¬1) [الفروق] (1\ 119)

جميع أبواب الفقه. انتهى. وقد بسط العز بن عبد السلام (¬1) الكلام على أقسام المشاق الموجبة للتخفيف في الشريعة. ضابط المشقة المؤثرة: قال القرافي (¬2) : يجب على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة، فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما رود عليه بعد ذلك من المشاق، مثل تلك المشقة أو أعلى منها جعله مسقطا، وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطا، مثاله: التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بالحديث الوارد عن كعب بن عجرة، فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح، وإلا فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص فيعتبر به غيره من المشاق. موضوع اعتبار الحرج والمشقة قال ابن نجيم (¬3) : المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه فلا، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - بحرمة رعي حشيش الحرم وقطعه إلا الإذخر، وجوز أبو حنيفة رعيه للحرج، ورد عليه بما ذكرنا. انتهى. أنواع تخفيفات الشرع: ذكر العز بن عبد السلام (¬4) ستة أنواع: ¬

_ (¬1) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] ص 9- 17. (¬2) [الفروق] (1\120) . (¬3) [الأشباه والنظائر] ص 83. (¬4) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] (2\8، 9) .

1 - تخفيف الإسقاط؛ كإسقاط الجمعات والصوم والحج والعمرة بأعذار معروفة. 2 - تخفيف التنقيص؛ كقصر الصلاة، وتنقيص ما عجز عنه المريض من أفعال الصلوات؛ كتنقيص الركوع والسجود وغيرهما إلى القدر الميسور من ذلك. 3 - تخفيف الأبدال؛ كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، وإبدال القيام في الصلاة بالقعود، والقعود بالاضطجاع، والاضطجاع بالإيماء، وإبدال العتق بالصوم، وكإبدال بعض واجبات الحج والعمرة بالكفارات عند قيام الأعذار. 4 - تخفيف التقديم؛ كتقديم العصر إلى الظهر، والعشاء إلى المغرب في السفر والمطر، وكتقديم الزكاة على حولها، والكفارة على حنثها. 5 - تخفيف التأخير؛ كتأخير الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء، ورمضان إلى ما بعده. 6 - تخفيف الترخيص؛ كصلاة التيمم مع الحدث، وصلاة المستجمر مع فضلة النجو، وكأكل النجاسات للمداواة، وشرب الخمر للغصة، والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، ويعبر عن هذا بالإطلاق مع قيام المانع أو بالإجابة مع قيام الحاظر. مورد هذه القاعدة من الشريعة: قال الشاطبي (¬1) : وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات ¬

_ (¬1) [الموافقات] (2\ 11) .

والجنايات، ففي العبادات؛ كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات؛ كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا، وما أشبه ذلك، وفي المعاملات، كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على المتبوعات؛ كثمرة الشجرة ومال العبد، وفي الجنايات، كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن حكم رمي جمرة

قرار هيئة كبار العلماء رقم (3) وتاريغ 13\ 8\ 1393 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه. وبعد: بناء على خطاب المقام السامي رقم (22310) تاريخ 4\ 11\ 1391 هـ المتضمن الموافقة على اقتراح سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بحث موضوع (حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد ورميها في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، وكذا حكم تقديم الرمي أيام التشريق قبل الزوال، وحكم الرمي ليالي أيام التشريق) من قبل هيئة كبار العلماء- عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392 هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع الرمي المشتمل على المسائل الآتية: أ- حكم رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس يوم العيد. ب- حكم رمي جمرة العقبة ليلة القر. ح- حكم رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال. د- حكم رمي الجمار ليلتي اليوم الثاني والثالث من أيام التشريق. وبعد دراسة المجلس للمسائل المذكورة واطلاعه على أقوال أهل العلم وتداوله الرأي فيها قرر- ما يلي: 1 - جواز رمي جمرة العقبة بعد نصف ليلة يوم النحر للضعفة من النساء وكبار السن والعاجزين ومن يلازمهم للقيام بشؤونهم؛ لما ورد من

الأحاديث والآثار الدالة على جواز ذلك. 2 - عدم جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: «خذوا عني مناسككم (¬1) » ، ولقول ابن عمر أيام التشريق: كنا نتحين الرمي فإذا زالت الشمس رمينا. ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس وأنصح الناس وأرحمهم، فلو كان ذلك جائز قبل الزوال لبينه - صلى الله عليه وسلم -. 3 - أما ما عدا ذلك من المسائل الخلافية من أعمال المناسك المشار إليها أعلاه، فإن الخلاف فيها معروف بين العلماء، ومدون في كتب المناسك وغيرها، وما زال عمل الناس جاريا على ذلك، وينبغي للحاج أن يحرص على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم (¬2) » . ويرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته وعلمه في تلك المسائل، ومذهب العامي مذهب من يفتيه. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة عبد الرزاق عفيفي محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الله بن حميد ... محضار عقيل عبد العزيز بن باز ... عبد المجيد حسن ... عبد الله خياط محمد الحركان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن منيع ... راشد بن خنين صالح بن لحيدان ¬

_ (¬1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) . (¬2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .

مصادر البحث وملحقاته

مصادر البحث وملحقاته 1 -[الجامع لأحكام القرآن] للإمام القرطبي: طبعة دار الكتب المصرية سنة 1936 م. 2 -[أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن] للإمام الشنقيطي. 3 -[صحيح البخاري مع فتح الباري] لابن حجر العسقلاني، طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها. 4 -[صحيح البخاري مع فتح الباري] عمدة القاري للبدر العيني طبعة منيرية. 5 -[صحيح مسلم] وعليه [شرح النووي] الطبعة الأولى بالمطبعة المصرية بالأزهر سنة 1347 هـ. 6 -[موطأ مالك] وعليه [شرح الزرقاني] طبع مطبعة الاستقامة بمصر والأزهر، الأولى عام 1332 هـ. 7 -[المنتقى على موطأ مالك] للإمام الباجي، طبع مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى عام 1332 هـ. 8 -[تهذيب السنن على المختصر] لابن القيم، طبعة مطبعة السنة المحمدية، سنة 1367 هـ. 9 -[معالم السنن] للخطابي على [مختصر السنن] طبعة مطبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1367 هـ. 10 -[عون المعبود على سنن أبي داود] لمحمد شمس الحق آبادي نشر صاحب دار الكتاب العامة، ببيروت لبنان (مصور) .

11 -[جامع الأصول] لابن الأثير، نشر وتوزيع مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان، سنة 1390 هـ. 12 -[جامع الترمذي] مع [التحفة] لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوي طبعة حيدر آباد، سنة 1346 هـ. 13 -[سنن البيهقي] وعليها [الجوهر النقي] لابن التركماني، طبعة حيدر آباد. 14 -[سنن الدارقطني] طبعة دار المحاسن للطباعة بالقاهرة، سنة 1386 هـ. 15 -[شرح معاني الآثار] لأحمد بن محمد الأزدي الطحاوي طبع مطبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة. 16 -[شرح المواهب اللدنية] للقسطلاني طبع المطبعة الأزهرية المصرية، عام 1328 هـ. 17 -[نصب الراية لأحاديث الهداية] للزيعلي، الطبعة الأولى المجلس العلمي، سنة 1357 هـ. طبع مطبعة دار المأمون. 18 -[التلخيص الحبير] لابن حجر العسقلاني طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة. 19 -[الدراية في تخريج أحاديث الهداية] طبع مطبعة الفجالة الجديدة، سنة 1384 هـ. 20 -[البداية والنهاية] لابن كثير طبع مطبعة السعادة، الطبعة الأولى، سنة 1351 هـ. 21 -[الكفاية في علم الرواية] للخطيب البغدادي، طبع دائرة

المعارف العثمانية، سنة 1357 هـ. 22 -[شرح ألفية العراقي] له- طبع بالمطبعة الجديدة بطالعة فاس عدد 64 سنة 1354 هـ. 23 -[شروط الأئمة الخمسة] لأبي حازم، ومعه [شروط الأئمة الستة] نشر مكتبة القدسي بالقاهرة، سنة 1357 هـ. 24-[تهذيب التهذيب] لابن حجر، طبع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بالهند، عام 1326 هـ. 25 -[بدائع الصنائع] للكاساني طبع في مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر، الطبعة الأولى عام 1327 هـ. 26 -[فتح القدير على الهداية] لابن الهمام، الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر، سنة 1315 هـ. 27 -[العناية على الهداية] مع [فتح القدير] للبابرتي. 28 -[المسلك المتقسط في المنسك المتوسط] لباب المناسك، الأصل للسندي، والشرح لملا علي قاري، وعليه حاشية تسمى [إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري] . 29 -[المدونة] للإمام مالك الطبعة الأولى. 30 -[مختصر خليل وشرحه] للدردير، طبعة الحلبي. 31 -[الأم] للإمام الشافعي، الطبعة الأولى طبعة أميرية، سنة 1331 هـ. 32 -[الإيضاح] للنووي، الطبعة الثانية، مطبعة دار التأليف. 33 -[المجموع شرح المهذب] مطبعة التضامن الأخوي بمصر.

34 -[نهاية المحتاج] للرملي، الطبعة الحلبية، سنة 1386 هـ. 35 -[المغني والشرح الكبير] لابن قدامة الطبعة الأولى بمطبعة المنار سنة 1346 هـ. 36 -[الإنصاف] للمرداوي الطبعة الأولى، عام 1375 هـ. 37 -[زاد المعاد] لابن قيم الجوزية مطبعة السنة المحمدية. 38 -[الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير] للسباعي الطبعة الأولى مطبعة السعادة، سنة 1348 هـ. 39 -[روضة الناظر] وعليها [حاشية بدران] . 40 -[الأشباه والنظائر] لابن نجيم، الناشر مؤسسة الحلبي، عام 1387 هـ. 41 -[الفروق] للقرافي، طبعة أولى بمطبعة دار إحياء الكتب العربية عام 1344 هـ. 42 -[الموافقات] للشاطبي، طبع مطبعة الشرق الأدنى. 43 -[قواعد الأحكام في مصالح الأنام] للعز بن عبد السلام، طبعت بمطبعة دار الشرق للطباعة، عام 1388 هـ. 44-[لسان العرب] لابن منظور، الطبعة الأميرية، عام 1300 هـ. 45 -[القاموس المحيط] للفيروز آبادي طبع بالمطبعة الأميرية، عام 1301 هـ.

الطلاق المعلق

(5) الطلاق المعلق هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم الطلاق المعلق (¬1) إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد ... فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة المنعقدة في مدينة الرياض في الفترة من 29 / 10 / 1393 هـ إلى 12 / 11 / 1393 هـ. موضوع (حكم الطلاق المعلق) مشفوعا بالبحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. الطلاق المعلق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد: فبناء على اقتراح اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن يصدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في حكم الطلاق المعلق- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الطلاق المعلق، هل يعتبر ويقع عند وقوع المعلق عليه طلاقا أو يمينا تلزم فيها الكفارة، أو يكون لغوا؟ ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 58- 94، سنة 1400 هـ.

وقد تضمن البحث ما تيسر مما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك وأقوال فقهاء المذاهب الأربعة، وفيما يلي ذكر ذلك على الترتيب:

أولا ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار

أولا: ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار: أ- قال نافع (¬1) : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس (بشيء) رواه البخاري في صحيحه عن نافع عن ابن عمر معلقا بصيغة الجزم، استدل بهذا الأثر من قال باعتبار تعليق الرجل طلاق زوجته على شيء وبوقوعه عند حصول المعلق عليه، وحمله ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما على ما إذا قصد الزوج الطلاق لا الحلف؛ جمعا بين الآثار الواردة في ذلك. ب- وروى البيهقي من طريق سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، فتفعله، قال: هي واحدة، وهو أحق بها. نوقش هذا الأثر: بأنه منقطع؛ لأن إبراهيم الراوي عن ابن مسعود هو ابن يزيد النخعي، وقد ولد بعد وفاة ابن مسعود بسبع عشرة سنة تقريبا، وبأنه على تقدير قبوله وهو مرسل يمكن حمله على قصد الرجل الطلاق بتعليقه دون الحلف. ج- وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسن الرفا، أخبرنا عثمان بن بشر، أخبرنا إسماعيل القاضي، أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس، أخبرنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الستة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل ¬

_ (¬1) باب الطلاق في الإغلاق والكره.. إلخ

قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت، أو قال ذلك في غلامه فخرج قبل الليل بغير علمه- طلقت امرأته، وعتق غلامه؛ لأنه ترك أن يستثني، لو شاء قال: إلا بإذني لكنه فرط في الاستثناء فإنما يجعل تفريطه عليه. ونوقش: بأن في سنده إسماعيل بن أويس، وقد ضعفه غير واحد من أئمة الحديث، بل رماه بعضهم بوضع الحديث، وبأنه اعترف بأنه كان يضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، وعابوا على الشيخين إخراجهما حديثه في [صحيحيهما] ، قال ابن حجر: لعل ذلك كان منه في شبيبته ثم انصلح، قال: وأما الشيخان فما أظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات.. انظر بقية الكلام عليه في [تهذيب التهذيب] وفي مقدمة [فتح الباري] لابن حجر؛ لاستيفاء ما قيل فيه من توثيق وتجريح، وفي سنده أيضا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين وابن المديني وابن مهدي وغيرهم، وقال فيه أحمد: إنه مضطرب الحديث، وتكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة يعني الفقهاء وقال: أين كنا عن هذا.. انظر ترجمته في [تهذيب التهذيب] . د- وقال البيهقي (¬1) : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الحسن بن علي بن عفان، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم في رجل قال لامرأته: ¬

_ (¬1) السنن الكبرى، للبيهقي (7\ 356) باب الطلاق بالوقت والفصل.

هي طالق إلى سنة، قال: هي امرأته يستمتع منها إلى سنة، ويروى مثل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وبه قال عطاء وجابر بن زيد. اهـ. ونوقش بأن الإمام أحمد قال: حماد بن سلمة عنده عن حماد بن أبي سليمان تخليط كثير. وقال شعبة في حماد بن أبي سليمان: كان لا يحفظ. وقال حبيب بن أبي ثابت: كان حماد يقول: قال إبراهيم، فقلت: والله إنك لتكذب على إبراهيم، أو أن إبراهيم ليخطئ، وقال الذهبي فيه: كثير الخطأ والوهم، وقال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث، واختلط في آخر أمره.. انظر بقية ترجمته في [تهذيب التهذيب] ، وقد وثقه بعض أئمة الحديث، إلا أن الجرح إذا بين كما هنا مقدم على التعديل، ومع ذلك فهذا مما قصد به الطلاق من غير شك دون الحلف فلو صح لم يكن معارضا لما قيل من أن تعليق الطلاق يعتبر طلاقا عند القصد إلى الطلاق.. أما إن قصد الحث أو المنع فيعتبر يمينا تلزم فيها الكفارة. وجملة القول: أن هذه الآثار استدل بها من قال باعتبار تعليق الطلاق على شيء وبوقوعه طلاقا عند حصول المعلق عليه، وقد عرف ما تأولها به من فصل بين قصد الطلاق وقصد الحلف وما قيل في أسانيدها، وسيأتي.. هـ وروى عبد الرزاق في [مصنفه] (¬1) عن ابن التيمي عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية ¬

_ (¬1) [المصنف] (8\486) .

إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بفقه ذكرت زينب، قال: فجاءت معي إليها، فقالت: أفي البيت هاروت وماروت؟ فقالت: يا زينب - جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وهي يهودية ونصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية؟ خلي بين الرجل وامرأته، قال: فكأنها لم تقبل ذلك، قال: فأتيت حفصة، فأرسلت معي إليها، فقالت أم المؤمنين- جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، قال: فقالت حفصة: يهودية ونصرانية؟ خلي بين الرجل وامرأته، فكأنها أبت، فأتيت عبد الله بن عمر فانطلق معي إليها، فلما سلم عرفت صوته، فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك، فقال: أمن حجارة أنت أم من حديد أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي منهما، قالت: يا أبا عبد الرحمن، جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، قال: يهودية ونصرانية؟ كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته. اهـ. وقد ذكر ابن القيم: أن له طرقا أخرى تدل على أن التيمي لم ينفرد برواية هذا الأثر، وسيأتي تمام البحث في هذا الأثر في التعليق على مذهب الحنابلة. وجه الدلالة: أن هذا الأمر وإن لم يكن فيه ذكر للطلاق إلا أن من تمسك به في اعتبار الطلاق المعلق لغوا أو يمينا مكفرة قاس الطلاق على ما ذكر فيه من المال والعتق في أنه لم يلزمه المعلق عند تحقق ما علق عليه، بل كان لغوا إن اعتبرنا سكوت حفصة وزينب - رضي الله عنهما - عن الإلزام به،

أو بكفارة دليلا على الإلغاء، أو تلزم فيه الكفارة إن نظرنا إلى ما أفتى به ابن عمر - رضي الله عنهما -. وفيما يأتي من أقوال الفقهاء استدلال بآيات وأحاديث وآثار أخرى مع مناقشتها إن شاء الله ... والله الموفق.

ثانيا أقوال فقهاء المذاهب الأربعة

ثانيا: أقوال فقهاء المذاهب الأربعة: أ- مذهب الحنفية: 1 - قال البرهان علي بن أبي بكر المرغيناني في [الهداية] : وإذا أضافه- أي: الطلاق- إلى شرط وقع عقيب الشرط مثل أن يقول لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، قال الشارح (¬1) : وهذا بالاتفاق؛ لأن الملك قائم في الحال، والظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط، فيصبح يمينا أو إيقاعا. قال ابن الهمام في [فتح القدير] : فيصبح يمينا أو إيقاعا، أي: فيصح التعليق المذكور يمينا عندنا؛ لأنه لا يعمل عندنا في الحال، أو إيقاعا عند الشافعي؛ لأنه عنده سبب في الحال) . اهـ. 2 - وفي [مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر] ما نصه: (إنما يصح التعليق حال كونه في الملك- أي: القدرة على التصرف في الزوجية بوصف الاختصاص وذلك عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد، فإنه لو وجد أحدهما والمرأة مدخولة محرمة بالمصاهرة- لم يصح التعليق فيه، فمن بعض الظن تأويل الملك بوجود النكاح والمتبادر أن الملك لم يشترط لصحة التنجيز وليس كذلك، وبقاء الملك في عدة الرجعي مما لا خلاف ¬

_ (¬1) [الهداية] (3\128) .

فيه، وأما في عدة البائن ففيه خلاف، كما في القهستاني - كقوله لمنكوحته أو لمعتدته: إن زرت فأنت طالق- فيقع بعد وجود الشرط وهو الزيارة ولو كان المعلق عاقلا عند التعليق ثم جن عند الشرط؛ لأنه إيقاع حكما، ألا يرى أنه لو كان عنينا أو مجنونا يفرق بينهما، ويجعل طلاقا (أو مضافا إلى الملك) بأن يعلق على نفس الملك، نحو: إن ملكت طلاقك فأنت طالق، أو على سبب، كقوله لأجنبية: إن نكحتك- أي: تزوجتك- فأنت طالق، فإن النكاح سبب للملك؛ فاستعير السبب للمسبب- أي: ملكتك بالنكاح- فيقع إن نكحها، لوجود الشرط، وفي الزاهدي: قد ظفرت بروايتين عن محمد أنه لو أضاف إلى سبب الملك لم يصح التعليق، كما قال بشر المريسي؛ لأن الملك يثبت عقيب سببه، والجزاء يقع عقيب شرطه، فلو صح تعليقه به لكان الطلاق مقارنا لثبوت الملك، والطلاق المقارن لثبوت الملك أو زواله لم يقع، كما لو قال: أنت طالق مع نكاحك أو في نكاحك أو مع موتي أو مع موتك، (وتمامه في التبيين فليطالع) ، ولا فرق بين ما إذا خصص أو عمم كقوله كل امرأة خلافا لمالك فإنه قال إذا لم يسم امرأة بعينها أو قبيلة أو أرضا أو نحو هذا فلا يلزمه ذلك. وقال الشافعي: (لا يصح التعليق المضاف إلى الملك) . مما تقدم يتبين: 1 - أن تعليق الطلاق صحيح عند وجود النكاح أو العدة مع حل العقد، وأنه يقع المعلق عند وجود المعلق عليه باتفاق عند الحنفية، وأنه يصح تعليق الطلاق على ملك الطلاق، مثل: إن ملكت طلاقك فأنت طالق، وتعليقه على سبب الملك، كقوله: إن تزوجتك فأنت طالق، ويقع الطلاق

إن نكحها أو ملك طلاقها، وخالف محمد بن الحسن في اعتبار التعليق على ملك الطلاق أو النكاح- فلم يوقع الطلاق عند حصول المعلق عليه، لما ذكر من التعليل بمقارنة الطلاق، لوجود الملك والطلاق المقارن غير معتبر. 2 - أنه لا فرق في التعليق على الملك بين ما إذا عمم في النساء أو خصص خلافا للمالكية في التعميم، أما إذا خصص امرأة أو قبيلة مثلا فمعتبر ويقع الطلاق عند وقوع المعلق عليه عندهم كالحنفية..

مذهب المالكية

ب- مذهب المالكية: قال ابن رشد (¬1) : فصل: فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق لا اختلاف بين أحد من العلماء: أن الرجل حلف بطلاق امرأته على نفسه أو على غيره أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله: أن اليمين لازمة له، وأن الطلاق واقع عليه في زوجته إذا حنث في يمينه؛ لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلا أو أن يفعله إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك، إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلا فتفعله قاصدة لتحنيثه أن لا شيء عليه، وهو شذوذ، وإنما الاختلاف المعلوم فيمن قال لعبده: (أنت حر إن فعلت كذا وكذا) ففعله، وبالله سبحانه التوفيق. ثم قال ابن رشد (¬2) في الفصل الذي عقده لما لا يلزمه باتفاق: وأما ما لا يلزمه باتفاق فما يوجب على نفسه بشرط أن يفعل فعلا أو أن لا يفعله مما ¬

_ (¬1) [المقدمات] (2\ 119، 120) . (¬2) [المقدمات] (2\ 122، 123) .

ليس لله بطاعة ولا يتقرب به إليه كان مباحا أو معصية كقوله في المعصية: علي ضرب فلان أو إني أفعل كذا وكذا، أو في المباح: علي المشي إلى السوق إن لم أفعل كذا وكذا، أو ما أشبه ذلك ما عدا الطلاق، فإن اليمين به تلزمه، وإن كان من المباح الذي ليس لله فيه طاعة ولا معصية للمعنى الذي قدمت ذكره، وهو: أن الحالف به مطلق على صفة ما. ثم عقد ابن رشد فصلا خاصا فيما ينقسم إليه الطلاق من الوجوه (¬1) ، وقسم فيه الطلاق إلى مطلق وإلى مقيد بالصفة قال فيه: وأما الطلاق المقيد بصفة فإنه ينقسم إلى وجهين: أحدهما: أن يقيد ذلك فيها بلفظ الشرط. والثاني: أن يقيده فيها بلفظ الوجوب. فأما إذا قيده بلفظ الشرط مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا أو أن لا أفعله، فإن الفقهاء يسمون ذلك يمينا بالطلاق على المجاز؛ لما فيه من معنى اليمين بالله تعالى، وهو: أن الطلاق يجب عليه بالشرط كما تجب الكفارة على الحالف بالله تعالى بالحنث، فاستويا جميعا في القصد إلى الامتناع مما يجب به الطلاق أو الكفارة دون القصد إلى الطلاق أو الكفارة، ومن ذلك أيضا: أنه ينعقد في المستقبل من الأزمان كما تنعقد الأيمان بالله تعالى، ويكون في الماضي إما واقع كذا وإما ساقط، كاليمين بالله الذي يكون في الماضي إما لغو، أو حالف على صدق لا تجب فيه كفارة، وإما غموس أعظم من أن يكون فيه كفارة، يأثم إذا حلف على الغيب، أو على الكذب، ¬

_ (¬1) [المقدمات] (2\ 122، 123) .

أو على الشك، كما يأثم في اليمين بالله إذا حلف على شيء من ذلك وليس بحقيقة، وإنما بحقيقة اليمين بالطلاق قول الرجل: وحق الطلاق لأفعلن كذا وكذا، وبالله سبحانه التوفيق. ثم قال ابن رشد (¬1) : فصل فيما تقسم إليه اليمين بالطلاق من الوجوه، وهو - أعني اليمين بالطلاق - على ما ذكرته من المجاز تنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحلف بالطلاق على نفسه. والثاني: أن يحلف على غيره. والثالث: أن يحلف على مغيب من الأمور. فالأول: وهو حلفه بالطلاق على نفسه، فهو ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا، فيقول: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا. والثاني: أن يحلف به أن يفعل فعلا، فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا. فأما الوجه الأول: وهو أن يحلف بالطلاق أن لا يفعل فعلا، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون الفعل مما يمكنه فعله وتركه. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه تركه. والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله. ¬

_ (¬1) من كتاب [المقدمات] (2\ 122، 123) .

فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه فلا خلاف في أنه لا طلاق عليه إلا أن يفعل ذلك الفعل، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن ضربت عبدي، أو دخلت الدار، أو ركبت الدابة، أو ما أشبه ذلك، إلا في مسألة واحدة، وهي أن يقول: امرأتي طالق إن وطئتك فإن لها تفصيلا، وفيها اختلاف، وهو مذكور في الأمهات، وسيأتي تحصيل القول عليه في كتاب الإيلاء (¬1) وأما إذا كان مما لا يمكنه تركه فقيل: إنه يجعل عليه الطلاق، وهو قول سحنون، وقيل: إنه لا طلاق عليه حتى يفعل ذلك الفعل كالوجه الأول، وهو ظاهر قول ابن القاسم في [المدونة] مثال ذلك: أن يقول: امرأتي طالق إن أكلت أو شربت أو صمت أو صليت وما أشبه ذلك. وأما إذا كان مما لا يمكنه فعله فقيل: إنه لا شيء عليه، وهو قول ابن القاسم في [المدونة] ، وقيل: إن الطلاق يعجل عليه؛ لأنه يعد نادما وهو قول سحنون، وروي مثله عن ابن القاسم، مثال ذلك: أن يقول: امرأتي طالق إن مسست السماء أو ولجت في سم الخياط وما أشبه ذلك. وأما الوجه الثاني: وهو أن يحلف بالطلاق أن يفعل فعلا، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك الفعل مما يمكنه فعله وتركه. والثاني: أن يكون مما لا يمكنه فعله في الحال. والثالث: أن يكون مما لا يمكنه فعله على حال ... وقال أيضا: فصل: فأما إذا كان مما يمكنه فعله وتركه، مثل قوله: أنت طالق إن لم ¬

_ (¬1) من كتاب [المقدمات] . (الناشر) .

أدخل الدار وإن لم أضرب عبدي وما أشبه ذلك فإنه يمنع من الوطء؛ لأنه على حنث ولا يبر إلا بفعل ذلك الشيء، فإن رفعت امرأته أمرها ضرب له أجل المولي وطلق عليه عند انقضائه إلا أن يبر بفعل ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه أو تحب البقاء معه بغير وطء، فإن اجترأ ووطئ سقط أجل الإيلاء واستؤنف لها ضربه إن رفعت ذلك، ولا يقع عليه طلاق بترك ذلك الفعل الذي حلف عليه ليفعلنه؛ لأنه طلاق لا يكشفه إلا الموت، وإن أراد أن يحنث نفسه بالطلاق دون أن يطلق عليه الإمام بالإيلاء كان ذلك له إلا أن يضرب أجلا فيقول: امرأتي طالق إن لم أفعل كذا وكذا إلى وقت كذا وكذا، ولا يكون له أن يحنث نفسه بالطلاق ويطأ إلى الأجل على اختلاف من قول ابن القاسم، ويضرب له أجل الإيلاء على القول الذي يقول: لا يطأ إذا كان الأجل أكثر من أربعة أشهر، فهذا حكم هذا القسم إلا في مسألتين: إحداهما: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أطلقها. والثانية: يقول: امرأتي طالق إن لم أحبلها. فأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أطلقها ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن الطلاق يعجل عليه ساعة حلف. ووجه ذلك: أنه حمله على التعجيل والفور، فكأنه قال: أنت طالق إن لم أطلقك الساعة. والثاني: أن الطلاق يعجل عليه إلا أن ترفعه امرأته إلى السلطان وتوقفه على الوجه. والثالث: أنه لا يطلق عليه إن رفعته امرأته ويضرب له أجل الإيلاء، فإن طلقها وإلا طلق عليه بالإيلاء عند انقضاء أجله ولم يمكن من الوطء؛ لأنه

لا يجوز له من أجل أنه على حنث وإن اجترأ فوطيء سقط عنه الإيلاء واستؤنف ضربه له ثانية إن رفعت امرأته أمرها إلى السلطان، وفائدة ضرب أجل الإيلاء على هذا القول- وإن لم يمكن من الفيء بالوطء- رجاء أن ترضى في خلال الأجل بالبقاء معه على العصمة دون وطء. وأما إذا قال: امرأتي طالق إن لم أحبلها، فإنه يطأ أبدا حتى يحبلها؛ لأن بره في إحبالها، وكذلك إن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك، له أن يطأها؛ لأن بره في وطئها، فإن وقف عن وطئها كان موليا عند مالك والليث فيما روي عنهما، وقال ابن القاسم: لا إيلاء عليه، وهو الصواب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل: وأما إذا كان ذلك الفعل مما لا يمكنه فعله في الحال، مثل: أن يقول: امرأتي طالق إن لم أحج وهو في أول العام، ففي ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه يمنع من الوطء الآن، وهو ظاهر قول ابن القاسم في كتاب الإيلاء من [المدونة] ورواية عيسى عنه في الأيمان بالطلاق من [العتبية] . والثاني: أنه لا يمنع من الوطء حتى يمكنه فعل ذلك الفعل. والثالث: أنه لا يمنع من الوطء حتى يخشى فوات ذلك الفعل. والرابع: أنه لا يمنع منه حتى يفوت فعل ذلك الفعل. وقال أيضا: فصل: فإذا قلنا: إنه يطأ حتى يمكنه فعل ذلك الفعل فأمسك عن الوطء بإمكان الفعل له ثم فات الوقت- ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يرجع إلى الوطء أبدا. والثاني: أنها تطلق عليه. والثالث: أنه يرجع إلى الوطء حتى يمكنه الفعل مرة أخرى وقد زدنا

هذه الأوجه بيانا في كتاب الإيلاء (¬1) وأما إذا كان الفعل مما لا يمكنه فعله على حال لعدم القدرة عليه مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أمس السماء وإن لم ألج في سم الخياط وما أشبه ذلك أو لمنع الشرع منه، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم أقتل فلانا أو إن لم أشرب الخمر وما أشبه ذلك فإنه يعجل عليه الطلاق إلا أن يجترئ على الفعل الذي يمنعه منه الشرع فيفعله قبل أن يعجل عليه الطلاق فإنه يبر في يمينه ويأثم في فعله، ولا اختلاف في هذا الوجه، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يحلف بالطلاق على غيره فإنه ينقسم أيضا على وجهين: أحدهما: أن يحلف عليه أن لا يفعل فعلا. والثاني: أن يحلف عليه ليفعلنه، فأما إذا حلف عليه أن لا يفعل فعلا، مثل أن يقول: امرأتي طالق إن فعل فلان كذا وكذا، فهو كالحالف على فعل نفسه، سواء في جميع الوجوه، وقد تقدم تفسير ذلك، وأما إذا حلف أن يفعل فعلا مثل أن يقول: امرأتي طالق إن لم يفعل فلان كذا وكذا، ففي ذلك لابن القاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كالحالف على فعل نفسه أن يفعل فعلا يمنع من الوطء، ويدخل عليه الإيلاء جملة من غير تفصيل. والثاني: أنه يتلوم له على قدر ما يرى أنه أراد بيمينه، واختلف: هل يطأ ¬

_ (¬1) من كتاب [المقدمات] (الناشر) .

في هذا التلوم أم لا؟ على قولين جاريين على الاختلاف إذا ضرب له أجل؛ لأن التلوم كضرب الأجل، فإن بلغ التلوم على مذهب من يمنعه من الوطء أكثر من أربعة أشهر دخل عليه الإيلاء. والثالث: الفرق بين أن يحلف على حاضر أو غائب، وهو الذي يأتي على ما في سماع يحيى من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يحلف بالطلاق على مغيب من الأمور فإن كان مما له طريق إلى معرفته لم يعجل عليه بالطلاق حتى يعلم صدقه من كذبه كالقائل امرأتي طالق إن لم يجئ فلان غدا، فإن مضى الأجل ولم يعلم صدقه من كذبه حمل من ذلك ما تحمل، وإن كان مما لا طريق له إلى معرفته عجل عليه الطلاق ولم يستأذن به، واختلف إن غفل عن الطلاق عليه حتى جاء الأمر على ما حلف عليه، فيتخرج ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يطلق عليه. والثاني: أنه لا يطلق عليه. والثالث: أنه إن كان حلف على غالب ظنه لأمر توسمه مما يجوز له في الشرع لم تطلق عليه، وإن كان حلف على ما ظهر عليه بكهانة أو تنجيم أو على الشك أو على تعمد الكذب طلق عليه. وأما الوجه الثاني: وهو أن يقيد طلاقه بالصفة بلفظ الوجوب، وهو أن يقول: امرأتي طالق إن كان كذا وكذا، فإنه ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن تكون الصفة آتية على كل حال.

والثاني: أن تكون الصفة غير آتية على كل حال. والثالث: أن تكون مترددة بين أن تأتي وأن لا تأتي من غير أن يغلب أحد الوجهين على الآخر أو يكون الأغلب منهما أنها لا تأتي. والرابع: أن تكون مترددة بين أن تأتي أو لا تأتي، والأغلب منهما أنها تأتي. فالأول: يعجل عليه فيها الطلاق باتفاق. والثاني: يتخرج على قولين. والثالث: لا يعجل عليه الطلاق باتفاق. والرابع: يختلف فيه على قولين منصوصين، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. اهـ نص [مقدمات ابن رشد] . مما تقدم: يتبين أنه لا خلاف بين المالكية في اعتبار تعليق الزوج الطلاق على أمر ما فعل أو ترك، مباح أو معصية، ماض أو مستقبل، ولا خلاف بينهم أيضا في وقوع الطلاق عند حصول ما علق عليه، سواء أكان المعلق عليه من فعله أو فعل غيره إلا فيما نقل عن أشهب بن عبد العزيز في الحالف على امرأته بالطلاق ألا تفعل فعلا ففعلته قاصدة لتحنيثه أنه لا شيء عليه، بناء منه على قاعدة المعاملة بنقيض القصد، وقد اعتبر المالكية ذلك منه شذوذا، وما ذكر من الخلاف في فروع هذه المسألة وتفاصيل وجوهها فإنما هو في تعجيل حنثه أو كونه على بر حتى يحنث وفي اعتباره موليا أو غير مول من زوجته، ونحو ذلك مما لا تعلق له بأصل البحث الذي نحن بصدد إعداده، وكذا يعتبر تعليق الرجل طلاق امرأة أجنبية منه على زواجه بها، كما لو قال: إن تزوجت فلانة أو من قبيلة كذا أو من بلد كذا فهي

طالق، فيقع الطلاق عند عقد النكاح عليها، ولو عمم في التعليق لم يعتد به، لا لأن التعليق من حيث هو غير معتبر؛ بل لأن الأمر كلما ضاق اتسع، فإلغاء التعليق خاص بصورة التعميم لما ذكر.

مذهب الشافعية

ج- مذهب الشافعية: 1 - قال النووي (¬1) بعد ذكره لأدوات التعليق: ولا يقتضين فورا إن علق بإثبات في غير خلع، إلا (أنت طالق إن شئت) ، ولا تكرارا، ولو قال: إذا طلقتك فأنت طالق ثم طلق أو علق بصفة فوجدت فطلقتان، أو كلما وقع طلاقي فطلق فثلاث في ممسوسة، وفي غيرها طلقة ... ولو علق بنفي فعل فالمذهب: أنه إن علق ب (إن) كإن لم تدخلي، وقع عند اليأس من الدخول، أو بغيرها فعند مضي زمن يمكن فيه ذلك الفعل ولو قال: أنت طالق إن دخلت أو أن لم تدخل بفتح (أن) وقع في الحال. قلت: إلا في غير نحوي فتعليقة في الأصح. 2 - وقال (¬2) أيضا: خطاب الأجنبية بطلاق وتعليقه بنكاح وغيره لغو، والأصح صحة تعليق العبد ثالثة، كقوله إن عتقت، أو إن دخلت فأنت طالق ثلاثا فيقع إذا عتق أو دخلت بعد عتقه، ويلحق رجعية لا مختلعة. انتهى المقصود. 3 - قال الشيرازاي (¬3) : إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجيء الشهر تعلق به فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع: لما ¬

_ (¬1) [المنهاج] ص (422، 423) . (¬2) [المنهاج] ص 413. (¬3) [المهذب] وعليه [شرح المجموع] (16\ 152) .

روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المؤمنون عند شروطهم» ولأن الطلاق كالعتق؛ لأن لكل واحد منهما قوة وسراية، ثم العتق إذا علق بشرط وقع بوجوده ولم يقع وجوده فكذلك الطلاق. 4 - قال تقي الدين السبكي (¬1) : مسألة: إذا علق الرجل طلاق زوجته على شرط قاصدا اليمين، إما لحث أو منع، أو تصديق، ثم وجد ذلك الشرط- وقع الطلاق وبيان ذلك: أن مقتضى القضية الشرطية الحكم بالمشروط على تقدير الشرط خبرية كانت أو إنشائية، والمعلق فيها هو نسبة أحد الجزءين إلى الآخر لا الحكم بتلك النسبة الذي هو منقسم إلى الخبر والإنشاء؛ لأن كلا منهما يستحيل تعليقه، فالمعلق في مسألتنا هو الطلاق، وأما التطليق فهو فعل الزوج، يوقعه منجزا أو معلقا، ويوصف التعليق بكونه تطليقا عند وجود الشرط حقيقة، فإن لم يجز التعليق يخرج الذي حصل مقتضاه عن الشرط، ويشهد لذلك أحكام الشريعة كلها المعلقة بالشروط. ومن منع تعليق الطلاق بالصفات مطلقا فقد التبس عليه التعليق بتعليق الإنشاء فظن أن تعليق الطلاق من الثاني وإنما هو من الأول.. وقد علق الله إحلال المرأة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على هبتها نفسها له وإرادته استنكاحها، وإن خرج مخرج اليمين فالأمر كذلك لوجوه: أحدها: أنه تعليق خاص فيجب ثبوت حكم التعليق العام له. الثاني: قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬2) ¬

_ (¬1) انظر [المحقق في الطلاق المعلق] ص 56 ضمن مجموعة [رسائل السبكي] . (¬2) سورة النور الآية 7

ووجه الاستدلال: أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق فهو خارج مخرج اليمين، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقدير الكذب بدليل قوله: أنها موجبة، وبأنه لو كان المترتب على ذلك الكفارة لكان الإتيان بالقسم أولى. الثالث: أن في القرآن والسنة وأشعار العرب الفصحاء من التعليقات التي فيها الحث أو المنع أو التصديق ما لا يحصى مع القطع بحصول الشروط فيها. الرابع: أن تسمية التعليق يمينا لا يعرفه العرب، ولم يتفق عليه الفقهاء، ولم يرد به الشرع، وإنما سمي بذلك على وجه المجاز، فلا يدخل تحت النصوص الواردة في الأيمان، وأنها قابلة للتكفير. الخامس: أن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على ذلك التقدير، ولذلك نصبه الزوج مانعا له من ذلك الفعل، ولولا ذلك لما امتنع، ولا استحالة في كون الطلاق غير مقصود للزوج في نفس الأمر، ومقصودا له على تقدير، وإذا كان مقصودا ووجد الشرط وقع الطلاق على مقتضى تعليقه وقصده. السادس: أنه عند الشرط يصح اسم التطليق؛ لما تقدم، فيندرج تحت قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 230

السابع: أن التطليق مفوض إلى العبد بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) وهو أعم من المنجز والمعلق فيندرج المعلق تحت الآية. 5 - وقال (¬2) أيضا: وقد نقل إجماع الأمة على ذلك، أي: إيقاع الطلاق المعلق، سواء كان على وجه اليمين أو لا- أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، وناهيك به قال: وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكذلك نقله أبو ثور وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه [التمهيد] و [الاستذكار] وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب [المقدمات] له، ونقله الإمام الباجي في [المنتقى] وغير هؤلاء من الأئمة. وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق، وهذا مستقر بين الأمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة، وذكر ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) [الدرة المضيئة] ص13، طبع مطبعة الترقي بدمشق\ 12.

العتق وذكر الأثر الذي استدل به ابن تيمية فيه، وهو خبر ليلى بنت العجماء الذي يبني ابن تيمية حجته عليه، ورده بأثر آخر صح عنده، وهو أثر عثمان بن حاضر، وفيه فتوى ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر رضي الله عنهم: بإيقاع العتق على الحانث في يمينه، ولم يعمل بأثر ليلى بنت العجماء ولم يبق في المسألة إلباسا، رضي الله عنه. 6 - وقال السبكي أيضا (¬1) : فإن قلت: يرد عليك أمران: أحدهما: طلب الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج عند من جعله يتخلص منه بكفارة يمين. والثاني: في دعوى الإجماع، وقد نقل بعض الناس قولين آخرين: أنه لا يلزمه به شيء، والثاني: أنه يلزمه به كفارة. قلت: أما الأول: فالجواب عنه: أن الطلاق إسقاط حق لا يشترط فيه قصد القربة وفي اللجاج لم يوجد هذا الشرط، ولم يأذن الشرع فيه، وليس للعبد إيجاب ولا تحريم إلا بإذن الله، وأيضا فإن الدليل قد قام على ما قلناه وهو على وفق الأصل، فإن دل دليل على خروج اللجاج عنه بقي ما عداه على الأصل، وأما أن يجعل اللجاج المختلف فيه الخارج عن الأصل أصلا، ويلحق به الجاري على وفق الأصل فغير سديد. وأما الثاني: فإن القول بعدم الوقوع ما قاله أحد من الصحابة ولا من التابعين، إلا أن طاوسا نقل عنه لفظ محتمل؛ لذلك أولناه، ولا ممن بعدهم إلا الشيعة ومن وافقهم ممن لا يعتد بخلافه، وأما القول بالكفارة في ¬

_ (¬1) انظر [الملحق في الطلاق المعلق] ص 57، 58

ذلك فلم يثبت عن أحد من المسلمين قبل ابن تيمية، وإن كان مقتضى كلام ابن حزم في مراتب الإجماع نقل ذلك، إلا أن ذلك مع إبهامه وعدم تعيين قائله ليس فيه أنه في مسألة التعليق، فيجوز أن يحمل على غيرها من صور الحلف. . . انتهى. وقول السبكي بشأن رأي طاوس (أولناه) يريد: تأويله في [الدرة المضيئة] بالإكراه (¬1) ، يقول: ذكره عبد الرزاق في طلاق المكره، وذكر أنه قد أجاب عنه أجوبة كثيرة غير هذا في بعض مصنفاته، كما ذكر أن طاوسا قد صح النقل عنه بخلاف ذلك، قال: قد أفتى بوقوع الطلاق في هذه المسألة، ونقل ذلك عنه بالسند الصحيح في عدة مصنفات جليلة منها [كتاب السنن] لسعيد بن منصور، ومنها [مصنف عبد الرزاق] . وقال (¬2) أيضا: بعد ذكر الوارد عن الصحابة في الوقوع قال: (فهذا عصر الصحابة لم ينقل فيه إلا الوقوع، وأما التابعون رضي الله عنهم فأئمة العلم منهم معدودون معروفون، وهم الذين تنقل مذاهبهم وفتاويهم) قال: (وقد نقلنا من الكتب المعروفة الصحيحة كـ[جامع عبد الرزاق] و [مصنف ابن أبي شيبة] و [سنن سعيد بن منصور] و [السنن الكبرى] للبيهقي، وغيرها- فتاوى التابعين أئمة الاجتهاد، وكلهم بالأسانيد الصحيحة أنهم أوقعوا الطلاق بالحنث في اليمين، ولم يقضوا بالكفارة وهم: سعيد بن المسيب أفضل التابعين، والحسن البصري، وعطاء، والشعبي، وشريح، وسعيد ¬

_ (¬1) [الدرة المضيئة] ص15 (¬2) المرجع السابق ص18

ابن جبير، وطاوس، ومجاهد، وقتادة، والزهري، وأبو مخلد، والفقهاء السبعة- فقهاء المدينة - وهم. عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسليمان بن يسار، وهؤلاء إذا أجمعوا على مسألة كان قولهم مقدما على غيرهم، وأصحاب ابن مسعود السادات، وهم: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة السلماني، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وطارق بن شهاب، وزر بن حبيش وغير هؤلاء من التابعين، مثل: ابن شبرمة، وأبي عمرو الشيباني، وأبي الأحوص، وزيد بن وهب، والحكم، وعمر بن عبد العزيز، وخلاس بن عمرو، وكل هؤلاء نقلت فتاويهم بإيقاع الطلاق لم يختلفوا في ذلك، ومنهم علماء التابعين غير هؤلاء، فهذا عصر الصحابة وعصر التابعين كلهم قائلون بالإيقاع، ولم يقل أحد: أن هذا مما يجري به الكفارة، وأما من بعد هذين العصرين فمذاهبهم معروفة مشهورة، كلها تشهد بصحة هذا القول؛ كأبي حنيفة، وسفيان الثوري، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر، وابن جرير الطبري، وهذه مذاهبهم منقولة بين يدينا ولم يختلفوا في هذه المسألة. يتبين مما تقدم أمران: الأول: أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء فتعليقه معتبر ويقع طلاقه عند وجود ما علق به، سواء قصد بذلك إيقاع الطلاق أم قصد اليمين حثا أو منعا أو تصديقا لخبر أو تكذيبا له.

واستدلوا على ذلك بأدلة: منها: حديث: «المؤمنون عند شروطهم» . ومنها: قياس الطلاق على العتق بجامع ما لكل منهما من قوة وسراية. ومنها: اعتبار الكتاب والسنة للتعليقات مطلقا من القطع بحصول المشروع فيها عند وجود شرطه. ومنها: ما نقله الأئمة من إجماع الأمة على إيقاع الطلاق المعلق عند وجود المعلق محليه سواء كان التعليق على وجه اليمين أم لا. . . إلى آخر الوجوه التي ذكرها تقي الدين السبكي في الاستدلال على ما تقدم، ويناقش ذلك بما يأتي نقله عن ابن تيمية وابن القيم. الأمر الثاني: أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على نكاحها فتعليقه لغو، ولا يقع طلاقه عند زواجه بها بناء على أنها أجنبية منه وقت التعليق، وأن التعليق إيقاع لا يمين، كما تقدم بيانه نقلا عن ابن الهمام عند ذكر مذهب الحنفية. وما وراء هذا من اقتضاء صيغ التعليق للفور أو التكرار وعدم اقتضائها لذلك، ومن وقوع المعلق على نفي الفعل عند اليأس منه أو عند مضي زمن يمكن فيه الفعل فلا تعلق له بأصل البحث المطلوب إعداده.

المذهب الحنبلي

د- المذهب الحنبلي: 1 - قال شيخ الإسلام (¬1) : قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه: (إن كلمتك فامرأتي طالق، وعبدي حر) قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا. ¬

_ (¬1) [القواعد النورانية] ص 258، تحقيق\ محمد حامد الفقي- ط \ مكتبة المعارف.

2 - وقال (¬1) أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد، فقال المروزي: قال أبو عبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر، فيعتق عليه إذا حنث؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة، وقال: ليس يقول: كل مملوك لها حر- في حديث ليلى بنت العجماء - حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب، وذكرت العتق، فأمروها بالكفارة إلا التيمي، وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق، قال: سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع - قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته، وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين - قلت: فيها شيء؟ قال: نعم، أذهب إلى أن فيه كفارة يمين، قال أبو عبد الله: ليس يقول فيه (كل مملوك) إلا التيمي، قلت: فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث؟ قال: يعتق، كذا يروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: (الجارية تعتق) ثم قال: ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر. قلت: فإيش إسناده؟ قال: معمر عن إسماعيل عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس، وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى: وهما مكيان، وقد فرقا بين الحلف بالطلاق والعتق، والحلف بالنذر؟ لأنهما لا يكفران، واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة، وقال صالح بن أحمد: قال أبي: وإذا قال: جاريتي حرة إن كان كذا وكذا، قال: قال ابن عمر وابن عباس: تعتق، وإذا قال: كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته، فإن هذا لا يشبه هذا، ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما: العتق والطلاق لا يكفران. ¬

_ (¬1) المرجع السابق ص 259، 260.

3 - وقال (¬1) أيضا: وأما قول القائل: إن العتق انفرد به التيمي فعنده جوابان: أحدهما: أنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه أشعث، وجسر بن الحسن، وأحمد ذكر أنه لم يبلغه العتق إلا من طريق التيمي وقد بلغ غيره من طريق أخرى ثانية، ومن طريق ثالثة أيضا شاهدة وعاضدة. الثاني: أن التيمي أجل من روى هذا الأثر عن بكر وأفقههم فانفراده به لا يقدح فيه، ألا ترى أن منهم من ذكر فيه ما لم يذكره الآخرون، ومنهم من بسطه، ومنهم من استوفاه، وقد روى عن التيمي مثل يحيى بن سعيد القطان، ومثل ابنه المعتمر وغيرهما، واتفقوا عنه على لفظ واحد، فدل على ضبطه وإتقانه. 4 - وقال (¬2) أيضا: وأما أحمد فبلغه أثر في الحلف بالعتق في حديث ليلى بنت العجماء، لكن لم يبلغه إلا من وجه واحد، فظن أن التيمي انفرد به، فكان ذلك علة فيه عنده، وعارضه بأثر آخر روي عن ابن عمر وابن عباس. وقد ذكرت في غير هذا الموضع حديث ليلى بنت العجماء، وأنه روي من ثلاثة أوجه، وأنه على شرط [الصحيحين] ، وممن رواه أبو بكر الأثرم في [مسائله] عن أحمد. . . إلخ. 5 - وقال (¬3) أيضا: وأما معارضة ذلك بما روي عن ابن عمر وابن ¬

_ (¬1) [نظرية العقد] ص 136، 137. (¬2) المرجع السابق ص 118. (¬3) نفس المرجع ص 137- 139.

عباس فعنه أجوبة- هذا ملخصها: أحدها: أن ذلك المنقول ليس فيه حجة، فإن فيه: أنها حلفت بالعتق وأيمان أخرى فأفتيت في الجميع باللزوم ليس فيه أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بالفرق بين العتق وبين غيره من الأيمان، بل فيه أنهم سووا بين ذلك، وفي بعض طرقه: أنه كان معهم ابن الزبير. . . إلخ. الثاني: أن هذا الحديث هو الذي ذكره الهندواني من الحنفية. أن لزوم نذر اللجاج والغضب هو قول العبادلة. ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وأنكر الناس ذلك عليه، وطعنوا في ذلك، فإن كان هذا الحديث صحيحا ثبت ما نقله الهندواني، وإن لم يكن صحيحا لم يكن لأحد أن يحتج به. الثالث: أنه- بتقدير ثبوته- يكون الصحابة متنازعين في جنس هذه التعليقات التي هي من جنس نذر اللجاج والغضب. . . إلخ. الرابع: أن هؤلاء الذين نقل عنهم في هذا الجواب: أنهم ألزموا الحالف ما حلف به. قد ثبت عنهم نقيض ذلك، فثبت عن ابن عباس من غير وجه. أنه أفتى بكفارة يمين في هذه الأيمان، وكذلك ابن عمر فغاية الأمر أن يكون عنهما روايتان، وأما عائشة وحفصة وزينب وعمر بن الخطاب فلم ينقل عنهم إلا أنها أيمان مكفرة، فمن اختلف عنه سقط قوله، ويبقى الذين لم يختلف عنهم. الخامس: أن هذا الحديث لا تقوم به حجة؛ لأن راويه لم يعلم أنه حافظ وإنما كان قاصا، وإذا لم يثبت حفظ الناقل لم يؤمن غلطه، فلا يقبل ما ينفرد به، لا سيما إذا خالف الثقات. السادس: أنه قد ثبت عن هؤلاء الصحابة بنقل الثقات من الطرق

المتعددة: ما يخالف نقل عثمان بن حاضر، فدل ذلك على أنه غلط فيما رواه. السابع: أن غاية هذا: أنه نقل عن بعض الصحابة الفرق بين العتق وغيره، وقد نقل عن هذا وعن غيره التسوية بينهما، فلو كان النقلان ثابتين لكان مسألة نزاع بين الصحابة، فكيف إذا كان هذا النقل؟ ! أثبت والصحابة الذين فيه أكثر وأفضل؟ ! والذين في ذلك هم هذا وزيادة. الثامن: أن فيه من الخطأ ما يدل على أنه لم يحفظ، فلفظ حديث عبد الرزاق. . . وساقه إلى آخره. وقال بعد ذلك: وهذا اللفظ فيه: (أنهما أفتيا بلزوم ما حلفت به) فأوقعا العتق، وقالا في المال بإجزاء زكاته لا بكفارة يمين. وهذا القول لا يعرف عن أحد قبل ربيعة بن أبي عبد الرحمن، بل أهل العلم بأقوال العلماء كالمتفقين على أنه لم يقله أحد قبل ربيعة. وقد ثبت بالنقول الصحيحة عن ابن عباس: أنه كان يأمر في ذلك بكفارة يمين، وكذلك عن ابن عمر. 6 - قال ابن قدامة (¬1) : اختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق: فقال القاضي في [الجامع] وأبو الخطاب هو تعليقه على شرط، أي شرط كان، إلا قوله: إذا شئت فأنت طالق ونحوه فإنه تمليك، وإذا حضت فأنت طالق فإنه طلاق بدعة، وإذا طهرت فأنت طالق فإنه طلاق سنة، وهذا قول أبي حنيفة؟ لأن ذلك يسمى حلفا عرفا فيتعلق به الحكم، كما لو قال: إن دخلت ¬

_ (¬1) [المغني ومعه الشرح] (8\ 334) .

الدار فأنت طالق، ولأن في الشرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله: والله وبالله وتالله، وقال القاضي في [المجرد] : هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع منه كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إن لم تدخلي فأنت طالق، أو على تصديق خبره مثل قوله: أنت طالق قدم زيد أو لم يقدم، فأما التعليق على غير ذلك، كقوله: أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج أو إن لم يقدم السلطان- فهو شرط محض ليس بحلف؛ لأن حقيقة الحلف القسم، وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفا تجوزا لمشاركته الحلف في المعنى المشهور، وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر، نحو قوله: والله لأفعلن أو لا أفعل أو قد فعلت أو لم أفعل، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا وهذا مذهب الشافعي، فإذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس فأنت طالق لم تطلق في الحال على القول الثاني؛ لأنه ليس بحلف، وتطلق على الأولى؛ لأنه حلف، وإن قال: كلما كلمت أباك فأنت طالق طلقت على القولين جميعا؛ لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد ذلك طلقت واحدة كلما أعاد مرة طلقت حتى تكمل الثلاث؛ لأن كل مرة يوجد بها شرط الطلاق وينعقد شرط طلقة أخرى، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي. وقال أبو ثور: ليس ذلك بحلف، ولا يقع الطلاق بتكرار؛ لأنه تكرار للكلام فيكون تأكيدا حلفا. . . ولنا: أنه تعليق للطلاق على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. وقوله:

إنه تكرار للكلام حجة عليه، فإن تكرار الشيء عبارة عن وجوده مرة أخرى، فإذا كان في الأولى حلفا فوجد مرة أخرى فقد وجد الحلف مرة أخرى، وأما التأكيد فإنما يحمل عليه الكلام المكرر إذا قصده، وهاهنا إن قصد إفهامها لم يقع بالثاني شيء، كما لو قال. أنت طالق أنت طالق، يعني بالثانية إفهامها، فأما إن كرر ذلك لغير مدخول بها بانت بطلقة، ولم يقع أكثر منها، فإذا قال لها ثلاثا بانت بالمرة الثانية ولم تطلق بالثالثة، فإن جدد نكاحها ثم أعاد ذلك لها، أو قال لها: إن تكلمت فأنت طالق أو نحو ذلك -لم تطلق بذلك؛ لأن شرط طلاقها إنما كان بعد بينونتها. 7 - وقال أيضا: باب تعليق الطلاق بالشروط. يصح ذلك من الزوج، ولا يصح من الأجنبي فلو قال: إن تزوجت فلانة، أو إن تزوجت امرأة فهي طالق- لم تطلق إذا تزوجها، وعنه تطلق، وإن قال لأجنبية: إن قمت فأنت طالق فتزوجها ثم قامت لم تطلق، رواية واحدة. 8 - ومن [حاشية المقنع] ما نصه (¬1) : قوله: ولا يصح من الأجنبي، فلو قال. . . إلخ، اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله تعالى في هذه المسألة، فالمشهور عنه أنه لا يقع، وهو المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وبه قال عطاء والحسن، وعروة، وجابر بن زيد، وسوار القاضي، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر، ورواه الترمذي عن علي رضي الله عنه، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين وشريح، وروي عن أحمد ما يدل على وقوع الطلاق، قال في ¬

_ (¬1) [المقتع وحاشيته] بخط الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (3\ 177)

الفروع،: وعنه صحة قوله لزوجته: من تزوجت عليك فهي طالق أو قوله لعتيقته: إن تزوجتك فأنت طالق، أو قال لرجعيته: إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا أراد التغليظ عليها، وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار، فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية، والأول أصح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طلاق ولا عتاق لابن آدم فيما لا يملك (¬1) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب، قال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن شيء في الباب، ورواه الدارقطني وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وزاد: «وإن عينها» ، وعن المسور مرفوعا قال: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك (¬2) » رواه ابن ماجه بإسناد حسن، قال أحمد رحمه الله تعالى: هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أصحابه. 9 - وقال علي بن سليمان المرداوي على قول الموفق: (ولا يصح من الأجنبي إلخ) (¬3) قال: هذا المذهب، وعليه الأصحاب، ونص عليه ثم ساق ما يدل على الوقوع. 10 - وقال عبد الله بن محمد بن مفلح (¬4) : (يصح مع تقدم الشرط) و (كعتق على وجه النذر) (¬5) أولا، وكذا إن تأخر، وعنه يتنجز. ونقله ابن هانئ في العتق، قال شيخنا: وتأخر القسم، كأنت طالق لأفعلن كالشرط، وأولى بأن لا يلحق، وذكر ابن عقيل في أنت طالق وكرره أربعا ثم قال عقب الرابعة: إن قمت طلقت ثلاثا؛ لأنه لا يجوز تعليق ما لم يملك ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطلاق (1181) ، سنن أبو داود الطلاق (2190) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2047) ، مسند أحمد بن حنبل (2/190) . (¬2) سنن ابن ماجه الطلاق (2048) . (¬3) [الإنصاف] (9\ 59) . (¬4) [الفروع] (5\ 424) وما بعدها. (¬5) أشار بها صاحب كتاب [الفروع] إلى أنها علامة ما أجمع عليه.

بشرط، ويصح بصريحه وبكنايته، مع قصده من زوج، وتعليقه من أجنبي كتعليقه عتقا بملك والمذهب لا يصح مطلقا، قاله القاضي وغيره، وعنه صحة قوله لزوجته: من تزوجت عليك فهي طالق، أو لعتيقته: إن تزوجتك فأنت طالق، أو لرجعيته: إن راجعتك فأنت طالق ثلاثا وأراد التغليظ عليها، وجزم به في [الرعاية] وغيرها في الأوليين، قال أحمد في العتيقة قد وطئها والمطلق قبل الملك لم يطأ، وظاهر أكثر كلام أصحابه التسوية، ويقع بوجود شرطه نص عليه، وقال: الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان، واحتج بابن عمر وابن عباس، وأن حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع لم يقل فيه: وكل مملوك لها حر، وأنهم أمروها بكفارة يمين، إلا سليمان التيمي انفرد به، واحتج في رواية أبي طالب بهذا الأثر على أن من حلف بالمشي إلى بيت الله، وهو محرم بحجة وهو يهدي وماله في المساكين صدقة يكفر واحدة، وأن فيه اعتقي جاريتك، ولا أعلم أحدا قال فيه: يجزئ عنه في العتق والطلاق كفارة يمين، ورواه أيضا الأثرم من حديث أشعث الحمراني بإسناد صحيح، وذكر ابن عبد البر أنهما تفردا به، وذكر ابن حزم وغيره: أنه صحيح فيه، وذكر البيهقي وغيره: أنه روى عنهما فيه: أما الجارية فتعتق. فكأن الراوي اختصر. واختار شيخنا إن أراد الجزاء بتعليقه كره الشرط أولا، وكذا عنده الحلف به، وبعتق، وظهار، وتحريم، وأن عليه دل كلام أحمد، وقال: نقل حرب أنه توقف عن وقوع العتق، وما توقف فيه يخرجه أصحابه على وجهين، قال: ومنهم من يجعله رواية، قال شيخنا: كما سلم الجمهور أن الحالف بالنذر ليس ناذرا، ولأنه لو علق إسلامه أو كفره لم يلزمه، وإن قصد الكفر تنجز وما لزم

منجزا مع تعليقه أبلغ، فإذا كان هذا إذا قصد اليمين به معلقا لا يلزم فذاك أولى، فعلى هذا إذا حنث فإنه في العتق إن لم يختره لزمه كفارة يمين، وفي غيره مبني على نذره فيكفر وإلا التزم ذلك بما يحدثه من قول أو فعل يكون موفيا لموجب عقده، ولا يجيء التخيير بينه وبين الكفارة عند من يوجب الكفارة عينا في الحلف بنذر الطاعة، وأما إنه لا شيء عليه ولا تطلق قبله (¬1) ذهب أحمد إلى قول أبي ذر: أنت حر إلى الحول، وعنه: بلى مع تيقن وجوده، وخصها شيخنا بالثلاث؛ لأنه الذي يصير كمتعة، ونقل مهنا في هذه الصورة تطلق إذن، قيل له فتتزوج في: قبل موتي بشهر؟ قال: لا، ولكن يمسك عن الوطء حتى يموت وذكر في [الرعاية] تحريمه وجها. انتهى المقصود. ¬

_ (¬1) في الهامش بعد قوله: (قبله) في مخطوط الدار: (وإن قال) .

11 - قال شيخ الإسلام (¬1) : وأما صيغة القسم، فهو أن يقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، فيحلف به على حض لنفسه أو لغيره، أو منع لنفسه أو لغيره، أو على تصديق خبر أو تكذيبه فهذا يدخل في مسائل الطلاق والأيمان، فإن هذا يمين باتفاق أهل اللغة فإنها صيغة قسم، وهو يمين أيضا في عرف الفقهاء، لم يتنازعوا في أنها تسمى يمينا ولكن تنازعوا في حكمها، فمن الفقهاء من غلب عليها جانب الطلاق فأوقع به الطلاق إذا حنث، ومنهم من غلب عليها جانب اليمين فلم يوقع به الطلاق، بل قال: عليه كفارة يمين، أو قال: لا شيء عليه بحال. ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\ 45) .

12 - وقال (¬1) أيضا: والثالث صيغة تعليق، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق ويسمى هذا طلاقا بصفة، فإما أن يكون قصد صاحبه الحلف وهو يكره وقوع الطلاق إذا وجدت الصفة، وأما أن يكون قصده إيقاع الطلاق عند تحقق الصفة. فالأول: حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء، ولو قال: إن حلفت يمينا فعلي عتق رقبة، وحلف بالطلاق- حنث، بلا نزاع نعلمه بين العلماء المشهورين، وكذلك ما يعلق بالشرط لقصد اليمين، كقوله: إن فعلت كذا فعلي عتق رقبة، أو فعبيدي أحرار، أو فعلي الحج، أو علي صوم شهر، أو فمالي صدقة، أو هدي ونحو ذلك- فإن هذا بمنزلة أن يقول: العتق يلزمني لأفعل كذا، أو علي الحج لا أفعل كذا، أو نحو ذلك، لكن المؤخر في صيغة الشرط مقدم في صيغة القسم، والمنفي في هذه الصيغة مثبت في هذه الصيغة. وقال أيضا: والثاني: وهو أن يكون قصد إيقاع الطلاق عند الصفة فهذا يقع به الطلاق إذا وجدت الصفة، كما يقع المنجز عند عامة السلف والخلف، وكذلك إذا وقت الطلاق بوقت كقوله: أنت طالق عند رأس الشهر، وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعلق، ولم يعلم فيه خلاف قديم، لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق، وهو قول الإمامية، مع أن ابن حزم ذكر في [كتاب الإجماع] إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق، وذكر أن الخلاف إنما هو فيما إذا أخرجه مخرج اليمين، ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\45)

هل يقع الطلاق أو لا يقع أو لا شيء عليه؟ أو يكون يمينا مكفرة على ثلاثة أقوال، كما أن نظائر ذلك من الأيمان فيها هذه الأقوال الثلاثة، وهذا الضرب وهو الطلاق المعلق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها وليس فيها معنى الحض أو المنع كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق هل هو يمين؟ فيه قولان: أحدهما: هو يمين، كقول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، والثاني: أنه ليس بيمين، كقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب أحمد، وهذا القول أصح شرعا ولغة، وأما العرف فيختلف. ثم ذكر (¬1) أنواع الأيمان جملة، وتكلم على كل نوع منها تفصيلا قال: والثاني: أن يكون مقصوده الحض أو المنع، أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج، وصوم سنة، ومالي صدقة، وعبيدي أحرار، ونسائي طوالق - فهذا الصنف يدخل في مسائل (الأيمان) ويدخل في مسائل (الطلاق والعتاق والنذر والظهار) وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط، وقد وجد الشرط، فيلزمه كنذر التبرر المعلق بالشرط. والقول الثاني: هذه يمين غير منعقدة، فلا شيء فيها إذا حنث لا كفارة ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت (¬2) » وفي رواية في الصحيح: «لا تحلفوا إلا بالله (¬3) » . والقول الثالث: إن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\ 49) وما بعدها. (¬2) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، مسند أحمد بن حنبل (2/11) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) . (¬3) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .

ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق، فقالوا في الأول: عليه كفارة يمين إذا حنث، وقالوا في الثاني: يلزمه ما علقه، وهو الذي حلف به إذا حنث؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم في الثاني وقوع حرمة، وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة. والقول الثالث: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة، كما بسط ذلك في موضعه، وذلك أن الله تعالى قال في كتابه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (¬1) إلى قوله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬2) وقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬3) وثبت في [الصحيحين] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه (¬4) » . وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى: أما اللفظ: فلقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬5) وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} (¬6) وهذا خطاب للمؤمنين، فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا، والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (¬7) » رواه أهل [السنن] أبو داود وغيره، فلا تدخل هذه في أيمان ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 89 (¬2) سورة المائدة الآية 89 (¬3) سورة التحريم الآية 2 (¬4) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) . (¬5) سورة التحريم الآية 2 (¬6) سورة المائدة الآية 89 (¬7) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .

المسلمين، وأما ما عقده بالله والله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك؛ ولهذا لو قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق - دخل في ذلك، كما ذكر ذلك الفقهاء، ولا أعلم فيها نزاعا، ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات، وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب. أما من جهة المعنى: فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم، لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أو ل الإسلام قبل أن تشرع الكفارة، لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت المفسدة موجودة. وأيضا: فقد قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} (¬1) نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها، فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به. وأيضا: فقد قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3) (والإيلاء) هو الحلف والقسم، والمراد بالإيلاء هنا: أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته، وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا، وإن حلف بما عقده ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 224 (¬2) سورة البقرة الآية 226 (¬3) سورة البقرة الآية 227

لله؛ كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق- كان موليا عند جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي - في قوله الجديد- وأحمد. ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا، كابن المنذر وغيره، وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين: إما أن يفيء، وإما أن يطلق، والفيئة: هي الوطء، خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان، فإن فاء فوطئها حصل مقصودها، وقد أمسك بمعروف، وقد قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقا امرأته، ولا تسقط الكفارة، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬3) فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان، حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين وإن كان المولي لا يفيء، بل قد عزم على الطلاق فإن الله سميع عليم، فحكم المولي في كتاب الله: أنه إما أن يفيء، وإما أن يعزم الطلاق، فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق، وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى. وأما اليمين بالطلاق فمن قال: إنه يقع به الطلاق فلا يكفر، فإنه يقول: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 226 (¬2) سورة التحريم الآية 1 (¬3) سورة التحريم الآية 2

إن فاء المولي بالطلاق وقع به الطلاق، وإن عزم الطلاق فأوقعه وقع به الطلاق، فالطلاق على قوله لازم، سواء أمسك بمعروف أو سرح بإحسان، والقرآن يدل على أن المولي مخير: إما أن يفيء، وإما أن يطلق، فإذا فاء لم يلزمه الطلاق، بل عليه كفارة الحنث إذا قيل: بأن الحلف بالطلاق فيه الكفارة، فإن المولي بالحلف بالله إذا فاء لزمته كفارة الحنث عند جمهور العلماء، وفيه قول شاذ: أنه لا شيء عليه بحال، وقول الجمهور أصح، فإن الله بين في كتابه كفارة اليمين في سورة المائدة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه (¬1) » . فإن قيل: المولي بالطلاق إذا فاء غفر الله له ما تقدم من تأخير الوطء للزوجة، وإن وقع به الطلاق، ورحمه بذلك. قيل: هذا لا يصح، فإن أحد قولي العلماء القائلين بهذا الأصل: أن الحالف بالطلاق ثلاثا أن لا يطأ امرأته لا يجوز له وطؤها بحال، فإنه إذا أولج حنث، وكان النزاع في أجنبية، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد وأحد القولين في مذهب مالك. والثاني: يجوز له وطأة واحدة ينزع عقبها، وتحرم بها عليه امرأته، ومعلوم: أن الإيلاء إنما كان لحق المرأة في الوطء، والمرأة لا تختار وطأة يقع بها الطلاق الثلاث عقبها إلا إذا كانت كارهة له فلا يحصل مقصودها بهذا الفيئة. وأيضا فإنه على هذا التقدير لا فائدة في التأجيل، بل تعجيل الطلاق أحب إليها لتقضي العدة لتباح لغيره، فإن كان لا بد لها من الطلاق على ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) .

التقديرين كان التأجيل ضررا محضا لها، وهذا خلاف مقصود الإيلاء الذي شرع لنفع المرأة لا لضرها. وما ذكرته من النصوص قد استدل به الصحابة وغيرهم من العلماء في هذا الجنس، فأفتوا من حلف فقال: إن فعلت كذا فمالي هدي، وعبيدي أحرار، ونحو ذلك- بأن يكفر عن يمينه، فجعلوا هذا يمينا مكفرة، وكذلك غير واحد من علماء السلف والخلف جعلوا هذا متناولا للحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك من الأيمان، وجعلوا كل يمين يحلف بها الحالف ففيها كفارة يمين وإن عظمت، وقد ظن طائفة من العلماء: أن هذا الضرب فيه شبه من النذر والطلاق والعتاق وشبه من الأيمان، وليس كذلك، بل هذه أيمان محضة. وأئمة الفقهاء الذين اتبعوا الصحابة بينوا أن هذه أيمان محضة كما قرر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما في الحلف بالنذر، ولكن هي أيمان علق الحنث فيها على شيئين: أحدهما: فعل المحلوف عليه. الثاني: عدم إيقاع المحلوف به. فقول القائل: إن فعلت كذا فعلي الحج هذا العام بمنزلة قوله: والله إن فعلت كذا لأحجن هذا العام، وهو لو قال ذلك لم يلزمه كفارة إلا إذا فعل ولم يحج ذلك العام، كذلك إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أحج هذا العام إنما تلزمه الكفارة إذا فعله ولم يحج ذلك العام، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أعتق عبدي أو أطلق امرأتي- فإنه لا تلزمه الكفارة إلا فعله ولم يطلق ولم يعتق، ولو قال: والله إن فعلت كذا فوالله لأطلقن امرأتي

ولأعتقن عبدي، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق وعبدي حر- هو بمنزلة قوله: والله إن فعلت كذا ليقعن بي الطلاق والعتاق، ولأوقعن الطلاق والعتاق، وهو إذا فعله لم تلزمه الكفارة وإلا إذا لم يقع به الطلاق والعتاق، وإذا لم يوقعه لم يقع لأنه لم يوجد شرط الحنث؛ لأن الحنث معلق بشرطين والمعلق بالشرط قد يكون وجوبا، وقد يكون وقوعا، فإذا قال: إن فعلت كذا فعلي صوم شهر فالمعلق وجوب الصوم، وإذا قال: فعبدي حر وامرأتي طالق، فالمعلق وقوع العتاق والطلاق، وقد تقدم أن الرجل المعلق إن كان قصده وقوع الجزاء عند الشرط وقع، كما إذا كان قصده أن يطلقها إذا أبرأته من الصداق فقال: إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق فهنا إذا وجدت الصفة وقع الطلاق. وأما إذا كان قصده الحلف وهو يكره وقوع الجزاء عند الشرط فهذا حالف، كما لو قال: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. وأما قول القائل: إنه التزم الطلاق عند الشرط فيلزمه فهذا باطل من أوجه: أحدها: أن الحالف بالكفر والإسلام- كقوله: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، وقول الذمي: إن فعلت كذا فأنا مسلم- هو التزام للكفر والإسلام عند الشرط، ولا يلزمه ذلك بالاتفاق؛ لأنه لم يقصد وقوعه عند الشرط، بل قصد الحلف به، وهذا المعنى موجود في سائر أنواع الحلف بصيغة التعليق. الثاني: أنه إذا قال: إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي لم يلزمه أن يطلقها بالاتفاق إذا فعله. الثالث: أن الملتزم لأمر عند الشرط إنما يلزمه بشرطين:

أحدهما: أن يكون الملتزم قربة. الثاني. أن يكون قصده التقرب إلى الله به لا الحلف به فلو التزم ما ليس بقربة كالتطليق والبيع والإجارة والأكل والشرب لم يلزمه، ولو التزم قربة كالصلاة والصيام والحج على وجه الحلف بها لم يلزمه، بل تجزيه كفارة يمين عند الصحابة وجمهور السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد، وآخر الروايتين عن أبي حنيفة، وقول المحققين من أصحاب مالك. وهنا الحالف بالطلاق هو التزم وقوعه على وجه اليمين، وهو يكره وقوعه إذا وجد الشرط، كما يكره وقوع الكفر إذا حلف به، وكما يكره وجوب تلك العبادات إذا حلف بها. وأما قول القائل: إن هذا حالف بغير الله فلا يلزمه كفارة. فيقال. النص ورد فيمن حلف بالمخلوقات، ولهذا جعله شركا؛ لأنه عقد اليمين بغير الله فمن عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله؛ ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين، فوجوب الكفارة فيما عقد لله أولى من وجوبها فيما عقد بالله. 13 - وقال أيضا (¬1) : فصل: في التفريق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق الذي يقصد به اليمين. فالأول: أن يكون مريدا للجزاء عند الشرط، وإن كان الشرط مكروها له، لكنه إذا وجد الشرط فإنه يريد الطلاق؛ لكون الشرط أكره إليه من الطلاق، فإنه وإن كان يكره طلاقها ويكره الشرط، لكن إذا وجد الشرط ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\64)

فإنه يختار طلاقها: مثل: أن يكون كارها للتزوج بامرأة بغي أو فاجرة أو خائنة أو هو لا يختار طلاقها، لكن إذا فعلت هذه الأمور اختار طلاقها، فيقول: إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق، ومراده إذا فعلت ذلك أن يطلقها: إما عقوبة لها، وإما كراهة لمقامه معها على هذا الحال، فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف، ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة كابن مسعود وابن عمر، وعن التابعين وسائر العلماء وما علمت أحدا من السلف قال في مثل هذا: أنه لا يقع به الطلاق، ولكن نازع في ذلك طائفة من الشيعة، وطائفة من الظاهرية، وهذا ليس بحالف، ولا يدخل في لفظ اليمين المكفرة الواردة في الكتاب والسنة، ولكن من الناس من سمى هذا حالفا، كما أن منهم من يسمي كل معلق حالفا، ومن الناس من يسمي كل منجز للطلاق حالفا، وهذه الاصطلاحات الثلاثة ليس لها أصل في اللغة ولا في كلام الشارع، ولا كلام الصحابة وإنما سمي ذلك يمينا لما بينه وبين اليمين من القدر المشترك عند المسمي وهو ظنه وقوع الطلاق عند الصفة. وأما التعليق الذي يقصد به اليمين فيمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم بخلاف النوع الأول، فإنه لا يمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم، وهذا القسم إذا ذكره بصيغة الجزاء فإنما يكون إذا كان كارها للجزاء، وهو أكره إليه من الشرط فيكون كارها للشرط، وهو للجزاء أكره، ويلتزم أعظم المكروهين عنده ليمتنع به من أدنى المكروهين، فيقول: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو عبيدي أحرار أو علي الحج، ونحو ذلك، أو يقول لامرأته: إن زنيت أو سرقت أو خنت فأنت طالق، يقصد: زجرها أو تخويفها باليمين، لا إيقاع الطلاق إذا فعلت؛ لأنه يكون مريدا لها، وإن يقصد ذلك لكون

طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال، فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع، لا لقصد الإيقاع، فهذا حالف ليس بموقع، وهذا الحالف في الكتاب والسنة، وهو الذي تجزئه الكفارة، والناس يحلفون بصيغة القسم، وقد يحلفون بصيغة الشرط التي في معناها فإن علم هذا وهذا سواء باتفاق العلماء. 14 - وقال أيضا (¬1) : إذا حلف الرجل بالحرام فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، أو الحل علي حرام لا أفعل كذا، أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا، أو ما يحل للمسلمين يحرم علي إن فعلت كذا أو نحو ذلك وله زوجة- ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف، ولكن القول الراجح: أن هذه يمين من الأيمان لا يلزمه بها طلاق، ولو قصد بذلك الحلف بالطلاق، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه، حتى لو قال: أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده، ولو قال: أنت علي كظهر أمي وقصد به الطلاق فإن هذا لا يقع به الطلاق عند عامة العلماء، وفي ذلك أنزل الله القرآن فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقا، والإيلاء طلاقا، فرفع الله ذلك كله وجعل في الظهار الكفارة الكبرى، وجعل الإيلاء يمينا يتربص فيها الرجل أربعة أشهر- فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، كذلك قال كثير من السلف والخلف- إنه إذا كان متزوجا فحرم امرأته أو حرم الحلال مطلقا كان مظاهرا، وهذا مذهب أحمد، وإذا حلف بالظهار والحرام لا يفعل شيئا وحنث في يمينه أجزأته ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (33\ 74)

الكفارة في مذهبه، لكن قيل: إن الواجب كفارة ظهار، سواء حلف أو أوقع، وهو المنقول عن أحمد، وقيل بل إن حلف به أجزأه كفارة يمين وإن أوقعه لزمه كفارة ظهار وهذا أقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره، فالحلف بالحرام يجزيه كفارة يمين، كما يجزئ الحالف بالنذر إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة، كذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين، وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ فيه أيضا كفارة يمين كما أفتى به جماعة من السلف والخلف، والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك، بل معناه يوافقه، فكل يمين يحلف بها المسلمون في أيمانهم ففيها كفارة يمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، وأما إذا كان مقصود الرجل أن يطلق أو أن يعتق أو أن يظاهر، فهذا يلزمه ما أوقعه سواء كان منجزا أو معلقا ولا يجزئه كفارة يمين.

15 - وقال ابن القيم (¬1) : ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا، وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في [صحيح البخاري] عن نافع قال: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء، فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا، وأما من يفصل بين القسم المحض، ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] لابن قيم الجوزية - تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل (3\ 69- 80) .

والتعلق الذي يقصد به الوقوع، فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وقد صح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب: ما أفتوا به في النوعين، ولا يؤخذ ببعض فتاويهم، ويترك بعضها. فأما الوقوع: فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر، وما رواه الثوري عن الزبير بن عربي عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق ففعلته، قال: هي واحدة، وهو أحق بها على أنه منقطع (¬1) . وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سنة، قال: يستمتع بها إلى سنة، ومن هذا قول أبي ذر لامرأته، وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر، فقال: إن عدت سألتيني فأنت طالق. فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق. وأما الآثار عنهم في خلافه: فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها، ولا تفرق بينهما. قال الأثرم في [سننه] ،: ثنا عارم بن الفضل، ثنا معمر بن سليمان، قال أبي: ثنا بكر بن عبد الله، قال: أخبرني أبو رافع، قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية، ¬

_ (¬1) في سنده الجراح بن المنهال، ضعفه غير واحد، وقال ابن حبان: كان يكذب في الحديث، ويشرب الخمر.

وهي نصرانية، إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال. فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال: فأتيتها، فجاءت معي إليها، فقالت: في البيت هاروت وماروت؟ فقالت: يا زينب - جعلني الله فداك- إنها قالت: إن كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية، فقالت: (يهودية ونصرانية! خلي بين الرجل وامرأته) فأتيت حفصة أم المؤمنين، فأرسلت إليها، فأتتها، فقالت: يا أم المؤمنين، جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية! ؟ ، فقالت: (يهودية ونصرانية! ؟ خلي بين الرجل وامرأته) ، قالت: فأتيت عبد الله بن عمر، فجاء معي إليها، فقام معي على الباب، فسلم فقالت. بأبي أنت وبأبي أبوك، فقال: (أمن حجارة أنت، أم من حديد أنت، أم أي شيء أنت؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين، فلم تقبلي فتياهما) فقالت: يا أبا عبد الرحمن - جعلني الله فداك- إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقال. (يهودية ونصرانية! ؟ كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته) . وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في المترجم له: ثنا صفوان بن صالح، ثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، قال: حدتني حسن بن الحسن قال: حدثني بكر بن عبد الله المزني، قال: حدثني رفيع، قال: كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فحلفت بالهدي والعتاقة: أن تفرق بيننا، فأتيت امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت لها ذلك، فأرسلت إليها أن كفري عن يمينك، فأبت، ثم أتيت زينب وأم سلمة، فذكرت ذلك

لهما، فأرسلتا إليها. أن كفري عن يمينك، فأبت، فأتيت ابن عمر، فذكرت ذلك له، فأرسل إليها ابن عمر: أن كفري عن يمينك، فأبت، فقام ابن عمر فأتاها، فقال: أرسلت إليك فلانة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وزينب أن تكفري عن يمينك، فأبيت، قالت: يا أبا عبد الرحمن، إني حلفت بالهدي والعتاقة. قال: وإن كنت قد حلفت بهما. وقال الدارقطني. ثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا محمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري، ثنا أشعث، ثنا بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع: أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت؟ فأمروها أن تكفر عن يمينها، وتخلي بينهما. وقد رواه البيهقي من طريق الأنصاري: ثنا أشعث، ثنا بكر، عن أبي رافع: أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يوما يهودية، ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها في سبيل الله، وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكفري مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما. رواه روح والأنصاري واللفظ له، وحديث روح مختصر. وقال النضر بن شميل: ثنا أشعث، عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع، عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا: تكفر يمينها.

وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان التيمي: ثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع: أن ليلى بنت العجماء مولاته، قالت: هي يهودية وهي نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي إن لم يطلق امرأته إن لم تفرق بينهما فذكر القصة، وقال: فأتيت ابن عمر، فجاء معي، فقام بالباب، فلما سلم قالت: بأبي أنت وأبوك، قال: أمن حجارة أنت أم من حديد؟ أتتك زينب، وأرسلت إليك حفصة، قالت: قد حلفت بكذا وكذا. قال: كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته. فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعل بها حديث ليلى هذا، وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق، كذا قال الإمام أحمد: لم يقل: (وكل مملوك لها حر) إلا التيمي، وبرئ التيمي من عهدة التفرد. وقاعدة الإمام أحمد: أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، فعلى أصله الذي بنى مذهبه عليه يلزمه القول بهذا الأثر؛ لصحته وانتفاء علته. فإن قيل: للحديث علة أخرى، وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به، وقد أشار إليها في رواية الأثرم، فقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا، وكل مملوك لها حر، فأفتيت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته، وأيمان، فقال: أما الجارية فتعتق. قلت: يريد بهما: ما رواه معمر عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حاضر قال: حلفت امرأة من آل ذي أصبح فقالت: مالها في سبيل الله، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشيء يكرهه زوجها، فحلف زوجها

أن لا تفعله، فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر، فقالا: أما الجارية فتعتق، وأما قولها: مالي في سبيل الله فتتصدق بزكاة مالها، فقيل: لا ريب أنه قد روي عن ابن عمر وابن عباس ذلك، ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان. هذا وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادا وأصح من حديث عثمان، فإن رواته حفاظ أئمة، وقد خالفوا عثمان، وأما ابن عباس فقد روي عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله، قال: يكفر يمينه، وغاية هذا الأثر إن صح أن يكون عن ابن عمر روايتان، ولم يختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة. قال أبو محمد بن حزم: وصح عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة أمي المؤمنين، وعن ابن عمر: أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك- كفارة يمين واحدة. فإذا صح هذا عن الصحابة، ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن حاضر في قول الحالف: عبده حر إن فعل، أنه يجزيه كفارة يمين، وإن لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله تعالى، فإن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى، وكيف وقد أفتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الحالف بالطلاق: أنه لا شيء عليه، ولم يعرف له في الصحابة مخالف. قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بزيزه في شرحه لأحكام عبد الحق: (الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه) وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك: هل يلزم أم لا؟ فقال أمير المؤمنين علي كرم

الله وجهه وشريح وطاوس: لا يلزمه من ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به بحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، هذا لفظه بعينه، فهذه فتوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلف بالعتق والطلاق. وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط، ولا تعارض بين ذلك، فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق، وإنما قصد منع نفسه بالحلف بما لا يريد وقوعه، فهو كما لو خص منع نفسه بالتزام التطليق والإعتاق والحج والصوم وصدقة المال، وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر، فإن كراهته لذلك كله، وإخراجه مخرج اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمه، وهذه علة صحيحة، فيجب طردها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق البتة، والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها، كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم، بل لزوم الإعتاق، والتطليق، بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى، أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين، وعدم قصد وقوعها فالطلاق أولى، وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صور الإلزام سواء بسواء، وأما الحلف بالتزام التطليق والإعتاق، فإذا كان قصد اليمين قد منع ثلاثة أشياء: وهي: وجوب التطليق، وفعله، وحصول أثره، وهو الطلاق، فلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى. أما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة، وبالقول تارة، وبالشك تارة، ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه، فلأن يمنع من

وقوع الطلاق أولى وأحرى، وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى الله، ويسري في ملك الغير، وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره، ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه، كما أفتى به الصحابة، فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع، وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول المكلف: (أيمان المسلمين تلزمني) عند من ألزمها بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1) أولى وأحرى. وإذا دخلت في قول الحالف: إن حلفت يمينا فعبدي حر، فدخولها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير (¬2) » أولى وأحرى. وإذا دخلت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك (¬3) » فدخولها في قوله: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه (¬4) » أولى وأحرى، فإن الحديث أصح وأصرح. وإذا دخلت في قوله: «من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان (¬5) » فدخولها في قوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (¬6) أولى وأحرى بالدخول أو مثله. ¬

_ (¬1) سورة التحريم الآية 2 (¬2) صحيح مسلم الأيمان (1651) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3786) ، سنن ابن ماجه كتاب الكفارات (2108) ، مسند أحمد بن حنبل (4/378) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2345) . (¬3) سنن الترمذي النذور والأيمان (1532) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2104) . (¬4) صحيح مسلم الأيمان (1650) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1530) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1034) . (¬5) صحيح البخاري المساقاة (2357) ، صحيح مسلم الإيمان (138) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2996) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3243) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2323) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) . (¬6) سورة المائدة الآية 89

وإذا دخلت في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (¬1) فلو حلف بالطلاق كان موليا، فدخولها في نصوص الأيمان أولى وأحرى؛ لأن الإيلاء نوع من اليمين، فإذا دخل في الحلف في الطلاق في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه، فإن النوع مستلزم الجنس، ولا ينعكس. وإذا دخلت في قوله: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك (¬2) » فكيف لا يدخل في بقية نصوص الأيمان، وما الذي أوجب هذا التخصيص من غير مخصص؟! وإذا دخلت في قوله: «إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق ثم يمحق (¬3) » فهلا دخلت في غيره من نصوص اليمين؟ وما الفرق المؤثر شرعا أو عقلا أو لغة؟ وإذا دخلت في قوله {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (¬4) فهلا دخلت في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬5) وإذا دخلت في قول الحالف: (أيمان البيعة تلزمني) وهي الأيمان التي رتبها الحجاج، فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام الله تعالى ورسوله؟! فإذا كانت يمين الطلاق يمينا شرعية بمعنى: أن الشرع اعتبرها وجب أن تعطى حكم الأيمان، وإن لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع، فلا يلزم الحالف بها شيئا، كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه: (ليس الحلف بالطلاق شيئا) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 226 (¬2) صحيح مسلم الأيمان (1653) ، سنن الترمذي الأحكام (1354) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2121) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2349) . (¬3) صحيح مسلم المساقاة (1607) ، سنن النسائي البيوع (4460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2209) ، مسند أحمد بن حنبل (5/297) . (¬4) سورة المائدة الآية 89 (¬5) سورة المائدة الآية 89

وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود بن علي في تفسيره عنه: أنها من خطوات الشيطان، لا يلزم بها شيء، وصح عن شريح قاضي أمير المؤمنين علي وابن مسعود: أنها لا يلزم بها طلاق، وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه، وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله: إن كلمت فلانا فأنت طالق، فقال: لا تطلق إن كلمته؛ لأن الطلاق لا يكون بيدها إن شاءت طلقت، وإن شاءت أمسكت، وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور، كقوله: الطلاق يلزمني أو لازم لي أفعل كذا وكذا، فإن لهم فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه، وإلا فلا يلزمه، وجعله هؤلاء كناية، والطلاق يقع بالكناية مع النية. الوجه الثاني: أنه صريح فلا يحتاج إلى نيته، وهذا اختيار الروياني، ووجهه: أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية. الوجه الثالث: أنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به طلاق وإن نواه، وهذا اختيار القفال في [فتاويه] . ووجهه: أن الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة، كقوله: أنت طالق، أو طلقتك، أو قد طلقتك، أو يقول: امرأتي طالق أو فلانة طالق، ونحو هذا، ولم توجد هذه الإضافة في قوله: الطلاق يلزمني؛ ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك، فقالت: أنت طالق، فإنه لا يقع بذلك طلاقا، وقال عطاء: الله بوأها، وتبعه على ذلك الأئمة، فإذا قال: الطلاق يلزمني لم يكن لازما له إلا أن يضيفه إلى محله، وإن لم يضفه فلا

يقع، والموقعون يقولون: إذا التزمه فقد لزمه، ومن ضرورة لزومه إضافته إلى المحل فجاءت الإضافة من ضرورة اللزوم، ولمن نصر قول القفال: أن يقول: إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقع الطلاق الذي هو أثره، فإن كان الأول لم يلزمه؛ لأنه نذر أن يطلق، ولا تطلق المرأة بذلك، وإن كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع. وقوله: الطلاق يلزمني التزام لحكمه عند وقوع سببه، وهذا حق فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق، وقوله: (الطلاق يلزمني) لا يصلح أن يكون سببا (إذ) لم يضف فيه الطلاق إلى محله (فهو كما لو قال: (العتق يلزمني) ولم يضف فيه العتق إلى محله) (¬1) بوجه، ونظير هذا أن يقول له: بعني أو أجرني، فيقول: البيع يلزمني، أو الإجارة تلزمني، فإنه لا يكون بذلك موجبا لعقد البيع أو الإجارة حتى يضيفهما إلى محلهما، وكذلك لو قال: الظهار يلزمني لم يكن ذلك مظاهرا حتى يضيفه إلى محله، كما لو قال: العتق يلزمني، ولم يضف فيه العتق إلى محله، وهذا بخلاف ما لو قال: الصوم يلزمني أو الحج، أو الصدقة، فإن محله الذمة، وقد أضافه إليها. فإن قيل: وهاهنا محل الطلاق والعتاق الذمة؟ قيل: هذا غلط، بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد، وإنما الذمة محل وجوب ذلك، وهو التطليق والإعتاق، وحينئذ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع، والذي يوضح هذا: أنه لو ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة دار الفكر 1397 هـ (الناشر) .

قال: أنا منك طالق، لم تطلق بذلك؛ لإضافة الطلاق إلى غير محله. وقيل: تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك؛ تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات، فهذا كشف سر هذه المسألة. وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في [شرح التنبيه] . انتهى المقصود. وقال ابن القيم (¬1) أيضا: قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان: إحداهما: إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق. والثانية: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وإن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا. ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\83) .

16 - قال السبكي: ردا على استدلال شيخ الإسلام ابن تيمية قال: الفصل الثالث في الجواب عن استدلاله بالآيتين المذكورتين على وجه التفصيل: أما الآية الأولى: فهي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬1) وساق الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2) ثم قال: وإنما الاستدلال بها إذا تبين دخول يمين الطلاق في عموم قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬3) ولم يكن لذلك معارض يمنع دخولها فيه، والكلام على هذه الآية يلتفت على الكلام على الآية الأخرى في سورة البقرة، قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (¬4) وساق الآية إلى قوله تعالى: {عَلِيمٌ} (¬5) ثم قال: وللمفسرين في معنى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 89 (¬2) سورة المائدة الآية 89 (¬3) سورة المائدة الآية 89 (¬4) سورة البقرة الآية 224 (¬5) سورة البقرة الآية 224

{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} (¬1) قولان: أحدهما: أن المراد: لا تجعلوا اليمين بالله تعالى عرضة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فتحلفوا، لا تفعلوا فتبقى اليمين متعرضة بين الحالف وبين البر والتقوى، فنهاهم الله عن اليمين على ذلك، ثم شرع لهم الكفارة للتخلص من هذا المنع ليكون طريقا للحالف إلى الرجوع إلى البر والتقوى والإصلاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (¬2) » . والقول الثاني: أن المراد: لا تجعلوا اسم الله عرضة لأيمانكم فتبتذلوه بالحلف به في كل شيء، وقوله: {أَنْ تَبَرُّوا} (¬3) معناها: إرادة أن تبروا، يعني: إذا لم تبتذلوا اسم الله في كل يمين قدرتم على البر، ثم شرع لهم الكفارة لتكون جابرة لما يحصل من انتهاك حرمة الاسم المعظم، ولا شك أن اليمين بالله تعالى مرادة في الآيتين، وهي اليمين الشرعية، وهي التي شرعت الكفارة فيها أصلا فالحالف يعقد اليمين بالله على أن يفعل كذا أو أن لا يفعل كذا، فإذا قال: (والله لا أفعل) أو (والله لأفعلن) فقد أكد عقده بهذا الاسم المعظم؛ ولهذا نهي عن الحلف بغير الله عز وجل، ونقل ابن عبد البر إجماع العلماء: أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها. ومن هنا قال أهل الظاهر: لا كفارة إلا في اليمين بأسماء الله عز وجل وصفاته ولا تجب الكفارة في يمين غير ذلك، وممن قال بهذا القول: الشعبي والحكم والحارث العكلي وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن، نقله ابن عبد البر وقال: هو الصواب عندنا والحمد لله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 224 (¬2) صحيح البخاري كتاب كفارات الأيمان (6721) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3780) . (¬3) سورة البقرة الآية 224

وقال جمهور العلماء بوجوب الكفارة في أيمان غيرها لكن على سبيل الإلحاق بها لوجود علة وجوب الكفارة عندهم، هذه أقوال المعتبرين من العلماء. . . هذا مع اتفاق العلماء كلهم على أمرين: أحدهما: أن يمين الطلاق لا كفارة فيها، ولو قلنا: هي يمين. والثاني: أن عموم الآية مخصوص، فلا تجب الكفارة في كل ما يطلق عليه اسم اليمين لغة، وإذا كانت الكفارة لا تجب في كل ما يسمى يمينا في اللغة لم تبق الآية الكريمة مجراة على عمومها، وحينئذ فالآية إما محمولة على اليمين الشرعية، أو على اليمين اللغوية، والحمل على الموضوع الشرعي أولى عند المحققين من العلماء، فإذا كان للفظ معنى في اللغة ومعنى في الشرع إما يقاربه وإما يباينه، ووجدنا ذلك اللفظ في خطاب الشارع حملناه على معناه في الشرع، فإن تعذر حملناه على معناه في اللغة والعرف، وهاهنا في الآية زيادة وهي: أن الحمل فيها على الموضوع اللغوي يوجب تخصيص عمومها والحمل على المعنى الشرعي قد لا يوجب ذلك، وما سلم من التخصيص أو كان أقل تخصيصا كان أولى فيتعين حمل الأيمان في الآية الكريمة على المعنى الشرعي، واليمين الشرعية هي ما شرع الحلف به، أو لم يكره ولم يحرم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من

كان حالفا فلا يحلف إلا بالله (¬1) » وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم (¬2) » وفي [سنن النسائي] من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون (¬3) » فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل يمين بغير الله عز وجل وما نهى عنه لم يكن شرعيا، ولا فرق بين اليمين باسم الله عز وجل أو غيره من الأسماء الحسنى والصفات العليا، والكل شرعي ينعقد، فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف فيقول: "لا، ومقلب القلوب (¬4) » «وفي حديث صفة الجنة: أن جبريل قال: (وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها (¬5) » «ولما حلف الصحابة بالكعبة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: ورب الكعبة (¬6) » فكل أيمان شرعية؛ لأن المعنى في النهي عن الحلف بغير الله: أن الحلف تعظيم للمحلوف به على وجه لا يليق بغير الله عز وجل، فبأي اسم من أسماء الله عز وجل أو صفة من صفاته حلف لم يكن معظما لغير الله تعالى، فإذا كانت اليمين الشرعية: هي اليمين بالله عز وجل أو صفاته كانت الآية محمولة على ذلك، فدلت الآية على أن كل يمين بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته يوجب الكفارة عند الحنث؛ لأن اللفظ شرعي، فيحمل على المعنى الشرعي، وتكون الآية على عمومها في كل الأيمان الشرعية، فلا تكون الآية دالة على إيجاب الكفارة في شيء من الأيمان سوى الأيمان الشرعية، وهي: الأيمان بالله وبأسمائه وصفاته، ولا تدخل اليمين بالطلاق ولا غيرها في ذلك. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) . (¬2) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) . (¬3) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) . (¬4) صحيح البخاري القدر (6617) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1540) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3761) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3263) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2092) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2350) . (¬5) سنن النسائي الأيمان والنذور (3763) ، سنن أبو داود السنة (4744) ، مسند أحمد بن حنبل (2/333) . (¬6) سنن النسائي الأيمان والنذور (3773) .

ثم إن العلماء رأوا أن بعض الأيمان ملحق باليمين بالله تعالى في إيجاب الكفارة فألحقوه بذلك؛ لوجود المعنى الذي شرعت الكفارة لأجله، وعند هذا اختلف نظرهم: فمنهم من يلحق أنواعا كثيرة، ومنهم من يلحق أقل من ذلك على اختلاف نظرهم واجتهادهم ويوجد هذا الاختلاف بالصحابة والتابعين ومن بعدهم...... ومضى إلى أن قال: قد أجمعت الأمة على أن يمين الطلاق ليست داخلة في أيمان الكفارة، فلا معدل عن الإجماع، إذ لا يعارض الإجماع بدليل غيره، هذا أيضا لم يقله أحد من المسلمين، ثم إن هذه الأيمان التي ذكرناها تسمى أيمانا، قال ابن عبد البر: وأما الحلف بالطلاق والعتق فليس بيمين عند أهل التحصيل والنظر، وإنما هو طلاق بصفة أو عتق بصفة إذا أوقعه موقعا وقع على حسب ما يجب في ذلك عند العلماء كل على أصله، وقول المتقدمين: الأيمان بالطلاق والعتق إنما هو كلام خرج على الامتناع والمجاز والتقريب، وأما الحقيقة فإنما هو طلاق على وصف وعتق على وصف ما، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل، فقد تبين خروج يمين الطلاق من الآية الكريمة.

وأما الآية الثانية: وهي: قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1) فإن المستدل تعلق بها بناء على أن الكفارة وجبت في التحريم، خاصة وأن الله سبحانه جعله يمينا وأجراه مجرى اليمين في الكفارة، ونبه على دخوله في الآية المذكورة قبلها، وهذا ليس كذلك، فإن هذه الواقعة قد قيل: إنها في قصة مارية، وقيل: في قصة العسل، ومن العلماء من لم يذكر فيها يمينا بالله تعالى، وجعل الكفارة للتحريم، وعلى هذا القول يخرج الجواب مما تقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم توقف عن الكفارة حتى قال له الله سبحانه ما قال، فلو كان الحرام يسمى حقيقة لعلم دخوله في الآية الأولى فلما احتاج إلى إعلام الله إياه دل على أنه لم يدخل في اليمين إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، وفي مسألة التحريم أقوال كثيرة للعلماء، وأكثرهم على أنه ليس بيمين على الإطلاق، فلا يدخل في الآية الكريمة إلا في الحكم لا في الاسم الحقيقي، هذا على قول من يوجب الكفارة لكونه تحريما. وأما من لم يقل بذلك فيقول: الكفارة ليمين بالله اقترنت بالتحريم، وقد قال بعض من استدل بالآية على أن التحريم يمين: (من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم حلف مع الكفارة فقد قال ما لم يقله أحد) وقد روى البيهقي بإسناده إلى ¬

_ (¬1) سورة التحريم الآية 2

عائشة رضي الله عنها قالت: «آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة (¬1) » . وروى أبو داود مرسلا عن قتادة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فدخلت فرأت معه جاريته فقالت: في بيتي وفي يومي، فقال: أسكتي، فوالله لا أقربها وهي علي حرام» وروى البيهقي مرسلا أيضا عن مسروق أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف لحفصة أن لا يقرب أمته، وقال: "هي علي حرام " فنزلت الكفارة ليمينه، وأمر أن لا يحرم ما أحل الله (¬2) » . وأما قصة العسل وهي أشهر في سبب نزول الآية، فروى البيهقي: «أن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة تخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند ¬

_ (¬1) الاستدلال بهذا الحديث على اقتران التحريم في هذه القصة بيمين - مردود لأمور: أ- أن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة إما العسل وإما مارية القبطية، والذي في هذا الحديث أنه حرم نساءه، ومارية ليست من زوجاته ولا هي جماعة. ب- أن الواقعة التي آلى فيها من نسائه شهرا قد أعتزل فيها نساءه شهرا وأمضى ما حلف عليه وعلى هذا لم يكن فرضا عليه أن يتحلل من يمينه بكفارة. ج- أن هذا الحديث من رواية مسلمة بن علقمة المازني عن داود بن علي عن عامر الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعا، وقد خالفه في ذلك علي بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي مرسلا، وعلي بن مسهر ومن شاركه في رواية هذا الحديث عن داود أوثق، فكان وصل مسلمة له شاذا، قال أبو عيسى الترمذي: حديث مسلمة بن علقمة عن داود رواه علي بن مسهر وغيره عن داود عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وليس فيه: وهذا أصح عن مسروق عن عائشة من حديث مسلمة بن علقمة. د- مسلمة بن علقمة المازني ضعفه غير واحد، ذكره العقيلي في [الضعفاء] وقال: له عن داود مناكير، وما لا يتابع عليه من حديثه كثير. وذكر له ابن عدي أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت مما لا يتابع عليه، وبذلك يكون وصله لهذا الحديث منكرا؛ لمخالفته من أرسله من الثقات. (¬2) ما ذكره من مرسل قتادة ومسروق لا حجة فيهما لمطلوبه؛ لما فيهما من الإرسال.

زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له، فقال: "بل شربت عسلا عند زينب، ولن أعود له " فنزلت: إلى لعائشة وحفصة لقوله: " بل شربت عسلا (¬4) » قال البيهقي: رواه البخاري في [الصحيح] عن الحسن بن محمد ورواه مسلم عن محمد بن حاتم كلاهما عن حجاج قال البخاري وقال إبراهيم بن موسى عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء في هذا الحديث «ولن أعود له، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا (¬5) » قال ابن عبد البر: وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬6) «والله لا أشرب العسل بعدها،» فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بالله فالكفارة لليمين بالله، وهذا معنى قول عائشة، «فجعل الحلال حراما وجعل في اليمين الكفارة، (¬7) » فلم تكن الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى، ولا يحتاج إلى الجواب عن الآية، انتهى المقصود. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الطلاق (5267) ، صحيح مسلم الطلاق (1474) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3795) ، سنن أبو داود الأشربة (3714) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) . (¬2) سورة التحريم الآية 1 (¬1) {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬3) سورة التحريم الآية 4 (¬2) {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} (¬4) سورة التحريم الآية 3 (¬3) {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} (¬5) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6691) . (¬6) سورة التحريم الآية 1 (¬7) سنن الترمذي الطلاق (1201) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2072) .

يتلخص المقصود مما تقدم في أمور: الأول: الاختلاف في ضابط ما يسمى حلفا بالطلاق، فقيل: هو كل طلاق علق على شرط أيا كان هذا الشرط، وقيل: كل طلاق علق على شرط، وقصد به الحث على الفعل أو المنع منه، أو قصد به تصديق خبر أو تكذيبه، مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإلا كان شرطا محضا، مثل: إن طلعت الشمس فأنت طالق، والحلف بالطلاق على الأول أعم منه على الثاني، وذكر ابن تيمية أن الضابط الثاني أصح لغة وشرعا، وأما العرف

فيختلف. الثاني: أن الرجل إذا علق طلاق زوجته على شيء اعتبر تعليقه، ووقع الطلاق عند وجود المعلق عليه، ولو كان قاصدا الحث على فعل أو المنع منه أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولا كفارة عليه في ذلك، واستدل الإمام أحمد لذلك: بما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم من اعتبار التعليق ووقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، ورد ما زاده سليمان بن طرخان التيمي في روايته لقصة ليلى بنت العجماء من قوله فيها: (كل مملوك لها حر) لتفرده بهذه الزيادة، وعارضه بما رواه عبد الرزاق من طريق عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعلى ذلك لا يتم لمن جعل الطلاق المعلق يمينا تلزم فيها الكفارة قياسه على ما جاء من الفتوى في قصة ليلى بنت العجماء في لزومه الكفارة دون وقوع الطلاق. ونوقش: بأن سليمان لم ينفرد بالزيادة، وبأنه على تقدير تفرده فهو ثقة، وزيادة الثقة مقبولة ما لم تعارض رواية من هو أوثق منه معارضة لا يمكن معها الجمع، ونوقشت المعارضة بإمكان الجمع، وعلى تقدير عدم إمكانه فرواية سليمان أرجح من رواية عثمان بن حاضر؛ لما سبق من النقل عن ابن تيمية وابن القيم من مبررات الترجيح. الثالث: أن الرجل إذا علق طلاق أجنبية منه على زواجه بها كان تعليقه لغوا، ولا تطلق بذلك إذا تزوجها؛ إما لأنها أجنبية منه وقت التعليق كما علل به الشافعية، وإما لمقارنة وقوع الطلاق عقد الزواج، كما علل به محمد بن الحسن من الحنفية. وروي عن الإمام أحمد: أنه يصح تعليق طلاق الأجنبية على الزواج

بها؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار فيصح تعليقه على الملك كالوصية، وهذه الرواية موافقة لمذهب المالكية والحنفية سوى محمد بن الحسن. هذا وجملة القول: أنه لم يثبت نص صريح لا في الكتاب ولا في السنة باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، فكانت المسألة نظرية، للاجتهاد فيها مجال، من أجل هذا اختلفت الآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم في حكمها، فمن قائل: إن تعليق الطلاق على شرط لغو؛ لأنه حلف خالف ما جاءت به الأحاديث من النهي عن الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، ومن قائل: إنه معتبر، ويقع به الطلاق عند حصول المعلق عليه؛ لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) ولحديث «المسلمون عند شروطهم» وللآثار الواردة في اعتباره طلاقا، بل ادعى أنه مجمع عليه، وقد سبقت مناقشته، ومن قائل: إنه داخل في جنس الأيمان إن قصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه دون إيقاع الطلاق، فتلزم فيه الكفارة عند الحنث، كما تلزم في سائر الأيمان، واستندوا إلى القياس على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، ورأوا أن الإلزام بالكفارة فيه جمع بين ما ورد عن السلف من الآثار المختلفة، فكان أولى من إلغائه أو اعتباره طلاقا، إلى آخر ما تقدم من الاستدلال ومناقشة كل فريق لمخالفه. هذا ما تيسر جمعه. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 1

قرار هيئة كبار العلماء بشأن الطلاق المعلق

قرار هيئة كبار العلماء رقم (16) وتاريخ 12\11\1393 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (14) الصادر عنها في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1\4\1393 هـ و 17\4\1393 هـ القاضي بتأجيل دراسة موضوع الطلاق المعلق إلى الدورة الرابعة لمجلس الهيئة- فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة الرابعة المنعقد فيما بين 29\10\1393 هـ و12\11\1393 هـ، وفي هذه الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي، واستعراض كلام أهل العلم في ذلك، ومناقشة ما على كل قول من إيراد، مع الأخذ في الاعتبار أنه لم يثبت نص صريح لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله باعتبار الطلاق المعلق طلاقا عند الحنث وعدم اعتباره، وأن المسألة نظرية للاجتهاد فيها مجال- بعد ذلك توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، سواء قصد من علق طلاقه على شرط الطلاق المحض، أو كان قصده الحث أو المنع، أو تصديق خبر أو تكذيبه؛ وذلك لأمور أهمها ما يلي:

1 - ما ورد عن الصحابة والتابعين من الآثار في ذلك، ومنه ما أخرجه البخاري في [صحيحه] معلقا بصيغة الجزم من أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. وما روى البيهقي بإسناده عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلت كذا وكذا فهي طالق. فتفعله، قال: هي واحدة وهو أحق بها، وما رواه أيضا بإسناده إلى أبي الزناد عن أبيه: أن الفقهاء السبعة من أهل المدينة كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلى الليل فخرجت طلقت امرأته، إلى غير ذلك من الآثار، مما يقوي بعضها بعضا. 2 - لما أجمع عليه أهل العلم إلا من شذ في إيقاع الطلاق من الهازل مع القطع بأنه لم يقصد الطلاق، وذلك استنادا إلى حديث أبي هريرة وغيره مما تلقته الأمة بالقبول من أن «ثلاثا جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والعتاق (¬1) » . فإن كلا من الهازل والحالف بالطلاق قد عمد قلبه إلى ذكر الطلاق وإن لم يقصده، فلا وجه للتفريق بينهما بإيقاعه على الهازل به وعدم إيقاعه على الحالف به. 3 - لقوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬2) ووجه الاستدلال بها: أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق، ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقديم الكذب. 4 - إن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود به على تقدير الوقوع، ولذلك أقامه الزوج مانعا له من وقوع الفعل، ولولا ذلك لما امتنع. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطلاق (1184) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2039) . (¬2) سورة النور الآية 7

5 - إن القول بوقوع الطلاق عند حصول الشرط المعلق عليه قول جماهير أهل العلم وأئمتهم، فهو قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو المشهور في مذاهبهم، قال تقي الدين السبكي في رسالته [الدرة المضيئة] : وقد نقل إجماع الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم، ولا يتوقف في صحة نقلهم، فمن ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه وناهيك به. وممن نقل الإجماع على هذه المسألة الإمام المجتهد أبو عبيد، وهو من أئمة الاجتهاد كالشافعي وأحمد وغيرهم، وكذلك نقله أبو ثور، وهو من الأئمة أيضا، وكذلك نقل الإجماع على وقوع الطلاق الإمام محمد بن جرير الطبري وهو من أئمة الاجتهاد أصحاب المذاهب المتبوعة، وكذلك نقل الإجماع أبو بكر بن المنذر، ونقله أيضا الإمام الرباني المشهور بالولاية والعلم محمد بن نصر المروزي، ونقله الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابيه: [التمهيد] و [الاستذكار] وبسط القول فيه على وجه لم يبق لقائل مقالا، ونقل الإجماع الإمام ابن رشد في كتاب [المقدمات] له، ونقله الإمام الباجي في [المنتقى] . . . إلى أن قال: وأما الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأتباعهم فلم يختلفوا في هذه المسألة، بل كلهم نصوا على وقوع الطلاق وهذا مستقر بين الأئمة، والإمام أحمد أكثرهم نصا عليها، فإنه نص على وقوع الطلاق، ونص على أن يمين الطلاق والعتاق ليست من الأيمان التي تكفر ولا تدخلها الكفارة. اهـ. وقد أجاب من يرى خلاف ذلك عما ذكره السبكي رحمه الله من الإجماع بأنه خاص فيما إذا قصد وقوع الطلاق بوقوع الشرط. وفي [القواعد النورانية] لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه:

قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد بن حنبل الرجل يقول لابنه: إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر قال: لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا. اهـ. وقال أيضا: وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد. فقال المروزي: قال أبو عبد الله: إذا قال: كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة. اهـ. أما المشايخ: عبد الله بن حميد، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله خياط، وعبد الرزاق عفيفي، وإبراهيم بن محمد آل الشيخ، ومحمد بن جبير، وصالح بن لحيدان - فقد اختاروا القول باعتبار الطلاق المعلق على شرط يقصد به الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه، ولم يقصد إيقاع الطلاق يمينا مكفرة، ولهم في ذلك وجهة نظر مرفقة. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة . ... . ... عبد الله بن محمد بن حميد عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

وجهة نظر

وجهة نظر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على دراسة موضوع تعليق الطلاق من قبل مجلس هيئة كبار العلماء، واختيار أكثرية الأعضاء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه، سواء قصد الزوج الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه أو قصد إيقاع الطلاق. وقد وجه مختارو هذا القول اختيارهم، وذكروا مستندهم من كلام أهل العلم إذ لا نعلم وجود نص من كتاب ولا سنة في الموضوع؛ ولذلك حصل الاختلاف في وقوع الطلاق من عدمه. ورأينا نحن الموقعين أدناه: أن الطلاق المعلق إن قصد الزوج بتعليقه على شيء وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه - اعتبر طلاقا، كقوله: إن طلعت الشمس فأنت طالق. وإن قصد بتعليق الطلاق الحث أو المنع أو تصديق خبر أو تكذيبه - لم يقع الطلاق عند حصول المعلق عليه، وإنما يكون يمينا تجب فيها الكفارة للأمور الآتية: الأول: أنه لم يقصد الطلاق، وإنما قصد الحث أو المنع مثلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (¬1) » . الثاني: الطلاق المعلق لقصد المنع أو الحث يسمى يمينا في اللغة وفي عرف الفقهاء؛ ولذا دخل في أيمان البيعة، وفي عموم اليمين في حديث ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

الاستثناء في اليمين، وفي عموم اليمين في حديث التحذير من اقتطاع مال امرئ مسلم بيمين فاجرة، وفي عموم الإيلاء، وفي عموم حديث: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك (¬1) » وفي عموم حديث: «إياكم والحلف في البيع (¬2) » كما ذكر ذلك: العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما من المحققين، وإذا كان يمينا دخل في عموم قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬3) وقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (¬4) الآية فتجب فيها الكفارة. الثالث: قياس الطلاق المعلق لقصد الحث أو المنع على ما ورد في قصة ليلى بنت العجماء، وهي ما رواه عبد الرزاق في [مصنفه] عن سليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق زوجتك أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة. إلخ- ثم ذكر أنه أتى حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وكلهم أفتاها بأن تكفر عن يمينها، وتخلي بين الرجل وامرأته، مع أن الهدي والصدقة والعتق أمور محبوبة لله تعالى يثيب فاعليها، ولم يأمرها أولئك بإنفاذ مقتضى حلفها، بل اكتفوا منها بالكفارة، فكيف يقال: إن الطلاق الذي هو مكروه عند الله تعالى، ولا يحبه من عباده- يقع عند التعليق للحث والمنع. . . إلخ. ولا يقع العتق والصدقة والهدي المحبوبة لله تعالى يكون ذلك يمينا. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الأيمان (1653) ، سنن الترمذي الأحكام (1354) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3255) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2121) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2349) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1607) ، سنن النسائي البيوع (4460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2209) ، مسند أحمد بن حنبل (5/297) . (¬3) سورة التحريم الآية 2 (¬4) سورة المائدة الآية 89

مكفرة، وقد اختار عدم وقوع الطلاق المعلق إذا أريد به الحث أو المنع مثلا جماعات من المحققين من السلف والخلف، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهما هما في العلم والمعرفة والبصيرة. الرابع: ما قيل عن تفرد سليمان التيمي بزيادة العتق في يمين ليلى بنت العجماء مردود برواية هذه الزيادة من طريقين غير طريق سليمان التيمي، ولو فرضنا تفرد سليمان التيمي بهذه الزيادة لم يضره ذلك؛ لأن زيادة الثقة مقبولة كما هو معلوم في مصطلح أهل الأثر، كيف وهو لم ينفرد بها؟! ومع ذلك فهو أجل من روى أثر ليلى بنت العجماء عن بكر بن عبد الله وأفقههم. وما قيل من التعارض بين رواية عثمان بن حاضر للقصة دون هذه الزيادة وبين رواية سليمان التيمي التي فيها الزيادة- فمردود بأن هذا لا يسمى تعارضا؛ لأن الزيادة التي ثبتت في رواية سليمان التيمي لا تتنافى مع أصل الأثر، ولو فرض وجود التعارض، فإن رواية سليمان أرجح من رواية عثمان. وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم البحث في هذا المقام بحيث لم يبق معه لباحث مجال، وقد ذكر بعضه في إعداد البحث. الخامس: ما ورد من الآثار عن الصحابة من الفتوى بوقوع الطلاق المعلق عند حصول المعلق عليه، فإنه إما غير صحيح نقلا، وإما صحيح معارض بمثله، وإما صحيح لكنه فيما قصد به إيقاع الطلاق لا الحث على الفعل أو المنع منه، فهو في غير محل النزاع، فلا يكون فيه حجة على ما نحن بصدده، والصواب التفصيل كما ذكرنا.

وعلى هذا لا تصح دعوى الإجماع على وقوع الطلاق المعلق. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. 1 - عبد الله خياط عضو هيئة كبار العلماء 2 - عبد الرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء 3 - عبد العزيز بن باز عضو هيئة كبار العلماء 4 - عبد الله بن حميد عضو هيئة كبار العلماء 5 - صالح بن لحيدان عضو هيئة كبار العلماء 6 - محمد بن جبير عضو هيئة كبار العلماء 7 - إبراهيم بن محمد آل الشيخ عضو هيئة كبار العلماء

تحديد المهور

(6) تحديد المهور هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم تحديد المهور إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد (¬1) : فبناء على ما ورد من المقام السامي برقم (4\هـ24185) وتاريخ شوال 1396 هـ الموجه إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من عرض موضوع تحديد المهور على هيئة كبار العلماء في الدورة القادمة- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مختصرا في ذلك، مشتملا على العناصر الآتية: أولا: مهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته. ثانيا: ما عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم. ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور؟ رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تحديد المهور. خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 95- 108، سنة 1400 هـ

سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه. سابعا: هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج؟

أولا مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم

تحديد المهور أولا: مهر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن «قال: سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم (¬1) » . وقال عمر رضي الله عنه: «ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية، (¬2) » قال الترمذي: حديث صحيح. انتهى. وروى أبو داود والنسائي، عن أم حبيبة رضي الله عنها: «أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، (¬3) » وفي رواية: «أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق أربعة آلاف درهم، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل، (¬4) » وعند النسائي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة، زوجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، ولم يبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهور ¬

_ (¬1) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، مسند أحمد بن حنبل (6/94) ، سنن الدارمي النكاح (2199) . (¬2) سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، سنن الدارمي النكاح (2200) . (¬3) سنن النسائي النكاح (3350) ، سنن أبو داود النكاح (2107) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) . (¬4) سنن النسائي النكاح (3350) ، سنن أبو داود النكاح (2108) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) .

نسائه أربعمائة درهم (¬1) » . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية بنت حيي، وجعل عتقها صداقها (¬2) » . أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي، وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم. ¬

_ (¬1) سنن النسائي النكاح (3350) ، سنن أبو داود النكاح (2086) ، مسند أحمد بن حنبل (6/427) . (¬2) صحيح البخاري النكاح (5086) ، صحيح مسلم النكاح (1365) ، سنن الترمذي النكاح (1115) ، سنن أبو داود النكاح (2054) ، سنن ابن ماجه النكاح (1957) ، مسند أحمد بن حنبل (3/181) ، سنن الدارمي النكاح (2243) .

ثانيا من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم

ثانيا: من عرف مهرها من سائر زوجات أصحابه رضي الله عنهم: روى البخاري في [صحيحه] بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي. قال: فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: "وهل عندك من شيء؟ " قال: لا، والله يا رسول الله. فقال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ " فذهب ثم رجع. فقال: لا والله ما وجدت شيئا. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر ولو خاتما من حديد"، فذهب ثم رجع. فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري. قال سهل: ماله رداء، فلها نصفه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا فأمر به فدعي، فلما جاء. قال: "ماذا معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن (¬1) » . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري النكاح (5087) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3280) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .

هذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في [الصحيح] ومالك في [الموطأ] وأبو داود والترمذي في [السنن] وهذا لفظ البخاري. وفي رواية لأبي داود أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نحو هذه القصة، ولم يذكر الإزار والخاتم، إلى أن قال: «وما تحفظ من القرآن؟ " قال سورة البقرة والتي تليها قال: " قم، فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك (¬1) » وفي سنده: أبو قرة البصري وهو ضعيف، ولكن للحديث شواهد بمعناه، فهو حسن. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل (¬2) » وفي رواية: قال: «كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نستمتع بالقبضة من الطعام على معنى المتعة (¬3) » ، وفي سنده موسى بن مسلم وهو ضعيف، قال الحافظ ابن حجر في [التلخيص] : وروي موقوفا وهو أقوى، وقال المنذر في [مختصر سنن أبي داود] : في إسناده موسى بن مسلم، وهو ضعيف، وذكر أبو داود أن بعضهم رواه موقوفا وقال: رواه أبو عاصم عن صالح بن رومان عن أبي الزبير عن جابر، ثم ذكر الرواية الأخرى، قال أبو داود: رواه ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر على معنى أبي عاصم، وهذا الذي رواه أبو داود معلقا قد أخرجه مسلم في [صحيحه] من حديث ابن جريج عن أبي الزبير قال: «سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬4) » ، وقال أبو بكر البيهقي: وهذا وإن كان في نكاح المتعة، ونكاح المتعة قد صار منسوخا، ¬

_ (¬1) سنن أبو داود النكاح (2111) . (¬2) سنن أبو داود النكاح (2110) ، مسند أحمد بن حنبل (3/355) . (¬3) [سنن أبي داود] (2\585) . (¬4) صحيح مسلم النكاح (1405) .

فإنما نسخ منه شرط الأجل، فأما ما يجعلونه صداقا فإنه لم يرد فيه النسخ. وروى الترمذي عن عبد الله بن عامر عن أبيه: «أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم، فأجازه (¬1) » . أخرجه الترمذي، وفي سنده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وهو ضعيف، وقال الترمذي: حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح، قال الحافظ في [بلوغ المرام] بعد أن حكى تصحيح الترمذي هذا: إنه خولف في ذلك. وروى النسائي في [سننه] قال: أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا محمد بن موسى عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم، قبل أبي طلحة فخطبها، فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت نكحتك، فأسلم، فكان صداق ما بينهما، وفي رواية: أخبرنا محمد بن النضر بن مساور، قال: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره فأسلم، وكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، الإسلام، فدخل بها فولدت له. وروى أبو داود بسنده، عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران. فقال صلى الله عليه وسلم: "مهيم؟ "، فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة، قال "ما أصدقتها؟ " قال: وزن نواة من ¬

_ (¬1) سنن الترمذي النكاح (1113) ، سنن ابن ماجه النكاح (1888) .

ذهب، قال: " أولم ولو بشاة (¬1) » وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (¬2) . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فأعني على مهرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا"، قال: قد نظرت إليها، قال: "على كم تزوجتها؟ " قال: على أربع أواق، قال: "وعلى أربع أواق؟ كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه ". قال: فبعث بعثا إلى بني عبس فبعثه معهم (¬3) » . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أترضى أن أزوجك من فلانة؟ " قال: نعم، وقال للمرأة: " أترضين أن أزوجك فلانا؟ " قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا. ولم يعطها شيئا، (¬4) » وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة- يعني: امرأته- ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وأني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذته فباعته بعد موته بمائة ألف، قال أبو داود: وزاد عمر بن الخطاب (وحديثه أتم) في أول الحديث، «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير النكاح أيسره (¬5) » وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل، ثم ساق معناه. قال أبو داود: يخاف أن يكون هذا الحديث ملزقا؛ لأن الأمر على غير هذا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2049) ، صحيح مسلم النكاح (1427) ، سنن الترمذي البر والصلة (1933) ، سنن النسائي النكاح (3373) ، سنن أبو داود النكاح (2109) ، سنن ابن ماجه النكاح (1907) ، مسند أحمد بن حنبل (3/205) ، موطأ مالك النكاح (1157) ، سنن الدارمي النكاح (2204) . (¬2) (الردع) . هو أثر الطيب. (مهيم) : أي: ما شأنك أو ما هذأ؟ أو هي كلمة استفهام مبنية على السكون. (¬3) صحيح مسلم النكاح (1424) . (¬4) سنن أبو داود النكاح (2117) . (¬5) سنن أبو داود النكاح (2117) .

ثالثا هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور

ثالثا: هل وجد في نصوص الشريعة حد للمهور: لا نعلم دليلا لا من القرآن ولا من السنة يدل على تحديد المهور، فالأدلة التي جاءت في القرآن: منها: ما فيه التنبيه على جواز دفع المهر الكثير، ومنها: ما هو عام يشمل القليل والكثير، والأدلة التي جاءت من السنة دالة على تفسير هذا العموم بجوازه بالقليل والكثير. ونحن نذكر فيما يلي نقولا عن أهل العلم بعدم التحديد ثم نتبعها بالأدلة من القرآن ثم الأدلة من السنة: أما النقول عن أهل العلم فمن ذلك: 1 - قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن لا تحديد في أكثرالصداق (¬1) . 2 - قال ابن قدامة: وأما أكثر الصداق فلا توقيت فيه بإجماع أهل العلم، قاله ابن عبد البر (¬2) انتهى. وأما الدليل من القرآن المنبه على جواز كثرة المهر: فهو قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬3) الآية. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: فهو دليل على جواز المغالاة في ¬

_ (¬1) [الجامع لأحكام القرآن] (5\101) . (¬2) [المغني] (7\138) . (¬3) سورة النساء الآية 20

المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح (¬1) انتهى. وقال ابن كثير: في الآية دليل على جواز الإصداق بالمال الكثير (¬2) انتهى. وأما ما جاء من القرآن عاما يشمل القليل والكثير، فمن ذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬3) وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (¬4) فإن لفظ الأموال ولفظ الأجور عام يشمل القليل والكثير. وأما الأدلة التي جاءت من السنة دالة على وقائع مختلفة حصل فيها تفاوت كبير في المهور، كمهر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته رضي الله عنهن، وما عرف من مهور زوجات أصحابه رضي الله عنهم، كالتزويج على ما مع المتزوج من القرآن، والتزويج على النعلين، وعلى وزن نواة من ذهب، وعلى أربع أواق، فقد سبق ذكر ذلك في الأمرين الأول والثاني. ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (5\99) . (¬2) [تفسير ابن كثير] (2\466) . (¬3) سورة النساء الآية 24 (¬4) سورة المائدة الآية 5

رابعا قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور

رابعا: قصة عمر مع من أنكرت عليه حديثه في تقليل المهور: روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي العجفاء السلمي قال: خطبنا عمر يوما فقال: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية) هذه رواية أبي داود. وفي رواية الترمذي بعد قوله: (كان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، ما علمت رسول الله نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية) . وأخرج النسائي الأولى، وزاد عليها: (وإن الرجل ليغلي بصدقة المرأة حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت لكم علق القربة - وكنت غلاما عربيا مولدا فلم أدر ما علق القربة) انتهى المقصود. وقال القرطبي في [تفسيره] : وخطب عمر فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة، فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا؛ أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬1) قال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية: فأطرق عمر. ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر، وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ والله المستعان. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20

وترك الإنكار، أخرجه أبو حاتم البستي في [صحيح مسنده] عن أبي العجفاء السلمي، قال: خطب عمر الناس فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر: فقامت امرأة إلى آخره، وأخرجه ابن ماجه في [سننه] عن أبي العجفاء، وزاد بعد قوله: أوقية: وإن الرجل ليغلي صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، ويقول: وقد كلفت إليك علق القربة أو عرق القربة وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة (¬1) . وقال ابن كثير في [تفسيره] : وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة، ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق، عن محمد بن سيرين، عن أبي العجفاء، واسمه هرم بن سيب البصري، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. طريق أخرى عن عمر، قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن خالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق قال: ركب ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (5\99) .

عمر بن الخطاب منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أيها الناس، ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم، قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم، قال: نعم، فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن، قال: وأي ذلك. قالت: أما سمعت الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬1) الآية فقال: اللهم غفرا، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي، طريق أخرى قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن قيس بن ربيع، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬2) - من ذهب - قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا، فقال عمر: «إن امرأة خاصمت عمر فخصمته» . (طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء، وإن كانت بنت ذي القصة. يعني: يزيد بن الحصين الحارثي ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20 (¬2) سورة النساء الآية 20

فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صفة النساء طويلة في أنفها فطس: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: إن الله قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬1) الآية، فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ (¬2) . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 20 (¬2) [تفسير ابن كثير] (1\ 466) وما بعدها.

خامسا ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور

خامسا: ما الفرق بين تحديد أسعار الأعيان والمنافع وتحديد المهور: تحديد الأسعار بالنسبة للأعيان والمنافع محل خلاف بين أهل العلم: وقد سبق أن أعد في ذلك بحث، ووزع على أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجلس في الدورة الثامنة، وبإمكانهم الرجوع إليه. ولكن الفرق بين تحديد الأسعار في الأعيان والمنافع عند من يقول به، وتحديد المهور يمكن أن يقال: بأن تحديد أسعار الأعيان والمنافع يمكن ضبطه، أما تحديد المهور فلا يمكن ضبطه؛ لأن العادات في إظهار الاهتمام مختلفة، والرغبات لها مراتب متفاوتة، وظروف الناس وإمكاناتهم وقدراتهم تختلف، فيعطي كل بحسب حاله، ومع ذلك فقد ورد التنبيه في السنة إلى اليسر في ذلك، وعدم التغالي فيه، ومنه حديث: «إن من خير النساء أيسرهن صداقا» رواه ابن حبان في [صحيحه] من حديث ابن عباس، وحديث: «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير إصداقها» رواه أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عائشة. ويمكن أن يقال: إن الفرق بينهما: أن المعاوضة في السلع والمنافع يغلب عليها المغالبة، أما بذل المال في النكاح فيغلب عليه قصد التكرم

دون المغالبة. ويمكن أن يقال: أيضا أن هناك فرق آخر، وهو: أن المقصود في المعاملات المالية - سواء أكانت أعيانا أو منافع - هو المال، أما في النكاح فالمقصود ذات المرأة والاستمتاع بها، وذات الزوج لا المال.

سادسا مبررات التحديد ومضار عدمه

سادسا: مبررات التحديد ومضار عدمه: أ- مبررات التحديد: قد يقال: إن للتحديد مبررات كثيرة منها: 1 - تيسير الزواج. 2 - بقاء النسل وتكثيره بطريق شرعي. 3 - خلو المجتمع من العناصر الفاسدة ومن الفساد. 4 - عمار الأرض بآلات صالحة. 5 - حفظ كيان الأسرة والعمران بنسل شرعي. 6 - تحصين الفروج وغض البصر. 7 - استفراغ الشهوة، واستنزاف المواد المضرة، وإصلاح الجسد بالطريق الشرعي. ب- مضار عدمه: قد يقال: إن لعدم التحديد مضارا كثيرة: منها: 1 - قلة الزواج؛ لأن الغلو في المهور يكلف الرجال ما لا طاقة لهم به. 2 - قلة الزواج تؤدي إلى انتشار الفساد بين الرجال والنساء، وبين الرجال أنفسهم، وبين النساء أنفسهن، فتكثر الفواحش بسبب ذلك. 3 - وجود شيء من هذه المفاسد في شخص ما تجعله عضوا أشل، لا ينتفع به في مجال البناء السليم، دينيا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، وصناعيا، وغير ذلك من الأمور التي تنفع دنيا وأخرى.

4 - المجتمع الذي تنتشر به هذه المفاسد مجتمع غير مترابط. 5 - يضاف إلى ما سبق: أن الشخص إذا تعذر عليه الزواج من بلده نتيجة غلاء المهور اضطر إلى أن يتزوج من الخارج، والزواج بالأجنبية في هذا الوقت له آثاره السيئة على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة. 6 - قد يؤدي عدم التحديد إلى أن المرأة هي التي تخطب الرجل مستقبلا، وتدفع له المهر، كما هي عادة غير المسلمين. 7 - من النتائج السيئة لعدم التحديد أن الآباء قد يمنعون الأكفاء؛ لأنهم لا يستطيعون دفع مهر كثير ويزوجون غير الأكفاء، لأنهم يدفعون ما يرضي الآباء من المهر. إذا علم ما سبق من المصالح المترتبة على التحديد والمفاسد الناشئة عن عدم التحديد، فإن من القواعد المقررة في الشريعة أن المصالح إذا تعارضت قدم أرجحها، وأن المفاسد إذا لم يمكن تركها كلها وجب ترك أعظمها ضررا، ولو بارتكاب أقلها ضررا. وإذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح منها، وإذا تساوت في نظر المجتهد فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

سابعا هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج

سابعا: هل تحديد المهور علاج واقعي ناجح وإن لم يكن فما العلاج: قد يقال: إن تحديد المهور ليس بعلاج عملي ناجح في دفع مغالاة الناس فيها؛ لأمور: أحدها: أن الناس جبلوا على التقليد، فينظر الضعيف منهم للقوي

والفقير للغني، فإذا وجدوا الوجهاء والأغنياء غلوا في مهور بناتهم أو من يتزوجونهن مجاملة أو إكراما أو فخرا قلدوهم في ذلك. الثاني: أن النقود اليوم قد هبطت قيمتها نتيجة لعدة عوامل فالشيء الذي يساوي مائة ريال سابقا - مثلا - يساوي اليوم عشرين ألفا تقريبا، فإذا قيست على المهور سابقا فقد لا تعتبر مغالى فيها، وربما تعلل أولياء البنات بهذا وادعوا أن ما تعطاه البنت من المهر لا يقوم بما تحتاجه لتستعد بما يلزم لزواجها من الأثاث والملابس وغيرها. الثالث: الإبقاء على النكاح والتخلص منه بيد الزوج، فإذا حددت المهور بمبلغ قليل فربما يسهل على الزوج أمر الطلاق ويكثر منه، وهذا مما لا يتفق مع مقاصد الشريعة في النكاح من الاستقرار وطمأنينة النفس وبناء الأسرة. وقد يقال: إن العلاج ممكن بدون تحديد، وذلك بما يأتي: أ- توعية الناس بطرق الإعلام والخطابة في الجوامع والمجامع المناسبة، ويركز على تحذير الأولياء من العضل ويرغب الناس في الاصطلاح بينهم على مهر معين، وذلك بأن يتفق أهل كل بلد أو كل قبيلة على مقدار معين. ب- منع الناس من الإسراف في مراسم الزواج. ج- التطبيق العملي من الطبقة الواعية من الناس بأن يزوجوا مولياتهم من الأكفاء ويقتنعوا بما تيسر، هذا ما تيسر ذكره.

وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء بشأن تحديد مهور النساء

قرار هيئة كبار العلماء رقم (52) وتاريخ 4\4\1397هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء قد اطلع في دورته العاشرة المعقودة في مدينة الرياض فيما بين يوم 21\3\1397 هـ و4\4\ 1397 هـ على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء في موضوع (تحديد مهور النساء) بناء على ما قضى به أمر سمو نائب رئيس مجلس الوزراء من عرض هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء لإفادة سموه بما يتقرر. وجرى استعراض بعض ما رفع للجهات المسئولة عن تمادي الناس في المغالاة في المهور والتسابق في إظهار البذخ والإسراف في حفلات الزواج وبتجاوز الحد في الولائم، وما يصحبها من إضاءات عظيمة خارجة عن حد الاعتدال ولهو وغناء بآلات طرب محرمة بأصوات عالية قد تستمر طول الليل، حتى تعلو في بعض الأحيان على أصوات المؤذنين في صلاة الصبح وما يسبق ذلك من ولائم الخطوبة وولائم عقد القران. كما استعرض بعض ما ورد في الحث على تخفيف المهور والاعتدال في النفقات، والبعد عن الإسراف والتبذير. فمن ذلك: قول الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (¬1) {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 26 (¬2) سورة الإسراء الآية 27

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «سألت عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كم كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم (¬1) » . وقال عمر رضي الله عنه: «ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية (¬2) » ، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد ثبت في [الصحيحين] وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج امرأة رجلا بما معه من القرآن (¬3) » . وروى الترمذي وصححه: أن عمر - رضي الله عنه - قال: لا تغلوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون عداوة في نفسه، وحتى يقول: كلفت لك علق القربة. والأحاديث والآثار في الحض على الاعتدال في النفقات والنهي عن تجاوز الحاجة كثيرة معلومة. وبناء على ذلك ولما يسببه هذا التمادي في المغالاة في المهور والمسابقة في التوسع في الولائم بتجاوز الحدود المعقولة وتعدادها قبل الزواج وبعده، وما صاحب ذلك من أمور محرمة تدعو إلى تفسخ الأخلاق، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، مسند أحمد بن حنبل (6/94) ، سنن الدارمي النكاح (2199) . (¬2) سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن أبو داود النكاح (2106) ، سنن ابن ماجه النكاح (1887) ، سنن الدارمي النكاح (2200) . (¬3) صحيح البخاري النكاح (5087) ، صحيح مسلم النكاح (1425) ، سنن الترمذي النكاح (1114) ، سنن النسائي النكاح (3280) ، سنن أبو داود النكاح (2111) ، سنن ابن ماجه النكاح (1889) ، مسند أحمد بن حنبل (5/336) ، موطأ مالك النكاح (1118) ، سنن الدارمي النكاح (2201) .

من غناء واختلاط الرجال بالنساء في بعض الأحيان، ومباشرة الرجال لخدمة النساء في الفنادق إذا أقيمت الحفلات فيها، مما يعد من أفحش المنكرات، ولما يسببه الانزلاق في هذا الميدان من عجز الكثير من الناس عن نفقات الزواج فيجرهم ذلك إلى الزواج من مجتمع لا يتفق في أخلاقه وتقاليده مع مجتمعنا، فيكثر الانحراف في العقيدة والأخلاق، بل قد يجر هذا التوسع الفاحش إلى انحراف الشباب من بنين وبنات. ولذلك كله فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى: ضرورة معالجة هذا الوضع معالجة جادة وحازمة بما يلي: 1 - يرى المجلس: منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من آلات اللهو وما يستأجر له من مغنيين ومغنيات وبآلات تكبير الصوت؛ لأن ذلك منكر محرم يجب منعه، ومعاقبة فاعله. 2 - منع اختلاط الرجال بالنساء في حفلات الزواج وغيرها، ومنع دخول الزوج على زوجته بين النساء السافرات، ومعاقبة من يحصل عندهم ذلك من زوج وأولياء الزوجة معاقبة تزجر عن مثل هذا من منكر. 3 - منع الإسراف، وتجاوز الحد في ولائم الزواج، وتحذير الناس من ذلك بواسطة مأذوني عقود الأنكحة وفي وسائل الإعلام، وأن يرغب الناس في تخفيف المهور، ويذم لهم الإسراف في ذلك على منابر المساجد، وفي مجالس العلم، وفي برامج التوعية التي تبث في أجهزة الإعلام. 4 - يرى المجلس بالأكثرية: معاقبة من أسرف في ولائم الأعراس إسرافا بينا، وأن يحال بواسطة أهل الحسبة إلى المحاكم لتعزر من يثبت مجاوزته الحد بما يراه الحاكم الشرعي من عقوبة رادعة زاجرة تكبح جماح

الناس عن هذا الميدان المخيف؛ لأن من الناس من لا يمتنع إلا بعقوبة، وولي الأمر وفقه الله عليه أن يعالج مشاكل الأمة بما يصلحها ويقضي على أسباب انحرافها، وأن يوقع على كل مخالف من العقوبة ما يكفي لكفه. 5 - يرى المجلس: الحث على تقليل المهور، والترغيب في ذلك على منابر المساجد وفي وسائل الإعلام، وذكر الأمثلة التي تكون قدوة في تسهيل الزواج إذا وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر أو اقتصر على حفلة متواضعة؛ لما في القدوة من التأثير. 6 - يرى المجلس: أن من أنجح الوسائل في القضاء على السرف والإسراف أن يبدأ بذلك قادة الناس من الأمراء والعلماء وغيرهم من وجهاء الناس وأعيانهم، وما لم يمتنع هؤلاء من الإسراف وإظهار البذخ والتبذير، فإن عامة الناس لا يمتنعون من ذلك؛ لأنهم تبع لرؤسائهم وأعيان مجتمعهم. فعلى ولاة الأمر أن يبدءوا في ذلك بأنفسهم ويأمروا به ذوي خاصتهم قبل غيرهم، ويؤكدوا على ذلك؟ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم، واحتياطا لمجتمعهم؛ لئلا تتفشى فيه العزوبة التي ينتج عنها انحراف الأخلاق وشيوع الفساد. وولاة الأمر مسئولون أمام الله عن هذه الأمة، وواجب عليهم كفهم عن السوء ومنع أسبابه عنهم، وعليهم تقصي الأسباب التي تثبط الشباب عن الزواج؛ ليعالجوها بما يقضي على هذه الظاهرة، والحكومة أعانها الله ووفقها قادرة بما أعطاها الله من إمكانات متوفرة ورغبة أكيدة في الإصلاح أن تقضي على كل ما يضر بهذا المجتمع، أو يوجد فيه أي انحراف. وفقها الله لنصرة دينه، وإعلاء كلمته، وإصلاح عباده، وأثابها أجزل

الثواب في الدنيا والآخرة. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء ... رئيس الدورة العاشرة ... عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن محمد بن حميد لنا وجهة نظر مرفقة بهذا فيما يتعلق بالمادة الرابعة ... عبد الله خياط محمد الحركان أوافق على وجهة نظر فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد ... عبد المجيد حسن أوافق على وجهة نظر فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن صالح موافق على القرار باستثناء المادة الرابعة فمتوقف صالح بن غصون أوافق على وجهة نظر الشيخ عبد الله بن حميد ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين عبد الله بن قعود ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر

وجهة نظر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: بالنسبة لما جاء في المادة الرابعة من هذا القرار من إيقاع العقوبات على المسرفين في ولائم العرس التي قال بها الأكثرية عندي فيها نظر لما يلي: أولا: أن حد الإسراف في تلك الولائم غير منضبط لاختلافه باختلاف الناس والبلدان، فقد يكون سبع الذبائح مثلا أو الثمان أو التسع وما يلحق بها من الكلف -إسراف في حق بعض الناس، لأنها أكثر من مستواهم. وهي في حق آخرين ليست بإسراف؛ لكثرة أسرهم وأصدقائهم وجيرانهم. وقد يكون مثل هذا المقدار إسرافا في بلدة، وليس بإسراف في أخرى، فحيث كان الإسراف غير منضبط لا أرى داعيا لإيقاع العقوبات في هذا وأمثاله. ثانيا: أن العقوبات تختلف وليس لها حد تنتهي إليه فإطلاقها للأمراء وأمثالهم غير مناسب؛ لعدم معرفتهم من يستحق العقوبة، ومن لا يستحق فربما يعاقبون من لا يسرف في ولائم العرس، بناء على ما يقتضيه نظرهم أنه إسراف، ولا يعاقبون آخرين بناء على ما في نظرهم أنهم غير مسرفين، وإن تماثلوا في الولائم. ثالثا: أرى أنه يكتفى بمن عرف منه الإسراف في الولائم بنصيحته من قبل الأمير والقاضي والأعيان، والتغليظ عليه بالكلام بدون إيصال إلى

سجن أو جلد أو تغريم. هذا ما نراه، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن أوافق على ما قرره سماحته بالنسبة للعقوبة ... محمد بن علي الحركان أوافق على ما قيده فصيلته ... عبد الله بن محمد بن حميد

تحديد النسل

(7) تحديد النسل هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم تحديد النسل (¬1) إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في النصف الأول من شهر شعبان سنة 1395هـ من إدراج موضوع (تحديد النسل) في جدول أعمال الدورة الثامنة للهيئة المزمع عقدها في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ -أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يلي: 1 - ترغيب الشريعة الإسلامية في التناسل. 2 - الفرق بين منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه. 3 - البواعث التي تدعو إلى الأخذ بها مع مناقشتها. 4 - الوسائل التي تتخذ لمنع الحمل أو تحديد النسل أو تنظيمه مع بيان آثارها. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد الخامس، ص 109-128، سنة 1400 هـ.

5 - بيان الحكمة مع الأدلة. والله الموفق.

الترغيب في النكاح وبيان مقاصده

1 - الترغيب في النكاح وبيان مقاصده: شرع الله - جلت حكمته - الزواج لحكم كثيرة: منها: أنه أحصن للفرج وأغض للبصر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (¬1) » رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن. ومنها: الإبقاء على الجنس البشري في الأرض لعمارتها وإصلاحها؛ تحقيقا لما أراده الله تعالى، قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2) {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬3) {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬4) {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (¬5) ومنها: كثرة الأولاد الذين يتم بهم بناء الأسرة، وتقوى بهم الأمة، ويتحقق التعاون بينهم لعمارة الأرض. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3211) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) . (¬2) سورة البقرة الآية 30 (¬3) سورة البقرة الآية 31 (¬4) سورة البقرة الآية 32 (¬5) سورة البقرة الآية 33

ولذا عد الله سبحانه الذرية نعمة منه على الناس تستوجب منهم أن يشكروه ولا يكفروه، وأن يتقوه رجاء رحمته وخوف عذابه، وأن يصلوا أرحامهم؛ أداء لحق القرابة، وتقوية لأواصرها، حتى يكونوا عباد الله إخوانا متحابين. قال الله تعالى في بيان كمال قدرته، وعظيم منته على عباده: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬1) ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التبتل، وأمر بالزواج، وحبب إلى الرجال التزوج بالودود الولود خاصة؛ تحقيقا لرغبته في المباهاة بأمته يوم القيامة. فعن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل نهيا شديدا، ويقول: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة (¬2) » رواه الإمام أحمد، وأخرجه ابن حبان وصححه. وعن عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «انكحوا أمهات الأولاد، فإني أباهي بهم يوم القيامة (¬3) » رواه الإمام أحمد، وأشار إليه الترمذي في [جامعه] ، وقال في [مجمع الزوائد] : فيه جرير بن عبد الله العامري، وقد وثق وهو ضعيف. وعن معقل بن يسار قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، فأتزوجها؟ قال: " لا " ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم (¬4) » رواه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم. وفي الباب أحاديث كثيرة، وفي بعضها ضعف، لكن مجموعها ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 1 (¬2) سنن النسائي النكاح (3227) ، سنن أبو داود النكاح (2050) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (2/172) . (¬4) سنن النسائي النكاح (3227) ، سنن أبو داود النكاح (2050) .

يدل على المقصود من الترغيب في النكاح. وخاصة نكاح الولود. وقد بين الغزالي مقاصد النكاح وفوائده: فقال: إن النكاح معين على الدين، ومهين للشياطين، وحصن دون عدو الله حصين، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين، فما أحراه بأن تتحرى أسبابه، وتشرح مقاصده وآدابه (¬1) . ثم قال: في الزواج فوائد خمسة: الولد، وكسر الشهوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن. ثم ذكر أنه إذا قصد بالزواج - التناسل كان قربة يؤجر عليها من حسنت نيته. وبين ذلك بوجوه: أولا: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان. ثانيا: طلب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تكثير من به مباهاة. ثالثا: طلب البركة، وكثرة الأجر، ومغفرة الذنب بدعاء الولد الصالح له بعده. وأكد الغزالي: أن الوجه الأول أقواها وأظهرها لذوي الألباب، وضرب لذلك مثلا خلاصته: سيد أعطى عبده بذورا وآلات حراثة وأرضا صالحة للزراعة، ووكل به رقيبا يستحثه، فإن تراخى العبد في الحراثة والزرع ونحى ذلك الوكيل الذي يستحثه فقد استوجب غضب سيده وطرده، والله تعالى خالق الزوجين الذكر والأنثى، وزود كلا منهما بخواصه. وجعل الشهوة فيهما قوة دافعة إلى إظهار حكمته تعالى في ¬

_ (¬1) [إحياء علوم الدين] للإمام الغزالي - ط\ دار الباز، مكة المكرمة (2\ 21) .

التناسل والإنجاب، فمن انحرف عن ذلك أو عارضه فهو متحد لسنن الله في الكون مستوجب لغضبه وسخطه (¬1) . ومن المعلوم: أن الأولاد منذ القديم كانوا أمنية الناس حتى الأنبياء المرسلين وسائر عباد الله الصالحين، وسيظلون كذلك ما سلمت فطرة الإنسان، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (¬2) ولما دعا إبراهيم قومه إلى توحيد الله وعبادته دون سواه، وصبر على أذاهم وثابر على دعوتهم - ألقوه في النار، وأنجاه الله منها، واعتزلهم وما يعبدون من دون الله - وهب له إسماعيل ثم إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب استجابة لقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3) بشره بإسماعيل أولا، ولما بلغ معه السعي ابتلاه فيه، وأمره بذبحه، وآثر امتثال أمر ربه على حبه لولده، وصدق في تنفيذ أمره، فبشره ثانيا بإسحاق نبيا من الصالحين، وجعل النبوة في ذرية خليله من بعده؛ جزاء كريما لصبره على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله، ونجاحه أتم نجاح فيما ابتلاه الله به من كلمات. فالأولاد نعمة تتعلق بها قلوب البشر وترجوها، لتأنس بها من الوحشة، وتقوى بها عند الوحدة، وتكون قرة عين لها في الدنيا والآخرة؛ ولذا طلبها إبراهيم الخليل عليه السلام فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬4) ¬

_ (¬1) [إحياء علوم الدين] (2\ 24- 26) . (¬2) سورة الأعراف الآية 189 (¬3) سورة الصافات الآية 100 (¬4) سورة الصافات الآية 100

وطلب زكريا عليه السلام من ربه ذرية طيبة، قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (¬1) وقال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (¬2) {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (¬3) {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (¬4) {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (¬5) {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (¬6) {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (¬7) وأثنى سبحانه على عباده الصالحين بمحامد كثيرة: منها: قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (¬8) وأخبر تعالى: أن شعيبا عليه السلام أمر قومه أن يذكروا نعمة الله عليهم إذ جعلهم كثرة بعد قلة، قال : {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} (¬9) وذلك لتشكروه ولا تكفروه، وليعرفوا لله حقه وللعباد حقوقهم، فاعتبر تكثيرهم بعد القلة نعمة عظمى توجب عليهم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء الآية 89 (¬2) سورة مريم الآية 2 (¬3) سورة مريم الآية 3 (¬4) سورة مريم الآية 4 (¬5) سورة مريم الآية 5 (¬6) سورة مريم الآية 6 (¬7) سورة مريم الآية 7 (¬8) سورة الفرقان الآية 74 (¬9) سورة الأعراف الآية 86

الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل

2 - الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل أ- منع الحمل: هو استعمال الوسائل التي يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل؛ كالعزل، وتناول العقاقير، ووضع اللبوس ونحوه في الفرج، وترك الوطء في وقت الإخصاب، ونحو ذلك. ب- تحديد النسل: هو الوقوف بالإنسال عند الوصول إلى عدد معين من الذرية باستعمال وسائل يظن أنها تمنع من الحمل. ج- تنظيم الحمل: هو استعمال وسائل معروفة لا يراد من استعمالها إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل، بل يراد بذلك الوقوف عن الحمل فترة من الزمن لمصلحة ما يراها الزوجان أو من يثقان به من أهل الخبرة. فالقصد من الأول: عدم التناسل أصلا، سواء أصيب جهاز التناسل بعقم أم لا. والقصد الثاني: تقليل عدد النسل بالوقوف به عند غاية، سواء أصيب جهاز التناسل بعد هذه الغاية بعقم أم لا. والقصد من الثالث: مراعاة حال الأسرة وشئونها من صحة أو قدرة على الخدمة مع مراعاة الإبقاء على استعداد جهاز التناسل للقيام بوظيفته.

بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة

3 - بواعث منع الحمل وتحديد النسل مع المناقشة: إن الدعاة إلى تحديد النسل ومنع الحمل قد اعتمدوا على عدة دوافع وأسباب في دعايتهم لرأيهم وترويجهم له - نذكرها فيما يلي مع مناقشتها: الأول: أن مساحة الأرض محدودة والصالح منها لسكنى الناس وللزراعة وإنتاج ما يحتاجه الناس محدود، وأن وسائل المعاش الأخرى من الصناعة والصيد، وتربية المواشي، والتجارة، ونحوها محدودة أيضا. أما تناسل الناس: فهو في نمو مستمر وزيادة غير محدودة، فإذا استمر الحال على ذلك ضاقت الأرض بسكانها، ولم تسعهم وسائل المعاش، ولم تكف لقوتهم وكسوتهم، وهبط مستواهم في جميع النواحي صحة وعلما وثقافة، وانتهى بهم الأمر إلى أن يعيشوا عيشة بؤس وشقاء أو أن يهلكوا نتيجة للعري والجوع والنزاع والتناحر على لقمة العيش، وما يدفع عنهم غائلة الحر والبرد، فوجب أن يتخذ ما يلزم من الوسائل لتحديد النسل والوقوف به عند غايته، إنقاذا للناس من خطر داهم قد ظهرت بوادره وأنذرتهم سوء المصير. المناقشة: أ- الحكم في أن زيادة التناسل وتضاعف عدد الناس في المستقبل يفضي إلى ضيق الأرض عن سكناهم وضيق وسائل المعاش العديدة عن أن تسعهم وتكفي لسد حاجتهم - حكم مبناه الخرص والتخمين والنظر

الاقتصادي الخاطئ الذي كذبه الواقع أن الأرض لم تضق بسكانها مع كثرة نموهم وتزايدهم، ولم تزل وسائل المعاش تتسع لهم منذ خلقوا إلى يومنا الحاضر، وقد قرر ذلك كثير من علماء الاقتصاد وخطئوا النظرية الاقتصادية التي يبني عليها دعاة تحديد النسل رأيهم. ب- إن دعوى أن مساحة الأرض التي تصلح للسكنى والزراعة والإنتاج محدودة - دعوى غير صحيحة؛ فإن ما سكن من الأرض وما استثمر منها في الزراعة والإنتاج وإخراج دفائنه وخاماته قدر ضئيل بالنسبة لما لم يسكن وما لم يستغل غير أنه يحتاج إلى تهيئة للسكنى والاستثمار وسعة للعلم بالكونيات، وما أودعه الله في الأرض، ومعرفة بطرق استخراجها وتخليصها وخبرة بخواصها وكيفية استغلالها والانتفاع بها، فعلى تقدير وجود مشكلة فهي لم تنشأ عن كثرة تناسل وتكاثف السكان، وإنما نشأت من الجهل بما أودعه الله في الأرض من خيرات، وقلة العلم بطرق الاستغلال وإهمال الناس أو إعراضهم عن العمل والسعي لكسب ما فيه سعة ورخاء ونهوض بهم وارتقاء. ج- إن ضرورة الناس وشدة حاجاتهم ألجأتهم إلى تهيئة ما يستطيعون من الأرض وإصلاحه للسكنى والزراعة، واضطرتهم أن يتعلموا من العلوم الكونية ما يساعدهم على التوسع في ذلك، ويفتح لهم أبوابا كثيرة لمعرفة الوسائل العديدة التي تقوم عليها حياة الناس، وتجعلهم مترفين منعمين، ولا يزالون يجدون في العمل ويدأبون فيه بدافع فطرتهم وغرائزهم حتى تكشفت لهم وسائل عمرانية لم يعهدوها من قبل، وعرفوا كثيرا من طرق الكسب والمعاش والنهوض والرخاء لم تكن تخطر لهم ببال، وليس ببعيد

لو عرضت عليهم من قبل أن يقول قائلهم: إنها سحر أو ضرب من ضروب الخيال، وما ندري ما يسفر عنه المستقبل من شئون الحياة التي قدرها الله لعباده، وأودع لهم أصولها في أبواب السماء وخزائن الأرض، وجعل لهم من الأفكار والعلوم ما به يتمكنون من تسخيرها لمصالحهم وسعادتهم. قال الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (¬1) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬2) {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬3) ومن نظر في زيادة المساحة المعمورة من الأرض وتحويلها إلى قصور شاهقة وزروع مثمرة وجنات فيحاء ممتعة، ونظر إلى زيادة وسائل العيش وكثرتها وتنوعها - وجدها تتضاعف مضاعفة مطردة مع نمو السكان وزيادة عددهم، ولا عجب في ذلك، فإنهم الأيدي العاملة التي خلقها الله لعمارة الأرض وإنها لسنة الله سبحانه في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولولا ذلك لكانت الأرض خرابا يبابا، أو وقف بها العمران عند غاية تتفق مع عدد السكان وقدراتهم ومحارفهم حسبما تقضي به سنة الله سبحانه في الأسباب العادية ونتائجها، وإن الواقع لأقوى وأعدل شاهد لما تقدم، وإنه لدليل واضح على خطأ النظرية الاقتصادية التي بنى عليها دعاة تحديد النسل مقالتهم، وقد اضطر هذا الواقع كثيرا من علماء الاقتصاد أن يردوا على إخوانهم دعاة تحديد النسل مذهبهم، وأن يبينوا لهم مخالفته لواقع الحال وحقيقة الأمر؛ ولذلك أيضا رجع عن هذا الرأي كثير ممن كانوا يدعون إليه حينما أحسوا بعواقبه السيئة من ضعف في قوى حماية البلاد ¬

_ (¬1) سورة الذاريات الآية 20 (¬2) سورة الذاريات الآية 21 (¬3) سورة الذاريات الآية 22

والدفاع عنها، وفي قوى الإنتاج لقلة الأيدي العاملة. إلخ، ودعوا إلى التناسل، ورغبوا في كثرته بإعطاء المكافآت؛ إنقاذا لأنفسهم من الخطر الذي أصابهم من جراء الدعوة المشئومة إلى تحديد النسل، وبهذا يعرف فساد ما زعمه بعضهم من أن عدم تحديد النسل يخرج للأمة أولادا لا حاجة إليهم، ولا يفيدونها في ميدان الحياة، وربما ولدوا مرضى فيكونون كلا على أولياء أمورهم أو على حكومتهم، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الكلام على مضار وسائل تحديد النسل أو منعه أو تنظيمه. د- إن الدعاة إلى تحديد النسل خشية أن تضيق الأرض بالسكان، وخشية أن تضيق بهم وسائل العيش من كثرتهم مع خطئهم في تقديرهم وقصور عقولهم يظنون بالله الظنون، ويتدخلون في تقديره لشئون عباده، وهذا هو الضلال البعيد، فإن الله هو الذي خلق عباده، وهو الذي يدبر معايشهم، وهو الرزاق ذو القوة المتين، وقد قدر أرزاقهم وما يجري عليهم في جميع أحوالهم قبل أن يكونوا، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬1) وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (¬2) وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬3) وقد أنكر على المشركين قتلهم أولادهم خشية الفقر؛ لاحتماله على جرائم: جريمة قتل النفس، وجريمة ظن السوء بالله، ودخول الإنسان فيما ¬

_ (¬1) سورة القمر الآية 49 (¬2) سورة الرعد الآية 8 (¬3) سورة هود الآية 6

لا يعنيه مما هو شأن من شئون الله، وكل من قتل النفس، وظن السوء بالله، والدخول فيما هو من شئون الله وحده جريمة، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (¬1) وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (¬2) وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬3) فمن حدد النسل بإجهاض قد يكون مرتكبا لهذه الجرائم الثلاث أو لبعضها، ومن حدده بمنع الحمل بوسيلة غير الإجهاض فهو مرتكب لجريمة ظن السوء بالله، وجريمة الدخول فيما هو من شئونه وحده، وكفى بذلك عدوانا وضلالا مبينا. الثاني: ذكر دعاة تحديد النسل: أن الفطرة وضعت حدا مناسبا لتنظيم النسل والمنع من تضخمه في جميع أنواع الأحياء حتى الإنسان، وذلك بالقضاء على كثير من أسباب التوالد والتناسل ابتداء، وبالموت والفناء بعد الوجود في أطوار وأزمان مختلفة، فليس بعجيب أن يقال بتحديد النسل أو تنظيمه بالوسائل الحديثة المتبعة اليوم، بل في ذلك مجاراة للفطرة، وسير معها إلى الهدف المنشود من التوازن بين عدد السكان ووسائل العيش والنهوض بالإنسان إلى مستوى يكفل له الراحة وطمأنينة النفس والشعور بمتعة الحياة ولذاتها. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 151 (¬2) سورة الإسراء الآية 31 (¬3) سورة الإسراء الآية 36

المناقشة: أ- إن كان المراد بالفطرة في نظر دعاة تحديد النسل: طبيعة الأحياء وخواصهم وغرائزهم التي أودعت فيهم لتقوم الحياة ويعمر الكون - فما ذكروه مبررا لتحديد النسل أو تنظيمه مناقض للفطرة، وحرب على ما أودعه الله في الإنسان من طبائع وخواص، فإن الإنسان مجبول على الرغبة الملحة في التزاوج، مجبول على حب التناسل، تواقة نفسه إلى الذرية مسلما كان أو كافرا، حتى إن من حرم الذرية أو أصيب فيما رزق منها بآفات قضت عليها ليكاد يتقطع أسى وحسرة على ما فاته من نعمة الذرية، واعتبر ذلك بلاء نزل به، وقضى على سعادته، إلا من عصمه الله بالإيمان ورضي بقضاء الله وقدره فيه، ومن آتاه الله الذرية عد نفسه سعيدا، وتجلت فيه عاطفة الأبوة أو الأمومة وحنانها، وبذل جهده فيما يلزم لسعادة أولاده مع ارتياح ورحابة صدر، وسهر الليالي لسهرهم؛ عملا على راحتهم، وتحقيقا لمصلحتهم. وبهذا اتضح أي الأمرين جرى على سنن الفطرة، ومقتضى الطبيعة البرية، الإبقاء على النسل وعدم الوقوف في طريق ازدياده، أم العمل على منعه والقضاء عليه بعد الحمل بإجهاض ونحوه. أضف إلى ذلك ما في كلامهم من الزيغ، حيثما نسبوا إلى فطرة الأحياء وطبائعهم تحديد النسل أو تنظيمه بالعقم أو بالموت والقضاء على كثير من أسباب التناسل، وذلك لا يصدر إلا عن جاهل فاسد العقيدة، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (¬1) {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية 49 (¬2) سورة الشورى الآية 50

وقال: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1) ب- وإن زعموا أن المراد بالفطرة: ما يسمى في شريعة الإسلام بالله رب العالمين: ففيه أولا: سوء أدب في التعبير، وثانيا: التدخل في شأن من شئون الله وحده، وليس مما يعود إليهم تدبيره، وثالثا: قياس في تقديرهم لتحديد النسل على الله في تدبيره وتعريفه لشئون عباده، وشتان ما بين عبد مملوك خطاء قاصر الفكر والتقدير والتدبير. إلخ، ورب حكيم، له كمال القدرة وإحكام التدبير، وله الخلق والأمر، وكمال الاختيار، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد. إلخ. لقد فشلت نظرية تحديد النسل أول الأمر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؛ لمناقضتها مقتضى الفطرة وطبيعة البشر، وبنائها على الخرص والتخمين الذي كذبه الواقع، ولإفضائها إلى نتائج خبيثة، وعواقب وخيمة، ومضار فادحة، كما سيجيء بيانه في مضار الوسائل التي تتخذ لذلك، ولم يكتب لها الانتشار إلا بكثرة الدعاية والتلبيس على الناس ومصادفة هوى عند عباد الشهوات ومن يفرون من تحمل المسئوليات، ويحرصون على نزواتهم دون المصالح العامة مع عوامل أخرى؛ كالتقدم الصناعي، وإقبال الناس على الصناعة، وانتقالهم إلى المدن لذلك، وزهدهم في الزراعة وانغماس الناس في الترف والنعيم، وكثرة الكماليات، والأثرة المادية، فارتفعت الأسعار، وكثرت التكاليف، وعمل كل لنفسه بدافع غريزة حب التملك، وخرجت المرأة إلى ميدان العمل، وكرهوا تحمل أعباء نفقة الأولاد ورعايتهم، ولم يلبث الأمر أن انكشف الستار وظهرت الحقيقة للمفكرين ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية 56

منهم فرجعوا عن ذلك، وردوا على هذه النظرية ردودا حاسمة. الثالث: أن طبقات الناس متفاوتة غنى وفقرا، والطبقة الفقيرة منهم لا تتسع ثروتها لتربية الأولاد تربية تكفل لهم السعادة والهناء، وليس في أموالهم ما ينهض بتعليمهم تعليما عاليا يسمون به وتسمو به أمتهم، فإذا تركوا وشأنهم في التناسل زاد عدد الأولاد وتكاثر، واشتدت الكارثة، وعجز أولياء أمورهم عن القيام بشئونهم تغذية وكسوة وتعليما على ما يرام، وعندئذ يعيشون عيشة لا يغبطون عليها، أما الطبقة الغنية والمتوسطة فإن أولادهم إذا زاد عددهم تفتت ثروتهم، وهبط مستواهم، وضعفت إمكانياتهم، وبذلك تسوء حالهم وحال الأمة، ويضعف شأنها، وتتأخر علما وإنتاجا، وتعيش عيشة بؤس وشقاء؛ فلهذا وجب الحد من التناسل؛ صيانة للأسرة مما يتهددها من خطر كثرة الأولاد، وإنقاذا للأمة مما يتوقع لها من البلاء وشدة الأزمات (¬1) المناقشة: هذه الشبهة وليدة للشبهة الأولى وصنو لها، فيجاب عنها بما تقدم من المناقشة فيها، ثم هي لا تزيد على أن تكون دعاية لتحديد النسل بتزيين الباطل، والتلبيس على الناس؛ ليخدعوهم عن مقتضى فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها، ويصدوهم عما هو مصدر سعادتهم، وما تتحقق به مصالحهم. ويحصل لهم به عوامل القوة والنماء والرخاء؛ فإن الأولاد هم الأيدي العاملة وهم مصدر الثروة والنماء وزيادة الرخاء، فبكثرتهم تكثر الخيرات، ويزداد العمران في الأرض، وتنهض الأمم في جيشها وقوتها، ¬

_ (¬1) انظر ما نقله الأستاذ أبو الأعلى المودودي عن الأطباء وعلماء النفس في كتابه [حركة تحديد النسل] .

وفي علمها واختراعها، وفي إنتاجها ورعايتها لجميع مرافق حياتها، وكثيرا ما وجدنا بيوتا قد فتحت على أيدي الأولاد، وعمها الخير والرخاء، وكثيرا ما شاهدنا العلماء من أبناء الفقراء والطبقات المتوسطة، وأنهم نهضوا بأممهم، وقاموا بمصالحهم، وكانوا ملاك سعادتها، وزهرة حياتها، وعنوان مجدها، فإن تخلف شيء من ذلك فهو من الفوضى والإهمال والتفريط لا من زيادة التناسل، ومن المعروف أن النهوض وليد الطموح ويقظة النفس وشعورها بالحاجة، وأن الفساد والهبوط وليد الدعة، وتبلد النفس، وعدم الإحساس بالحاجة، وقد يكون ذلك مع الغني كما يكون مع الفقير، وإذا فليست المشكلة من كثرة التناسل وزيادة الأولاد حتى يسعى في حلها بتحديد النسل أو منع الحمل. الرابع: زعموا: أن تحديد النسل أو منع الحمل يحفظ للمرأة صحتها وجمالها، وأن تتابع الحمل والولادة وما يتبع ذلك من رعايتها لأولادها وقيامها بشئونهم ورعايتها لهم وسهرها على مصالحهم يهدم كيانها ويذهب قواها وجمالها، ويهدد حياتها الزوجية، فقد يزهد فيها زوجها، فيطلقها أو ينصرف عنها إلى غيرها؛ لسوء حالها واشتغالها عنه بأولادها. المناقشة: أ- إن هذه الشبهة إنما يتشدق بها ويروج لها من طغت عليه شهوته الحيوانية، وانحرفت فطرته الإنسانية فلا هم له إلا الاستمتاع بزوجته، وقضاء وطره منها، ويفر من تكاليف الذرية وتحمل أعبائها، استجابة لدواعي الشهوة البهيمية، وإيثارا لجانب اللذائذ الحيوانية التي لا تعدل في نفس من سلمت فطرته من الناس، أو تقارب إرواء عاطفة الأبوة والأمومة

الكامنة في أعماق النفوس وحياة القلوب. ب- إن عزل المرأة عن وظيفة الحمل والولادة التي هي من أجل ما خلقها الله لها يحدث فيها كبتا، ويولد فيها عقدا نفسية، ويورثها بؤسا وكآبة تذهب بجمالها وحسن رونقها، وإذا استعملت لمنع الحمل أو إسقاطه العقاقير وأمثالها زادها ذلك هما، وضاعف آفاتها ومضارها. ولا شك أن هذا الخطر يزيد على ما يذكره دعاة تحديد النسل في شبهتهم من المضار الناشئة عن كثرة الحمل والولادة، مع ما في زيادة التناسل من النماء في الإنتاج وزيادة وسائل المعيشة والنفع الخاص بالأسرة والعام للأمة، فأي الأمرين أحق بالحرص عليه والدعوة إليه؟! قال الدكتور (الكسيس كارل) في كتابه [الإنسان ذلك المجهول] : إنه حتى هذه الأيام لم ينضج فكر الإنسان ولم يشعر على الوجه التام بما لوظيفة التوليد من الأهمية في حياة المرأة، إن قيام المرأة بهذه الوظيفة مما لا مندوحة عنه لكمالها القياسي، فما تحريف النساء عن التوليد ورعاية الطفل إلا حماقة شنيعة لا يقدم عليها عاقل. وقال الدكتور (أزوالد شوارز) أحد علماء النفس في كتابه [نفسية الجنس] : أي شيء يا ترى يدل عليه وجود الغريزة الجنسية في الإنسان؟ ولأي غرض قد وضعت فيه؟ ومن الحقيقة التي لا غبار عليها: أن هذه الغريزة إنما هي لإنجاب الذرية وتخليد النسل؛ إذ من القوانين الثابتة في علم الأحياء أن كل عضو في جسد الإنسان يجب أن يؤدي وظيفته الخاصة المستقلة حتى يحقق بذلك المهمة التي قد أسندت إليه، وعلى هذا إذا منع هذا العضو من أداء وظيفته الخاصة فلا بد أن تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعدة، ومما يتعلق بهذا البحث أن

جسد المرأة لم يخلق في معظمه إلا لوظيفة الحمل والتوليد، فهي إذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي فلا بد أن تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة، وعلى خلاف هذا فإنها عندما تصبح أما تجد جمالا جديدا وبهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه. وقال أيضا: إن كل عضو في جسدنا يجب أن يقوم بوظيفته، وعلى هذا فإنه إذا حيل بينه وبين أن يقوم بوظيفته فلا بد أن يختل به التوازن في نظامنا الجسدي، إن المرأة ليست بحاجة إلى إنجاب ذرية لمجرد أن ذلك تقتضيه عاطفة الأمومة التي قد فطرت عليها، أو لمجرد أنها ترى القيام بهذه الخدمة واجبا عليها، بناء على ضابط خلقي مفروض عليها، وإنما هي بحاجة إليها؛ لأن نظامها الجسدي ما بني كله إلا للقيام بها، فهي إذا منعت أن تقوم بها فلا بد أن تتأثر شخصيتها كلها بالانقباض والحرمان والهزيمة واليأس المميت. أهـ. إن الذين بدؤوا بالدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل، وروجوا دعوتهم بما تقدم من الشبه وأمثالها- جماعة لا يؤمنون بأن للعالم ربا عليما خبيرا بشئون عباده، حكيما في تدبير أمورهم وتصريف أحوالهم ولا يرضون بشريعة الإسلام دينا ولا بمحمد رسولا، فلا عجب أن يظنوا بالله الظنون الكاذبة، وأن يدخلوا تفكيرهم القاصر المحدود فيما هو من شأنه وحده، وأن يناقضوا شريعة الإسلام ويكونوا حربا على مقاصدها، ولا عجب أيضا أن يسير في ركابهم، ويدعو بدعوتهم بعض جهلة المسلمين وأرباب الهوى منهم، فإن الجهل قتال يقذف بصاحبه في لجج الضلال

والهلاك وأن الهوى يعمي ويصم، وإنما العجب أن يناقضوا ما يدعون أنهم قتلوه بحثا، وأحاطوا به علما من نظريات الاقتصاد وأصول علم النفس وعلم الأحياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث. ونختم الكلام على ما ذكروا من البواعث والدواعي لمنع الحمل أو تحديد النسل بذكر بعض دواع أخرى تقع قليلا أو نادرا فيحكم فيها بما يناسبها من الأحكام، فإنها تختلف عما تقدم في أهدافها ومقاصدها وربما كان لمن ألمت به العذر في منع الحمل أو تنظيمه. ا- قد يكون بالمرأة ما تتعذر معه الولادة العادية، فيخرج الولد بإجراء عملية جراحية، وربما كان في ذلك خطورة، كما أن تكرر ذلك خطر على المرأة، وقضاء على حياتها، ففي هذا يمكن أن يقال بوجوب منع الحمل أو المنع من تكراره، محافظة على حياة المرأة، وذلك راجع إلى مقصد من المقاصد الضرورية الخمسة، وهو المحافظة على النفس، ولكن من الواضح أن هذا وأمثاله ليس من تحديد النسل ولا من تنظيمه ولا يتفق معه في الدواعي أو الغرض الذي ألجأ إليه، فلا يصح أن يخلط بينهما تلبيسا على الناس، ولا أن يحتج بمثل هذا على تحديد النسل أو منعه للدواعي الأخرى. 2 - وقد يضر المرأة تتابع الحمل لضعف بها أو مرض، ويقرر أهل الخبرة: إن كان عليها من تتابعه خطورة، فلها أن تتخذ وسائل غير ضارة لتنظيم الحمل وتأخيره فترة من الزمن تستجم فيها، وتسترد نشاطها وقوتها، ويرجع فيما تستخدمه من الوسائل لأهل الخبرة، مخافة أن تصاب بعقم أو مرض آخر من جراء استخدام الوسائل لتنظيم الحمل، وليس هذا

من باب تحديد النسل، ولا في معنى ما تقدم من منع الحمل للبواعث الأخرى التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل فلا مستند فيه لهم. 3 - وقد يظن الرجل أن وطأه امرأته أو أمته وهي ترضع يضر بالولد، فيمتنع من ذلك محافظة على صحة الرضيع وحرصا على سلامته، سواء قلنا: تغير لبن المرأة وتضرر الرضيع بنفس الجماع أو بالحمل المتوقع منه، فعلى تقدير أن ذلك يعتبر عذرا للرجل في ترك الجماع أو للزوجة في الامتناع منه- فإنه ليس من باب تحديد النسل أصلا ولا من جنس منع الحمل للدواعي المنكرة التي اعتمد عليها دعاة تحديد النسل أو منعه، على أن النبي صلى الله عليه وسلم هم أن ينهى عن الغيلة محافظة على الرضيع، ثم رجع عن ذلك وبين السبب، روى أحمد ومسلم عن جذامة بنت وهب الأسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت إلى الروم فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا (¬1) » . . . الحديث. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم النكاح (1442) ، سنن الترمذي الطب (2077) ، سنن النسائي النكاح (3326) ، سنن أبو داود الطب (3882) ، سنن ابن ماجه النكاح (2011) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) ، موطأ مالك الرضاع (1292) ، سنن الدارمي النكاح (2217) .

4 - ربما يحتاج الرجل إلى العزل عن أمته أو زوجته حرة أو أمة. وقد اختلف العلماء في حكم ذلك اختلافا كثيرا: فمنهم من حرم ذلك مطلقا عن أمته وزوجته حرة أو أمة. ومنهم من أجازه مطلقا، وفرق جماعة بين الأمة والحرة. وفرق آخرون بين حالة الإذن وعدمه، فأباحه في الأولى دون الثانية. وتفصيل الخلاف في ذلك معروف في كتب الفقه، ومنشؤه: اختلاف العلماء في فهم ما ورد في ذلك من الأحاديث واختلافهم فيمن له الحق في الوطء والولد ومن لا حق له في ذلك.

ولما كان كلام ابن القيم مستوفيا لتفصيل القول في حكم العزل مع الأدلة والمناقشة اكتفينا بذكره هنا، قال رحمه الله (¬1) : فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في العزل. ثبت في [الصحيحين] ، عن أبي سعيد قال: «أصبنا سبيا، فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "وإنكم لتفعلون" قالها ثلاثا "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة (¬2) » ، وفي [السنن] عنه: أن رجلا قال: «يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها وأنا أكره أن تحمل وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى، قال: "كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (¬3) » . وفي [الصحيحين] : عن جابر: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل. وفي [صحيح مسلم] عنه: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا (¬4) » . وفي [صحيح مسلم] أيضا عنه قال: «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يمنع شيئا أراده الله (¬5) » ، قال: فجاء الرجل فقال: «يا رسول الله، إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله (¬6) » . وفي [صحيح مسلم] أيضا عن أسامة بن زيد: أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تفعل ذلك؟ " فقال الرجل: أشفق على ولدها، أو قال: على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان ضارا ضر فارس والروم (¬7) » وفي [مسند أحمد] و [سنن ابن ماجه] من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه «نهى رسول ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (4\ 30) طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية. (¬2) صحيح البخاري النكاح (5210) ، صحيح مسلم النكاح (1438) ، سنن ابن ماجه النكاح (1926) ، موطأ مالك الطلاق (1262) . (¬3) سنن أبو داود النكاح (2171) . (¬4) صحيح البخاري النكاح (5209) ، صحيح مسلم النكاح (1440) ، سنن ابن ماجه النكاح (1927) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) . (¬5) صحيح مسلم النكاح (1439) . (¬6) صحيح مسلم النكاح (1439) . (¬7) صحيح مسلم النكاح (1443) ، مسند أحمد بن حنبل (5/203) .

الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها (¬1) » وقال أبو داود: سمعت أبا عبد الله ذكر حديث ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها (¬2) » فقال: ما أنكره. فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزل. وقد رويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة. علي وسعد بن أبي وقاص وأبي أيوب وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس والحسن بن علي وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وابن مسعود رضي الله عنهم. قال ابن حزم: وجاءت الإباحة للعزل صحيحة. عن جابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم، وهذا هو الصحيح. وحرمه جماعة، منهم: أبو محمد بن حزم وغيره، وفرقت طائفة بين أن تأذن له الحرة فيباح، أو لا تأذن فيحرم. وإن كانت زوجته أمة أبيح بإذن سيدها ولم يبح بدون إذنه. وهذا منصوص أحمد. ومن أصحابه من قال: لا يباح بحال، ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة حرة كانت أو أمة ولا يباح بدون إذنها حرة كانت أو أمة. فمن أباحه مطلقا احتج بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حق المرأة في ذوق العسيلة لا في الإنزال. ومن حرمه مطلقا: احتج بما رواه مسلم في [صحيحه] من حديث عائشة عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: «حضرت رسول الله ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه النكاح (1928) . (¬2) سنن ابن ماجه النكاح (1928) .

صلى الله عليه وسلم في أناس فسألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي (¬1) » ، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (¬2) قالوا: وهذا ناسخ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة الأصلية، قالوا: وقول جابر: «كنا نعزل والقرآن ينزل، (¬3) » فلو كان شيئا ينهى عنه لنهى القرآن عنه. فيقال: قد نهى عنه من أنزل عليه القرآن بقوله: «إنه الموءودة الصغرى (¬4) » والوأد كله حرام. قالوا: وقد فهم الحسن البصري النهي من حديث أبي سعيد الخدري لما ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عليكم ألا تفعلوا. ذاكم إنما هو القدر (¬5) » ، قال ابن عون: فحدثت به الحسن، فقال: والله لكأن هذا زجر. قالوا: ولأن فيه قطع النسل المطلوب من النكاح وسوء العشرة وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها، قالوا: ولهذا كان ابن عمر لا يعزل، وقال: الو علمت أن أحدا من ولدي يعزل لنكلته) وكان علي يكره العزل. ذكره شعبة عن عاصم عن زر بن حبيش عنه، وصح عن ابن مسعود أنه قال في العزل: «هو الموءودة الصغرى (¬6) » . وصح عن أبي أمامة أنه سئل عنه، فقال: ما كنت أرى مسلما يفعله. وقال نافع عن ابن عمر: (إن عمر ضرب على العزل بعض بنيه) قال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب: (كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل) وليس في هذا ما يعارض أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم النكاح (1442) ، سنن ابن ماجه النكاح (2011) . (¬2) سورة التكوير الآية 8 (¬3) صحيح البخاري النكاح (5209) ، صحيح مسلم النكاح (1440) ، سنن الترمذي النكاح (1137) ، سنن ابن ماجه النكاح (1927) . (¬4) سنن الترمذي النكاح (1136) . (¬5) صحيح البخاري المغازي (4138) ، صحيح مسلم النكاح (1438) ، سنن النسائي النكاح (3327) ، مسند أحمد بن حنبل (3/68) ، موطأ مالك الطلاق (1262) ، سنن الدارمي النكاح (2224) . (¬6) سنن الترمذي النكاح (1136) .

أما حديث جدامة بنت وهب فإنه وإن كان رواه مسلم فإن الأحاديث الكثيرة على خلافه، وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى: أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه: أن رفاعه حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا قال: «يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها. وأنا أكره أن تحمل. وأنا أريد ما يريد الرجال، وأن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال: "كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه (¬1) » وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكلهم ثقات حفاظ، وقد أعله بعضهم بأنه مضطرب، فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير، فقيل عنه: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي والنسائي، وقيل فيه: عن أبي مطيع بن رفاعة، وقيل: عن أبي رفاعة. وقيل: عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وهذا لا يقدح في الحديث. فإنه قد يكون عند يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر. وعنده عن ابن ثوبان عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبي سعيد. ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة: هل هو أبو رافع، أو ابن رفاعة، أو أبو مطيع؟ وهذا لا يضر مع العلم بحال رفاعة. ولا ريب أن أحاديث جابر صريحة صحيحة في جواز العزل، وقد قال الشافعي: ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رخصوا في ذلك، ولم يروا به بأسا. قال البيهقي: وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت، وابن عباس وغيرهم. وهو مذهب مالك ¬

_ (¬1) سنن أبو داود النكاح (2171) .

والشافعي وأهل الكوفة، وجمهور أهل العلم. وقد أجيب عن حديث جدامة: بأنه على طريق التنزيه، وضعفته طائفة، وقالوا: كيف يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كذب اليهود في ذلك، ثم يخبر به كخبرهم؟ هذا من المحال البين. وردت عليهم طائفة أخرى، وقالوا: حديث تكذيبهم فيه اضطراب. وحديث جدامة في الصحيح. وجمعت طائفة أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهود كانت تقول: إن العزل لا يكون معه حمل أصلا. فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أراد الله أن يخلقه لما استطعت أن تصرفه (¬1) » وقوله: «إنه الوأد الخفي (¬2) » ، فإنه وإن لم يمنع الحمل بالكلية، كترك الوطء، فهو مؤثر في تقليله. قالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان. ولكن حديث التحريم ناسخ. وهذه طريقة أبي محمد بن حزم. قالوا: لأنه ناقل عن الأصل. والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقق، يبين تأخير أحد الحديثين عن الآخر، وأنى لهم به؟ وقد اتفق عمر وعلي رضي الله عنهما: أنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع. فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال: (جلس إلى عمر: علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى. فقال علي: لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون لحما، ثم تكون خلقا آخر. فقال عمر: صدقت. أطال الله بقاءك) وبهذا ¬

_ (¬1) سنن أبو داود النكاح (2171) . (¬2) صحيح مسلم النكاح (1442) ، سنن ابن ماجه النكاح (2011) ، مسند أحمد بن حنبل (6/434) .

احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء. وأما من جوزه بإذن حرة، فقال: للمرأة حق في الولد كما للرجل حق فيه؛ ولهذا كانت أحق بحضانته، قالوا: ولم يعتبروا إذن السرية فيه؛ لأنها لا حق لها في القسم؛ ولهذا لا تطالبه بالفيئة. ولو كان لها حق في الوطء لطولب المولي منها بالفيئة. قالوا: وأما زوجته الرقيقة فله أن يعزل عنها بغير إذنها؛ صيانة لولده عن الرق. ولكن يعتبر إذن سيدها؛ لأن له حقا في الولد. فاعتبر إذنه في العزل كإذن الحرة، ولأن بدل البضع يحصل للسيد كما يحصل للحرة. فكان إذنه في العزل كإذن الحرة. قال أحمد في رواية أبي طالب، في الأمة إذا نكحها: يستأذن أهلها، يعني: في العزل؛ لأنهم يريدون الولد، والمرأة لها حق تريد الولد، وملك يمينه لا يستأذنها، وقال في رواية صالح وابن منصور وحنبل وأبي الحرث والفضل بن زياد والمروذي: يعزل عن الحرة بإذنها، والأمة بغير إذنها، يعني: أمته، وقال في رواية ابن هانئ: إذا عزل عنها لزمه الولد، قد يكون الولد مع العزل، وقد قال بعض من قال: ما لي ولد إلا من العزل، وقال في رواية المروذي في العزل عن أم الولد: إن شاء. فإن قالت: لا يحل لك، ليس لها ذلك. اهـ. ومهما يكن من الاختلاف في حكم عزل الرجل عن زوجته حرة أو أمة أو عزله عن سريته من الإباحة مطلقا أو المنع مطلقا أو إباحته مع الإذن ومنعه بدونه فليس من باب تحديد النسل، فإنه إن كان بالنسبة للأمة إنما كان خشية أن تحمل منه وهو يكره أن يكون له منها ولد، أو خشية أن تصير أم ولد وهو في حاجة إلى خدمتها أو ثمنها، كما هو واضح من الأحاديث المتقدمة، وأما بالنسبة للزوجة فقد يكون للمحافظة على رضيعها، وقد

يكون خشية أن تحمل وهي مريضة أو ضعيفة فيضرها الحمل أو يضرها تتابعه، وقد يكون لأسباب أخرى دعتهم إلى ذلك، غير أنها ليس منها تحديد النسل؛ لسلامة فطرهم، وقوة توكلهم على الله، وثقتهم به، ومزيد حبهم للنسل ورغبتهم فيه، فلا يفعلون ما يناقض فطرهم وما تهواه قلوبهم من الذرية، ولا يخوضون في شئون المستقبل وما يكون فيه من غبن وفقر، ولا يتشاءمون منه، ولا يظنون بالله الظنون. وبالجملة: ما عهد فيهم من الاعتصام بالدين، وحسن الظن بالله ليبعدهم كل البعد عن القصد إلى العزل من أجل تحديد النسل. وعلى هذا لا حجة فيما ذكر من الأحاديث لمن تعلق بها ممن يرون تحديد النسل.

وسائل تحديد النسل وبيان مضارها

4 - وسائل تحديد النسل وبيان مضارها: لتحديد النسل ومنع الحمل وسائل عديدة: منها: الرهبنة، وترك الزواج، وكبت النفس وحبسها عن الجماع، والإجهاض (إسقاط الحمل) أو وضع اللبوس في الفرج. وتعاطي العقاقير، ونحوها مما يمنع الحمل أو يقضي عليه بعد وجوده. ولكل من هذه الوسائل آثار سيئة وعواقب وخيمة، وفيما يلي بيان شيء من ذلك: أ- انتشار جريمة الزنا وانتهاك الحرمات، فإن الذي يردع الإنسان ويقف به عند حده خوفه من الله أولا. وقد ذهب ذلك بالإلحاد أو ضعف الوازع الديني، وخوفه من العار ثانيا. وقد ذهب ذلك بانتشار وسائل منع الحمل وتحديد النسل، حيث أمنت

المرأة من الحمل وعرفت طريق التخلص منه باستعمال هذه الوسائل فاجترأت هي ومن يهواها على قضاء الوطر وإشباع الغريزة الجنسية دون خوف أو حياء. ب- انتشار الزنا سبب لانتشار الأمراض الخبيثة؛ كمرض الزهري والسيلان، وهما من أفتك الأمراض وأشدها خطرا على حياة الناس. ج- انتزاع جلباب الحياء، وفساد الأخلاق، وضياع الأنساب، وضعف الروابط بين الأسر، وبذلك تعم الفوضى ويكثر الهرج والمرج ويشتد البلاء. د- نقص الأيدي العاملة وكثرة العجزة والعجائز لقلة التناسل والوقوف به عند غاية، وبذلك يقل الإنتاج، وتنقص وسائل المعيشة، وتشتد الأزمات، وتضعف سيطرة الأمة وقوة الدفاع عنها. هـ- ضعف العلاقة الزوجية بين الزوجين؛ لعدم الأولاد أو قلتهم باستعمال وسائل تورث العقم ابتداء أو تقف بالتناسل عند حد، فإن الأولاد تقوى بهم أواصر المحبة والوئام بين الزوجين وتضطر كلا منهما على الصبر على متاعب الحياة الزوجية وتحمل ما قد يصدر من أحدهما للآخر من الأذى وتعكير الصفو، فإذا لم تكن بينهما هذه الروابط ضعفت عرى الزوجية أو انحلت، وكثرت وقائع الطلاق، ودب دبيب الشر والفساد بين الأسر، وفي ذلك ضعف المجتمع وفساده. وفي الرهبانية كبت للنفس وخروج بها عن فطرتها ومقتضى ما أودع فيها من الغرائز، وهذا مما يورثها ضيقا وقلقا وأمراضا عصبية وتبرما بالحياة، ولهذا وغيره نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل.

ز- سقوط الرحم وحدوث أمراض أخرى تكاد تفتك بالمرأة من جراء إسقاطها الحمل تخلصا من النسل أو من كثرته. وقد ذكر كثير من الأطباء وعلماء النفس مضار وسائل منع الحمل وتحديد النسل إجمالا وتفصيلا. من ذلك ما جاء عن الدكتور: كلير فولسوم، قال: ليست عندنا حتى اليوم أية وسيلة سهلة أو رخيصة غير ضارة يمكن استخدامها لتحديد النسل ولما تقدم وغيره من المضار قام كثير من الأطباء وعلماء النفس في دولهم بدعوة مضادة، وحذروا الناس من استعمال وسائل منع الحمل وتحديد النسل، وشرحوا لهم مضار ذلك علما وتجربة واستجابت لهم حكوماتهم، فحظرت الاتجار في هذه الوسائل، وأعطت المكافأة على كثرة النسل، ورفعت الضرائب عمن كثرت أولادهم، وفرضت العقوبات على من ثبت عليه استعمال هذه الوسائل أو الاتجار فيها أو الترويج لها والدعاية لاستعمالها.

الحكم مع الدليل

5 - الحكم مع الدليل: تبين مما تقدم أن ما ذكره الدعاة إلى تحديد النسل أو منع الحمل من البواعث التي اعتمدوا عليها في ترويج ذلك والدعاية له لا تصلح مبررا له، بل هي غير صحيحة لمناقضتها الواقع، ومنافاتها مقتضى الفطرة والإسلام، وتبين أيضا أن لتحديد النسل أو منع الحمل بأي وسيلة من الوسائل مضارا كثيرة دينية واقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وجسمية. وعلى هذا يكون تحديد النسل محرما مطلقا، ويكون منع الحمل محرما إلا في حالات فردية نادرة لا عموم لها، كما في الحالة التي تدعو الحامل إلى ولادة غير عادية ويضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، وفي حالة ما إذا كان على المرأة خطر من الحمل لمرض ونحوه، فيستثنى مثل هذا منعا للضرر، وإبقاء على النفس. فإن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح، ودرء المفاسد، وتقديم أقوى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين عند التعارض. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

قرار هيئة كبار العلماء بشأن منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه

قرار هيئة كبار العلماء رقم (42) وتاريخ 13\ 4\ 1396 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ - بحث المجلس موضوع (منع الحمل وتحديد النسل وتنظيمه) ؛ بناء على ما تقرر في الدورة السابعة لمجلس المنعقد في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة. وقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء، والاستماع إلى وجهات النظر قرر المجلس ما يلي: نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده- فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها. ونظرا إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها

الرب تعالى لعباده. ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد وأهلها. وحيث إن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية، وسوء ظن بالله تعالى، إضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها. لذلك كله فإن المجلس يقرر: بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة؛ ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد، أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان- فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل، أو تأخيره؛ عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل، وتمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة. وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة الثامنة . ... . ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز عبد الله بن حميد ... عبد الله الخياط ... عبد الرزاق عفيفي محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان متوقف عن الاستثناء ... راشد بن خنين . ... صالح بن لحيدان المصلحة التي يراها الزوجان غير مقيدة ولا أراها ... عبد الله بن منيع

حكم التسعير

(8) حكم التسعير هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم التسعير (¬1) إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: بناء على ما تقرر في الدورة الثامنة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول عام 1396 هـ. من إعداد بحث في التسعير- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على:. تعريف التسعير، وهل يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه؟ ومن أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كما يبيع الناس؟ وبيان من يختص به التسعير من البائعين، وما يدخله التسعير من المبيعات. وهل يجوز إلزام الناس بسعر محدد في تأجير عقاراتهم؟ ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد السادس، ص 51- 95، سنة 1400 هـ.

معنى التسعير

معنى التسعير: نذكر فيما يلي معنى التسعير، ثم نذكر المسائل الخمس، ثم الكلام المذكور: معنى التسعير لغة واصطلاحا أما معناه لغة: فقد قال فيه ابن منظور: التسعير الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه أسعار، وقد أسعروا، وسعروا بمعنى واحد اتفقوا على سعر ... والتسعير التقديم (¬1) . وأما معناه اصطلاحا: فقد قال فيه الشوكاني: هو أن يأمر السلطان ونوابه- أو كل من ولي من أمور المسلمين أمرا- أهل السوق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا فيمنعوا من الزيادة عليه أو النقصان لمصلحة (¬2) . ¬

_ (¬1) [لسان العرب] (6\ 30) . (¬2) [نيل الأوطار] (3\ 233) .

المسألة الأولى أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه

المسألة الأولى: أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه: اختلف أهل العلم في ذلك: فمنعه قوم، وجوزه آخرون. وفيه من قال بجوازه إذا تعدى أرباب الطعام، ومن أهل العلم من قال بجوازه عام الغلاء. لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الموضوع كلام عرض فيه حكم التسعير، إذا كان يتضمن العدل، وحكمه إذا كان يتضمن جورا، وذكر نظائر لهذه المسألة، ثم تكلم على مسألتين:

الأولى: إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع على من ذلك. الثانية: هل يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب؟ وكذلك لابن القيم كلام في ذلك يتفق من حيث الجملة مع كلام شيخ الإسلام، ثم لسماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله كتابة في الموضوع رأت اللجنة ذكر جميع ذلك، وبالله التوفيق. أما المانعون: فبعض الحنفية، وقال به مالك ومن وافقه من أصحابه، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعية، وهو المقدم عند الحنابلة. جاء في [بداية المبتدي] : ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس (¬1) . وقال محمد بن الحسن الشيباني بعد سياقه لأثر عمر مع حاطب بن أبي بلتعة قال: وبهذا نأخذ، لا ينبغي أن يسعر على المسلمين، فيقال لهم: بيعوا كذا وكذا بكذا، أو يجبرون على ذلك، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا (¬2) . وجاء في [المنتقى شرح الموطأ] بعد ذكره لصورة المسألة قال: فهذا منع منه مالك، وبه قال ابن عمر، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد (¬3) . وجاء في [المهذب] : لا يحل للسلطان التسعير (¬4) . ¬

_ (¬1) [البداية] ومعها [الهداية] (4\ 93) . (¬2) [الموطأ] رواية محمد بن الحسن، ص 341\ طبعة هندية. (¬3) [المنتقى شرح الموطأ] (5\ 18) . (¬4) [المهذب وشرحه] (13\ 29) .

وقال عبد الرحمن بن قدامة: وهذا مذهب الشافعي (¬1) . وقال الرملي: ويحرم على الإمام أو نائبه ولو قاضيا التسعير في قوت أو غيره. انتهى (¬2) . وقال النووي: ومنها- أي: المناهي- التسعير، وهو حرام في كل وقت على الصحيح (¬3) . وقال عبد الرحمن بن قدامة: وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم بما يختارون (¬4) . وقال في [لإنصاف] : يحرم التسعير، ويكره الشراء به على الصحيح من المذهب (¬5) . وقال محمد بن الحسن الفراء: ولا يجوز أن يسعر على الناس بالأقوات ولا غيرها في رخص ولا غلاء. اهـ. (¬6) . واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى: أما السنة: فما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى في [مسانيدهم] وأبو داود والترمذي وصححه، وابن ماجه في [سننهم] عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال: «إن الله هو ¬

_ (¬1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (4\ 51) . (¬2) [نهاية المحتاج] (3\ 273) . (¬3) [روضة الطالبين] ص 411، 412. (¬4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (4\ 51) . (¬5) [لإنصاف] (4\ 338) . (¬6) [نيل الأوطار] (5\ 232، 233) ويرجع أيضا إلي [الدارية في تخريج أحاديث الهداية] (2\224، 225) .

المسعر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحدكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال (¬1) » . قال ابن حجر: وإسناده على شرط مسلم، وصححه أيضا ابن حبان، وفي الباب عن أبي هريرة عن أحمد وأبي دواد قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: «بل ادعو الله» ، ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: «بل الله يخفض ويرفع (¬2) » ، وقال الحافظ: وإسناده حسن، وعن أبي سعيد عن ابن ماجه والبزار والطبراني نحو حديث أنس، ورجاله رجال الصحيح وحسنه الحافظ، وعن علي رضي الله عنه عند البزار نحوه، وعن ابن عباس عند الطبراني في [الصغير] ، وعن أبي جحيفة عنده في [الكبير] . انتهى. وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسعر، وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه، وأنه علل ذلك بكونه مظلمة والظلم حرام، ذكره عبد الرحمن بن قدامة (¬3) ، وبسط الشوكاني هذا الوجه الثاني، فقال: الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬4) وقال الشوكاني أيضا: وظاهر الأحاديث أنه لا فرق بين حالة الغلاء ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) . (¬3) [الشرح الكبير] (4\ 51) . (¬4) سورة النساء الآية 29

وحالة الرخص، ولا فرق بين المجلوب وغيره، وإلى ذلك مال الجمهور ... وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين ما كان قوتا للآدمي ولغيره من الحيوانات، وبين ما كان من غير ذلك من الإدامات وسائر الأمتعة (¬1) . ويمكن أن يجيب المجيزون عن الاستدلال بهذه الأحاديث بوجهين: الأول: يحتمل أن يكون هذا من تصرفاته صلى الله عليه وسلم بمقتضى الأمانة وأنه عليه الصلاة والسلام راعى المصلحة التي كانت تدعو إليها تلك الظروف، ويمكن أن يدفع ذلك بأن القاعدة العامة في الشريعة: أن النصوص عامة في التشريع من حيث الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وأنها وحي من الله عز وجل، وحملها على صورة معينة يكون بها الدليل خاصا بزمان ومكان وشخص وحال- خلاف الأصل، فيحتاج إلى دليل، وكذلك حمل الأحاديث على أنها من تصرفاته الاجتهادية عليه الصلاة والسلام. والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال (¬2) » ، دليل صريح على أن علة ما قرره في أمر التسعير هو: مراعاة أن لا يظلم أحدا من الناس، سواء كان بائعا أو مشتريا، وهو يكون بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم، وذلك كما يكون بحماية البائع من إلزام المشتري إياه بسعر دون الذي يريد، كذلك يكون بحماية المشتري من إلزام البائع إياه بالغبن الفاحش واستغلال ضرورته لإيقاع المظلمة به، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم لو رأى من الباعة ميلا إلى هذا الظلم لأخذ على أيديهم وألزمهم بحد لا يتجاوزونه، وذلك بمقتضى قوله: «إني لأرجو أن ألقى الله ¬

_ (¬1) [نيل الأوطار] (5\ 233) ، ويرجع إلى [فتح العلام] (2\ 20) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .

وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال (¬1) » وبمقتضي حديث «لا ضرر ولا ضرار (¬2) » . وأما المعنى: فإنه مال فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان، كما لو اتفق الجماعة عليه، والظاهر أنه سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعتهم على بلد يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها، ويطلبها المحتاج ولا يجدها إلا قليلا فيرفع عنها ليحصلها فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين؛ جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه، فيكون حراما. انتهى. ذكر ذلك ابن قدامة (¬3) . القول الثاني: أنه يجوز التسعير، وهذا القول رواه أشهب عن مالك. قال الباجي: وروى أشهب عن مالك في [العتبية] في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق (¬4) ووجه هذا القول: ما يجب النظر في مصالح العامة والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) . (¬2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) . (¬3) [الشرح الكبير] (4\ 51) . (¬4) [المنتقى شرح الموطأ] (5\18) .

للباع والمبتاع، ولا يمنع البائع ربحا، ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس. انتهى (¬1) . القول الثالث: أنه يجوز إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا، وبهذا قال بعض الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم، جاء في [كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق] : ولا يسعر السلطان إلا أن يتعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا. انتهى (¬2) . وفي [إتحاف ذوي الأبصار والبصائر بتبويب كتاب الأشباه والنظائر] : وقال في [التنبيه] : يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وعليه فروع: منها التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش (¬3) ، وجاء في توجيه ذلك، أن الثمن حق البائع فكان إليه تقديره فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين ويتعدون تعديا فاحشا، وعجز السلطان عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والنظر (¬4) . انتهى. ويمكن أن يستدل لذلك أيضا: بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار، وعلة النهي ظلم الناس بمنعهم عن الوصول إلى ما يحتاجونه من أقوات وشبهها، وهي علة منصوصة في هذا الباب، فيقاس التسعير على الاحتكار بجامع هذه العلة وهي رفع الأسعار دون موجب. ¬

_ (¬1) [المنتقى شرح الموطأ] (5\ 18) . (¬2) [كنز الدقائق وشرحه] (1\ 28) ويرجع إلى [الدر المنتقى] (2\ 48) . (¬3) [الإتحاف] ص 466 (¬4) [كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق] (6\ 28)

القول الرابع: أنه يجوز في وقت الغلاء دون الرخص، وهذا قول في مذهب مالك والشافعي، جاء في [الدر المنتقى شرح الملتقى] : وقال مالك: على الوالي التسعير عام الغلاء (¬1) . وقال النووي: والثاني يجوز في وقت الغلاء دون الرخص (¬2) . ¬

_ (¬1) [الدر المنتقى] (2\ 548) . (¬2) [الدر المنتقى] (2\ 548) .

المسألة الثانية من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس

المسألة الثانية: من أراد أن يزيد عن سعر الناس أو ينقص هل يلزم بأن يبيع كالناس؟ في المسألة خلاف: فقوم قالوا: إنه يلزم بأن يبيع كالناس، وآخرون قالوا: إنه لا يلزم، وممن قال بأنه يلزم مالك، ووجه في مذهب أحمد، قال الباجي تحت ترجمة: الباب الأول في تبيين السعر الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به، قال: أي: يختص به في ذلك من السعر هو الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد بحط السعر أو من حطه باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع. مسألة: فإن زاد في السعر أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره أو الامتناع من البيع؛ لأن من باع به من الزيادة ليس بالسعر المتفق عليه ولا بما تقام به المبيعات، وإنما يراعى في ذلك حال الجمهور ومعظم الناس، وفي [المدونة] من رواية ابن القاسم عن مالك: لا يقام لخمسة، قال القاضي أبو الوليد: وعندي أنه يجب النظر في ذلك إلى قدر الأسواق (¬1) . ¬

_ (¬1) [المنتقى] (5\ 17) .

وقال ابن العربي: وإذا كان السعر فأراد أحد أن يزيد فإن كان جالبا فله أن يبيع كيف شاء، وإن كان بلديا قيل له: بع بسعر الناس أو تخرج من السوق، وكان الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه، وأن يباع بأقل مما يبيع الناس حتى يرجع الناس إلى ما رسم من الثمن، ثم يأمر أيضا أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو إلى القدر الذي يصلح بالناس ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل، وكان ذلك من حسن نظره (¬1) . وقال عبد الرحمن بن قدامة: وكان مالك يقول لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كالناس وإلا فاخرج عنا (¬2) ، وقال في [الإنصاف] : وفي وجه لا يحرم (¬3) ، وقال أيضا: وأوجب الشيخ تقي الدين إلزامهم المعاوضة بمثل الثمن، وقال: لا نزاع فيه؛ لأنها مصلحة عامة لحق الله تعالى (¬4) . واستدل لهذا القول: بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح الثمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين بكل درهم، فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك كيف شئت. ¬

_ (¬1) [الأبي على مسلم] (4\ 304) . (¬2) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (4\ 51) . (¬3) [الإنصاف] (4\ 338) . (¬4) [الإنصاف] (4\ 338) .

ويجاب عن هذا بثلاثة أجوبة: الأول: أن هذا اجتهاد من عمر رضي الله عنه في مقابل نص، وهو ما يدل على امتناعه صلى الله عليه وسلم عن التسعير ولا اجتهاد مع النص. الثاني: أن عمر رضي الله عنه رجع عن قوله هذا. قال ابن قدامة: فأما حديث عمر فقد روى فيه سعيد والشافعي: أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع كيف شئت، وهذا رجوع إلى ما قلنا (¬1) ، أي: القول بعدم التسعير. الثالث: أن هذا السند عن عمر ضعيف؛ لانقطاعه، فإن القاسم لم يدرك عمر رضي الله عنه. واستدل لذلك من جهة المعنى: بأن في ذلك إضرارا إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع. وأجاب ابن قدامة عن ذلك فقال: وما ذكره من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه (¬2) . القول الثاني: أنه لا يلزم بأن يبيع كالناس، وهذا هو المقدم عند الحنابلة، قال في [الإنصاف] : ويحرم قوله: بع كالناس على الصحيح من المذاهب (¬3) ، وقال أيضا: وكره الإمام أحمد البيع والشراء من مكان ألزم ¬

_ (¬1) [المغني والشرح الكبير] ، (4 \ 45) . (¬2) [المغني والشرح الكبير] ، (4 \ 45) . (¬3) [الإنصاف] ، (4 \ 338) .

الناس بهما فيه، لا الشراء ممن اشترى منه (¬1) . ويستدل لذلك بالأدلة الدالة على منع التسعير، وقد سبقت مع مناقشتها. ¬

_ (¬1) [الإنصاف] ، (4 \ 338) .

المسألة الثالثة في بيان من يختص به ذلك من البائعين القائلين بالتسعير

المسألة الثالثة: في بيان من يختص به ذلك من البائعين القائلين بالتسعير: سبق الخلاف في التسعير، وهذه المسألة مبنية على قول القائلين بالتسعير، وقد بسط الكلام عليها الباجي رحمه الله، فقال: لا خلاف في أن ذلك حكم أهل السوق والباعة، وأما الجالب ففي كتاب محمد: لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس، وقال ابن حبيب: لا يبيعون ما عدا القمح والشعير إلا بمثل سعر الناس، وإلا رفعوا كأهل الأسواق، وجه ما في كتاب محمد: أن الجالب يسامح ويستدام أمره ليكثر ما يجلبه، مع أن ما يجلب ليس من أقوات البلد، وهو يدخل الرفق عليهم بما يجلب، فربما أدى التحجير عليه إلى قطع الميرة، والبائع بالبلد إنما يبيع أقواتهم المختصة بهم ولا يقدر على العدول بها عنهم في الأغلب؛ ولهذا فرقنا بينهما في الحكرة وقت الضرورة، ووجه ما قاله ابن حبيب: أن هذا بائع في السوق فلم يكن له أن يحط عن سعره؛ لأن ذلك مفسد لسعر الناس كأهل البلد، قال: فأما جالب القمح والشعير، فقال ابن حبيب: يبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، وإن أرخص بعضهم تركوا إن قل من حط السعر، وإن كثر المرخصون قيل لمن بقي: إما أن تبيع كبيعهم

وإما أن ترفع. مسألة: إذا ثبت ذلك فإن كان البائع للطعام من أهل السوق هل يمنع من بيعه في داره بسعر السوق؟ وقال ابن حبيب: وينبغي في الطعام أن يخرج إلى السوق، كما جاء الحديث. ووجه ذلك: أن بيعه في الدور إعزاز له وسبب إلى غلائه، وتطرق لبيع البائع كيف شاء بدون سعر أهل السوق إذا لم يعرف له ذلك في السوق، فإن كان جالبا فليبعه في السوق أو في الدار إن شاء على يده (¬1) . ¬

_ (¬1) [الدر المنتقى] ، (5 \ 18) .

المسألة الرابعة بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات

المسألة الرابعة: بيان ما يدخله التسعير من المبيعات وهل يجوز تحديد أجور العقارات؟ اختلف في تحديد ذلك: فالحنفية: يقولون بالتعميم في كل ما أضر بالعامة. والمالكية: يخصونه بالمكيل والموزون. ويرى الشافعية: أنه في الأقوات خاصة، سواء كانت للآدميين أو للبهائم. القول الأول: أن التسعير يجري في كل ما أضر بالعامة: جاء في [الدر المنتقى شرح الملتقى] بعد كلام سبق: إلا إذا تعدى أرباب الطعام وغيره في القيمة للقوتين، ومضى إلى أن قال: وأفاد أن التسعير في القوتين فقط لا غير، وبه صرح العتابي والحسامي وغيرهما،

لكنه إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا على العادة فيسعر عليهم الحاكم، بناء على ما قال أبو يوسف: ينبغي أن يجوز، ذكره القسهتاني، قلت: وقد قدمنا أن أبا يوسف يعتبر حقيقة الضرر فتدبر (¬1) ، وجاء أيضا في [رد المختار] على قوله: (في القوتين) أي: قوت البشر وقوت البهائم؛ لأنه ذكر التسعير في بحث الاحتكار تأمل، وقال أيضا بناء على قوله: بناء على ما قال أبو يوسف (أي: من أن كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار ولو ذهبا أو فضة أو ثوبا) قال: (ط) وفيه: أن هذا في الاحتكار لا في التسعير. اهـ. قلت: نعم، ولكنه يؤخذ منه قياسا واستنباطا بطريق المفهوم؛ ولذا قال بناء على ما قال أبو يوسف، ولم يجعله قوله. تأمله على أن ما تقدم: أن الإمام يرى الحجر إذا عم الضرر، كما في المغني الماجن، والمكاري المفلس، والطبيب الجاهل، وهذه قضية عامة فتدخل مسألتنا فيها؛ لأن التسعير حجر معنى؛ لأنه منع عن البيع بزيادة فاحشة، وعليه فلا يكون مبنيا على قول أبي يوسف فقط، كذا ظهر لي فتأمل (¬2) . القول الثاني: أنه خاص بالمكيل والموزون: وبه قال المالكية: قال الباجي: قال ابن حبيب: إن ذلك في المكيل والموزون مأكولا كان أو غير مأكول، دون غيره من المبيعات التي لا تكال ولا توزن. ووجه ذلك: أن المكيل والموزون مما يرجع فيه إلى المثل؛ فلذلك ¬

_ (¬1) الدر المنتقى، (2 \ 548) . (¬2) [رد المختار] (5 \ 265) .

وجب أن يحمل الناس فيه على سعر واحد، وغير المكيل والموزون لا يرجع فيه إلى المثل، وإنما يرجع فيه إلى القيمة ويكثر اختلاف الأغراض في أعيانه، فلما لم يكن متماثلا لم يصح أن يحمل الناس فيه على سعر واحد، وهذا إذا كان المكيل والموزون متساويين في الجودة، فإذا اختلف صنفه لم يؤمر من باع الجيد أن يبيع بمثل سعر ما هو أدون؛ لأن الجودة لها حصة من الثمن كالمقدار. القول الثالث: أنه خاص بالأقوات: قال النووي: وحيث جوز التسعير فذلك في الأطعمة، ويلحق بها علف الدواب. ذكر ذلك في [الروضة] ، (¬1) . تحديد أجور العقارات يتضح من كلام الحنفية جوازه عند الحاجة إليه إذا رأى ولي الأمر ذلك؛ لأنهم عمموا التسعير بالأطعمة وغيرها مما يدفع الضرر عن المسلمين. وأما عند من يخص التسعير بالأقوات أو بالمكيل والموزون فإنه يلزم على قوله: تحريم تسعير أجور العقارات، من البيوت وغيرها، وسيأتي التصريح بحكم ذلك فيما كتبه سماحة الشيخ \ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله. وفيما يلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم كلام ابن القيم، ثم كتابة سماحة المفتي رحمه الله. ¬

_ (¬1) [روضة الطالبين] (3 \ 411) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومثل ذلك: الاحتكار لما يحتاج الناس إليه، روى مسلم في [صحيحه] ، عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحتكر إلا خاطئ (¬1) » فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظالم للخلق المشترين؛ ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره. ومن هنا يتبين: أن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم - فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب. فأما الأول: فمثل ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت؟ فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (¬2) » رواه أبو داود والترمذي وصححه. فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر؛ إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام ¬

_ (¬1) صحيح مسلم المساقاة (1605) ، سنن الترمذي البيوع (1267) ، سنن أبو داود البيوع (3447) ، سنن ابن ماجه التجارات (2154) ، مسند أحمد بن حنبل (6/400) ، سنن الدارمي البيوع (2543) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .

الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به، وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع، إما ظلما لوظيفة تؤخذ من البائع، أو غير ظلم؛ لما في ذلك من الفساد، فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا - كان ذلك ظلما للخلق من وجهين: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلما للمشترين منهم، والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم أن يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل. وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق: يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع، مثل: بيع المال لقضاء الدين الواجب، والنفقة الواجبة، والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق، ويجوز في مواضع مثل: المضطر إلى طعام الغير، ومثل: الغراس، والبناء الذي في ملك الغير، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر، ونظائره كثيرة.

وكذلك السراية في العتق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق (¬1) » . وكذلك من وجب عليه شراء شيء للعبادات؛ كآلة الحج، ورقبة العتق وماء الطهارة، فعليه أن يشتريه بقيمة المثل، ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار، وكذلك فيما يجب عليه من طعام أو كسوة لمن عليه نفقته إذا وجد الطعام أو اللباس الذي يصلح له في العرف بثمن المثل، لم يكن له أن ينتقل إلى ما هو دونه حتى يبذل له ذلك بثمن يختاره، ونظائره كثيرة؛ ولهذا منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحابه - القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن لا يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف، وينمو ما يشترونه - كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه، وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس - فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة، ومن ذلك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العتق (2522) ، صحيح مسلم العتق (1501) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (1/57) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .

أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس، مثل: حاجة الناس الفلاحة والنساجة والبناية - فإن الناس لا بد لهم من طعام يأكلونه وثياب يلبسونها ومساكن يسكنونها، فإذا لم يجلب لهم من الثياب ما يكفيهم، كما كان يجلب إلى الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت الثياب تجلب إليهم من اليمن ومصر والشام وأهلها كفار، وكانوا يلبسون ما نسجه الكفار ولا يغسلونه، فإذا لم يجلب إلى ناس البلد ما يكفيهم احتاجوا إلى من ينسج لهم الثياب، ولا بد لهم من طعام؛ إما مجلوب من غير بلدهم، وإما من زرع بلدهم، وهذا هو الغالب، وكذلك لا بد لهم من مساكن يسكنونها، فيحتاجون إلى البناء؛ فلهذا قال غير واحد من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم؛ كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم: إن هذه الصناعات فرض على الكفاية، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها كما أن الجهاد فرض على الكفاية، إلا أن يتعين فيكون فرضا على الأعيان، مثل: أن يقصد العدو بلدا، أو مثل: أن يستنفر الإمام أحدا، وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في [الصحيحين] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (¬1) » وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا، والدين ما بعث الله به رسوله، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به، وعلى كل أحد أن يصدق محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما، وطاعة عامة، ثم إذا ثبت عنه خبر، كان عليه أن يصدق به مفصلا، وإذا كان مأمورا من جهة بأمر معين ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .

كان عليه أن يطيعه مفصلة، وكذلك غسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، فرض على الكفاية، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، والولايات كلها: الدينية، مثل: إمرة المؤمنين وما دونها من ملك، ووزارة، وديوانية، سواء كانت كتابة خطاب، أو كتابة حساب لمستخرج أو مصروف في أرزاق المقاتلة أو غيرهم، ومثل إمارة حرب، وقضاء وحسبة، وفروع هذه الولايات، إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته النبوية، يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور، ويولي في الأماكن البعيدة عنه، كما ولى على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص، وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن، وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث على الأموال الزكوية السعاة، فيأخذونها ممن هي عليه، ويدفعونها إلى مستحقيها الذين سماهم الله في القرآن، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا السوط، لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجد لها موضعا يضعها فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في [الصحيحين] ، عن أبي حميد الساعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقات، فلما حاسبه، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟! أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته. إن كان بعيرا له

رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تيعر، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ (¬1) » قالها مرتين أو ثلاثا. والمقصود هنا: أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها، فإن كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم، فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح، كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند، والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين، وعليها عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وهي مذهب فقهاء الحديث؛ كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر وغيرهم، ومذهب الليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن وغيرهم من فقهاء المسلمين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر من خيبر، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل، بل طائفة من الصحابة قالوا لا يكون البذر إلا من العامل. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6636) ، صحيح مسلم الإمارة (1832) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، سنن الدارمي الزكاة (1669) .

والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة وكراء الأرض قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة، ومثل هذا الشرط باطل بالنص وإجماع العلماء، وهو كما لو شرط في المضاربة لرب المال دراهم معينة، فإن هذا لا يجوز بالاتفاق؛ لأن المعاملة مبناها على العدل، وهذه المعاملات من جنس المشاركات، والمشاركة إنما تكون إذا كان لكل من الشريكين جزء شائع كالثلث والنصف، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر لم يكن ذلك عدلا، بل كان ظلما، وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه المشاركات من باب الإجارات بعوض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها، ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة وأباح المضاربة استحبابا للحاجة؛ لأن الدراهم لا يمكن إجارتها، كما يقول أبو حنيفة، ومنهم من أباح المساقاة، إما مطلقا كقول مالك والقديم للشافعي، أو على النخل والعنب كالجديد للشافعي، لأن الشجر لا يمكن إجارتها بخلاف الأرض، وأباحوا إليه من المزارعة تبعا للمساقاة، فأباحوا المزارعة تبعا للمساقاة، كقول الشافعي: إذا كانت الأرض أغلب، أو قدروا ذلك بالثلث كقول مالك، وأما جمهور السلف وفقهاء الأمصار فقالوا: هذا من باب المشاركة لا من باب الإجارة التي يقصد فيها العمل، فإن مقصود كل منهما ما يحصل من الثمر والزرع، وهما متشاركان هذا ببدنه، وهذا بماله، كالمضاربة؛ ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب نصيب المثل لا أجرة المثل، فيجب من الربح أو النماء إما ثلثه وإما نصفه، كما جرت العادة في مثل ذلك، ولا يجب أجرة مقدرة، فإن ذلك قد يستغرق المال وأضعافه، وإنما يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب

في الصحيح، والواجب في الصحيح ليس هو أجرة مسماة، بل جزء شائع من الربح مسمى فيجب في الفاسد نظير ذلك، والمزارعة أصل من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل والأصول، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، بخلاف المؤاجرة، فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل، والعلماء مختلفون في جواز هذا وجواز هذا: والصحيح: جوازهما، وسواء كانت الأرض مقطعة أو لم تكن مقطعة، وما علمت أحدا من علماء المسلمين - لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم - قال: إن إجارة الإقطاع لا تجوز، وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا، ولكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول، قالوا: لأن المقطع لا يملك المنفعة، فيصير كالمستعير إذا أكرى الأرض المستعارة، وهذا القياس خطأ لوجهين: أحدهما: أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له، وإنما تبرع له المعير بها، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم يقسم بينهم حقوقهم ليس متبرعا لهم كالمعير، والمقطع يستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق، كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى، وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على أصح قولي العلماء، فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أو غير ذلك بطريق الأولى والأحرى. الثاني: أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة، مثل الإجارة في الإقطاع، وولي الأمر يأذن للمقطعين في الإجارة، وإنما أقطعهم لينتفعوا بها؛ إما بالمزارعة، وإما بالإجارة، ومن حرم الانتفاع بها بالمؤاجرة

والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم، فإن المساكن كالحوانيت والدور ونحو ذلك لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة، وأما المزارع والبساتين فينتفع بها بالإجارة وبالمزارعة والمساقاة في الأمر العام، والمرابعة نوع من المزارعة، ولا تخرج عن ذلك إلا إذا استكرى بإجارة مقدرة من يعمل له فيها، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس، لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء، بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المنفعة والمغرم، فهو أقرب إلى العدل؛ فلهذا تختاره الفطر السليمة، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر. والمقصود هنا: أن ولي الأمر إن أجبر أهل الصناعات على ما تحتاج إليه الناس من صناعاتهم - كالفلاحة والحياكة والبناية - فإنه يقدر أجرة المثل، فلا يمكن المستعمل من نقص أجرة الصانع عن ذلك، ولا يمكن الصانع من المطالبة بأكثر من ذلك حيث تعين عليه العمل، وهذا من التسعير الواجب، وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحرب وغير ذلك - فيستعمل بأجرة المثل، لا يمكن المستعملون من ظلمهم، ولا العمال من مطالبتهم بزيادة على حقهم مع الحاجة إليهم، فهذا تسعير في الأعمال، وأما في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد فعلى أهل السلاح أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون، والإمام لو عين أهل الجهاد للجهاد تعين عليهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا (¬1) » أخرجاه في [الصحيحين] ، وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة، في عسره ويسره، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) .

ومنشطه ومكرهه، وأثرة عليه (¬1) » . فإذا وجب عليه أن يجاهد بنفسه وماله، فكيف لا يجب عليه أن يبيع ما يحتاج إليه في الجهاد بعوض المثل؟! والعاجز عن الجهاد بنفسه يجب عليه الجهاد بماله في أصح قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإن الله أمر بالجهاد بالمال والنفس في غير موضع من القرآن، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (¬3) » أخرجاه في [الصحيحين] ، فمن عجز عن الجهاد بالبدن لم يسقط عنه الجهاد بالمال، كما أن من عجز عن الجهاد بالمال لم يسقط عنه الجهاد بالبدن، ومن أوجب على المعضوب أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه، وأوجب الحج على المستطيع بماله فقوله ظاهر التناقض، ومن ذلك: إذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت، كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينا ولا خبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، فلم يكونوا يحتاجون إلى التسعير، وكان من قدم بالحب باعه فيشتريه الناس من الجالبين؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون (¬4) » ، وقال: «لا يحتكر إلا خاطئ (¬5) » رواه مسلم في [صحيحه] ، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن قفيز الطحان» فحديث ضعيف، بل باطل، فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز؛ لعدم حاجتهم إلى ذلك، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الفتن (7056) ، سنن النسائي البيعة (4154) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد بن حنبل (5/325) ، موطأ مالك الجهاد (977) . (¬2) سورة التغابن الآية 16 (¬3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) . (¬4) سنن ابن ماجه التجارات (2153) ، سنن الدارمي البيوع (2544) . (¬5) صحيح مسلم المساقاة (1605) ، سنن الترمذي البيوع (1267) ، سنن أبو داود البيوع (3447) ، سنن ابن ماجه التجارات (2154) ، مسند أحمد بن حنبل (6/400) ، سنن الدارمي البيوع (2543) .

كما أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارا؛ لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد. ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحة؛ لعجز الصحابة عن فلاحتها؛ لأن ذلك يحتاج إلى سكناها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر، فهؤلاء هم الذين قسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم أرض خيبر، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «نقركم فيها ما شئنا (¬1) » - وفي رواية - «ما أقركم الله (¬2) » وأمر بإجلائهم منها عند موته صلى الله عليه وسلم فقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب (¬3) » . ولهذا ذهب طائفة من العلماء - كمحمد بن جرير الطبري - إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه. والمقصود هنا: أن الناس إذا احتاجوا إلى الطحانين والخبازين فهذا على وجهين: أحدهما: أن يحتاجوا إلى صناعتهم، كالذين يطحنون ويخبزون لأهل البيوت، فهؤلاء يستحقون الأجرة، وليس لهم عند الحاجة إليهم أن يطالبوا إلا بأجرة المثل كغيرهم من الصناع. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المزارعة (2338) . (¬2) صحيح البخاري الشروط (2730) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (1/195) ، سنن الدارمي السير (2498) .

والثاني: أن يحتاجوا إلى الصنعة والبيع، فيحتاجوا إلى من يشتري الحنطة ويطحنها، وإلى من يخبزها ويبيعها خبزا؛ لحاجة الناس إلى شراء الخبز من الأسواق، فهؤلاء لو مكنوا أن يشتروا حنطة النار المجلوبة ويبيعوا الدقيق والخبز بما شاءوا مع حاجة الناس إلى تلك الحنطة لكان ذلك ضررا عظيما، فإن هؤلاء تجار تجب عليهم زكاة التجارة عند الأئمة الأربعة وجمهور علماء المسلمين، كما يجب على كل من اشترى شيئا يقصد أن يبيعه بربح، سواء عمل فيه عملا أو لم يعمل، وسواء اشترى طعاما أو ثيابا أو حيوانا، وسواء كان مسافرا ينقل ذلك من بلد إلى بلد، أو كان متربعا به يحبسه إلى وقت النفاق، أو كان مديرا يبيع دائما ويشتري كأهل الحوانيت، فهؤلاء كلهم تجب عليهم زكاة التجار، وإذا وجب عليهم أن يصنعوا الدقيق والخبز لحاجة الناس إلى ذلك ألزموا كما تقدم، أو دخلوا طوعا فيما يحتاج إليه الناس من غير إلزام لواحد منهم بعينه، فعلى التقديرين يسعر عليهم الدقيق والحنطة فلا يبيعوا الحنطة والدقيق إلا بثمن المثل بحيث يربحون الربح المعروف من غير إضرار بهم ولا بالناس.

وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين: المسألة الأولى: إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك - فإنه يمنع منه في السوق في مذهب مالك، وهل يمنع النقصان؟ على قولين لهم. وأما الشافعي وأصحاب أحمد؛ كأبي حفص العكبري، والقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الخطاب، وابن عقيل وغيرهم فمنعوا من ذلك، واحتج مالك بما رواه في [موطئه] ، عن يونس بن يوسف عن

سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق، فقال له عمر: (إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا) وأجاب الشافعي وموافقوه بما رواه فقال: حدثنا الدراوردي، عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد، عن عمر: أنه مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأل عن سعرهما؟ فسعر له مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك. فإما أن ترفع السعر، وأما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه. ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع. قال الشافعي: هذا الحديث مقتضاه ليس بخلاف ما رواه مالك، ولكنه روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول، لأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم، وهذا ليس منها، قلت: وعلى قول مالك قال أبو الوليد الباجي: الذي يؤمر من حط عنه أن يلحق به هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر الجمهور؛ لأن المراعى حال الجمهور، وبه تقوم المبيعات. وروى ابن القاسم عن مالك لا يقام الناس لخمسة. قال: وعندي أنه يجب أن ينظر في ذلك إلى قدر الأسواق، وهل يقام من زاد في السوق - أي: في قدر المبيع - بالدرهم مثلا كما يقام من نقص منه؟ قال أبو

الحسن بن القصار المالكي: اختلف أصحابنا في قول مالك لكن من حط سعرا فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من المصريين: أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة. قال: وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان؛ لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة أفسد على أهل السوق بيعهم، فربما أدى إلى الشغب والخصومة ففي منع الجميع مصلحة، قال أبو الوليد: ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق. وأما الجالب ففي كتاب محمد: لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون الناس، وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير إلا بسعر الناس وإلا رفعوا، قال: وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم تركوا، وإن كثر المرخص قيل لمن بقي: إما أن تبيعوا كبيعهم، وإما أن ترفعوا، قال ابن حبيب: وهذا في المكيل والموزون مأكولا أو غير مأكول، دون ما لا يكال ولا يوزن، لأن غيره لا يمكن تسعيره؛ لعدم التماثل فيه. قال أبو الوليد: يريد إذا كان المكيل والموزون متساويا، فإذا اختلف لم يؤمر بائع الجيد أن يبيعه بسعر الدون. قلت: والمسألة الثانية التي تنازع فيها العلماء في التسعير: أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيام الناس بالواجب فهذا منع منه جمهور العلماء. حتى مالك نفسه في المشهور عنه، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر ولسالم والقاسم بن محمد، وذكر أبو الوليد عن سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعن يحيى بن سعيد أنهم أرخصوا فيه، ولم

يذكر ألفاظهم، وروى أشهب عن مالك، وصاحب السوق يسعر على الجزارين، لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل، وإلا خرجوا من السوق. قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق. واحتج أصحاب هذا القول: بأن هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ولا فساد عليهم قالوا: ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعوا من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري، ولا يمنع البائع ربحا ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس. وأما الجمهور: فاحتجوا بما تقدم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه أيضا أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: بل أدعو الله، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (¬1) » . قالوا: ولأن إجبار الناس على بيع لا يجب أو منعهم مما يباح شرعا: ظلم لهم، والظلم حرام. وأما صفة ذلك عند من جوزه: فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؛ وكيف يبيعون؛ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، ولا يجبرون على التسعير، ولكن عن رضا. قال: وعلى هذا أجازه من أجازه. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) .

قال أبو الوليد: ووجه ذلك أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس وإذا سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس. قلت: فهذا الذي تنازع فيه العلماء، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب، ويعاقبون على تركه، وكذلك من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع أن يبيع إلا بأكثر منه، فهنا يؤمر بما يجب عليه، ويعاقب على تركه بلا ريب. ومن منع التسعير مطلقا محتجا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال (¬1) » فقد غلط، فإن هذه قضية معينة ليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل، ومعلوم أن الشيء إذا رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا كان صاحبه قد بذله كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم، والمدينة كما ذكرنا إنما كان الطعام الذي يباع فيها غالبا من الجلب، وقد يباع فيها شيء يزرع فيها، وإنما كان يزرع فيها الشعير، فلم يكن البائعون ولا المشترون ناسا معينين، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو إلى ماله ليجبر على عمل أو على بيع، بل المسلمون كلهم من جنس واحد، كلهم يجاهد في سبيل الله، ولم يكن من المسلمين البالغين القادرين على الجهاد إلا من يخرج في الغزو، وكل منهم يغزو بنفسه وماله، أو بما يعطاه من الصدقات أو الفيء، أو ما يجهزه به غيره، وكان ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .

إكراه البائعين على أن لا يبيعوا سلعهم إلا بثمن معين إكراها بغير حق، وإذا لم يكن يجوز إكراههم على أصل البيع فإكراههم على تقدير الثمن كذلك لا يجوز. وأما من تعين عليه أن يبيع فكالذي كان النبي صلى الله عليه وسلم قدر له الثمن الذي يبيع به وشعر عليه، كما في [الصحيحين] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه - حصصهم وعتق عليه العبد (¬1) » . فهذا لما وجب عليه أن يملك شريكه عتق نصيبه الذي لم يعتقه ليكمل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، ويعطى قسطه من القسمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند جماهير العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد، ولهذا قال هؤلاء: كل ما لا يمكن قسمته فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا؛ لأن حق الشريك في نصف القيمة كما دل عليه هذا الحديث الصحيح، ولا يمكن إعطاؤه ذلك إلا ببيع الجميع، فإذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لحاجة الشريك إلى إعتاق ذلك، وليس لمالك المطالبة بالزيادة على نصف القيمة، فكيف بمن كانت حاجته أعظم من الحاجة إلى إعتاق ذلك النصيب؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام واللباس وغير ذلك. وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع بقيمة المثل هو حقيقة التسعير، فكذلك يجوز للشريك أن ينزع النصف المشفوع من يد المشتري ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العتق (2522) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (1/57) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .

بمثل الثمن الذي اشتراه به، لا بزيادة للتخلص من ضرر المشاركة والمقاسمة، وهذا ثابت بالسنة المستفيضة وإجماع العلماء، وهذا إلزام له بأن يعطيه ذلك الثمن لا بزيادة، لأجل تحصيل مصلحة التكميل لواحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك ولم يكن له أن يبيعه للشريك بما شاء، بل ليس له أن يطلب من الشريك زيادة على الثمن الذي حصل له به، وهذا في الحقيقة من نوع التولية، والتولية أن يعطي المشترك السلعة لغيره بمثل الثمن الذي اشتراها به، وهذا أبلغ من البيع بثمن المثل، ومع هذا فلا يجبر المشتري من أن يبيعه لأجنبي غير الشريك إلا بما شاء إذ لا حاجة بذلك إلى شرائه كحاجة الشريك. فأما إذا قدر أن قوما اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانا يأوون إليه إلا ذلك البيت - فعليه أن يسكنهم، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابا يستدفئون بها من البرد، أو إلى آلات يطبخون بها، أو يبنون أو يسقون - يبذل هذا مجانا، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلوا يستقون به، أو قدرا يطبخون فيها، أو فأسا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره: والصحيح: وجوب بذل ذلك مجانا إذا كان صاحبها مستغنيا عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (¬1) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬2) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (¬3) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬4) وفي [السنن] ، عن ابن مسعود قال: كنا نعد ¬

_ (¬1) سورة الماعون الآية 4 (¬2) سورة الماعون الآية 5 (¬3) سورة الماعون الآية 6 (¬4) سورة الماعون الآية 7

(الماعون) عارية الدلو والقدر والفأس، وفي [الصحيحين] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر الخيل قال: «هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله. . . ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر (¬1) » وفي [الصحيحين] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حق الإبل إعارة دلوها، وإضراب فحلها (¬2) » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن عسب الفحل (¬3) » ، وفي [الصحيحين] عنه أنه قال: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره (¬4) » وإيجاب بذل المنفعة مذهب أحمد وغيره، ولو احتاج إلى إجراء ماء في أرض غيره من غير ضرر بصاحب الأرض، فهل يجبر؟ على قوليين للعلماء، هما روايتان عن أحمد والأخبار بذلك مأثورة عن عمر بن الخطاب قال للممتنع: والله لتجرينها ولو على بطنك، ومذهب غير واحد من الصحابة والتابعين: أن زكاة الحلي عاريته، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره. والمنافع التي يجب بذلها نوعان: منها ما هو حق المال، كما ذكره في الخيل والإبل وعارية الحلي، ومنها ما يجب لحاجة الناس، وأيضا فإن بذل منافع البدن يجب عند الحاجة كما يجب تعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة، والحكم بينهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، وغير ذلك من منافع الأبدان، فلا يمنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬5) وقال: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} (¬6) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4962) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1636) ، سنن النسائي الخيل (3563) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2788) ، مسند أحمد بن حنبل (2/384) . (¬2) صحيح مسلم الزكاة (988) ، سنن النسائي الزكاة (2454) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي الزكاة (1616) . (¬3) صحيح البخاري الإجارة (2284) ، سنن الترمذي البيوع (1273) ، سنن النسائي البيوع (4671) ، سنن أبو داود البيوع (3429) ، مسند أحمد بن حنبل (2/14) . (¬4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2463) ، صحيح مسلم المساقاة (1609) ، سنن الترمذي الأحكام (1353) ، سنن أبو داود الأقضية (3634) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2335) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) ، موطأ مالك الأقضية (1462) . (¬5) سورة البقرة الآية 282 (¬6) سورة البقرة الآية 282

وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال، هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره: أحدها: أنه لا يجوز مطلقا. والثاني: لا يجوز إلا عند الحاجة. الثالث: يجوز إلا أن يتعين عليه. والرابع: يجوز، فإن أخذ أجرا عند العمل لم يأخذ عند الأداء، وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر. والمقصود هنا: أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر، إما بثمن المثل، وإما بالثمن الذي اشتراه به، لم يحرم مطلقا تقدير الثمن، ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية، وذلك حق الله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله؛ ولهذا يجعل العلماء هذه حقوقا لله تعالى، وحدودا لله، بخلاف حقوق الآدميين وحدودهم، وذلك مثل: حقوق المساجد ومال الفيء والصدقات والوقف على أهل الحاجات والمنافع العامة ونحو ذلك، ومثل: حد المحاربة والسرقة والزنى وشرب الخمر، فإن الذي يقتل شخصا لأجل المال يقتل حتما باتفاق العلماء، وليس لورثة المقتول العفو عنه، بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص، مثل خصومة بينهما، فإن هذا حق لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا باتفاق المسلمين، وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل

الحرية وجب على الشريك المعتق، فلو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر ما شاء، وهنا عموم الناس عليهم شراء الطعام والثياب لأنفسهم، فلو مكن من يحتاج إلى سلعته أن لا يبيع إلا بما شاء لكان ضرر الناس أعظم. ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير كان عليه بذله له بثمن المثل، فيجب الفرق بين من عليه أن يبيع وبين من ليس عليه أن يبيع، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل، وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك فنهاه عن الاحتكار، فإن رفع التاجر فيه إليه ثانيا حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرا له أو دفعا للضرر عن الناس، فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير - سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي، وهذا على قول أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر، وكذا عندهما - أي: عند أبي يوسف ومحمد - إلا أن يكون الحجر على قوم معينين، ومن باع منهم بما قدره الإمام صح، لأنه غير مكره عليه. وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ قيل: هو على الاختلاف المعروف في مال المديون، وقيل: يبيع ههنا

بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام، والسعر لما غلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كانوا يبيعون الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، لكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد: نهاه أن يكون له سمسارا وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (¬1) » وهذا ثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة؛ لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري، فنهاه عن التوكل له - مع أن جنس الوكالة مباح - لما في ذلك من زيادة السعر على الناس، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب، وهذا أيضا ثابت في الصحيح من غير وجه، وجعل للبائع إذا هبط إلى السوق الخيار، ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع بدون ثمن المثل وغبنه، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار لهذا البائع، وهل هذا الخيار فيه ثابت مطلقا أو إذا غبن؟ قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد، أظهرهما أنه إنما يثبت له الخيار إذا غبن، والثاني يثبت له الخيار مطلقا، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقالت طائفة: بل نهى عن ذلك؟ لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي فاشتراه ثم باعه. وفي الجملة: فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر، وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة، وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء، وقد اشترى من البائع كما يقول، وللبادي أن يوكل الحاضر، لكن الشارع رأى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1223) ، سنن النسائي البيوع (4495) ، سنن أبو داود البيوع (3442) ، سنن ابن ماجه التجارات (2176) .

المشتري غارا له؛ ولهذا ألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل، والمسترسل: الذي لا يماكس الجاهل بقيمة المبيع، فإنه بمنزلة الجالبين الجاهلين بالسعر فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف، وهو ثمن المثل، وإن لم يكن هؤلاء محتاجين إلى الابتياع من ذلك البائع، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو مسلمين إلى البائع غير مماكسين له، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك، وإذا لم يرض بثمن المثل لم يلتفت إلى سخطه. لهذا أثبت الشارع الخيار لمن لم يعلم بالعيب أو التدليس، فإن الأصل في البيع الصحة وأن يكون الباطن كالظاهر، فإذا اشترى على ذلك فما عرف رضاه إلا بذلك، فإذا تبين أن في السلعة غشا أو عيبا فهو كما وصفها بصفة وتبينت بخلافها، فقد يرضى وقد لا يرضى، فإن رضي وإلا فسخ البيع، وفي [الصحيحين] عن حكيم بن حزام، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (¬1) » وفي [السنن] : أن رجلا كان له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل منه بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض في قلعها، وقال لصاحب الشجرة: «إنما أنت مضار (¬2) » فهنا أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام؟ ونظير هؤلاء الذين يتجرون في الطعام بالطحن والخبز، ونظير هؤلاء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) . (¬2) سنن أبو داود الأقضية (3636) .

صاحب الخان والقيسارية والحمام إذا احتاج الناس إلى الانتفاع بذلك، وهو إنما ضمنها ليتجر فيها، فلو امتنع من إدخال الناس إلا بما شاء وهم يحتاجون لم يمكن من ذلك وألزم ببذل ذلك بأجرة المثل، كما يلزم الذي يشتري الحنطة ويطحنها ليتجر فيها، والذي يشتري الدقيق ويخبزه ليتجر فيه مع حاجة الناس إلى ما عنده، بل إلزامه ببيع ذلك بثمن المثل أولى وأحرى، بل إذا امتنع من صنعة الخبز والطحن حتى يتضرر الناس بذلك ألزم بصنعتها كما تقدم، وإذا كانت حاجة الناس تندفع إذا عملوا ما يكفي الناس بحيث يشتري إذ ذاك بالثمن المعروف - لم يحتج إلى تسعير، وأما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير العادل - سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس، ولا شطط (¬1) انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى (¬2) : وأما التسعير: فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم - فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب. فأما القسم الأول: فمثل: ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ، (28 \ 75) وما بعدها. (¬2) الطرق الحكمية، ص 244 من الهامش.

يا رسول الله، لو سعرت لنا، فقال: إن الله هو القابض الرازق، الباسط المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (¬1) » رواه أبو داود والترمذي وصححه، فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى الله. فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها: إكراه بغير حق. وأما القسم الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير ههنا إلزام - بالعدل الذي ألزمهم الله به. فصل: ومن أقبح الظلم: إيجار الحانوت على الطريق، أو في القرية، بأجرة معينة على أن لا يبيع أحد غيره، فبهذا ظلم حرام على المؤجر والمستأجر، وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرا، وأكلها بالباطل، وفاعله قد تحجر واسعا، فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته كما حجر على الناس فضله ورزقه. فصل: ومن ذلك أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون، فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب، فهذا من البغي في الأرض والفساد والظلم الذي يحبس به قطر السماء، وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلا بقيمة المثل، بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/156) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .

يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا: كان ذلك ظلما للناس: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك السلع، وظلما للمشترين منهم. فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع. وحقيقته إلزامهم بالعدل، ومنعهم من الظلم. وهذا كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق، فيجوز أو يجب الإكراه عليه بحق، مثل: بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس، ومثل: الغراس والبناء الذي في ملك الغير، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل، ومثل: الأخذ بالشفعة، فإن للشفيع أن يتملك الشقص بثمنه قهرا، وكذلك السراية في العتق. فإنها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرا. وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرا. وكل من وجب عليه شيء من الطعام واللباس والرقيق والمركوب - بحج أو كفارة أو نفقة - فمتى وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه وأجبر على ذلك. ولم يكن له أن يمتنع حتى يبذل له مجانا أو بدون ثمن المثل. فصل: ومن ههنا: منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحابه - القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة: أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا - والناس يحتاجون إليهم - أغلوا عليهم الأجرة. قلت: كذلك ينبغي لوالي الحسبة: أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم، كالشهود والدلالين وغيرهم، على أن في شركة الشهود مبطلا آخر، فإن عمل كل واحد منهم متميز عن عمل

الآخر، لا يمكن الاشتراك فيه. فإن الكتابة متميزة، والتحمل متميز، لا يقع في ذلك اشتراك ولا تعاون فبأي وجه يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه؟ وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصناع، فإنه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض العمل والآخر بعضه؛ ولهذا إذا اختلفت الصنائع: لم تصح الشركة على أحد الوجهين لتعذر اشتراكها في العمل، ومن صححها نظر إلى أنهما يشتركان فيما تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة، فيقع الاشتراك فيما يتم به عمل كل واحد منهما، وإن لم يقع في عين العمل. وأما شركة الدلالين: ففيها أمر آخر، وهو: أن الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعها، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلا له فيما وكل فيه، فإن قلنا: ليس للوكيل أن يوكل لم تصح الشركة، وإن قلنا: له أن يوكل صحت، فعلى والي الحسبة أن يعرف هذه الأمور ويراعيها، ويراعي مصالح الناس، وهيهات هيهات ذهب ما هنالك. والمقصود: أنه إذا منع القسامون ونحوهم من الشركة، لما فيه من التواطؤ على إغلاء الأجرة، فمنع البائعين الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن مقدر أولى وأحرى، وكذلك يمنع والي الحسبة المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم؛ لما في ذلك من ظلم البائع، وأيضا: فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها: قد تواطئوا على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل، ويبيعون ما يبيعونه بأكثر من ثمن المثل، ويقتسمون ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 2

ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش. فصل: ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة- كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك- فلولي الأمر: أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك، ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي: إن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية، لحاجة الناس إليها، وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم، وكذلك أنواع الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الإمامة إلا بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى أمر ما يليه بنفسه، ويولي فيما بعد عنه، كما ولى على مكة: عتاب بن أسيد، وعلى الطائف: عثمان بن أبي العاص الثقفي، وعلى قرى عرينة: خالد بن سعيد بن العاص، وبعث عليا ومعاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث السعاة على الأموال الزكوية، فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا سوطه، ولا يأتي بشيء من الأموال إذا وجد لها موضعا يضعها فيه. فصل: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على عماله، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في [الصحيحين] عن أبي حميد الساعدي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الأزد، يقال له: ابن اللتبية، على الصدقات فلما رجع حاسبه، فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فنظر: أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تيعر ثم رفع يديه إلى السماء، وقال اللهم هل بلغت قالها مرتين أو ثلاثا (¬1) » . والمقصود: أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض عين عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل. ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها ألزم الجند بأن لا يظلموا الفلاح، كما يلزم الفلاح بأن يفلح، ولو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين: ما شرعه الله ورسوله، وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الراشدون، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، وكان الذي يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان، ولكن يأبى لهم جهلهم وظلمهم إلا أن يركبوا الظلم والإثم، فيمنعوا البركة وسعة الرزق، فيجمع لهم عقوبة الآخرة، ونزع البركة في الدنيا. فإن قيل: وما الذي شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقه الله؟ قيل: المزارعة العادلة، التي يكون المقطع والفلاح فيها على حد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2597) ، صحيح مسلم الإمارة (1832) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2946) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، سنن الدارمي الزكاة (1669) .

سواء من العدل، لا يختص أحدهما عن الآخر بشيء من هذه الرسوم التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهي التي خربت البلاد وأفسدت العباد ومنعت الغيث، وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام، وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به. وهذه المزارعة العادلة: هي عمل المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين، وهي عمل آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان، وآل علي، وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وغيرهم، وهي مذهب فقهاء الحديث؛ كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي، وهي مذهب عامة أئمة المسلمين؛ كالليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن وغيرهم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر، وكان قد شاطرهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر منهم، لا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء: أن البذر يجوز أن يكون من العامل؛ كما مضت به السنة، بل قد قالت طائفة من الصحابة: لا يكون البذر إلا من العامل؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم أجروا البذر مجرى النفع والماء، والصحيح: أنه يجوز أن يكون من رب الأرض، وأن يكون من العامل، وأن يكون منهما، وقد ذكر البخاري في [صحيحه] : (أن عمر بن الخطاب

رضي الله عنه عامل الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده: فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا) والذين منعوا المزارعة: منهم من احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن المخابرة (¬1) » ولكن الذي نهى عنه: هو الظلم: فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها. ويشترطون ما على الماذيانات وإقبال الجداول، وشيئا من التبن يختص به صاحب الأرض، ويقتسمان الباقي، وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع، فإن المعاملة مبناها على العدل من الجانبين وهذه المعاملات من جنس المشاركات، لا من باب المعاوضات، والمشاركة العادلة: هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلما. فهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: أمر إذا نظر ذو البصيرة بالحلال والحرام فيه علم أنه لا يجوز، وأما ما فعله هو وفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة فهو العدل المحض الذي لا ريب في جوازه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المساقاة (2381) ، صحيح مسلم كتاب البيوع (1536) ، سنن النسائي البيوع (4523) ، سنن أبو داود البيوع (3404) ، مسند أحمد بن حنبل (3/392) .

فصل: وقد ظن طائفة من الناس: أن هذه المشاركات من باب الإجارة بعوض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها، ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة، وأباح المضاربة استحسانا للحاجة؛ لأن الدراهم لا تؤجر كما يقول أبو حنيفة، ومنهم من أباح المساقاة؛ إما مطلقا، كقول مالك والشافعي في القديم، أو على النخل والعنب خاصة، كالجديد له؛ لأن الشجر لا يمكن إجارته، بخلاف الأرض، وأباح ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة، ثم منهم من قدر ذلك بالثلث، كقول مالك، ومنهم من اعتبر كون الأرض أغلب كقول الشافعي، وأما جمهور السلف

والفقهاء، فقالوا: ليس ذلك من باب الإجارة في شيء، بل هو من باب المشاركات التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه، بخلاف الإجارة، فإن هذا مقصوده العمل، وهذا مقصوده الأجرة؛ ولهذا كان الصحيح أن هذه المشاركات إذا فسدت وجب فيها نصيب المثل، لا أجرة المثل، فيجب من الربح والنماء في فاسدها نظير ما يجب في صحيحها، لا أجرة مقدرة، فإن لم يكن ربح ولا نماء لم يجب شيء، فإن أجرة المثل قد تستغرق رأس المال وأضعافه وهذا ممتنع، فإن قاعدة الشرع: أنه يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح منها، كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل، وهو نظير ما يجب في الصحيح، وفي البيع الفاسد إذا فات ثمن المثل، وفي الإجارة الفاسدة أجرة المثل، فكذلك يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل وفي المساقاة والمزارعة الفاسدة نصيب المثل، فإن الواجب في صحيحها ليس هو أجرة مسماة، فيجب في فاسدها أجرة المثل، بل هو جزء شائع من الربح، فيجب في الفاسدة نظيره. قال شيخ الإسلام وغيره من الفقهاء: والمزارعة أحل من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل، فإنهما يشتركان في المغرم والمغنم، بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض تسلم له الأجرة، والمستأجر قد يحصل له زرع، وقد لا يحصل، والعلماء مختلفون في جواز هذا وهذا، والصحيح جوازهما، سواء كانت الأرض إقطاعا أو غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وما علمت أحدا من علماء الإسلام- من الأئمة الأربعة ولا غيرهم- قال: إجارة الإقطاع لا تجوز، ومازال المسلمون يؤجرون إقطاعاتهم قرنا بعد قرن، من زمن الصحابة إلى زمننا هذا، حتى حدث بعض أهل زمننا فابتدع القول

ببطلان إجارة الإقطاع، وشبهته: أن المقطع لا يملك المنفعة، فيصير كالمستعير لا يجوز أن يكري الأرض المعارة. وهذا القياس خطأ من وجهين: أحدهما: أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له، إنما تبرع المستعير بها، وأما أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم بينهم حقوقهم، ليس متبرعا لهم كالمعير، والمقطع مستوفي المنفعة بحكم الاستحقاق، كما يستوفي الموقف عليه منافع الوقف وأولى، إذا جاز للموقف عليه أن يؤجر الوقف وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على الصحيح - فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أولى. الثاني: أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة، وولي الأمر يأذن للمقطع في الإجارة، فإنه إنما أقطعهم لينتفعوا بها إما بالمزارعة، وإما بالإجارة، ومن منع الانتفاع بها بالإجارة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم ودنياهم، وألزم الجند والأمراء أن يكونوا هم الفلاحين، وفي ذلك من الفساد ما فيه، وأيضا: فإن الإقطاع قد يكون دورا وحوانيت، لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة، فإذا لم تصح إجارة الإقطاع تعطلت منافع ذلك بالكلية، وكون الإقطاع معرضا لرجوع الإمام فيه مثل كون الموهوب للولد معرضا لرجوع الوالد فيه، وكون الصداق قبل الدخول معرضا لرجوع نصفه أو كله إلى الزوج، وذلك لا يمنع صحة الإجارة بالاتفاق، فليس مع المبطل نص ولا قياس، ولا مصلحة، ولا نظير، وإذا أبطلوا المزارعة والإجارة ولم يبق مع الجند إلا أن يستأجروا من أموالهم من يزرع

الأرض ويقوم عليها، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس؛ لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء، بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فهي أقرب إلى العدل، وهذه المسألة ذكرت استطرادا، وإلا فالمقصود: أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات- كالفلاحين وغيرهم- أجبروا على ذلك بأجرة المثل، وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الأعمال. وأما التسعير في الأموال: فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن. والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته؟! ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير: فقوله ظاهر التناقض، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو الصواب. فصل: وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينا وخبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم. وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين. ولهذا جاء في الحديث: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون (¬1) » . وكذلك لم يكن في المدينة حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها ويلبسونها. فصل: وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين: ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه التجارات (2153) ، سنن الدارمي البيوع (2544) .

إحداهما: إذا كان للناس سعر غالب، فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك، فإنه يمنع من ذلك عند مالك، وهل يمنع من النقصان؟ على قولين لهم: واحتج مالك رحمه الله بما رواه في [موطئه] عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبا له بالسوق، فقال له عمر: (إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا) . قال مالك: لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط من سعر الناس، لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، أما أن يقول للناس كلهم- يعني: لا تبيعوا إلا بسعر كذا- فليس ذلك بالصواب، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الأبلة، حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب (خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله) . قال ابن رشد في كتاب [البيان] : أما الجالبون فلا خلاف أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه للبيع إنما يقال لمن شذ منهم فباع بأغلى مما يبيع به العامة: إما أن تبيع بما تبيع به العامة، وإما ترفع من السوق، كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له: (إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا) لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أغلى مما كان يبيع به أهل السوق، وأما أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلابين وغيرهم جملة، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا، مثل اللحم والأدم، والفواكه- فقيل: إنهم كالجلابين لا يسعر لهم شيء من بياعتهم، وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: إما أن تبيع كما يبيع الناس، وإما أن ترفع من السوق، وهو قول

مالك في هذه الرواية. وممن روي عنه ذلك من السلف: عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، قيل: إنهم في هذا بخلاف الجالبين، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا من الربح بما يشبهه، وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترونه به، فيجعل لهم من الربح ما يشبهه وينهاهم أن يزيدوا على ذلك، ويتفقد السوق أبدا، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق، وهذا قول مالك في رواية أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب. وقال به ابن المسيب، ويحيى بن سعيد، وربيعة. ولا يجوز عند أحد من العلماء: أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه: لا تبيعوه إلا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترونه: لم يتركهم أن يغلوا في الشراء، وإن لم يزيدوا في الربح على القدر الذي حد لهم، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم، وأما الشافعي: فإنه عارض في ذلك بما رواه عن الدراوردي عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضي الله عنه (أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما، فقال له: مدين لكل درهم، فقال عمر: قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيبا وهم يغترون بسعرك. فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه. ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت

لك ليس عزمة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع) . قال الشافعي، وهذا الحديث مستفيض، وليس بخلاف لما رواه مالك، ولكنه روى بعض الحديث، أو رواه عنه من رواه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم الأخذ فيها، وهذا ليس منها، وعلى قول مالك: فقال أبو الوليد الباجي: الذي يؤمر به من حط عنه أن يلحق به: هو السعر الذي عليه جمهور الناس، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر، أمروا باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع، فإن زاد في السعر واحد، أو عدد يسير، لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره؛ لأن المراعى حال الجمهور وبه تقوم المبيعات. وهل يقام من زاد في السوق- أي: في قدر المبيع بالدراهم- كما يقام من نقص منه؟ قال ابن القصار المالكي: اختلف أصحابنا في قول مالك: (ولكن من حط سعرا) فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم، والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة، فيفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغب والخصومة، قال: وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان؛ لأن من باع ثمانية- والناس يبيعون خمسة- أفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغب والخصومة، فمنع الجميع مصلحة، قال أبو الوليد: ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق. وأما الجالب: ففي كتاب محمد: لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق

دون بيع الناس، وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير بسعر الناس، وإلا رفعوا، وأما جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم تركوا، وإن أرخص أكثرهم، قيل لمن بقي إما أن تبيعوا كبيعهم، وإما أن ترفعوا. قال ابن حبيب: وهذا في المكيل والموزون، مأكولا كان أو غيره، دون ما يكال ولا يوزن؛ لأنه لا يمكن تسعيره، لعدم التماثل فيه. قال أبو الوليد: هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين، أما إذا اختلفا، لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون. فصل: وأما المسألة الثانية- التي تنازعوا فيها من التسعير: فهي أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، فهذا منع منه الجمهور، حتى مالك نفسه في المشهور عنه، ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم، والقاسم بن محمد. وروى أشهب عن مالك - في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم، فلا بأس به، ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق، واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم. ولا يجبر الناس على البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر، على حساب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري، وأما الجمهور: فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، سعر لنا فقال: بل أدعو الله ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: بل الله

يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (¬1) » . قالوا: ولأن إجبار الناس على ذلك ظلم لهم. فصل: وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم، استظهارا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا به، ولا يجبرهم على التسعير، ولكن عن رضى. قال أبو الوليد: ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضى، بما لا ربح لهم فيه: أدى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال الناس. قال شيخنا: فهذا الذي تنازعوا فيه، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه، فهنا يؤمرون بالواجب، ويعاقبون على تركه، وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع. ومن احتج على منع التسعير مطلقا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال (¬2) » قيل له: هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه- كما جرت العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه- فهنا لا يسعر عليهم، وقد ثبت في [الصحيحين] أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فقال: ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .

«من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس لا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد (¬1) » فلم يكن للمالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد، قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور، وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه، فإنه يباع ويقسم ثمنه، إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا، وصار أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يزيد عن الثمن، وصار أصلا في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه، للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة، وصار أصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن. والمقصود: أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل، لمصلحة تكميل العتق ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، وهم إليها أضر مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره، وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع قيمة المثل: هو حقيقة التسعير، وكذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشتري بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه، لأجل مصلحة التكميل لواحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذي وقع عليه العقد لا بما شاء المشتري من الثمن، لأجل هذه المصلحة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العتق (2522) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (1/57) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .

الجزئية فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب؟! وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند الناس من آلات السفر وغيرها، فعلى ولي الأمر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل، لا بما يريدونه من الثمن، وحديث العتق أصل في ذلك كله. فصل: فإذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان، لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك- وجب على صاحبه بذله بلا نزاع، لكن هل له أن يأخذ عليه أجرا؟ فيه قولان للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد، ومن جوز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل، قال شيخنا: والصحيح: أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (¬1) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬2) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (¬3) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬4) قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة: (وهو: إعارة القدر والدلو والفأس ونحوها) وفي [الصحيحين] عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الخيل قال: «هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله..، وأما الذي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها (¬5) » . وفي [الصحيحين] عنه أيضا: «من حق الإبل إعارة دلوها، وإطراق فحلها (¬6) » . وفي [الصحيحين] عنه: «أنه نهى عن عسب الفحل (¬7) » أي: عن أخذ ¬

_ (¬1) سورة الماعون الآية 4 (¬2) سورة الماعون الآية 5 (¬3) سورة الماعون الآية 6 (¬4) سورة الماعون الآية 7 (¬5) صحيح البخاري المساقاة (2371) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1636) ، سنن النسائي الخيل (3563) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2788) ، مسند أحمد بن حنبل (2/384) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (975) . (¬6) صحيح مسلم الزكاة (988) ، سنن النسائي الزكاة (2454) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي الزكاة (1616) . (¬7) صحيح البخاري الإجارة (2284) ، سنن الترمذي البيوع (1273) ، سنن النسائي البيوع (4671) ، سنن أبو داود البيوع (3429) ، مسند أحمد بن حنبل (2/14) .

الأجرة عليه، والناس يحتاجون إليه، فأوجب بذله مجانا ومنع من أخذ الأجرة عليه، وفي [الصحيحين] عنه: أنه قال: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره (¬1) » . ولو احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره، من غير ضرر لصاحب الأرض فهل يجبر على ذلك؟ روايتان عن أحمد، والإجبار: قول عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين (أن زكاة الحلي عاريته، فإذا لم يعره فلا بد من زكاته) ، وهذا وجه في مذهب أحمد، قلت: وهو الراجح، وأنه لا يخلو الحلي من زكاة أو عارية، والمنافع التي يجب بذلها نوعان منها: ما هو حق المال، كما ذكرنا في الخيل، والإبل، والحلي، ومنها: ما يجب لحاجة الناس. وأيضا: فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة، كتعليم العلم، وإفتاء الناس، والحكم بينهم وأداء الشهادة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من منافع الأبدان، وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه، فإن ترك ذلك- مع قدرته عليه- أتم وضمنه، فلا يمتنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال تعالى. {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬2) وقال: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} (¬3) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2463) ، صحيح مسلم المساقاة (1609) ، سنن الترمذي الأحكام (1353) ، سنن أبو داود الأقضية (3634) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2335) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) ، موطأ مالك الأقضية (1462) . (¬2) سورة البقرة الآية 282 (¬3) سورة البقرة الآية 282

وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال، وهي أربعة أوجه في مذهب أحمد:

أحدها: أنه لا يجوز مطلقا. والثاني: أنه يجوز عند الحاجة. والثالث: أنه يجوز إلا أن يتعين عليه. والرابع: أنه يجوز. فإن أخذه عند التحمل لم يأخذه عند الأداء، والمقصود: أن ما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن في سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية، وهو حق الله، وما احتاج الناس إليه حاجة عامة فالحق فيه لله، وذلك في الحقوق والحدود، فأما الحقوق: فمثل: حقوق المساجد، ومال الفيء، والوقف على أهل الحاجات، وأموال الصدقات، والمنافع العامة. وأما الحدود: فمثل، حد المحاربة، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر المسكر، وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس، وغير ذلك- مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، ولو لم يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر، فإنه يطلب ما يشاء، وهنا عموم الناس يشترون الطعام والثياب لأنفسهم وغيرهم، فلو مكن من عنده سلع يحتاج الناس إليها أن يبيع بما شاء، كان ضرر الناس أعظم؛ ولهذا قال الفقهاء: إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير وجب عليه بذله له بثمن المثل، وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو: الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه: أن يبذله بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز تسعير

الطعام، إذا كان بالناس إليه حاجة ولهم فيه وجهان. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس، إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضي: أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك، ونهاه عن الاحتكار، فإن أبى حبسه وعزره على مقتضى رأيه؛ زجرا له، ودفعا للضرر عن الناس. قالوا: فإن تعدى أرباب الطعام، وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير سعره حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وهذا على أصل أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر، ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره عليه. قالوا: وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ فعلى الخلاف المعروف في بيع مال المدين، وقيل: يبيع هاهنا بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام، والسعر لما غلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع، لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كان يبيع الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، ولكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، أي: أن يكون له سمسارا، وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (¬1) » فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة؛ لأنه إذا توكل له- مع خبرته بحاجة الناس- أغلى الثمن على المشتري فنهاه عن التوكل له، مع أن جنس الوكالة مباح؛ لما في ذلك من زيادة السعر على الناس، ونهى عن تلقي الجلب، وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار؛ ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع هنا، فإذا لم يكن قد ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1223) ، سنن النسائي البيوع (4495) ، سنن أبو داود البيوع (3442) ، سنن ابن ماجه التجارات (2176) .

عرف السعر، وتلقاه المتلقي قبل إتيانه إلى السوق اشتراه المشتري بدون ثمن المثل فغبنه، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لهذا البائع الخيار، ثم فيه عن أحمد روايتان كما تقدم: إحداهما: أن الخيار يثبت له مطلقا، سواء غبن أو لم يغبن وهو ظاهر مذهب الشافعي. والثانية: أنه إنما يثبت له عند الغبن، وهي ظاهر المذهب. وقالت طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه ضرر المشتري إذا تلقاه المتلقي، فاشترى متاعه في الجملة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء الذي جنسه حلال، حتى يعلم البائع السعر وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة. وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء، وقد اشترى من البائع كما يقول: له أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر، ولكن الشارع راعى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل، فيكون المشتري غارا له، وألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل، فإنه بمنزلة الجاهل بالسعر، فتبين أنه يجب على الإنسان أن لا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف- وهو ثمن المثل-، وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة، أو غير مماكسين، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضي فلا بأس بذلك، وفي [السنن] : «أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل بدلها، أو يتبرع له بها، فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض أن يقلعها،

وقال لصاحب الشجرة: إنما أنت مضار» . وصاحب القياس الفاسد يقول: لا يجب عليه أن يبيع شجرته، ولا يتبرع بها، ولا يجوز لصاحب الأرض أن يقلعها، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإجبار على المعاوضة عليه، وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يقلعها لما في ذلك من مصلحة صاحب الأرض (بخلاصه من تأذيه) بدخول صاحب الشجرة، ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة، وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم، فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما، فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة وإن أباه من أباه. والمقصود: أن هذا دليل على وجوب البيع لحاجة المشتري، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره؟ والحكم في المعاوضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها- كمنافع الدور، والطحن، والخبز، وغير ذلك- حكم المعاوضة على الأعيان. وجماع الأمر: أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير: سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى: الحمد لله وحده، وبعد:

فقد جرى بيننا وبين بعض إخواننا طلبة العلم بحث في مسألة التسعير وحكمه، ورغب إلي الكتابة فيه، فاستفتيت الله تعالى وأمليت فيها ما يلي: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فغير خاف أن التسعير من المسائل التي اختلف في حكمها العلماء. فذهب جمهورهم إلى منعه مطلقا، مستدلين على ذلك بما روى أبو داود وغيره، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: بل أدعو الله ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعر لنا، فقال. بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (¬1) » وبما روى أبو داود والترمذي وصححه، عن أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا. يا رسول الله، لو سعرت فقال: " إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة (¬2) » . وهذا قول الشافعي، وهو قول أصحاب الإمام أحمد؛ كأبي حفص العكبري، والقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، قال في [الشرح الكبير] : وليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا، احتج بما روى الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح عن القاسم بن محمد عن عمر، أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3450) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .

مدين بكل درهم، فقال له عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت؛ لأن في ذلك إضرارا بالناس إذا زاد، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع. ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، أنه غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال: «إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال (¬1) » . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وعن أبي سعيد مثله. فوجه الدلالة من وجهين: أحدهما: أنه لم يسعر، وقد سألوه، ذلك ولو جاز لأجابهم إليه. والثاني: أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام إلى آخر ما ذكره. وأجابوا عن منع عمر رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة: أن يبيع زبيبه بأقل من سعر السوق، بأن في الأثر: أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال: إن الذي قلت لك ليس بمعرفة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع. وقالوا بعد ذلك في توجه المنع: بأن الناس مسلطون على أموالهم فإجبارهم على بيع لا يجب، أو منعهم مما يباح شرعا ظلم لهم، والظلم حرام، فالتسعير بمثابة الحجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري، برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكن الفريقين ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .

من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) وذهب بعضهم: إلى جواز التسعير إذا كان للناس سعر غال فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك أو بأنقص. واحتجوا: بما رواه مالك في [موطئه] عن يونس بن سيف، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له في بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا، قال مالك: لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، وأما أن يقول للناس كلهم، يعني: لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب. كما ذهب بعضهم: إلى أن للإمام أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، روى أشهب عن مالك: في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلا أخرجوا من السوق، قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن لا يأمرهم أن يقوموا من السوق. واحتجوا على جواز ذلك: بأن فيه مصلحة للناس بالمنع من غلاء السعر عليهم، ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 29

وردوا على المانعين منه مطلقا: أن الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط (¬1) » إلى آخره، قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع عن بيع ما الناس يحتاجون إليه، بل جاء في حديث أنس التصريح بداعي طلب التسعير، وهو ارتفاع السعر في ذلك، وقد ثبت في [الصحيحين] : أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فقال: «من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد (¬2) » . قال ابن القيم رحمه الله في كتابه [الطرق الحكمية] : فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد: قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور. وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه، إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعا. وصار ذلك أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يزيد عن الثمن. وصار أصلا، في جواز إخراج الشيء عن ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة. وصار أصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) . (¬2) صحيح البخاري العتق (2522) ، سنن الترمذي الأحكام (1346) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2528) ، مسند أحمد بن حنبل (1/57) ، موطأ مالك العتق والولاء (1504) .

والمقصود: أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل، لمصلحة تكميل العتق، ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، وهم إليها أضر؟ مثل: حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره. وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع قيمة المثل: هو حقيقة التسعير (¬1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على التسعير في الجزء الثامن والعشرين من [فتاواه الكبرى] . والمقصود هنا: أنه إذا كانت السنة قد مضت في مواضع بأن على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر، إما بثمن المثل، وإما بالثمن الذي اشتراه به - لم يحرم مطلقا تقدير الثمن، ثم إن ما قدر به النبي صلى الله عليه وسلم في شراء نصيب شريك المعتق هو لأجل تكميل الحرية، وذلك حق الله، وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله ... إلى أن قال: وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك من مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية.... إلى أن قال: وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يعطيه بثمن المثل. وتنازع أصحابه في جواز التسعير للناس إذا كان بالناس حاجة، ولهم فيه وجهان. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي ¬

_ (¬1) [الطرق الحكمية] لابن قيم الجوزية- تحقيق\ محمد حامد الفقي، ص259.

للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة ... فإن كان أرباب الطعام يتعدون ويتجاوزون القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير- سعر حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وإذا تعدى أحد بعد ما فعل ذلك أجبره القاضي. اهـ. كلامه رحمه الله (¬1) والذي يظهر لنا وتطمئن إليه نفوسنا: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: من التسعير ما هو ظلم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضون أو منعهم مما أباحه الله لهم- فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب، فما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية وهو حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق لله، فحاجة المسلمين إلى الطعام والشراب واللباس ونحو هذه الأمور مصلحة عامة ليس فيها الحق لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية. فالتسعير جائز بشرطين: أحدهما: أن يكون التسعير فيما حاجته عامة لجميع الناس. والثاني: ألا يكون سببا لغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب. ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية] (28\100، 101) .

فمتى تحقق فيه الشرطان كان عدلا وضربا من ضروب الرعاية العامة للأمر؛ كتسعير اللحوم والأخباز والأدوية ونحو هذه الأمور مما هي مجال للتلاعب بأسعارها وظلم الناس في بيعها، وإن تخلفا أو أحدهما كان ذلك ظلما وداخلا فيما نص عليه حديثا أنس وأبي هريرة المتقدمان، وهو عين ما نهى عنه عمر بن عبد العزيز عامله على الأبلة حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب إليه: خل بينهم وبين ذلك فإنما السعر بيد الله.

الخلاصة

الخلاصة أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير فعلى ولي الأمر أن يسعر عليهم فيما تحقق فيه الشرطان المتقدمان تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، فإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل. بقيت الإشارة إلى حكم التسعير في أجور العقار وهل هو داخل في حكم الممنوع أم الجائز؟ تقدم فيما سبق أن التسعير لا يجوز إلا بتحقق شرطين: أحدهما: أن يكون فيها حاجة عامة لجميع الناس. الثاني: أن لا يكون سببا لغلاء قلة العرض أو كثرة الطلب. والمساكن المعدة للكراء ليست فيها حاجة عامة لجميع الأمة، بل الغالب من الناس يسكنون في مساكن يملكونها، وإذا كان هناك غلاء في أجرة المساكن المعدة للكراء في مدن المملكة فليست نتيجة اتفاق أصحابها على رفع أجار سكناها ولا الامتناع من تأجيرها، وإنما سببه في الغالب قلة العقار المعد للكراء، أو الكثرة الكاثرة من طالبي الاستئجار، أو

هما جميعا، فتسعير إجار العقار بهذا ضرب من الظلم والعدوان، فضلا على أنه يحد من نشاط الحركة العمرانية في البلاد، وذلك لا يتفق مع مصلحة البلاد وما تتطلبه عوامل نموها وتطورها، وبالله التوفيق. قال ذلك وأملاه الفقير إلى ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف مصليا على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هذا ما تيسر إيراده. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. حرر في 21\ 7\ 1396 هـ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

حكم الذبائح المستوردة

(9) حكم الذبائح المستوردة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم الذبائح المستوردة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد (¬1) : ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض ابتداء من يوم السبت الموافق 1 من شهر صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ اقترح المجلس إعداد بحث في حكم الذبائح التي تستورد إلى المملكة العربية السعودية من بلاد الكفار، فأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي: 1 - تمهيد يعتبر مدخلا للموضوع. 2 - ذكر طريقة الذبح الشرعية وما صدر من فتاوى في تلك الذبائح. 3 - ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية الذبح في تلك البلاد. 4 - تطبيق القواعد الشرعية على هذه الذبائح على ضوء ما عرف عنها من المشاهدات ونحوها. ¬

_ (¬1) نشر هذا البحث في (مجلة البحوث الإسلامية) العدد السادس، ص197- 189، عام 1400هـ.

5 - حل المشكلة وطريق الخلاص منها. وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وتوفيقه.

أولا تمهيد يعتبر مدخلا إلى بحث الموضوع

حكم الذبائح المستوردة أولا: تمهيد يعتبر مدخلا إلى بحث الموضوع إن الحكم على ما يقع في الكون من جزئيات يتوقف على تشخيصها وشرح حالاتها ثم تطبيق القواعد الكلية التي تناسبها عليها ثم إبداء الحكم عليها وصدوره ممن نظر فيها، فالحكم على الذبائح المستوردة من دول كافرة بحل أو حرمة يتوقف: أولا: على معرفة الذبائح. * كيفية الذبح ونوع الآلة التي بها ذبحت. * ذكر اسم الله أو غيره عليها أو عدم ذكر شيء من ذلك. * الغرض الذي من أجله حصل الذبح إلى غير ذلك مما له صلة بحل الذبيحة أو حرمتها. ثانيا: معرفة ضوابط الذبح الشرعي وما يشترط فيه من شروط بتطبيق ذلك على ما عرف من واقع الذبائح يمكن الحكم عليها بحل أو حرمة؛ لذا كان الحديث على هذه الأمور لزاما ليصدر الحكم عليها عن بينة وبصيرة. ثالثا: ذكر طريقة الذبح الشرعية وما صدر من فتاوى في تلك الذبائح من علماء العصر، صدر في ذلك بيان عن طريقة الذبح، وفتاوى من علماء العصر مستقاة من فقه الشريعة الإسلامية فيما يحل وما يحرم من الذبائح المستوردة من بلاد الكفار نثبتها فيما يلي:

ثانيا ذكر طريقة الذبح الشرعية وما صدر من فتاوى في الذبائح المستوردة

ثانيا: ذكر طريقة الذبح الشرعية، وما صدر من فتاوى في الذبائح المستوردة: الصفة المشروعة في الذبح والنحر بين سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله مفتي المملكة العربية السعودية - سابقا - صفة الذكاة الشرعية - فقال: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الناصح الأمين، وعلى آله وأصحابه الغر المحجلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنه يرد إلى هذه الدار أسئلة عن الصفة المشروعة في الذبح والنحر، ويذكر من سأل عن ذلك أنه شاهد وعلم ما لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ونظرا إلى أن هذا يشترك فيه الخاص والعام رأينا أن تكون الإجابة خارجة مخرج التبليغ للعموم؛ أداء للأمانة، ونصحا للأمة فنقول: اعلم وفقنا الله وإياك: أن الذكاة المشروعة لها شروط وسنن، ونقدم لذلك حديثا عاما، ثم نذكر بعده الشروط ثم السنن. أما الحديث: فروى مسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته (¬1) » . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4411) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .

شروط الذبح

وأما الشروط فأربعة: الأول: أهلية المذكي: بأن يكون عاقلا ولو مميزا مسلما أو أبواه كتابيان، والأصل في هذا ما ثبت في [الصحيحين] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (¬1) » الحديث، وما ثبت في [مسند الإمام أحمد] و [سنن أبي داود] عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع (¬2) » فكل من البالغ والمميز يوصف بالعقل؛ ولهذا يصح من المميز قصد العبادة، وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3) وقد ثبت في [صحيح البخاري] عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه (فسر طعامهم بذبائحهم) . الثاني: الآلة: فتباح بكل ما أنهر الدم بحده، إلا السن والظفر، والأصل في هذا: ما أخرجه البخاري في [صحيحه] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر (¬4) » . الثالث: قطع الحلقوم، وهو: مجرى النفس، والمريء، وهو: مجرى الطعام، والودجين، والأصل في هذا: ما ثبت في [سنن أبي داود] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان (¬5) » ، وهي: التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفري الأوداج، ومعلوم أن النهي في الأصل يقتضي التحريم، وفي [سنن سعيد بن منصور] عن ابن عباس ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) . (¬2) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) . (¬3) سورة المائدة الآية 5 (¬4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) . (¬5) سنن أبو داود الضحايا (2826) ، مسند أحمد بن حنبل (1/289) .

رضي الله عنهما قال: (إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل) إسناده حسن، ومحل قطع ما ذكر الحلق واللبة وهي: الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، ولا يجوز في غير ذلك بالإجماع، قال عمر: النحر في اللبة والحلق، وثبت في [سنن الدارقطني] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء يصيح في فجاج منى ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» . الرابع: التسمية، فيقول الذابح عند حركة يده بالذبح: بسم الله، الأصل في هذا قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬1) وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2) فالله جل وعلا غاير بين الحالتين، وفرق بين الحكمين، لكن إن ترك التسمية نسيانا حلت ذبيحته؛ لما رواه سعيد بن منصور في [سننه] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم إذا لم يتعمد» فإن اختل شرط من هذه الشروط فإن الذبيحة لا تحل. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 121 (¬2) سورة الأنعام الآية 118

سنن الذبح

وأما السنن فهي ما يلي: 1، 2 - أن تكون الآلة حادة، وأن يحمل عليها بقوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته (¬1) » . 3، 4 - حد الآلة والحيوان الذي يراد ذبحه لا يراه، ومواراة الذبيحة عن البهائم وقت الذبح؛ لما ثبت في [مسند الإمام أحمد] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحد الشفار، وأن توارى عن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4405) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .

البهائم (¬1) » وما ثبت في [معجمي الطبراني الكبير والأوسط] ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: أفلا قبل هذا أوتريد أن تميتها موتتين» . 5 - توجيهها إلى القبلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذبح ذبيحة أو نحر هديا إلا وجهه إلى القبلة، وتكون الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، والغنم والبقر على جنبها الأيسر. 6 - تأخير كسر عنقه وسلخه حتى يبرد - أي: بعد خروج روحه - لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى بكلمات منها: لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق» رواه الدارقطني. هذا ونسأل الله أن يرزق المسلمين التمسك بدينهم على الوجه الذي يرضاه حتى يلقوه. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره آية {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) بعد ذكر مناسبتها لما قبلها: وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح أو اللحوم؛ لأن غيرها حلال بقاعدة أصل الحل، ولم تحرم من المشركين، وإلا فالظاهر أنه عام يشملها، ومذهب الشيعة: أن المراد بالطعام الحبوب أو البر؛ لأنه الغالب فيه، وقد سئلت عن هذا في مجلس كان أكثره منهم وذكرت الآية، فقلت: ليس هذا ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الذبائح (3172) ، مسند أحمد بن حنبل (2/108) . (¬2) سورة المائدة الآية 5

هو الغالب في لغة القرآن، فقد قال الله تعالى في هذه السورة أي المائدة: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬1) ولا يقول أحد: أن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب، وقال: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} (¬2) ولم يقل أحد: إن المراد بالطعام هنا البر أو الحب مطلقا، إذ لم يحرم شيء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها. فالطعام في الأصل: كل ما يطعم، أي: يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬3) وقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} (¬4) أي: أكلتم، وليس الحب مظنة التحليل والتحريم، وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك لوصف حسي: كموت الحيوان حتف أنفه وما في معناه، أو معنوي: كالتقريب إلى غير الله عليه؛ ولذلك قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (¬5) الآية، وكله يتعلق بالحيوان، وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص. وقد شدد الله فيما كان عليه مشركو العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة والذبح للأصنام؛ لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة، ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 96 (¬2) سورة آل عمران الآية 93 (¬3) سورة البقرة الآية 249 (¬4) سورة الأحزاب الآية 53 (¬5) سورة الأنعام الآية 145

وكان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة والذبح لغير الله، ولأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة منهم أحد إلا ويدخل في الإسلام، وخفف في معاملة أهل الكتاب استمالة لهم، حتى إن ابن جرير روى عن أبي الدرداء وابن زيد أنهما سئلا عما ذبحوه للكنائس؟ فأفتيا بأكله، قال ابن زيد: أحل الله طعامهم، ولم يستثن منه شيئا، وأما أبو الدرداء فقد سئل عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها: جرجس أهدوه لها، أنأكل منه؟ فقال أبو الدرداء للسائل: اللهم عفوا، إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم، وأمره بأكله، وروى ابن جرير أيضا وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في [سننه] عن ابن عباس في قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) قال: ذبائحهم. وروى مثله عبد بن حميد عن مجاهد وعبد الرزاق عن إبراهيم النخعي، وقد أجمع الصحابة والتابعون على هذا، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية ووضعت له السم في ذراعها، وكان الصحابة يأكلون من طعام النصارى في الشام بغير نكير، ولم ينقل عن أحد منهم خلاف إلا في بني تغلب وهم بطن من العرب انتسبوا إلى النصارى ولم يعرفوا من دينهم شيئا، فنقل عن علي كرم الله وجهه: أنه لم يجز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم، معللا ذلك بأنهم لم يأخذوا من النصارى إلا شرب الخمر، يعني: أنهم على شركهم لم يصيروا أهل كتاب، واكتفى جمهور الصحابة بانتمائهم إلى النصرانية، روى ابن جرير عن عكرمة قال: ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5

سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب؟ فقرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (¬1) وفي رواية له عنه: أنه قال: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم، فإن الله تعالى قال: وقرأ الآية، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم، أي: يكفي في كونهم منهم نصرهم لهم وتوليهم إياهم في الحرب، ولما كان من شأن كثير من الناس التعمق في الأشياء وحب التشديد مع المخالفين، استنبط بعض الفقهاء في هذا المقام مسألة جعلوها محل النظر والاجتهاد، وهل هي العبرة في حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم بمن كانوا يدينون بالكتاب (كالتوراة والإنجيل) كيفما كان كتابهم وكانت أحوالهم وأنسابهم، أم العبرة باتباع الكتاب قبل التحريف والتبديل وبأهله الأصليين كالإسرائيليين من اليهود، المتبادر من نص القرآن ومن السنة وعمل الصحابة: أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل، فالله تعالى قد أحل أكل طعام أهل الكتاب، ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل، وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن، وكان أهل الكتاب من شعوب شتى، وقد وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم، ونسوا حظا مما ذكروا به في هذه السورة نفسها، كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها، ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬2) أن سبب نزولها: محاولة بعض الأنصار ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 51 (¬2) سورة البقرة الآية 256

إكراه أولاد لهم كانوا تهودوا على الرجوع إلى الإسلام، فلما نزلت أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتخييرهم، ولا شك أنه كان في يهود المدينة وغيرهم كثير من العرب الخلص، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون بينهم في حكم من الأحكام. واستنبط بعضهم علة أخرى لتحريم طعام أهل الكتاب والتزوج منهم، وهي: إسناد الشرك إليهم في سورة التوبة بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1) مع قوله في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬2) وهذا هو عمدة الشيعة في هذه المسألة. وأجيب عنه: أولا: بأن الشرك المطلق في القرآن إذا كان وصفا أو عد أهله صنفا من أصناف الناس لا يدخل فيه أهل الكتاب، بل يعدون صنفا آخر مغايرا لهذا الصنف، كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬3) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (¬4) الآية. وثانيا: بأننا إذا فرضنا أن المشركين في آية البقرة عام. فلا مندوحة لنا ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 31 (¬2) سورة البقرة الآية 221 (¬3) سورة البينة الآية 1 (¬4) سورة الحج الآية 17

عن القول بأن هذه الآية قد خصصته أو نسخته لتأخرها بالاتفاق ولجريان العمل عليها، ومنه: أن حذيفة بن اليمان من أكبر علماء الصحابة قد تزوج بيهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ثم قال: مجمل معنى الآية: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬1) من الطعام، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم بمقتضى الأصل لم يحرم الله عليكم قط، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها أو صادوه كيفما كانت تذكيته وصيده عندهم، وأن تطعموهم مما تذكون وتصطادون، ويدخل في ذلك لحم الأضحية خلافا لمن منعه، ولا يخرج منه إلا ما كان خاصا بقوم لا يشملهم وصفهم كالمنذور على أناس معينين بالذوات أو بالوصف، والمحصنات من المؤمنات ومن الذين أوتوا الكتاب من قبلكم حل لكم كذلك، بمقتضى الأصل، وما قرره في آية النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬2) لم يحرمهن الله عليكم إذا أعطيتموهن مهورهن التي تفرضونها لهن عند العقد - وإلا وجب لهن مهر المثل - بشرط أن تكونوا قاصدين بالزواج إحصان أنفسكم وأنفسهن، لا الفجور المراد به: سفح الماء جهرا ولا سرا، وسيأتي بيان ما هو الاحتياط وبحث اختلاف الزمان في المسألة، والتعبير بقوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬3) إنشاء لحلها العام الدائم، كما تقدم، ولكنه لم يقل مثل ذلك فيما بعده، بل قال: {حِلٌّ لَكُمْ} (¬4) وهو خبر مقرر للأصل في المسألتين: مسألة مواكلة أهل الكتاب، ومسألة نكاح نسائهم، فلم يكن شيء منها ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة النساء الآية 24 (¬3) سورة المائدة الآية 5 (¬4) سورة المائدة الآية 5

محرما من قبل وأحل في ذلك اليوم لا بتحريم من الله ولا بتحريم من الناس على أنفسهم كما حرموا بعض الطيبات فهذا ما ظهر لنا من نكتة اختلاف التعبير، وسكت عنه الباحثون في نكت البلاغة الذين اطلعنا على كلامهم. وحكمة النص على هذا الحل: قطع الطريق على الغلاة أن يحرموه باجتهادهم أو أهوائهم، على أن منهم من حرمه مع النص الصريح، ونص على أن طعامنا حل لهم دون نسائنا، فليس لنا أن نزوجهم منا؛ لأن كمال الإسلام وسماحته لا يظهران من المرأة لسلطان الرجل عليها، هذا هو المتبادر لمن يفهم العبارة مجردا من تقاليد المذاهب، فمن فهم مثل فهمنا ففهمه حاكم عليه ولا نجيز أحدا أن يقلدنا فيه تقليدا.

فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم

فصل في طعام الوثنيين ونكاح نسائهم: أخذ الجماهير من مفهوم أهل الكتاب: أن طعام الوثنيين لا يحل للمسلمين، وكذا نكاح نسائهم، سواء منهم من يحتج بمفهوم المخالفة في اللقب كالدقاق وبعض الشافعية، ومن لا يحتج به وهم الجمهور، والقرآن لم يحرم طعام الوثنيين ولا طعام مشركي العرب مطلقا، كما حرم نكاح نسائهم، بل حرم ما أهل به لغير الله من ذبائحهم، كما حرم ما كان يأكله بعضهم من الميتة والدم المسفوح، وحرم لحم الخنزير. واختلف الفقهاء في المجوس والصابئين: فالصابئون عند أبي حنيفة كأهل الكتاب والمجوس، كذلك عند أبي ثور، خلافا للجمهور الذين يقولون: إنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، ويروون

في ذلك حديثا: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير آكلي ذبائحهم، ولا ناكحي نسائهم (¬1) » ، ولا يصح هذا الاستثناء كما صرح به المحدثون، ولكنه اشتهر عند الفقهاء، ويقال: إن الفريقين كانا أهل كتاب فقدوه بطول الأمد، وهذا ما كنت أعتقده قبل أن أرى فيه نقلا عن أحد من سلفنا وعلماء الملل والتاريخ منا، وذكرته في المنار غير مرة، ثم رأيت في كتاب [الفرق بين الفرق] لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي (المتوفى سنة 429) في سياق الكلام على الباطنية (أن المجوس يدعون نبوة (زرادشت) ونزول الوحي عليه من عند الله تعالى، والصابئين يدعون نبوة (هرمس) و (أليس) و (دوريتوس) و (أفلاطون) وجماعة من الفلاسفة، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم، ويقولون: (إن ذلك الوحي شامل للأمر والنهي والخبر عن عاقبة الموت وعن ثواب وعقاب وجنة ونار يكون فيهما الجزاء عن الأعمال السالفة، ثم ذكر أن الباطنية ينكرون ذلك) . ثم قال: ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول الجزية من أهل الكتاب، ولم يذكر أنها تؤخذ من غيرهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء رضي الله عنهم لا يقبلونها من مشركي العرب، وقبلوها من المجوس في البحرين وهجر وبلاد فارس، كما في [الصحيحين] وغيرهما من كتب الحديث، وقد روى أخذ النبي الجزية من مجوس هجر: أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم - من حديث عبد الرحمن بن عوف: أنه شهد لعمر بذلك عندما استشار الصحابة فيه، وروى مالك والشافعي عنه أنه قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) موطأ مالك الزكاة (617) .

يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (¬1) » وفي سنده انقطاع، واستدل به صاحب [المنتقى] وغيره على أنهم لا يعدون أهل كتاب، وليس بقوي، فإن إطلاق كلمة أهل الكتاب على الطائفتين من الناس لتحقق أصل كتبهما وزيادة خصائصهما - لا يقتضي أنه ليس في العالم أهل كتاب غيرهم، مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلا مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، كما أن إطلاق لقب (العلماء) على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة لا يقتضي انحصار العلم فيهم وسلبه عن غيرهم. وقد ورد في روايات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل كتاب قال في [نيل الأوطار] عند قول صاحب [المنتقى] واستدل بقوله: سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب ما نصه: لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن علي (كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرءونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم، وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته، فأطاعوه وقتل من خالفه، فأسري على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه، فلم يبق عندهم من شيء) وروى عبد بن حميد في تفسير سورة (البروج) بإسناد صحيح عن ابن أبزى لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر: اجتمعوا (أي: قال للصحابة: اجتمعوا للمشاورة كما هي السنة المتبعة والفريضة اللازمة) فقال: إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم الجزية، ولا من عبدة الأوثان فنجري عليهم أحكامهم، فقال علي: بل هم أهل كتاب فذكر نحوه، لكن قال: فوقع على ابنته، وقال في آخره: فوضع الأخدود لمن خالفه فهذه حجة من قال: كان لهم كتاب، وأما قول ابن بطال: لو كان لهم ¬

_ (¬1) موطأ مالك الزكاة (617) .

كتاب ورفع لرفع حكمه، ولما استثنى حل ذبائحهم ونكاح نسائهم فالجواب: أن الاستثناء وقع تبعا للأمر الوارد؛ لأن في ذلك شبهة تقتضي حقن الدم بخلاف النكاح فإنه يحتاط له. وقال ابن المنذر: ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه، ولكن الأكثر من أهل العلم عليه. اهـ. إذا علمت هذا تبين لك: أن العلماء لم يجمعوا على أن لفظ المشركين والذين أشركوا يتناول جميع الذين كفروا بنبينا، ولم يدخلوا في ديننا، ولا جميع من عدا اليهود والنصارى منهم، فهذا نقل صحيح في المجوس، ومنه تعلم أن للاجتهاد مجالا لجعل لفظ المشركات والمشركين في القرآن خاص بوثني العرب، وأن يقاس عليهم من ليس لهم كتاب ولا شبهه كتاب يقربهم من الإسلام، كما أن أهل الكتاب فيه خاصة باليهود والنصارى، ويقاس عليهم من عندهم كتب لا يعرف أصلها، ولكنها تقربهم من الإسلام بما فيها من الآداب والشرائع كالمجوس وغيرهم ممن على شاكلتهم، وقد صرح قتادة من مفسري السلف بأن المراد بالمشركين والمشركات في الآية العرب، كما سيأتي.

مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب

مذهب الحنفية في ذبائح أهل الكتاب: ثم ذكر آراء الفقهاء في الموضوع، فقال: جاء في (ص 97 من الجزء الثاني من [العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية] لابن عابدين الشهير صاحب الحاشية الشهيرة على [الدر المختار] ما نصه: وسئل في ذبيحة العربي الكتابي، هل تحل مطلقا أو لا؟ الجواب: تحل ذبيحة الكتابي؛ لأن من شرطها كون الذابح صاحب ملة

التوحيد حقيقة كالمسلم أو دعوة كالكتابي؛ ولأنه مؤمن بكتاب من كتب الله تعالى، وتحل مناكحته، فصار كالمسلم في ذلك، ولا فرق في الكتابي بين أن يكون ذميا يهوديا حربيا أو عربيا أو تغلبيا؛ لإطلاق قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬1) والمراد بطعامهم: مذكاهم. قال البخاري رحمه الله تعالى في [صحيحه] : قال: ابن عباس رضي الله عنهما: وطعام ذبائحهم، ولأن مطلق الطعام غير المذكى يحل من أي كافر كان بالإجماع، فوجب تخصيصه بالمذكى، وهذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله كالمسيح والعزيز، وأما لو سمع فلا تحل ذبيحته؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2) وهو كالمسلم في ذلك. وهل يشترط في اليهودي أن يكون إسرائيليا، وفي النصراني أنه لا يعتقد أن المسيح إله له؟ مقتضى إطلاق (الهداية) وغيرها، وعدم الاشتراط به أفتى به الجد في الإسرائيلي، وشرط في [المستصفى] لحل مناكحهم عدم اعتقاد النصراني ذلك، وكذلك في [المبسوط] فإنه قال: ويجب أن لا يأكلوا ذبائح أهل الكتاب إن اعتقدوا أن المسيح إله، وأن عزيزا إله، ولا يتزوجوا نساءهم، لكن في [مبسوط شمس الأئمة] : وتحل ذبيحة النصراني مطلقا، سواء قال: ثالث ثلاثة أو لا، ومقتضى إطلاق الآية الجواز كما ذكره التمرتاشي في [فتاواه] والأولى أن لا تؤكل ذبيحتهم، ولا يتزوج منهم إلا لضرورة كما حققه الكمال بن الهمام. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة المائدة الآية 3

والله ولي الإنعام، والحمد لله على دين الإسلام، والصلاة والسلام، على محمد سيد الأنام. وقال العلامة قاسم في [رسائله] : قال الإمام: ومن دان دين اليهود والنصارى من الصابئة والسامرة أكل ذبيحته، وحل نساؤه، وحكي عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إليهم فيهم أو في أحدهم، فكتب مثل ما قلنا، فإذا كانوا يعترفون باليهودية والنصرانية فقد علمنا أن النصارى فرق، فلا يجوز إذا اجتمعت النصرانية بينهم أن تزعم أن بعضهم تحل ذبيحته ونساؤه، وبعضهم يحرم - إلا بخبر ملزم، ولا نعلم في هذا خبرا، فمن جمعته اليهودية والنصرانية فحكمه واحد، اهـ بحروفه، اهـ ما في [تنقيح الفتاوى الحامدية] بحروفه، وبهذه الفتوى أيد بعض علماء الأزهر الفتوى الترنسفالية للأستاذ الإمام.

حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية

حكم ما خنقه أهل الكتاب عند الحنفية: ذكر الشيخ محمد بيرم الخامس الفقيه الحنفي في كتابه [صفوة الاعتبار] مبحثا طويلا في ذبائح أهل أوربة، ونقل عن علماء مذهبه: أن ذبائح أهل الكتاب حلال مطلقا، وجاء بتفصيل أنواع المأكول في أوربة، ثم قال ما نصه: (وأما مسألة الخنق فإن كان لمجرد شك فلا تأثير له كما تقدم، وإن كان لتحقق فلم أر حكم المسألة مصرحا به عندنا، وقياسها على تحقيق تسمية غير الله أنها محرمة عند الحنفية، وأما عند من يرى الحل في مسألة التسمية كما هو مذهب جمع عظيم من الصحابة والتابعين والأئمة والمجتهدين، فالقياس عليها يفيد الحلية حيث خصصوا بآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) وآية: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2) الآية. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة الأنعام الآية 121

{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) وكذلك تكون مخصصة لآية المنخنقة، ويكون حكم الآيتين خاصا بفعل المسلمين والإباحة في طعام أهل الكتاب إذ لا فرق بين ما أهل لغير الله وما خنق، فإذا أبيح الأول فيما يفعله أهل الكتاب كذلك الثاني، وقد كنت رأيت رسالة لأحد أفاضل المالكية نص فيها على الحل وجلب النصوص من مذاهبه بما يثلج به الصدر السليم إذا كان عمل الخنق عندهم من قبيل الذكاة كما أخبر كثير من علمائهم، وأن المقصود التوصيل إلى قتل الحيوان بأسهل قتلة للتوصل إلى أكله بدون فرق بين طاهر ونجس، مستندين في ذلك لقول الإنجيل، على زعمهم، فلا مرية في الحلية على هاته المذاهب، فإن قلت: كيف يسوغ تقليد الحنفي لغير مذهبه؟ قلت: أما إن كان المقلد من أهل النظر وقلد الحنفي عن ترجيح برهان، فهذا ربما يقال: إنه لا يسوغ له ذلك - أي: إلا أن يظهر له ترجيح دليل الحل ثانيا - وأما إن كان من أهل التقليد البحت - كما هو في أهل زماننا - فقد نصوا على أن جميع الأئمة بالنسبة إليه سواء، والعامي لا مذهب له، إنما مذهبه مذهب مفتيه، وقوله: أنا حنفي أو مالكي، كقول الجاهل: أنا نحوي، لا يحصل منه سوى مجرد الاسم، فبأي العلماء اقتدى فهو ناج على أن الكلام وراء ذلك، فقد نصوا على الجواز والوقوع بالفعل في تقليد المجتهد لغيره، والكلام مبسوط في ذلك في كثير من كتب الفقه، وقد حرر البحث أبو السعود في [شرح الأربعين حديثا النووية] وألف في ذلك رسالة عبد الرحيم المكي، فليراجعهما من أراد الوقوف على التفصيل. فإن قيل: قد ذكرت أن الخنزير محرم وهو من طعامهم، فلماذا لا يجعل مخصصا بالحلية بهذه الآية - أي: آية طعامهم - وإذا جعلت آية تحريمه ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3

محكمة غير منسوخة، فكذلك تكون المخنقة، ولماذا تقيسها على مسألة التسمية ولا تقيسها على مسألة الخنزير وأي مرجح لذلك؟ فالجواب: أن المأكولات منها ما حرم لعينه ومنها ما حرم لغيره، فالخنزير وما شاكله من الحيوانات محرمة لعينها ولهذا تبقى على تحريمها في جميع أطوارها وحالاتها، وأما متروك التسمية أو ما أهل به لغير الله والمنخنقة فإن التحريم أتى فيه لعارض وهو ذلك الفعل، ثم أتى نص آخر عام في طعام أهل الكتاب وأنه حلال فأخرج منه محرم العين ضرورة وبالإجماع أيضا وبقي المحرم لغيره. وهو مسألتان: إحداهما: مسألة التسمية. والثانية: مسألة المنخنقة. فبقينا في محل الشك لتجاذب كل من نص التحريم والإباحة لهما، فوجدنا إحداهما وهي مسألة التسمية وقع الخلاف فيها بين المجتهدين من الصحابة وغيرهم، وذهب جمع عظيم منهم إلى الإباحة، وبقيت مسألة المنخنقة التي يتخذها أهل الكتاب طعاما لهم مسكوتا عنها فكان قياسها على مسألة التسمية هو المتعين لاتحاد العلة، وأما قياسها على مسألة الخنزير فهو قياس مع الفارق فلا يصح إذا؛ لأن شرط القياس المساواة، وإنما أطلنا الكلام في هذا المجال؛ لأنه مهم في هذا الزمان وكلام الناس فيه كثير، والله يؤيد الحق وهو يهدي السبيل. اهـ. مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب: جاء في كتاب الذبائح من [المدونة] ما نصه:

قلت: أفتحل لنا ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا، ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح. قلت: أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل؟ قال: قال مالك: أكرهه ولا أحرمه. وتأول مالك فيه {رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬1) وكان يكرهه من غير أن يحرمه. قلت: أرأيت ما ذبحت اليهود من الغنم فأصابوه فاسدا عندهم لا يستحلونه لأجل الرئة وما أشبهها التي يحرمونها في دينهم أيحل أكله للمسلمين؟ . قال: كان مالك يجيزه فيما بلغني. اهـ. [والمدونة] عند المالكية أصل المذهب فهي كالأم عند الشافعية. وجاء في كتاب [أحكام القرآن] للإمام عبد المنعم بن الفرس الخرزجي الأندلسي (المتوفى سنة 599 هـ) ما نصه {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) فلا خلاف في أنها حلال لنا. وأما سائر أطعمتهم مما يمكن استعمال النجاسات فيه كالخمر والخنزير فاختلف فيه: فذهب الأكثرون إلى أن ذلك من أطعمتهم. وذهب ابن عباس إلى أن الطعام الذي أحل لنا ذبائحهم، فأما ما خيف منهم استعمال النجاسة فيه فيجب اجتنابه. وإذا قلنا: إن الطعام يتناول ذبائحهم باتفاق فهل يحمل لفظه على ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 145 (¬2) سورة المائدة الآية 5

عمومه أم لا؟ فالأكثر إلى أن حمل لفظ الطعام على عمومه في كل ما ذبحوه مما أحل الله لهم أو حرم الله عليهم أو حرموه على أنفسهم، وإلى نحو هذا ذهب ابن وهب وابن عبد الحكم، وذهب قوم إلى أن المراد من ذبائحهم: ما أحل الله خاصة، وأما ما حرم الله عليهم بأي وجه كان فلا يجوز لنا، وهذا هو المشهور من مذهب ابن القاسم، وذهب قوم إلى أن المراد بلفظ الطعام: ذبائحهم جميعا إلا ما حرم الله عليهم خاصة لا ما حرموه على أنفسهم، وإلى نحو هذا ذهب أشهب. والذين قالوا: إن الله يجوز لنا أكل ما لا يجوز لهم أكله، اختلفوا هل ذلك على جهة المنع أو الكراهة؟ وهذا الخلاف كله موجود في المذهب. واختلف أيضا فيما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم وسموا عليه اسم المسيح هل هو داخل تحت الإباحة أم لا؟ فذهب أشهب إلى أن الآية متضمنة تحليلا وأن أكله جائز، وكره مالك رحمه الله، وتأول قوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) على ذلك، والذين أوتوا الكتاب اختلف العلماء في الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى من هم؟ وقد اختلف في المجوس والصابئة والسامرة هل هم ممن أوتي كتابا أم لا؟ وعلى هذا يختلف في ذبائحهم ومناكحتهم. اهـ ملخصا. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 145

وفي كتاب [أحكام القرآن] للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي في تفسير هذه الآية أيضا ما نصه: هذا دليل قاطع على أن الصيد: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬1) من الطيبات التي أباحها الله وهو الحلال المطلق، وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة التي توجب الاعتراضات وتخرج إلى تطويل القول، ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما - وهي المسألة الثامنة - فقلت: تؤكل؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله أباح لنا طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه، لقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا نسائهم أزواجا فيحل لنا وطؤهن، فكيف لا تؤكل ذبائحهم، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة. اهـ. وفيما قاله القاضي نوع من التقييد والتشديد إذا اعتبر في طعامهم ما يأكله أحبارهم ورهبانهم، وهذا ما اعتمده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، مفتي مصر في فتواه الترنسيفالية. وقد أفتى المهدي الوزاني من علماء فاس بما أفتى به مفتي مصر، ولما علم بمشاغبة أهل الأهواء في فتوى مفتي مصر، كتب رسالة تأييد الفتوى بنصوص كتب المالكية المعتبرة نشرناها في آخر جزء من مجلد [المنار] السادس، ومنها قوله: ج: والدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل الكتاب للصنم فإنه حرام مع المنخنقة وما عطف عليها، وقيدوه بما لم يأكلوه وإلا كان حلالا لنا، قال الشيخ بناني على قول [المختصر] : (وذبح لصنم) ما نصه: الظاهر أن المراد ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5

بالصنم كل ما عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، بحيث يشمل الصنم والصليب وغيرهما، وأن هذا شرط في أكل ذبيحة الكتابي، كما في التتائي والزرقاني، وهو الذي ذكره أبو الحسن رحمه الله في [شرح المدونة] وصرح به ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح، ونصه: كره مالك رحمه الله ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم؛ لأنه رآه مضاهيا لقوله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة، وإنما رآها مضاهية له؛ لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون. وقال: وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك. اهـ. وقال في سماع عبد الملك عن أشهب: وسأله عما ذبح للكنائس قال: لا بأس بأكله. قال ابن رشد: كره مالك في [المدونة] أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم، ووجه قول أشهب: ما ذبحوا لكنائسهم لما يأكلونه وجب أن تكون حلالا لنا؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) وإنما تأول قول الله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬3) فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه، فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا. اهـ. فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل؛ لأنهم لا يأكلونه فهو ليس طعامهم ولم يقصدوا بالذكاة إباحته، وهذا هو المراد هنا، وأما ما يأتي من الكراهة في ذبح الصليب فالمراد به: ما ذبحوه ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 145 (¬2) سورة المائدة الآية 5 (¬3) سورة الأنعام الآية 145

لأنفسهم لكن سموا عليه آلهتهم فهذا يؤكل بكره؛ لأنه من طعامهم: هذا الغرض من كلام بناني وسلمة الرهوني بسكوته عنه فهذا شاهد لابن العربي قطعا؛ لأنه علق جواز الأكل على كونه من طعامهم والمنع منه على ضد ذلك، وأيضا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم، كمتروك التذكية عمدا، فإنها لا تؤكل بذبيحتنا، وتؤكل بذبيحتهم حسبما تقدم، فإذا المدار على كونها من طعامهم لا غير، والله أعلم. اهـ. المراد ما كتبه المفتي الوازني. وقد أطال علماء الأزهر في [إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية] القول في مذهب المالكية في طعام أهل الكتاب، وفصلوه في بضعة فصول، الفصل السابع منها في بيان أن ما أفتى به ابن العربي (أي: من حل ما خنقه أهل الكتاب بقصد التذكية لأكله) هو مذهب المالكية قاطبة، والفصل الثامن في رد الرهوني برأيه عليه، والتاسع في تفنيد كلام الرهوني وبيان بطلانه، قالوا في أول الفصل السابع ما نصه: (اعلم أنه أقر ابن العربي على ما أفتى به الوزاني وصاحب المعيار وأحمد بابا وابن عبد السلام وابن عرفة وغيرهم من محققي المالكية كالزياتي، وقال: وكفى بهم حجة وإن رده الرهوني بالأقيسة وما توهمه ابن عبد السلام من التناقض بين كلامي ابن العربي في [أحكام القرآن] من قوله: ما أكلوه على غيره وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس ميتة حرام، وقوله: أفتيت بأن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها تؤكل؛ لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه وإن لم تكن ذكاة عندنا؛ لأن الله أباح طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فهو حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه، دفعه ابن عرفة بما حاصله: أن

ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله، وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة، وما لا يرونه مذكى لا يحل، ويرجع إلى قصد تذكيته لتحليله وعدمه، كما يعلم ذلك من التتائي على المختصر عند قول المصنف، أو مجوسيا تنصر وذبح لنفسه إلخ، ولم يفهم من عبارة أحد من هؤلاء المحققين أن ما أفتى به ابن العربي مذهب له وحده، بل كل واحد وافقه على أنه مذهب المالكية. وبيان ذلك: أن مذهب المالكية جميعا العمل بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) فكل ما كان من طعامهم فهو حل لنا، سواء كان يحل لنا باعتبار شريعتنا أو لا، فالمعتبر في حل طعامهم ما هو حلال لهم في شريعتهم، ولا يعتبر ذلك بشريعتنا، ويدل لذلك النصوص والتعاليل الآتية وهو: ما جرى عليه مالك وأصحابه فيما ذبحوه للصليب أو لعيسى أو لكنائسهم، قال الزياتي في شرح القصيدة: الرابع: لما ذبح للصليب أو لعيسى أو كنائسهم يكره أكله، بهرام عن ابن القاسم: وما ذبحوه وما سموا عليه باسم المسيح فهو بمنزلة ما ذبحوه لكنائسهم، وكذلك ما ذبحوه للصليب، وقال سحنون وابن لبابة: هو حرام؛ لأنه مما أهل لغير الله به، وذهب ابن وهب للجواز من غير كراهة. اهـ. وفي القلشاني: أن أشهب يرى أيضا الكراهة فيما ذبح للمسيح كابن القاسم، وقال: يباح أكله، وقد أباح الله ذبائحهم لنا وقد علم ما يفعلونه. وذكر القلشاني أيضا فيما ذبحوه لكنائسهم ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهة، والإباحة، وأن مذهب [المدونة] الكراهة، ونقل المواق عن مالك كراهة ما ذبح لجبريل عليه السلام. اهـ. وفي [منح الجليل] عن الرماصي: أجاز مالك رضي الله عنه [المدونة] ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5

أكل ما ذكر عليه اسم المسيح مع الكراهة، والإباحة لابن حارث عن رواية ابن القاسم، مع رواية أشهب، وعنه: أباح الله لنا ذبائحهم وعلم ما يفعلون. اهـ. وسيقول المصنف فيما يكره: وذبح لصليب أو عيسى وليس تحريم المذبوح للصنم؛ قال التونسي: وقال ابن عطية في قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬1) ذبائح أهل الكتاب عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين وشرع، وقال قوم - نسخ من هذه الآية حل ذبائح أهل الكتاب، قاله عكرمة والحسن بن أبي الحسن، وقال في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2) قال ابن عباس وغيره رضي الله عنهم: المراد: ما ذبح للأصنام والأوثان أهل معناه: صيح، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة وغلب في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم، ثم قال: والحاصل: أن ذكر اسم غير الله لا يوجب عن مالك، وفيه عن البناني، وصرح ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح، ونصه: كره مالك ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم؛ لأنه رآه مضاهيا لقول الله عز وجل: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬3) ولم يحرمه إذ لم ير الآية متناولة له، وإنما رآها مضاهية؛ لأنها عنده إنما معناها فيما ذبحوه لآلهتهم مما لا يأكلونه، قال: وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك من كتاب [الضحايا] ، وقال في سماع عبد الملك من أشهب وسألته عما ذبح للكنائس قال: لا بأس بأكله، قال ابن رشد: كره مالك في [المدونة] أكل ما ذبحوه لأعيادهم وكنائسهم، ووجه قول أشهب: أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 121 (¬2) سورة المائدة الآية 3 (¬3) سورة الأنعام الآية 145

وجب أن يكون حلالا؛ لأن الله قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه - فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعا. اهـ. فتبين أن ذبح أهل الكتاب إن قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل؛ لأنهم لا يأكلونه فهو ليس من طعامهم ولم يقصدوا بذكاته إباحة، وهذا هو المراد هنا، وأما ما يأتي من المكروه في ذبح الصليب إلخ، فالمراد به: ما ذبحوه لأنفسهم، وسموا عليه باسم آلهتهم فهذا يؤكل بكره؛ لأنه من طعامهم. اهـ. (¬2) وذكر العلامة التتائي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة: جواز أكل ما ذبح للصنم. اهـ. وأنت لا يذهب عليك أن (ما) ذبح للصنم مما أهل به لغير الله، وإنما جوزه هؤلاء الصحابة الأجلاء لكونه من طعام أهل الكتاب، تأمله، وقال العلامة التتائي عند قول المصنف: (وذبح لصليب أو لعيسى) أي: يكره أكل مذبوح لأجله، قال محمد وابن حبيب: هو مما أهل به لغير الله، وما ترك مالك العزيمة بتحريمه فيما ظننا إلا للآية الأخرى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3) فأحل الله تعالى لنا طعامهم وهو يعلم ما يفعلونه وترك ذلك أفضل، وقال محمد أيضا: كره مالك ما ذبحوه للكنائس أو لعيسى أو للصليب أو ما مضى من أحبارهم أو لجبريل أو لأعيادهم من غير تحريم. اهـ. ووجه الكراهة قصدهم به تعظيم شركهم مع قصد الذكاة. اهـ. منه بلفظ، وفي بهرام: وذهب ابن وهب إلى جواز ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) (شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل) (1\569، 570 (¬3) سورة المائدة الآية 5

أكل ما ذبح للصليب أو غيره من غير كراهة نظرا إلى أنه من طعامهم. اهـ. وقال في [منح الجليل] عند كراهة شحم اليهودي عن البناني ثلاثة أقوال: في شحم اليهود: الإجازة، والكراهة، والمنع، وأنها ترجع إلى قولين: المنع، والإجازة؛ لأن الكراهة من قبيل الإجازة، قال: والأصل في هذا: اختلافهم في تأويل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) هل المراد بذلك: ذبائحهم أو ما يأكلون؟ فمن ذهب إلى أن المراد به ذبائحهم أجاز أكل شحومهم؛ لأنها من ذبائحهم، ومحال أن تقع الذكاة على بعض الشاة مثلا دون بعض، ومن قال: المراد: ما يأكلون، لم يجز أكل شحومهم؛ لأن الله تعالى حرمها عليهم في التوراة على ما أخبر به في القرآن، فليست مما يأكلون. (¬2) . وفي [منح الجليل] أيضا بعد الكلام على التسمية ما نصه: وقال في [البيان] : ليست التسمية شرط في صحة الذكاة؛ لأن قول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬3) معناه: لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها؛ لأنها فسق، ومعنى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬4) كلوا مما قصدتم إلى ذكاته، فكنى عز وجل عن التذكية بالتسمية، كما كنى عن رمي الجمار بذكره تعالى حيث يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬5) اهـ. المقصود منه (¬6) . وقال في [كبير الخرشي] : ودخل في قول المؤلف (يناكح) أي: يحل ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) [شرح منح الجليل] (1 \ 572) . (¬3) سورة الأنعام الآية 121 (¬4) سورة الأنعام الآية 118 (¬5) سورة البقرة الآية 203 (¬6) [شرح منح الجليل] (1 \ 580) .

لنا وطء نسائه في الجملة: المسلم والكتابي، معاهدا أو حربيا، حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، ولا فرق بين الكتابي الآن ومن تقدم، خلافا للطرطوشي في اختصاصه بمن تقدم فإن هؤلاء قد بدلوا فلا نأمن أن تكون الذكاة مما بدلوا، ورد بأن ذلك لا يعلم إلا منهم فهم مصدقون فيه. اهـ. ومثله في التتائي بلا فرق. وقال في [شرح اللمع] عند قول المصنف: وأما من يذكي فمن اجتمعت فيه أربعة شروط: أن يكون مسلما أو كتابيا إلخ: واعلم أن المؤلف قد أطلق الكلام على صحة ذكاة الكتابي، ولا بد من التفصيل في ذلك ليصير كلامه موافقا للمشهور من المذهب، وتلخيص القول في ذلك أن الكافر إن كان غير كتابي لم تصح ذكاته، وإن كان كتابيا كاليهودي والنصراني، سواء كان بالغا أو مميزا، ذكر أو أنثى، ذميا كان أو حربيا، فإن كان ما ذكاه مما يستحل أكله فذكاته له صحيحة، ويجوز لنا الأكل منها، وإن كان مالك قد كره الشراء من ذبائحهم، والأصل في ذلك: أن الله تعالى قد أباح لنا أكل طعامهم، ومن جملة طعامهم ما يذكونه، وإن كان ما ذكاه مما لا يستحله، بل مما يقول: إنه حرام عليه، فإن ثبت تحريمه عليه بنص شريعتنا كذي الظفر في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (¬1) فالمشهور: عدم جواز أكله، وقيل: يجوز، وقيل: يكره، وإن لم يثبت تحريمه عليهم بشرعنا، بل لم يعرف ذلك إلا من قولهم كالتي يسمونها بالطريلة (بالطاء المهملة) ففي جواز أكلنا منه وكراهته ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 146

قولان وهما لمالك في [المدونة] ، وقال اللخمي: ثبت على الكراهة ولم يحرمه، واقتصر الشيخ خليل في [مختصره] على القول بالكراهة، وجهه ابن بشير باحتمال صدق قولهم، وهذا كله إذا كان الكتابي لا يستبيح أكل الميتة، وأما إن كان ممن يستحل أكلها، فقال ابن بشير: فإن غاب الكتابي على ذبيحته، فإن علمنا أنهم يستحلون الميتة كبعض النصارى أو شككنا في ذلك - لن نأكل ما غابوا عليه، وإن علمنا أنهم يذكون أكلناه. اهـ. وأما ما يذبحه الكتابي لعيده أو للصليب أو لعيسى أو للكنيسة أو لجبريل أو نحو ذلك - فقد كرهه مالك؛ مخافة أن يكون داخلا تحت قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) ولم يحرمه؛ لعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) وهذا من طعامهم، قال ابن يونس واستخفه غير واحد من الصحابة والتابعين، وقالوا: قد أحل لنا ذلك وهو عالم بما يفعلونه. اهـ. وأما ما ذبحوه للأصنام فلا يجوز أكله، قال ابن عبد السلام: باتفاق؛ لأنه مما أهل لغير الله به. قال اللخمي في [تبصرته] فيما ذبحه أهل الكتاب لعيدهم وكنائسهم وصلبانهم والأصنام، وما أشبه ذلك: الصحيح: أنه حلال، والمراد بما أهل لغير الله به: ما ذبح على النصب والأصنام، وهي ذبائح المشركين، قال أصبغ في ثمانية أبي زيد: وما ذبح على النصب هي الأصنام التي كانوا يعبدون في الجاهلية، قال: وأهل الكتاب ليسوا أصحاب أصنام، وفي البخاري: قال زيد بن عمرو بن نفيل: إنا لا نأكل مما تذبحون لأنصابكم يعني: الأصنام. وأما ما ذبحه أهل الكتاب فلا يراعى ذلك فيهم، وقد جعل الله سبحانه لهم حرمة، فأجاز مناكحتهم وذبائحهم؛ لتعلقهم بشيء من الحق وهو الكتاب الذي أنزل عليهم وإن كانوا كافرين، ولو كان يحرم ما ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سورة المائدة الآية 5

ذبح باسم المسيح لم يجز أن يؤكل شيء من ذبائحهم إلا أن يسأل: هل سمى عليه المسيح أو ذبح للكنيسة، بل لا يجوز، إن أخبر أنه لا يسمى المسيح؛ لأنه غير صادق، وإذا لم يجب ذلك حلت ذبائحهم كيف كانت. اهـ. فانظر كيف تضافرت كل هذه النصوص كباقي نصوص جميع المالكية على إناطة الحل والحرمة بكونه حلالا عندهم، أي: يأكلونه وعدمه، وهذا بعينه ما قصد إليه ابن العربي والحفار، وقال أهل المذهب: كلهم يقولون ويفتون بحل طعام أهل الكتاب، ومن جهة أخرى تعلم أن الذبح للصليب لم يكن من الشريعة المسيحية الحقة؛ لأنه حادث بعده، إذ منشؤه حادثة الصلب المشهورة، فكل هذا يفيد أن المعتبر عند المالكية هو حلال عند أهل الكتاب في شريعتهم التي هم عليها، ومنه يعلم أيضا ما هو المراد من الميتة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬1) وأنها التي لم يقصد ذكاتها، كما يعلم أنه يجب تقييد المنخنقة وما معها بما لم تقصد ذكاته ويكون هذا في المنخنقة وما معها بدليل {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬2) كما سبق، ومنه يتضح: أن المراد بالميتة في قولهم: (إن كان الكتابي يأكل الميتة فلا تأكل ما غاب إلخ) إنها ما لم تقصد ذكاتها؛ لأن القصد إلى الذكاة لا بد منه من مسلم أو كتابي حتى لو قطع رقبة الحيوان بقصد تجريب السيف أو اللعب - لا يحل كما تقدم، ومنه يعلم أن الميتة المذكورة بالنسبة للكتابي هي الميتة عنده، وهي التي لم يقصد ذكاتها، لا الميتة عندنا، ويتبين منه أيضا: أن الشروط المذكورة للفقهاء في الذبائح والذكاة إنما هي بيان ما يلزم في الإسلام بالنسبة للمسلم لا لغيره. اهـ. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سورة المائدة الآية 3

مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب

مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب: قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب الصيد والذبائح من [الأم] ما نصه: 1 - أحل الله طعام أهل الكتاب، وكان طعامهم عند بعض من حفظت عنه من أهل التفسير ذبائحهم وكانت الآثار تدل على إحلال ذبائحهم، فإن كانت ذبائحهم يسمونها لله تعالى فهي حلال، وإن كان لهم ذبح آخر يسمون عليه غير اسم الله، مثل اسم المسيح، أو يذبحونه باسم دون الله تعالى - لم يحل هذا من ذبائحهم، ولا أثبت أن ذبائحهم هكذا، فإن قال قائل: وكيف زعمت أن ذبائحهم صنفان وقد أبيحت مطلقة؟ ! قيل: قد يباح الشيء مطلقا، وإنما يراد بعضه دون بعض فإذا زعم زاعم أن المسلم إن نسي اسم الله تعالى أكلت ذبيحته، وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته، وهو لا يدعه للشرك، كان من يدعه على الشرك أولى أن تترك ذبيحته - وقد أحل الله عز وجل لحوم البدن (الإبل) مطلقة، فقال: {فَإِذَا وَجَبَتْ} (¬1) أي: سقطت {جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (¬2) ووجدنا بعض المسلمين يذهب إلى أن لا يؤكل من البدنة التي هي نذر ولا جزاء صيد ولا فدية، فلما احتملت هذه الآية ذهبنا إليه وتركنا الجملة، لا أنها خلاف للقرآن، ولكنها محتملة، ومعقول أن من وجب عليه شيء في ماله لم يكن له أن يأخذ منه شيئا؛ لأنا إذا جعلنا أن يأخذ منه شيئا فلم نجعل عليه الكل إنما جعلنا عليه البعض الذي أعطى، فهكذا ذبائح أهل الكتاب بالدلالة على شبيه، ما قلنا، اهـ بحروفه (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 36 (¬2) سورة الحج الآية 36 (¬3) [الأم] (2 \ 196) .

أقول: إنه رحمه الله تعالى حرم ما ذكروا اسم غير الله عليه بأقيسة على مسائل خلافية جعلها نظيرا للمسألة، وقيد بها إطلاق القرآن، ومخالفوه في ذلك - كمالك وغيره - لا يجيزون تخصيص الآية بمثل هذه الأقيسة التي غاية ما تدل عليه أن تخصيص القرآن جائز بالدليل، ولهم أن يقولوا لنا: لا نسلم أن المسلم الذي يترك التسمية تهاونا واستخفافا لا تحل ذبيحته، وإذا سلمناه جدلا نمنع قياس الكتابي عليه فيما ذكره، ولا محل هنا لبيان المنع بالتفصيل في هذا القياس وفيما بعده وهو أبعد منه، والظاهر ما تقدم من نصوص المالكية من أن ما ذبحوه لغير الله إن كانوا لا يأكلونه فهو غير حل للمسلم، وإن كانوا يأكلونه فهو من طعامهم الذي أطلق الله تعالى حله وهو يعلم ما يقولون وما يفعلون، وهذا القول يظهر لنا نكتة التعبير بالطعام دون المذبوح أو المذكى؛ لأن من المذكى ما هو عبادة محضة لا يذكونه لأجل أكله. 2 - ذهب الشافعي: إلى أن ذبائح نصارى العرب لا تؤكل، واحتج بأثر رواه عن عمر رضي الله عنه قال: (ما نصارى العرب بأهل كتاب، وما تحل لنا ذبائحهم، وما أنا بتاركهم حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم) وبقول علي المشهور في بني تغلب (¬1) . فأما أثر علي كرم الله وجهه - وقد تقدم - فهو حجة على الشافعي لا له؛ لأنه خاص ببعض العرب مصرح فيه بأنهم ليسوا نصارى، وأما أثر عمر رضي الله عنه فرواه في [الأم] عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وقد ضعفه الجمهور، وصرح بعضهم بكذبه، وممن طعن فيه مالك وأحمد، ¬

_ (¬1) [الأم] (2 \ 196) .

ومما قيل فيه: أنه جمع أصول البدع، فكان قدريا جهميا معتزليا رافضيا، وقد سئل الربيع حين نقل عن الشافعي أنه كان قدريا: ما حمل الشافعي على أنه روى عنه؟ فأجاب: بأنه كان يبرئه من الكذب، ويرى أنه ثقة في الحديث، أي: والعبرة في الحديث بالصدق لا بالمذهب، وقال ابن حبان بعد أن وصفه بالبدعة وبالكذب في الحديث: وأما الشافعي فإنه كان يجالس إبراهيم في حداثته ويحفظ عنه، فلما دخل مصر في آخر عمره وأخذ يصنف الكتب احتاج إلى الأخبار ولم تكن كتبه معه فأكثر ما أودع الكتب من حفظه وربما كنى عن اسمه، وقال إسحاق بن راهويه: ما رأيت أحد يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى مثل الشافعي، قلت للشافعي: وفي الدنيا أحد يحتج بإبراهيم بن أبي يحيى؟ اهـ. ملخصا من [تهذيب التهذيب] (¬1) . ومما يدل على عدم صحة الأثر عدم العمل به، على أنه رأي صحابي خالفه فيه الجمهور فلا يحتج به وإن صح. 3 - قال الشافعي في (باب الذبيحة وفيه من يجوز ذبحه) من [الأم] : وذبح كل من أطاق الذبح من امرأة حائض وصبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني، وكل حلال الذبيحة، غير أني أحب للمرء أن يتولى ذبح نسكه - أي: كالأضحية والهدي - فإنه يروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم «قال لامرأة من أهله فاطمة أو غيرها: احضري ذبح نسيكتك، فإنه يغفر لك عند أول قطرة منها» . ¬

_ (¬1) [تقريب التهذيب] لابن حجر العسقلاني (1 \ 158 - 161) .

قال الشافعي: وإن ذبح النسيكة غير مالكها أجزأت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه ونحر بعضه غيره، وأهدى هديا، فإنما نحره من أهداه معه، غير أني أكره أن يذبح شيئا من النسائك مشرك؛ لأن يكون ما تقرب به إلى الله على أيدي المسلمين، فإن ذبحها مشرك تحل ذبيحته أجزأت مع كراهتي لما وصفت ونساء أهل الكتاب إذا أطقن الذبح كرجالهم، وما ذبح اليهود والنصارى لأنفسهم مما يحل للمسلمين أكله من الصيد أو بهيمة الأنعام، وكانوا يحرمون منه شحما أو حوايا ـ أي: ما يحوي الطعام كالأمعاء ـ أو ما اختلط بعظم أو غيره إن كانوا يحرمونه فلا بأس على المسلمين في أكله؛ لأن الله عز وجل إذا أحل طعامهم فكان ذلك عند أهل التفسير: ذبائحهم، فكل ما ذبحوا لنا ففيه شيء مما يحرمون، فلو كان يحرم علينا إذا ذبحوه لأنفسهم من أصل دينهم بتحريمهم لحرم علينا إذا ذبحوه لنا، ولو كان يحرم علينا بأنه ليس من طعامهم، وإنما أحل لنا طعامهم، وكان ذلك على ما يستحلون كانوا قد يستحلون محرما علينا يعدونه لهم طعاما، فكان يلزمنا لو ذهبنا هذا المذهب أن نأكله؛ لأنه من طعامهم الحلال لهم عندهم، ولكن ليس هذا معنى الآية، معناها ما وصفنا، والله أعلم (¬1) هذا نص الشافعي، فمذهبه: أن المراد بطعامهم في الآية: ذبائحهم خاصة لا عموم الطعام، فما ذبحوه مما هو حلال لنا، كذبائحنا لا فرق بين ما حرم عليهم منه وما حل لهم، وما حرم علينا لا يحل إذا كان من طعامهم، وهو مخالف في هذا للمذاهب الأخرى التي أخذت بعموم لفظ ¬

_ (¬1) [الأم] (1 \205، 206)

الآية وعدتها كالاستثناء مما حرم علينا، إلا الميتة ولحم الخنزير فإنهما محرمان لذاتهما لا لمعنى يتعلق بالتذكية أو بما يذكر عليها، وقد تقدم ذلك، وقد شرح كون ما أحل لنا مما حرم عليهم، لا يحرم من ذبائحهم في موضع آخر (¬1) وبين هنا أنه يجب على كل عاقل بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبعه في أصول شرعه وفروعه وحلاله وحرامه، فما كان حراما عليهم صار حلا لهم بشرعه، وحلا لنا بالأولى. ¬

_ (¬1) [الأم] (2\209، 210)

مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة

مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة: قال الشيخ الموفق عبد الله بن قدامة في [المقنع] (¬1) ما نصه: (ويشترط للذكاة شروط أربعة: أحدها: أهلية الذابح، وهو أن يكون عاقلا مسلما أو كتابيا، فتباح ذبيحته ذكرا كان أو أنثى، وعنه لا تباح ذبيحة نصارى بني تغلب، ولا من أحد أبويه غير كتابي) وذكر في حاشيته: أن الصحيح من المذاهب ذبائح بني تغلب، قال: (وأما من أحد أبويه غير كتابي فقدم المصنف أنها تباح، وبه قال مالك وأبو ثور، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم) . والثانية: لا تباح، وهو المذهب، وبه قال الشافعي؛ لأنه وجد ما يقتضي الإباحة والتحريم فغلب التحريم كما لو جرحه (أي: الصيد) مسلم ومجوسي. ا. هـ. أقول: وللشافعي قول آخر: هو أن العبرة بالأب، وكان اللائق بقول الشافعية: أن الوليد يتبع أشرف الأبوين في الدين أن يجعلوا ذبح الصغير ¬

_ (¬1) [المقنع] (2 \531)

كذبح أشرف والديه، وأما البالغ فلا وجه للبحث عن أبويه فإذا كان كتابيا كان داخلا في عموم الآية. ثم قال (¬1) : ثالثا: (وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه كذي الظفر ـ أي: عند اليهود ـ لم يحرم علينا ـ وإذا ذبح حيوانا غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم، وهو شحوم الثرب (أي: الكرش) والكليتين في ظاهر كلام أحمد رحمه الله، واختاره ابن حامد، وحكاه عن الخرقي في كلام مفرد، واختار أبو الحسن التميمي والقاضي تحريمه، وإن ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شيء مما يعظمونه لم يحرم، نص عليه) ا. هـ. أي نص عليه الإمام أحمد، وهو المذهب، وإن روي عنه التحريم، وهو موافق فيه لمذهب مالك رحمهم الله تعالى. وقال (¬2) : الرابع (أي: من شروط التذكية: أن يذكر اسم الله عند الذبح، وهو أن يقول: باسم الله، لا يقوم غيرها مقامها إلا الأخرس، فإنه يومئ إلى السماء، فإن ترك التسمية عمدا لم تبح، وإن تركها ساهيا أبيحت، وعنه تباح في الحالين وعنه: لا تباح فيهما) قال في حاشيته: (قوله: فإن ترك التسمية عمدا لم تبح وإن تركها ساهيا أبيحت، وعنه تباح في الحالين، وعنه لا تباح فيهما) قال في [حاشيته] : (قوله: فإن ترك التسمية عمدا إلخ، هذا هو المذهب فيهما، وذكره ابن جرير إجماعا في سقوطها سهوا، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال مالك والثوري وأبو ¬

_ (¬1) [المقنع] (2 \537) (¬2) المقنع (2 \535)

حنيفة وإسحاق، وممن أباح ما نسيت التسمية عليه: عطاء، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وعن أحمد تباح في الحالين، وبه قال الشافعي. واختاره أبو بكر؛ لحديث البراء مرفوعا: «المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم» وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله؟ فقال: اسم الله في قلب كل مسلم» رواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي وضعفه. ولنا ما روى الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد مرفوعا: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم ما لم يتعمد» رواه سعيد وعبد بن حميد، لكن الأحوص ضعيف، وعن أحمد: لا تباح، وإن لم يتعمد؛ لقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬1) وجوابه: إنها محمولة على ما إذا ترك اسم التسمية عمدا، بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬2) والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق؛ لقوله عليه السلام: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان (¬3) » ا. هـ. أقول: من عجائب انتصار الإنسان لما يختاره جعل الفسق هنا بمعنى ترك التسمية عمدا، والظاهر فيه ما قاله الشافعي من أنه ما أهل لغير الله به أخذا من قوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬4) وقد تقدم، وفي الباب من كتاب [بلوغ المرام] للحافظ ابن حجر ما نصه: وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والمسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي الله حين يذبح فليسم ثم ليأكل» أخرجه الدارقطني، وفيه راو في حفظه ضعف، وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان، وهو صدوق ضعيف الحفظ، وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس، موقوفا عليه، وله شاهد عند ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 121 (¬2) سورة الأنعام الآية 121 (¬3) سنن ابن ماجه الطلاق (2045) . (¬4) سورة الأنعام الآية 145

أبي داود في [مراسيله] بلفظ «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليها أم لم يذكر» ورجاله موثوقون. اهـ. وتقدم حديث عائشة عند البخاري قالت: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: صلى الله عليه وسلم «سموا الله عليه أنتم وكلوه (¬1) » اهـ. وجعل علماء الأزهر الفصل الأول من كتاب [إرشاد الأمة الإسلامية] الذي تقدم ذكره في بيان مذهب الحنابلة في الذبيحة التي أفتى به مفتي مصر قالوا: ذهب الحنابلة إلى أن المعتبر في حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع: أن تذكى وفيه حياة، وإن قلت كالمريض، وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة، والسيدين: الباقر والصادق، وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد، والتسمية عندهم ليست بشرط فيحل متروك التسمية عمدا أو سهوا من مسلم أو من كتابي على رواية، وفي رواية عن أحمد تشترط من مسلم لا من كتابي وعنه عكسها، ثم أيدوا هذه الخلاصة بنقل من كتاب [دقائق أولي النهى على متن المنتهى] ومن غيره. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .

صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب

صفوة الخلاف بين الفقهاء والمختار منه في طعام أهل الكتاب. من تأمل ما نقلناه من كتب المذاهب الأربعة المشهورة، وما تخلله وسبقه من كلام غيرهم من أئمة السلف ـ يظهر لك أن المتفق عليه أنه يحرم علينا من طعام أهل الكتاب ما حرم علينا في ديننا لذاته، وهو الميتة ولحم الخنزير، وكذا الدم المسفوح قطعا، وإن لم يذكر فيما تقدم من النقل، ولا نعلم أن أحدا منهم يأكله أو يشربه، وكذلك الميتة كلها يحرمونها، ولحم الخنزير محرم بنص التوراة إلى اليوم، وقد استباحه النصارى بإباحة مقدسهم بولس.

وقد اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك، كما علمت، فكل ما أكلناه مما عدا ذلك من طعامهم نكون موافقين فيه لقول بعض فقهائنا الذين شدد بعضهم فخفف بعض في هذه المسائل، وأشد الفقهاء تشديدا في ذلك وفي أكثر الأحكام: الشافعية، ومن تأمل أدلة الجميع رأى أن أظهرها قول الذين أخذوا بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) ولم يخصصوه بذبائحهم فضلا عن تخصيصه بحبوبهم كالشيعة، ولا يشترط في حل طعامهم أن يأكل منه أحبارهم ورهبانهم كما قال ابن العربي، واختاره شيخنا الأستاذ مفتي مصر في الفتوى الترنسفالية فهو تشديد لا مستند له ـ وفي غير ما أهل به لغير الله ـ إلا الثقة بأن ما يأكلونه غير محرم عليهم في كتبهم، وقد نسخت شريعتنا كتبهم، كما قال الشافعي وغيره فلا عبرة بما حرم عليهم فيها، وقد قال الله تعالى في صفات خاتم النبيين: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬2) ولا يشترط أيضا أن يكون طعامهم موافقا لشريعتنا سواء كانوا مخاطبين بفروعها قبل الإيمان كما يقول الشافعي أو غير مخاطبين بها إلا بعد الإيمان كما يقول الجمهور، إذ لو كان هذا شرطا لما كان لإباحة طعامهم فائدة. وقال ابن رشد في [بداية المجتهد] ما نصه: ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم، قال: ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة، وما حرموا على أنفسهم أمر باطل ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة الأعراف الآية 157

فتعمل فيه التذكية، قال القاضي: والحق أن ما حرم أو حرموه على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع، فيجب أن لا يراعى اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم؛ لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه؛ لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا واعتقاد شريعتنا لا يصح منهم ـ وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم ـ والله أعلم ـ جائزة على الإطلاق، وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. ا. هـ. والأمر كما قال القاضي رحمه الله تعالى، ومراده بذبائحهم: مذكاهم كيفما كانت تذكيته عندهم. وقد تقدم تحقيق معنى التذكية، وأنها عبارة عن قتل الحيوان بقصد أكله، وأقوال علماء السلف ومحققي المالكية في ذلك، فلله در مالك والمالكية، إن كلامهم في هذه المسألة أظهر من كلام مخالفهم دليلا، وأليق بيسر الحنيفية السمحة. ومن العجائب: أن كثيرا من الناس يحبون أن تكون الشريعة عسرا لا يسرا، وحرجا لا سعة، وإن هم لم يلتزموها إلا فيما يوافق أهواءهم، فمن شدد على نفسه فذاك ذنب عقابه فيه، ومن شدد على الأمة حثونا التراب في فيه، والله أعلم وأحكم.

بعض ما صدر في الموضوع من فتاوى

بعض ما صدر في الموضوع من فتاوى: ورد إلى فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر سابقا أسئلة من شاب مسلم مقيم بالولايات المتحدة عن حكم أكل الدم وذبائح أهل الكتاب. نصها: أنه يجد في لحوم البقر التي تقدم إليه للغذاء شيئا من الدم، فهل يحل أكلها مع ذلك؟ ثم هو لا يدري أذكر على الذبيحة اسم الله أم لا، والقوم في تلك البلاد أهل كتاب، فهل يحل أكل ذبائحهم مع ذلك؟ وقد يكون الذبح عندهم ببتر الرأس مرة واحدة بآلات حادة دون مراعاة الذبح المعروفة عندنا بمصر، فهل يحل أكل الذبيحة مع ذلك؟ (الجواب) نقصر الكلام في هذه الفتيا على ما أباح الله تعالى أكله من الحيوان البري المقدور عليه، فنقول: 1 - تحريم الدم: قد جعل الله تعالى الذكاة شرطا لحل الأكل من هذا الحيوان ـ كالإبل والبقر والغنم والأوز والبط ونحوها ـ والذكاة الاختيارية إنما تكون بالذبح فيما يذبح من الغنم والبقر ونحوهما، وبالنحر فيما ينحر وهو الإبل، وبها يطيب اللحم ويحل لخروج الدم بها من الحيوان، وهو مادة مستقذرة بالطبع حرمها الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬1) وفي سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2) وفي سورة النحل: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 173 (¬2) سورة المائدة الآية 3

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) وقال في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2) فنفى سبحانه في هذه الآية حرمة سائر الدماء إلا ما كان مسفوحا، والمسفوح هو المصبوب السائل الذي يخرج بالذبح أو النحر ونحوه وكان العرب في الجاهلية يضعونه في أمعاء الحيوان ويشوونه ثم يأكلونه، فحرم الله أكله والانتفاع به، روي عن قتادة أنه قال: حرم الله من الدم ما كان مسفوحا، وأما اللحم يخالطه الدم فلا بأس به، وعن عكرمة أنه قال: لولا آية الأنعام لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود، وسئلت عائشة عن الدم يكون في اللحم المذبوح؟ فقالت: إنما نهى الله عن الدم المسفوح، وسئلت عن الدم في أعلى القدر فلم تر به بأسا، وقرأت آية الأنعام حتى بلغت (مسفوحا) ولتخصيص التحريم بالمسفوح أحل الله دمين غير مسفوحين، وهما: الكبد والطحال، كما في الحديث المشهور، وأحل أكل اللحم مع بقاء أجزاء من الدم في العروق؛ لأنه غير مسفوح، وقال الإمام الجصاص: لا خلاف بين الفقهاء في جوازه. ا. هـ. وإلى هذا ذهب جمهور الأئمة، فقالوا: إن الدم المحرم هو الدم المسفوح لا مطلق الدم، فيحمل الدم المطلق في الآيات السابقة على ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 115 (¬2) سورة الأنعام الآية 145

المقيد في آية الأنعام. وذهب ابن حزم إلى أن جملة الدم محرم مسفوحا وغير مسفوح، وأن الله تعالى حرم المسفوح منه في مكة بآية الأنعام، ثم حرم بالمدينة الدم جملة بآية المائدة وهي آخر سور القرآن نزولا، ومع هذا وافق الجمهور في أن ما يبقى من الدم في الحيوان المذكى في عروقه وفي خلال لحمه ليس من الدم المحرم، وقال: إنه حلال. ا. هـ. ولولا ذلك لوجب تتبعه في العروق واللحم لاستئصاله، وفي ذلك عسر يأباه يسر الشريعة السمحة، فلا جناح في أكل اللحم المذكى مع وجود بقايا الدم فيه؛ لأن ذلك معفو عنه شرعا. والله أعلم. 2 - التسمية على الذبيحة: وحرم الله تعالى من الذبائح في الآيات السابقة {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬1) وهو ما ذكر عليه غير اسمه تعالى ـ وأصل الإهلال رفع الصوت، وكل رافع صوته فهو مهل، وكان العرب في الجاهلية يرفعون أصواتهم عند الذبح بأسماء أصنامهم وأوثانهم، فذلك هو الإهلال، والمراد من الغير في الآية: الصنم والوثن وغيرهما كالعزير والمسيح والصليب والكعبة، فلا يحل شيء من الذبائح التي أهل بها لغير الله تعالى، ومنه {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (¬2) وهي أحجار كانت لهم منصوبة حول الكعبة يذبحون عليها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة؛ لكونه للأصنام ونحوها، وقيل: هي الأصنام تنصب فتعبد من دون الله تعالى. وقد روي عن عمر وابنه وعلي وعائشة كراهة ما أهل به لغير الله (والمراد حرمته) وعن النخعي والحسن والثوري مثله، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل ما سمي المسيح عليه، وقال الشافعي وأحمد: لا يحل ما ذبح لغير ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 173 (¬2) سورة المائدة الآية 3

الله ولا ما ذبح للأصنام. اهـ، وقد سمى الله ذلك فسقا أي: خروجا من الحلال إلى الحرام، قال الله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) وكما حرم الله ما أهل به لغير الله حرم ما لم يذكر اسم الله عليه، وجعل ذكر اسمه تعالى وحده على الذبيحة شرطا في حل أكلها، سواء كان الذابح مسلما أو كتابيا، إليه ذهب الحنفية وأحمد والثوري والحسن بن صالح؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬2) فنهى عن الأكل من متروك التسمية وعن تركها، وأخبر بأنه فسق، وهو ظاهر في حالة ترك التسمية عمدا لا سهوا؛ لأن الناسي لا تلحقه سمة الفسق، كما ذكره الجصاص وغيره، وذهب داود والشعبي، وهو مروي عن مالك وأبي ثور إلى أن التسمية شرط مطلق؛ لعدم فصل الأدلة بين حالتي العمد والسهو، وإليه ذهب ابن حزم في [المحلى] ، وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاوس والشافعي وهو مروي أيضا عن مالك وأحمد إلى أن التسمية ليست شرطا لحل الأكل، بل هي سنة، فمن تركها عمدا أو سهوا لم يقدح ذلك في حل أكل ذبيحته؛ لحديث عائشة: «أن قوما قالوا يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا وكانوا حديثي عهد بكفر (¬3) » ، رواه البخاري والنسائي وابن ماجه، كما في [المنتقى] ؛ وذلك لأن التسمية على الأكل سنة، فلو كانت التسمية على الذبيحة فرضا لم تنب السنة عن الفرض؛ لأن السنة لا تنوب عن الفرض كما في الشوكاني. ولعل حكمة تحريم ما أهل به لغير الله، وما لم يذكر اسم الله عليه أن الحيوان مملوك لله تعالى كسائر المخلوقات، وليس للعبد أن يتصرف في ملك سيده بغير إذنه وإباحته، وإذ قد أذن الله تعالى للإنسان أن يقتات ببعض ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 145 (¬2) سورة الأنعام الآية 121 (¬3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .

الحيوان، أوجب عليه إذا أراد الانتفاع به على الوجه الأكمل أن يذكيه ليكون له منه قوت طيب خالص من شوائب القذر والدنس، وتلك نعمة يجب عليه أن يشكر المنعم المتفضل بها، وهو إنما يكون بتمجيد الله تعالى وذكر اسمه وحده عند الذبح، والإعلام بأنه إنما أقدم عليه بإذن الله وإباحته. وروي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي أمامة الترخيص في ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم غير الله، وإليه ذهب عطاء والشعبي والليث وفقهاء الشام: الأوزاعي ومكحول وسعيد بن عبد العزيز، وقالوا: إن التحريم في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬1) مقصور على ذبائح عبدة الأوثان الذين يهلون عند الذبح بأوثانهم، كما كان يفعله العرب، أما أهل الكتاب فإن الله سبحانه أحل ذبائحهم بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) والمراد: ذبائحهم، كما ذهب إليه ابن عباس وجمهور المفسرين، مع علمه تعالى بأنهم يهلون على ذبائحهم باسم المسيح وأنهم لا يزالون يقولون ذلك. فعلى هذا القول تحل ذبيحة الكتابي، سواء سمى المسيح أو الصليب، ذبحها لعيد أو كنيسة؛ لأنه كتابي قد ذبح لدينه، وكانت هذه ذبائحهم قبل نزول القرآن وأحلها في كتابه. اهـ. من [العمدة] للعيني، و [أحكام القرآن] للجصاص، و [المغني] لابن قدامة، و [المحلى] لابن حزم، و [روح المعاني] للألوسي المفسر، وغيرهم. وقد رجح مذهب الجمهور بأن حل ذبائح أهل الكتاب في آية المائدة مشروط بالإهلال عليها باسم الله وحده جمعا بين الآيتين، فإذا أهل باسمه تعالى حلت ذبيحته كالمسلم سواء، وإذا أهل بغيره تعالى حرمت كالمسلم ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 173 (¬2) سورة المائدة الآية 5

سواء، وإذا لم يعلم هل سمى الله وحده أو سمى الله مع غيره أو سمى غير الله فقط حلت ذبيحته، ففي الألوسي: قال الحسن: إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل الله ذلك لك. اهـ، أي: بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) وفي [صحيح البخاري] عن الزهري قال: «لا بأس بذبيحة نصارى العرب، وإن سمعته يسمي غير الله فلا تأكل، وإن لم تسمعه فقد أحله الله وعلم كفرهم» اهـ. رواه مالك في [الموطأ] مرفوعا، وعن النخعي: إذا توارى عنك فكل، وعن حماد: كل ما لم تسمعه أهل به لغير الله، وفي [البدائع] للكاساني من أئمة الحنفية: وتؤكل ذبيحة الكتابي، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) والمراد: ذبائحهم، وإنما تؤكل ذبيحته إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء، أو سمع وشهد تسمية الله تعالى وحده؛ لأنه إذا لم يسمع منه شيء، يحمل على أنه سمى الله تعالى وجرد التسمية تحسينا للظن به كما بالمسلم، فأما إذا سمع منه أنه سمى المسيح وحده أو مع الله فإنه لا تؤكل ذبيحته؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬3) اهـ. ملخصا. وفي [المغني] لابن قدامة: فإن لم يعلم أسمى الذابح أم لا، أو ذكر اسم غير الله أم لا، فذبيحته حلال؛ لأن الله تعالى أباح لنا أكل ذبيحة المسلم والكتابي، وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح. اهـ. وفي [المحلى] لابن حزم: وكل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم فاسق أو جاهل أو كتابي فحلال أكله؛ لما أخرجه البخاري عن عائشة: أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال عليه الصلاة ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة المائدة الآية 5 (¬3) سورة البقرة الآية 173

والسلام: سموا الله أنتم وكلوا (¬1) » قالت عائشة: وكانوا حديثي عهد بكفر اهـ. حيث أباح لهم أكله بدون اهتمام بالسؤال عنه، والتحقق من حصول التسمية وندبهم إلى التسمية عند الأكل إقامة للسنة، كما أشار إليه الطيبي. وجملة القول في ذبيحة الكتابي: أنها تحل، ولو علم أنه سمى عليها غير الله فيما ذهب إليه بعض الأئمة، وتحل عند الجمهور إذا لم يسمع وهو يهل بها لغير الله، بخلاف ما إذا سمع فإنها تحرم، فما يذبحه إذا لم يعلم أنه ذكر اسم الله عليه أو لم يذكره حلال باتفاق، والله أعلم. 3 - كيفية الذبح: وقد اختلفت أقوال الأئمة والفقهاء في كيفية الذبح وآلته اختلافا كثيرا. وللإمام ابن حزم في ذلك قول حقيق بالقبول مؤيد بالدليل القوي من السنة الصحيحة. قال: إن كمال الذبح باتفاق هو: أن يقطع الودجان (عرقان في جانبي ثغرة النحر) والحلقوم والمريء (مجرى الطعام والشراب من الحلق) فإن قطع بعض من هذه الأراب، فأسرع الموت كما يسرع في قطع كلها فأكلها حلال، فإن لم يسرع الموت فليعد القطع ولا يضره ذلك شيئا، وأكله حلال سواء ذبح من الحلق أعلاه وأسفله سواء، وسواء رميت العقدة إلى فوق أو أسفل أو قطع كل ذلك من العنق، وسواء أبين الرأس أم لم يبن، كل ذلك حلال، وممن ذهب إلى حل الذبيحة إذا أبين رأسها: ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين وأنس وابن عباس وعطاء ومجاهد وطاوس والحسن والنخعي والشعبي والزهري والضحاك، وبعضهم أكل ما لم يقطع أوداجه وما ذبح من قفاه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .

وأما آلة التذكية فهي كل شيء يقطع قطع السكين، أو ينفذ نفاذ الرمح، سواء في ذلك كله العود المحدود والحجر الحاد والقصب الحاد، وكل شيء سوى السن والظفر، وما عمل منها إلى آخر ما ذكره في [المحلى] ج 7 فالذبح بآلة حادة تقطع العنق وتفصل الرأس، ولو كان من القفا جائز شرعا عنده، والله أعلم.

فتوى سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد

وسئل سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء في المملكة العربية السعودية: الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن حكم اللحوم المستوردة من الخارج معلبة وغير معلبة والتي كثر انتشارها في المدن والقرى وعمت البلوى بها فلا يكاد بيت يسلم منها، هل الأصل فيها الإباحة أم الحظر، نرجو بيان ذلك مفصلا ولكم الأجر؟ فأجاب حفظه الله: الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم، فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه، كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها ممن أهل للتذكية، فإن الله سبحانه وتعالى حرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وحرم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع إلا ما ذكي، فهذا يدل على أن الأصل في الحيوان التحريم إلا ما ذكاه المسلمون أو أهل الكتاب بقطع الحلقوم، وهو: مجرى النفس، والمريء، وهو: مجرى الطعام والماء مع قطع الودجين في قول طائفة من أهل العلم، فما يرد من اللحوم المعلبة إن كان استيرادها من بلاد إسلامية أو من بلاد أهل الكتاب أو معظمهم وأكثرهم أهل الكتاب وعادتهم يذبحون بالطريقة الشرعية فلا شك في حله، وإن كانت تلك اللحوم المستوردة تستورد من بلاد جرت عادتهم

أو أكثرهم أنهم يذبحون بالخنق أو بضرب الرأس أو بالصاعقة الكهربائية ونحو ذلك فلا شك في تحريمها، وكذلك ما يذبحه غير المسلمين وغير أهل الكتاب من وثني أو مجوسي أو قادياني أو شيوعي ونحوهم فلا يباح ما ذكوه؛ لأن التذكية المبيحة لأكل ما ذكي لا بد أن تكون من مسلم أو كتابي عاقل له قصد وإرادة وغير هؤلاء لا يباح تذكيتهم. أما إذا جهل الأمر في تلك اللحوم ولم يعلم عن حالة أهل البلد التي وردت منها تلك اللحوم هل يذبحون بالطريقة الشرعية أو بغيرها، ولم يعلم حالة المذكين وجهل الأمر - فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهول أمر عادتهم في الذبح؛ تغليبا لجانب الحظر، وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر، سواء أكان في الذبائح أو الصيد، ومثله النكاح، كما قرره أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب وغيرهم من الحنابلة، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام النووي، وغيرهم كثير مستدلين بما في [الصحيحين] وغيرهما من حديث عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، فإن وجدت معه كلبا آخر فلا تأكل (¬1) » ، فالحديث يدل على أنه إذا وجد مع كلبه المعلم كلبا آخر أنه لا يأكله تغليبا لجانب الحظر، فقد اجتمع في هذا الصيد: مبيح وهو: إرسال الكلب المعلم إليه، وغير مبيح وهو اشتراك الكلب الآخر؛ لهذا منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أكله، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبته بسهمك فوقع في الماء فلا تأكل (¬2) » متفق عليه، وفي رواية عند الترمذي: «إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل (¬3) » وقال: حسن صحيح عن عدي بن حاتم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5486) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4274) ، سنن أبو داود الصيد (2848) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) . (¬2) سنن الترمذي الصيد (1469) . (¬3) سنن الترمذي الصيد (1468) .

قال ابن حجر في الصيد: إن الأثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام وآخر، أو غير ذلك من الأسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد، وقال أيضا عند قوله (وإن وقع في الماء فلا تأكل) ؛ لأنه حينئذ يقع التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء، فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم فهذا يحل أكله. قال النووي في [شرح مسلم] : إذا وجد الصيد في الماء غريقا حرم بالاتفاق. اهـ، وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلا فقد تمت ذكاته، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك (¬1) » فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل، انتهى ملخصا من [فتح الباري] ، وقال الخطابي: إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء قد أغرقه، فيكون هلاكه من الماء لا من قبل الكلب الذي هو آلة الذكاة. وكذلك إذا وجد فيه أثرا لغير سهمه، والأصل: أن الرخص تراعى شرائطها التي بها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي: اهـ. مما تقدم: يتضح تحريم اللحوم المستوردة من الخارج على الصفة التي سبق بيانها؛ وأن مقتضى قواعد الشرع يدل على تحريمها، كما في حديث عدي وغيره في اشتراك الكلب المعلم مع غيره، وفيما رماه الصائد بسهمه فوق في الماء لاحتمال أن الماء قتله، وفيما رواه الترمذي وصححه: «إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع (¬2) » أنه لا يأكله، فإنك ترى من هذا أنه إذا تردد الأمر بين شيئين مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر، وليس في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1469) . (¬2) سنن الترمذي الصيد (1468) .

حديث عائشة في [الصحيحين] وغيرهما: «أن قوما حديثي عهد بإسلام يأتوننا باللحوم فلا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سموا الله أنتم وكلوا (¬1) » ؛ لأن الحديث في قوم مسلمين إلا أنهم حديثو عهد بكفر بخلاف تلك اللحوم المستوردة من الخارج فإن الذابح لها ليس بمسلم ولا كتابي، بل مجهول الحال. كما بينا فيما تقدم من أهل البلد إذا كانت حالتهم أو معظمهم يذبحون بالطريقة الشرعية وهم مسلمون أو أهل كتاب فيباح لنا ما ذبحوه وإن كانوا يذبحون بغير الطريقة الشرعية، بل بخنق أو بضرب رأس أو بصاعقة كهربائية فهو محرم، وإن جهل أمرهم ولم تعلم حالتهم بما يذبحونه فلا يحل ما ذبحوه تغليبا لجانب الحظر، ولا عبرة بما عليه أكثر الناس اليوم من أكلهم لتلك اللحوم من غير مبالاة بتذكيتها من عدمها، والله المستعان. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .

فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ولفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتوى تحت عنوان: حكم ذبائح أهل الكتاب وغيرهم من الكفار بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم. . سلمه الله وتولاه آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد. فقد وصلني كتابكم المؤرخ 5 / 3 / 1386 هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه السؤال عن حكم اللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية

وما يعانيه موظفو السفارات الإسلامية والطلبة المسلمون من المشقة في هذا الباب (وما تضمنه من السؤال) كان معلوما. والجواب: قد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس، وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار: فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها، إلحاقا للمجوس بعباد الأوثان وسائر صنوف الكفار من غير أهل الكتاب، وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقا لهم بأهل الكتاب، وهذا قول ضعيف جدا، بل باطل. والصواب: ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة سائر المشركين، لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط، والحجة في ذلك قول الله سبحانه في كتابه الكريم من سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (¬1) الآية فصرح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا وطعامهم ذبائحهم، كما قال ابن عباس وغيره من أهل العلم، ومفهوم الآية: أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا، وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس. إذا علم هذا فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5

أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين، إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي؛ إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها، أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين، ولا يجوز لهم أكلها، أما ما قد يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، «إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سموا عليه أنتم وكلوا (¬1) » رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، وبذلك يعلم أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها؛ لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة؛ لأن أمر المسلم يحمل على السداد والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان، لا لأن ذلك يبيح ما كان محرما من ذبائحهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل أكل لحم الدجاج ونحوه - فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة، ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين، فينبغي التنبه لهذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجه له. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .

هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي قد عمت بها البلوى. وأسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يعمر قلوبهم بخشيته وتعظيم حرماته، والحذر مما يخالف شرعه، إنه على كل شيء قدير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ولفضيلته فتوى أخرى في الموضوع نصها: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم. . . زاده الله من العلم النافع والإيمان آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . أما بعد: فقد وصلني كتابكم في 5 / 11 / 1387 هـ وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال كان معلوما. وقد تضمن خطابكم المذكور السؤال عن مسألتين: إحداهما: عما يتعلق بذبح الغنم والدجاج ونحوهما في المجازر المسيحية في معظم البلاد الأوروبية والأمريكية، وقد ذكرتم: أنها درجت في ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وعلى ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة. والثانية: عن حكم شحم الخنزير، وذكرتم أنه بلغكم عن بعض علماء العصر حل ذلك. والجواب عن المسألة الأولى: أن يقال: قد دل كتاب الله العزيز وإجماع المسلمين على حل طعام أهل الكتاب بقول الله سبحانه:

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (¬1) الآية، هذه الآية الكريمة قد دلت على حل طعام أهل الكتاب، والمراد من ذلك: ذبائحهم، وهم بذلك ليسوا أعلى من المسلمين، بل هم في هذا الباب كالمسلمين فإذا علم أنهم يذبحون ذبحا يجعل البهيمة في حكم الميتة حرمت، كما لو فعل ذلك المسلم لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (¬2) الآية. فكل ذبح من مسلم أو كتابي يجعل الذبيحة في حكم المنخنقة أو الموقوذة أو المتردية أو النطيحة فهو ذبح يحرم البهيمة ويجعلها في عداد الميتات لهذه الآية الكريمة، وهذه الآية يخص بها عموم سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3) كما يخص بها الأدلة الدالة على حل ذبيحة المسلم إذا وقع منه الذبح على وجه يجعل ذبيحته في حكم الميتة. أما قولكم: إن المجازر المسيحية درجت على ذبح الخرفان بواسطة الصرع الكهربائي وفي ذبح الدجاج بواسطة قصف الرقبة فقد سألت بعض أهل الخبرة عن معنى الصرع والقصف؛ لأنكم لم توضحوا معناها، فأجابنا المسئول: بأن الصرع هو إزهاق الروح بواسطة الكهرباء من غير ذبح شرعي. وأما القصف فهو قطع الرقبة مرة واحدة، فإن كان هذا هو المراد من الصرع والقصف فالذبيحة بالصرع ميتة؛ لكونها لم تذبح الذبح الشرعي ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة المائدة الآية 3 (¬3) سورة المائدة الآية 5

الذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء، وإسالة الدم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر (¬1) » . وأما القصف بالمعنى المتقدم فهو يحل الذبيحة؛ لأنه مشتمل على الذبح الشرعي، وهو قطع الحلقوم والمريء والودجين، وفي ذلك إنهار الدم مع قطع ما ينبغي قطعه، أما إن كان المراد بالصرع والقصف لديكم غير ما ذكرنا، فنرجو الإفادة عنه حتى يكون الجواب على ضوء ذلك، وفق الله الجميع لإصابة الحق. المسألة الثانية: وهي الخنزير، فالجواب عن ذلك أن الذي عليه الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم: هو تحريم شحمه تبعا للحمه، وحكاه الإمام القرطبي والعلامة الشوكاني إجماع الأمة الإسلامية؛ لأنه إذا نص على تحريم الأشرف فالأدنى أولى بالتحريم، ولأن الشحم تابع للحم عند الإطلاق، فيعمه النهي والتحريم، ولأنه متصل به اتصال خلقة فيحصل به الضرر ما يحصل بملاصقه وهو اللحم، ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحريم الخنزير بجميع أجزائه، والسنة تفسر القرآن وتوضح معناه، ولم يخالف في هذا أحد فيما نعلم، ولو فرضنا وجود خلاف لبعض الناس، فهو خلاف شاذ، مخالف للأدلة والإجماع الذي قبله، فلا يلتفت إليه، ومما ورد من السنة في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في [الصحيحين] عن جابر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم عليكم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (¬2) » الحديث، فجعل الخنزير قرين الخمر والميتة لم يستثن شحمه، بل أطلق تحريم بيعه، كما أطلق تحريم الخمر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/324) .

والميتة، وذلك نص ظاهر في تحريمه كله، والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد كتبنا جوابا في حكمة تحريم الخنزير نرسل لكم نسخة منه مع نسختين من كتابين آخرين في الموضوع للاطلاع عليها. والله المسئول أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والنصح له ولعباده والدعوة إليه على بصيرة، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

جاء إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد الاستفتاء الآتي: س: ما حكم اللحم الذي يوجد في الأسواق وقد ذبح في الخارج، هل يجوز الأكل منه أو لا؟ ج: فأجابت عنه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما نصه في الفتوى رقم (1216) وتاريخ 20 / 1396 هـ: إن كان مذكي الأنعام أو الطيور غير كتابي، ككفار روسيا وبلغاريا وما شابههم في الإلحاد ونبذ الديانات فلا تؤكل ذبيحته، سواء ذكر اسم الله عليها أم لا؛ لأن الأصل حل ذبائح المسلمين فقط واستثنى ذبائح أهل الكتاب بالنص، وإن كان من ذكاها من أهل الكتاب اليهود أو النصارى؛ فإن كانت تذكيته إياها بذبح في رقبتها أو نحر في لبتها وهي حية وذكر اسم الله عليها أكلت اتفاقا؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) وإن لم يذكر اسم الله عليها عمدا ولا اسم غيره، ففي جواز أكلها خلاف. وإن ذكر اسم غير الله عليها لم تؤكل وهي ميتة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬2) وإن ضربها في رأسها بمسدس أو سلط عليها تيارا كهربائيا مثلا فماتت من ذلك فهي موقوذة، ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة الأنعام الآية 121

ولو قطع رقبتها بعد ذلك، وقد حرمها الله في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (¬1) إلا إذا أدركت حية بعد ضرب رأسها مثلا وذكيت فتؤكل؛ لقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬2) فاستثنى سبحانه من المحرمات ما ذكي منها إذا أدرك حيا؛ لأن التذكية لا تأثير لها في الميتة أما ما خنق منها حتى مات أو سلط عليه تيار كهربائي حتى مات فلا يؤكل بالاتفاق، وإن ذكر اسم الله عليه حين خنقه أو تسليط الكهرباء عليه أو عند أكله، أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سموا الله وكلوا (¬3) » فإنه كان في ذبائح ذبحها قوم أسلموا لكنهم حديثو عهد بجاهلية ولم يعلم أذكروا اسم الله عليها أم لا فأمر المسلمين الذين شكوا في تسمية هؤلاء الذابحين على ما عهد في المسلمين من التسمية عند الذبح، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. س: وجاء أيضا في استفسار آخر مضمونه: أن جماعة من طلبة العلم يزعمون حل ذبائح من يستغيث بغير اسم الله ويدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله إذا ذكروا عليها اسم الله، مستدلين بعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬4) الآية، وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (¬5) ويرون من يحرم ذلك من المعتدين الذين يضلون بأهوائهم بغير علم، ويقولون: إن الله ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سورة المائدة الآية 3 (¬3) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) . (¬4) سورة الأنعام الآية 118 (¬5) سورة الأنعام الآية 119

فصل لنا ما حرم علينا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) الآية، وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬2) الآية ... إلى أمثال ذلك من الآيات التي فصلت ما حرم من الذبائح ولم يذكر فيها تحريم شيء مما ذكر اسم الله عليه، ولو كان الذابح وثنيا أو مجوسيا، ويزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يأكل من ذبائح الذين يدعون زيد بن الخطاب إذا ذكروا اسم الله، فهل قولهم هذا صحيح؟ وما نجيب عما استدلوا به إن كانوا مخطئين؟ وما هو الحق في ذلك مع الدليل؟ ج: وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالفتوى رقم (1423) وتاريخ 28 / 12 1396 هـ بما يلي: يختلف حكم الذبائح حلا وحرمة باختلاف حال الذابحين، فإن كان الذابح مسلما ولم يعلم عنه أنه أتى بما ينقض أصل إسلامه وذكر اسم الله على ذبيحته أو لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم لا فذبيحته حلال بإجماع المسلمين، ولعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (¬3) {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬4) الآية. وإن كان الذابح كتابيا يهوديا أو نصرانيا وذكر اسم الله على ذبيحته فهي حلال بالإجماع، ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬5) وإن ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سورة النحل الآية 115 (¬3) سورة الأنعام الآية 118 (¬4) سورة الأنعام الآية 119 (¬5) سورة المائدة الآية 5

لم يذكر اسم الله ولا اسم غيره ففي حل ذبيحته خلاف، فمن أحلها استدل بعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) ومن حرمها استدل بعموم أدلة وجوب التسمية على الذبيحة والصيد والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2) الآية، وهذا هو الظاهر، وإن ذكر الكتابي اسم غير الله عليها كأن يقول: باسم العزير أو باسم المسيح أو الصليب لم يحل الأكل منها؛ لدخولها في عموم قوله تعالى في آية ما حرم من الطعام {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬3) إذ هي مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬4) وإن كان الذابح مجوسيا لم تؤكل، سواء ذكر اسم الله عليها أم لا بلا خلاف فيما نعلم، إلا ما نقل عن أبي ثور من إباحته صيده وذبيحته؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (¬5) » ولأنهم يقرون على دينهم بالجزية، كأهل الكتاب، فيباح صيدهم وذبائحهم، وقد أنكر عليه العلماء ذلك واعتبروه خلافا لإجماع من سبقه من السلف، قال ابن قدامة في [المغني] : قال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، قال أحمد: هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا يعرف بأبي ثور، وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم: ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو برزة وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومرة الهمذاني ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، قال أحمد: ولا أعلم أحدا قال بخلافه، إلا أن يكون صاحب بدعة، ولأن الله تعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬6) فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار، ولأنهم لا ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة الأنعام الآية 121 (¬3) سورة المائدة الآية 3 (¬4) سورة المائدة الآية 5 (¬5) موطأ مالك الزكاة (617) . (¬6) سورة المائدة الآية 5

كتاب لهم فلا تحل ذبائحهم كأهل الأوثان. . ثم قال: (وإنما أخذت منهم الجزية؛ لأن شبهة الكتاب تقتضي تحريم دمائهم فلما غلبت في تحريم دمائهم وجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم ذبائحهم ونسائهم؛ احتياطا للتحريم في الموضعين، وأنه إجماع فإنه قول من سمينا، ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم، إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافها) انتهى من [المغني] . وإن كان الذابح من المشركين عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن سوى المجوس وأهل الكتاب فقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائحهم، سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا، ودل قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) بمفهومه على تحريم ذبائح غيرهم من الكفار، وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر في سياق الحكم بالحل فائدة، وكذا من انتسب إلى الإسلام وهو يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويستغيث بغير الله فذبائحهم كذبائح الكفار والوثنيين والزنادقة فلا تحل ذبائحهم، ولأدلة مفهوم الآية على ذلك، كلاهما مخصص لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2) وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬3) الآية. فلا يصح الاستدلال بهاتين الآيتين وما في معناهما على حل ذبائح عباد الأوثان ومن في حكمهم ممن ارتد عن الإسلام بإصراره على استغاثته بغير الله ودعائه إياه من الأموات ونحوهم بعد البيان له وإقامة الدليل عليه بأن ذلك شرك كشرك الجاهلية الأولى، كما أنه لا يصح الاعتماد في حل ذبائح من استغاث بغير الله من الأموات ونحوهم واستنجد بغيره فيما هو من اختصاص الله إذا ذكر اسم الله عليها بعدم ذكر ذبائحهم صراحة في آية: ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة الأنعام الآية 118 (¬3) سورة الأنعام الآية 119

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) وما في معناها من الآيات التي ذكر الله فيها ما حرم على عباده من الأطعمة، فإن ذبائح هؤلاء وإن لم تذكر صراحة في نصوص الأطعمة المحرمة فهي داخلة في عموم الميتة؛ لارتدادهم عن الإسلام من أجل ارتكابهم ما ينافي أصل إيمانهم وإصرارهم على ذلك بعد البيان، ومن زعم أن إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان يأكل من ذبائح أهل نجد وهم يدعون زيد بن الخطاب فزعمه خرص وتخمين، ومجرد دعوى لا يشهد لها نقل عنه رحمه الله، بل هي مخالفة لما تشهد به كتبه ومؤلفاته من الحكم على من يدعو غير الله، من ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد لله صالح فيما لا يقدر عليه إلا الله، بأنه مشرك مرتد عن الإسلام بل شركه أشد من شرك أهل الجاهلية، فالحكم فيه وفي ذبائحه كالحكم فيهم أو أشد، وقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائح الكفار غير أهل الكتاب، وإن ذكروا عليها اسم الله؛ لأن التسمية على الذبيحة نوع من العبادة فلا تصح إلا مع إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله سبحانه {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2) والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 115 (¬2) سورة الأنعام الآية 88

مقال للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد حول اللحوم المستوردة

ونشرت مجلة الدعوة في عددها (697) يوم الاثنين الموافق 26 من جمادى الأولى عام 1399 هـ مقالا حول (اللحوم المستوردة) بقلم فضيلة الشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد رئيس هيئة التمييز. نصه: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه. . . أما بعد: فقد وردت عدة أسئلة عن اللحوم التي ترد في علب ونحوها من

الخارج، فأقدمت على الإجابة، وإن كنت لست أهلا لذلك لقصر باعي، وقلة اطلاعي، فأقول وبالله التوفيق: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) وهذه الآية العظيمة من آخر ما نزل. . تدل على إحاطة الشريعة وكمالها، فلم تحدث حادثة ولن تحدث إلا والشريعة المحمدية قد أوضحت حكمها وبينته، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بين البيان المبين، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (¬2) » . . . وقال أبو ذر: (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يقلب جناحيه في الهواء إلا ذكر لنا منه علما. . .) وقال العباس: (ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجا) فهذه اللحوم المستوردة من الخارج، والمحفوظة في علب أو نحوها قد بينت الشريعة الإسلامية حكمها غاية البيان، فإن اللحوم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن يتحقق أنها من ذبائح أهل الكتاب، فهذه حلال بنص الكتاب والسنة والإجماع، ولم يقل بتحريمها أحد يعتد بخلافه، قال سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3) قال ابن عباس وغيره: طعامهم ذبائحهم، وهذا دون باقي الكفار فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين؛ لأن أهل الكتاب يتدينون بتحريم الذبح لغير الله، فلذلك أبيحت ذبائحهم دون غيرهم، وروى سعيد عن ابن مسعود ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) . (¬3) سورة المائدة الآية 5

رضي الله عنه قال: (لا تأكلوا من الذبائح إلا ما ذبح المسلمون وأهل الكتاب) ، وفي حديث أنس: «أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خبز شعير، وإهالة سنخة (¬1) » . رواه أحمد، والإهالة: الودك، والسنخة: المتغيرة، وحديث اليهودية التي أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم الشاة المصلية، وثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال: «أدلي جراب يوم خيبر فاحتضنته، وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا، والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم (¬2) » ، وقد صح «أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة» وتوضأ عمر من جرة نصرانية. القسم الثاني: أن تكون هذه اللحوم من ذبائح غير أهل الكتاب؛ كالمجوس، والهندوس، وعبدة الأوثان، ونحوهم فهذه اللحوم حرام، ولم يقل بإباحتها أحد يعتد به، ولما اشتهر قول أبي ثور بإباحتها أنكره عليه العلماء، فقال الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، وكل قول لا يؤيده الدليل لا يعتبر، وليس كل خلاف جاء معتبرا حتى يكون له حظ من النظر. قال الله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3) مفهومه: أن غير أهل الكتاب لا تباح ذبائحهم، وروى أحمد بإسناده عن قيس بن السكن الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم نزلتم بفارس من النبط، فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا» ، ولأن أهل الكتاب يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، كما ذكره ابن كثير وغيره بخلاف غيرهم، والمجوس وإن أخذت منهم الجزية تبعا لأهل الكتاب وإلحاقا بهم فإنهم لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم، وأما ما يروى «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (¬4) » فلم يثبت ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (3/211) . (¬2) صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) ، سنن الدارمي السير (2500) . (¬3) سورة المائدة الآية 5 (¬4) موطأ مالك الزكاة (617) .

بهذا اللفظ، على أنه لا دليل فيه، إذ المراد: سنوا بهم سنة أهل الكتاب فيما ذكر من أخذ الجزية منهم، ولو سلم بصحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) القسم الثالث: أن لا يعلم هل هي من ذبائح أهل الكتاب أو غيرهم: فالقواعد الشرعية تقضي بالتحريم، فإن القاعدة الشرعية: أنه إذا اشتبه مباح بمحرم حرم أحدهما بالأصالة والآخر بالاشتباه، والقاعدة الأخرى: إذا اجتمع مبيح وحاظر قدم الحاظر؛ لأنه أحوط وأبعد من الشبهة. والأدلة دلت على البعد عن مواضع الشبهة، كما في الحديث: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه (¬2) » ، وفي حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬3) » رواه النسائي والترمذي وصححه، ومما استدلوا به على التحريم في موضع الاشتباه: حديث عدي رضي الله عنه: «وإذا أرسلت كلبك المعلم فوجدت معه كلبا آخر فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره (¬4) » وفي رواية: «إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله (¬5) » متفق عليه. أما هذه اللحوم فإنها وإن كانت تستورد من بلاد تدعي أنها كتابية فإنها حرام وميتة ونجسة، فلا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتحرم قيمتها، كما في الحديث «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه (¬6) » وذلك لوجوه عديدة: أولا: أن هذه الدول في الوقت الحاضر قد نبذت الأديان وخرجت ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) . (¬3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) . (¬4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5476) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4269) ، سنن أبو داود الصيد (2854) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) ، سنن الدارمي الصيد (2002) . (¬5) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5486) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1470) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4263) ، سنن أبو داود الصيد (2847) ، سنن ابن ماجه الصيد (3208) ، مسند أحمد بن حنبل (4/257) ، سنن الدارمي الصيد (2002) . (¬6) سنن أبو داود البيوع (3488) ، مسند أحمد بن حنبل (1/247) .

عليها، وكون الشخص يهوديا أو نصرانيا هو بتمسكه بأحكام ذلك الدين، أما إذا تركه ونبذه وراء ظهره فلا يعد كتابيا، والانتساب فقط دون العمل لا ينفع، كما أن المسلم مسلم بتمسكه بدين الإسلام، فإذا تركه فليس بمسلم، ولو كان أبواه مسلمين، فإن مجرد الانتساب لا يفيد. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في نصارى بني تغلب: إنهم لم يأخذوا من دين النصرانية سوى شرب الخمر. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية - رحمه الله - بعد كلام: وكون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم يستفيد بنفسه لا بنسبه، فكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل أو قبل ذلك، وهو المنصوص الصريح عن أحمد وكان بين أصحابه خلاف، وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم، وذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم. الثاني: أن ذبائح المذكورين الآن إما موقوذة أو مختنقة، والمختنقة التي تخنق فتموت والموقوذة التي تضرب فتموت، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} (¬1) وقد تحقق أن هذه الدول الآن تقتل البهيمة إما بواسطة تسليط الكهرباء فتموت خنقا، وإما بضربها بمطرقة في مكان معروف لديهم فتموت حالا وهذا محقق عنهم لا يمتري فيه أحد فقد كتبت عنهم عدة كتابات في هذا الصدد. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3

فتحقق أن ذبائحهم ما بين منخنقة وموقوذة، وهذه لا يمتري أحد بتحريمها، فقد حرمها الله في كتابه، وقرن تحريمها بتحريم الميتة والخنزير وما أهل به لغير الله، وهذا غاية في التنفير والتحريم فلا يبيحها كون خانقها أو واقذها منتسبا لدين أهل الكتاب. وقد صرح العلماء: أن من شروط صحة الذبح الآلة، وللآلة شرطان: أحدهما: أن تكون محددة تقطع، أو تخرق بحدها، لا بثقلها، وفي حديث عدي قال: «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض فقال: ما أصاب بحده فكله، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ (¬1) » . والثاني: أن لا تكون سنا ولا ظفرا، فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء حل الذبح به؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر (¬2) » متفق عليه. وقال في [المغني] : وأما (المحل) أي: محل الذبح فالحلق واللبة، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع. الثالث: أن الله أباح ذبائح أهل الكتاب؛ لأنهم يذكرون اسم الله عليها، كما ذكره ابن كثير وغيره، أما الآن فقد تغيرت الحال، فهم ما بين مهمل لذكر الله، فلا يذكرون اسم الله ولا اسم غيره، أو ذاكر لاسم غيره؛ كاسم المسيح، أو العزير، أو مريم، ولا يخفى حكم ما أهل لغير الله به في سياق المحرمات {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬3) وفي حديث علي «لعن الله من ذبح لغير الله (¬4) » الحديث. رواه مسلم والنسائي، أو ذاكر عليه اسم الله واسم غيره، أو ذابح لغير الله كالذي يذبح للمسيح أو عزير أو باسمهما، فهذا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5475) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) ، سنن الترمذي الصيد (1471) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4274) ، سنن ابن ماجه الصيد (3214) ، مسند أحمد بن حنبل (4/256) . (¬2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5509) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) . (¬3) سورة البقرة الآية 173 (¬4) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .

لا يشك مسلم بتحريمه، وأنه مما أهل به لغير الله، وذكر إبراهيم المروذي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل لغير الله. اهـ. فمن ذبح للصنم أو لموسى أو لعيسى أو غيرهما فكل هذا حرام، ولا تحل الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما أو كافرا، وبعضهم أباح هذه الذبائح مستدلا بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) وهذه ذبائحهم، والصحيح: ما ذكرنا؛ لما أشرنا إليه من الأدلة، ولا مخالفة حتى يطلب الجمع، إذ ذبيحة الكتابي مباحة، فلا تباح المنخنقة والموقوذة وما أهل به لغير الله؛ لأن خانقها وواقذها وذابحها من أهل الكتاب. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية بعد كلام في الجمع بين قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬2) وقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3) قال: والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه كلام أحمد من الحظر، وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال؛ وذلك لأن قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} (¬4) عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشرط له الذكاة المبيحة، فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله وذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك، فكذلك الذمي؛ لأن قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (¬5) سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا، ونحن لا نستحله، فليس كل ما استحلوه يحل لنا، ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح، فالحاظر أولى أن يقدم، ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام - فهو من الشرك الذي قد ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) سورة البقرة الآية 173 (¬3) سورة المائدة الآية 5 (¬4) سورة البقرة الآية 173 (¬5) سورة المائدة الآية 5

أحدثوه، فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا، والله أعلم. اهـ. وأما حكم متروك التسمية فقط عمدا أو سهوا فهذه المسألة الخلاف فيها شهير والحكم ولله الحمد واضح. الرابع: أن موضوع الذبح الاختياري معروف، وهو في الحلق واللبة، ولا يجوز في غير ذلك إجماعا، وروى سعيد والأثرم عن أبي هريرة قال: «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بديل بن ورقاء يصيح في فجاج مكة: ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» رواه الدارقطني بإسناد جيد، وروي عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شريطة الشيطان، وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج (¬1) » . رواه أبو داود. وروى سعيد في [سننه] عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أهريق الدم وقطع الودج فكل. إسناده حسن، والودجان: عرقان بالحلقوم، وهذا معدوم في ذبائح المذكورين كما ذكرناه سابقا فلا تحل، قال في [مغني ذوي الأفهام] : الثالث: أن يقطع الحلقوم والمريء بالآلة، فإن خنقها أو عصر رأسها بيده أو ضربها بحجر أو عصا على محل الذبح - لم يحل أكلها. الخامس: لو فرضنا أنه يوجد في تلك البلدان من يذبح ذبحا شرعيا، ويوجد من يذبح ذبحا آخر كالخنق والوقذ، فلا تحل للاشتباه، كما هي قاعدة الشرع المعروفة، ولحديث عدي المتقدم، قال ابن رجب بعد كلام: وما أصله الحظر؛ كالأبضاع، ولحوم الحيوان فلا تحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لسبب آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فما أصله الحرمة بني على التحريم؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم أو كلب غير كلبه. اهـ. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الضحايا (2826) ، مسند أحمد بن حنبل (1/289) .

أما حديث عائشة: أن أناسا يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سموا الله أنتم وكلوا (¬1) » أخرجه البخاري. فالجواب: أن هؤلاء مسلمون ولكنهم في الحديث حديث عهدهم بالإسلام، وإنما أشكل هل يسمون أم لا والتسمية سهلة بالنسبة إلى غيرها فإن المذكورين في حديث عائشة مسلمون، والأصل في ذبحهم الإباحة، وكذلك فيما جلب من بلاد المسلمين كان هو معروفا ومصرحا به في كلام أهل العلم. وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذه العجالة. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .

فتوى للشيخ محمد بن صالح العثيمين

وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم أكل اللحوم الواردة من الخارج. فقال: هذا سؤال كثر التساؤل فيه وعمت البلوى به وحكمه يتبين بتحرير ثلاث مقامات: المقام الأول: حل ذبيحة أهل الكتاب، وهم: اليهود والنصارى. المقام الثاني: إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل. المقام الثالث: الحكم على هذا اللحم الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته. فأما المقام الأول: فإن ذبيحة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) حلال دل على حلها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (¬1) قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5

طعامهم: ذبائحهم، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير والحسن وإبراهيم النخعي، ولا يمكن أن يكون المراد بطعامهم التمر والحب ونحوهما فقط؛ لأن قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬1) لفظ عام فتخصيصه بالتمر والحب ونحوهما خروج عن الظاهر بلا دليل، ولأن التمر ونحوه من الطعام حلال لنا من أهل الكتاب وغيرهم، فلو حملت الآية عليه لم يكن لتخصيصه بأهل الكتاب فائدة. وأما السنة: فقد ثبت في [صحيح مسلم] (¬2) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة وأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك فقال: ما كان الله ليسلطك على ذاك (¬3) » وفي [مسند الإمام أحمد] عن أنس أيضا: «أن يهوديا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه (¬4) » ، والإهالة السنخة: ما أذيب من الشحم والإلية وتغيرت رائحته، وفي [صحيح البخاري] عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: «كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت لأخذه، فالتفت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستحييت منه (¬5) » ، وفي رواية لمسلم عنه قال: «أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبتسما» . فهذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإقراره في حل ذبائح أهل الكتاب. وأما الإجماع: فقد حكى إجماع المسلمين على حل ذبائح أهل الكتاب ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5 (¬2) [صحيح مسلم] (7\14) ط \ صبيح. (¬3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2617) ، صحيح مسلم السلام (2190) ، سنن أبو داود الديات (4508) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (3/211) . (¬5) صحيح البخاري فرض الخمس (3153) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1772) ، سنن النسائي الضحايا (4435) ، سنن أبو داود الجهاد (2702) ، مسند أحمد بن حنبل (5/56) ، سنن الدارمي السير (2500) .

غير واحد من أهل العلم منهم: صاحب [المغني] (¬1) ، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية قال (¬2) : ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وقال: مازال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم، فمن خالف ذلك فقد أنكر إجماع المسلمين. اهـ. ونقل الإجماع ابن كثير في [تفسيره] (¬3) المطبوع مع [تفسير البغوي] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا (¬4) : بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده داخلا في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، والمنصوص الصريح عن أحمد - وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف - وهذا القول هو الثابت عن الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا أعلم في ذلك بين الصحابة نزاعا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم. اهـ. كلامه - رحمه الله -. وبهذا تحدد المقام الأول: وهو حل ذبيحة أهل الكتاب: (اليهود والنصارى) بالكتاب والسنة والإجماع، فأما غيرهم من المجوس والمشركين وسائر أصناف الكفار - فلا تحل ذبيحتهم؛ لمفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬5) فإن مفهومها: أن غير أهل الكتاب لا يحل لنا ¬

_ (¬1) [المغني] (8\ 567) ط \ دار المنار. (¬2) [مجموع الفتاوى] (35\ 232) . (¬3) [تفسير ابن كثير] (3\ 8) . (¬4) [مجموع الفتاوى] (35\ 223، 224) . (¬5) سورة المائدة الآية 5

طعامهم، أي: ذبائحهم؛ ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - لما فتحوا الأمصار امتنعوا عن ذبائح المجوس، وقال في [المغني] (¬1) : أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما لا ذكاة له؛ كالسمك والجراد، وقال: وأبو ثور أباح صيده وذبيحته، وهذا قول يخالف الإجماع فلا عبرة به، ثم نقل عن أحمد أنه قال: لا أعلم أحدا قال بخلافه أي بخلاف تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا أن يكون صاحب بدعة. اهـ. قال: وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان، والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم، لكن ما لا يشترط لحله الذكاة كالسمك والجراد فهو حلال من المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم. المقام الثاني: إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل. وهذا المقام له ثلاث حالات: الحال الأولى: أن نعلم أن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية: بأن يكون ذبحه في محل الذبح، وهو الحلق، وأن ينهر الدم بمحدد غير العظم والظفر، وأن يذكر اسم الله عليه، فيقول الذابح عند الذبح: بسم الله، ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك؛ لأنه ذبح وقع من أهله على الطريقة التي أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - المذبوح بها حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدي الحبشة (¬2) » رواه الجماعة، واللفظ للبخاري، وفي رواية له: «غير السن والظفر، فإن السن عظم، والظفر مدي الحبشة (¬3) » وطريق ¬

_ (¬1) [المغني] (8\ 570) . (¬2) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) . (¬3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5544) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .

العلم بأن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية: أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من حصل العلم بخبره. الحال الثانية: أن نعلم أن ذبحه على غير الطريقة الإسلامية، مثل: أن يقتل بالخنق، أو بالصعق، أو بالصدم، أو يضرب الرأس ونحوه، أو يذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه - ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬2) ولمفهوم ما سبق من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا (¬3) » وطريق العلم بأنه ذبح على غير الطريقة الإسلامية أن نشاهد ذبحه أو يخبرنا عنه من يحصل العلم بخبره. الحال الثالثة: أن نعلم أن الذبح وقع ولكن نجهل كيف وقع بأن يأتينا ممن تحل ذبيحتهم لحم أو ذبيحة مقطوعة الرأس، ولا نعلم على أي صفة ذبحوها، ولا هل سموا الله عليها أم لا؟ . ففي هذه الحال المذبوح محل شك وتردد، ولكن النصوص الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقتضي حله، وأنه لا يجب السؤال تيسيرا على العباد، وبناء على أصل الحل، فقد سبق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من الشاة التي أتت بها إليه اليهودية، وأنه أجاب دعوة يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة، وفي كلتا القضيتين لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الذبح، ولا هل ذكر اسم الله عليه أم ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سورة الأنعام الآية 121 (¬3) صحيح البخاري الشركة (2507) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .

لا؟ وفي [صحيح البخاري] عن عائشة - رضي الله عنها -: «أن قوما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن قوما أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (¬1) » ، فقد أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل هذا اللحم مع الشك في ذكر اسم الله عليه وهو شرط لحله، وقرينة الشك موجودة وهي كونهم حديثي عهد بالكفر، فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام، وإحلال النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك مع الشك في وجود شرط الحل (وهي التسمية) وقيام قرينة على هذا الشك (وهي كونهم حديثي عهد بالكفر) دليل على إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل؛ لأن الأصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة، قال في [المنتقى] بعد أن ذكر حديث عائشة السابق: وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد. اهـ. وما يرد إلينا مما ذبحه اليهود أوالنصارى غالبه ما جهل كيف وقع ذبحه، فيكون تحرير المقام فيه إجراؤه على أصل الحل وعدم وجوب السؤال عنه. المقام الثالث: الحكم على هذا الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته. وهذا المقام له ثلاث حالات أيضا. الحال الأول: أن نعلم أن من ذبحه تحل ذبيحته وهم المسلمون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك لوقوع الذبح الشرعي من أهله، وطريق العلم بذلك أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره، أو يكون مذبوحا في محل ليس ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5507) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) .

فيه إلا من تحل ذبيحته. الحال الثانية: أن نعلم أن من ذبحه لا تحل ذبيحته كالمجوس وسائر الكفار غير أهل الكتاب، ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك لوقوع الذبح من غير أهله، وطريق العلم بذلك: أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره، أو يكون مذبوحا في محل ليس فيه من تحل ذبيحته. الحال الثالثة: أن لا نعلم هل ذابحه من تحل ذبيحته أو لا؟ وهذا هو الغالب على اللحم الوارد من الخارج، فالأصل هنا التحريم فلا يحل الأكل منه؛ لأننا لا نعلم صدور هذا الذبح من أهله. ولا يناقض هذا ما سبق في الحال الثالثة من المقام الثاني، حيث حكمنا هناك بالحل مع الشك؛ لأننا هناك عملنا بصدور الفعل من أهله، وشككنا في شرط حله، والظاهر صدوره على وجه الصحة والسلامة حتى يوجد ما ينافي ذلك، بخلاف ما هنا: فإننا لم نعلم صدور الفعل من أهله، والأصل التحريم، لكن إن وجدت قرائن ترجح حله عمل بها. فمن القرائن: أولا: أن يكون مورده مسلما ظاهره العدالة، ويقول: إنه مذبوح على الطريقة الإسلامية فيحكم بالحل هنا؛ لأن حال المسلم الظاهر العدالة تمنع أن يورد إلى المسلمين ما يحرم عليهم ثم يدعي أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية. ثانيا: أن يرد من بلاد أكثر أهلها ممن تحل ذبيحتهم فيحكم ظاهرا بحل الذبيحة تبعا للأكثر، إلا أن يعلم أن المتولي الذبح ممن لا تحل ذبيحته فلا

يحكم حينئذ بالحل لوجود معارض يمنع الحكم بالظاهر. قال في [المنتهى وشرحه] : ويحل حيوان مذبوح منبوذ بمحل يحل ذبح أكثر أهله بأن كان أكثرهم مسلمين أو كتابيين ولو جهلت تسمية ذابح. اهـ. وإذا كان الحل في هذا الحال مبنيا على القرائن فالقرائن إما أن تكون قوية فيقوى القول بالحل، وإما أن تكون ضعيفة فيضعف القول بالحل، وإما أن تكون بين ذلك فيكون الحكم مترددا بين الحل والتحريم، والذي ينبغي حينئذ سلوك سبيل الاحتياط واجتناب ما يشك في حله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه؛ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه (¬2) » ، وفي رواية: «ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان (¬3) » متفق عليه. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. مهره الفقير إلى الله: محمد بن صالح العثيمين. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) . (¬2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2051) .

ثالثا ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية تذكية الحيوانات المستوردة من بلاد الكفار إلى المملكة العربية السعودية

ثالثا: ذكر ما ورد إلى هذه الرئاسة عن كيفية تذكية الحيوانات المستوردة من بلاد الكفار إلى المملكة العربية السعودية: نثبت تحت هذا العنوان ما ورد إلى هذه الرئاسة من معالي وزير التجارة والصناعة، وما ورد إليها من معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الموضوع، ثم ما ورد من الدعاة المبعوثين للدعوة في

تلك البلاد عن كيفية التذكية فيها، ثم ما كتبه بعض أهل الغيرة في المجلات الإسلامية عن كيفية الذبح في تلك البلاد. أ- كتب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ سابقا كتابا برقم (2029\1) في 23\5\1393هـ إلى معالي وزير التجارة والصناعة يستفسر فيه عن كيفية ذبح اللحوم المستوردة هل هو بالصعق الكهربائي أو بالخنق؟ . فأجاب معالي الوزير بما نصه: سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الموقر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نشير إلى خطابكم رقم (3745) وتاريخ 20\8\1393هـ المعطوف على سابقه رقم (2029\1) في 23\5\1393هـ الذي تستفسرون فيه عن كيفية الذبح: هل بالصعق الكهربائي أو بالخنق أو بالمقصلة؟ وكذلك أنواع اللحوم المستوردة معلبة وغير معلبة. نفيد سماحتكم: أنه بناء على تقصي هذه الوزارة من المصادر العديدة اتضح لها: أن اللحوم المستوردة إلى المملكة والتي ترد من بلدان مختلفة يتم الذبح فيها بالطرق الآتية: (1) هنغاريا: ذبح الطيور الداجنة والأبقار المصدرة للدول العربية يتم حسب التعاليم الإسلامية، وأن كل إرسالية معدة للتصدير مرفقة بما يسمى (شهادة حلال) ، وأن هنغاريا تقوم بتصدير مسالخ كاملة معدة للعمل حسب التعاليم الإسلامية.

(2) الدانمرك: ذبح الكميات الكبيرة من الأبقار والطيور الداجنة يتم بواسطة الآلات، وذلك في مسالخ عدة، ويتم الذبح حسب التعاليم الإسلامية بالنسبة للمصدر للدول الإسلامية. (3) الولايات المتحدة الأمريكية: للذبح أربع طرق: الأولى: كيميائية بواسطة ثاني أكسيد الكربون، الثانية: ميكانيكية بواسطة آلة حادة، الثالثة: ميكانيكية بواسطة قذيفة نارية، الرابعة: كهربائية بواسطة التيار الكهربائي، وهذه الطرق لا تتبع إلا بعد نزف دم الحيوان. (4) هولندا: الطيور تصعق بتيار كهربائي ثم يتم ذبحها من العنق. (5) بلجيكا: تتعرض الحيوانات المعدة للاستهلاك لعملية فقد الوعي قبل إسالة دمائها؛ إما عن طريق التيار الكهربائي، أو عن طريق آلات حادة أو مسدسات خاصة. (6) ألمانيا الغربية: الطيور المعدة للذبح تبقى 24 ساعة قبل ذبحها في حالة استرخاء وراحة تعطى خلالها ماء للشرب ثم تتعرض قبل إسالة الدماء منها خلال أوردتها إلى عملية إفقاد الوعي عن طريق التيار الكهربائي أو الغازات الخاصة أو الأدوات الحادة. (7) السويد: المواشي المعدة للذبح تستريح لمدة 24 ساعة قبل الذبح ثم يتم إفقادها الوعي (لأسباب إنسانية لا علاقة لها بجودة اللحم) بواسطة آلة حادة (مسدس) فتصعق تمهيدا لعملية إخراج الدم منها بواسطة ضربها بآلة حادة (سكين) . (8) بلغاريا: ذبح الطيور والمواشي يتم حسب الطريقة الإسلامية بموجب شهادة خاصة من السلطات الإسلامية يتم إصدارها لكل شحنة.

ونقترح: إيفاد ثقات من أصحاب الفضيلة العلماء لزيارة الدول التي يوجد بها مصانع لإعداد اللحوم المستوردة بأنواعها للوقوف على حقيقة الذبح ولتقرير أيها يمكن التعامل معه، وربما يرى سماحتكم أن تكون هذه الزيارة للتأكد من استمرار تلك المصانع باتباع الطريقة الإسلامية في الذبح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وزير التجارة والصناعة محمد العوضي وكتب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كتابا برقم (737\2) في 28\3\1398هـ إلى معالي وزير التجارة والصناعة بشأن اللحوم المستوردة من بلاد الكفار، فأجابه معالي الوزير بما نصه: صاحب المعالي فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . وبعد. إشارة لخطاب معاليكم رقم 737\2\ في 28\3\1398هـ بشأن اتصالات بعض الناس بكم حول وجود كميات من اللحوم ترد البلاد من بعض الدول الاشتراكية، وما ذكرتموه من أن ذبيحة الشيوعيين وغيرهم من الكفار غير أهل الكتاب - وهم: اليهود والنصارى - حرام على المسلمين، أرجو إحاطة معاليكم: أن الأجهزة المختصة في هذه الوزارة وفي مصلحة الجمارك تحرص دائما على التثبت من صحة شهادات الذبح على الطريقة

الإسلامية وكونها مصدقة من سفارات المملكة إن وجدت أو سفارات الدول الإسلامية الأخرى، كما أن هذه السفارات على معرفة بالجهات التي تصدر هذه الشهادات، سواء كانت جمعيات إسلامية أو مؤسسات فردية معترف بها، كما لا يخفاكم أن البلدان التي ذكرتموها فيها الكثيرون من أهل الكتاب ومن المسلمين على الرغم من أن نظامها السياسي نظام ماركسي، بل إن المعلومات التي لدى الوزارة تدل على أن الكثير من الأتراك المسلمين يقومون بالذبح في هذه البلدان، ولا يخفى معاليكم أن هذه البلدان عندما توفر الذبح على الطريقة الإسلامية فإنما تفعل ذلك حرصا على تصريف منتجاتها في العالم الإسلامي الواسع، ولحاجتها الماسة إلى العملة الصعبة، ولأنهم يدركون أن لهم منافسين من بلدان أخرى يعملون عادة على الكتابة للجهات الرسمية في البلدان الإسلامية لاستشارتهم ضد منتجاتهم عن طريق التشكيك بطريقة الذبح. وأود بهذه المناسبة أن أؤكد لمعاليكم بأن هذه الوزارة حريصة على أن يهنأ المواطنون والمقيمون بطعامهم لا عن طريق التأكد من توافر الشروط الصحية والذي تهتم به مختبرات الجودة النوعية بالتعاون مع وزارة الزراعة فقط، وإنما كذلك بالحرص على توافر الشروط الشرعية في الذبح، وفي نفس الوقت يقع على عاتق هذه الوزارة تأمين أكثر ما يمكن من مصادر السوق العالمية لرجال الأعمال السعوديين لتوفير جو المنافسة ومنع حدوث نقص في المعروض من المواد الغذائية وخاصة اللحوم، وهو الأمر الذي حدث قبل سنوات قليلة، عندما كان اعتماد المملكة كليا تقريبا على الصومال فكانت النتيجة حدوث نقص في المعروض من الأغنام

والأبقار والإبل عندما أصيب ذلك البلد بالجفاف. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وزير التجارة سليمان السليم ب- وكتب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ محمد الحركان كتابا إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في موضوع اللحوم المستوردة نصه: سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - بالرياض. . . الموقر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد: فيطيب لي أن أبعث لسعادتكم بخالص التحية وأطيب الأمنيات، كما أود أن أحيطكم علما بأنه قد وردت إلينا عدة تقارير رسمية وغير رسمية تفيد بأن بعض الشركات الاسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية وخاصة شركة (حلال الصادق) التي يملكها القادياني (حلال صادق) لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح المواشي (الأبقار والأغنام والطيور) وحرصا من الأمانة العامة للرابطة على تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الموضوع فقد قررنا التعاون مباشرة مع الاتحاد الاسترالي للجمعيات الإسلامية ليقوم بالإشراف الكامل على جميع المذابح وإعطاء شهادات معتمدة للشركات المصدرة للحوم وختمها بخاتمه الرسمي.

لهذا نأمل التكرم بالإيعاز إلى الجهات المختصة والفرق التجارية في بلادكم الشقيقة للتعاون معنا وأخذ الحيطة لعدم دخول أية لحوم مستوردة من هذا البلد إلا عن طريق وبشهادة الاتحاد المذكور؛ ضمانا لشرعية الذبح، وتفاديا لعدم الوقوع في الأخطاء التي تتنافى مع الإسلام. أسأل المولى عز وجل أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى. والله يحفظكم الأمين العام محمد علي الحركان ج- ورد إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد تقارير من المبعوثين من قبل الرئاسة - الدعوة في الخارج - عن اللحوم المستوردة من بلاد الكفار، نورد فيما يلي نصوصها ثم تلخيصها ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحكم عليها على ضوء ما عرف من القواعد الشرعية في تذكية الحيوانات. أ- تقرير من الداعية الأستاذ أحمد بن صالح محايري، عن اللحوم المستوردة من البرازيل إلى المملكة العربية السعودية - نصه: تقرير في كيفية ذبح الطيور والمواشي الواردة إلى المملكة من البرازيل. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. معالي الرئيس العام العلامة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز المحترم. . حفظه الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد. فتنفيذا لما جاء في رسالة سماحتكم السرية رقم (3442\4) وتاريخ 21\6\1398هـ بشأن التحري عن كيفية ذبح الطيور والمواشي الموردة إلى المملكة فيشرفني أن أرفع لمعاليكم ما يلي: قمت في الفترة الواقعة ما بين 14 رجب (20 حزيران) 1398 إلى (30 من رجب 1398هـ) في جولة بطريق البر إلى سبع مدن برازيلية فيها شركات مصدرة للحوم والدواجن، وهذه المدن هي: كورتيبا - وتبعد عن لوندرينا 450 كيلو مترا. بومطا كروسا - وتبعد 210 كيلو مترا. وكامبوكراندي - وتبعد 750 كيلو مترا. وكويابا - وتبعد 1250 كيلو مترا. وغويانا - وتبعد 110 كيلو مترا. وبروذينتي برودينتي - وتبعد 250 كيلو مترا. وسان جوزيف - وتبعد 375 كيلو مترا. ومع أنني اتصلت بكافة الشركات المصدرة للحوم في هذه المدن واطلعت على كيفية الذبح فيها إلا أنني أقتصر في تقريري هذا - إن شاء الله - على الكلام عن الشركات الموردة للمملكة العربية السعودية، وعن ملاحظاتي واقتراحاتي على ضوء ما وصلت إليه من معلومات خلال جولتي هذه. شركة برنسيسا للدجاج والدواجن: ومكانها في مدينة بونتا كروسا بولاية بارانا في البرازيل، تقوم هذه

الشركة بتربية الدواجن في مزارعها الخاصة وتذبح ما ينوف عن (150) طن في الشهر وتقوم بتغليفها وتصديرها إلى عدة بلدان عربية؛ كمسقط، وعمان، والكويت، والمملكة العربية السعودية، وذلك عن طريق شركة بتروبراز البرازيلية، وذلك ضمن أكياس نايلون وكراتين كتب عليها باللغة العربية ذبح على الطريقة الإسلامية. (وقد أدرجت طيه أحد الأكياس للإحاطة) . ولما طلبت وزارة التجارة في بعض الدول الإسلامية من المستوردين أن يكون مع أوراق الاستيراد ما يثبت أن اللحم المورد ذبح على الطريقة الإسلامية قامت الشركة المذكورة بالاتصال برئيس الجمعية الإسلامية في مدينة كورتيبا القريبة منها والمدعو حسين العميري واتفقت معه أن يشهد خطيا عند كل شحنة: أن الذبح جرى وتم على الطريقة الإسلامية، وذلك لقاء نسبة 1% من قيمة الشحن تدفعها الشركة للمذكور لقاء شهادته هذه، (وتجدون طيه صورة لإحدى الشهادات التي يوقعها المذكور باللغتين العربية والبرتغالية) . وفي 14 رجب 1398هـ توجهت من لوندرينا لهذه الشركة مارا بمدينة كورتيبا لأصطحب معي في الزيارة حسين العميري رئيس الجمعية، وفعلا وصلت إلى مقر الشركة بصحبته في مدينة بونتاكروسا فبعد أن رحب بنا المسئولون طلبت مشاهدة عملية الذبح، وفعلا فقد رأيت بنفسي ما يلي: تعلق الطيور (في هذه الشركة) من أرجلها حية منكوسة الرأس على آلة متحركة تسوقها إلى مكان فيه رجل قائم بسكينة يقطع بها وريد كل دجاجة قادمة، ويبالغ في السرعة ليتمكن من قطع وريد الطير الذي يليه وهكذا. .

ونفس الآلة تسوق الطير المعلق بعد عملية الذبح إلى مكان فيه ماء ساخن لتغمسه فيه كي يتم نتفه وتنظيفه وتعبئته بالأكياس النايلون الآنفة الذكر. والمحظور في عملية الذبح المذكورة: أنه لا يتحقق في الغالب قطع الوريدين لعامل السرعة المفروضة على الذابح، كما أن الدجاج المذبوح يغمس في الماء المغلي بعد مدة وجيزة من الذبح قد لا يكون الطير خلالها قد فارق الحياة فيحصل أنه يموت خنقا، كما يجب التأكد من عقيدة الذابح هل هو كتابي أو وثني؟ . بعد خروجنا من المسلخ عقدت اجتماعا مع مدير وأعضاء الشركة المذكورة وبينت لهم المحاذير الشرعية، والتي لاحظتها في طريقة الذبح، وشرحت لهم كيفية الذبح الإسلامي، وطلبت منهم تطبيقه وخاصة بالنسبة للكميات التي تصدر إلى البلاد الإسلامية. فقال لي مدير الشركة ما يلي: إن شركتنا على استعداد تام لتعديل عملية الذبح كي تصبح على الشريعة الإسلامية تماما، كما يمكننا إجراء تعديل آلات الذبح نفسها وتوظيف رجل مسلم يقوم بعملية الذبح بنفسه، ولكن لا يتحقق هذا الأمر إلا بناء على طلب مسبق بين الكمية اللازمة للتصدير، وعلى ضوئه يمكننا تعديل الأمر حسب الشريعة الإسلامية. وبعد أن غادرنا مكتب الشركة بينت بحكمة ووضوح لرئيس الجمعية خطأه في التوقيع على أن عملية الذبح تمت على الشريعة الإسلامية، وطلبت منه الإقلاع عن ذلك الأمر بالكلية ريثما يشرف بنفسه، أو يوظف من يشرف على عملية الذبح لتكون على الطريقة الإسلامية، فوعدني خيرا

والله أعلم. شركة ساديا أويسته للبقر والدواجن: من أكبر الشركات العالمية للحوم البقر والدواجن، ولها ما ينوف عن عشرين فرعا في الولايات البرازيلية، وتصدر إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ولها مذابح حديثة في كل من سان باولو، وكويابا، وبورت اليكري، وكامبو كراندي، والريو دي جانيرو، ويبلغ تصدير هذه الشركات من الطيور فقط نحو 300 طن في الشهر، وتحصل على شهادات خطية: أن الذبح على الشريعة الإسلامية، من بعض الجمعيات الإسلامية في سان باولو، وأشهرها: جمعية السانتوا مارو الإسلامية، والجمعية الخيرية الإسلامية، لقاء مساعدة مالية تدفعها الشركة للجمعيتين الموقعتين. وتختلف طريقة ذبح الدواجن في هذه الشركة عن الشركة الآنفة الذكر أعني: شركة برنسيسا أن الأولى تذبح الطير المعلق من قدمه في الآلة المتحركة بطريقة أكثر تؤدة مما يجعل قطع الوريدين قد يتحقق في الغالب، ولكن المحظور يبقى قائما، وهو أن الآلة تغمس الذبيحة في الماء الساخن المغلي قبل أن تفارق الروح، كما ليس من المؤكد في هذه الشركة أن يكون الذابح كتابيا، هذا فيما يتعلق بذبح الدواجن في هذه الشركة، أما فيما يتعلق بذبح الأبقار وتصديره إلى المملكة بواسطة هذه الشركة (ساديا) فأرفع لمعاليكم ما يلي: في يوم الأحد 20 رجب - الموافق 25 حزيران - 1398هـ سافرت إلى مدينة كويابا مارا بمدينتي (بريزيدنتي) و (كامبوا كراندي) ، وفي يوم الخميس 24 رجب - 29 حزيران - 1398هـ ذهبت بصحبة رئيس الجمعية

الإسلامية في مدينة كويابا الأستاذ خالد القرعاوي مع سكرتير الجمعية الأخ فيصل فارس لزيارة هذه الشركة، وبعد أن عقدنا اجتماعا مع مدير الشركة المدعو أديسون جواو فرانيسكون ولفيف من المسئولين وبينت لهم في الاجتماع محاسن الذبح على الطريقة الإسلامية، فأخبرني مدير الشركة بأن الشركة كانت تصعق بالكهرباء الذبائح، وتقوم بسلخها بعد ذلك دون أن يخرج الدم، إلا أن الشركة اكتشفت بأن اللحوم التي تذبح بطريقة الصعق الكهربائي سريعا ما تفسد، ولو كانت في الثلاجات، وسريعا ما يتغير لونها إلى رمادي قاتم، حتى أوصى الأطباء البيطريون العاملون في الشركة بوجوب قتل الذبيحة بطريقة يخرج فيها كل الدم، فقاطعته قائلا: والدم لا يخرج من الذبيحة كلية إلا إذا مر من الوريدين بقطعهما، وليس من مكان آخر، فقال: وهكذا نفعل هنا، إذ نذبح يوميا (1500) ألف وخمسمائة رأس بقر للتصدير، فطلبت منه أن أرى بنفسي طريقة الذبح، فألبسونا ألبسة خاصة، وأدخلونا إلى المسلخ، وهو مكان فسيح جدا مقسم إلى أقسام وعند المدخل يساق الثور إلى مكان ضيق ثم يغلق عليه بطريقة لا يستطيع الخلاص، ثم يقوم أحدهم بمطرقة في يده بضرب رأس الثور ضربة غير مميتة بقصد أن يغيب الثور عن وعيه ليمكن السيطرة عليه أثناء الذبح، وفعلا يسقط الثور على الأرض، وفي نفس الثانية واللحظة تتناول قدمه رافعة ترفعها أوتوماتيكيا إلى الأعلى ورأسه منكس في الأسفل فيأتي رجل بسكين، فيشق حلق الرقبة ليصل إلى الوريد، ثم يبدل السكين بمدية أكبر، ويقطع الوريد فينزل الدم بغزارة، وكأنه ينزل من صنبور إلى أن يفارق الحياة، والمهم في هذه الطريقة أن تثار مسألة هذه الضربة الغير مميتة قبل

الذبح، أتقاس في الجواز على صيد الحيوان الشارد الآبق الذي لا يمكن السيطرة عليه؟ وهل يجوز شق جلد الرقبة قبل الذبح أعني قبل قطع الوريدين، ثم إن الذي يباشر عملية الذبح كتابي أو وثني؟ . ولما طلبنا من مدير الشركة أن يطلعنا على كيفية حصولهم على الشهادة الخطية التي تشهد بأن الذبح تم على الطريقة الإسلامية قال: نحصل عليها من بعض الجمعيات الإسلامية في سان باولو، فقلت له: وكيف ذلك وبينكم وبين سان باولو (1800) كيلو مترا. الشركة الأرجنتينية للأغنام: أثناء وجودي في مدينة بوينس أيرس عاصمة الأرجنتين مع فضيلة الشيخ صالح المزروع والدكتور أحمد باحفظ أثناء جولتنا على دول أمريكا اللاتينية - قمنا بزيارة الشركة الأرجنتينية للأغنام التي تصدر لحم الغنم معلبا، ومهروسا، ومقطعا إلى المملكة العربية السعودية. وفي صباح الخميس 10 ذي القعدة 1398هـ توجهنا بصحبة وفد من المركز الإسلامي الأرجنتيني إلى مقر الشركة، وأطلعنا على كيفية ذبح الأغنام، فوجدنا أن آلة تعلق الأغنام إلى أعلى، ويقوم رجل بسكين حادة ليذبح رأس الذبيحة تماما على الشريعة الإسلامية؛ لأنه يقطع الوريدين والمريء معا، إلا أن الأمر لنعته ذبحا شرعيا متوقف على الذابح أكتابي هو أم لا؟ ويقوم المركز الإسلامي الأرجنتيني بتقديم شهادة خطية على أن الذبح جرى على الطريقة الإسلامية عند كل شحنة مصدرة (وطيه تجدون نموذجا من الشهادات التي يصدرها المركز المذكور أدرجها طيه للتكرم بالإحاطة) .

الشركة الدانماركية للحوم: وهذه الشركة الدانماركية بأوربا وليست في البرازيل، ولكن إتماما للفائدة أدرج طيه قصاصة من (مجلة الوطن العربي) التي تصدر عن الجالية العربية في فرنسا - باريس باللغة العربية، وتجدون في القصاصة مقابلة أجرتها الصحيفة مع أحد العمال العرب في الدانمرك المدعو محمد الأبيض المغربي الذي يعمل في مصنع لتعليب اللحوم، فيقول عن اللحوم والدواجن المصدرة إلى البلاد العربية: إنهم يكتبون عليها ذبحت على الطريقة الإسلامية، وهذا غير صحيح؛ لأن القتل يتم كهربائيا في كل الحالات. سماحة الرئيس العام: بعد أن عرضت على معاليكم صورة من عملية الذبح في البرازيل يشرفني أن أرفع أن المركز الإسلامي في برازيليا الذي تم تأسيسه بعضوية السفراء العرب والمسلمين، والذي ليس له حتى الآن منفذ معتمد أو مدير دائم، هذا المركز الإسلامي الذي بنى مدرسة للمسلمين في برازيليا وسرعان ما أغلقها ثم سلمها دون قيد أو شرط لبعض البرازيليين ليفتحا مدرسة برازيلية - نعم، برازيلية المنهج والإدارة - وذلك لفشله في اتخاذ ولو قرار واحد فيما يتعلق بالمسلمين بالمنطقة، هذا المركز الإسلامي قد اتخذ قرارا ليشرف بنفسه على عملية الذبح، وهذه خطوة لو تحققت فإنها جيدة، ولكن كيف يشرف وبينه وبين أماكن الذبح مئات الأميال وليس عنده موظفون ليستخدمهم في هذا؟ . لذا فأقترح أن يصلكم عن طريق وزارة التجارة السعودية أسماء

الشركات الموردة للحوم وعناوينها وأسماء المستوردين؛ وذلك لتعميد مبعوثكم للدعوة في تلك البلاد بزيارة الشركات الموردة؛ لدراسة إمكانية ترشيح مسلم مقيم في تلك المدينة مستعد ليذبح بنفسه أو تحت إشرافه لقاء جعل يكفيه للتفرغ لهذا، على أن تدفع هذا الجعل الشركة نفسها أو المورد، وفي هذه الحالة يشهد مبعوثكم وتحت مسئوليته أن الذبح قد تم بمعرفته وإشراف (فلان) الذي اعتمد للتفرغ والإقامة في مكان الذبح، وبذلك تتوحد الجهود المبذولة، وتصبح الرئاسة هي المعتمدة إن شاء الله للإشراف على جميع أعمال الذبح، علما بأن العدو الإسرائيلي يرسل دوريا مبعوثين من قبله - يهودا - إلى البلاد الموردة للحوم ليذبحوا بأنفسهم ويقيموا بصورة دائمة في أماكن الذبح بأجر يتقاضونه من الشركة الموردة، وقد وصلت مجموعات منهم إلى سان باولو والريو دي جانيرو وكورتيبا وبعض المدن البرازيلية الأخرى لهذا الغرض، كما يوجد في الأرجنتين عناصر يهودية مقيمة لهذا الغرض تتقاضى رواتبها من الشركات الموردة. والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. . والله ولي التوفيق. تلميذكم \ الداعية أحمد صالح محايري يتلخص التقرير فيما يلي: طريقة شركة برنسيسا في ذبح الدجاج 1 - يعلق الدجاج من أرجله بآلة تسير به إلى رجل بيده سكين يقطع به

رقابها بسرعة بالغة، وتمشي بها الآلة إلى ماء ساخن تغمس فيه لينتف ريشها وتنظف، ثم تعد للتصدير. 2 - قد يقطع أحد الوريدين دون الآخر، وقد يغمس الدجاج في الماء الساخن قبل انتهاء موته لزيادة سرعة الذابح وسرعة سير الآلة. 3 - أشك في الذابح هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد. 4 - يكتب على الغلاف ذبح على الطريقة الإسلامية، ويصدق على ذلك من لم يشاهد الذبح بنفسه، ولا بنائب عنه، ويأخذ ذلك أجرة، وذلك بناء على طلب وزارة التجارة من المستوردين كتابة ما يثبت أن الذبح إسلامي. 5 - طلبت من مدير الشركة تعديل طريقة الذبح حتى يكون إسلاميا فوافق على شرط أن نبين له الكمية اللازمة أولا. طريقة الذبح في شركة ساديا أويسته: 1 - طريقتها في ذبح الدجاج كطريقة الشركة السابقة في تعليقها من أرجلها وغمسها بماء ساخن يغلي قبل انتهاء حياتها وكتابة ذبح على الطريقة الإسلامية، والتصديق عليها من جمعيتين إسلاميتين بأجرة، إلا أن الذبح بتؤدة بشق الجلد أولا ثم قطع الوريدين غالبا، وهل الذابح كتابي أو وثني؟ . 2 - أما الأبقار فكانت أولا تصعق بكهرباء ثم تسلخ دون أن يخرج منها دم، ولما بين لهم الأطباء ما في بقاء الدم من الخطر صاروا يضربونها ضربة غير مميتة بمطرقة في رأسها، فإذا سقطت علقت من أرجلها بآلة رافعة، ثم يشق جلد الرقبة ثم يقطع الوريد بسكين آخر، وينزل الدم بغزارة إلى أن

يفارق الحياة، أما حال الذابح والشاهد فكما مضى في ذبح الدجاج. طريقة الشركة الأرجنتينية في ذبح الأغنام: 1 - هناك آلة ترفع الأغنام إلى أعلى ويقطع رجل الوريدين والمريء بسكين على الطريقة الإسلامية. 2 - يكتب الشهادة المركز الإسلامي الأرجنتيني. 3 - لم يعرف حال الذابح. طريقة الشركة الدانماركية للحوم: يقول محمد الأبيض الذي يعيش في الدانمارك ويعمل في مصنع لتعليب اللحوم: إنهم يصعقون الأغنام بالكهرباء على كل حال، يكتبون على صناديقها: مذبوحة على الطريقة الشرعية. أقترح إرسال من يذبح ذبحا شرعيا، أو يشرف على الذبح، فإن اليهود يفعلون ذلك محافظة على موافقة الذبح لما يرونه، ونحن أولى بذلك.

تقرير من الشيخ عبد الله بن علي الغضيه مرشد الرئاسة بالقصيم عن اللحوم المستوردة من لندن وفرنسا نصه: أما عن موضوع الدجاج المستورد وذبحه، فقد حاولت في لندن التعرف على طريقة الذبح فاتصلت بمدير شركة مكائن الذبح متظاهرا أني أريد إقامة مصنع ذبح في المملكة، فأعطاني كتلوجا مصورا عن المصنع الذي تنتجه شركته، فلما قام يشرح لي كيفية العملية، قلت له: إن الدجاجة ظهرت لجهاز التغليف دون قطع رأسها، فسألني مستفهما: ولماذا قطع الرأس؟ فقلت: إننا في الشرق الأوسط لا نأكل رءوس الطيور، وأرفق لسماحتكم صورة فوتوغرافية للمصنع، وفيه أولا: تقف السيارة عند باب

المصنع، كما يتضح لكم في الرسم المترجم، ثم ينزل الدجاج منها فيعلق بأرجله، ثم يمر بآلة مستديرة تنفتح من النصف، فيدخل به رأس الدجاجة، ومكتوب عليه: الذبح بطريقة التدويخ؛ لأنه يضرب رأس الدجاجة هواء شديد الانفجار، فتصبح الدجاجة بعد لا تسمع ولا ترى، وتنتظر الموت بعد لحظات، ثم تمر بجهاز آخر يقطر فيه، إن ظهر منها سائل دم أو غيره، بعده تمر على جهاز يعمل بالبخار أو الماء الحار جدا، وفيه تموت إن كان بها حياة وتخرج منه لأجهزة النتف والتنظيف، إلى أن تخرج لأكياس النايلون، ثم للكرتون الذي كتب عليه باللغة العربية: ذبح على الطريقة الإسلامية، وهذا المصنع صغير، وينتج في الساعة (2000) ألفين دجاجة، ويقول من سألت: إن في فرنسا نفس الطريقة، إلا أنهم يزيدون أن الدجاج إذا اكتمل نموه فإنهم يضعونه في مستودعات شديدة البرودة، ويسحب منها حسب طلب الأسواق، وبالطبع تخرج الدجاجة من هذه المستودعات ميتة، ثم توضع في برك حارة استعدادا للنتف والتصدير، وهذا لم أره، إنما ذكره كل من سافر لفرنسا وأمريكا، وأتمنى لو انتدب أحد لغرض الاطلاع ونقل الحقيقة، وباطلاع سماحتكم على صور المصنع يتضح لكم منه ما ذكرت أسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وأن يصلح أحوال المسلمين، وأن يصلحهم حكاما ومحكومين، والله يحفظكم. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. ثم نشرت له (مجلة الدعوة) السعودية مقالا في عددها (676) بتاريخ 27 من ذي الحجة 1398هـ تحت عنوان: (معلومات عن الدجاج المستورد) جاء فيه ما نصه:

الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، والصلاة والسلام على هادي الخلق إلى الحق نبينا محمد، وآله وصحبه الطيبين. اطلعت على مقال الشيخ الأخ عبد الرحمن بن محمد الإسماعيل المنشور في (مجلة الدعوة) عدد (668) بتاريخ 16 شوال 1398هـ بعنوان (لئلا نأكل حراما) وإنني إذ أشكره لا يفوتني أن أشكر القائمين على شأن (مجلة الدعوة) التي تصدر بالرياض عاصمة المملكة العربية السعودية أعزها الله بطاعته، أضم صوتي مع الشيخ عبد الرحمن، ومع كل المسلمين الذين أصبحوا في حيرة من هذه اللحوم المستوردة التي ملأت أسواقنا، فإذا ما ذهب أحدنا إلى علمائنا الأجلاء مستفتيا عن هذه الذبائح من الدجاج وغيرها - كان جوابهم محيرا، فتارة يقولون: طعام أهل الكتاب حل لنا، وهذا صحيح كما هو نص القرآن، لكن يبرز سؤال آخر: وهل بقي الآن أحد على كتابه من اليهود والنصارى؟ فإن وجد يهودي أو نصراني فهل يحل للمسلم أن يأكل ذبيحته كيفما ذبحها؟ إذ أنه من المعروف أن طرق الذبح قد تنوعت، وأصبح بعضها لا يوافق الطريقة الشرعية للذبح؛ من إراقة الدم، وقطع الودجين، وتوجيه الذبيحة إلى القبلة. . إلخ القواعد الشرعية المنصوص عليها. وهناك بعض العلماء إذا سئل عن الدجاج مثلا قال: سم الله وكل، مستدلا بحديث عائشة - رضي الله - عنها جاء فيه: «إن أناسا قالوا: يا رسول الله،

إن قوما حديثي العهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: سموا الله وكلوه (¬1) » رواه البخاري (¬2) ، ففي هذا الحديث الشريف لم يكن هناك شك إلا هل ذكر اسم الله أم لا؟ وإلا فالذبح شرعي لا شك في ذلك، مع أن معظم العلماء من السلف والخلف لا يجيز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، مستدلين بقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (¬3) وهذا مع الذكر، أما إن ذبح ونسي أن يذكر الله غير عامد لذلك - فقد ورد تفصيل ذلك عن بعض الأئمة - رضي الله عنهم - فيما يلي (¬4) : يقول الإمام أبو حنيفة وأصحابه، ومالك وأحمد بن حنبل في أشهر وأصح الروايات عنهم: أن التسمية إذا تركت على الذبيحة عمدا لم يحل أكلها، وإذا تركت نسيانا حل أكلها، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قد سئل عن الذبيحة التي يتيقن أنه لم يسم عليها هل يجوز أكلها؟ فأجاب بقوله: (الحمد لله، التسمية واجبة عليها بالكتاب والسنة، وهو قول جمهور العلماء، لكن إذا لم يعلم الإنسان هل سمى الذابح أم لم يسم أكل منها، وإن تيقن أنه لم يسم لم يأكل، وكذلك الأضحية) . ويقصد بذلك شيخ الإسلام - رحمه الله -: إذا كان الذابح أهلا للذبح، وهو المسلم الذي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2057) ، سنن النسائي الضحايا (4436) ، سنن أبو داود الضحايا (2829) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3174) ، موطأ مالك الذبائح (1054) ، سنن الدارمي الأضاحي (1976) . (¬2) من كتاب [الإسلام في مواجهة التحديات] للمودودي صـ 141. (¬3) سورة الأنعام الآية 121 (¬4) [الإسلام في مواجهة التحديات] صـ 140، [مجموع الفتاوى] شيخ الإسلام ابن تيمية (35\240) .

يذبح على الطريقة الشرعية، ويذكر اسم الله عليها، فإن نسي ذكر اسم الله جاز الأكل، كما في الحديث المشهور «سم الله وكل (¬1) » لكن إذا تركت التسمية عمدا لا تؤكل، أو أن يكون الذابح كتابيا لم ينحرف عن اعتقاده باليهودية إن كان يهوديا أو نصرانيا محافظا على معتقده، إذ كثرت في العالم الغربي الانحرافات، وانتشرت عندهم المذاهب المعارضة لكل الديانات، مثل: الشيوعية الخبيثة التي تنكر وجود الله، وجميع الديانات السماوية، ولا يوجد في اليهود والنصارى الذين أبيح لنا طعامهم - أي: ذبائحهم - لا يوجد فيهم من هو معتقده إلا شرذمة قليلة يدعون برجال الدين، وهم بعيدون كل البعد عن الذبح والذبائح، إذ أن لهم مناصب رفيعة ومكانة عالية، فلا يتولى الذبح هناك إلا بعض صغار العمال من الشباب المنحرف الذي لا يلتزم بدين، ومعظمهم دهري وثني. هذا ولا يخفى على مسلم أن أي ذبيحة ذبحت على غير الطريقة الإسلامية؛ كالغطس بالماء الحار، أو الضرب حتى تدوخ وتموت، أو أي نوع من أنواع القتل المخالف للشرع، فلا يخفى أنها حرام وإن ذكر اسم الله عليها، إذ أن الله تعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬2) الآية. فبعد ما ذكر الله هذه الأنواع القاتلة للحيوان، وأنها محرمة، والحالة هذه، قال جل وعلا: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬3) أي: إذا حصلت هذه الأنواع على ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأطعمة (5376) ، صحيح مسلم الأشربة (2022) ، سنن أبو داود الأطعمة (3777) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3267) ، مسند أحمد بن حنبل (4/26) ، موطأ مالك الجامع (1738) ، سنن الدارمي الأطعمة (2019) . (¬2) سورة المائدة الآية 3 (¬3) سورة المائدة الآية 3

حيوان مما أحل الشرع أكله ثم لم يمت ووجدت به حياة مستقرة ثم ذبح وذكر اسم الله عليه - فحلال وإلا فلا. هذا الدجاج المستورد مذبوحا هل نأكله؟ إن من يلقي نظرة على أسواقنا وبقالاتنا يجد بها أعدادا كبيرة جدا من الدجاج المستورد والمذبوح خارج بلادنا، والذي لا يصل إلينا إلا بعد مدة طويلة من ذبحه، ويكتب على ظروفه (ذبح على الطريقة الإسلامية) فهل يا ترى إذا كتبت هذه العبارة يحل أن نأكل بموجبها دون تحر وتقص؟ أو أن المسلم مأمور بالابتعاد عن المتشابهات؛ لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬1) » وقوله «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه (¬2) » (الحديث) وأنا أكتب هذا المقال اطلعت على ما نشر في (مجلة المجتمع) بعددها (414) في 1\11\1398 هـ صفحة (20) بعنوان: (حول شرعية ذبح الدجاج في الدانمارك) والذي وجهته جمعية الشباب المسلم، وخلاصته: أن الدجاج هناك لا يذبح على الطريقة الإسلامية المشروعة، ولا يحل لمسلم أن يأكله، ولو كتب على الكرتون (ذبح على الطريقة الإسلامية) ومن المعلوم أن الدجاج يذبح هناك بالآلاف، فأنا أقدم صورة مصنع لذبح الدجاج، وهو من أصغر المصانع الأوربية وينتج في الساعة الواحدة (2000) ألفي دجاجة. (قصة وصول صورة المصنع إلي) : كنت في لندن في أول هذا العام، وحرصت أن أرى مصنعا من مصانع ذبح الدجاج، فاتفقت مع شركة إنجليزية لتطلعني على ما أردت، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) . (¬2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/269) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .

ودفعت رسم زيارة المصنع مبلغ مائة وخمسون جنيها، واصطحبت المترجم، وتركنا لندن إلى إحدى ضواحيها التي تبعد مسافة قطعتها السيارة بساعة، فلما وصلنا هناك فوجئت بأنني خدعت إذ لم أر ما أريد؛ لأنني متظاهر أنني تاجر سعودي لدي مؤسسة في السعودية، وأرغب إقامة مشروع دواجن، وأريد مصنعا أوتوماتيكيا لذبح وتغليف الدجاج، ومما يظهر أنهم لا يرغبون أن يطلع على ذبحهم أحد، كما حصل للشبيبة المسلمة في الدانمارك، فقد حاولوا عدة مرات الاطلاع على طريقة الذبح فلم يسمح لهم بذلك، ولو كان موافقا للطريقة الإسلامية كما يقولون لاطلعوا عليها، المهم أننا دخلنا محلا صغيرا به حوالي عشرة عمال من المسلمين الباكستانيين يذبحون بأيديهم بالطريقة المعروفة لدينا هنا، ثم بعد الذبح على الطريقة المعتادة المعروفة لدينا هنا يضعون الدجاج في ماء حار، وبعد ذلك ينتف بواسطة النتافة المعروفة، والتي هي عبارة عن دائرة تدار بالكهرباء، ولها أصابع من الكاوتشوك لينة تضرب الدجاج بقوة فتنزع الريش منه، وهي معروفة وموجودة عندنا في المملكة، فبعد ذلك عرفت أن هؤلاء يتبعون لتاجر باكستاني مسلم غيور على إسلامه التقيت به في محله، وفي المركز الإسلامي بلندن، وهو يذبح الدجاج والأغنام للمسلمين في لندن ويبيعها عليهم، وكنا نشتري منه. فقلت للمترجم: هذا موجود عندنا الذبح باليد والنتف بالآلة، فرد الإنجليزي الخبيث: أنا عرفت أنه مسلم من السعودية، ولا يصلح أن يقيم في بلده مصنعا يذبح الدجاج فيه كالذي عندنا في أوربا، فقوانين بلاده لا تسمح بمثل هذا، فقلت: أنا رغبتي بمشاهدة المصنع الأوتوماتيكي،

ولا دخل له فيما أريد، فقال: حسنا، إذا ترتب له زيارة ثانية لأحد مصانع الدجاج الأوتوماتيكية، وكان هذا الكلام قبل سفري راجعا إلى المملكة بيومين، فقلت: إني مسافر، وقد انتهى وقتي، حيث مضيت شهرا، ولكني أرغب (بكتالوج) المصنع الأوتوماتيكي لأطلع عليه، وأدرسه، فسلمني كتالوجا من حقيبة كانت معه، وقال: هذا المصنع صغير يكفيه من الكهرباء كذا، ومن الأرض كذا، والعمال والماء كذا، وهو ينتج بالساعة (2000) ألفي دجاجة مذبوحة معلقة، فأخذته (وأرفق صورة منه للاطلاع، وقد طبعت منه خمسة عشر ألف نسخة) . (نبذة عن المصنع) : 1 - تحضر السيارة الدجاج من الحظائر الذي ربما مات بعضه فيها قبل أن ينزل، أو نتيجة البرد أو التحميل أو التنزيل ومعروف سرعة موت الدجاج. 2 - كما يتضح من الصورة تعلق الدجاج بأرجلها ثم يحيط بها حزام متحرك فوق الرأس، فتذهب بطريقة آلية حيث تمر بجهاز كتب تحته (الذبح بطريقة التدويخ) . 3 - هناك حوض يستقبل السوائل من الدجاج إن خرج منها شيء. 4 - وهو بيت القصيد، مغطس ضخم كتب عليه (جهاز محرق جدا) يعمل بالبخار أو الماء الحار، فتغطس فيه الدجاجة المسكينة لتفقد فيه آخر رمق من الحياة، ثم بعد ذلك تخرج منه جثة هامدة بعد أن تعرضت للخنق والوقذ والتردي، والله تعالى قد قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3

وهذا الدجاج قد تعرض لشيء مما ذكر الله، ثم بعد نتفه وتنظيفه من الرأس يغلف بكراتين كتب عليها: (ذبح على الطريقة الإسلامية) وتلاحظ قارئي العزيز: أن الدجاجة دخلت المذبح وخرجت منه ميتة، منتوفة الريش، منظفة الأحشاء، مقطعة الأرجل، إلا أن رأسها قد صحبها منذ أن خلقها الله، ولا يقطع منها إلا إذا كانت سوف تصدر للشرق الأوسط، وقد سألت الإنجليزي لما خرجت من المذبح ورأسها موجودة فيها، قال لي: أما رأيت أن الطيور عندنا والذبائح رؤوسها موجودة لا تقطع، وفعلا رأيت الطيور والذبائح بأسواقهم رؤوسها معلقة فيها، وهي معروضة للبيع دون أن ترى رقابها أثرا للذبح، وهذا يشاهده كل من زار لندن أو غيرها من البلاد الأوربية، إذ أنهم يعتبرون أن الذكاة الشرعية الإسلامية طريقة وحشية لا يقرها القانون، كما أنهم لا يتركون الحيوان ينزف دمه مدعين أنه يفقد وزنه، وهذا يلاحظ في الدجاج المستورد منتفخة، أما ما تذبحه أنت فتراه ينقص ويقل وزنه، وهم لا يريدون ذلك، بل يريدون الوزن الكثير للحصول على الربح الوفير. وبعد فماذا يرى علماؤنا الأجلاء؟ أصحاب الفضيلة العلماء، قد كتبت لمعنيين منكم تقريرا مفصلا إثر عودتي من لندن عن كل ما رأيت، وأهم ذلك الدجاج، وقلت: إنه لا ينبغي للعالم أن يسكت عن مثل هذه المواضيع الهامة كالمطعم والمشرب الذي يرد معظمه من بلاد كافرة، وطلبت أن ينتدب أناس للوقوف على الحقيقة، وأن لا يكتفي بقول التجار ولا الشركات الموردة بأنه ذبح على الطريقة الإسلامية، ثم بعد ذلك يبين للناس هل يأكلون أم لا؟

وأن لا يكتفي بقول الله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1) فالشريعة بينت معنى ذلك، فالميتة والدم والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة إذا لم تدرك فيها الحياة وتذكى ويذكر اسم الله عليها- فهي حرام، ولو كانت عند المسلم وفي بلد إسلامي، فكيف بالذبائح والدجاج يتعرض لبعض هذه الأمور في بلاد كافرة، وعند أناس كفار قد فارقوا دينهم، وارتدوا عن البقية الباقية منه، فبعضهم دهري، والآخر علماني، ومعظم شبابهم قد اعتنق الشيوعية، فمع هذه المصائب كلها لا يذبحون على الطريقة الإسلامية، ولا يذكرون اسم الله، ومعلوم أن المسلم لو ذبح على غير الطريقة الإسلامية بأن خنق أو وقذ ذبيحته فهي لا تحل، وإن ذكر اسم الله، فذكر الله لا بد أن يقترن مع التذكية الشرعية، وقد نشرت مجلة (المجتمع) عن ذلك أكثر من مرة، آخر ذلك ما جاء في عددها (414) في 1 ذي القعدة سنة 1398هـ حيث نشرت نداء جمعية الشباب المسلم بالدانمرك، خلاصته: أن الدجاج الدانمركي يذبح على غير الشريعة الإسلامية، وأنه لا يحل أكله والحالة هذه. ما يقال عن اللحوم يقال عن الدهون أيضا: كذلك هذه الدهون التي غزت أسواقنا، ألا يحق لنا نسأل عنها؟! فقد كثر الكلام عن الدهون، وأن معظمها يحتوي على شحوم الخنزير، وغيره من الحيوانات المحرمة؛ كالكلاب، والحمير، وقد ذكر لي أحد تجارنا المعروفين: أنه ذهب إلى هولندا لغرض التعاقد مع شركة هناك لتوريد دهون منها للمملكة العربية السعودية يقول: وقبل إبرام العقد اطلعت على المصنع فإذا بجواره محل كبير جدا فيه أكوام هائلة من الشحوم والعظام ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 5

تصهر بمصاهر خاصة، ثم تتحول إلى سمن صاف يوضع عليه علامة شوكة وملعقة أو غير ذلك من العلامات التجارية، وهذه الدهون قد استخرجت من شحوم الخنازير والكلاب والحمير والبقر والغنم الميتة وغيرها، التي هي حرام وإن ذكيت مثل: الخنزير والكلب، وحرام لعدم التذكية من البقر والغنم. وقد أثارت هذا الموضوع (مجلة المجتمع) بالنسبة للجبن الكرافت وكذلك عن الدهون وذلك بعددها (412) في 17\10\ 1398 هـ بالنسبة للدهون المستوردة. وبعد: فإني أرجو من العلماء والتجار إرشاد الناس، وجلب ما هو حلال نافع لهم ولأمتهم وبلادهم، فإن لم نفعل فقد ضيعنا الأمانة، وأهملنا قول الله تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1) وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة قالها ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله، قال: لله، ولرسوله، وكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم (¬2) » . اللهم وفقنا لفعل الخيرات، وجنبنا المنكرات، وأصلحنا اللهم حكاما ومحكومين، وأمراء ومأمورين، اكفنا اللهم بحلالك عن حرامك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 2 (¬2) سنن الترمذي البر والصلة (1926) ، سنن النسائي البيعة (4199) .

ملخص مقال الشيخ عبد الله الغضية 1 - هل بقي أحد على كتابه من اليهود والنصارى محافظا على معتقده ولم يلحد أو يعتنق الشيوعية؟ 2 - معظم من يتولى الذبح هناك من الشباب المنحرف الدهري والوثني. 3 - هل نأكل من الذبائح المستوردة بمجرد أن نرى على غلافها: (ذبح على الطريقة الإسلامية) أو نتحرى لحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬1) » وحديث التحذير من المشتبهات. 4 - خدعوه عن المذبح الأوتوماتيكي، وأروه مذبحا يذبح فيه قلة من المسلمين يذبحون لمسلمين بالداخل، ولم يمكنوه من الاطلاع على المذبح الأوتوماتيكي، ولو كانت طريقة الذبح شرعية لمكنوه من مشاهدته. 5 - تخرج الدجاجة من المذبح ميتة منتوفة، ورأسها لم يقطع، وليس في رقبتها أثر ذبح، وأقر بذلك إنجليزي من جماعة المذابح، ويرون أن الذكاة الإسلامية وحشية، وأن بقايا الدم فيها أثقل لوزنها وأربح. 6 - كذلك الأدهان تخلط بشحم الخنزير وشحم الميتة. 7 - اقتراح إرسال من يطلع ويقف على الواقع في الذبائح والأدهان. أما تقريره فخلاصته: 1 - يعلق الدجاج بأرجله، ثم يمر بآلة تنفتح من النصف فيدخل في الفتحة رؤوس الدجاج، ومكتوب على هذا الجهاز: (الذبح بطريقة التدويخ) ؛ لأنه يضرب رأس الدجاجة هواء شديد الانفجار، فتصبح الدجاجة بعده لا تسمع ولا ترى، وتنتظر الموت بعد لحظات، ثم تمر بجهاز آخر يقطر منه إن ظهر منها سائل أو غيره، بعدها تمر على جهاز بخاري أو ماء حار جدا، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .

وفيه تموت إن كان بها حياة، ثم تخرج منه إلى أجهزة النتف والتنظيف والتغليف، ويكتب على الغلاف: (ذبح بالطريقة الإسلامية) . 2 - ذكر أنه سمع أن نفس الطريقة تتبع في فرنسا، إلا أنهم يزيدون وضع الدجاج المراد ذبحه في مستودعات شديدة البرودة، ويسحب منه حسب طلب الأسواق، وبالطبع يخرج الدجاج من هذه المستودعات ميتا، ثم توضع في برك حارة تمهيدا للنتف والتصدير. 3 - اقتراح إرسال من يشاهد وينقل الحقيقة.

تقرير من مبعوث الرئاسة في اليونان للدعوة الأستاذ جمال إدريس اليوناني هذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من جمال بن حافظ إدريس المبعوث في اليونان. إلى سماحة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وفقه الله في الدارين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلتني رسالتكم الكريمة، تطلبون بيان الطريقة التي تذبح بها الحيوانات- قد زرت بعض الأماكن المشهورة في اليونان فرأيت كما يلي: الأول: فيها مكان تذبح الحيوانات فيه كما نذبح نحن المسلمون، تذبح بعد خروج دمائها ثم تسلخ وتقطع. والثاني: الحيوان إذا كان كبيرا يضرب من رأسه بآلة كمسدس فيسقط

ويذبح قبل مماته، وهذا القبيل أو الأصول مشكوك أن روح المذبوح بهذه الطريقة تخرج قبل خروج دمه، أما الطيور: فيتم نتف ريشها قبل ذبحها، فتذبح بالآلات الأوتوماتيكية. أخبرني أحد الأطباء: أننا أردنا أن نعرف ما كان الذبح على الطريقة الشرعية، فننظر إلى عظام ذلك الحيوان في أثناء التناول، فإذا كان يميل لون العظام إلى البياض فهذا أكبر دليل على أن دم هذا الحيوان قد خرج بالكامل، أي: ذبح بالطريقة الشرعية، وإذا كان يميل اللون إلى السواد فهذا دليل على أن الحيوان لم يذبح بالطريقة الشرعية. والأماكن التي زرتها هي في اليونان فقط، بناء على عدم توضيح في رسالتكم المباركة الأماكن خارج اليونان، ولم أفهم هل أردتم أماكن اليونان فقط أم خارج اليونان أيضا، فنرجو التوضيح من سيادتكم، إنني مستعد أزور أماكن كثيرة إذا أردتم ذلك، أطال الله عمركم ويوفقنا لما فيه الخير للإسلام والمسلمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ابنكم المخلص جمال بن إدريس اليوناني خلاصته إن للذبح حالتين: الأولى: إنه على الطريقة الإسلامية. الثانية: أن يضرب الحيوان الكبير في رأسه بمسدس فيسقط ويذبح، وفي هذه الطريقة شك في كون التذكية حصلت والحيوان حي أو بعد موته.

ورد تقرير من الشيخ صهيب حسن عبد الغفار مبعوث الرئاسة في لندن نصه: بسم الله الرحمن الرحيم استفتاء أرجو من مجلس أعضاء لجنة الفتوى التابعة لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إصدار الفتوى الشرعية في اللحوم المستوردة من الخارج، وذلك بعد النظر في طريقة ذبح الحيوانات في المجازر الغربية حسبما جاء في مشاهداتي الشخصية، وما ذكر في التقرير المرفق الذي نشرته (مجلة المجتمع) الكويتية في عددها رقم (414) بتاريخ أول ذي القعدة 1398هـ وما يترتب على هذه الطريقة من آثار سيئة حسب تحقيق بعض الأطباء المسلمين في بريطانيا. (أ) طريقة الذبح في مذابح بريطانيا خاصة: أولا: الخرفان والأبقار: يؤتى بالخروف والبقر إلى مكان مخصوص، حيث يقوم رجل بإيصاله صدمة كهربائية بواسطة آلة خاصة أشبه بالمقص توضع على مقدم رأسه مما يجعل الحيوان يفقد حواسه ويسقط على الأرض، وهناك طريقة أخرى لا تزال تتبع في كثير من الأمكنة، وهي ضرب الحيوان بمطرقة حديدية على الرأس، ويتم ذلك بطريق مسدس يتعلق بفوهته قطعة حديدية مثل الرصاص، فإذا أصاب الرأس سقط الحيوان مغشيا عليه، ثم يعلق رأسا على عقب برافعة، ويدفع إلى الجزار، فإذا كان الجزار مسلما- وذلك في مجازر معينة تستأجر للجزارين المسلمين لذبح كمية محدودة للاستهلاك المحلي للسكان المسلمين فقط- قام بذبح

الحيوان المعلق بسكين حاد على الطريقة المألوفة لدى المسلمين فيخرج منه الدم بعد ذلك إلى المرحلة التالية من السلخ والقطع، وأما إذا كان الجزار غير مسلم قام بغرز السكين داخل الحلق من الطرف ثم أخرجه بقوة إلى الخارج، مما يقطع بعض أوداجه ليسيل منه الدم. ثانيا: الدجاج: أما الدجاج فإنما يتم تخديره بصدمة كهربائية أيضا، ولكن على قاعدة الغسيل بالماء الذي يمر به التيار الكهربائي، ثم يجرح رقبته بسكين حاد أتوماتيكيا ليخرج منه الدم، إلى أن تتم المراحل الباقية من النتف والتصفية؛ ليكون جاهزا للتصدير. (ب) الآثار التي تترتب على هذه الطريقة: أن المجازر الغربية اتخذت الطرق المذكورة للذبح رحمة بالحيوانات حسب ادعاء جمعيات الرفق بالحيوانات، ولكن من البديهي أن الغربيين اختاروا هذه الطرق للحصول على أكبر كمية من اللحم في مدة قصيرة، أو بعبارة أخرى لأجل تحقيق مكاسب تجارية على مستوى واسع، وقد قام عدد من الأطباء المسلمين بإجراء تحقيق كامل في مثل هذه اللحوم، ووصلوا إلى النتائج التالية؛ كما ورد في كتاب الدكتور غلام مصطفى خان رئيس جمعية أطباء المسلمين في بريطانيا، وتقرير الدكتور محمد نسيم رئيس وقف المسجد الجامع في مدينة برمنجهام. أولا: تحذير الحيوان قبل الذبح يسبب فتورا لدى الحيوان، وانكماشا في قلبه، فلا يخرج منه الدم عند الذبح بالكمية التي تخرج عادة، ومن المشاهد أن طعم اللحم الذي خرج منه الدم كاملا غير طعام الحيوان الذي بقيت فيه كمية من الدم، وأخبرني أحد المشرفين على مجزرة إسلامية

كبرى في برمنجهام أن من الإنجليز من يفضل الحيوان المذبوح بالطريقة الإسلامية للأكل؛ وذلك لأجل طعمه المتميز عن بقية اللحوم. ثانيا: أن الصدمة الكهربائية لا تؤدي مقصودها في جميع الأحوال، فإذا كانت الصدمة مثلا خفيفة بالنسبة لضخامة الحيوان بقي مفلوجا بدون أن يفقد الحواس ويشعر بالألم مرتين: الأولى: بالصدمة الكهربائية أو بضربة المسدس، والثانية: عند الذبح، أما إذا كانت الصدمة الكهربائية شديدة لا يتحملها الحيوان أدت إلى موته بتوقف القلب، فيصير ميتة لا يجوز أكله بحال من الأحوال. ثالثا: أن الطريقة المتبعة لدى المسلمين أرحم بالحيوانات؛ وذلك لأن الذبح يتم بسكين حاد بسرعة فائقة، ومن الثابت أن الشعور بالألم ناتج عن تأثير الأعصاب الخاصة بالألم تحت الجلد، وكلما كان الذبح بالطريقة المذكورة خف الشعور بالألم أيضا، ومن المعروف أن قلب الحيوان الذي لم يفقد حسه أكثر مساعدة على إخراج الدم كما مر آنفا. خلاصته 1 - صعق الأبقار بكهرباء أو بضرب رأسها بمطرقة. 2 - استئجار مسلم لذبح كمية منها ذبحا شرعيا لاستهلاك المسلمين المحلي. 3 - أما الجزار غير المسلم فيغرز طرف السكين في الحلق لإخراج الدم بقطع الأوداج. 4 - أما الدجاج فيخدر بتيار كهربائي، ثم تجرح رقبته بسكين حاد أوتوماتيكي؛ ليخرج الدم.

الآثار السيئة المترتبة على ذلك 1 - تخدير الحيوان قبل الذبح يحدث ضعفا وانكماشا في قلبه؛ لذا لا تخرج كمية كثيرة من دمه وينشأ عن ذلك ضعف تغذيته والتلذذ بطعمه. 2 - الصدمة الكهربائية إن كانت خفيفة تألم منها الحيوان وتألم من الذبح، وإن كانت قوية مات منها الحيوان قبل ذبحه لوقوف قلبه. 3 - دعوى أن التخدير أو الصعق فيه راحة للحيوان ليست صحيحة، وإنما القصد ذبح الكثير في زمن قليل رغبة في زيادة الكسب.

تقرير من الشيخ عبد القادر الأرناؤوط المبعوث من الرئاسة إلى يوغوسلافيا للدعوة نصه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد القادر الأرناؤوط إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله من كل سوء، ووقاه من كل مكروه، ووفقه لما فيه خير الدنيا والآخرة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تحية من عند الله مباركة طيبة. وبعد: فإني أرجو الله عز وجل أن تكونوا بخير وعافية يا سماحة الشيخ، وإني أرسل لكم هذه الرسالة من يوغوسلافيا جوابا على رسالتكم الكريمة التي أرسلت إلي من قبلكم بتاريخ 21\6\1398 هـ. وإني قد درست موضوع اللحوم في يوغوسلافيا وإني أكتب لكم خلاصة ما توصلت إليه في هذا.

أما في القرى فإنهم يذبحون الحيوانات من الغنم والبقر والماعز ذبحا شرعيا بأيديهم، وفي أمكنة خاصة، والذين يذبحون من المسلمين، وأما في المدن ففي مدينة (سيراجيفو) sarajevo التي هي عاصمة البوسنة والهرسك، وتسمى عندهم: جمهورية إسلامية، فكذلك يذبح بها المسلمون، لكن بطرق حديثة: يأتون بالبقر ويضربون البقرة بين عينيها بآلة كهربائية ضربا خفيفا كي تقع على الأرض؛ ثم يدخلونها وهي على قيد الحياة تحت المقصلة وهي آلة حادة فيقطعون رأسها ويسهل منها الدم ثم يدخلونها ضمن آلات تخرج معبأة ضمن علب (الكونسردة) فهذا أيضا لا شبهة فيها، ويكتب عليها صنع (سيراجيفو) ، وفي غيرها من المدن ربما يكون الذابح غير مسلم، ولكن يكون كتابيا، وقد يكون شيوعيا، ولكن حسبما ظهر لي أن أكثر الذين يدعون أنهم شيوعيون، إنما هم بالاسم لمصلحة خاصة، أو منفعة مادية، والشيوعي الحزبي لا يقوم بمثل هذه الأعمال، وهم كأنهم توافقوا بأن الحيوان إذا ضرب على رأسه مثلا وقتل بهذه الضربة وبقي دمه في جسمه ولم يسفح: أن اللحم يفسد، ويكون ضررا على آكله، إلا أنهم قد يذبحون بنفس الآلات الخنازير، ثم يذبحون بعدها مثلا البقر، وهذا هو المحظور في هذه المسألة، وهذه لم أستطع أن أتحقق منها، وقد قال لي بعضهم: يذبحون الخنازير بمحلات خاصة، والبقر في محلات خاصة، وعند ذلك يزول الإشكال. وعلى كل فالأحسن أن يأخذ من علب (الكونسردة) التي تصنع في (سيراجيفو) المسلمة، أما الحيوانات التي ترسل إلى البلاد الخارجية من الغنم مثلا والبقر فإنها تذبح كما ذكرت لكم في القرى ذبحا شرعيا،

وبأيدي المسلمين، وكذلك في مدينة (سيراجيفو) المسلمة بأيدي المسلمين ذبحا شرعيا، وفي غيرها من المدن الذين يذبحون؛ إما من المسلمين، وإما من النصارى الكاثوليك، وقليل ما هم من الشيوعين أرباب المصالح الخاصة والأشياء المادية، فشيوعيتهم ليست دينا، وإنما هي مصلحة ووظيفة، وكما ذكرت لكم الشيوعي المادي الملحد الحزبي على الغالب لا يقوم بمثل هذه الأعمال الخسيسة في نظرهم، وعلى كل تذبح وتقطع رؤوسها ويخرج منها الدم المسفوح وترسل إلى البلاد العربية، وكثيرا ما يراعون الذبح إذا كان للسفر إلى خارج بلادهم. وأرجو دعواتكم الصالحة، وإني أسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم، وأن ينصر الحق وأهله، وأن يعيننا على أداء مهمتنا على أحسن وجه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخوكم عبد القادر الأرناؤوط - يوغوسلافيا - استوغ خلاصته 1 - يذبح أهل القرى الأغنام ذبحا شرعيا بأيديهم في أماكن خاصة - والذابح مسلم. 2 - في مدينة (سيراجيفو) عاصمة البوسنة والهرسك يذبح فيها المسلمون الأنعام كذلك بالطريقة الشرعية، غير أنهم يضربونها بآلة كهربائية ضربا خفيفا لتقع على الأرض، ثم يدخلونها وهي حية تحت المقصلة، ويقطع رأسها ويسيل منها الدم، ثم تعلب، ويكتب على الشحنة (سيراجيفو) .

3 - في غير هذه المدينة من المدن قد يكون الذابح غير مسلم كتابيا أو شيوعيا بالاسم لا بالحقيقة من أجل الوظيفة أو المصلحة. 4 - أما الحيوانات التي ترسل إلى البلاد الخارجية فإنها تذبح كما ذكرت لكم في القرى ذبحا شرعيا بأيدي المسلمين. 5 - قد يكون ذبح الأنعام بالآلة التي تذبح بها الخنازير. 6 - النصح بالاقتصار على شراء علب اللحوم التي ذبحت في سيراجيفو لما تقدم.

ونشرت (مجلة الدعوة) بالرياض مقالا للدكتور محمود الطباع بأبها في عددها (673) بتاريخ 21 من ذي القعدة 1398هـ تحت عنوان (لئلا نأكل حراما) جاء فيه ما نصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: قرأت في (مجلة الدعوة) العدد (667) تاريخ 9 شوال 1398هـ المقال الذي كتبه عبد الرحمن المحمد الإسماعيل جزاه الله خيرا بعنوان (لئلا نأكل حراما) وأرغب أن أوضح ما يلي: أنا الدكتور محمود الطباع طبيب بيطري، درست في ألمانيا الغربية، وفي بدء دراستي تعرضت مع إخوتي المسلمين لمشكلة اللحوم المذبوحة، وهل يجوز الأكل منها، ولنتأكد من طريقة الذبح ذهبت مع عدد من الإخوان لزيارة المسلخ في مدينة (هانوفر) فشاهدنا الجزارين يحضرون قطيعا من الأبقار يطلقون على رأسها من مسدس خاص، وبعد أن وقعت جميعها على الأرض بدون حراك أخذ العمال استراحة يأكلون فيها ما يقارب الثلث ساعة، ثم قاموا وعلقوا الأرجل الخلفية في الرافعات

المتحركة، وقطعوا الرأس، ثم نزعوا الجلد وشقوا البقرة إلى نصفين وغسلوها بالماء بعد إخراج المعدة، فكانت مياه الغسيل بلون الدم، وقبل أن ينتهي العمال من فترة الاستراحة يبدأون بقطع رأس الأبقار، تأكدنا أن جميع الأبقار كانت ميتة، ولا يحل أكلها في ديننا الحنيف، وقد نبهنا على الطلبة المسلمين وشرحنا لهم ما شاهدنا، ولكن مع الأسف الشديد فقد كان أغلبهم لا يتوانون عن أكل لحم الخنزير فكيف بلحم الميتة. الدكتور محمود الطباع أبها - المديرية العامة للشئون البلدية والقروية بالجنوب - صحة البيئة خلاصته: أنه شاهد الجزارين في ألمانيا الغربية يطلقون المسدس على رأس الأبقار ثم يستريحون ثم يقطعون رؤوسها بعد ألا يكون بها حراك، وتأكد أنها ما ذبحت إلا بعد أن صارت ميتة. ونشرت (مجلة المجتمع) الكويتية (¬1) مقالا عن جمعية الشباب المسلم بالدانمارك؛ لذلك فقد انتهينا بعد بحث هذا الأمر والتحقق منه دائرة الدانمرك تحت عنوان (حول شرعية ذبح الدجاج في الدانمارك) جاء فيه ما نصه: نظرا للاستفسارات العديدة التي وردت إلى جمعيتنا من المسلمين المقيمين في الدول العربية للتأكد من كيفية ذبح اللحوم والدجاج المصدر من الدانمارك؛ لذلك فقد انتهينا بعد بحث هذا الأمر والتحقق منه في دائرة ¬

_ (¬1) الصادرة يوم الثلاثاء الموافق 1 من ذي القعدة سنة 1398 هـ عدد (414) من السنة التاسعة.

الدانمرك إلى عدة نتائج نوردها فيما يلي: لقد علمنا من مصادر رسمية أن الفئة القاديانية بالدانمارك قامت منذ تأسيسها عام 1967م بتمثيل المسلمين والإسلام في هذه البلاد، فكانت تصادق على شهادات تصدير اللحوم والدجاج إلى الدول الإسلامية، وهي تتقاضى مقابل ذلك من الشركات المصدرة رسوما مقابل هذا التصديق، وعلمنا كذلك أن السفارات الإسلامية هنا كغيرها من السفارات في العالم لا تمثل الإسلام من قريب أو بعيد، بل تمثل الحكام الذين يرفعون ويخفضون، فضلا عن حرص هذه السفارات، البالغ على اتباع السنن الدبلوماسية في حفلاتها وسهراتها، هذا إذا استثنينا- خشية التعميم - بعض الأفراد القلائل العاملين في هذه السفارات والذين هداهم الله إلى التمسك بالدين بعيدا عن المؤتمرات المهنية. . وهم قلة. وعلمنا كذلك من خلال الأعوام الماضية: أن بعض هذه الشركات يتحايل لكي يبيع الدجاج الدانمركي للدول الإسلامية، ومن صور هذا التحايل، تشغيل عليه أشرطة القرآن الكريم داخل المجازر ظنا منهم أن هذه الطقوس تحل لنا أكل هذه اللحوم، كما يقوم بعضهم - ذرا للرماد في العيون- بتعيين عامل مسلم أو أكثر في المصنع يقوم بمهام عادية ليس لها علاقة بالذبح، وحتى لو قام بالذبح فلا يعقل أن يتمكن من ذبح الآلاف من الدجاج المنتج كل يوم، بل قل: كل ساعة، وقد كانت ليبيا من أول الدول التي اكتشفت هذه المهزلة في الدانمارك وخارج الدانمارك - فقررت منع استيراد اللحوم والدجاج من أوربا بالمرة. . والله أعلم إن كان هذا المنع ما زال ساري المفعول أم لا.

أما من جانب المستهلك المسلم، فخلال الأعوام العشرة الماضية كانت مشكلة الدجاج المستوردة من أوروبا لا تكاد تشغل بال السواد الأعظم من المسلمين؛ لصغر حجمها بالقياس إلى المصائب والمؤامرات التي كانت وما زالت تحاك ضد الإسلام والمسلمين، ولكن كان من بينهم من يحاول ترويج هذه الذبائح، بحجة أنها من طعام أهل الكتاب، ونحن لا نقر هذا الرأي؛ لأنه يكفي أن ننظر من حولنا لنجد الزنا والعري والخمر والميسر والشذوذ الجنسي وقطع الأرحام وعقوق الوالدين والربا. . وغيرها من الموبقات والكبائر- مباحة بنص القانون في التشريعات المحلية الوضعية، فلا مجال هنا لتسميتهم بأهل الكتاب بحال من الأحوال، بل هم أقرب إلى الشيوعيين والوثنيين منهم إلى النصارى. واليوم كنتيجة طبيعية للغموض المكثف لهذه الأمور، ولشعورنا بمسئولية التحقق من هذا الأمر - قامت جمعيتنا بتوجيه خطاب إلى جميع المجازر الدانمركية التي تقوم بتصدير الدجاج إلى الخارج، وعددها (35) مجزرة للدجاج والطيور. وفيما يلي ترجمة للخطاب: (وصلتنا في الشهور الماضية بصفتنا منظمة إسلامية ثقافية بالدانمارك عدة استفسارات من مسلمين مقيمين في داخل الدانمارك وخارجها عن الطرق المتبعة لذبح الدجاج والطيور المعدة للتصدير للدول العربية، إن الإجابة على هذه الاستفسارات تعتبر ذات أهمية كبيرة لنا نحن المسلمين، إذ أن طريقة الذبح يجب أن تكون تبعا لما ورد في القرآن الكريم من أحكام لها؛ لهذا نرجو منكم السماح لمجموعة من جمعيتنا (حوالي 3-4

أشخاص) بزيارة مجزرتكم للاطلاع على طريقة الذبح. . إلخ) . كما نود مستقبلا نشر هذا التحقيق في مجلتنا الشهرية (الصراط) حتى يطلع المسلمون عليها، مع مراعاة عدم التعرض لاسم شركتكم بسوء، راجين أن يصلنا ردكم في أقرب فرصة. وعند استلامنا الردود اتضح أن بعض هذه المجازر لا يصدر إلى الدول الإسلامية بالمرة، وهذا النوع من المجازر لم يمانع من زيارتنا لأماكن الذبح، لكن الشركات التي تصدر إلى الدول الإسلامية لم توافق على الزيارة بالمرة، وبعضها أبدى صراحة عدم ترحيبه بقدومنا، وأحال البعض الآخر نظر هذه القضية إلى لجنة مهنية خاصة بتصدير الدجاج والطيور، بحجة أنها الجهة الممثلة لهم، والمتكفلة ببحث مشكلة الذبح الإسلامي وباتصالنا بهذه اللجنة رفضت- بعد محاولات استمرت فترة طويلة- السماح بأي نوع من المعاينة، بحجة أنها لا تجد أن منظمتنا تمثل الإسلام والمسلمين في الدانمارك، وأن هذه اللجنة على اتصال مع جهة إسلامية بالدانمارك، تمثل الإسلام في نظرهم، لاتصالها بعدد من السفارات العربية، وأن هذه الجهة الإسلامية توافق على طريقة الذبح، وتصادق على شهادات التصدير، مع علمها التام بأن الدجاج المصدر لا يفترق عن غيره من الدجاج المنتج، باستثناء المغلف المطبوع عليه عبارة: (ذبح على الطريقة الإسلامية) . وبقيامنا بمزيد من التحريات وجدنا أن الجهة الإسلامية القائمة على التصديق ليست هي الفئة القاديانية، كما جرت العادة خلال العشر سنوات الماضية، لكنها جهة إسلامية انتزعت من القاديانية مهمة التصديق على

شهادات التصدير وما يتبعها من مهام أخرى، كالدفاع عن مصالح شركات الدجاج، ومصالح المستوردين العرب، ومصالح السفارات العربية الواقفة وراءها. وبحديث هاتفي مع مدير لجنة التصدير الدانماركية المذكورة اتضح لنا الآتي: أولا: ليس لدى المذابح الدانمركية أي فكرة عن متطلبات الذبح الإسلامي والمعلومات التي لديها لا تعدو أن تكون شائعات وردت إليها بطريق الحديث العفوي مع فئات من المسلمين، بعض هذه المعلومات متضاربة، مما جعل الأمر في النهاية - في نظر المجازر الدانماركية - ليس له ضابط ديني محكم. ثانيا: أن المستورد العربي هو الذي يطلب وضع عبارة: (ذبح إسلامي) ويجهزها له، والمصدر الدانمركي يوافق، طالما أن البيع في ازدياد والجهات الرسمية تصادق على شهادات التصدير. ثالثا: أن الذبح يجري بطريقة قص الرأس بعد التخدير الذي يشترط قانون الطب البيطري، وأن الذبح بغير هذه الطريقة يتطلب الحصول على تصريح خاص. رابعا: أن الذي يهم الشركات الدانماركية في الوقت الحضر هو موقف السفارات التي تتبع الدول المستوردة؛ لأنها هي التي تصدق على توقيع الجهة الإسلامية التي تعاين الذبح، وطالما أن هذه الجهات متفقة فليس لأحد - في نظرهم - مصلحة في التدخل، وطلبنا من مدير اللجنة الرد كتابة على هذه النقاط، فوعد بذلك، ثم تأخر في الرد مدة طويلة، وفي النهاية

وصلنا منه رد دبلوماسي بعيد عن النقاط التي تحدثنا عنها هاتفيا. مما سبق يتبين أن المسئول الأول عن هذه المهزلة ليس هو المصدر الدانمركي بل هو بالدرجة الأولى المستورد العربي، ومن ورائه السفارات التي تصدق على جريمته. وعليه فنحن جمعية الشباب المسلم بالدانمرك نعلن من هنا إلى كافة المسلمين أينما وجدوا: أن الذبائح التي تصدر إليهم من الدانمرك ليست مذبوحة بطريقة خاصة، ولا تختلف عن الذبائح التي تصدر إلى الدول الأخرى، وأن الذبح يتم بطريقة قص الرأس بعد التخدير، والفارق الوحيد: هو في الأغلفة التي تحمل عبارات عربية لخداع المستهلك والمسلم. الحل: لم يكن الهدف الأساسي من التحريات التي قمنا بها إيجاد حل إسلامي لقضية الذبائح المستوردة، بل كانت الغاية المرجوة هو التأكد من طريقة الذبح، وإعلانها إلى المسلمين حتى يجتهدوا بأنفسهم للتوصل إلى الحل المرضي إسلاميا، إلا أن هناك بعض الفوائد التي يمكن الاستفادة منها قبل البحث عن حلول القضية، فمن خلال مباحثات تمت منذ سنوات مع أحد المجازر الدانمركية رغب بعض الإخوة في الاتفاق مع الشركة على ذبائح خاصة للتصدير إلى الدول الإسلامية، فوافقت هذه الشركة على ذلك بشرط أن يقوم الإخوة أنفسهم باستجلاب العمال المسلمين بمعرفتهم مع ضمان استمرارهم في العمل وحين البحث عمن يقوم بهذا العمل تبين أن هذه المجزرة تقع في قرية صغيرة بعيدة عن المدن الكبرى، وهذا الأمر لا يشجع أحدا على قبول هذا العمل لتعارضه مع ميول العمال الأجانب

عادة في السكنى في العاصمة أو على الأقل في المدن الكبيرة لأسباب تتعلق بأوضاعهم الاجتماعية في الغربة، وحرصهم على المجتمع؛ لسهولة التفاهم وتبادل الأخبار والزيارات، وهذا الأمر لا يتحقق بالسكنى في القرى النائية، فالأمر إذن يتطلب إخلاصا وتفانيا من بعض المسلمين لإنجازه على الوجه المطلوب، كما يتطلب إيفاد من له دراية شرعية بالقضية وتخصيص ميزانية مناسبة لإنشاء مجزرة إسلامية للتصدير للدول الإسلامية تتوفر فيها الشروط الشرعية والعصرية في آن واحد، والجمعية من جانبها على استعداد للمساعدة في الاتصالات التمهيدية مع الشركات التي تصنع آلات الذبح والاتفاق مع إحدى شركات الاستشارة والتخطيط لعمل دراسة مستوفية لتكاليف المشروع واحتياجاته. بقيت كلمة أخيرة لا تتعلق بالدجاج ذاته، ولكن تتعلق بمن يأكل منه من المسلمين: فالمعروف أن القلة من الناس هي التي تتحرى الحلال، والأغلبية لا تفكر في ذلك، بل تظن التحري في بعض الأحيان عسرا ومشقة، وهي للأسف سمة العصر الذي نعيش فيه: الاهتمام بإشباع الغرائز والميول أولا، ثم بعد ذلك يساء استخدام عبارة (إن الله غفور رحيم) .. كما يريد أغلبنا دخول الجنة ولقاء الله تعالى دون علم أو عمل أو تضحية ولو بسيطة، فقد يلجأ الكثير من المسلمين إلى قطع مسافات طويلة - قد تصل إلى السفر - في سبيل الحصول على سلعة أو طعام معين بمواصفات معينة، والتكبد في سبيل ذلك المشاق الكثيرة، ليس إرضاء لله وللرسول، ولكن إرضاء للهوى فحسب، فإذا تعلق الأمر بحكم شرعي تحايلوا وتهربوا، بحجة أن

(الدين يسر) ولم يقولوا مرة: (إن مع العسر يسرا) وإن دخول الجنة لن يتم إلا بتكبد الصعاب، وأضرب على ذلك مثالا يتعلق بفئة (النباتيين) الذين يمنعون أنفسهم من أكل اللحوم ومشتقاتها، فهؤلاء معروفون في العالم كله، وحرصهم شديد على تحريم ما يأكلون، حتى إن منهم من يبلغ به حد الورع مبلغا فلا يأكل الكعك والمربى المطروحة في الأسواق؛ خشية أن تكون مصنوعة من دهون الحيوانات، ويسألون قبل الشراء عن مكونات الطعام، ولهم حوانيت خاصة بهم في كل مكان. فهؤلاء وضعوا قوانينهم بأنفسهم ويحترمونها، ويعتبرون التحري والدقة ضربا من التعصب أو تضييع الوقت والجهد، فما بال المسلمين ينزل عليهم كتاب من الله وتصلهم سنة نبيه فلا يهتمون ولا يتحرون؟! عسى أن ينفعنا الله بما قلنا، وأن يكون ما بلغنا إبراء لذمتنا يوم القيامة، وأن يتقبل عملنا خالصا لوجهه تعالى. جمعية الشباب المسلم بالدانمرك. خلاصته: 1 - الذين يصدقون على شهادات تصدير اللحوم والدجاج إلى الدول الإسلامية بأنها ذبحت على الطريقة الشرعية - قاديانيون، ويتقاضون على الشهادات أجرا، ثم إن جهة أخرى إسلامية انتزعت التصديق على الشهادات من القاديانيين، وقامت بذلك مع مهام أخرى، كالدفاع عن مصالح وشركات الدجاج ومصالح المستوردين العرب ومصالح السفارات العربية الواقفة وراءها.

2 - الذين يعملون في السفارات الإسلامية إلا القليل لا يمثلون الإسلام، وإنما يحرصون على السنن الدبلوماسية. 3 - نصارى الدانمرك ومن في حكمهم خرجوا على مبادئ أهل الكتاب، فلا مجال لتسميتهم أهل كتاب، بل هم أقرب إلى الشيوعيين والوثنيين منهم إلى النصارى. 4 - امتناع من يقوم على المجازر المصدرة للحوم والدجاج من الدانمارك إلى الدول الإسلامية من تمكين جماعة من الشباب المسلم من مشاهدة طريقة الذبح في تلك المجازر، بزعم أنهم لا يمثلون المسلمين، وإنما تمثلهم السفارات الإسلامية التي تصدق على الشهادة عند التصدير، أما الذين لا يصدرون اللحوم إلى الدول الإسلامية فقد مكنوهم من مشاهدة طريقة الذبح في مجازرهم. 5 - ليس عند المذابح الدانمركية معلومات عن الذبح الإسلامي مستقاة من مصدر إسلامي معتبر، وإنما لديها إشاعات عما يجب أن يكون عليه الذبح الإسلامي متضاربة؛ لذا لم تهتم بها المجازر لعدم وجود ضابط ديني محكم. 6 - المستورد العربي هو الذي يطلب وضع عبارة - ذبح إسلامي - ويجهزها، وما على المصدر الدانمركي إلا الموافقة ما دام ذلك في مصلحته. 7 - الذبح يجري بقص الرقبة بعد التخدير دون فرق بين ما يصدر إلى الدول الإسلامية وغيرها، ولا يختلف إلا في كتابة العبارة على الغلاف. 8 - الذي يهم الشركات الدانمركية المصدرة للحوم إلى الدول

الإسلامية موافقة سفارات الدول الإسلامية المستوردة وتصديقها. 9 - الحل هو إيجاد مجازر إسلامية لتصدير اللحوم إلى الدول الإسلامية والتعاون في إتمام ذلك بالعلم والعمل والمادة. قال الأستاذ عبد الله على حسين (¬1) في كتابه [اللحوم - أبحاث مختلفة في الذبائح والصيد واللحوم المحفوظة] : وأما اللحوم المحفوظة في العلب مثل (بولي بيف) ومرقة الثور وهي المسماة (كيف أكسو) وشوربة الفراخ بالشعرية، وهكذا من اللحوم المحفوظة في علب صفيح وما يشتق منها أيا كان نوعها الذي يصدر إلى مصر من أوروبا واستراليا وأمريكا وحكمها: أن يحرم استعمالها قطعا؛ لأنها لحم حيوان موقوذ مضروب حتى مات، فإن طريقة الذبح في جميع هذه البلاد تكاد تكون واحدة، وهي ضرب الحيوان في مخه فيخر صريعا بلا حركة؛ لأنها تصيب المخ، ومتى وقع حمل إلى التقطيع بعد السلخ فيعمل من هذا الحيوان كافة أنواع اللحوم المحفوظة وما يخرج عنها، وقد أردت أن أعرف طريقة ذبحهم بطريقة رسمية لا تقبل الجدل أو الشك في تطبيق الأحكام الشرعية، فكتبت كتابا دوريا أرسلته لقناصل (14) دولة وهي 1- إنجلترا، 2- فرنسا، 3- أسبانيا، 4- هولندا، 5- إيطاليا، 6- تركيا، 7- جنوب أفريقيا، 8- الولايات المتحدة، 9- البرازيل، 10- استراليا، 11- روسيا، 12- الدانمرك، 13- سويسرا، 14- ¬

_ (¬1) من علماء الأزهر، ولديه ليسانس في الحقوق.

رومانيا. ويتضمن هذا الكتاب ثلاثة أسئلة: أولا: ما هي طرق الذبح في بلادكم (أو قتل الحيوان عندكم) ؟ ثانيا: ما هو المكان الأول الذي يضرب فيه الحيوان من جسمه لقتله في بلادكم؟ ثالثا: ما هي الصناعات المختلفة من اللحوم المحفوظة التي تصنع وتصدر من بلادكم؟ ثم ذكر أن التي أجابت من تلك الدول هي: تركيا واليونان وهولندا وأسبانيا والدانمرك. والذي يبدو واضحا في المخالفة للطريقة الشرعية ما جاء في إجابة هولندا والدانمرك فلذلك نسوقها فيما يلي: 1 - طريقة هولندا كما في إجابتها: تقتل البهائم بعد تدويخها بأسرع ما يمكن، بإسالة دمها، وتحصل عملية التدويخ بواسطة آلات تغيب المخ فتفقد البهيمة وعيها في الحال (وقطع الرأس أو الرقبة ممنوع وكذلك الذبح بسكين بموجب مرسوم ملكي) إذن تقتل البهائم بواسطة خوذة بها مثقاب وهذه الآلة معمرة بالبارود الذي يشعل فيدفع مثقابا مجوفا إلى المخ، وهذا المثقاب يعود إلى مكانه قبل أن تسقط الرأس. 2 - طريقة الدانمرك كما جاء في نص إجابتها: (الخيول والثيران والعجول الكبيرة تذبح بطريقة صعقها بإطلاق الرصاصة على رأسها في موضع المخ برصاص خاص لهذه

العملية، أو بمسدس يقذف مسمارا نافذا والعجول الصغيرة والأغنام تذبح بطريقة الصعق إما بالرصاص أو بالضرب الشديد على جبهتها الأمامية بمطرقة، أما الدواجن فيشترط لذبحها أن يكون ذلك بطريقة الصعق السريع بالضرب الشديد بالمطرقة على رأسها، أو بقتلها قتلا سريعا بفصل رأسها، وعند ذبح الخيول والثيران والعجول الكبيرة بالطريقة المذكورة، تصفى دماؤها بإدخال سكين في أسفل رقبتها في الشريان الكبير الواقع في مدخل الصدر من أعلى، وتستعمل لهذا الغرض السكين العادية، أما العجول الصغيرة والأغنام فتصفى دماؤها بتشريطها من الجانب الأسفل من رقبتها في الشريان الكبير الواقع خلف الرأس حول الرقبة، فتفصل شرايينها. اهـ. ثم علق المؤلف بقوله: (وكل هذه أدلة رسمية قاطعة في صدق ما ندعيه من أن ذبائحهم موقوذة مقتولة - فطيس - نجسة محرمة، لا يصح لمسلم أن يتعاطاها أو يحملها أو يبيعها، وقد كنت أكتفي بما أعلمه شخصيا وأنا طالب بأوربا خمس سنوات من أن طريقة ذبح الحيوانات عندهم في المجازر هي القتل بضربها على رأسها على المخ من مقدم الرأس بين القرنين في الجبهة، وهي ضربة واحدة بآلة خصصت لذلك، فيخر الحيوان صريعا لوقته، ولكن خشية ادعاء مالا أعرف أقمت الدليل الكتابي من حكوماتهم أنفسهم وها هو ننشره ليعلمه الناس وكفى. .) ثم قال: (وقد أرسلت لحضرة الدكتور العلامة الأستاذ عبد الحميد مصطفى فرغلي المتخصص في وظائف أعضاء الحيوان بأمريكا - الولايات المتحدة - جامعة جونس هوبكنز بمدينة بلتمور، أسأله عن كيفية قتل حيوانات الأكل عندهم في أمريكا، فورد منه جواب في 15\ 7سنة

1947 م يقول: سألت عن طريقة الذبح، الطريقة: أن يضربوا الحيوان بمطرقة مدببة في مخه فيموت، وبعد ذلك يقطعون رقبته، ولكنهم لا يذبحون كما يفعل المسلمون أو اليهود وهذا الإجراء يشمل جميع الحيوانات) .

رابعا تطبيق القواعد الشرعية على الذبائح المستوردة على ضوء ما عرف منها من المشاهدات ونحوها

رابعا: تطبيق القواعد الشرعية على الذبائح المستوردة على ضوء ما عرف عنها من المشاهدات ونحوها: إن مجرد البيان لطريقة الذبح الشرعية دون الحكم بها على واقع اللحوم المستوردة إلى المملكة السعودية من دول أوربا وأمريكا وغيرها - لا تفيد من يتحرى الحلال فيما يأكل، ويجتهد في اجتناب ما حرم الله عليه من ذلك، إلا إذا عرف أحوال التذكية وأحوال المذكين في تلك الشركات الغربية وغيرها التي تستورد منها اللحوم إلى المملكة، وأنى له ذلك، فإن السفر إلى تلك البلاد فيه كلفة؛ لبعد الشقة، فلا يتيسر إلا للنزر اليسير، وأكثر من يسافر إليها يكون سفره لضرورة من علاج ونحوه، أو لإشباع رغبة وحب استطلاع، ولا يعني بهذا الأمر، ولا يكلف نفسه البحث عنه والوقوف على حقيقته. ولذا كتبت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى المسئولين عن استيراد اللحوم وغيرها من المأكولات تستفسر منها عن الواقع، وتوصيها بالعناية بما تستورده من ذلك من الجهة الشرعية، محافظة على الدين، وعلى سلامة الرعية من تناول ما حرم الله عليهم من الأطعمة، وتوفير ما تحتاج إليه الأمة مما أحل الله.

وجاء منهم إجابة مجملة لا تكفي لإزالة الشك وطمأنينة النفس، فكتبت إلى دعاتها في أوروبا وأمريكا ليطلعوا على كيفية الذبح وديانة الذابحين هناك - فأجاب منهم جماعة إجابة في بعضها إجمال، وكتب جماعة من أهل الغيرة في المجلات عن صفة الذبح والذابحين جزى الله الجميع خيرا، ولكن كل ذلك لم يستوعب الشركات التي يستورد منها المسئولون عن ذلك في المملكة، مع ما في بعضها من الإجمال، ومع ذلك فاللجنة تعرض خلاصة ما جاءها من التقارير وما اطلعت عليه في المجلات على ما تقدم من طريقة الذبح الشرعية وما صدر في الموضوع من فتاوى كلية؛ ليتبين الحكم على اللحوم المستوردة عن تلك البلاد، وعلى هذا يمكن أن يقال: أولا: بناء على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء من أنه قد وردت إلى معاليه تقارير تفيد أن بعض الشركات الاسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية، وخاصة شركة (الحلال الصادق) والتي يملكها القادياني (حلال الصادق) لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح الأبقار والأغنام والطيور، ويحرم الأكل من ذبائح هذه الشركات، وتجب مراعاة ما قررته الرابطة وأوصت به في كتابها. (¬1) . ثانيا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ أحمد بن صالح محايري في طريقة الذبح في شركة برنسيسا من أن الذابح لا يدرى عنه هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد، ومن الشك في قطع الوريدين أو أحدهما، ومن أن ¬

_ (¬1) انظر ص (689)

شهادة المصدق على الشحنة لم تبن على معاينته بنفسه أو بنائبه للذبح، ولا على معرفته بالذابح، لا يجوز الأكل من هذه الذبائح، ويؤكد كون التذكية غير شرعية موافقة مدير الشركة على تعديل طريقة الذبح لتكون شرعية بشرط بيان الكمية اللازمة للجهة المستوردة أولا. (¬1) ثالثا: وبناء على ما جاء عنه أيضا في طريقة ذبح الدجاج والبقر في شركة ساديا أو يسته من أن الذابح مشكوك في ديانته هل هو كتابي أو وثني، ومن أن الأبقار تصعق بكهرباء، فإذا سقطت رفعت من أرجلها بآلة ثم شق جلد رقبتها بسكين، ثم قطع الوريد بسكين آخر، فينزل الدم بغزارة، لا يجوز الأكل من هذه الذبائح (¬2) رابعا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد الله الغضبة عن الذبح في لندن من أن الذابحين من الشباب المنحرف الوثني أو الدهري، ومن أن الدجاجة تخرج من الجهاز ميتة منتوفة ورأسها لم يقطع، بل لم يظهر في رقبتها أثر الذبح، وإقرار إنجليزي من أهل المذبح بذلك، ومن خداع القائمين على المذبح، من أراد الاطلاع على طريقة الذبح عن المذبح الأوتوماتيكي الذي يذبح فيه للتصدير واطلاعهم على مذبح يذبح فيه قلة من المسلمين للمسلمين بالداخل، وذلك مما يبعث في النفس ريبة في كيفية الذبح وديانة الذابح؛ لذلك لا يجوز الأكل من هذه الذبائح (¬3) . خامسا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ جمال حافظ إدريس عن ¬

_ (¬1) انظر ص (691) . (¬2) انظر ص (694) . (¬3) انظر ص (701)

طريقة الذبح في بعض الأمكنة المشهورة في اليونان من أن ذبح الحيوان الكبير يكون بعد سقوطه من ضرب رأسه بمسدس، ومن الشك في كون الذبح حصل بعد موته من المسدس أو قبل موته - لا يجوز الأكل منه، وهناك طريقة أخرى قال فيها صاحب التقرير: إن الذبح فيها على الطريقة الإسلامية، ولم يبين كيفية الذبح ولا ديانة الذابح. كما أنه لم يبين أماكن الذبح ولا شركاته في اليونان (¬1) سادسا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عن طريقة الذبح في يوغوسلافيا من أن الذبح في القرى، وفي (سراجيفو) على الطريقة الشرعية والذابح مسلم- يجوز الأكل مما ذبح فيها، وبناء على ما جاء فيه عن الذبح في غيرها من مدن يوغوسلافيا من أن الذابح قد يكون غير مسلم، كتابيا أو شيوعيا ظاهرا، لا في حقيقة الأمر، لا يجوز الأكل من ذبائح هذه المدن للشك في أهلية الذابح. سابعا: بناء على ما جاء في تقرير الدكتور الطباع عن طريقة الذبح في ألمانيا الغربية من أن الأبقار تضرب بمسدس في رؤوسها أولا، ثم لا تذبح إلا بعد أن تصير ميتة؛ لا تؤكل هذه الذبائح. (¬2) ثامنا: بناء على ما جاء في المقال الذي نشرته (مجلة المجتمع) عدد (414) عن طريقة الذبح بالدانمرك من أن الذابح إلى الشيوعيين والوثنيين أقرب منه إلى النصارى، ومن أن الشركة هناك ليست عندها معلومات عن ¬

_ (¬1) انظر ص (712) . (¬2) انظر ص (718) .

طريقة الذبح الإسلامية إلا من جهة الإشاعات، حتى يتأتى لها أن تراعي في ذبحها الطريقة الإسلامية، وأن تكتب على الطرود ذبح على الطريقة الإسلامية، وإنما تكتب هذه الصيغة الجهة المستوردة ليصدق عليها هناك من لا يؤمن، مع امتناعهم من تمكين من يريد معرفة كيفية الذبح في الشركة المصدرة من الاطلاع على ذلك. (¬1) وبناء على ما جاء أيضا عن الأستاذ أحمد صالح محايري عن محمد الأبيض المغربي الذي يعمل في تعليب اللحوم بالدانمرك من أنهم يكتبون عليها: ذبحت على الطريقة الإسلامية، وهذا غير صحيح؛ لأن قتل الحيوان يتم كهربائيا على كل حال؛ وبناء على هذا وذاك لا يجوز الأكل من تلك الذبائح. تاسعا: ما ذكر عن ابن العربي من إباحة الأكل مما ذكاه أهل الكتاب من الأنعام والطيور ونحوها مطلقا، وإن لم توافق تذكيتهم التذكية عندنا، وأن كل ما يرونه حلالا في دينهم فإنه حلال لنا، إلا ما كذبهم الله فيه - مردود بما تقدم في بيان طريقة الذبح وفي الفتاوى. عاشرا: مما تقدم في بيان كيفية الذبح وديانة الذابحين يتبين أن ما ذكر في كتاب (¬2) وزارة التجارة والصناعة إلى الرئاسة لا يقوى على بعث الاطمئنان في النفس إلى أن الذبائح المستوردة يحل الأكل منها، بل يبقى الشك على الأقل يساور النفوس في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية ¬

_ (¬1) انظر ص (715) (¬2) انظر ص (685) .

والأصل المنع. وعلى هذا لا بد من البحث عن طريقة لحل المشكلة.

خامسا حل مشكلة اللحوم المستوردة

خامسا: حل مشكلة اللحوم المستوردة: يتلخص ذلك فيما يأتي: 1 - الإكثار من تربية الحيوانات، والعناية بتنميتها، واستيراد ما يحتاج إليه منها إلى المملكة حيا، وتيسير أنواع العلف لها، وتهيئة المكان المناسب لتربيتها وتذكيتها بالمملكة، وبذل المعونة لمن يعنى بذلك من الأهالي شركات أو أفراد؛ تشجيعا له وتسهيل طريق توزيعها في المملكة. وكذا الحال بالنسبة لإنشاء مصانع الجبن وتعليب اللحوم والزيوت والسمن وسائر الأدهان. 2 - إنشاء مجازر خاصة بالمسلمين في البلاد التي يراد استيراد اللحوم منها إلى البلاد الإسلامية أو المملكة العربية السعودية، ويراعى في تذكية الحيوانات بها الطريقة الشرعية. 3 - اختيار عمال مسلمين أمناء عارفين طريقة التذكية الشرعية ليقوموا بتذكية الحيوانات تذكية شرعية في تلك الشركات بقدر ما تحتاج المملكة إلى استيراده منها. 4 - اختيار من يحصل به الكفاية من المسلمين الأمناء الخبيرين بأحكام التذكية الشرعية وأنواع الأطعمة ليشرف على تذكية الحيوانات، وعلى مصانع الجبن وتعليب اللحوم، ونحوها في الشركات التي تصدر ذلك إلى المملكة العربية السعودية.

وإذا كان اليهود حريصين على أن يكون الذبح متفقا مع عقيدتهم ومبادئهم - فخصصوا لذلك مجازر لهم وعمالا يذبحون لهم كما يريدون، فالمسلمون أحق بذلك منهم وأولى أن يستجاب لهم؛ لكثرة ما يستهلكون من اللحوم ومنتجات المصانع الغربية، وشدة حاجة أولئك إلى تصريف ما لديهم من لحوم ومنتجات أخرى. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

المجلد الثالث - إصدار: سنة 1421 هـ - 2001 م

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا أما بعد: فقد ظهرت في هذا العصر بعض المستجدات التي لم تكن موجودة، أو كانت موجودة ولكن الحاجة تتطلب البحث والتعمق فيها أكثر. وفي ظل هذه الحاجة قامت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ببحث بعض هذه المسائل المهمة وإعطاء الرأي الراجح فيها بعد البحث والتقصي. وهي أبحاث نافعة ومفيدة، مدعمة بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومن بعدهم، ومشتملة على الآراء الفقهية في المذاهب الأربعة، ومستنيرة برأي المختصين في تلك القضايا، وهي أبحاث يحتاجها طلبة العلم الذين تعرض لهم هذه القضايا وأمثالها. واستكمالا لما سبق نشره فإنه يسر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء أن تقدم لطلبة العلم الجزءين: الثالث والرابع من هذه الأبحاث [أبحاث هيئة كبار العلماء] ، وهما يشتملان على موضوعات سبق نشر بعضها في [مجلة البحوث الإسلامية] والبعض الآخر لم ينشر بعد.

سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها المسلمين. كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يثيب العاملين في إعداد وإخراج هذا الكتاب في الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، وفي الإدارة العامة لمراجعة المطبوعات الدينية، الذين قاموا بإعداد هذه الأبحاث وترتيبها وتصحيحها وطباعتها، وأن يرزقنا جميعا الإخلاص في القول والعمل، والمتابعة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والسير على نهج السلف الصالح. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

إثبات الأهلة

(1) إثبات الأهلة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم ملحق لبحث إثبات الأهلة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تمهيد يتعلق بالكلام على اعتبار قول المنجمين والحساب في إثبات الأهلة وعدم اعتباره أمور عامة يحتاج إليها في تحرير محل الخلاف بين علماء الشريعة في هذه المسألة واستدلالهم عليها، فرأينا تقديم الكلام فيها على البحث في الموضوع. أولا: الفرق بين الحاسب والمنجم: أن الحاسب: هو الذي يدعي معرفة الأوقات بمنازل القمر وسيره، والمنجم: هو الذي يزعم معرفة الأوقات والأحداث بسير الكواكب. والتنجيم نوعان: حسابي: وهو الذي يعرف به الأوقات؛ كطلوع الشمس، ودلوكها، وغروبها، ويعرف به كسوف الشمس، وخسوف القمر، وفصول السنة مثلا. واستدلالي: وهو ما يزعمه المنجم من العلم بالحوادث التي ستقع في

المستقبل عن طريق معرفته بسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، وقد يعتقد أن لها تأثيرا في الأحداث، وهذا مع ما فيه من فساد العقيدة ليس من محل البحث. ثانيا: الفرق بين الشهر القمري عند علماء الشريعة وعلماء النجوم والحساب: أن الشهر يبدأ عند علماء الشريعة من غروب شمس اليوم التاسع والعشرين إذا رئي الهلال بعد غروبها، أو كماله ثلاثين من تاريخ الرؤية السابقة إلى بدء الشهر الذي بعده بمثل هذا. فالمدار فيه على الرؤية بالفعل مع الغروب عند الجمهور، أو إمكان الرؤية عند جماعة من الفقهاء، ويبدأ عند علماء النجوم والحساب من ولادة القمر بمفارقته للشمس وتأخره عنها في السير إلى اجتماعه بها ولو كانت ولادته نهارا، فالعبرة عندهم بالافتراق والاجتماع، ولا يكون ذلك إلا مرة واحدة في كل شهر قمري. وبهذا يتبين: أن بدءه عند علماء الشريعة ونهايته لا يكون إلا بغروب الشمس، بخلاف بدئه ونهايته عند علماء النجوم والحساب، فإنه قد يكون نهارا أو ليلا. ثالثا: للهلال عند علماء النجوم ثلاث حالات: حال يقطع فيها بوجوده وبإمكان رؤيته، وحال يقطع فيها بوجوده وبامتناع رؤيته، وحال يقطع فيها بوجوده واحتمال رؤيته، وهذا راجع إلى بعده من الشمس وقربه منها عند الغروب، بعد مفارقته إياها.

أقوال العلماء في اعتبار كلام علماء النجوم والحساب في إثبات الأهلة

أقوال العلماء في اعتبار كلام علماء النجوم والحساب في إثبات الأهلة 1 - اتفق الفقهاء على أنه لا يعتبر في ابتداء الشهر القمري مجرد ولادة القمر بمفارقته للشمس نهارا أو ليلا، وإنما يعتبر في ابتدائه غروب الشمس إذا رئي بعد غروبها بالفعل على رأي الجمهور، أو أمكنت رؤيته لولا المانع عند بعض الفقهاء؛ خلافا للمنجمين والحساب، حيث اعتبروا ولادته ليلا أو نهارا ابتداء للشهر، وقال بعض المعاصرين: أول الشهر الحقيقي الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس ولو بلحظة واحدة، فيجب إثبات الأهلة عنده بالحساب في كل الأحوال إلا لمن استعصى عليه العلم به. 2 - ذهب جمهور فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمغرب منهم: مالك، والثوري، والشافعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وعامة أهل الحديث ـ إلى اعتبار رؤية الهلال بالشهور القمرية ابتداء أو انتهاء في الصحو أو كمال العدة ثلاثين يوما، فإن حال دون رؤيته سحاب وجب إكمال العدة ثلاثين أيضا، إلا في رواية عن أحمد بجعل شعبان تسعة وعشرين يوما، واعتبار ليلة الثلاثين منه أول رمضان؛ احتياطا للصوم، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. ومنشأ الخلاف بينهم في ذلك: احتياطهم في الغيم خاصة للصيام واختلافهم في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم فاقدروا له (¬1) » ، ففسره ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

الجمهور بما ورد في الرواية الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم «فأكملوا العدة ثلاثين (¬1) » ، وقال أحمد: معناه: فضيقوا؛ أخذا من قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} (¬2) ومن قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (¬3) فيقدر وجود الهلال وراء السحاب، وبذلك يعتبر شعبان ثلاثين يوما، ولم ير هؤلاء جميعا الاعتماد في ثبوت الشهور القمرية على علم النجوم والحساب، وألغوا قولهم بالكلية، فلو قال المنجمون والحساب: إن الهلال لا تمكن رؤيته، أو رئي قبل طلوع شمس اليوم التاسع والعشرين، أو غاب ليلة الثالث من تاريخ الرؤية قبل دخول وقت العشاء ـ لم يعول على قولهم في ذلك، ولا يعتد به معارضا لما ثبت بالرؤية. وذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وابن قتيبة وأبو العباس بن سريج والقفال والقاضي أبو الطيب ومحمد بن مقاتل الرازي والقشيري والسبكي ـ إلى اعتبار قول علماء النجوم والحساب في جواز الصوم أو وجوبه على خلاف بينهم إذا كان هناك غيم أو نحوه ليلة الثلاثين، وعلم بالحساب تأخر الهلال عن الشمس عند غروبها مقدارا تمكن معه رؤيته لولا المانع. ثم اختلفوا: هل يجوز لمن علم ذلك فقط بالحساب أن يصوم أو يجوز له ولمن صدقه وقلده، أو يجب عليه وحده الصوم، أو يجب عليه وعلى من قلده؟ إلى غير هذا من الخلاف في فروع المسألة. وقالوا: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقدروا له (¬4) » قدروا له منازل القمر وسيره، أو ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1907) . (¬2) سورة الأنبياء الآية 87 (¬3) سورة الطلاق الآية 7 (¬4) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

سير الكواكب؛ لتعرفوا وجوده أو عدمه، وإمكان رؤيته لولا المانع أو عدم إمكان رؤيته. قال النووي في [المجموع]ـ بعد أن ذكر خلاف العلماء في اعتبار الحساب وإثبات الأهلة وعدم اعتباره وجواز الصوم بذلك أو وجوبه أو منعه، وما يترتب على ذلك من إجزاء صوم من صام بالحساب عن الفريضة وعدم إجزائه ـ ما نصه: (فحصل في المسألة خمسة أوجه: أصحها: لا يلزم المنجم ولا الحاسب ولا غيرهما بذلك، لكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما. والثاني: يجوز لهما ويجزئهما. والثالث: يجوز للحاسب، ولا يجوز للمنجم. والرابع: يجوز لهما ولغيرهما تقليدهما. والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم) اهـ. وليس يعنينا هنا ما ترتب على أصل الخلاف من تفريغ إجزاء صوم من صام عن فريضته أو عدم إجزائه عنها وإنما يعنينا هنا أصل الخلاف في اعتبار الحساب في إثبات الأهلة وعدم اعتباره، وأدلة كل قول، ثم بالتفريع والتطبيق يعرف حكم الجزيئات والفروع؛ لذا اكتفينا بذكر أصل الخلاف.

أدلة الأقوال ومناقشتها

أدلة الأقوال ومناقشتها أولا: أدلة من يقول بإثبات الشهور القمرية برؤية الهلال فقط: أ - استدل الجمهور بأحاديث إثبات الهلال بالرؤية، ففيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم للرؤية والإفطار لها في قوله: «صوموا لرؤيته، وأفطروا

لرؤيته (¬1) » ، ونهى عن كل منهما عند عدمها في قوله: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه (¬2) » ، وأمرهم إذا كان غيم أو نحوه ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة ثلاثين، ولم يأمرهم بالحساب، ولا بالرجوع إلى الحساب، بل حصر بطريق النفي والإثبات الشهر بالرؤية، فدل على أنه لا اعتبار شرعا لما سواها في إثبات الأهلة، وهذا تشريع من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عام للحاضر والباد، أبدا إلى يوم القيامة، ولو كان هناك أصل آخر للتوقيت لأوضحه لعباده؛ رحمة بهم، وما كان ربك نسيا. واعترض عليه: بأن تعليق الحكم بثبوت رمضان والخروج منه بالرؤية معلل بوصف الأمة بأنها أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، وقد زال عنها وصف الأمية بكثرة علماء النجوم وحساب منازل القمر، فيزول تعليق الحكم بالرؤية أو بخصوص الرؤية، ويعتبر الحساب وحده أصلا أو يعتبر أصلا آخر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. وأجيب أولا: بأن وصف الأمة بأنها أمية لا يزال قائما اليوم بالنسبة لعلم النجوم ومنازل القمر في الأغلب والكثير منها، كما كان قائما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرون الأولى في الأغلب منها بالنسبة لعلم النجوم ومنازل القمر، فقد كان العلم بذلك معروفا عند العرب، لكن العارفون به قلة، كما أن العارفين به اليوم قلة بالنسبة لغيرهم، ومع ذلك لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون أمر المسلمين اليوم في هذا الحكم على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأجيب ثانيا: بأن الرؤية أمر عام؛ لتيسرها لسواد الأمة ومعظمها، فكان تعليق حكم صوم الشهر والإفطار منه بها أيسر للأمة، وأوفق بمقاصد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) . (¬2) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

الشريعة، فإنها الحنيفية السمحة، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب، والعلماء به قليل بالنسبة لسواد الأمة، فإنه يلزمهم ما لا يخفى من الحرج الذي يتنافى مع مقاصد الشريعة. واعترض عليها أيضا: بأن لفظ الرؤية وإن كان خاصا حسب ظاهره بما يكون بالبصر فإن معناه عام، إذا القصد العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال مفارقا للشمس بعد اجتماعه بها وتأخره عنها بعد الغروب أو بوجوده مع إمكان رؤيته، لا خصوص الرؤية بالبصر، فإن الرؤية اعتبرت لكونها وسيلة للعلم أو غلبة الظن، وهذا لا يمنع من أن تكون هناك وسيلة أخرى في معناها يعرف بها وجود الهلال فقط، أو وجوده مع إمكان رؤيته، فإذا وجدت اعتبرت، وقد تحقق هذا في علم النجوم ومنازل القمر. ويمكن أن يجاب: بأن الرؤية في الحديث بصرية؛ لتعديها لمفعول واحد، ولأن الصحابة فهموا ذلك، وجرى عليه العمل في عهدهم، ولو كان معنى الرؤية أوسع من لفظها لكان الصحابة أفهم له منا، ولرجعوا عند الحاجة إلى الحساب؛ لوجودهم بين أظهرهم، وإن كانوا قلة. قال ابن بزيزة: نهت الشريعة عن الخوض في علوم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع، ولا ظن غالب، مع أنها لو ارتبط الأمر بها لضاق الأمر، إذ لا يعرفها إلا القليل. وقال ابن بطال وغيره: معنى الحديث: إننا لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم. 2 - واستدلوا أيضا: بقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 189

قال ابن تيمية رحمه الله: فجعل الله تعالى الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة في الشرع ابتداء أو سببا من العبادة، وللأحكام التي تثبت بشروط العبد، فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة، وخص الحج بالذكر؛ تمييزا له، ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم، ولأنه يكون في آخر شهور الحول، فيكون علما على الحول، كما كان الهلال علما على الشهر، ولهذا يسمون الحول حجة. اهـ. بتصرف. لكن توجيه الاستدلال بالآية مجمل؛ ولذلك يمكن للمخالف أن يقول: الأهلة مواقيت للناس والحج عن طريق معرفة وجود الهلال بحساب النجوم ومنازل القمر، كما يحتمل أن تكون مواقيت عن طريق رؤية الهلال بالبصر، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، وإذا لا بد من الرجوع في الاستدلال بالآية إلى الأحاديث التي أوضحت أن ثبوت الشهر القمري إنما هو برؤية الهلال وألغت اعتبار ما سواه، كما تقدم في الدليل الأول. 3 - واستدلوا أيضا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإكمال العدة ثلاثين، إذا كان غيم أو نحوه مما يمنع عادة من رؤية الهلال، ولم يأمرهم بالحساب ولا بالرجوع إلى الحساب، ولو كان علم النجوم أو حساب سير القمر معتبرا شرعا وأصلا يرجع إليه ـ لعرفهم به، وأرشدهم إليه، إذ لا يجوز تأخير

البيان عن وقت الحاجة. واعترض عليه: بأن في الحديث أمرا بالرجوع إلى الحساب إذا كان غيم ليلة الثلاثين، فإن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم فاقدروا له (¬1) » : فإن حال دون الهلال سحاب أو نحوه فاقدروا منازل القمر وسير الكواكب، واعرفوا لحساب ذلك مفارقته الشمس بعد اجتماعه بها، وتأخره عنها بعد غروبها هذه الليلة. وأجيب أولا: بأن تفسير هذه الرواية بما ورد في الرواية الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم: «فأكملوا العدة الثلاثين (¬2) » يرد تفسيره بما ذكره المعترض. وثانيا: بأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وخطابه للأمة يحمل على معهود العرب في كلامهم وخطابهم، ولم يعهد من الصحابة الرجوع إلى الحساب، ولا كان من عادتهم ذلك، فحمل كلامه على الأمر بتقدير سير الكواكب أو القمر بعيد عما ألف لديهم، وعما جرى به العمل عندهم. 4 - واستدلوا أيضا: بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب (¬3) » . . . الحديث. قالوا: فلو جعل علم النجوم وحساب سير القمر ومعرفة منازله أصلا، يرجع إليه في بدء شهر الصوم ونهايته، وبدء شهر الحج ـ لكان فيه حرج ومشقة، والشريعة الإسلامية شريعة سمحة بنيت على التيسير ورفع الحرج، فلا تعلق أحكامها بما يشق على المسلمين معرفته؛ كعلم النجوم والحساب. واعترض عليه بما تقدم في الاعتراض على الدليل الأول: من أن وصف الأمية قد زال؛ لكثرة علماء النجوم، وحساب منازل القمر، والحكم يدور ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) . (¬2) صحيح البخاري الصوم (1907) . (¬3) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .

مع علته وجودا وعدما، فوجب اعتبار علم النجوم والحساب فقط، أو اعتباره أصلا آخر في معرفة الشهور والسنين القمرية. وأجيب عنه بما تقدم: قال ابن تيمية بعد أن ذكر أحاديث الاعتماد على الرؤية فقط في إثبات الشهور القمرية: (فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها: أن قوله: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب (¬1) » هو خبر تضمن نهيا، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط، أمية لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهيا عنهما، وهذا كقوله «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (¬2) » أي: هذه صفة المسلم، فمن خرج عنها خرج عن الإسلام، ومن خرج عن بعضها خرج عن الإسلام في ذلك البعض) (¬3) . ثم رد احتمال أن تكون هذه الجملة خبرا أريد به الإنشاء مجازا، وأن تكون خبرا محضا، واختار أن تكون خبرا حقيقة استلزم نهيا عن الاعتماد على كتابة الجداول وعلى حساب سير الكواكب؛ لمعرفة مواقيت العبادات ونحوها، وبين متى تكون الأمية محمودة ومتى تكون مذمومة. ثم قال: (إذا تبين هذا فكتاب أيام الشهر وحسابه من هذا الباب، كما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) . (¬2) صحيح البخاري الإيمان (10) ، صحيح مسلم الإيمان (40) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4996) ، سنن أبو داود الجهاد (2481) ، مسند أحمد بن حنبل (2/192) ، سنن الدارمي الرقاق (2716) . (¬3) انظر [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\164، 165)

قدمناه، فإن من كتب مسير الشمس والقمر بحروف (أبجد) ونحوها، وحسب كم مضى من مسيرها، ومتى يلتقيان ليلة الاستسرار، ومتى يتقابلان ليلة الإبدار ونحو ذلك، فليس في هذا الكتاب والحساب من الفائدة إلا ضبط المواقيت التي يحتاج إليها الناس في تحديد الحوادث والأعمال، ونحو ذلك، كما فعل ذلك غيرنا من الأمم، فضبطوا مواقيتهم بالكتاب والحساب - كما يفعلونه بالجداول، أو بحروف الجمل، وكما يحسبون مسير الشمس والقمر، ويعدلون ذلك ويقومونه بالسير الأوسط، حتى يتبين لهم وقت الاستسرار والإبدار، وغير ذلك، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب، ولا نحسب هذا الحساب، فعاد كلامه إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال وطلوعه. وقد قدمنا فيما تقدم: أن النفي وإن كان على إطلاقه يكون عاما، فإذا كان في سياق الكلام ما يبين المقصود علم به المقصود أخاص هو أم عام؟ فلما قرن ذلك بقوله: "الشهر ثلاثون" و"الشهر تسعة وعشرون" بين أن المراد به: أنا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب، إذ هو تارة كذلك، وتارة كذلك، والفارق بينهما هو الرؤية فقط، ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه، فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر، وإنما يقربون ذلك، فيصيبون تارة، ويخطئون أخرى) (¬1) . ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\ 173، 174) .

5 - واستدلوا أيضا: بإجماع الأمة قبل وجود المخالفين على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور دون الحساب، فلم يعرف أن أحدا منهم رجع إليه في ذلك عند الغيم ونحوه، وأما في الصحو فلم يعرف عن مسلم أنه قال باتباع الحساب في إثبات الأهلة، أو بتعليق عموم الحكم العام به (¬1) . ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\133) من (رسالة الهلال) .

ثانيا أدلة من يعتبر الحساب في إثبات الشهور القمرية

ثانيا: أدلة من يعتبر الحساب في إثبات الشهور القمرية: 1 - استدل من اعتبر الحساب في إثبات الشهر: بأن الله تعالى جعل الشمس والقمر والنجوم آيات للناس، وامتن بذلك على عباده، ولفت النظر إلى الاعتبار بها والانتفاع بأحوالها وبجريانها بحساب لا خلل فيه ولا اضطراب، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1) وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (¬2) وقال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (¬3) فإذا علم جماعة بالحساب وجود الهلال يقينا بعد غروب شمس التاسع والعشرين وتأخره عنها أو وجوده مع إمكان رؤيته لولا المانع، وأخبرنا عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر- وجب قبول خبرهم؛ لبناء علمهم على الحس والمشاهدة، ولأنهم لا يمكنهم التواطؤ على ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية 5 (¬2) سورة الإسراء الآية 12 (¬3) سورة الرحمن الآية 5

الكذب؛ لبلوغ المخبرين منهم عدد التواتر، وعلى تقدير أن عددهم لم يبلغ مبلغ التواتر فخبرهم يفيد غلبة الظن بوجود الهلال، أو وجوده مع إمكان رؤيته بعد غروب الشمس، وغلبة الظن كافية لبناء العمل عليها، فوجب قبول قولهم، والتسليم لهم في التوقيت في العبادات والمعاملات. وأجيب: بأنا نسلم أن الشمس والقمر والنجوم آيات للناس، وأن الاعتبار بها والانتفاع بالتفكير في أحوالها وفي جريانها بنظام واجب؛ لنجد في ذلك من الدلائل ما ينير القلوب، ويثبت العقيدة الصحيحة، ويبعث في النفوس الطمأنينة إلى ربها، ونعتبر بما نراه من مشاهد الكون وعجائبه، لكنه سبحانه لم يكلفنا بمعرفة حساب سيرها؛ لنعرف منه مواقيت عباداتنا ومعاملاتنا، وليكون علما على تجديدها؛ رحمة منه تعالى بعباده، فإن حساب سيرها خفي لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، ومع ذلك يكثر فيه الغلط والاضطراب، فأناط الشارع التكاليف بعلامات أخرى؛ كرؤية الهلال، وطلوع الشمس وغروبها، ومغيب الشفق، وانفلاق الفجر ونحوها مما يظهر لعامة الناس ويضبطون به مواقيت عباداتهم، وآجال معاملاتهم ومواعيدهم، وبذلك يعرف عدد السنين والشهور والأيام، لا بحساب سير الكواكب. أما علم جماعة من الحساب وجود الهلال يقينا على الحال التي ذكر المستدل لبناء علمهم على الحس والمشاهدة - فممنوع؛ لوجود الاختلاف والاضطراب في حسابهم، وهذا مما يدل على غلطهم، وليس علمهم الحساب مبنيا على حس ومشاهدة، إذ المشاهد الذي أحسوه إنما هو أجرام الكواكب، أما تقدير سيرها فمن عمل العقل لا الحس، وكثيرا ما يقع فيه

الخطأ والاضطراب، وعلى ذلك يكون إخبار عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر لا يفيد القطع واليقين بصحة ما أخبروا به؛ لأن من شرط إفادة المتواتر للقطع انتهاءه إلى الحس، وهؤلاء يستندون في خبرهم إلى تقدير سير الكواكب وحسابه، وهو عقلي لا يؤمن وقوع الغلط فيه، كما وقع في أخبار الفلاسفة بقدم العالم. ثم إعراض الشارع عنه دليل على إلغائه وعدم صلاحيته، وأنه لا يفيد ظنا غالبا، بل ينتهي بهم إلى خرص وتخمين في حسابهم وأحكامهم. وإليكم جملة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في (رسالة الهلال) (¬1) . قال رحمه الله بعد بيان رأي من يعتمد في معرفة أول رمضان على معرفة رابع رجب في السنة أو معرفة خامس رمضان في العام السابق، أو يعتمد على جدول حسابي يصنعه لنفسه أو يصنعه غيره: (وأما الفريق الثاني فقوم من فقهاء البصريين ذهبوا إلى أن قوله: «فاقدروا له (¬2) » تقدير حساب بمنازل القمر، وقد روي عن محمد بن سيرين قال: خرجت في اليوم الذي شك فيه، فلم أدخل على أحد يؤخذ منه العلم إلا وجدته يأكل، إلا رجلا كان يحسب ويأخذ الحساب، ولو لم يعلمه كان خيرا له، وقد قيل: إن الرجل: مطرف بن عبد الله بن الشخير، وهو رجل جليل القدر، إلا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء. وقد حكي هذا القول عن أبي العباس ابن سريج أيضا. وحكاه بعض المالكية عن الشافعي: أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (25\181-186) . (¬2) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة، وغم عليه - جاز له أن يعتقد الصيام - ويبيته ويجزئه، وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه، بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة، وإنما كان قد حكي عن ابن سريج - وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي - نسبة ذلك إليه إذ كان هو القائل بنصر مذهبه. واحتجاج هؤلاء بحديث ابن عمر في غاية الفساد، مع أن ابن عمر هو الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب (¬1) » ، فكيف يكون موجب حديثه العمل بالحساب. وهؤلاء يحسبون مسيره في ذلك الشهر ولياليه. وليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلا، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ واقع فيها أيضا، فإن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما، بل لا يمكن أن يكون إلى معرفته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقا كما سلك الأولون منهم من لم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد، وإنما هو تقريب، مثل أن يقال: إن رئي صبيحة ثمان وعشرين فهو تام، وإن لم ير صبيحة ثمان وعشرين فهو ناقص. وهذا بناء على أن الاستسرار لليلتين، وليس بصحيح، بل قد يستسر ليلة تارة، وثلاث ليال أخرى. وهذا الذي قالوه إنما هو بناء على أنه كل ليلة لا يمكث في المنزلة إلا ستة أسباع ساعة لا أقل ولا أكثر، فيغيب ليلة السابع نصف الليل ويطلع ليلة أربعة عشر من أول الليل إلى طلوع الشمس، وليلة الحادي والعشرين يطلع من نصف الليل، وليلة الثامن والعشرين إن استسر فيها نقص وإلا كمل، وهذا غالب سيره، وإلا فقد يسرع ويبطئ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .

وأما العقل (¬1) : فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة، أو لا يرى البتة على وجه مطرد، وإنما قد يتفق ذلك، أو لا يمكن بعض الأوقات؛ ولهذا كان المعتنون بهذا الفن من الأمم: الروم، والهند، والفرس والعرب وغيرهم مثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء، ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفا واحدا، ولا حدوه كما حدوا اجتماع القرصين، وإنما تكلم به قوم منهم في أبناء الإسلام: مثل: كوشيار الديلمي، وعليه وعلى مثله يعتمد من تكلم في الرؤية منهم. وقد أنكر ذلك عليه حذاقهم مثل أبي علي المروزي القطان وغيره، وقالوا: إنه تشوق بذلك عند المسلمين، وإلا فهذا لا يمكن ضبطه. ولعل من دخل في ذلك منهم كان مرموقا بنفاق، فما النفاق من هؤلاء ببعيد، أو يتقرب به إلى بعض الملوك الجهال، ممن يحسن ظنه بالحساب، مع انتسابه للإسلام. وبيان امتناع ضبط ذلك: أن الحاسب إنما يقدره على ضبط شبح الشمس والقمر، وجريهما أنهما يتحاذيان في الساعة الفلانية في البرج الفلاني في السماء المحاذي للمكان الفلاني من الأرض، سواء كان الاجتماع من ليل أو نهار وهذا الاجتماع يكون بعد الاستسرار، وقبل الاستهلال، فإن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين، كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستسر ليلة أو ليلتين؛ لمحاذاته لها، فإذا ¬

_ (¬1) معطوف على قوله قبل: أما السمع.

خرج من تحتها جعل الله فيه النور ثم يزداد النور، كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها، إلى أن يجامعها؛ ولهذا يقولون: الاجتماع والاستقبال، ولا يقدرون أن يقولوا: الهلال وقت المفارقة على كذا. يقولون: الاجتماع وقت الاستسرار، والاستقبال وقت الإبدار. ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار الذي هو الاجتماع والاستقبال، فالناس يعبرون عن ذلك بالأمر الظاهر من الاستسرار الهلالي في آخر الشهر وظهوره في أوله، وكمال نوره في وسطه، والحساب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الإبدار، فإن هذا يضبط بالحساب. وأما الإهلال فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط؛ لأنه لا يضبط بحساب يعرف كما يعرف وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار، إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة؛ وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة؛ لتحول الأرض بينه وبين الشمس فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لا بد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين. فنقول: الحاسب غاية ما يمكنه إذا صح حسابه أن يعرف مثلا أن القرصين اجتمعا في الساعة الفلانية، وأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر، إما بعشر درجات مثلا، أو أقل أو أكثر، والدرجة هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا من الفلك.

فإنهم قسموه اثني عشر قسما سموها: (الداخل) : كل برج اثنتا عشرة درجة، وهذا غاية معرفته، وهي بتحديد كم بينهما من البعد في وقت معين في مكان معين. هذا الذي يضبطه بالحساب. أما كونه يرى أولا يرى فهذا أمر حسي طبيعي، ليس هو أمرا حسابيا رياضيا، وإنما غايته أن يقول: استقرأنا: أنه إذا كان على كذا وكذا درجة يرى قطعا أو لا يرى قطعا - فهذا جهل وغلط، فإن هذا لا يجري على قانون واحد لا يزيد ولا ينقص في النفي والإثبات، بل إذا كان بعده مثلا عشرين درجة فهذا يرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يرى، وأما ما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية من وجوه. ثم ذكر اختلاف الرؤية باختلاف حدة البصر وكلاله، وباختلاف كثرة المترائين وقلتهم، وباختلاف مكان الترائي ارتفاعا وانخفاضا، وباختلاف وقت الترائي، وباختلاف صفاء الجو وكدره، ثم قال: (فإذا كانت الرؤية حكما تشترك فيه هذه الأسباب التي ليس شيء منها داخلا في حساب الحاسب، فكيف يمكنه مع ذلك أن يخبر خبرا عاما أنه لا يمكن أن يراه أحد حيث رآه على سبع أو ثمان درجات أو تسع، أم كيف يمكنه أن يخبر خبرا جزما أنه يرى إذا كان على تسعة أو عشرة مثلا؟ !) (¬1) إلى أن قال: (فتبين بهذا البيان: أن خبرهم بالرؤية من جنس خبرهم بالأحكام وأضعف) . وبعد أن ذكر اعتراف حذاق المنجمين بأن أحكامهم مبناها على الحدس والوهم قال: (فتبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\186- 190) .

واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك، ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن من منفعته بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة؛ ولهذا قال من قال: إن كلام هؤلاء بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وأن بعض الظن إثم ولقد صدق، فإن الإنسان الحاسب إذا قتل نفسه في حساب الدقائق والثواني كان غايته ما لا يفيد، وإنما تعبوا عليه؛ لأجل الأحكام، وهي ظنون كاذبة) (¬1) اهـ. 2 - واستدلوا ثانيا: برجوع الفقهاء إلى أهل الخبرة في كثير من شئونهم، فنراهم يرجعون إلى الأطباء في جواز فطر المريض في رمضان، ويرجعون إلى علماء اللغة في فهم نصوص الكتاب والسنة، ورجعوا في تقدير مدة التأجيل في العنين والمعترض وتقدير سن اليأس- إلى الحساب، إلى غير هذا من أمور، فيجب عليهم أن يرجعوا في بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى حساب النجوم ومنازل القمر. وأجيب: بوجود الفرق بين الرجوع إلى علماء الحساب والرجوع إلى الأطباء وعلماء اللغة فيما يخصهم. وبيانه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب في مسألتنا الرجوع إلى رؤية الأهلة ومنع الاعتماد على غيرها، فقال: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه (¬2) » ، ولم يمنع من الرجوع إلى الأطباء في تشخيص الأمراض وتقدير خطورتها وعلاجها، ولم يمنع من الرجوع إلى اللغة في فهم النصوص، بل ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\200- 201) . (¬2) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

أقر ذلك وجرى العمل عليه في عهده وعهد الصحابة، وكيف تفهم نصوص القرآن والسنة بدون اللغة العربية، وهي الوسيلة الوحيدة لذلك، أما ادعاء رجوع الفقهاء في تقدير مدة التأجيل فيما ذكر وفي تقدير سن اليأس إلى الحساب- فممنوع إن أريد به حساب النجوم ومنازل القمر وسيره، ومسلم إن أريد به الرجوع في تقدير ما ذكر إلى عد الشهور القمرية بناء على رؤية أهلتها، ويتبع هذا معرفة السنين، فإن السنة اثنا عشر شهرا بنص القرآن، وأما معرفة الأيام فراجعة إلى أمر حسي هو طلوع الشمس وغروبها. وبهذا يتبين: أن الشرع لم يدلهم في ضبط شئونهم على أمر خفي، كحساب سير النجوم، بل دلهم على أمر ظاهر عام؛ كالرؤية، وطلوع الشمس وغروبها ودلوكها. 3 - واستدلوا أيضا: بقياس التوقيت في ثبوت شهر الصوم ابتداء وانتهاء على توقيت الصلوات الخمس، فكما جاز الاعتماد في معرفة أوقات الصلوات الخمس على الحساب فليجز الاعتماد عليه في معرفة وقت ابتداء صوم رمضان والفطر منه جملة، بل يجب عليهم أن يرجعوا إلى علماء حساب النجوم ومنازل القمر في بدء الشهور القمرية ونهايتها، كما رجعوا إلى الساعات الفلكية واعتمدوا عليها في معرفة الأوقات في البلاد التي يكون الليل أو النهار فيها أكثر من أربع وعشرين ساعة. وأجيب: بما حكاه السبكي عن المانعين: أولا: أن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال الله تعالى:

{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (¬1) وفصلت السنة ذلك، وأناطه في الهلال برؤيته، فلم يعتبر وجوده في نفس الأمر. وثانيا: أن مقدمات الهلال خفية، ويكثر الغلط فيها، بخلاف الأوقات، ولا محذور في أن الهلال يعرف بالحساب وجوده وإمكان رؤيته، ولا يكلفنا الشرع بحكمه، ولو عمل في الأوقات كذلك كان الحكم كذلك، لكنه أناطه بوجودها فاتبعنا في كل باب ما قرره الشرع فيه. وأما من يستمر الليل أو النهار عندهم أربعا وعشرين ساعة فأكثر فالصوم والصلوات واجبة عليهم، وأوقاتها في هذه البلاد منوطة بأوقات الصوم والصلوات في أقرب البلاد التي تتميز فيها مواقيت العبادات إليهم، وكذا تقدير مدة الإيلاء والعدة والآجال ونحوها. 4 - واستدلوا أيضا: بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬2) إذ المعنى: فمن علم منكم دخول شهر رمضان بوجود الهلال بالأفق بعد غروب الشمس متأخرا عنها - وجب عليه الصوم، سواء أكان علمه بذلك عن طريق الرؤية أم عن طريق الحساب، مع إمكان الرؤية لولا المانع، وسواء أكان علمه بنفسه أم بإخبار غيره ممن يثق بخبره، وسواء أبلغ ذلك حد اليقين أم كان غلبة ظن. وأجيب: بأن الشهود بمعنى: الحضور لا العلم، بدليل ذكر مقابله بعده، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 78 (¬2) سورة البقرة الآية 185 (¬3) سورة البقرة الآية 185

وعلى تقدير تفسيره بالعلم - كما قيل- لم يكن في الآية حجة للمستدل؛ لأن المراد بالعلم: ما كان مستفادا من طريق الرؤية لا الحساب؛ لتعليق الرسول صلى الله عليه وسلم الصوم والإفطار بالرؤية خاصة، ولجريان العمل على هذا خاصة، كما تقدم في أدلة من لا يعتبر علم الحساب في العبادات ونحوها. 5 - واستدلوا أيضا: بأن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان الاعتماد عليه في إثبات الأهلة ونحوها عند تيسره أقرب إلى الصواب في التوقيت، وأضمن لتحقيق الوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم، وأبعد عن الخلاف في معاملاتهم. ويجاب بما تقدم: من أن اليقين في رؤيتهم للكواكب في السماء أو سماعهم بذلك، أما تقدير سيرها فعقلي عسير بعيد المنال وعر المسلك لخفائه؛ لهذا لم يعرفه إلا القليل، ووقع فيه الغلط والاضطراب فليس أقرب إلى الصواب، بل إنه لا يصلح الاعتماد عليه في إثبات الأهلة، وما وقع ويتوقع من الغلط ومن الاختلاف والاضطراب يمنع من تحقيقه للوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم ويبعد رفع الخلاف بينهم في المعاملات. وأما ما ذهب إليه بعض المعاصرين من وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال من صحو وغيم، إلا لمن استعصى عليه العلم به - فمردود بالإجماع، وبما تقدم من الأدلة.

قال ابن تيمية: (فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم) . (¬1) . وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ من أهم مراجع هذا البحث 1 -[المجموع] للنووي. 2 -[رسالة الهلال] لابن تيمية. 3 -[الموافقات] للشاطبي. 4 - البحث التاسع من [مجموع رسائل الشيخ محمد بخيت المطيعي] . 5 -[رسالة ابن عابدين في الأهلة] . ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (25\133) .

قرار رقم 2 بعدم اعتبار اختلاف المطالع

قرار رقم (2) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على خطاب المقام السامي رقم (22451) وتاريخ 6\11\1391هـ المتضمن إحالة موضوع الأهلة إلى هيئة كبار العلماء نظرا إلى أن الموضوع عند دراسة مجلس رابطة العالم الإسلامي في جلسته المنعقدة في 15 شعبان عام 1391هـ واطلاعها على قرار اللجنة الفقهية المنبثقة من المجلس، قررت الموافقة على القول: بعدم اعتبار اختلاف المطالع، إلا أن بعض أعضاء المجلس التأسيسي رأى التريث في الأمر، وزيادة البحث والتقصي في هذا الموضوع. بناء على ذلك عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392هـ ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع إثبات الأهلة المشتمل على الفقرتين التاليتين: أ- حكم اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره. ب- حكم إثبات الهلال بالحساب. وكذا قرار رابطة العالم الإسلامي الصادر منها في دورتها الثالثة عشرة المنعقدة في شهر شعبان عام 1391هـ، ومرفقه بحث اللجنة الفقهية المشكلة من بعض أعضاء مجلس الرابطة في الموضوع. وبعد دراسة المجلس للموضوع وتداول الرأي فيه، قرر ما يلي: أولا: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا

وعقلا، ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع من عدمه. ثانيا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها وفي أمثالها واقع ممن لهم الشأن في العلم والدين، وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجرا لاجتهاده. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره. واستدل كل فريق بأدلته من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬1) وبقوله صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته (¬2) » . . . الحديث وذلك لاختلاف الفهم في النص، وسلوك كل منهما طريقا في الاستدلال به. وعند بحث هذه المسألة في مجلس الهيئة، ونظرا لاعتبارات قدرتها الهيئة، ولأن هذا الخلاف في مسألة اعتبار اختلاف المطالع من عدمه ليس له آثار تخشى عواقبها. وقد مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنا لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 189 (¬2) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .

الأمية على رؤية واحدة - فإن أعضاء الهيئة يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته. ثالثا: أما ما يتعلق بإثبات الأهلة بالحساب: فبعد دراسة ما أعدته اللجنة الدائمة في ذلك، وبعد الرجوع إلى ما ذكره أهل العلم- فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته (¬1) » الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه (¬2) » الحديث. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... رئيس الدورة ... . محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي ... محضار عقيل عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) . (¬2) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

قرار رقم 34 بشأن موضوع توحيد أوائل الشهور القمرية

قرار رقم (34) وتاريخ 14\2\1395هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد: فبناء على خطاب معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء رقم (4680) وتاريخ 23\2\1394هـ المتضمن: أمر جلالة الملك بإحالة خطاب أمين عام هيئة الدعوة والإرشاد في (سورابايا) بشأن توحيد مواقيت الصلاة والصوم والحج إلى هيئة كبار العلماء، وإشارة لخطاب سعادة وكيل وزارة الخارجية رقم (300\5\6 \855\3) في 15\1\1394هـ ومشفوعاته: ما تبلغته سفارة جلالة الملك في الجزائر من وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية من وثائق حول الاعتماد على الحساب الفلكي لتحديد مواقيت العبادات. وبناء على المحضر رقم (7) من محاضر الدورة الخامسة لمجلس هيئة كبار العلماء المشتمل على إعداد قرار مدعم بالأدلة يعرض على الهيئة في دورتها السادسة لإقراره. وبعد دراسة المجلس للقرارات والتوصيات والفتاوى والآراء المتعلقة بهذا الموضوع وإعادة النظر في البحث الذي سبق أن أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع توحيد أوائل الشهور القمرية، والاطلاع على القرار الصادر من الهيئة في دورتها الثانية برقم (2) وتاريخ 13\2\1393هـ ومداولة الرأي في ذلك كله- قرر ما يلي:

أولا أن المراد بالحساب والتنجيم هنا معرفة البروج والمنازل

أولا: أن المراد بالحساب والتنجيم هنا معرفة البروج والمنازل، وتقدير سير كل من الشمس والقمر وتحديد الأوقات بذلك؛ كوقت طلوع

الشمس ودلوكها وغروبها، واجتماع الشمس والقمر وافتراقهما، وكسوف كل منهما، وهذا هو ما يعرف بـ (حساب التسيير، وليس المراد بالتنجيم هنا الاستدلال بالأحوال الفلكية على وقوع الحوادث الأرضية؛ من ولادة عظيم أو موته، ومن شدة وبلاء، أو سعادة ورخاء، وأمثال ذلك مما فيه ربط الأحداث بأحوال الأفلاك علما بميقاتها، أو تأثيرا في وقوعها من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله، وبهذا يتحرر موضوع البحث.

ثانيا لا عبرة شرعا بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءا وانتهاء بإجماع ما لم تثبت رؤيته شرعا

ثانيا: أنه لا عبرة شرعا بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءا وانتهاء بإجماع ما لم تثبت رؤيته شرعا، وهذا بالنسبة لتوقيت العبادات، ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله.

ثالثا أن رؤية الهلال هي المعتبرة وحدها في حالة الصحو ليلة الثلاثين

ثالثا: أن رؤية الهلال هي المعتبرة وحدها في حالة الصحو ليلة الثلاثين في إثبات بدء الشهور القمرية وانتهائها بالنسبة للعبادات فإن لم ير أكملت العدة ثلاثين بإجماع. أما إذا كان بالسماء غيم ليلة الثلاثين: فجمهور الفقهاء يرون إكمال العدة ثلاثين؛ عملا بحديث: «فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (¬1) » ، وبهذا تفسر الرواية الأخرى الواردة بلفظ: «فاقدروا له (¬2) » . وذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه، وبعض أهل العلم إلى اعتبار شعبان في حالة الغيم تسعة وعشرين يوما احتياطا لرمضان، وفسروا رواية: «فاقدروا له (¬3) » : بضيقوا، أخذا من قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (¬4) أي: ضيق عليه رزقه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1907) . (¬2) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) . (¬3) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) . (¬4) سورة الطلاق الآية 7

وهذا التفسير مردود بما صرحت به رواية الحديث الأخرى الواردة بلفظ: «فاقدروا له ثلاثين (¬1) » ، وفي رواية أخرى: «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين (¬2) » . وحكى النووي في شرحه على صحيح مسلم لحديث: «فإن غم عليكم فاقدروا له (¬3) » عن ابن سريج وجماعة، ومنهم مطرف بن عبد الله - أي: ابن الشخير - وابن قتيبة وآخرون- اعتبار قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري ابتداء وانتهاء، أي: إذا كان في السماء غيم. وقال ابن عبد البر: روي عن مطرف بن الشخير، وليس بصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه؛ لشذوذه فيه، ولمخالفة الحجة له ثم حكى عن ابن قتيبة مثله، وقال: ليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في مثل هذا الباب. ثم حكى عن ابن خويز منداد أنه حكاه عن الشافعي، ثم قال ابن عبد البر: والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه وجمهور العلماء خلافه. انتهى. وبهذا يتضح: أن محل الخلاف بين الفقهاء إنما هو في حال الغيم وما في معناه. وهذا كله بالنسبة للعبادات، أما بالنسبة للمعاملات فللناس أن يصطلحوا على ما شاءوا من التوقيت. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن أبو داود الصوم (2320) . (¬2) صحيح البخاري الصوم (1909) . (¬3) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

رابعا أن المعتبر شرعا في إثبات الشهر القمري هو رؤية الهلال فقط دون حساب سير الشمس والقمر

رابعا: أن المعتبر شرعا في إثبات الشهر القمري هو رؤية الهلال فقط دون حساب سير الشمس والقمر لما يأتي: أ - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته (¬1) » ، وحصر ذلك فيها بقوله: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه (¬2) » ، وأمر المسلمين إذا كان غيم ليلة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) . (¬2) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم، ولو كان قولهم أصلا وحده أو أصلا آخر في إثبات الشهر- لأمر بالرجوع إليهم، فدل ذلك على أنه لا اعتبار شرعا لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬1) ودعوى أن الرؤية في الحديث يراد بها العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال أو إمكان رؤيته لا التعبد بنفس الرؤية - مردودة؛ لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد، فكانت بصرية لا علمية، ولأن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة، وجرى العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهدهم على ذلك، ولم يرجعوا إلى علماء النجوم في التوقيت، ولا يصح أيضا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «فإن غم عليكم فاقدروا له (¬2) » أراد أمرنا بتقدير منازل القمر لنعلم بالحساب بدء الشهر ونهايته؛ لأن هذه الرواية فسرتها رواية: «فاقدروا له ثلاثين (¬3) » وما في معناه، ومع ذلك فالذين يدعون إلى توحيد أوائل الشهور يقولون بالاعتماد على حساب المنازل في الصحو والغيم، والحديث قيد القدر له بحالة الغيم. ب - أن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة، ودعوى زوال وصف الأمية في علم النجوم عن الأمة لو سلمت لا يغير حكم الشرع في ذلك. ج - أن علماء الأمة في صدر الإسلام قد أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحدا منهم رجع إليه في ¬

_ (¬1) سورة مريم الآية 64 (¬2) صحيح البخاري الصوم (1900) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) . (¬3) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن أبو داود الصوم (2320) .

ذلك عند الغيم ونحوه، أما عند الصحو فلم يعرف عن أحد من أهل العلم أنه عول على الحساب في إثبات الأهلة أو علق الحكم العام به.

خامسا تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية

خامسا: تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار أهل الحساب، وكذا تقدير المانع، فالاعتماد على ذلك في توقيت العبادات لا يحقق الوحدة المنشودة؛ ولهذا جاء الشرع باعتبار الرؤية فقط دون الحساب.

سادسا لا يصح تعيين مطلع دولة أو بلد كمكة مثلا لتعتبر رؤية الهلال منه وحده

سادسا: لا يصح تعيين مطلع دولة أو بلد - كمكة مثلا - لتعتبر رؤية الهلال منه وحده، فإنه يلزم من ذلك أن لا يجب الصوم على من ثبتت رؤية الهلال عندهم من سكان جهة أخرى، إذ لم ير الهلال في المطلع المعين.

سابعا ضعف أدلة من اعتبر قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري

سابعا: ضعف أدلة من اعتبر قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري. ويتبين ذلك بذكر أدلتهم ومناقشتها: أ- قالوا: إن الله أخبر بأنه أجرى الشمس والقمر بحساب لا يضطرب، وجعلهما آيتين وقدرهما منازل؛ لنعتبر، ولنعلم عدد السنين والحساب، فإذا علم جماعة بالحساب وجود الهلال يقينا وإن لم تمكن رؤيته بعد غروب شمس التاسع والعشرين أو وجوده مع إمكان الرؤية لولا المانع، وأخبرنا بذلك عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر - وجب قبول خبرهم؛ لبنائه على يقين، واستحالة الكذب على المخبرين؛ لبلوغهم حد التواتر، وعلى تقدير أنهم لم يبلغوا حد التواتر وكانوا عدولا فخبرهم يفيد غلبة الظن، وهي كافية في بناء أحكام العبادات عليها.

والجواب: أن يقال: إن كونها آيات للاعتبار بها والتفكير في أحوالها للاستدلال على خالقها ومجريها بنظام دقيق لا خلل فيه ولا اضطراب، وإثبات ما لله من صفات الجلال والكمال - أمر لا ريب فيه. أما الاستدلال بحساب سير الشمس والقمر على تقدير أوقات العبادات فغير مسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق بتفسير كتاب الله - لم يعلق دخول الشهر وخروجه بعلم الحساب، وإنما علق ذلك برؤية الهلال أو إكمال العدة في حال الغيم، فوجب الاقتصار على ذلك، وهذا هو الذي يتفق وسماحة الشريعة وسهولتها مع ما فيه من الدقة والضبط، بخلاف تقدير سير الكواكب فإن أمره خفي عقلي لا يدركه إلا النزر اليسير من الناس، ومثل هذا لا تبنى عليه أحكام العبادات. ب - وقالوا: إن الفقهاء يرجعون في كثير من شئونهم إلى أهل الخبرة فيرجعون إلى الأطباء في فطر المريض في رمضان، وتقدير مدة التأجيل في العنين والمعترض، وإلى أهل اللغة في تفسير نصوص الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الشئون، فليرجعوا في معرفة بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى علماء النجوم. والجواب: أن يقال: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الشرع إنما جاء بالرجوع إلى أهل الخبرة في اختصاصهم في المسائل التي لا نص فيها. أما إثبات الأهلة فقد ورد فيه النص باعتبار الرؤية فقط، أو إكمال العدة دون الرجوع فيه إلى غير ذلك. ج- وقالوا: إن توقيت بدء الشهر القمري ونهايته لا يختلف عن توقيت الصلوات الخمس وبدء صوم كل يوم ونهايته، وقد اعتبر الناس حساب

المنازل علميا في الصلوات والصيام اليومي فليعتبروه في بدء الشهر ونهايته. وأجيب: بأن الشرع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (¬1) وقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬2) وفصلت السنة ذلك، وأناطت وجوب صوم رمضان برؤية الهلال ولم تعلق الحكم في شيء من ذلك على حساب المنازل، وإنما العبرة بدليل الحكم. د- وقالوا: إن الله تعالى قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬3) إذ المعنى: فمن علم منكم الشهر فليصمه، سواء كان علم ذلك عن طريق رؤية الهلال مطلقا أو عن طريق علم حساب المنازل. والجواب: أن يقال: إن معنى الآية: فمن حضر منكم الشهر فليصمه، بدليل قوله تعالى بعده: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬4) وعلى تقدير تفسير الشهود بالعلم، فالمراد: العلم عن طريق رؤية الهلال، بدليل حديث: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه (¬5) » . هـ- وقالوا: إن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 78 (¬2) سورة البقرة الآية 187 (¬3) سورة البقرة الآية 185 (¬4) سورة البقرة الآية 185 (¬5) صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .

الاعتماد عليه في إثبات الشهور القمرية أقرب إلى الصواب وتحقيق الوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم. وأجيب: بأن ذلك غير مسلم؛ لأن الحس واليقين في مشاهدة الكواكب لا في حساب سيرها، فإنه أمر عقلي خفي لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، كما تقدم؛ لحاجته إلى دراسة وعناية، ولوقوع الغلط والاختلاف فيه، كما هو الواقع في اختلاف التقاويم التي تصدر في كثير من البلاد الإسلامية، فلا يعتمد عليه ولا تتحقق به الوحدة بين المسلمين في مواقيت عباداتهم. ووقالوا: إن تعليق الحكم بثبوت الشهر على الأهلة معلل بوصف الأمة بأنها أمية، وقد زال عنها هذا الوصف، فقد كثر علماء النجوم، وبذلك يزول تعليق الحكم بالرؤية أو بخصوص الرؤية، ويعتبر الحساب وحده أصلا، أو يعتبر أصلا آخر إلى جانب الرؤية. والجواب: أن يقال: إن وصف الأمة بأنها أمية لا يزال قائما بالنسبة لعلم سير الشمس والقمر وسائر الكواكب، فالعلماء به نزر يسير، والذي كثر إنما هو آلات الرصد وأجهزته، وهي مما يساعد على رؤية الهلال في وقته، ولا مانع من الاستعانة بها علة الرؤية وإثبات الشهر بها، كما يستعان بالآلات على سماع الأصوات، وعلى رؤية المبصرات، ولو فرض زوال وصف الأمية عن الأمة في علم الحساب - لم يجز الاعتماد عليه في إثبات الأهلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالرؤية، أو إكمال العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب واستمر عمل المسلمين على ذلك بعده. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

حرر في 14\2\1395هـ. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة السادسة عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الرزاق عفيفي محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن ... عبد الله بن منيع له وجهة نظر مرفقة ... لي وجهة نظر مكتوبة ... له وجهة نظر مرفقة صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح محمد الحركان ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد صالح بن لحيدان ... عبد الله خياط ... راشد بن خنين

وجهة نظر للمشايخ عبد الله بن منيع ومحمد بن جبير وعبد المجيد حسن

وجهة نظر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. وبعد: فقد استعرضنا البحوث المقدمة للمجلس في موضوع (حكم العمل بالحساب في ثبوت دخول الشهر أو خروجه) وقرارات المؤتمرات المنعقدة؛ لبحث ذلك الموضوع، وأعدنا النظر في البحث المعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في ذلك، ولم نجد فيما اطلعنا عليه من البحوث المذكورة بحثا في الموضوع من أهل الاختصاص في علم الفلك. وقد رأينا في تلك البحوث من يدعي: أن نتائج الحساب الفلكي قطعية الدلالة وينكر أن تكون مبنية على ظن أو تخمين، كما وجدنا فيهم من يدعي: أن نتائج الحساب الفلكي مبنية على الحدس والظن والتخمين وينكر قطعية نتائجها. وليس في الفريقين من يعتبر أهلا لقبول قوله في قطعية النتائج أو ظنيتها؛ لكونه ليس من علماء الفلك. وحيث إن الحكم في رأينا يختلف بالنسبة للأمرين: قطعية النتائج أو ظنيتها، حيث إن القول بقطعية نتائج الحساب الفلكي يقضي برد الشهادة برؤية الهلال دخولا أو خروجا إذا تعارضت معها؛ لأن من شروط اعتبار الشهادة بالإجماع: أن تكون منفكة عما يكذبها حسا وعقلا، فإذا قرر الحساب الفلكي عدم ولادة الهلال، وجاء من يشهد برؤيته - كانت شهادته ملازمة لما يكذبها عقلا، وهو القول باستحالة الرؤية للقطع بعدم

ولادة الهلال، كما أن القول بظنية النتائج يقضي بردها - أي: النتائج - واعتبار الشهادة بالرؤية؛ لإمكانها، وظنية النتائج الفلكية، وذلك في حال تعارض الشهادة بالرؤية مع نتائج الحساب. ونظرا إلى أن القول بقطعية نتائج الحساب الفلكي أو ظنيتها من قبيل الدعوى من الطرفين، وأن القول في الأمور الشرعية يقتضي التحقق والتثبت والاستقصاء - فقد طلبنا من المجلس استقدام أصحاب اختصاص في علم الفلك؛ لمناقشتهم في ذلك والتحقق منهم فيما يدعيه الطرفان، كما تقضي بذلك المادة () من لائحة أعمال المجلس، فرأى المجلس بالأكثرية عدم الحاجة إلى استقدامهم. وعليه فإننا نؤكد ضرورة استقدام خبراء في علم الفلك لتحقق دعوى قطعية نتائج الحساب الفلكي أو ظنيتها، وعلى ضوء ذلك نقرر ما نراه. وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 14\2\1395هـ. عضو الهيئة ... عضو الهيئة ... عضو الهيئة عبد الله بن سليمان بن منيع ... محمد بن جبير ... عبد المجيد حسن

قرار رقم 108 حول موضوع إنشاء مراصد فلكية يستعان بها في تحري رؤية الهلال

قرار رقم (108) وتاريخ 2\11\1403هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد: ففي الدورة الثانية والعشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف، ابتداء من العشرين من شهر شوال حتى الثاني من شهر ذي القعدة عام 1403هـ بحث المجلس موضوع إنشاء مراصد فلكية يستعان بها عند تحري رؤية الهلال، بناء على الأمر السامي الموجه إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (4\ص\19524) وتاريخ 18\8\1403هـ، والمحال من سماحته إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم (2652\1\د) ، وتاريخ 1\9\1403هـ واطلع على قرار اللجنة المشكلة بناء على الأمر السامي رقم (6\2) وتاريخ 2\1\1403هـ، والمكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء وأعضاء الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، والشيخ محمد بن عبد الرحيم الخالد، ومندوب جامعة الملك سعود الدكتور فضل أحمد نور محمد، والتي درست موضوع الاستعانة بالمراصد على تحري رؤية الهلال، وأصدرت في ذلك قرارها المؤرخ في 16\5\1403هـ المتضمن: أنه اتفق رأي الجميع على النقاط الست التالية: 1 - إنشاء المراصد كعامل مساعد على تحري رؤية الهلال لا مانع منه شرعا.

2 - إذا رئي الهلال بالعين المجردة، فالعمل بهذه الرؤية، وإن لم ير بالمرصد. 3 - إذا رئي الهلال بالمرصد رؤية حقيقية بواسطة المنظار تعين العمل بهذه الرؤية، ولو لم ير بالعين المجردة؛ وذلك لقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1) ولعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما (¬2) » ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم (¬3) » . . . الحديث يصدق أنه رئي الهلال، سواء كانت الرؤية بالعين المجردة أم بها عن طريق المنظار، ولأن المثبت مقدم على النافي. 4 - يطلب من المراصد من قبل الجهة المختصة عن إثبات الهلال تحري رؤية الهلال في ليلة مظنته، بغض النظر عن احتمال وجود الهلال بالحساب من عدمه. 5 - يحسن إنشاء مراصد متكاملة الأجهزة للاستفادة منها في جهات المملكة الأربع، تعين مواقعها وتكاليفها بواسطة المختصين في هذا المجال. 6 - تعميم مراصد متنقلة؛ لتحري رؤية الهلال في الأماكن التي تكون مظنة رؤية الهلال، مع الاستعانة بالأشخاص المشهورين بحدة البصر، وخاصة الذين سبق لهم رؤية الهلال. اهـ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 185 (¬2) صحيح البخاري الصوم (1907) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن ابن ماجه الصيام (1654) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1690) . (¬3) سنن النسائي الصيام (2117) .

وبعد أن قام المجلس بدراسة الموضوع ومناقشته ورجع إلى قراره رقم (2) الذي أصدره في دورته الثانية المنعقدة في شهر شعبان من عام 1394هـ في موضوع الأهلة قرر بالإجماع: الموافقة على النقاط الست التي توصلت إليها اللجنة المذكورة أعلاه، بشرط أن تكون الرؤية بالمرصد أو غيره ممن تثبت عدالته شرعا لدى القضاء كالمتبع، وأن لا يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر أو خروجه. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد المجيد حسن ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ سليمان بن عبيد ... صالح بن غصون ... راشد بن خنين عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان محمد بن جبير ... عبد الله بن قعود ... . أوافق على النقاط الخمس من قرار ... . ... . اللجنة أما النقطة الثانية فلا أوافق عليها ... . ... .

بيان حكم إحياء ديار ثمود

(2) بيان حكم إحياء ديار ثمود هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: هذا بحث في بيان حكم إحياء ديار ثمود: فمن العلماء من منعه، ومنهم من أجازه، ولكل منهما مستند. وفيما يلي بيان لبعض القائلين بكل قول، وبيان أدلتهم، ووجه الدلالة منها، والمقارنة بين الأدلة، وذكر بعض النظائر، ويختم البحث بذكر حكمة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود، ثم بعد ذلك قائمة بأسماء المصادر التي أعد هذا البحث منها، والله ولي التوفيق. أما القائلون بالمنع: فمنهم أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، وأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ومحمود بن أحمد العيني، ومحمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، والإمام أحمد، والحارثي وغيرهم، واستدلوا بما أخرجه البخاري في [صحيحه] بسنده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر

قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه، وأسرع السير حتى أجاز الوادي (¬1) » وأخرج أيضا بسنده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثلما أصابهم (¬2) » . وأخرج البخاري أيضا بسنده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم (¬3) » . وأخرج البخاري في [صحيحه] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها، واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء (¬4) » . وقال البخاري: ويروى عن سبرة بن معبد، وأبي الشموس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام (¬5) » ، وقال أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من اعتجن بمائه (¬6) » . ثم ساق البخاري بسنده، عن عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر، ¬

_ (¬1) [فتح الباري] ، الجزء 8، كتاب المغازي، غزوة تبوك 125، رقم الحديث (4419) . (¬2) [فتح الباري] ، الجزء 8، كتاب المغازي، غزوة تبوك 125، رقم الحديث (4420) . (¬3) [فتح الباري] (1 \ 530) ، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، رقم الحديث (433) . (¬4) [فتح الباري] (6 \ 378) ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى (وإلى ثمود أخاهم صالحا) وما بعدها، حديث رقم (3378) . (¬5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3378) . (¬6) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3378) .

واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة، تابعه أسامة عن نافع. ثم ساق البخاري بسنده، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تقنع بردائه وهو على الرحل (¬1) » . ثم ساق البخاري بسنده عن سالم، أن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم (¬2) » . هذه الأدلة التي سبقت؛ منها ما أخرجه البخاري مسندا، ومنها ما رواه معلقا بصيغة التمريض، ومنها ما رواه بصيغة الجزم، ومنها ما ذكره على سبيل المتابعة. أما ما ذكره مسندا فقد أشير إليه فيما سبق، وأما ما رواه معلقا بصيغة التمريض فإنه ذكر حديثين بين ابن حجر رحمه الله اتصال سند كل منهما فقال: أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده سبرة - وهو بفتح المهملة وسكون الموحدة - الجهني قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (6 \ 378) ، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى (وإلى ثمود أخاهم صالحا) حديث رقم (3380) . (¬2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3381) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (2/117) .

راح من الحجر: من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة، أو حاس به حيسا فليلقه» . وأما حديث أبي الشموس - وهو بمعجمة، ثم مهملة، وهو بكري لا يعرف اسمه، فوصل حديثه البخاري في [الأدب المفرد] والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير عن أبيه عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك» - فذكر الحديث - وفيه «فألقى ذو العجين عجينه، وذو الحيس حيسه» ، ورواه ابن أبي عاصم، من هذا الوجه، وزاد «فقلت: يا رسول الله قد حسيت حيسة، أفألقمها راحتلي؟ قال: نعم» . وأما المعلق بصيغة الجزم فهو حديث واحد، قال ابن حجر، وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه، «أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأتوا على واد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنكم بواد ملعون، فأسرعوا وقال: من اعتجن عجينة أو طبخ قدرا فليكبها» الحديث، وقال: لا أعلمه إلا بهذا الإسناد. وأما ما أخرجه البخاري على سبيل المتابعة فقد قال ابن حجر (¬1) . قوله: (تابعه أسامة) يعني: ابن زيد الليثي، (عن نافع) أي: عن ابن عمر روينا هذه الطريق موصولة في حديث حرملة عن ابن وهب قال: أخبرنا أسامة بن زيد - فذكر حديث عبيد الله، وهو ابن عمر العمري، وفي آخره: «وأمرهم أن ينزلوا على بئر ناقة صالح ويستقوا منها» . هذه أدلة القائلين بالمنع، أما وجه استدلالهم بها فقد قال ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (6 \ 380) ، كتاب أحاديث الأنبياء

الخطابي (¬1) : وفيه دلالة على أن مساكن هؤلاء لا تسكن بعدهم، ولا تتخذ وطنا؛ لأن المقيم المستوطن لا يمكنه دهره باكيا أبدا، وقد نهي أن تدخل دورهم إلا بهذه الصفة، وفيه المنع من المقام بها والاستيطان. انتهى بواسطة نقل الكرماني عنه. وقال ابن حجر (¬2) : وفي الحديث الحث على المراقبة، والزجر عن السكنى في ديار المعذبين، والإسراع عند المرور بها. وذكر العيني (¬3) وجه الدلالة، كما ذكره الخطابي، إلا أنه أبدل لفظة (مساكن) التي ذكرها الخطابي - أبدلها بقوله: (ديار) ، كما ذكر الجملة الأخيرة من كلام ابن حجر. وقال ابن القيم (¬4) : ومنها: أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها، ولا يقيم بها، بل يسرع السير، ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها، ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا. وقال محمد بن مفلح (¬5) : وسأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به؟ قال: لا، إلا من ضرورة، لا يقيم بها. انتهى. وقال مرعي بن يوسف (¬6) ، ومصطفى السيوطي: (قال الحارثي: مساكن) ديار (ثمود) لا تملك؛ لعدم دوام البكاء مع السكنى، (ومع ¬

_ (¬1) [الكرماني على البخاري] (4 \ 95) ، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب. (¬2) [فتح الباري] ، (1 \ 531) ، كتاب الصلاة. (¬3) [عمدة القاري] (4 \ 191) كتاب الصلاة (¬4) [زاد المعاد] (3 \ 26) غزوة تبوك. (¬5) [الفروع] (6 \ 301) كتاب الأطعمة. (¬6) [غاية المنتهى، وشرحها مطالب أولى النهي] (4 \ 179) ، باب إحياء الموات.

الانتفاع) على رواية الأظهر خلافها. انتهى. وكما استدل بتلك الأدلة التي سبقت على منع إحياء ديار ثمود أخذا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلا في حالة البكاء دائما ما دام فيها، وأن هذا متعذر، ومن كونه صلى الله عليه وسلم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي فقد أخذ منها أيضا منع الأحياء من وجه آخر، وهو منع الصلاة فيها، والطهارة من مائها، والتيمم بترابها، واستعمال مائها للشرب والطبخ، وهذه الطائفة من كلام أهل العلم في ذلك: قال البخاري (¬1) في [صحيحه] ، باب الصلاة في مواضع الخسف، العذاب، وذكر على أثر علي الدال على منع الصلاة في مواضع الخسف، ثم ذكر حديث النهي عن دخول ديار ثمود إلا في حالة البكاء. فهذا يدل على أن البخاري يرى منع الصلاة فيها. ونقله العيني (¬2) عن أبي بكر بن العربي المالكي. وقال القرطبي (¬3) : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع، وقال: لا تجوز الصلاة فيها؛ لأنها دار سخط، وبقعة غضب. وقد سبق قول الإمام أحمد رحمه الله (لا يقيم فيها) ، وهذا يدل على أن يرى منع الصلاة فيها. هذا بالنسبة لمنع الصلاة فيها. وأما عدم جواز استعمال مائها للطهارة والشرب والطبخ، وكذلك ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (1 \ 530) . (¬2) [عمدة القاري] (4 \ 190) ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب. (¬3) [تفسير القرطبي] (10 \ 47) سورة الحجر.

استعمال التراب للتيمم - فقد قال القرطبي (¬1) : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأنه ماء سخط، فلم يجز الانتفاع به؛ فرارا من سخط الله، وقال: اعلفوه الإبل. قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم، إذا لا تكليف عليها. وقال النووي (¬2) بعد سياق الأدلة: قلت: فاستعمال ماء هذه الآبار المذكورة في طهارة وغيرها مكروه أو حرام إلا لضرورة؛ لأن هذه سنة صحيحة لا معارض لها، وقد قال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فيمنع استعمال آبار ثمود إلا بئر الناقة، ولا يحكم بنجاستها؛ لأن الحديث لم يتعرض للنجاسة، والماء طهور بالأصالة. وقال موسى بن أحمد بن سالم المقدسي، ومنصور بن يونس البهوتي (¬3) : (ولا يباح ماء آبار) ديار (ثمود غير بئر الناقة) . (فظاهره) أي: ظاهرة القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود (لا تصح الطهارة) أي: الوضوء والغسل (به) ؛ لتحريم استعماله كماء مغصوب أو) ماء (ثمنه المعين حرام) في البيع فلا يصح الوضوء بذلك ولا الغسل به؛ لحديث: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬4) » . (فيتيمم معه) أي: مع ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود، ومع المغصوب وما ثمنه المعين الحرام (لعدم غيره) من المباح، ولا يستعمله؛ لأنه ممنوع ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (1 \ 46) ، سورة الحجر. (¬2) [المجموع شرح المهذب] (1 \ 137) ، كتاب الطهارة. (¬3) [الإقناع وشرحه] (1 \ 21، 22) كتاب الطهارة. (¬4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .

منه شرعا، فهو كالمعدوم حسا، انتهى. وتقدم جواب الإمام أحمد رحمه الله لما سأله مهنا عمن نزل الحجر أيشرب من مائها أو يعجن به؟ قال: لا إلا من الضرورة، لا يقيم بها. وحاصل ما سبق: أن من ذكر من العلماء استدل بالأدلة التي سبقت على عدم جوازها إحياء ديار ثمود، وأنه لا يجوز استعمال مائها للطهارة أو شرب أو طبخ، ولا يجوز التيمم بترابها، وأن الأدلة دلت على ذلك، وأن توجيه الاستدلال منها كما يأتي: 1 - نهى صلى الله عليه وسلم عن دخول ديار ثمود، إلا في حال البكاء، وأنه لا بد من ملازمة البكاء ما دام باقيا فيها، ولو أنه بقي في أي جزء منها بدون هذه الصفة صدق عليه أنه دخل ذلك الجزء وهو غير باك فيكون منهيا عن الدخول فيه، فكما أنه منهي عن الدخول ابتداء إلا وهو متصف بالبكاء فنهيه عن الاستمرار بدون البكاء من باب أولى، فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي يقتضي التحريم والفساد، هذه هي القاعدة العامة في ذلك، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل يدل على ذلك، وكما صدر القول منه صلى الله عليه وسلم في النهي عن دخول ديارهم إلا في حالة الاتصاف بالبكاء، فقد قنع رأسه، وأسرع السير وهو على الرحل حتى اجتاز الوادي، والإحياء يترتب عليه البقاء فيها وبناء المساكن، ولا يمكن دوام البقاء مع ملازمة البكاء، ودوام البقاء مع ملازمة البكاء ممتنع، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، فيمتنع الإحياء لامتناع البقاء مع ملازمة البكاء. 2 - أمره صلى الله عليه وسلم بعدم الشرب من مائها، وعدم الطبخ، وأمره صلى الله عليه وسلم بطرح العجين الذي عجنوا به من مائها، وبإهراق الماء الذي استقوا من الآبار،

وأمرهم بأن يستقوا من بئر الناقة. والأصل في الأمر أنه يقتضي الوجوب، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل، ولا نعلم دليلا يصرفه عن أصله واستعماله للطهارة أولى من استعماله للشرب والطبخ فيمنع، وقيس التيمم بترابه على الطهارة من مائه فيمتنع التيمم بترابه. والإحياء لهذه البقعة بالزرع وبغرس النخل والأشجار يترتب عليه استعمال البقعة، والبقاء فيها، واستعمال الماء لما ذكره، وهو مثل استعمال الماء الذي عجن به العجين، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بإلقاء العجين، فدل على أن فعلهم حرام، فيحرم استعمال الماء للإحياء، وأما البقاء فيها فقد سبق منعه إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها، وأن استدامة البكاء متعذرة، وإذا كان الأمر على ما وصف فكيف الإحياء والبقاء؟ !

المذهب الثاني جواز الإحياء

المذهب الثاني: جواز الإحياء، وهذا المذهب مأخوذ من عموم كلام الحنفية والمالكية، والشافعي، والثوري، والرملي، ونص عليه الماوردي، وهو أظهر الروايتين في مذهب أحمد. أما المذهب الحنفي: فقد قال محمد أمين الشهير بابن عابدين قال في [الملتقي] : الموات: أرض لا ينتفع بها عادية، أو مملوكة في الإسلام ليس لها مالك معين مسلم أو ذمي، وعند محمد: إن ملكت في الإسلام لا تكون مواتا (¬1) . اهـ. ومثله في [الدرر] ، و [الإصلاح] ، و [القدوري] ، و [الجوهرة] ، ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (5 \ 481) ، باب إحياء الموات.

وقوله: عادية أي تقدم خرابها، كأنها ضربت في عهد عاد. انتهى المقصود. وأما المذهب المالكي: فقال خليل: موات الأرض: ما سلم عن الاختصاص بعمارة ولو اندرست إلا الإحياء، وبحريمها كمحتطب ومرعي. . (¬1) إلخ. وقال محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب: والموات: بفتح الميم، ويقال: موتان بفتح الميم والواو: الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء ولا عمارة، ولا ينتفع بها إلا أن يجري إليها ماء، أو تستنبط فيها، أو يحفر فيها بئر. (¬2) . والتعريف المذكور تبع المصنف فيه ابن الحاجب، وهو تبع ابن شاس، وهو تبع الغزالي، وهو قريب مما قال أهل اللغة في معناه، وقال ابن عرفة إحياء الموات لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها، وموات الأرض، قال ابن رشد في رسم الدور من سماع يحيى بن القاسم، من كتاب [السداد والأنهار] : روى ابن غانم: موات الأرض هي التي لا نبات فيها؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (¬3) فلا يصح الإحياء إلا في البوار، انتهى المقصود. ووجه دلالة هذا الكلام، وكلام الحنفية قبله على جواز إحياء ديار ثمود أنه لم يرد عنهم استثناء، فدل على أنها باقية على الأصل. ¬

_ (¬1) [مختصر خليل] (2 \ 202) . (¬2) [مواهب الجليل على مختصر خليل] (5 \ 2) باب إحياء الموات. (¬3) سورة الجاثية الآية 5

وأما المذهب الشافعي: فقد قال الشافعي: والموات الثاني: ما لم يملكه أحد في الإسلام بعرف ولا عمارة، ملك في الجاهلية، أو لم يملك، فذلك الموات الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحيا مواتا فهو له» (¬1) . وقال النووي: وإن كانت عمارة جاهلية فقولان: ويقال وجهان: أحدهما: لا تملك بالإحياء؛ لأنها ليست بموات، وأظهرهما تملك كالركاز. وقال ابن سريج وغيره: إن بقي أثر العمارة أو كان معمورا في الجاهلية قريبة لم تملك بالإحياء، وإن اندرست بالكلية وتقادم عهدها ملكت (¬2) . وقال الرملي: وإن كانت العمارة جاهلية جهل دخولها في أيدينا فالأظهر أنه - أي: المعمور - يملك بالإحياء، إذ لا حرمة لملك الجاهلية، والثاني: المنع؛ لأنها ليست بموات (¬3) . وقال الماوردي: والضرب الثاني من الموات: ما كان عامرا فخرب فصار مواتا عاطلا، وذلك ضربان: أحدهما: ما كان جاهليا كأرض عاد وثمود، فهي كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عادي الأرض لله ولرسوله، وثم هي لكم مني» ، يعني: أرض عاد (¬4) . ¬

_ (¬1) [الأم] (3 \ 264) ، باب إحياء الموات. (¬2) [المجموع شرح المهذب] (5 \ 279) ، باب إحياء الموات. (¬3) [نهاية المحتاج شرح المنهاج] (5 \ 233) ، باب إحياء الموات. (¬4) [الأحكام السلطانية] ص 190، باب إحياء الموات.

وأما المذهب الحنبلي: فقد قال عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة (¬1) : النوع الثاني: ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي؛ كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم - فهذا يملك بالإحياء في أظهر الروايتين؛ لما ذكرنا من الأحاديث. إلخ. إلى أن قال: والرواية الثانية: لا تملك؛ لأنها إما لمسلم، أو ذمي أو بيت المال، أشبه ما لو تبين مالكه. انتهى المقصود. وقال محمد بن الحسن الفراء الحنبلي (¬2) : الضرب الثاني من الموات: ما كان عامرا فضرب وصار مواتا عاطلا، فذلك ضربان: أحدهما: ما كان جاهليا؛ كأرض عاد وثمود، فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز إقطاعه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» ، يعني: أرض عاد. انتهى. وقال مصطفى السيوطي: (¬3) بعد ذكره جواز ملك ديار ثمود، وقول الحارثي: إنها لا تملك، وشيء من أدلة المذهب، وقال بعد ذلك: ولم يذكر القاضي في [الأحكام السلطانية] ، والموفق في [المغني] خلافا في جواز إحيائه، قال في [الإنصاف] : وهو طريقة صاحب المحرر والوجيز وغيرهما، قال الحارثي: وهو الحق والصحيح من المذهب، فإن أحمد وأصحابه لا يختلف قولهم في البئر العادية، وهو نص منه في خصوص النوع، وصحح الملك فيه بالإحياء صاحب [التلخيص والفائق والفروع ¬

_ (¬1) [المغني والشرح] وهذا النص من الشرح (6 \ 148) ، باب إحياء الموات. (¬2) [الأحكام السلطانية] ص (212) ، باب إحياء الموات. (¬3) [الغاية وشرحها المطالب] (4 \ 179، 180) ، باب إحياء الموات.

والتصحيح] وغيرهم. انتهى. واستدل أهل هذا المذهب: بما ثبت في [صحيح البخاري] بسنده في المزارعة عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق (¬1) » . وهذا الحديث ورد من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة، ولكن معناها هو المعنى الذي دل عليه هذا الحديث، وكذلك ورد آثار بهذا المعنى، ترك ذكر الأحاديث والآثار اكتفاء بما أخرجه البخاري. وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل بعمومه على أن الأصل في الأرض كلها اتصافها بعدم المانع من تملكها، فمن أعمر أرضا، أي: أحياها فهو أحق بها من غيره، ويدخل في هذا العموم أرض الحجر فيجوز إحياؤها. واعترض على الاستدلال بهذا الحديث: بأن الأحاديث التي دلت على المنع من دخول ديار ثمود إلا في حالة الاتصاف بالبكاء ما دام فيها، وعلى منع استعمال الماء، وقد سبق تقرير ذلك - جاءت تلك الأدلة خاصة، وهذا الدليل عام، والقاعدة المقررة: أنه إذا تعارض عام وخاص يخالف العام في الحكم فإنه يخرج الخاص من العام كذا هنا. وأما من أجاز الصلاة فيها، والتوضؤ من مائها والتيمم بترابها فقد استدل بالعموم؛ كحديث: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل (¬2) » ، وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬3) الآية. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المزارعة (2335) ، مسند أحمد بن حنبل (6/120) . (¬2) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي المساجد (736) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) . (¬3) سورة المائدة الآية 6

قال القرطبي (¬1) : الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر: أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة، وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا واد به شيطان (¬2) » ، وقد رواه معمر عن الزهري فقال: واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة، وقول علي: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة (¬3) » وقوله عليه الصلاة والسلام حين مر بالحجر من ثمود: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين (¬4) » ، ونهيه عن معاطن الإبل. . إلى غير ذلك مما في هذا الباب، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها، والدلائل الصحيح مجيئها. قال الإمام الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: المختار عندنا في هذا الباب: أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيه نجاسة متيقنة تمنع من ذلك، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن الصلاة في المقبرة وبأرض بابل وأعطان الإبل، وغير ذلك مما في هذا المعنى - كل ذلك عندنا منسوخ ومرفوع؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا (¬5) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم مخبرا أن ذلك من فضائله ومما خص به، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص - قال صلى الله عليه وسلم «أوتيت خمسا (¬6) » وقد روي: «ستا» وقد روي «ثلاثا» و «أربعا (¬7) » وهي تنتهي إلى أزيد من تسع. قال فيهن: «لم يؤتهن أحد قبلي: بعثت إلى ¬

_ (¬1) [الجامع لأحكام القرآن] (10 \ 48، 49) ، تفسير سورة الحجر. (¬2) موطأ مالك وقوت الصلاة (26) . (¬3) سنن أبو داود الصلاة (490) . (¬4) صحيح البخاري الصلاة (433) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980) . (¬5) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي المساجد (736) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) . (¬6) مسند أحمد بن حنبل (5/145) ، سنن الدارمي كتاب السير (2467) . (¬7) صحيح البخاري الإيمان (34) ، صحيح مسلم الإيمان (58) ، سنن الترمذي الإيمان (2632) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020) ، سنن أبو داود السنة (4688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) .

الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، وجعلت أمتي خير الأمم، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (¬1) » اهـ. ويورد على دعوى النسخ: أن النسخ لا يثبت إلا بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع. ونقل القرطبي (¬2) عن ابن العربي أنه قال: فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (¬3) » ، فلا يجوز التيمم بترابها، ولا الوضوء من مائها، ولا الصلاة فيها. انتهى المقصود. ذكر القرطبي هذا الكلام عن ابن العربي بعد قوله: منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع، وقال: لا تجوز الصلاة فيها؛ لأنها دار سخط وبقعة غضب. وأما النظائر فمن ذلك: 1 - إسراعه صلى الله عليه وسلم حينما مر بوادي محسر في حجة الوداع بعد دفعه من مزدلفة، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر (¬4) » ، رواه داود والنسائي والترمذي، قال ابن الأثير: أوضع: إذا أسرع السير. قال ابن القيم (¬5) : فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه. وكذلك فعل في سلوكه الحجر (ديار ثمود) فإنه تقنع بثوبه، وأسرع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) . (¬2) [الجامع لأحكام القرآن] (10 \ 47، 48) ، تفسير سورة الحجر. (¬3) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي المساجد (736) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) . (¬4) سنن الترمذي الحج (886) ، سنن أبو داود المناسك (1944) ، سنن ابن ماجه المناسك (3023) ، سنن الدارمي المناسك (1899) . (¬5) [زاد المعاد] (1 \ 474) .

السير. 2 - قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} (¬1) إلى قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} (¬2) قال ابن القيم رحمه الله (¬3) : ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار، وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه - لما كان بناؤه إضرارا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا، ومأوى للمنافقين المحاربين لله ورسوله، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطليه؛ إما بهدمه وتحريقه، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له. انتهى. 3 - ثبت في [صحيح مسلم] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها، ودعوها، فإنها ملعونة (¬4) » قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. وأما الحكمة، فقد قال ابن حجر (¬5) : قول: (لا يصيبكم) بالرفع على أن لا نافية، والمعنى: لئلا يصبكم، ويجوز الجزم على أنها ناهية، وهو أوجه، وهو نهي بمعنى الخبر، وللمصنف في أحاديث الأنبياء (أن يصيبكم) أي: خشية أن يصيبكم ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 107 (¬2) سورة التوبة الآية 108 (¬3) [زاد المعاد] (3 \ 35) ، غزوة تبوك، فقه الغزوة. (¬4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2595) ، سنن أبو داود الجهاد (2561) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) ، سنن الدارمي الاستئذان (2677) . (¬5) [فتح الباري] (1 \ 530، 531) كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب.

ووجه هذه الخشية: أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر، مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك. والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له، فمن مر عليهم، ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم. انتهى. هذا ما تيسر ذكره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

مصادر بحث حكم إحياء ديار ثمود: 1 -[تفسير القرطبي]- طبع دار الكتب المصرية سنة 1365 هـ. 1 -[فتح الباري]- طبع المطبعة السلفية ومكتبتها بمصر. 2 -[الكرماني على البخاري]- طبع مؤسسة المطبوعات الإسلامية - مصر. 3 -[عمدة القاري على البخاري]- طبع دار الطباعة المنيرية. 4 -[حاشية ابن عابدين] . 5 -[الأم] . 6 -[المجموع شرح المهذب] . 7 -[نهاية المحتاج] . 8 -[الأحكام السلطانية والولات الدينية] . 9 -[الإقناع وشرحه] . 10 -[المغني والشرح الكبير] . 11 -[مطالب أولى النهي] . 12 -[زاد المعاد] . 13 -[الأحكام السلطانية] . 14 -[كتاب الأموال] .

قرار رقم 7 بدراسة حكم إحياء ديار ثمود

قرار رقم (7) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه. وبعد: اطلعت هيئة كبار العلماء على المعاملة المتعلقة بموضوع دراسة حكم إحياء أرض ديار ثمود الواردة إلى فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رفق خطاب المقام السامي رقم (5576) وتاريخ 26 \ 3 \ 1392هـ المحالة إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، بخصوص رغبة جلالة الملك حفظه الله في أن تقوم هيئة كبار العلماء بدراسة (حكم إحياء أرض ديار ثمود) وموافاة جلالته بما يتقرر. جرى عرض ذلك على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها الثانية المنعقدة في أول شهر شعبان حتى 13 منه عام 1392 هـ. كما استعرض المجلس ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، وبعد دراسة مجلس الهيئة لذلك، ولما أعد فيه من بحث، وبعد تداول الرأي قرر ما يلي: أولا: الاتفاق على أنه لا يجوز إحياء أراضي ديار ثمود، للأحاديث الصحيحة الدالة على النهي، ولعدم ورود أدلة تدفعها. ثانيا: نظرا لعدم وجود تحديد واضح للمحظور إحياؤه من غيره رأى المجلس تأجيل البت في تحديد الممنوع إحياؤه، حتى يقدم له بحث مستوفى من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض، بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات،

وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك بما يجري بعد ذلك دراسته في دورة قادمة؛ ليتم البت في تحديد الممنوع إحياؤه من غيره. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... رئيس الدورة ... . محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي ... محضار عقيل عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... .

قرار رقم 9 حول تحريم إحياء ديار ثمود

قرار رقم (9) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ و 17 \ 4 \ 93 هـ، وبناء على ما جاء في الفقرة الثانية من القرار رقم (7) الصادر من هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية لمجلسها المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1392 هـ من إرجاء تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود حتى يقدم للمجلس بحث مستوفى من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات، وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك؛ ليتم البت في تحديد الممنوع إحياؤه من غيره. وبناء على البحث المقدم من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد شخوصها إلى أرض الحجر ومشاهدتها إياها، واتصالها بأهل الخبرة في تلك الجهات، وما اشتمل عليه البحث من وصف كامل لمشاهدتها ومن خارطة تقريبية لها، ولما فيها من آثار وجبال ووديان ومزارع وغير ذلك في الدورة الثالثة لمجلس الهيئة - جرى استعراض النصوص الواردة في ذلك؛ والتي يمكن أن يستند عليها في التحديد، وهي ما يلي: قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 74

وقال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (¬1) وروى البخاري في [صحيحه] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأرض الحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين. ثم قنع رأسه، وأسرع السير حتى أجاز الوادي (¬2) » ، وروى أيضا بسنده عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره: «أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر، واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان تردها الناقة (¬3) » . وأخرج معلقا بصيغة الجزم، قال ابن حجر في [الفتح] : وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه: «أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأتوا على واد، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم بواد ملعون، فأسرعوا، وقال: من اعتجن بمائه أو طبخ قدرا فليكبها» الحديث، وروى مسلم في [صحيحه] بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين، حذر أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع حتى خلفها (¬4) » . ¬

_ (¬1) سورة الفجر الآية 9 (¬2) صحيح البخاري المغازي (4419) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980) ، مسند أحمد بن حنبل (2/117) . (¬3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/117) . (¬4) صحيح البخاري الصلاة (433) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2980) .

قال النووي في شرحه، قوله: (ثم زجر فأسرع حتى خلفها) أي: زجر ناقته، فحذف ذكر الناقة للعلم به، ومعناه: ساقها سوقا كثيرا حتى خلفها وهو بتشديد اللام، أي: جاوز المساكن. وروى الإمام أحمد في [المسند] بسنده عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود، فعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم، فأمرهم رسول اله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا قال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم (¬1) » . قال ابن كثير في [البداية والنهاية] بعد سياقه هذا الحديث: وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه ولم يخرجاه. اهـ. وبناء على ذلك، وحيث إن موارد النهي من هذه الأحاديث تأتي على أمرين: أحدهما: دخول مساكنهم، سواء ما كان منها في الجبال أو كان في السهول مما في تلك الأرض. الثاني: الاستقاء من آبارهم، وقد وجد بين الآثار في الجبال والسهول آبار قديمة تواترت الأخبار فيما بين أهل المنطقة أنها آبار ثمودية. كما أن بعض هذه الأحياء يدل على الأمر بالإسراع في الوادي عند المرور به حتى يتم اجتيازه وعلى التقنع فيه. وحيث إن الهيئة لم تجد نصوصا صريحة تحدد المنقطة تحديدا ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (2/117) .

لا يكون للاجتهاد فيه مجال، وحيث إن ما ذكره بعض أهل العلم بالتفسير والسير - كابن إسحاق وغيره - من تحديد أرض الحجر بثمانية عشر ميلا أو بخمسة أميال لا يمكن الاعتماد عليه في تحليل أو تحريم ما لم يكن معتمدا على ما ثبت من كتاب أو سنة. وحيث إن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل ينقل ذلك الأصل عن حكمه. بناء على ذلك فإن الهيئة تقرر ما يأتي:

أولا منع الإحياء والسكنى فيما كان فيه آثار من جبال وسهول وفي الآبار الثمودية ومجرى الوادي ومفرشه

أولا: منع الإحياء والسكني فيما يلي: أ - ما كان فيه آثار من جبال وسهول. ب - الآبار الثمودية. ج - مجرى الوادي ومفرشه. وبناء على ما جاء في وصف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ضوء مشاهداتها لتلك المنقطة، ما ذكرته في وصفها من آثار ومسميات وجبال ووديان ومساحات وآبار، وحيث إن آخر بئر ثمودية ظهرت في الجهة الجنوبية من أرض الحجر هي البئر التي بجوار أحد جبال الصينيات، وأن آخر بئر ثمودية ظهرت في الجهة الشمالية هي (بئر مزيلقة) وأن آخر جبل من الجهة الشرقية فيه آثار قائمة هو (جبال الأثالث) وأن آخر أثر سكني ظهر في الجهة الغربية هو في (جبال الخريمات) وحيث إن الوادي يأخذ مسماه بعد التقاء روافده السبعة، فيكون تحديد الممنوع إحياؤه والسكني فيما يلي: يحد جنوبا بجبل الصينيات، ويمتد الحد شرقا بانعطاف إلى الشمال

حتى يتصل بجبال الأثالث، بحيث تكون هي وجبال الصانع وبثينة وأبو لوحة وغيرها مما فيه آثار داخلة في الحد، ثم يمتد الحد من الشرق إلى الشمال بشكل دائري متمش مع حافة مفرش الوادي حتى يتصل بآخر بئر من آبار مزيلقة، بحيث يكون مفرش الوادي وآبار مزيلقة داخلين في هذا الحد، ثم يمتد الحد غربا بانعطاف نحو الجنوب حتى يتصل بحافة الوادي الشمالية، ثم يمتد حتى يتصل بمجمع روافد الوادي السبعة، ويكون هذا الملتقى حدا غربيا للممنوع، ثم ينعطف الحد نحو الشرق، ممتدا مع حافة الوادي الجنوبية، حتى يتصل بمفيض الوادي إلى أرض العذيب ثم يتجه الحد جنوبا مارا بجبال الخريمات بحيث تكون داخلة في المحدود حتى يتصل بجبال الصينيات. أما بئر الناقة فقد وردت الأحاديث الصحيحة في جواز الاستقاء منها والنزول حولها للاستقاء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نزل بأصحابه عندها، واستقوا من مائها، وكذلك المرور من أرض الحجر فقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه كثير من أصحابه في طريقهم إلى تبوك، إلا أنه ينبغي الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقد قنع رأسه، وزجر راحلته حتى اجتاز الوادي.

ثانيا جواز إحياء ما كان خارجا عما هو منوه عنه في أولا

ثانيا: ما عد ذلك مما كان خارجا عما هو منوه عنه أعلاه وداخلا في محيط سلسلة الجبال القائمة - فإن الهيئة تقرر بالأكثرية جواز إحيائه والسكنى فيه؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل الحظر، وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة الثالثة عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد الرزاق عفيفي لي وجهة نظر عبد العزيز بن باز ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد الله بن منيع سليمان العبيد ... محمد الحركان ... محمد بن جبير صالح بن لحيدان إنني متوقف فيما زاد عن ما حدد بمنطقة الآثار إلى مجتمع الأودية من الجهة الغربية وموافق على ما فيه الآثار والآبار ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون لي وجهة نظر مرفقة . ... عبد الله بن غديان مع توقف فيما زاد عن المحدود داخل سلسلة الجبال المحيطة ... .

وجهة نظر لفضيلة الشيخ صالح بن غصون

وجهة نظر الحمد لله: خلاصة رأيي في موضوع ديار ثمود. بعد البحث والمراجعة أرى أن ما تناولت الأحاديث النبوية لا يجوز إحياؤه ولا سكناه، غير أنه لم يظهر لي من الأحاديث ما يقضي بتحديد منقطة معينة؛ لأن الأحاديث ليست صريحة، ولأن الأصل الإباحة، ولأن أهل العلم لم يذكروا حدودا معلومة، ولأن بئر الناقة من أبرز المعالم الموجودة في المنطقة، ولم أقف على دليل بتعيينها، ولأنه لا يجوز الحكم مع وجود شك أو تردد. لهذا وغيره من الاعتبارات حررت رأيي، وأسأل الله للجميع التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. عضو هيئة كبار العلماء صالح بن علي بن غصون

تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود

(3) تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم تحديد الممنوع إحياؤه من ديار ثمود إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية المنعقدة في شهر شعبان سنة 1392 هـ من ضرورة تقديم بحث مستوفي في تحديد الممنوع إحياؤه من أرض ديار ثمود من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعد تطبيق ذلك على واقع الأرض بواسطة أهل الخبرة في تلك الجهات، وبالاشتراك مع بعض الفنيين لرسم ذلك؛ ليجري دراسة ذلك في الدورة القادمة إن شاء الله. بناء على ذلك قامت اللجنة بما ذكر، وأعدت فيه بحثا تشتمل على نصوص من الكتاب والسنة، وعلى نقول من أقوال العلماء، وعلى أقوال أهل الخبرة والمعرفة من سكان تلك الجهات، وعلى مشاهدات اللجنة وما رسم تحت إشرافها بيد فني موظف ببلدية العلا شارك اللجنة في جولاتها في الوادي وأرض الحجر، مع الأدلاء من أهل الخبرة بالمواقع وأسمائها في ديار ثمود. وفيما يلي بيان ذلك:

أولا النصوص من الكتاب والسنة

أولا النصوص: قال الله تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬1) وقال: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} (¬2) وقال {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} (¬3) وقال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (¬4) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي (¬5) » . وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى في دواوين السنة، وتقدم ذكرها في بحث النهي عن إحياء ديار ثمود، فاستغنينا بذلك عن إعادتها. ومن هذه النصوص يتبين أن مساكن ثمود كانت بيوتا منحوتة في الجبال، وقصورا مبنية في السهول، وسواء أكانت سكناهم فيهما كل العام أم كانت سكناهم في القصور أيام الصيف، وفي البيوت المنحوتة أيام الشتاء، ومن شاهد الجوبة الفسيحة التي بداخل السلسلة الجبلية وجد السهول منتشرة بها، وبهذا لا يستطيع أن يقطع بأن قصورهم كانت في المنطقة الأثرية الظاهرة اليوم فقط، بل يمكن أن يكون بعض قصورهم وآبارهم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 74 (¬2) سورة الحجر الآية 82 (¬3) سورة الشعراء الآية 149 (¬4) سورة الفجر الآية 9 (¬5) انظر كتاب المغازي، من [صحيح البخاري] (5 \ 135) .

الأثرية لا تزال مدفونة بالرمال التي سفتها عليها الرياح على مر السنين، بدليل ما انكشف أخيرا منها بعد هطول الأمطار العام الماضي، والوادي منفرج بين الجبال أو تلال أو آكام، كما في [القاموس المحيط] . وذكر القرطبي في تفسير آية: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (¬1) أن كل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكا للسيل، ومنفذا فهو واد، اهـ. وعلى هذا يكون كل ما انفرج بين سلسلة جبال الحجر واديا. ¬

_ (¬1) سورة الفجر الآية 9

ثانيا ما ذكره أئمة اللغة التفسير وشراح الحديث وعلماء التاريخ مما يتعلق بتحديد ديار ثمود

ثانيا: ما ذكره أئمة اللغة التفسير وشراح الحديث وعلماء التاريخ مما يتعلق بتحديد ديار ثمود: 1 - قال ابن منظور في [لسان العرب] : والحجر ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القرى. 2 - وقال الجوهري في [الصحاح] : والحجر منازل ثمود ناحية الشام عند وادي القرى. 3 - وقال ابن جرير: في تفسير سورة الأعراف عند كلامه على قصة ثمود: وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، وكذا قال ابن كثير في تفسير سورة الأعراف. 4 - وقال القرطبي في [تفسيره] (ج 17، ص 238) : وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وكذا قال كل من الشوكاني وأبي السعود في [تفسيره] . 5 - وقال القرطبي أيضا في تفسيره سورة الحجر بعد بيانه لمعاني كلمة الحجر: والحجر: ديار ثمود، وهو المراد هنا، أي: المدينة، وقال الأزهري

6 - وقال ابن الجوزي في [تفسيره] (ج 4، ص411) : قال ابن عباس: كانت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام. ثم قال ابن الجوزي: وفي الحجر قولان: أحدهما: أنه اسم الودي الذي كانوا به، قاله قتادة والزجاج. والثاني: اسم مدينتهم، قاله الزهري ومقاتل. 7 - ونقل ابن جرير في تفسيره سورة الأعراف عن ابن إسحاق خبرا طويلا عن ثمود، وفيه: (وكانت منازلهم الحجر إلى قرح، وهو وادي القرى، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشام) . ونقل عنه أيضا في نفس القصة من طريق آخر كلاما كثيرا: وفيه: (وتخلف رجل من أصحاب صالح يقال له: مبدع بن هرم فنزل قرح - وهو: وادي القرى - وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا) . 8 - وقال السفاريني: في [شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد] (1 \ 51) : وكانت منازلهم الحجر، وبين الحجر وبين قرح ثمانية عشر ميلا، - قرح: هي وادي القرى -. 9 - وقال ياقوت الحموي في [معجم البلدان] ، (ج 6، ص 221) : الحجر: اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام، قال: الإصطخري: الحجر قرية صغيرة قليلة السكان، وهو من وادي القرى على يوم بين جبال، وبه كانت منازل ثمود قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} (¬1) وقال: ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا في ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 149

أضعاف جبال، وتسمى تلك الجبال: الأثالث، وهي جبال إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة، فإذا توسطها رأي كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف، وحواليها الرمل، لا تكاد ترتقي كل قطعة قائمة بنفسها، لا يصعدها أحد إلا بمشقة شديدة، وبها بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬1) قال جميل: أقول لداعي الحب والحجر بيننا ... ووادي القرى لبيك لما دعانيا فما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول اجتماع تقاليا 10 - وقال صفي الدين البغدادي في [مراصد الاطلاع] (1 \ 381) : الحجر: بالكسر ثم السكون وراء: اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام، كانت مساكن ثمود، وفي بيوت منحوتة في الجبال مثل المقابر، تسمى تلك الجبال: الأثالث، كل جبل منقطع عن الآخر يطاف حوله، وقد نقر فيه بيوت كثيرة، وتقل على قدر الجبال التي تنقر فيها، وهي بيوت في غاية الحسن، فيها بيوت وطيقان محكمة الصنعة، وفي وسطها البئر التي تردها الناقة، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب منها. اهـ. لعله يريد من آبار ثمود، وإلا فهو تحريف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في الشرب من بئر الناقة وأمر بإهراق ما استقي من غيرها ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 155

11 - وقال الفيروزآبادي في [المغانم المطابة] ، ص 106: والحجر بالكسر أيضا قرية على يوم من وادي القرى بين جبال، وبها كانت منازل ثمود، بيوتها في أضعاف جبال تسمى: الأثالث، إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة، فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها يطوف بكل قطعة منها الطائف، وحواليها رمل لا يكاد يرتقى إلا بمشقة شديدة، وهناك بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬1) 12 - وذكر القرطبي في تفسير سورة الفجر: أن ثمود أول من نحت الجبال والصخور والرخام، فبنوا من المدائن ألفا وسبعمائة مدينة، كلها من الحجارة، ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبعمائة ألف كلها من الحجارة، وكانوا ينقبون بيوتا بالوادي، أي: بوادي القرى. 13 - ونقل الحافظ ابن حجر في [الفتح] (6 \ 380) عن شيخة البلقيني أنه سئل: من أين علمت تلك البئر - يعني: بئر الناقة؟ فقال: بالتواتر، إذ لا يشترط فيه الإسلام. ثم قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها بالوحي، ويحمل كلام الشيخ على من سيجيء بعد ذلك. اهـ. 14 - وقال ابن القيم في [زاد المعاد] (3 \ 28) : وكانت البئر معلومة باقية إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن إلى وقتنا هذا، فلا يرى الراكب بئرا غيرها، وهي مطوية محكمة البناء. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 155

واسعة الأرجاء، آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها. 15 - وقال السفاريني في [شرح ثلاثيات المسند] (¬1) : جزم علماؤنا بأنه لا يباح من ماء آبار ثمود غير بئر الناقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي البئر الكبيرة التي يردها الحجاج في هذه الأزمنة. 16 - وقال العباسي في [عمدة الأخبار] ، ص 261: والحجر أيضا قرية على يوم من وادي القرى بين جبال، وبها كانت منازل ثمود وبيوتها، وهناك بئر ثمود التي قال الله تعالى فيها وفي الناقة: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬2) 17 - وقال ابن بليهد في [صحيح الأخبار] (¬3) والحجر: هو الموضع الذي ذكره القرآن الكريم في شأن قوم صالح عليه السلام، وبه بئر الناقة، وهو يعد من وادي القرى معروف بهذا الاسم إلى هذا العهد، ثم ذكر بيتي جميل المتقدمين، ثم قال: وموضعه قرب العلا بينه وبين تبوك. 18 - وقال الحاكم في [مستدركه] ما نصه (¬4) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا يحيى بن معين، ثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد عن نوف الشامي: أن صالحا النبي صلى الله عليه وسلم من العرب، لما أهلك الله عادا وانقضى أمرها عمرت ثمود ¬

_ (¬1) انظر (1 \ 52) . (¬2) سورة الشعراء الآية 155 (¬3) انظر (2 \ 36) (¬4) انظر (3 \ 565)

بعدها، فاستخلفوا في الأرض، فانتشروا ثم عتوا على الله، فلما ظهر فسادهم وعبدوا غير الله بعث الله إليهم صالحا، وكانوا قوما عربا، وهو من أوسطهم نسبا، وأفضلهم موضعا، وكانت منازلهم الحجر إلى قرع - وهو: وادي القرى - ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجر إلى الحجاز، فبعثه الله غلاما شابا. . إلى آخر الآثر. 19 - وقال الهمداني في [صفة جزيرة العرب] ص 131: وأما نجد ما بين مكة والمدينة من ذات عرق فإلى الجبلين، فالمعدن معدن سليم فراجعا: إلى وادي القرى إلى الحجر موضع ثمود والناقة مرحلة، وفيه آثار عظيمة، وما بينهما العيص. 20 - وقال ابن بطوطة في رحلته: وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون إلى بئر الحجر حجر ثمود، وهي كثيرة الماء، ولكن لا يردها أحد من الناس مع شدة عطشهم؛ اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزوة تبوك فأسرع براحلته، وأمر ألا يستقي منها أحد، ومن عجن به أطعمة الجمال، وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة لها عتب منقوشة، يظن رائيها أنها حديثة الصنعة، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت، إن في ذلك لعبرة، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك، وبينها أثر مسجد يصلي الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه. اهـ. 21 - وقال الحطاب في كتابه [مواهب الجليل] في معرض كلامه على مياه آبار ثمود (¬1) : قال الشيخ زروق: وأمرهم بالتيمم وترك استعمالها لم ¬

_ (¬1) (1 \ 48)

أقف عليه في الحديث، وهو ما نقله ابن فرحون في [الألغاز] عن ابن العربي في باب التيمم، ونصه: فإن قلت: أرض طاهرة مباحة مسيرة خمسة أميال لا يجوز التيمم منها، قلت: هي أرض ديار ثمود، نص ابن العربي في أحكامه على أنه لا يجوز التيمم منها. 22 - وقال السمهودي في كتابه [وفاء الوفاء] (¬1) : سبق أن حجر ثمود على يوم من وادي القرى، وأن العلا بناحية وادي القرى: وقال (¬2) : والحجر بالكسر أيضا: قرية على يوم من وادي القرى، بين جبال كانت بها منازل ثمود، وبيوتها في أضعاف جبال تسمى: الأثالث، وهناك بئر ثمود، وقال (¬3) : قال أبو زياد: تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر، نحو نصف طريق الشام. 23 - وقال أبو إسحاق الفارسي المعروف بالكرخي في كتابه [المسالك والممالك] ص 24 ما نصه: والحجر: قرية صغيرة قليلة السكان، وهي من وادي القرى على يوم بين جبال، وبها كانت ديار ثمود الذين قال الله فيهم: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (¬4) ورأيت تلك الجبال ونحتهم الذين قال الله عنهم: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} (¬5) - ورأيتها بيوتا مثل بيوتنا في أضعاف جبال، وتسمى ¬

_ (¬1) (2 \ 1328) (¬2) انظر (2 \ 1184) (¬3) (2 \ 1159) (¬4) سورة الفجر الآية 9 (¬5) سورة الشعراء الآية 149

تلك الجبال: الأثالث - إلى أن قال: - وتبوك بين الحجر وبين أول الشام على أربع مراحل نحو نصف طريق الشام. 24 - وقال المقدسي في كتابه [أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم] ص 84: الحجر قرية صغيرة حصينة، كثيرة الآبار والمزارع، ومسجد صالح بالغرب على نشزة مثل الصفة، قد نقر في صخرة، وثم عجائب ثمود وبيوتهم. 25 - وذكر الأستاذ صلاح البكري: في مقال نشر في مجلة (قافلة الزيت) تحت عنوان (الآثار في الشمال الغربي من المملكة العربية السعودية) عن حاجي خليفة من كتابه [جهان نما]- أنه على مسيرة نصف يوم تقريبا من العلا يوجد مسجد النبي صالح، وهو منقور في الصخر، وعن محمد أديب في كتابه [المنازل]- أن الحجر تعرف بـ: (مدائن صالح) أو (قرى صالح) أو (عدال) ، والمساكن في مدائن صالح منحوتة في الصخر: ولا يسكنها أحد، ويقول: إن هناك جبلا يعرف باسم (أنان) في مرتفع منه يوجد مسجد صالح عليه الصلاة والسلام، وهو منقور في الصخر. صورة فتوى الشيخ عبد الله بن بليهد بصدد أرض الحجر. يحظى ويتشرف بمطالعة عالي الجناب الشيخ المكرم عبد الله بن سليمان بن بليهد أدام الله تعالى بقاءه. أما بعد: هذا سلام عليك ورحمة الله وبركاته على الدوام، أدام الباري علينا وعليكم نعمته وإحسانه. بعده، نرفع لجنابك العزيز بأن إحنا هاجرنا في وادي العذيب المعروف

بـ: (وادي الحشيش) ، اعترض علينا بعض الناس حيث قالوا: أنتم في وادي العذاب التابع لمدائن صالح، فإنا نسترحمكم أن تأمرونا في سكناه، أو تنهانا نرحل نرحل عنه، جزيتم خيرا. وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته 11 جمادى الثانية \ 1345 هـ. مقدمه متعب بن صالح الفقير سلمك الله: أذنا له ينزل بالهجرة إذا كان ما فيه من طرف الشرع شيء، المقصود سلمك الله عرفوه بالحدود المحرمة. عبد العزيز بن مساعد الختم

بسم الله الرحمن الرحيم الجواب: إن الذي تحصل لنا من كلام المؤرخين: أن وادي الحجر الذي فيه ديار ثمود مقدار ثمانية عشر ميلا هي عبارة عن مسافة تسعة ساعات بدبيب الأقدام وسير الأثقال، فإذا اعتبر المواضع المذكور من شمالي الحجر إلى الموضع وكان خارجا عن هذه المسافة - فلا بأس بسكناه والاستسقاء من مياهه. يكون معلوما. رئيس القضاء عبد الله بن بليهد الختم صورة طبق الأصل مما تقدم يتبين ما يلي: أولا - أن اسم الحجر يطلق على جميع الذي كانت ثمود تسكن به، ويطلق على نفس مدنهم التي كانت بالحجر، وهو بالمعنى الأول أعم منه بالمعنى الثاني. ثانيا - أن وادي القرى طويل ممتد يمر ببلاد أماكن كثيرة، وتسمى بأسمائها، فيسمى بـ: (وادي الحجر) عند مروره به، وبـ: (وادي القرح) وبـ: (وادي العلا) عند مروره بهما. ثالثا - اختلف التعبير في بيان موقع ديار ثمود من وادي القرى: فمرة يعبر بأنها عند وادي القرى، ومرة يعبر بأنها إلى وادي القرى ومرة بأنها بوادي القرى، والذي يظهر: أنه لا تنافي بينهما؛ لإمكان الجمع بأنه إن أريد بالوادي مجرى سيله فديار ثمود عنده وإلى جانبه، وإن أريد

بالوادي المنفرج الذي بين الجبال فديار ثمود به. رابعا - قدر الوادي بثمانية عشر ميلا، وبخمسة أميال وبمرحلة أو مسير يوم، وهذه التقادير مبنية على أن المراد بالحجر المنفرج بين الجبال، أي: الوادي الذي كانت ثمود تسكن به، ولا تنافي بين هذه التقادير؛ لإمكان الجمع بحمل أحد التقادير على العرض والآخرين على الطول. خامسا - قال ابن إسحاق: كانت منازلهم الحجر إلى قرح، وهو وادي القرى وبين ذلك 18 ميلا، وقال الحاكم في [المستدرك] : كانت منازلهم الحجر إلى قرح - وهو: وادي القرى - 18 ميلا، ويمكن أن يقال: إن الظاهر هو ما ذكره الحاكم من أن طول الحجر 18 ميلا، وما نقل عن ابن إسحاق؛ إما محرف، وإما مئول بأن بين قرح ومبدأ الحجر شمالا 18 ميلا. والله أعلم.

ثالثا أقوال أهل الخبرة ومشاهدات اللجنة

ثالثا: أقوال أهل الخبرة ومشاهدات اللجنة: قامت اللجنة بجولات فيما يسمى بـ (أرض الحجر) وما يسمى بـ: (أرض العذيب) ومعها خبراء بالمواقع وبأسمائها: وبالحدود المشهورة عند أهل هذه الجهات حاليا، ومع اللجنة مندوب فني أيضا من بلدية العلا، وأشرفت على هذه الأراضي وما فيها من جبال ووديان ومزارع وآثار وما يحيط بذلك من سلسلة الجبال، وأخذت مقادير المسافات التي قد يحتاج إليها في التحديد عند مقارنتها بما ذكر من التقدير في النقول عن العلماء.

وفيما يلي بيان لما شاهدته اللجنة في جولاتها: 1 - يحيط بأرض المنطقة سلسلة جبال متصل بعضها ببعض إلا في منافذ محدودة يأتي بيانها، وتبدأ هذه السلسلة من الجنوب من عند مفيض وادي المعتدل في نخيل العلا متجهة نحو الجنوب الشرقي، ثم إلى الشرق ثم إلى الشمال الشرقي، ثم إلى الشمال، ثم إلى الشمال الغربي، وإلى هنا تعرف بـ (جبال الركب) ، ثم تتجه غربا، ثم إلى الجنوب الغربي، ثم إلى الجنوب إلى ما يسمى من هذه السلسلة بـ: (بأبي القناطير) ، وهو يوازي كثيب الرمل المسمى بـ: (النثلة) عند مفيض وادي المعتدل، ويسمى هذا الجزء من السلسلة بـ: (حرة عويرض) . 2 - يوجد فيما يسمى بـ (جبال الركب) المنافذ الآتية على الترتيب: مصيعب، فالشجرة، فأم عاذر، فمهج ظفير، فمهج ظفير، فأبو حماطة، فالرماحية، فأبو الحمام، فأم جرفان، فالمقتل، فالفج، فمزيلقة، فمزيلقة الثانية، فالشليل، فالمزحم، فخور الحمار، ومنه تخرج سكة حديد من الحجر إلى الشام، ثم وادي الصريط، فالبويب، وبه ينتهي ما يسمى من السلسلة بـ: (الركب) ويبدأ ما يسمى من السلسلة بـ: (حرة عويرض) ، وبها وادي الصدير فوادي حوضاء، فوادي ثربة، فوادي المنقى الأول، فوادي المنقى الثاني، فوادي شلال، وينزل من تلاع هذه السلسلة في الجنوب الغربي منها وادي عشار. وبهذا يتبين أن المنقطة كلها تحد من جميع جهاتها بسلسلة جبال.

3 - يفيض في أرض هذه المنطقة ثمانية وديان: وادي الصريط، ويأتي من خارج سلسلة جبال الركب من الجهة الشمالية منها، ووادي الصدير، فوادي حوضاء، فوادي ثربة، فوادي المنقى الأول، فوادي المنقى الثاني، فوادي شلال، وهذه الوديان الستة تفيض على أرض الحجر، من تلاع داخل حرة عويرض من الجهة الشمالية الغربية والجهة الغربية منها لأرض الحجر، وتجتمع هذه الوديان السبعة في مفرش واسع في الشمال الغربي من أرض الحجر، ثم يتفرع من هذا المفرش ثلاثة وديان: اثنان منها غرب سكة الحديد، وما يسمى بـ: (بئر الناقة) وواحد منها يتجه إلى الجهة الشرقية من أرض الحجر، ثم ينعطف جنوبا، ثم إلى الجنوب الغربي إلى أن يجتمع بالواديين في مفرش غرب سكة الحديد، فيما بين الخريمات غربا وجبل بثنية وجبال الأثالث شرقا، ويتكون منها واد واحد جنوب هذا المفرش يتجه جنوبا مع تعرجات فيه، حتى يلتقي بمفيض وادي المعتدل، ويفيض وادي عشار من الجهة الغربية من حرة عويرض، ويلتقي بمضيق وادي الحجر قبل أن يفيض على العلا، ويبدأ وادي المعتدل من الجهة الشرقية تقريبا متجها إلى الغرب حتى يلتقي بوادي الحجر، ويكون معه واديا واحدا يتجه إلى العلا جنوبا. 4 - يقع في الأرض المحاطة بسلسلة الجبال المتقدمة كثير من الجبال المتفرقة المنتشرة من أشهرها: جبال الأثالث، وجبل بثينة، وجبل بيت الصانع، وجبل أبي لوحة، وجبال الخريمات، وبكل من هذه الجبال المشهورة بيوت منحوتة، ومن أشهرها جبل عكما،

وجبل دنان، وبكل منها كتابة أثرية، ومن أشهرها أيضا: جبل الحوارة، وجبل الحوير، وجبل الجميل، وجبال الصقليات، وجبال الصينيات، ومما بداخل السلسلة أيضا من الآثار: بئر الناقة، وخريبة الحجر التي أظهرها السيل العام الماضي، على ما قاله مأمور مركز الحجر وغيره، وتقع هذه الخريبة قريبا من جبال الأثالث، وبثنية كما هو موضح بالرسم، كما أن بأرض الحجر مزارع وأشجار وآبارا حديثة وقديمة أثرية، ويوجد قريبا من جنوب مفيض وادي المعتدل مكان أثري يعرف بـ: (خريبة العلا) ، وبخشم الجبل المشرف عليها وعلى مفيض المعتدل نحوت وكتابة أثرية. 5 - إن أريد بأرض الحجر جميع الأرض التي أحاطت بها سلسلة جبال الركب وحرة عويرض - فحده من الجهات الأربع طبيعي - وقد تبين مما تقدم - وعلى هذا أخذت اللجنة المساحة من الشمال إلى الجنوب بكيلو السيارة فوجدتها (34.5) أربعة وثلاثين كيلو مترا ونصف كيلو مع وجود تعرجات اقتضاها خط سير السيارة، وهذا التقدير بعد طرح التعرجات يقرب من تقدير أهل العلم لها قديما بثمانية عشر ميلا، وهو الذي بنى عليه الشيخ عبد الله بن بليهد فتواه في تحديد الحجر. أما إن أريد بأرض الحجر خصوص ما به بناء أثري وآبار أثرية وجبال أثرية - فالتحديد يحتاج إلى القيام بحفريات في جميع الأراضي التي تحيط بها سلسلة الجبال التي تقدم ذكرها للوقوف على ما اندفن من البيوت والآثار والأسوار، وعند ذلك يمكن التحديد بغير سلسلة الجبال، وإن أريد بالحجر مجرى الوادي فحده طبيعي واضح.

6 - تقسيم المنطقة التي بداخل سلسلة الجبال المتقدمة إلى ما يسمى بـ: (أرض الحجر) ، وما يسمى: بـ (أرض العذيب) تقسيم حديث، كما سيجيء بيانه في إجابة عرفاء البلاد في جهة المنطقة. رابعا - رأت اللجنة بعد أن جالت في المنطقة وعرفت جماعة من أهل الخبرة بالمواقع وأسمائها من سكان هذه الجهات - أن تدعوهم إلى الاجتماع لسؤالهم عن المواقع وأسمائها، وعن المتعارف عليه عندهم في حدود الحجر؛ زيادة في الإيضاح، وتأكيدا لما عرفته في جولاتهم مع الأدلاء في الحجر، ورأت أن يكون المجتمعون من العلا، ومما يسمى بـ: (العذيب) ، وما يسمى بـ: (الحجر) ، فاجتمع كل جماعة من جهة في جهتهم، وسألت اللجنة كلا منهم على انفراد. وفيما يلي بيان أسمائهم وما سئلوا عنه وأجوبتهم: الأسماء: 1 - صحن بن شلاش الفقير - وعمره ثمانون سنة تقريبا. 2 - دبشي بن سلطان الفقير - وعمره ستون سنة تقريبا. 3 - عبد المهدي بن محمد بن جبل الفقير - وعمره 48 سنة تقريبا. 4 - حاكم بن شهاب الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا. 5 - صياح بن بندر الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا. 6 - فلاح بن مفلح الفقير - وعمره 65 سنة تقريبا. 7 - مطلق بن منور الخالد التيمائي - وعمره 45 سنة تقريبا، (أمير مركز العذيب) من ثلاث سنوات، وعمل في خدمة إمارة العلا من عام

1361 هـ. 8 - عبد الرشيد بن عبد الرحمن الإمام - وعمره 60 سنة تقريبا. 9 - سعد بن أحمد بن يوسف - وعمره 66 سنة تقريبا. 10 - محمد بن إبراهيم طعيمة - وعمره 80 سنة تقريبا. 11 - محمد أحمد عتيق - وعمره 84 سنة تقريبا. 12 - موسى بن محمد بن عيسى العمر - وعمره 51 سنة تقريبا. 13 - فيحان المطيري (أمير مركز الحجر) - وعمره 55 سنة تقريبا. 14 - محمد بن دليحان من أهل ضرماء (أمير مركز الحجر) سابقا - وعمره 70 سنة تقريبا. الأسئلة التي وجهت إلى كل منهم: 1 - ما المتعارف عليه المشهور بينكم في تحديد الحجر من الجهات الأربع؟ 2 - ما المتعارف عليه المشهور بينكم في تحديد ما يسمى بـ: (العذيب) من الجهات الأربع؟ 3 - هل عرف بينكم حد الحجر من الجنوب بالصينيات، ومتى بدأ ذلك، وعلى أي أساس بنيت هذه المعرفة؟ 4 - هل ما يسمى بـ: (شلال) وما يسمى: ثربة تابعان لمسمى الحجر فيما عرف عندكم؟ 5 - أين بئر الناقة، وأين المزحم فيما تعرف؟ 6 - ما أبعد بئر عادية في الشمال والجنوب والشرق والغرب فيما يسمى بـ: (الحجر) حسبما اشتهر عندكم؟

7 - ما أبعد أثر من آثار ثمود في الحجر من الشمال والجنوب والشرق والغرب فيما يسمى بـ: (الحجر) حسبما اشتهر عندكم؟ 8 - هل يوجد فيما يسمى بـ: (العذيب) آبار ثمودية، سواء أكانت محياة أم لا؟ الأجوبة: اتفقت إجابتهم في أن شلال وثربة ليستا من الحجر، وإن كان سيلهما يفيض في الحجر، وفي أن بئر الناقة يقع عند المحطة الكبرى لسكة الحديد تحت القلعة، أنهم لا يعرفون بئرا أخرى سواها تعرف بـ: (بئر الناقة) وفي أن الحجر في المتعارف عليه عندهم يحد من الجنوب الشرقي: بأم الشجرة، ثم مهج الظفير، ثم مهج الظفير، ومن الشرق والشمال: بالجبال المتصلة المسماة بـ (الراكبة) أو (الركب) ، ومن الغرب والجنوب الغربي: بالجبال المتصلة، والمسماة بـ (حرة عويرض) ، ومن الجنوب يحد قديما بكثيب من الرمال يسمى: (النثلة) وهو يقع عند مفيض المعتدل في طرف نخيل العلا شمالا عند خروج الوادي من الحجر: أما حد الحجر من الجنوب: بما يسمى بـ: (جبال الصينيات) فهو حد حديث لم يعرف إلا بعد استفتاء سلطان الفقير عن أرض العذيب وإجابة الشيخ ابن بليهد له، ومنح أرض العذيب لدبشي بن سلطان الفقير، فعند ذلك قامت لجنة حكومية وحددت العذيب شمالا: بما يسمى بـ: (جبال الصينيات) ، وجنوبا: بـ: (النثلة) عند مفيض المعتدل ونهاية نخيل العلا شمالا، كما اتفقوا على أنه لا توجد آبار ثمودية فيما يسمى بـ: (العذيب) - حسبما يعرفون - وإنما توجد عيون قديمة ومجاري عيون، وما فيه من الآبار كلها محدثة، واتفقوا

أيضا على أنه لا يوجد في الشمال الشرقي من أرض الحجر آبار قديمة مندفنة، عند مزيلقة، وكذا عند جبال الصقليات يغلب على الظن وجود آبار قديمة مندفنة، ولكن لم يظهر شيء منها إلى الآن، كما اتفقوا على أنه يوجد آبار كثيرة قديمة وحديثة عند جبال الأثالث وبثينة، ولا يوجد شمال الحجر بعد الوادي شيء من الآبار فيما نعرف، وأما الجهة الجنوبية الشرقية والتي جعل بعضها مطارا فليس فيه آبار حسب علمنا: وأما الآثار فهي في مدخل الحجر شمال العلا في منطقة تسمى: (الخريبة) ، وفي جبال الأثالث، وبثينة، وأبي لوحة، والخريمات، وخريبة الحجر. 8 - مع البحث خريطة تقريبية لأرض المنطقة، ولسلسلة الجبال المحيطة بها، وما بهذه السلسلة من منافذ، وما بداخلها من الجبال والآثار والوديان والآبار. ونسأل الله التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبيا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العملية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع مع الاحتفاظ بحقي في تقديم وصف للمنطقة بصورة أشمل ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

وصف ديار ثمود لفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع

وصف ديار ثمود من إعداد فضيلة الشيخ: عبد الله بن سليمان بن منيع الحمد لله وحده، وبعد: فبناء على ما ذكره أهل العلم من أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وبناء على ما قررته هيئة كبار العلماء في أن تقوم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالشخوص إلى الحجر وتطبيق النقول على طبيعة الأرض، ونظرا إلى أن النقول عن أهل العلم في تحديد هذه المنطقة غير واضحة لإمكان تطبيقها، وإنما يتطرقها الاحتمال ـ فقد ظهر لي أن مهمة اللجنة في الدرجة الأولى تكاد تنحصر في وصف مشاهدتها المنطقة، وصفا يتمكن فيه من تكييف أي احتمال يكون في تحديد ما لا يجوز إحياؤه شرعا منها، ونظرا إلى أن الوصف المقدم في البحث لم يكن في رأيي مستغرقا ما في نفسي مما شاهدته فيها مع الزملاء ولم يكن لدى الزملاء استعداد في بسط الوصف بالطريقة التي أراها؛ ولذلك فقد رأيت التقدم للهيئة بالوصف التالي للمنطقة: 1 - أن المنطقة محاطة بسلسلة جبال سود تتخللها منافذ تخرج منها. هذه المنافذ تسمى: مصيعيب، فخرم الشجرة، فأم عاذر، ثم مهج ظفير، ثم مهج ظفير ثم أبو حماطة، فالرماحية، فأبو الحمام، فأم الجرفان، فالمقتل، فالفج، فمزيلقة، ثم مزيلقة الثانية، فالشليل، فالمزحم، فخور الحمار، ومنه مخرج سكة الحديد، ثم الصريط، ثم بويب، وتبدأ هذه

الجبال من الجهة الجنوبية بالنسبة للواقف في وسط المنطقة، ثم تمتد نحو الجنوب الشرقي، ثم إلى الشرق، ثم إلى الشمال الشرقي، ثم إلى الشمال، ثم إلى الشمال الغربي، وتسمى هذه الجبال بـ (الركب) . ثم يفصلها واد صغير يعتبر أحد روافد وادي الحجر، ويسمى بـ: (الصريط) ، ثم تقوم الجبال السود، وتستمر في الامتداد نحو الغرب، ثم الجنوب الغربي، ثم الجنوب، إلى أن تقابل نقطة الابتداء في مكان يسمى: (أبا القناطير) وتسمى هذه السلسلة الثانية من الجبال بـ: (حرة عويرض) ، وبين ابتداء محيط هذه السلسلة وانتهائه الطرف الشمالي لمدينة العلا. 2 - أقسام المنطقة: تنقسم هذه المنطقة حاليا إلى قسمين: القسم الأول: ويسمى بـ: (العذيب) وهو الجزء الجنوبي منها، وفيه مركز إمارة تابع لإمارة العلا، ويعتبر ثلث المنطقة تقريبا، وهو محدود من الجهة الجنوبية: بالعلا، ومن الجنوب الشرقي والجنوب الغربي: بسلسلة الجبال القائمة، ومن الشمال: بجبال تسمى: (جبال الصينيات) ، وفيه مجموعة من المزارع التي تسقى على آبار محدثة، كما أن فيه آثار مجاري عيون أثرية معطلة، وفي جزئه الجنوبي فيما يسمى بـ: (عكمة) و (جبل دنان) كتابات أثرية، وقد استصدر دبشي بن سلطان الفقير أمرا ساميا بإقطاعه إياه، وأخذ بذلك الإقطاع صكا شرعيا من محكمة العلا. وقد بحثت في بعض معاجم البلدان فلم أجد له تسمية فيها. مما يؤكد الظن أن تسميته بـ: (العذيب) كان في وقت متأخر. ويجري في العذيب ثلاثة وديان: أحدها: يسمى المعتدل، ويأتي من الجهة الشرقية مما يلي الجنوب الشرقي لسلسلة الجبال المحيطة بالمنطقة،

ويمتد غربا، ويتصل بأدنى نخل من نخيل العلا من الجهة الشمالية، يسمى: الزهراء، ثم يستمر في الامتداد حتى يتصل بمضيق وادي الحجر. الثاني: يضيق وادي الحجر ويأتي من الجهة الشمالية من مفرش وادي الحجر، ويمتد جنوبا حتى يتصل به وادي المعتدل، ليشكلا وادي العلا. الثالث: وادي عشار، وهو يأتي من الجهة الغربية، ويمتد شرقا حتى يتصل بمفيض وادي الحجر قبل اتصال المفيض بوادي المعتدل. وفي العذيب مجموعة جبال متقطعة متناثرة بيض اللون، أشهرها: عكمة ودنان، وفيهما آثار كتابات قديمة، وفي جنوبيه مما يتصل بشمال العلا قطعة أرض تسمى: (الخريبة) فيها آثار قديمة، منها ما يسمى بـ: (محلب الناقة) ، وفي الجبال الواقعة في الجنوب الشرقي منها نحوت وتماثيل وكتابات، وينقسم العذيب حاليا إلى قسمين: الوسيطى، وقرقرى، وهي تسميات محدثة حسبما أخبرنا بذلك بعض أهلها. القسم الثاني: الحجر: وهو محدود من الجهات الشرقية والشرقية الشمالية والشمال والشمال الغربي والغرب بسلسلة الجبال القائمة، ومن الجنوب بجبال الصينيات وما حاذاها غربا وشرقا، وفيه مركز إمارة تابع إمارة العلا. وهو يمثل ثلثي ما أحاطت به سلسلة الجبال القائمة وهو يحتوي على ما يلي: أ- الوديان: هذه الوديان عبارة عن واد واسع، له روافد سبعة: الصريط، ويأتي من خارج السلسلة الجبلية من الجهة الشمالية للحجر، ثم وادي صدير، ثم وادي حوضا، ثم وادي ثربة، ثم وادي المنقى الأول، ثم

المنقى الثاني، ثم وادي شلال، وهذه الستة تفيض على أرض الحجر من تلاع داخل هذه السلسلة الجبلية من الجهة الشمالية الغربية، ومن الجهة الغربية لأرض الحجر، تجتمع هذه الروافد السبعة ليتشكل منها واد واسع المجرى، يقدر عرضه قبل انفراشه بثلاثة كيلو مترات، ينحدر هذا الوادي من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وقد قسنا عرضه قبل اتصال وادي ثربة والمنقى الأول والمنقى الثاني وشلال به- فبلغ كيلوين وربع كيلو، ثم ينفرش في أرض واسعة، تقدر مساحتها بستة كيلو مترات تقريبا في مثلها، ثم يخرج من هذا المفرش واد يتجه نحو الجنوب الغربي يتراوح عرضه بين الثمانين مترا والمائة متر، وهو ما سبقت الإشارة إليه بتسميته بـ: (مفيض وادي الحجر) وغالب مجراه واقع فيما يسمى بـ: (العذيب) . وتجدر الإشارة إلى أن نهاية تلعتي ثربة وشلال وراء سلسلة الجبال القائمة قريتين: إحداهما: ثربة، والأخرى: شلال، في كل واحدة منهما مزارع ونخيل. ب- الجبال: هذه الجبال عبارة عن مجموعة جبال متناثرة متقاطعة بيض اللون، ومن أشهرها: جبال بثينة، والأثالث، وأبو لوحة، والخريمات، وجبال الصقليات، وجبل الحوارة، وجبل الحوير، وجبال الصينيات، تتخلل هذه الجبال كثبان من الرمال. ج- الآثار: توجد الآثار ظاهرة للعيان الآن في منطقة تقدر مساحتها بستة كيلو مترات في أربعة، وهي عبارة عن أمور ثلاثة: أحدها: نحو بيوت في جبال الأثالث، وبثينة، وأبو لوحة، والخريمات، وما بينها من جبال قد تدخل في مسمى: جبال الأثالث.

الثاني: آبار بعضها عثرت عليه البادية هناك، وأقاموا عليها مزارعهم، بعض هذه الآبار منحوت حتى الماء، وبعضها مطوي، وغالبها في مفرش الوادي وبعضها خارج عنه من الجنوب، كبئر بجوار جبل الصينية، ومن الشمال كآبار مزيلقة، وقد حفر بعضها ثم دفن بأمر من الحكومة -أعزها الله- حتى يبت في موضوع الحجر. الثالث: آثار قصور في مفرش الوادي في جهته الجنوبية، وقد كشف سيل العام الماضي عنها، وهي محاطة بآثار سور، يظهر أنه سور مدينة، يقدر طول هذا السور بكيلو متر وعرضه نصف كيلو تقريبا، تحيط به الجبال التي فيها نحوت من جهاته الغربية والجنوبية والشرقية. كما أن في مفرش الوادي في الجهة الشمالية منه بئرا عند محطة سكة الحديد، وعندها مبنى يقال بأنه كان معدا لاستراحة الحجاج قبل بناء محطة سكة الحديد، وحوله بركة محفورة يقدر طولها باثني عشر مترا في مثلها في عمق مترين ونصف تقريبا، يقال: بأن هذه البئر هي بئر الناقة، وأهل المنطقة لا يختلف بعضهم على بعض في أنها هي بئر الناقة، وليس في واقعها المشاهد آثار قديمة، ولعل آثار حفرها وطيها مطمور، وهي الآن عبارة عن بئر ضيقة داخل المبنى تتصل بها بئر خارجة عن المبنى تبعد عنها قرابة عشرين مترا وبجوار هذه البئر حفر مطمور يقال: بأنه البئر الثالثة، كما يقال: بأن هذه الآبار الثلاث عبارة عن بئر واحد واسعة الأرجاء، تصرفت فيها الحكومة التركية حتى صارت إلى ما هي عليه الآن. د- المزارع والسكان: يوجد في هذا الجزء من أرض الحجر مجموعة كبيرة من المزارع والبساتين، تزيد على مائة مزرعة، غالبها تسقى من آبار

ثمودية، كما يوجد بها مجموعة من السكان، غالبهم بادية، وهم يشتغلون في مزارعهم ورعي مواشيهم، وفي الأوراق المتعلقة بالمسألة بيان تعدادي للمزارع قامت بإعداده اللجنة السابقة المكونة من الشيخ عبد الرحمن الخيال والشيخ محمد بن قعود. 3 - المساحات: قامت اللجنة بأخذ مساحات تقريبية بكيلو السيارة، أهمها ما يلي: من الصينية إلى المزحم - المزحم: منفذ يخرج من محيط الحجر شمالا، يقال: بأن الناقة كانت تزحمها جباله إذا صدرت منه - واحد وعشرون كيلو متر تقريبا. عرض مجرى الوادي قبل اجتماع أربعة من روافده كيلوان وربع، ويقدر عرضه بعد اجتماع روافده وقبل انتشاره بثلاثة كيلو متر تقريبا، ويقدر مفرش الوادي في سهول الحجر بستة كيلو مترات تقريبا في مثلها، من حافة الوادي الشمالية إلى السلسلة الجبلية شمالا يتراوح بين المتر وأربعة كيلو مترات، بمعنى: أن هذه المساحة تشكل شبه مثلث طرفا ضلعيه في الغرب. من مدخل الحجر في شمال العلا إلى مفرش الوادي ستة عشر كيلو متر تقريبا. طول الوادي من مفيض الصدير إلى منعرج الوادي لجهة العذيب ثلاثة وعشرون كيلو متر تقريبا. من مدخل الحجر شمال العلا إلى المزحم - وهو أحد مخارج جبال الركب شمال الحجر - أربعة وثلاثون كيلو متر ونصف.

من مفيض ثربة غرب الحجر حتى مهج ظفير شرق الحجر سبعة وثلاثون كيلو متر تقريبا. ويلاحظ أن المسافات الطويلة التي أخذت بكيلو السيارة فيها تعاريج اقتضاها خط سير السيارة تتراوح بين خمسة عشر وعشرين في المائة. مما سجله عداد السيارة. 4 - الجهة الشرقية: هذه الأرض تحيط بها سلسلة الجبال القائمة، وتبلغ مساحتها عشرين كيلو متر طولا من الشمال إلى الجنوب في عشرة كيلو متر من الشرق إلى الغرب تقريبا، وهذه الأرض ليس فيها آثار ظاهرة ولا مزارع ولا سكان، والجبال فيها قليلة جدا، وقد اقتطع جزء منها ليكون مطارا للمنطقة، وليس فيها وديان غير مجرى وادي المعتدل في نهاية جنوبها، وقد سبقت الإشارة إليه في وصف الوديان الواقعة فيما يسمى بـ: (العذيب) من المنطقة. هذا ما تيسر ذكره. وأسأل الله تعالى التوفيق للجميع، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. تحريرا في 6 \ 3 \ 1393هـ عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبد الله بن سليمان بن منيع

قرار رقم 30 حول ما يشمله تحريم إحياء ديار ثمود سكناها وتحريم مياهها

قرار رقم (30) وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على برقية سمو نائب وزير الداخلية رقم (13879) وتاريخ 11 \ 4 \ 1394 هـ الصادرة بعد صدور قرار هيئة كبار العلماء بتحريم إحياء ديار ثمود الصادر في دورتها الثالثة برقم (9) في شهر ربيع الآخر عام 1393 هـ، الموجهة لرئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بشأن الاستفسار عما يجب اتخاذه في ثمار ديار ثمود ومنتجاتها التي تم نضجها وحصادها قبل إبلاغهم بالمنع، وهل تلحق المواشي والدواجن بالثمار؟ وبناء على إدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال الدورة الخامسة لهيئة كبار العلماء -عرض الموضوع في هذه الدورة المنعقدة في مدينة الطائف فيما بين 5 \ 8 \ 1394 هـ و22 \ 8 \ 1394 هـ. وبعد دراسة الموضوع وتداول الرأي قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: أولا: لا يشمل الحكم بتحريم إحياء ديار ثمود وسكناها وتحريم مياهها- ما نشأ فيها أو جلب إليها من المواشي والدواجن، وإن تغذى بما فيها من مزارع ونبات وشرب من مياهها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعلفوا ركائبهم العجين الذي عجنوه بماء آبار ثمود، ولو كان ذلك يوجب تحريم ركائبهم عليهم ما أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعلفوها ذلك العجين.

ثانيا: لا يلزم من تحريم مياهها وإحياء أرضها تحريم ثمارها؛ لأن أعيان المياه والتربة قد استحالت لأعيان أخرى هي الثمار والزروع، والاستحالة تقتضي تغيير الخواص والأحكام ونظير ذلك طهارة ما سمد من الأشجار والزروع بالنجاسات، وحل ثمارها بسبب الاستحالة، ونظيره أيضا طهارة ما تخلل بنفسه من الخمر وحل الائتدام به وبيعه وشرائه، وغيرها من أنواع الانتفاع بعد أن كان خمرا محرما شربها وبيعها وشراؤها، وذلك بسبب الاستحالة. وأيضا للزراع فيها كسب وتسبب يوجب ملك الثمار والزروع، ومال المسلم معصوم كدمه وعرضه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه (¬1) » . وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء. . رئيس الدورة الخامسة عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد الرزاق عفيفي صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد العزيز بن صالح محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... سليمان بن عبيد صالح اللحيدان ... عبد الله بن منيع مخالف وله وجهة نظر مرفقة ... راشد بن خنين ¬

_ (¬1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .

وجهة نظر في حكم ثمار ديار ثمود لفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع

وجهة نظر في حكم ثمار ديار ثمود الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي [صحيح البخاري] سنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها، واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، وفيه بسنده إلى ابن عمر، أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر، واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئارها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. إن المتأمل في علة المنع من الاستقاء من هذه الآبار سيخرج بأحد أمرين: إما لنجاسة الماء، أو لوصف لازم له يوجب تحريمه، وجمهور أهل العلم متفقون على القول بطهارة مياه تلك الآبار؛ لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أنتوضأ من بئر بضاعة؟ -وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء (¬1) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. قال الإمام أحمد رحمه الله: حديث بئر بضاعة صحيح. فتعين القول بأن علة المنع من ذلك وصف قائم فيه لازم له يوجب تحريمه. وإلى نحو ذلك أشار القرطبي رحمه الله في تفسير سورة الحجر فقال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأنه ماء ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (326) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/86) .

سخط فلم يجز الانتفاع به؛ فرارا من سخط الله، وقال: "أعلفوه الإبل" قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم، إذ لا تكليف عليها. اهـ. وفي [الإقناع وشرحه] ما نصه: ولا يباح ماء آبار ديار ثمود غير بئر الناقة. . . إلى أن قال: فظاهره، أي: ظاهر القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود لا تصح الطهارة، أي: الوضوء والغسل به؛ لتحريم استعماله؛ كماء مغصوب، أو ماء ثمنه المعين حرام في البيع، فلا يصح الوضوء بذلك، ولا الغسل به؛ لحديث: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (¬1) » . . . إلى أن قال: ولا يستعمله؛ لأنه ممنوع منه شرعا فهو كالمعدوم حسا. اهـ. وحيث اتجه القول إلى أن علة المنع: اشتماله على وصف لازم له، وهو كونه ماء سخط، فإن الثمار الناتجة من مزارع وبساتين تلك الديار المسقاة بتلك الآبار شبيهة بالطحين المعجون بماء هذه الآبار، إن لم تكن أولى منها. ذلك أن العجين بمائها مركب من أمرين: مباح، هو: الطحين، ومحرم، هو: الماء، أما الثمار فمحتواها لا يخرج عن تربة تلك الديار، ومياه آبارها، والقول باستحالة حرمة هذه المياه حينما تحولت إلى ثمار قياسا على النجاسة غير صحيح -فيما أرى- قياس مع الفارق، فإن الشيء المتنجس يزول بغسله، أو باستحالته، أما التحريم فلا يزول إلا بزوال الوصف الموجب له، كاستحالة الخمر إلى خل، فإن الوصف الموجب لتحريمها الإسكار، وباستحالتها إلى خل زال ذلك الوصف، فصارت حلالا. وتحريم مياه هذه الآبار -لكونها مياه سخط أو لأي وصف آخر- ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .

موجب للتحريم، والوصف الموجب لتحريم مياه آبار ديار ثمود وصف ملازم لها، سواء اختلطت بغيرها -كالعجين- أو شكلت مع غيرها أجساما أخرى كالثمار. يدل على أن الحرمة لا تزول عن الشيء المحرم -وإن انتقل من حال إلى حال إلا بزوال الوصف الموجب لها- ما روى الجماعة عن جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه (¬1) » ، وما روى ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه (¬2) » رواه أحمد وأبو داود. فإن حرمة الشحوم على اليهود انسحبت على أثمان أدهانها، ولم تنفعهم حيلتهم لاستباحتها، بل بقي التحريم قائما، فاستحقوا بذلك لعنة الله لاستباحته. كما يدل على ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطمعه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له. فذكر أن من أسباب رد الدعاء وعدم الاستجابة- أكل الحرام، وشربه، والتغذية به، مع أن أعيان هذه الأشياء المحرمة تستحيل إلى مواد أخرى بعد أكلها أو شربها، ومع ذلك لم تكن استحالتها مانعة من ملازمة الحرمة لها، ومن كون ملازمة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4256) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/326) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3488) ، مسند أحمد بن حنبل (1/247) .

الحرمة لها سببا في رد الدعاء ومنع الاستجابة؛ لأن الوصف الموجب لحرمتها ملازم لها. لذلك كله فإني أرى أن لثمار مزارع وبساتين ديار ثمود حكم الطحين المعجون بمائها، وهو إطعامه الدواب. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الطائف في 20 \ 8 \ 1394 هـ عضو هيئة كبار العلماء عبد الله بن سليمان بن منيع

تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به

(4) تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فبناء على ما نقله سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عن جلالة الملك فيصل -رحمه الله- بموجب خطاب سماحته رقم 11471 \ 1 \ ط وتاريخ 29 \ 6 \ 1392 هـ الموجه إلى فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء، وبناء على القرار رقم (5) وتاريخ 13 \ 8 \ 1392 هـ الصادر عن الهيئة -أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به، وضمنته الكلام على ما يأتي على الترتيب: الأول: تمهيد. أ- الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض. ب- حكم تولية كل منهم القضاء.

ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا. الثاني: الدواعي التي دعت إلى تأليف كتاب بعبارة سهلة يقتصر فيه على القول الراجح من أقوال الفقهاء على هيئة مواد، وإلزام القضاة العمل بما فيه. الثالث: بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا. الرابع: أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاة أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين فيما يرفع إليهم من الخصومات مع الأدلة. الخامس: الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل، والتي تترتب على العدول عنه للدواعي الطارئة؛ لما يظن أنه المصلحة. السادس: هل يمكن إيجاد حل لهذه المشكلة القائمة سوى إلزام القضاة أن يحكموا بما يراد تدوينه من الأقوال الراجحة، أو يتعين إلزامهم بذلك طريقا لعلاج الموقف وحل المشكلة. السابع: مدى تصرف إمام المسلمين في الإلزام، مع أمثلة في مجال إلزامه توضح ذلك. والله الموفق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

أولا تمهيد

الأول: التمهيد: وفيه ثلاثة أمور: أ- الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض. ب- حكم تولية كل منهم القضاء.

ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا. أ- الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض: 1 - قال (¬1) ابن عابدين نقلا عن ابن كمال باشا: الفقهاء على سبع طبقات: الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع؛ كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة، من غير تقليد لأحد، لا في الفروع ولا في الأصول. الثانية: طبقات المجتهدين في المذهب؛ كأبي يوسف، ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول. الثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب؛ كالخصاف، وأبي جعفر الطحاوي -إلى أن قال-: فإنهم لا يقدرون على مخالفة الإمام، لا في الأصول ولا في الفرع، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها. الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه، ¬

_ (¬1) [مجموعة رسائل ابن عابدين] ، رسالة رسم المغني (11 \ 12) .

فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب، وعن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقاييس على أمثاله ونظائره من الفروع وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل. الخامسة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين؛ كأبي الحسن القدوري، وصاحب الهداية وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أوضح، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس. السادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوال والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة، كأصحاب المتون المعتبرة؛ كصاحب [الكنز] ، وصاحب [المختار] ، وصاحب [الوقاية] ، وصاحب [المجمع] ، وشأنهم ألا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة. السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين، ولا يميزون الشمال من اليمين، بل يجمعون ما يجدون، كحاطب ليل، فالويل لمن قلدهم كل الويل. 2 - قال (¬1) الآمدي: أما الاجتهاد فهو في اللغة: عبارة عن استفراغ ¬

_ (¬1) [الأحكام] للآمدي (4 \ 162) .

الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة. . ثم قال: وأما في اصطلاح الأصوليين: فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد عليه -وبعد أن شرح التعريف قال-: وأما المجتهد: فهو من اتصف بصفة الاجتهاد -وبعد أن ذكر الشرط الأول من شرطي المجتهد المطلق قال- الشرط الثاني: أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها المعتبرة فيها على ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها وكيفية استثمار الأحكام منها قادرا على تحريرها وتقريرها، والانفصال من الاعتراضات الواردة عليها. . . إلى أن قال: هذا كله يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها، ولا يضره جهله في ذلك بما لا تعلق له به مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية. كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا في المسائل المستكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها فإنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها، فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر. 3 - قال (¬1) محمد الأمين الجنكي الشنقيطي ما حاصله: المجتهد المطلق الناظر في الأدلة الشرعية من غير التزام مذهب إمام معين؛ كالأئمة ¬

_ (¬1) [مراقي السعود وشرحها] ، طبعة المدني.

الأربعة، وأما مجتهد المذهب فهو مجتهد أصوله أصول إمام مذهبه، سواء كانت منصوصة للإمام المقلد أم مستنبطة من كلامه، فكثيرا ما يستخرج أهل المذهب الأصول- أي: القواعد وفاقية أو خلافية -من كلام إمامهم وشرطه المحقق له: أن يكون له قدرة على استنباط الأحكام من نصوص ذلك الإمام الملتزم هو له، كأن يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه؛ لوجود معنى ما نص عليه فيه، سواء نص إمامه على ذلك المعنى أو استنبطه هو من كلامه، أو كأن يستخرج حكم المسكوت عنه من عموم ذلك أو قاعدة ذكرها، وأما مجتهد الفتيا فهو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من أن يرجح قولا على قول آخر لم ينص ذلك الإمام على ترجيح واحد منهما، والمجتهد في المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفتوى، والمقلد هو القائم بحفظ المذهب وفهمه في الواضح والمشكل العارف بعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، المستوفي لحفظ ما فيه من الروايات والأقوال، وعلم خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها. قال: نحو هذا نقله الخطاب، وقال: العلم بذلك متعذر، والظاهر أنه يكفي في ذلك غلبة الظن بأن وجد المسألة في التوضيح، وفي ابن عبد السلام. انتهى كلامه، وهذا له أن يفتي في حدود ما نقل مستوفى، وفيما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدة من مذهبه، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به، ولا بد أيضا من شدة الفهم وكونه ذا حظ كبير من الفقه.

4 - قال (¬1) شيخ الإسلام نقلا عن ابن الصلاح، وذلك بعد أن ذكر كلاما في المجتهد المطلق يتفق مع ما ذكره الآمدي قال: وللمفتي المنتسب أحوال أربع: أحدهما: ألا يكون مقلدا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، وإنما انتسب إليه؛ لسلوك طريقه في الاجتهاد. . إلخ، وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل ويعتبر بها في الإجماع والخلاف. الحال الثانية: أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه، يستقل بتقرير مذهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه، لكنه قد أخل ببعض الأدوات؛ كالحديث واللغة، فإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له، ولا يستوفي النظر في شروطه، وقد اتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها، كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه. قال: والذي رأيت من كلام الأئمة يشعر بأن فرض الكفاية لا يتأدى بمثل هذا، قال: وأقول: يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى، ولا يتأدى به إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قائم مقام المطلق والتفريغ على جواز تقليد الميت وهو الصحيح، وقد يوجد منه الاستقلال في مسألة خاصة، أو باب خاص، ويجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا لإمامه بما يخرجه على مذهبه، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه مفزع ¬

_ (¬1) [المسودة] ص (546) ، ويرجع أيضا إلى [المجموع شرح المهذب] (1 \ 70) وما بعدها.

المفتين من مدد مديدة، وهو في مذهب إمامه بمنزلة المجتهد في الشريعة، وهو أقدر والمستفتي فيما يفتيه من تخريجه مقلد لإمامه لا له، قطع به أبو المعالي، قال: وأنا أقول: ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه أبو إسحاق الشيرازي (في أن ما يخرجه أصحاب الشافعي على مذهبيه هل يجوز أن ينسب إليه أم لا؟) . والذي اختاره أبو إسحاق: أنه لا ينسب إليه؛ قال: وتخريجه تارة من نص معين، وتارة تخريجه على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه، والأولى إذا وجد نص بخلافه يسمى ما خرجه: قولا مخرجا، وإن وقع الثاني في مسألة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك ينسى وجها، وشرط التخريج أن لا يجد بين المسألتين فارقا، وإن لم يعلم العلة الجامعة، كالأمة مع العبد في السراية، ومهما أمكن الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج، ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما، وكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق. الحال الثالثة: أن يكون حافظا للمذهب، عارفا بأدلته، لكنه قصر عن درجة المجتهدين في المذهب؛ لقصور في حفظه أو تصرفه أو معرفته بأصول الفقه، وهي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة، قصروا عن الأولين في تمهيد المذهب، وأما في الفتوى فبسطوا بسط أولئك، وقاسوا على المنقول والمسطور غير مقتصرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق. الحال الرابعة: أن يحفظ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أنه مقتصر في تقرير أدلته، فهذا يعتمد نقله وفتواه في

نصوص الإمام وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه، وما لم يجده منقولا؛ فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فصل يمكن، كالأمة بالنسبة للعبد في سراية العتق، أو علم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب- جاز له إلحاقه والفتوى به، وإلا فلا، قال: ويندر عدم ذلك، كما قال أبو المعالي، بعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب، ولا هو في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه، ولا بد في هذا أن يكون فقيه النفس يصور المسائل على وجهها، وينقل أحكامها بعد استتمام تصويرها، جليها وخفيها، قال: ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف في الفقه: أنه يجب عليه الاستفتاء. انتهى. 5 - قال (¬1) علي بن سليمان المرداوي ما ملخصه: المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام: مجتهد مطلق، ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره، ومجتهد في نوع من العلم، ومجتهد في مسألة أو مسائل. القسم الأول: المجتهد المطلق، وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء على ما تقدم هناك، إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة وأحكام الحوادث منها، ولا يتقيد بمذهب أحد، وقيل يشترط أن يعرف أكثر الفقه، ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (12 \ 258) وما بعدها.

وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك. وقيل: المفتي: من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يسر من غير تعلم آخر. القسم الثاني: مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره: وأحواله أربعة: الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا وأولى من غيره، وأشد موافقة فيه وفي طريقه. . . وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف. الحالة الثاني: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه، مستقلا بتقريره بالدليل، ومضى في الكلام. . . إلى أن قال: والحاصل: أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط. فهذه صفة المجتهدين أرباب الأوجه والتخاريج والطرق. الحالة الثالثة: ألا يبلغ به رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس، حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره ونصرته، يصور ويحرر، ويمهد ويقوي، ويزيف ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك؛ إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه، على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن طرف من قواعد أصول الفقه ونحوه، وإما

لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق. وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها، وصنفوا فيها تصانيف، بها يشتغل الناس اليوم غالبا، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب. وأما فتاويهم فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك أو نحوه ويقيسون غير المنقول على المنقول والمسطور. . ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه. وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول، واستنباط وجه، أو احتمال، وفتاويهم مقبولة. الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، من منصوصات إمامه، وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم. . . ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس. . . ويكفي استحضاره أكثر المذاهب، مع قدرته على مطالعة بقيته. القسم الثالث: المجتهد في نوع من العلم، فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره، وعليه الأصحاب. القسم الرابع: المجتهد في مسائل أو مسألة وليس له الفتوى في غيرها. 6 - قال ابن القيم (¬1) : المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى -أربعة ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (4 \ 184) .

أقسام. أحدهم: العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة فهو المجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت. . . إلخ. النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومآخذه وأصوله عارف بها متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلدا لإمامه في الحكم ولا في الدليل لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره فهو موافق له في مقصده وطريقه معا. . . إلخ. النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكنه لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة. . . إلخ. النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه وحفظت فتاويه وفروعه، فأقرت على نفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه. . . إلخ. ففتاوى القسم الأول: من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم، وفتاوى النوع الثاني: من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم، وفتاوى النوع الثالث، والرابع: من جنس توقيعات خلفاء نوابهم، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعطه متشبه بالعلماء، محاك للفضلاء.

حكم تولية كل من المجتهد المطلق ومجتهد المذهب ومجتهد الفتوى والمقلد المحض القضاء

ب- حكم تولية كل منهم القضاء أما حكم تولية كل منهم القضاء فمختلف تبعا لاختلاف أحوالهم:

أ- المذهب الحنفي: 1 - قال (¬1) علي بن خليل الطرابلسي في الكلام على الركن الأول في شروط القضاء- قال: وإذا أراد الإمام تولية أحد اجتهد لنفسه وللمسلمين. . . ومضى إلى أن قال: وأهل القضاء: من كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه قاضيا إلى اليمن: «بم تقضي يا معاذ؟ (¬2) » . . . الحديث، ولأن القاضي مأمور بالقضاء بالحق، إذا كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لأن الحوادث ممدودة، والنصوص معدودة فلا يجد القاضي في كل حادثة نصا يفصل به الخصومة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه، وإنما يمكنه ذلك إذ كان عالما بالاجتهاد. . . ومضى إلى أن قال: ولا ينبغي أن يكون صاحب حديث لا فقه عنده، أو صاحب فقه لا حديث عنده، عالما بالفقه والآثار، وبوجه الفقه الذي يؤخذ منه الحكم. قال عمر بن عبد العزيز: من راقب الله تعالى فكانت عقوبته أخوف في نفسه من الناس وهبه الله السلامة. 2 - قال (¬3) الكاساني في الكلام على من يصلح للقضاء بعد أن ذكر جملة من الشروط: وأما العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام فهل هو شرط جواز التقليد؟ عندنا ليس بشرط الجواز، بل شرط الندب والاستحباب، وعند أصحاب الحديث كونه عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام، مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك- شرط جواز التقليد، كما قالوا ¬

_ (¬1) [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (13) . (¬2) سنن الترمذي الأحكام (1327) ، سنن أبو داود الأقضية (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (5/236) ، سنن الدارمي المقدمة (168) . (¬3) [بدائع الصنائع] (7 \ 3) .

في الإمام الأعظم، وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم؛ لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء، فكذا القاضي، لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام؛ لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به -وبعد سياقه الحديث: "القضاة ثلاثة" قال: إلا أنه لو قلد جاز عندنا؛ لأنه يقدر على القضاء بالحق بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء، فكان تقليده جائزا في نفسه، فاسد المعنى في غيره، والفاسد لمعنى في غيره يصلح للحكم عندنا مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه التي لم يجاوز فيها حد الشرع، وهو كالبيع الفاسد، إنه مثل الجائز عندنا في حق الحكم كذا هذا. انتهى. 3 - قال (¬1) عثمان بن علي الزيلعي على قول صاحب [الكنز] : (والاجتهاد شرط الأولوية- قال: - لأنه أقدر على الحكم بالحق، واختلفوا في حد الاجتهاد. قيل: أن يعلم الكتاب بمعانيه، والسنة بطرقها، والمراد يعلمها على ما يتعلق به الأحكام منه، ومعرفة الإجماع والقياس؛ ليمكنه استخراج الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها بطريقها. ولا يشترط معرفة الفروع التي استخرجها المجتهدون بآرائهم، وقال بعضهم: يشترط مع هذا: أن يكون عارفا بالفروع المبنية على اجتهاد السلف؛ كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما من المجتهدين، وقال بعضهم: من حفظ المبسوط ومذهب المتقدمين فهو من أهل الاجتهاد، والأشبه أن يقال: أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه يعرف معاني الآثار، ¬

_ (¬1) [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] (4 \ 176) .

وصاحب فقه له معرفة بالحديث؛ كيلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل: لا بد مع هذا من أن يكون صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن كثيرا من الأحكام مبني عليها. انتهى. ب- المذهب المالكي: 1 - يشترط (¬1) في القاضي أن يكون مجتهدا، فلا تنعقد إلا له إن وجد، وإلا فمقلد، ويجب عليه العمل بالمشهور في مذهب إمامه، واعلم أنه أراد بالمجتهد المطلق، وأما غير المطلق فهو داخل في المقلد، وهو قسمان: مجتهد مذهب، وهو الذي يقدر على إقامة الأدلة، ومجتهد الفتوى، وهو الذي يقدر على الترجيح، وما ذكره من أن تولية المقلد مع وجود المجتهد باطل قول، والقول الآخر: أنها صحيحة، وعليه طائفة أيضا، كالمازري وغيره، وعليه العمل في زمن مالك وغيره ممن قبله وممن بعده من المجتهدين، فكان ينبغي الاقتصار عليه. 2 - يشترط في صحة تعيين القاضي: أن يكون مجتهدا مطلقا إن وجد، وإلا فمجتهد مذهب أو فتوى، وهو الذي يضبط المسائل المنقولة ويقوى على استخراج ما ليس فيه نص بقياس على المنقول في مذهب إمامه وباعتبار قاعدة كلية، وقيل: الاجتهاد المطلق شرط كمال التولية وتقديم الأمثل، وهو مجتهد المذهب على المقلد المحض ليس بشرط صحة في ¬

_ (¬1) [حاشية علي الصعيدي في باب الأقضية على أبي الحسن على الرسالة] لابن أبي زيد (2 \ 278) وما بعدها.

التولية على الأصح، بل قال بعضهم: يصح تولية غير العالم حيث شاور العلماء. ج- المذهب الشافعي: 1 - قال الماوردي: ولا يجوز أن يقلد القضاء من تكاملت فيه شروطه التي يصح معها تقليده، وينفذ بها حكمه وهي سبعة. . . إلى أن قال: والشرط السابع: أن يكون عالما بالأحكام الشرعية، وعلمه يشتمل على أصولها، والارتياض بفروعها. ثم فصل الكلام بما ينطبق على المجتهد المطلق. ثم قال بعد ذلك: فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين، وجاز له أن يفتي ويقضي، وجاز له أن يستفتى ويستقضى، وإن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا، وحكمه -وإن وافق الصواب- مردود، وتوجه الحرج فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء، وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد؛ ليستفتى في أحكامه وقضاياه، والذي عليه جمهور الفقهاء: أن ولايته باطلة، وأحكامه مردودة، ولأن التقليد في فروع الشريعة ضرورة فلم يتحقق إلا في ملتزم الحق دون ملزمه. ثم قال: ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه. فإذا كان شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي

حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضاء والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة، وأرضى للخصوم، وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها محظور، والاجتهاد فيها مستحق. وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه، وقضى بما أداه اجتهاده إليه، وإن خالف ما تقدم من حكمه، فإن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في المشتركة بالتشريك في عام، وترك التشريك في غيره، فقيل له: ما هكذا حكمت في العام الماضي؟ فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي. 2 - وبعد (¬1) أن ذكر الرملي: أن الاجتهاد شرط في تولية القضاء، قال بعد ذلك: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية، ولا مقلد وهو: من حفظ مذهب إمامه لكنه غير عارف بغوامضه وقاصر عن تقرير أدلته؛ لأنه لا يصلح للفتوى، فالقضاء أولى. . . ومضى إلى أن قال: واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، إما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع، فإنه مع المجتهد، كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه، كما لا يجوز له ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (8 \ 240) .

الاجتهاد مع النص (فإن تعذر جمع هذه الشروط) أو لم يتعذر، كما هو ظاهر مما يأتي فذكر التعذر تصوير لا غير (فولى السلطان أو من له شوكة) . . . (فاسقا أو مقلدا) (ولو جاهلا) نفذ قضاؤه الموافق لمذهبه المعتد به، وإن زاد فسقه (للضرورة) لئلا تتعطل مصالح الناس. . . ويجب عليه رعاية الأمثل فالأمثل؛ رعاية لمصلحة المسلمين، وما ذكر في المقلد محله إن كان ثم مجتهد، وإلا نفذت تولية المقلد، ولو من غير ذي الشوكة. . . ومعلوم أنه يشترط في غير الأهل معرفة طرف من الأحكام. . . ويلزم قاضي الضرورة بيان مستنده في سائر أحكامه، كما أفتى بذلك الوالد رحمه الله، ولا يقبل قوله: حكمت بكذا من غير بيان مستنده فيه، وكأنه لضعف ولايته. انتهى المقصود. د- المذهب الحنبلي: 1 - قال (¬1) في [المنتهى وشرحه] : فيجب على الإمام أن ينصب بكل إقليم قاضيا. . . إلى أن قال: وعلى الإمام أن يختار لذلك أفضل من يجده علما وورعا؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين فوجب عليه تحري الأصلح لهم. 2 - وقال (¬2) أيضا: وله أن يولي قاضيا من غير مذهبه. 3 - وقال (¬3) أيضا بعد ذكره لشروط الاجتهاد: فمن عرف أكثر ذلك فقد صلح للفتيا والقضاء؛ لتمكنه من الاستنباط والترجيح بين الأقوال، قال في ¬

_ (¬1) [المنتهى وشرحه] (3 \ 459) ، ويرجع أيضا إلى [الإنصاف] (12 \ 155) . (¬2) [المنتهى وشرحه] (3 \ 463) . (¬3) [المنتهى وشرحه] (3 \ 467) .

(آداب المفتي) : ولا يضر جهله بذلك؛ لشبهة أو إشكال، لكن يكفيه معرفة وجوه دلالة الأدلة، وكيفية أخذ الأحكام من لفظها ومعناها، وزاد ابن عقيل في [التذكرة] ، ويعرف وجوه الاستدلال، واستصحاب الحال، والقدرة على إبطال شبه المخالف، وإقامة الدليل على مذهبه. 4 - وقال (¬1) أبو يعلى: فأما ولاية القضاء فلا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط. . . ومضى إلى أن قال: فإذا عرف ذلك صار من أهل الاجتهاد، ويجوز له أن يفتي ويقضي، ومن لم يعرف ذلك لم يكن من أهل الاجتهاد، ولم يجز له أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد القضاء كان حكمه باطلا، وإن وافق الصواب؛ لعدم الشرط. 5 -قال (¬2) الخرقي رحمه الله: ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عادلا عالما فقيها ورعا. 6 - قال (¬3) ابن قدامة رحمه الله: الشرط الثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين. ولنا قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬4) ولم يقل ¬

_ (¬1) [الأحكام السلطانية] (45، 46) . (¬2) [المغني والشرح] (11 \ 380) . (¬3) [المغني والشرح] (11 \ 382) وما بعدها. (¬4) سورة المائدة الآية 49

بالتقليد، وقال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬1) وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬2) وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار (¬3) » رواه ابن ماجه. والعامي يقضي على جهل. ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى. . . ويخالف قول المقومين؛ لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم. وبعد أن شرح الاجتهاد قال: وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه. فإن قيل: هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا: ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسألان الناس فيخبران، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة؟ فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولكن ارجعي حتى أسأل ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 105 (¬2) سورة النساء الآية 59 (¬3) سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .

الناس، ثم قام فقال: أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. وسأل عمر عن إملاص المرأة؟ فأخبره المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة، ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة الاجتهاد، فلا تكون شرطا له، وهو سابق عليها. وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل. . . ثم قال: وإنما المعتبر أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا، له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه. انتهى. 7 - يشترط (¬1) فيمن يولى القضاء: أن يكون مجتهدا مطلقا إن تيسر وإلا جاز تولية مجتهد مذهب للحاجة، فإن لم يتيسر جاز تولية المقلد للحاجة، وإلا تعطلت أحكام الناس. اهـ. 8 - جاء في [الكشاف] (¬2) في أثناء الكلام على شروط القاضي (مجتهدا) إجماعا ذكره ابن حزم؛ ولأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله؛ لأن فاقد الاجتهاد إنما يحكم بالتقليد، والقاضي مأمور بالحكم بما أنزل الله، ولا المفتي (¬3) لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا، فالحاكم أولى (ولو) كان اجتهاده (في مذهب ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (11 \ 177، 178) . (¬2) [كشاف القناع عن متن الإقناع] (6 \ 237) . (¬3) قوله: (ولا المفتي) ، وفي [المغني] : (ثم المفتي) .

إمامه) (إذا لم يوجد غيره) (لضرورة) لكن في [الإفصاح] : أن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة: أن قول من قال: إنه لا يجوز تولية غير مجتهد فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقرت عليه هذه المذاهب. وقال الموفق في خطبة [المغني] : النسبة إلى إمام في الفروع، كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة (واختار في [الإفصاح والرعاية] : أو مقلدا) . قال في [الإنصاف] : (وعليه عمل الناس من مدة طويلة، وإلا تعطلت أحكام الناس، وكذا المفتي) . قال ابن يسار: ما أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها، وظاهر نقل عبد الله مفت غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة (فيراعي كل منهما ألفاظ إمامه) و (يراعي من أقواله) متأخرا، ويقلد كبار مذهب في ذلك، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد، ولا يخرج عن الظاهر عنه. 9 - وقال (¬1) شيخ الإسلام ابن تيمية: وسئل بعض العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين، فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم. ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (28 \ 259) .

وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين، فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا، أهلا للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما يتيسر؟ على ثلاثة أقوال. . . إلخ. 10 - وقال (¬1) أيضا: وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان. . . كل ذلك واجب مع القدرة، فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وجاء (¬2) معنى ذلك عن ابن القيم رحمه الله. ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (28 \ 388) ، ويرجع أيضا إلى [السياسة الشرعية] ص (66) . (¬2) [إعلام الموقعين] (1 \ 114) ، وما بعدها، طبعة المدني.

أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا

ج- أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا. أ- المذهب الحنفي: 1 - قال (¬1) ابن عابدين: لو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه فيه ناسيا نفذ عنده، وفي العامد روايتان، وعندهما لا ينفذ في الوجهين، واختلف الترجيح. قال في [الفتح] : والوجه الآن: أن يفتي بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره، هذا كله في القاضي المجتهد، أما القاضي المقلد، فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة، فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم. ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (4 \ 498) .

2 - وقال أيضا تحت مطلب قضاء القاضي بغير مذهبه ما نصه: وحاصل هذه المسألة: أنه يشترط لصحة القضاء: أن يكون موافقا لرأيه -أي: لمذهبه- مجتهدا كان أو مقلدا، فلو قضى بخلافه لا ينفذ، لكن في [البدائع] : إذا كان مجتهدا ينبغي أن يصح، ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير. انتهى. 3 - وقال (¬1) أيضا تحت مطلب الحكم بما خالف الكتاب والسنة والإجماع: قلت: لكن قد علمت: أن عدم النفاذ في متروك التسمية بني على أنه لم يختلف فيه السلف، وأنه لا اعتبار بوجود الخلاف بعدهم، وحينئذ فلا يفيد احتمال الآية أوجها من الإعراب. نعم على ما يأتي من تصحيح اعتبار اختلاف من بعدهم يقوي ما في هذا البحث ويؤيده ما في الخلاصة من أن القضاء بحل متروك التسمية عمدا جائز عندهما، لا عند أبي يوسف، وكذا ما في [الفتح] عند [المنتقى] من أن العبرة في كون المحل مجتهدا فيه اشتباه الدليل لا حقيقة الخلاف. 4 - (ويأخذ) (¬2) القاضي، كالمفتي (بقول أبي حنيفة على الإطلاق، ثم بقول أبي يوسف، ثم بقول محمد، ثم بقول زفر والحسن بن زياد (وهو الأصح) منية وسراجية وعبارة النهر، ثم بقول الحسن فتنبه، وصحح في [الحاوي] اعتبار قوة المدرك، والأول أضبط. نهر (ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا، بل المقلد متى خالف معتمد مذهبه لا ينفذ حكمه، وينقض، هو المختار للفتوى، كما بسطه المصنف في فتاويه وغيره. . . ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (5 \ 400) . (¬2) [تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، عليه حاشية ابن عابدين] (5 \ 360، 361) .

وفي القهستاني وغيره. اعلم أن كل موضع قالوا: الرأي فيه للقاضي، فالمراد: قاضي له ملكة الاجتهاد. انتهى، وفي الخلاصة: وإنما ينفذ القضاء في المجتهد فيه إذا علم أنه مجتهد فيه وإلا فلا. 5 - قال ابن عابدين على قول صاحب الدر: (والأول أضبط) قال: لأن ما في [الحاوي] خاص فيمن له اطلاع على الكتاب والسنة، وصار له ملكة النظر في الأدلة، واستنباط الأحكام منها، وذلك هو المجتهد المطلق، أو المقيد، بخلاف الأول، فإنه يمكن لمن هو دون ذلك. وقال أيضا على قول صاحب [تنوير الأبصار] : (ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا) أي: لا يجوز له مخالفة الترتيب المذكور، إلا إذا كان له ملكة يقتدر بها على الاطلاع على قوة المدرك، وبهذا رجع القول الأول إلى ما في [الحاوي] من العبرة في المفتي المجتهد؛ لقوة المدرك، نعم فيه زيادة تفصيل سكت عنها [الحاوي] ، فقد اتفق القولان على أن الأصح: هو أن المجتهد في المذهب من المشايخ الذين هم أصحاب الترجيح لا يلزمه الأخذ بقول الإمام على الإطلاق، بل عليه النظر في الدليل وترجيح ما رجح عنده دليله، ونحن نتبع ما رجحوه واعتمدوه، كما لو أفتوا في حياتهم. . إنه إن لم يكن مجتهدا فعليه تقليدهم واتباع رأيهم، فإذا قضى بخلافه لا ينفذ حكمه. 6 - قال (¬1) الكاساني: فأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، فإن عرف ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (7 \ 5) .

أقاويل أصحابنا وحفظها على الاختلاف والاتفاق- عمل بقول من يعتقد قوله حقا على التقليد، وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا، وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد: فمن أصحابنا من قال: له أن يأخذ بقوله، ونرجو ألا يكون عليه شيء؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد بنفسه وليس هناك سواه من أهل الفقه مست الضرورة إلى الأخذ بقوله، قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1) ولو قضى بمذهب خصمه وهو يعلم ذلك لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه قضى بما هو باطل عنده في اعتقاده فلا ينفذ، كما لو كان مجتهدا فترك رأي نفسه وقضى برأي مجتهد يرى رأيه باطلا - فإنه لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه قضى بما هو باطل في اجتهاده، كذا هنا، ولو نسي القاضي مذهبه فقضى بشيء على ظن أنه مذهب نفسه ثم تبين أنه مذهب خصمه ذكر في [شرح الطحاوي] : أن له أن يبطله، ولم يذكر الخلاف؛ لأنه إذا لم يكن مجتهدا تبين أنه قضى بما لا يعتقده حقا فتبين أنه وقع باطلا، كما لو قضى وهو يعلم أن ذلك مذهب خصمه. 7 - قال (¬2) علي بن خليل الطرابلسي في معرض بحثه الركن الثاني من أركان القضاء، والمقضي به، واجتهد القاضي في القضاء- قال ما نصه: ثم لا بد من معرفة فصلين: أحدهما: إذا اتفق أصحابنا في شيء قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله: لا ينبغي للقاضي أن يخالفهم ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 43 (¬2) [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (26) ، طبعة بولاق.

برأيه؛ لأن الحق لا يعدوهم، فإن أبا يوسف كان صاحب حديث حتى روي أنه قال: أحفظ عشرين ألف حديث من المنسوخ، فإذا كان يحفظ من المنسوخ هذا القدر، فما ظنك بالناسخ، وكان صاحب فقه ومعنى أيضا، ومحمد صاحب قريحة يعرف أحوال الناس وعاداتهم، وصاحب فقه ومعنى؛ ولهذا قل رجوعه في المسائل، وكان مقدما في معرفة اللغة، وله معرفة في الأحاديث أيضا. وأبو حنيفة رحمه الله كان مقدما في ذلك كله، إلا أنه قلت روايته لمذهب خاص له في باب الحديث، وهو أنه إنما تحل رواية الحديث عنده إذا كان يحفظ الحديث من حين سمع إلى أن يروى. ثم ذكر بعد ذلك طريقة الأخذ فيما إذا اختلف بعضهم عن بعض. 8 - وقال (¬1) أيضا في معرض بحثه نقض القاضي أحكام نفسه- قال ما نصه: وذكر القاضي أبو بكر الرازي الخلاف فيما إذا قضى بخلاف مذهبه وقد نسيه، فأما متى حكم بخلاف مذهبه حال ذكر مذهبه لا يجوز حكمه بالإجماع. . أما إذا لم يكن للقاضي رأي وقت القضاء فقضى برأي غيره، ثم ظهر للقاضي رأي بخلاف ما قضى هل ينقض قضاؤه؟ قال محمد: ينقض قضاؤه؛ لأن رأيه في حق وجوب القضاء عليه بمنزلة النص؛ لأنه ¬

_ (¬1) [معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] ص (28) ، طبعة بولاق.

يوجب القضاء عليه، كالنص، ولو قضى برأيه ثم تبين نص بخلافه ينقض قضاؤه، فكذا هذا، وقال أبو يوسف: لا ينقض. ب- المذهب المالكي: 1 - ويجب (¬1) على كل من الخليفة والقاضي إذا لم يكن مجتهدا مطلقا أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه، وكذا المفتي، فإن حكم بالضعيف نقض حكمه إلا إذا لم يشتهر ضعفه وكان الحاكم به من أهل الترجيح وترجح عنده ذلك الحكم - فلا ينقض، وإن حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه، لكن القول بأنه يلزمه الحكم بمذهب إمامه ليس متفقا عليه، حتى قيل: ليس مقلده رسولا أرسل إليه، بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه، فقيل: لا يلزمه الشرط، وقيل: بل ذلك يفسد التولية، وقيل: يمضي الشرط للمصلحة. 2 - وسئل القرافي: هل يجب على الحاكم ألا يحكم إلا بالراجح عنده، كما يجب على المجتهد ألا يفتي إلا بالراجح عنده، أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحا عنده؟ فأجاب قائلا: إن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور من مذهبه، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده، مقلدا في رجحان القول المحكوم به ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل] (4 \ 130) .

إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا، فحرام إجماعا. . . إلخ. 3 - جاء في [الشرح الكبير والدسوقي] ما ملخصه: ونقض القاضي ما تبين له خطؤه من أحكامه أو أحكام غيره وبين السبب، فهذا إما مطلقا أو مجتهد مذهب، وذلك فيما إذا خالف نصا قاطعا أو جليا من كتاب أو سنة أو خالف إجماعا، وله أمثلة كثيرة، منها: ما لو خرج عن رأيه إذا كان مجتهدا وادعى أنه أخطأ؛ فينقضه فقط. وأما لو ثبت ببينة أنه أخطأ أو بقرينة؛ فإنه ينقضه هو وغيره، أو خرج المقلد عن رأي إمامه خطأ وادعى أنه أخطأ وصار ما حكم به قول عالم وقد كان قاصدا الحكم بقول غيره وكان مفوضا في الحكم بأي قول قوي من أقوال علماء مذهبه- فينقضه فقط. وأما إن صادف حكمه قول غير عالم لم يقصد الحكم بقول عالم معين، أو قصد الحكم بقول عالم فحكم بغيره- فينقض حكمه هو وغيره، وإن تجدد المماثل فالاجتهاد فيها مطلوب إن كان الحاكم مجتهدا، وإن كان مقلدا فلا يتعدى حكمه الأول أيضا إلى المماثل، بل يحكم بمثل ما حكم به أولا؛ لحكمه بقول إمامه دائما، إلا أن يكون من أهل الترجيح في المذهب فله مخالفة الأول، إن ترجح عنده مقابله. ج- المذهب الشافعي: 1 - قال (¬1) النووي وجلال الدين المحلي: (ويحكم باجتهاده إن كان ¬

_ (¬1) [المحلى على المنهاج] (4 \ 297) .

مجتهدا أو اجتهاد مقلده) بفتح اللام (إن كان مقلدا) بكسرها حيث ينفذ قضاء المقلد. 2 - وقال (¬1) قليوبي على قول النووي: (أو اجتهاد مقلده) أي: المعتمد عند مقلده إن لم يكن هو متبحرا، وإلا فباعتماده، ولا يجوز له الحكم بغير مذهبه. 3 - وقال (¬2) الرملي على قول النووي: (مجتهد) قال: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد. . . ومضى إلى أن قال بعد بيان صفة المجتهد المطلق: اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، أما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع، فإنه مع المجتهد، كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص. 4 - قال (¬3) الإمام فخر الدين في كتابه [ملخص البحر] : لا يجوز لمفت على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده، إذا ألزمناه اتباعه، ذكره الغزالي، واقتصر عليه في الروضة وغيرها، وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه، فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد، وكذا في أدب القضاء للغزي كلام ابن الصلاح، ومرادهم بالمقلد: من ¬

_ (¬1) [قليوبي على المنهاج] (4 \ 298) . (¬2) [نهاية المحتاج على المنهاج] (8 \ 240) ، ويرجع أيضا إلى ص (242) . (¬3) [مجموع المنقور] (2 \ 152) .

حفظ مذهب إمام ونصوصه، لكن عاجز عن تقويم -وفي نسخة تقديم- أدلته غير عارف بغوامضه. اهـ بواسطة المنقور. د- المذهب الحنبلي: سبقت نقول عن ابن قدامة رحمه الله وغيره من الحنابلة على هذه المسألة في أثناء الكلام على حكم التولية للمجتهد ومن ذكر معه. وفيما يلي نقول أخرى: 1 - وعلى المقلد (¬1) أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد، ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه، كمخالفة المفتي نص الشارع. وقال الشيخ تقي الدين: يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعا، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعا، ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له أو عليه إجماعا. 2 - فوائد (¬2) ملخصها: لو أداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له تقليد غيره إجماعا، وإن لم يجتهد لم يجز أن يقلد غيره أيضا مطلقا، على الصحيح من المذهب. قال ابن مفلح في أصوله: قاله أحمد وأكثر أصحابه. وعنه يجوز مع ضيق الوقت، وقيل: يجوز تقليد من هو أعلم منه، وفي هذه المسألة للعلماء عدة أقوال غير ذلك، وليس لمن انتسب إلى مذهب إمام في مسألة ذات قولين أو وجهين أن يتخير فيعمل أو يفتي بأيهما شاء، بل إن علم ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (11 \ 179) . (¬2) [الإنصاف] (11 \ 184) وما بعدها.

بتاريخ القولين عمل بالمتأخر منهما. إذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح بالدليل اختلافا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين- فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة؛ لزيادة الثقة بآرائهم. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: الناظر المجرد يكون حاكيا لا مفتيا. وقال في [آداب عيون المسائل] : إن كان الفقيه مجتهدا يعرف صحة الدليل كتب الجواب عن نفسه، وإن كان ممن لا يعرف الدليل، وقال: مذهب الإمام أحمد كذا. مذهب الشافعي كذا، فيكون مخبرا لا مفتيا. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله في الأخذ برخص المذهب وعزائمه: طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع، وقال أيضا: إن خالفه لقوة الدليل وزيادة علم أو تقوى فقد أحسن ولا يقدح في عدالته بلا نزاع، وقال أيضا: بل يجب في هذه الحال، وأنه نص الإمام أحمد رحمه الله، وهو ظاهر كلام ابن هبيرة. 3 - ومن حاشية (¬1) ابن قندس قوله: (فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك، ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه ووجوب الحكم بمذهب إمامه، وعدم الخروج عن الظاهر عنه وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك؛ لمخالفته الواجب عليه. . . إلى أن قال: وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه، والمنع من تقليد غيره، وظاهره ترجيح القول من منع تقليد غيره وهذا هو اللائق لقضاة ¬

_ (¬1) [مجموع المنقور] (2 \ 188) .

الزمان؛ ضبطا للأحكام، ومنعا من الحكم بالتشهي، فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي، بل لرغبة في الدنيا وكثرة الطمع، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم، وإنما يحصل ذلك إذا نقض حكمه بغير مذهب إمامه، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء، ولم تنحسم مادة السوء، ويرشح ذلك بأن يقال: هذه مسألة خلافية، فبعضهم ألزم بذلك، وبعضهم لم يلزمه، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك، فيرتفع الخلاف. . . إلى أن قال: وظاهره: أن المقلد يجب عليه العمل بقول من يقلده وهو إمامه، وأن لا يخرج عن قوله. . . إلى أن قال: قال بعض أصحابنا: مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص الشارع. . . إلى أن قال: قال النووي في [الروضة] : فرع: إذا استقضى مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده، قال الغزالي: إن قلنا: لا يجوز للمقلد تقليد من شاء، بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه، وإن قلنا: له تقليد من شاء لا ينقض، ثم قال: الذي تقرر: أن مذهبنا إن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه، بخلاف الشافعية فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه، قاله شيخنا) . 4 - قال شيخ الإسلام: وأولو الأمر صنفان: الأمراء، والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله

ويفعله طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة- كان هو الواجب، وإن لم يمكن لضيق الوقت وعجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك- فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال، وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال، وقيل: له التقليد بكل حال، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد.

الخلاصة

الخلاصة يتلخص من النقول المتقدمة ما يأتي: أولا: إن المجتهد المطلق هو: من لديه قدرة على استنباط الأحكام من أدلتها، بناء على أصول ارتضاها لنفسه، وليس تابعا فيها لغيره، فكان بذلك أهلا للإفتاء والقضاء، وكان رأيه معتدا به في الوفاق والخلاف، وإذا ولاه إمام المسلمين أو نائبه القضاء وجب عليه أن يحكم بما وصل إليه باجتهاده فيما رفع إليه من القضايا، ونفذ فيه حكمه، وارتفع به الخلاف في القضايا الاجتهادية التي حكم فيها. ثانيا: المجتهد المنتسب: هو من انتمى إلى مجتهد مستقل لسلوكه طريقه في الاجتهاد، من غير أن يكون مقلدا له في قوله أو في دليله، وحكمه حكم المجتهد المطلق في أهليته للقضاء والحكم في القضايا باجتهاده. . . إلى آخر ما تقدم في المجتهد المطلق. ثالثا: المقلد المتعلم هو: المتبحر في مذهب إمامه، المتمكن من تقرير أدلته على ما عرف عن إمامه أو عن أصحابه، العارف بمطلق الآراء في المذهب ومقيدها، عامها وخاصها، وغامضها وواضحها، لكنه لم يبلغ

درجة التخريج أو الترجيح، وهذا يجوز أن يولى القضاء للضرورة، وعليه أن يحكم بالراجح في مذهب إمامه الذي انتسب إليه وعرف تفاصيل مذهبه، فإن فعل ذلك نفذ حكمه، وإن حكم بالضعيف في مذهب إمامه أو حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه؛ لبطلانه، فإنه يعتقد صحة مذهب إمامه، وتقديم الراجح في مذهبه، فإذا حكم بخلاف ذلك كان حاكما بغير ما يعتقد، فكان حكمه باطلا، وعليه أن يبين مستنده في جميع أحكامه، وقيل: لا يجوز توليته القضاء، فإن قلده الإمام القضاء كانت توليته القضاء باطلة، وكان حكمه باطلا، وإن وافق الراجح في مذهب إمامه، وكانت التبعة في ذلك عليه؛ لقبوله ما ليس أهلا له وعلى من ولاه لتوليته إياه، وذهب الماوردي وجماعته إلى جواز حكم المقلد بغير مذهب إمامه، وجمع بينهما الأذرعي بحمل كل من القولين على حال من أحوال المقلد. رابعا: مجتهد المذهب وهو: من له قدرة على استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه، أو استنباطها من قواعد إمامه منصوصة أو مستنبطة من كلامه، أو استنباطها بالقياس على منصوصه لشبه معتبر بينهما، أو لعدم وجود فارق مؤثر، وله قدرة أيضا على الترجيح بين الروايات والأقوال والوجوه. وهذا بأنواعه له شبه بالمجتهد المطلق من ناحية قدرته على استنباط الأحكام في الجملة، وله شبه بالمقلد من ناحية وقوفه عند أصول إمامه، والتزامه لطريقته في التخريج والترجيح؛ ولذا اختلف في حكم توليته القضاء: فمن غلب جهة شبهه بالمجتهد المطلق أجاز توليته القضاء، ولو مع وجود المجتهد

المطلق، فتصح ولايته، ويقضي ما ترجح لديه من الآراء، وحكمه نافذ ورافع للخلاف فيما حكم فيه من القضايا، ومن غلب فيه جهة شبهه بالمقلد، وسماه: مقلدا، وإن كان تقليده غير محض، لم يصحح ولايته إلا عند عدم وجود مجتهد مطلق، والمعتمد الأول عند كثير من الفقهاء، ولكن ينبغي تولية الأمثل فالأمثل. خامسا: مجتهد الفتوى وهو: من لديه قدرة على الترجيح بين الأقوال أو الروايات والوجوه المروية عن الإمام أو أصحابه، ولا قوة له على التخريج على أقوالهم أو من القواعد والأصول المعتبرة في المذهب إلا ما كان قياسا مع عدم الفارق المؤثر، وما وضح اندراجه في قواعد المذهب وأصوله، وما كان تفصيلا لقول مجمل ذي وجهين وحكم محتمل لأمرين منقول عن إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين فإنه يقوى على مثل ذلك. وهذا القسم وإن كان في المرتبة دون من قبله من مجتهدي المذهب، إلا أنه ملحق به في حكم توليته القضاء، وما يحكم به ونفاذ حكمه ورفعه للخلاف في القضية التي حكم فيها.

ثانيا الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به

الثاني: الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به: لما كان علماء الصحابة والتابعين من ذوي البصيرة وكمال الفقه في الشريعة والأمانة في الدين، وكانوا أبعد الناس عن اتباع الهوى ومواطن الريبة، ولم تكن شقة الخلاف بينهم واسعة، ولا التباين في الآراء كثيرا فاشيا- وثق الناس بفتواهم، واطمأنت نفوسهم إلى قضائهم، ورضوا بحكمهم فيما بينهم من نزاع في المعاملات، وبذلك انحلت

مشاكلهم، ولم تداخلهم الريب والظنون، ولم يفكر أحد من العلماء أو الحكام في تدوين أحكام تختار، ليلزم القضاة بالحكم بها في قضايا النزاع، والفصل على ضوئها في الخصومات. ولما ضعفت القريحة، وقصر النظر، وبعدت شقة الخلاف بين العلماء، وكثرت آراؤهم، وتباينت فتاواهم وأحكامهم في القضايا وجدت الريبة في الأحكام، والشك في العلماء طريقا إلى القلوب وتسلطت الظنون على النفوس؛ ولهذا وغيره فكر بعض من يعنيهم الأمر في تدوين أحكام مختارة من آراء الفقهاء في المعاملات، يرجع إليها القضاة في أحكامهم، ويلزمون الحكم بمقتضاها؛ منعا للاضطراب في الأحكام، وإزالة للأوهام والشكوك من نفوس المتحاكمين إلى المحاكم الشرعية، وقضاء على الظنون الكاذبة في الشريعة الإسلامية وفي علمائها، وتبرئة لها مما وصمت به زورا وبهتانا من أنها غير صالحة للفصل بها في الخصومات وحل مشاكل الناس، وحماية للأمة وحكومتها من العدول عن التحاكم إلى المحاكم الشرعية إلى التحاكم للقوانين الوضعية. وفيما يلي نقل في بيان الدواعي إلى تدوين أحكام فقهية وإلزام القضاة أن يحكموا بها. قال محمد سلام مدكور في بيان منشأ الضرورة إلى ذلك ودواعيه (¬1) : الذي نراه أن منشأ ذلك إنما كان راجعا في عصورهم لشيء من الاضطراب في التطبيق القضائي لعدم معرفة الحكم الواجب التطبيق مع تعداد الأحكام ¬

_ (¬1) انظر [المدخل للفقه الإسلامي] ص (380) وما بعده.

في المسألة الواحدة نتيجة اختلاف آراء المجتهدين، وذلك جدير أن يبلبل أفكار الناس، وألا يسير بهم في جادة مستقيمة ومشرع واضح للجميع، ولقد كان من آثار ذلك الاضطراب في الماضي واختلاف القضاة المجتهدين في أحكام المسألة الواحدة في البلد الواحد- أن يضل الناس في شئون حياتهم رغم تحريهم الهداية والرشاد، ولكن عدم معرفة الحكم الواجب التطبيق بينهم على سبيل التعيين في المسألة الاجتهادية جعلهم قاطبة عرضه للخطأ في نظر القضاء. ولعل هذا هو السر في أن كثيرا من الأصوليين والعلماء أقفلوا باب الاجتهاد؛ سدا لذريعة الفوضى والاضطراب والحكم بالهوى المقنع بالاجتهاد ووجهة النظر، وكانوا محقين إذ ذاك حتى يغلق باب الشرور ويكون القاضي في أحكامه ملزما بأحكام مذهبه فلا يحيد عنه وملزما للناس بها حتى يعرفوها. ويقدر كل إنسان في تصرفاته حكم تصرفه أمام القضاء بحيث يستطيع أن يفهم إن كان في تصرفه حكم القضاء أم لا، وقد ترتب على هذا بحث الفقهاء في تقييد القاضي بمذهب معين، بل بالرأي الراجح من المذهب، كما بحثوا أمر تقييد السلطان لقضائه بالمذهب الذي ينبغي أن يستمد منه القاضي أحكامه، وقد كان هذا الاتجاه نواة وأساسا للتفكير في وضع الأحكام الشرعية في مواد قانونية محدودة واضحة ما أمكن، لا يلتبس الناس غالبا في شيء من أمرها. . . إلى أن قال: أما القضاة فوظيفتهم هي تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها بسلطان القضاء، ولا شك في أن الأحكام الواجبة التطبيق إذا كانت محدودة مبينة معروفة للقاضي وللمتقاضي- كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس،

وأكفل لتحقيق المساواة بينهم، وطمأنة نفوسهم بالنسبة للقضاء، فلم يكن بد من وضع الأحكام الشرعية القضائية في صيغ قانونية تتولاها طائفة من فقهاء الأمة من أهل الرأي والاجتهاد، وقد بينا عند الكلام عن الاجتهاد: أن العصر لا يخلو منهم ثم تصبح قانونا واجب الاتباع والتنفيذ، ولا ضير في ذلك ما دامت هذه الأحكام مستمدة من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه، ومسايرة لمصالح الناس، ولا ضير في أن تعتبر هذه القوانين، كالنصوص القطعية، من ناحية عدم مخالفة القاضي لها وإلزامه باتباعها، فليس هناك مجال إذا لاجتهاد القاضي معها إلا في حدود ضيقة، وهي: عند وجود إبهام في انطباقها على بعض النوازل والأحداث، ومع هذا فإن العدل إذا كان مصدره هو النصوص التشريعية وما أجمع عليه من أحكام- القاضي عند التطبيق فيما يحتاج إلى اجتهاد يعتبر أيضا مصدرا من مصادر العدالة. اهـ. مما تقدم يتبين أن الدواعي إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة به هي: 1 - وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة، أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون، أو برميهم بالقصور في علمهم أو تطبيقهم لما عرفوا من الأحكام الشرعية على ما رفع إليهم من القضايا الجزئية المتنازع فيها. 2 - عدم وجود كتاب سهل العبارة في المعاملات يتعرف منه الناس أحكام المعاملات؛ ليراعوا تطبيقاتها، ويوافقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم وإدانتهم إذا حصل النزاع

ورفعت القضية للقضاء، وإضافة إلى ذلك يكون هذا الكتاب عونا للقضاة على أداء مهمتهم، وأدعى إلى وحدة الأحكام وتناسقها بدلا من تضاربها. 3 - تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية؛ نتيجة لما تقدم ذكره، والخوف من أن يتزايد ذلك حتى ينتهي- عياذا بالله- إلى استبدال قوانين وضعية بالأحكام الشرعية. لذا فكر بعض المسلمين في إلزام القضاة أن يحكموا بأقوال في المعاملات تختار لهم، وتدون في كتاب مع أدلتها، أو إلزامهم أن يحكموا بالراجح والمعتمد من مذهب معين؛ إعانة للقضاة على التمكن من معرفة ما يحكمون به في القضايا، وتقريبا بين معارفهم في الأحكام، ومنعا للتناقض فيها ولتبلبل أفكار الأمة، وإبعادا للتهمة عنهم، وقضاء على ما يزعم بعض الناس من اتباع بعض القضاة للهوى، وتمكينا للجمهور من أن يوافقوا بين أعمالهم وبين ما دون؛ ليكون مرجعا للقضاة في الأحكام، فيكونوا بذلك على بصيرة فيما يقدمون عليه من أعمل قد يكون فيها خصومة. وستأتي مناقشة الدواعي عند مناقشة الأدلة.

ثالثا بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا

الثالث: بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا: أ- محاولة (¬1) ابن المقفع في القرن الهجري الثاني في بدء العهد ¬

_ (¬1) [رسالة الصحابة من المجموعة الكاملة] (206- 208) .

العباسي: كتب ابن المقفع إلى أبي جعفر المنصور رسالة جاء فيها: ومما ينظر فيه أمير المؤمنين من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي- اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال. . . ومضى إلى أن قال: فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة وقياس، ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم عليه عزما وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب ذلك كتابا جامعا- لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، لرجونا أن يكون اجتماع السير قرينة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر الدهر إن شاء الله. انتهى. قال (¬1) محمد سلام مدكور تعليقا على ذلك: غير أن هذا الاقتراح لم يجد له رواجا في ذلك الحين؛ لإباء الفقهاء أن يتحملوا تبعة إجبار الناس على تقليدهم، وهم الذين يحذرون تلاميذهم من التعصب لآرائهم، كما أنهم تورعوا وخافوا أن يكون في اجتهادهم خطأ، ليس هذا تقنينا وضعيا، وإنما هم بصدد شريعة سماوية. ب- محاولة الخليفتين: أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد مع الإمام مالك بن أنس. 1 - لما حج أبو جعفر المنصور سنة 148هـ اجتمع بالإمام مالك ودار ¬

_ (¬1) [المدخل للفقه الإسلامي] (107) .

بينهما بحث هذا الموضوع، ونحن نسوق ذلك: قال (¬1) عيسى بن مسعود الزواوي في أثناء الكلام الذي دار بين الإمام مالك وبين أبي جعفر المنصور، قال مالك: ثم قال لي: قد أردت أن أجعل هذا العلم علما واحدا، أكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعلمون به، فمن خالف ضربت عنقه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أو غير ذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الأمة فكان يبعث السرايا، وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل، ثم قام عمر رضي الله عنه ففتحت البلاد على يديه، فلم يجد بدا أن يبعث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين، فلم يزل يؤخذ عنهم كابرا عن كابر إلى يومنا هذا، فإن ذهبت تولهم عما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفرا، فأقر أهل كل بلد على ما فيها من العلم، وخذ هذا العلم لنفسك، فقال لي: ما أبعدت هذا القول، اكتب هذا العلم لمحمد. وقال الزواوي أيضا نقلا عن الشافعي (¬2) : بعث أبو جعفر المنصور إلى مالك لما قدم المدينة، فقال له: إن الناس قد اختلفوا في العراق فضع للناس كتابا تجمعهم عليه، فوضع [الموطأ] ، وقال الزواوي أيضا: (وقال غيره) أي: الشافعي: إن أبا جعفر لما قال لمالك: ضع كتابا في العلم نجمع الناس عليه، قال له مع ذلك: اجتنب فيه شواذ ابن عباس وشذوذ ابن عمر ورخص ابن مسعود، فقال له مالك: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين أن ¬

_ (¬1) [مناقب الإمام مالك] وهو [فقه المدونة] (1 \ 25، 26) . (¬2) [تزيين الممالك بمناقب مالك مع المدونة] (1\ 46) .

تحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب، وإنما الحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تفرقت أصحابه في البلدان، وقلد أهل كل بلد من صار إليهم، فأقر أهل كل بلد على ما عندهم. وقال الزواوي تعليقا على ذلك: فانظر إنصاف مالك رضي الله عنه، وصحة دينه، وحسن نظره للمسلمين، ونصيحته لأمير المؤمنين، ولو كان غيره من الأغبياء المقلدين، والعتاة المتعصبين، والحسدة المتدينين- لظن أن الحق فيما هو عليه، ومقصور على من ينسب إليه، وأجاب أمير المؤمنين إلى ما أراد، وأثار بذلك الفتنة وأدخل الفساد. 2 - وفي سنة 163هـ وقد ذهب أبو جعفر المنصور للحج مرة أخرى فأعاد عرض فكرته الأولى على الإمام مالك فاقتنع مالك رحمه الله، ووافقه أبو جعفر رحمه الله، يبين ذلك ما نقله جلال الدين السيوطي قال: وقال ابن سعد في [الطبقات] : أخبرنا الواقدي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، فسألني فأجبته، فقال: إني عزمت أن آمر بكتابك هذا الذي وضعته- يعني: [الموطأ]- فينسخ منه نسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدونه إلى غيره، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإني رأيت أهل العلم رواة أهل المدينة علمهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورددوا روايات، وأخذ كل قوم مما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وأن ردهم عما اعتقدوا شديد فندع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد منهم

لأنفسهم، فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به. 3 - وأخرج أبو نعيم في [الحيلة] عن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت مالك بن أنس يقول: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق [الموطأ] في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه. . . إلخ، فقلت: يا أمير المؤمنين، أما تعليق [الموطأ] في الكعبة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع فافترقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب. . إلخ فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله. وأخرج الخطيب في رواة مالك عن إسماعيل بن أبي المجالد قال: قال هارون الرشيد لمالك: يا أبا عبد الله، نكتب هذه الكتب ونفرقها في آفاق الإسلام فنحمل هذه الأمة على ما فيها، فقال: يا أمير المؤمنين رضي الله عنك، إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله والدار الآخرة. ج- محاولة (¬1) محمد عالمكير: قال محمد سلام مدكور: وفي القرن الحادي عشر الهجري ألف السلطان محمد عالمكير أحد ملوك الهند لجنة من مشاهير علماء الهند برياسة الشيخ نظام؛ لتضع كتابا جامعا لظاهر الروايات التي اتفق عليها في المذهب الحنفي، فجمعوا ذلك في كتاب معروف بـ[الفتاوى الهندية] ، ومع هذا فلم يكن هذا الجمع شبه الرسمي ملزما للمفتين والقضاة، كما أن الجمع والتدوين والتبويب لم يكن على نمط التقنين، وإنما هي فروع فقهية واقعية ومفترضة، تذكر فيها الآراء، ثم ¬

_ (¬1) [المدخل للفقه الإسلامي] ص (108) .

يتبع ذلك بالقول الذي تختاره اللجنة للفتوى. د- بدء تنفيذ الفكرة: ظهور (مجلة الأحكام العدلية) وقانون المعاملات وغير ذلك. 1 - قال (¬1) . الأستاذ مصطفى الزرقاء: ولما بدئ بتأسيس المحاكم النظامية في الدولة العثمانية، وأصبح يعود إليها اختصاص النظر في أنواع من الدعاوى كانت قبل ذلك ترجع إلى المحاكم الشرعية، ودعت الحاجة إلى تيسير مراجعة الأحكام الفقهية على الحكام غير الشرعيين، وتعريفهم بالأقوال القوية المعمول بها من الضعيفة المتروكة دون أن يغوصوا على ذلك في كتب الفقه الواسعة النطاق _ صدرت إدارة سنية سلطانية بتأليف لجنة لوضع مجموعة من الأحكام الشرعية التي هي أكبر من غيرها دورانا في الحوادث. فوضعت اللجنة في سنة (1286 للهجرة) هذه المجموعة منتقاة من قسم المعاملات من فقه المذهب الحنفي الذي عليه عمل الدولة. . . وقد أخذت بعض الأقوال المرجوحة في المذهب للمصلحة الزمنية التي اقتضتها. . . وقد صدرت الإدارة السنية السلطانية في شعبان (1293هـ) بلزوم العمل بها وتطبيق أحكامها في محاكم الدولة. 2 - وقال (¬2) . أيضا تحت فقرة (82) بدء تنفيذ الفكرة في تقنين الأحوال الشخصية قال: ثم بدئ رسميا بتنفيذ هذه الفكرة- فكرة الاستفادة من مختلف المذاهب الفقهية عن طريق التقنين في أحكام الأحوال الشخصية ¬

_ (¬1) (المدخل الفقهي العام) (1 \ 197) وما بعدها. (¬2) (المدخل الفقهي العام) (1\ 207) وما بعدها.

أواخر العهد العثماني، إذ وضعت الحكومة العثمانية قانون حقوق العائلة في سنة (1333 رومية) ، وأخذت فيه من المذهب المالكي حكم التفريق الإجباري القضائي بين الزوجين عن طريق التحكيم المنصوص عليه في القرآن عند اختلافهما، وتوسعت فيه. 3 - وقال (¬1) . أيضا: في سنة (1929م) خطت الحكومة المصرية خطوة واسعة في الأخذ من مختلف الاجتهادات مما وراء المذاهب الأربعة فأصدرت قانونا تحت رقم (25) ألغت فيه تعليق الطلاق بالشرط في معظم حالاته، كما اعتبرت تطليق الثلاث أو الثنتين بلفظ واحد طلقة واحدة؛ عملا برأي ابن تيمية، ومستنده الشرعي، وذلك بإقرار مشيخة الأزهر. انتهى المقصود. 4 - وقال (¬2) . محمد سلام مدكور تحت عنوان (مصر وتقنين الفقه الإسلامي والنهوض بدراسته) قال: لم تختلف مصر عن غيرها في النهضة الفقهية ومحاولة تقنين الأحكام الفقهية التي تهم الناس في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية وإخراجها في مواد حتى يسهل الرجوع إليها، وحتى تنصرف الأذهان عن التطلع إلى الغرب، ورفض الخديوي إسماعيل الأخذ بقانون (مجلة الأحكام العدلية) ؛ حبا في الاستقلال، وتخلصا من التبعية للدولة العثمانية، واتجه إلى قانون نابليون، بحجة أن كتب الفقه الإسلامي بوضعها لا يمكن التقنين منها، فأحدث ذلك ضجة في الرأي العام، وظهر رأي بإمكان التقنين من الفقه الإسلامي، وقام الفقيه القدير قدري باشا ¬

_ (¬1) (المدخل الفقهي العام) (1\ 208) . (¬2) (المدخل للفقه الإسلامي) ص (110) .

بعمل مجموعة من القوانين أخذها من المذهب الحنفي مسترشدا في عمله ب (مجلة الأحكام العدلية) . 5 - وقال (¬1) . أيضا تحت عنوان (القوانين المصرية المختارة من الفقه الإسلامي) : عملت الحكومة على تأليف لجنة من كبار الفقهاء والمشرعين لوضع قوانين تؤخذ من الفقه الإسلامي من غير تقيد بمعنى معين، مع مراعاة روح العصر. فألفت لجنة من أكبر علماء المذاهب الأربعة برئاسة وزير الحقانية في ذلك العهد لوضع قانون الأحوال الشخصية، فوضعت اللجنة مشروع قانون للزواج والطلاق وما يتعلق بهما طبع سنة (1916م) ، ثم أعيد طبعه بعد تنقيح فيه سنة (1917) ، ومع هذا فقد كانت المعارضة في إخراجه قوية من بعض رجل الدين ومن تأثروا بهم؛ لذا لم يخرج هذا المشروع إلى التنفيذ ولم يصدر به القانون، وإنما اكتفي ولاة الأمر بمعالجة بعض الأمور التي وضح عدم مطابقة المذهب الحنفي فيها لمصالح الناس، فصدر القانون رقم (25) سنة (1920) ، والقانون رقم (56) سنة (1923م) بوضع حد أدنى لسن الزواج، والقانون (25) سنة (1929م) ، وكل هذه القوانين نظمت بعض مسائل الأحوال الشخصية المتعلقة بالزواج وبالنفقة والعدة والطلاق والنسب والمهر والحضانة والمفقود وما إلى ذلك، وإن كان القانون الأول (25) سنة (1920م) أخذ من المذاهب الأربعة، فإن القانونين الآخرين الصادرين في سنة (1923م) وسنة (1929م) لم يتقيدا بالمذاهب الأربعة، فقد أخذ القانون (56) لسنة ¬

_ (¬1) (المدخل للفقه الإسلامي) ص (111) وما بعدها

(1923م) برأي آخر للإمام أبي حنيفة، وبفتوى عبد الله بن شبرمة، وعثمان البتي، وأبي بكر الأصم، وأما القانون (25) سنة (1929م) فقد جاء في مذكرته التفسيرية بأنه موافق لآراء بعض المسلمين، ولو من غير أهل المذاهب الأربعة، وأنه ليس هناك مانع شرعي من الأخذ بقول غيرهم خصوصا إذا ترتب عليه نفع عام، وفي سنة (1931م) صدر القانون (78) بتنظيم المحاكم الشرعية، وقد احتوى على بعض القوانين غير مقيد فيها بمذهب معين، ثم خطت مصر خطوة جديدة نحو التخلص من التقيد المذهبي، ففي 9 ديسمبر سنة (1936م) وافق مجلس الوزراء على مذكرة لوزارة العدل اقترحت فيها تشكيل لجنة بها، تقوم بوضع مشروع قانون لمسائل الأحوال الشخصية، وما يتفرع عنها، والأوقاف، والمواريث والوصية، وغيرهما، ولا تتقيد بمذهب دون آخر، بل تأخذ من آراء الفقهاء ما هو أكثر ملاءمة لمصالح الناس وللتطور الاجتماعي، ولها أن تبدأ بما ترى أن الشكوى منه أعم، والحاجة إليه أمس، وقد بدأت بالنظر في مشروع قانون المواريث؛ لأن التغيير فيه ضئيل، فخرج في سنة (1913م) برقم (77) شاملا لجميع أحكام الإرث حتى ما كان مأخوذا من أحكام قطعية، كالخاصة بأصحاب الفروض والعصبات، وهذه لم يكن للجنة فيها إلا الصياغة فقط، أما الحكم نفسه فلم تتعرض له، ولم تكن تملك أن تتعرض له، ومن أهم القواعد التي جاء بها القانون مغايرا ما كان عليه العمل توريث الإخوة والأخوات مع الجد الصحيح، بعد أن كان حاجبا لهم، وكذلك الرد على أحد الزوجين بما بقي بعد فرضه إذا لم يوجد للمتوفى أي قريب يرثه، فهو أولى بما بقي من العاصب السببي.

كما اعتبر القانون التسبب في القتل مانعا من الإرث دون القتل الخطأ وما جرى مجراه، بعكس ما كان عليه العمل، إلى غير ذلك مما يدرس تفصيلا في موضعه. ثم في سنة (1946م) صدر القانون رقم (48) معدلا لبعض أحكام الوقف، وقد أخذ هذا القانون في الغالب أحكامه من مختلف أقوال الفقهاء في سائر المذاهب، متوخيا ما يحقق مصلحة الناس، ولا يعرقل نظمهم الاقتصادية، ومن أهم قواعد هذا القانون أنه قرب أحكام الوقف من أحكام الميراث، وعلى كل فقد ألغي الوقف الأهلي كله بالقانون (180) لسنة (1952م) . ثم صدر القانون (71) في سنة (1946م) أيضا بأحكام الوصية دون تقيد بمذهب معين، ولا حتى بالمذاهب الأربعة، ومن أهم قواعده القول بالوصية الجبرية، وهي: أن يكون للأحفاد الذين حجبوا عن الميراث من جدهم أو جدتهم حق واجب في التركة، هو نصيب أصلهم لو كان حيا، بحيث لا يزيد على ثلث التركة، وألا يكون أوصى لهم جدهم أو جدتهم بشيء، وقد أخذ هذا الحكم من فقهاء التابعين ومن فقه الإباضية، كما أجاز القانون الوصية للوارث في حدود ثلث التركة دون توقف على إجازة باقي الورثة. . انتهى المقصود. 6 - قال صبحي محمصاني بعد أن بسط الكلام على مراحل التدوين ملخصا ذلك، قال (¬1) : إن التدوين مر بمراحل خمس: أولا: مرحلة التبني للمذهب الرسمي، وكانت مرحلة صعبة لم ينجح ¬

_ (¬1) [مقدمة في إحياء علوم الشريعة] المحاضرة السادسة مراحل التدوين الفقهي ص (140)

فيها ابن المقفع ولا أبو جعفر المنصور، ولكن نجحت فيها الدولة العثمانية وغيرها من الدول العربية على غرارها. المرحلة الثانية: كانت مرحلة جمعت المؤلفات، لا على شكل قانون رسمي، بل في شكل كتاب شبه رسمي يسهل المطالعة وفهم الأمور على الطالبين من قضاة وعلماء وتلامذة، وهذا قد ذكرت له أمثلة، وهي: ملتقى الأبحر، والفتاوى الهندية، وسيدي خليل، ومدونات قدري باشا. ثم المرحلة الثالثة: دون المذهب الرسمي في مدونات رسمية إلزامية، كـ[مجلة الأحكام العدلية العثمانية] التي أخذت عن المذهب الحنفي وحده. ثم مرحلة رابعة اتبعت طريقة أخرى، وهي: أن يؤخذ مذهب واحد كأصل الاقتباس من المذاهب الأخرى في بعض المسائل: مثاله ما جرى في قانون حقوق العائلة العثمانية، ومجلة الجنايات والأحكام العرفية التونسية القديمة، ومجلة الالتزامات والعقود التونسية، وما جرى في مدونات الأحوال الشخصية في البلاد العربية التي أشرنا إليها، وقد ذكرنا أن بعضها أيضا قد ابتعد عما جرى في الشريعة، كما فعلت العراق في مسائل المواريث التي نوهنا بها- أي: في هذا المحاضرة. وأخيرا في المرحلة الخامسة اقتبست بعض القوانين عن المدونات الغربية، فكان هذا الاقتباس أحيانا موفقا بحيث لم يخالف روح التشريع الإسلامي، وأحيانا كان مخالفا لما جاء في هذا التشريع. انتهى. وسيأتي ما في هذه النقول من المناقشة عند المناقشة لأدلة الأقوال في إلزام القضاة الحكم بالراجح.

رابعا أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاء أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين

الرابع - أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاء أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين. تمهيد: تقدم ذكر الدواعي إلى تدوين أحكام يلزم القضاة أن يحكموا بها فيما يرفع إليهم من القضايا، وأن التفكير في ذلك بدأ في القرن الثاني من الهجرة في خلافة أبي جعفر المنصور حين عرض عليه عبد الله بن المقفع ذلك، وتكلم أبو جعفر مع الإمام مالك فيها، وقد وضع كل منهما الأمر في نصابه، حيث رفعه الأول إلى المسئولين عن الأمة من ولاة الأمور وأهل السلطة فيها، ورده الخليفة إلى أهل العلم والفقه في الدين، ولم يكن تأثير الدواعي على النفوس قاصرا في ذلك العهد على ابن المقفع، بل تجاوز إلى غيره، فقد نقل فقهاء المالكية أن سحنون بن سعيد التنوخي ولى رجلا سمع بعض كلام أهل العراق، وأمره ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة، فهذا قد تمكنت منه الفكرة أكثر ممن سبقه، واستمر تأثيرها في العلماء وغيرهم جيلا بعد جيل، حتى وقتنا الحاضر، مع تفاوت في مدى تأثره بها، فمنهم من لم يستجب لها، ومنهم من استسلم لها فقال بها، ودافع عنها، وعمل بمقتضاها عندما أتيحت له الفرصة، ولكل وجهته. وفيما يأتي ذكر أقوال الفقهاء، وما استندوا إليه من المناقشة، وبالله التوفيق. أ- المذهب الحنفي: ب- قال (¬1) ابن عابدين: ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه، كما ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (4\ 369)

في زماننا تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه. 2 - وقال (¬1) أيضا نقلا عن معروضات أبي السعود: إن العبد الآبق إذا كان من عبيد العسكرية فقد صدر الأمر السلطاني بمنع القضاة من بيعه؛ كيلا يتخذ العبيد الإباق وسيلة للتخلص من خدمة الجيش، ثم قال: وحينئذ لا يصح بيع هؤلاء العبيد، بل يؤخذون من مشتريهم ويرجع المشتري بالثمن، وكذلك بيع العبيد الآبقين من الرعايا إذا بيعوا بغبن فاحش، وبذلك ورد الأمر السلطاني، فليحفظ فإنه مهم. 3 - وقال (¬2) أيضا على قول صاحب [الدر] : (ولو قضى بجواز بيعها لم ينفذ، بل يتوقف على قضاء قاض آخر إمضاء وإبطالا) . قال: أي: قضى به حنفي مثلا على إحدى الروايتين عن الإمام من أن القاضي لو قضى بخلاف رأيه ينفذ قضاؤه ما لم يقيده السلطان بمذهب خاص. 4 - وقال (¬3) أيضا على قول صاحب [تنوير الأبصار] في صلاة العيدين: (ويصلي بهم الإمام ركعتين مثنيا قبل الزوائد، وهي ثلاث تكبيرات في كل ركعة) قال: هذا مذهب ابن مسعود وكثير من الصحابة ورواية عن ابن عباس، وبه أخذ أئمتنا الثلاثة، وروي عن ابن عباس أنه يكبر في الأولى سبعا، وفي الثانية ستا، وفي رواية خمسا، منها ثلاثة ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (3\ 325) (¬2) [حاشية ابن عابدين] (3\51) (¬3) [حاشية ابن عابدين] (1\ 779، 780) .

أصلية، وهي: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرتا الركوع، والباقي زوائد: في الأولى خمس، وفي الثانية خمس أو أربع، ويبدأ بالتكبير في كل ركعة. قال في [الهداية] : وعليه عمل العامة اليوم؛ لأمر الخلفاء من بني العباس به، والمذهب الأول. قال في [الظهيرية] : وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف ومحمد أنهما فعلا ذلك؛ لأن هارون أمرهما أن يكبرا بتكبير جده، ففعلا ذلك؛ امتثالا له لا مذهبا واعتقادا. قال في [المعراج] : لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجبة.

المذهب المالكي

ب- المذهب المالكي: قال (¬1) محمد بن عبد الرحمن الحطاب: قال ابن الحاجب: وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه في الاجتهاد أو التقليد، ولو شرط الحكم بما يراه، كان الشرط باطلا والتولية صحيحة، قال الباجي: كان في سجلات قرطبة، ولا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده قال في [التوضيح] : للإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه، كالمالكي يولي شافعيا أو حنفيا ولو شرط الإمام على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له كان الشرط باطلا وصح العقد، وهكذا في [الجواهر] عن الطرطوشي، قال غيره: العقد غير جائز وينبغي فسخه ورده، وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهدا، وهكذا المازري فيه قال: وإن كان الإمام مقلدا وكان متبعا لمذهب مالك أو اضطر إلى ولاية قاض مقلد- لم يحرم على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك، ويأمره ألا يتعدى في قضائه مذهب ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (6\98) وما بعدها.

مالك؛ لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي هذا القاضي منه ولي عليهم، وقد ولى سحنون رجلا سمع بعض كلام أهل العراق، وأمره ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة. انتهى المقصود. 2 - قال (¬1) ابن فرحون: قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: أخبرنا القاضي أبو الوليد الباجي: أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في سجله ألا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده. قال الشيخ أبو بكر: وهذا جهل عظيم منهم، يريد أن الحق ليس في شيء معين، وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان فتكلم على أهل زمانه وكان معاصرا للإمام أبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي الوليد الباجي، والقاضي أبي الوليد بن رشد، والقاضي أبي بكر بن العربي، والقاضي أبي الفضل عياض، والقاضي أبي محمد بن عطية صاحب التفسير، وغير هؤلاء من نظرائهم، وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب. . وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون، وذلك أنه ولى رجلا القضاء وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق فشرط عليه سحنون ألا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك. . قال (¬2) ابن رشد: وهذا يؤيد ما ذكره الباجي، ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر فكيف يقول ذلك والمالكية إذا تحاكموا إليه فإنما يأتونه؛ ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] (1\84) وما بعدها. (¬2) [الدسوقي على مختصر خليل] (4\130)

ليحكم بينهم بمذهب مالك؟ ! انتهى المقصود. 3 - قال الدسوقي: بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه فيقبل لا يلزمه الشرط، وقيل: بل ذلك يفسد التولية، وقيل: يمضي الشرط لمصلحة. انظر (ح\3) (¬1) . 4 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) : لما انتشر مذهب مالك بالأندلس وكان يحيى بن يحيى بالأندلس والولاة يستشيرونه فكانوا يأمرون القضاة ألا يقضوا إلا بروايته عن مالك، ثم رواية غيره، فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك؛ لأجل من عمل بها، وقد تكون مرجوحة في المذهب، وعمل أهل المدينة والسنة، حتى صاروا يتركون رواية [الموطأ] الذي هو متواتر عن مالك، وما زال يحدث به إلى أن مات؛ لرواية ابن القاسم، وإن كان طائفة من المالكية أنكروا ذلك، فمثل هذا إن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك، لا على مالك. انتهى المقصود منه. 5 - قال محمد عليش (¬3) وفي آخر أحكام ابن سهل وأول [المدارك] للقاضي عياض، واللفظ للمدارك، وفي كتاب الحاكم المستنصر إلى الفقيه أبي إبراهيم، وكان الحاكم ممن طالع الكتاب ونقر عن أخبار الرجال تنقيرا لم يبلغ فيه شيئا كثيرا من أهل العلم، فقال في كتابه: (وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه من رين على قلبه وزين له سوء عمله وقد نظرت طويلا في أخبار الفقهاء، وقرأت ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم أر ¬

_ (¬1) قوله: انظر (ح) هذه الإشارة لـ[مواهب الجليل شرح مختصر خليل] للحطاب (¬2) [تفضيل مذهب أهل المدينة] ، 38 ج. (¬3) [فتح العلي المالك] (65) .

مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه، وإن فيهم الجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة وإلا مذهب مالك ما سمعت أن أحدا ممن يتقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع، فالاستمساك به نجاة إن شاء الله، ولغيره عن الخليفة الحاكم المستنصر بالله تعالى: من خالف مذهب مالك بالفتوى، وبلغنا خبره- أنزلنا به من النكال ما يستحقه، وجعلناه عبرة لغيره، فقد اختبرت فوجدت مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا فيمن تقلد بمذهبه غير معتقد للسنة والجماعة، فليستمسك الناس بهذا، ولينهوا أشد النهي عن تمسكهم في العمل بمذهب جميع المخالفين له) (¬1) . ¬

_ (¬1) لكن مالكا رحمه الله لم يرض أن يحمل الناس على مذهبه أو كتابه، كما تقدم

المذهب الشافعي

ج- المذهب الشافعي: 1 - قال الماوردي (¬1) : فلو شرط المولي وهو حنفي المذهب على من ولاه القضاء - ألا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يشترط ذلك عموما في جميع الأحكام فهذا شرط باطل، سواء كان موافقا لمذهب المولي أو مخالفا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطا فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي- كانت الولاية صحيحة والشرط ¬

_ (¬1) [الأحكام السلطانية] ص (68) .

فاسدا، سواء تضمن أمرا أو نهيا، ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه، سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك قدحا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز، ولا يكون قدحا إن جهل، لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليا ولا واليا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط. والضرب الثاني: أن يكون الشطر خاصا في حكم بعينه، فلا يخلو الشرط من أن يكون أمرا أو نهيا، فإن كان أمرا فقال له: أقد من العبد (¬1) بالحر. . . كان أمره بهذا الشرط فاسدا، ثم إن جعله شرطا في عقد الولاية فسدت، وإن لم يجعله شرطا فيها صحت، وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه. وإن كان نهيا فهو على ضربين: أحدهما: أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه- فهذا جائز؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه فصار ذلك خارجا عن نظره. والضرب الثاني: ألا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء في القصاص. فقد اختلف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه؟ على وجهين: ¬

_ (¬1) قوله (أقد من العبد بالحر) كذا من أصل المنقول منه ولعل الصواب كذا (أقد من الحر بالعبد) .

أحدهما: أن يكون صرفا عن الحكم فيه وخارجا عن ولايته فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه. والثاني: أنه لا يقتضي الصرف عنه، ويجري عليه حكم الأمر به، ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطا في التقليد، ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه. 2 - قال (¬1) . جلال الدين المحلي على قول النووي في [المنهاج] : (ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه) - قال: أي خلاف الحكم باجتهاد أو اجتهاد مقلده، وقضية ذلك: أنه لو شرطه لم يصح الاستخلاف، كذا لو شرطه الإمام في تولية القاضي لم تصح توليته. 3 - قال (¬2) قليوبي على قوله: (أن يشترط) : خرج بالشرط الأمر والنهي، نحو احكم بمذهب كذا، أو لا تحكم، فيلغو ولا تبطل التولية، ويعتبران في التفويض. 4 - وقال (¬3) إبراهيم بن على الشيرازي: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه؛ لقوله عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬4) والحق ما دل عليه الدليل، وذلك لا يتعين في مذهب بعينه، فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية؛ لأنه علقها على شرط، وقد بطل الشرط، فبطلت التولية. ¬

_ (¬1) [شرح المحلي على المنهاج] (4\ 297، 298) (¬2) [قليوبي على المنهاج] (4\ 298) . (¬3) [المهذب] (2\291) طبعة حلبية. (¬4) سورة ص الآية 26

المذهب الحنبلي

د- المذهب الحنبلي: 1 - قال (¬1) ابن قدامة: ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي، ولم أعلم فيه خلافا؛ لأن الله تعالى قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬2) والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب. فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع. 2 - قال (¬3) أبو يعلى: (فإن كان المولي على مذهب فشرط على من ولاه القضاء ألا يحكم إلا بمذهبه- فهذا شرط باطل، وهل تبطل الولاية؟ نظرت: فإن لم يجعله شرطا فيه، لكن أخرجه مخرج الأمر والنهي، بأن قال له: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب أحمد على وجه الأمر، ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي فالولاية صحيحة والشرط فاسد. وإن أخرجه مخرج الشرط في عقد الولاية، فقال: قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلا بمذهب أحمد. فهذا عقد شرط فيه شرطا فاسدا فهل يبطل العقد؟ على روايتين: بناء على البيع إذا قارنه شرط فاسد، فإن كان الشرط خاصا في حكم بعينه نظرت أيضا، فإن لم يخرجه مخرج الشرط لكن أخرجه مخرج الأمر، فقال: أقد من العبد بالحر (¬4) ، ومن المسلم بالكافر- ¬

_ (¬1) [المغني ومعه الشرح الكبير] (11\ 482) ، و [الإقناع وشرحه] (6\ 235) . (¬2) سورة ص الآية 26 (¬3) [الأحكام السلطانية] ص (47، 48) . (¬4) قوله: (أقد من العبد بالحر) كذا من الأصل المنقول منه، ولعل الصواب كذا (أقد من الحر بالعبد) .

فالشر باطل والعقد صحيح، وإن جعله شرطا فهل يبطل العقد؟ على الروايتين: وإن كان نهيا، فإن نهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، وألا يقضي فيه بوجوب القود، ولا بإسقاطه- جاز؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه، وإن لم ينهه عن الحكم فيه ونهاه عن القضاء بالقصاص احتمل أن يكون صرفا عن الحكم، فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه. ويحتمل ألا يقتضي الصرف، ويجري عليه حكم الأمر به. فيبطل حكم الأمر، ويثبت صحة النظر إذا لم يجعله شرطا في التقليد، ويحكم بما يؤديه اجتهاده إليه. 3 - قال شيخ الإسلام (¬1) : ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين- بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان، ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا. فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير- كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما. 4 - وقال (¬2) أيضا جوابا عن سؤال وجه إليه عمن ولي أمرا من أمور المسلمين، ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (31\ 73) وما بعدها. (¬2) [مجموع الفتاوى] (30\ 79- 81) .

في معنى ذلك، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو ما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار، وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذا المسائل منعه من ذلك وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم، وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه (كتاب الاختلاف) ولكن سمه (كتاب السعة) ؛ ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه؛ ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة. . . وبعد أن ذكر أمثلة كثيرة لهذا من المعاملات قال: ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها؛ ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز، ثم يفرع على القول بجوازها، ويقول: إن الناس لا

يأخذون بقولي في المنع؛ ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها، كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره. 5 - وقال عنه البعلي أيضا (¬1) : ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وإن قال: ينبغي، كان جاهلا ضالا، ومن كان متبعا الإمام فخالفه في بعض المسائل؛ لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى- فقد أحسن، (وقال أبو العباس) في موضوع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص عليه، ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع. 6 - وقال أيضا في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة في الفصل الذي عقده لإحالة الحكم في قضيته إلى الحاكم، قال (¬2) : أنا لم يدع علي دعوى يختص بها الحاكم من الحدود والحقوق، مثل: قتل أو قذف أو مال أو نحوه، بل في مسائل العلم الكلية مثل: التفسير، والحديث، والفقه وغير ذلك، وهذا فيه ما اتفقت عليه الأمة، وفيه ما تنازعت فيه، والأمة إذا تنازعت في معنى آية أو حديث أو حكم خبري أو طلبي- لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة، ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬3) هو: الحيض، أو الأطهار، ويكون هذا حكما يلزم جميع الناس قوله، أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬4) ¬

_ (¬1) [الفتاوى المصرية] . (¬2) [مجموع الفتاوى] (3\238) . (¬3) سورة البقرة الآية 228 (¬4) سورة النساء الآية 43

هو الوطء، أو المباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج، أو الأب والسيد، وهذا لا يقوله أحد. . .، ومضى إلى أن قال: وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع قول بلا حجة يجب الرجوع إليها، فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم. نعم، الولاية قد تمكنه من قول حق ونشر علم قد كان يعجز عنه بدونها، وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه. نعم، للحاكم إثبات ما قال زيد أو عمرو، ثم بعد ذلك إن كان القول مختصا به كان مما يحكم به الحاكم، وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس، فأما كون هذا القول ثابتا عند زيد ببينة أو إقرار أو خط فهذا يتعلق بالحكام. 7 - وقال (¬1) أيضا: الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام، وإنما الإمام منفذ لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) [المنتقى] للذهبي [مختصر منهاج السنة] لشيخ الإسلام ص (540) .

نقول عن بعض الفقهاء المعاصرين الذين يدعون إلى هذه الفكرة

هـ ـ نقول عن بعض الفقهاء المعاصرين الذين يدعون إلى هذه الفكرة: 1 - قال (¬1) محمد رشيد رضا: وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر الناس، ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم، ويلزم الإمام أو السلطان سائر الناس بالعمل باجتهادهم على ما بينته تبيينا، فإن أصاب هؤلاء الحق والعدل فلهم ¬

_ (¬1) مجلة المنار (4\ 368) .

أجران، وإن أخطئوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة فلهم أجر واحد، ويعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم. 2 - قال (¬1) أيضا: فما أجمعوا عليه من أمر الدين فهو الذي لا يسع مسلما تركه، وما اختلفوا فيه يرد إلى الكتاب والسنة، كما أمر الله تعالى بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2) أي: مآلا وعاقبة، والرد في الأمور العامة منوط بأولي الأمر، وفي الوقائع الخاصة يعمل كل فرد بما ظهر له الدليل على صحته. . إلخ. 3 - وسئل (¬3) : ما قولكم دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو نائبه، وأمر وألزم حكام بلده وقضائه بإجرائها وتنفيذها، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله لإطلاق قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬4) الآية، أم كيف الحكم؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار؟ فأجاب: إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم - وجب علينا أن نعمل بها إذا وضعها أولو الأمر منا، وهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضرورات، وإن كانت جائزة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا ¬

_ (¬1) [فتاوى المنار] رقم (522) ص (1466) . (¬2) سورة النساء الآية 59 (¬3) [فتاوى المنار] رقم (406) . (¬4) سورة المائدة الآية 92

خلاف فيها- لم تجب الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (¬1) » وهذا نص حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم، عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري، وصححوه بلفظ: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف (¬2) » ، ولا يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛ لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن، ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم، فلا يخرجوا عنه ولو لمصلحة تطلب، أو مفسدة تجتنب، ولا بغير هذا القيد. وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه- هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم - من القوانين التي ليس فيها معصية للخالق، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل والعقد لأجل المصلحة، لا عملا بالآية، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير ما وضعه السلطان وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو؛ لأنهم هم نواب الأمة، وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة ولا يكون إماما للمسلمين إلا بمبايعتهم، فإن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم. وبناء على هذه القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم. قال الخليفة الأول في خطبته الأولى: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني) ، وقال الخليفة الثاني على المنبر أيضا: (من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه) ، وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة، وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضا: (أمري لأمركم تبع) ، وقال الخليفة الرابع في أول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/131) . (¬2) صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/94) .

خطبة له وكانت بعدما علمنا من الأحداث والفتن: (ولئن رد إليكم أمركم إنكم لسعداء، وأخشى أن تكونوا في فترة) ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬1) قال (¬2) . الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا: والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها، أو يأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به، وبذلك صرح فقهاؤنا، وفقا لقاعدة (المصالح المرسلة) ، وقاعدة (تبدل الأحكام بتبدل الزمان) . ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي- أي: قابل للاجتهاد، غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة- كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا، فلو منع بعض العقود لمصلحة طارئة واجبة الرعاية، وقد كانت تلك العقود جائزة نافذة شرعا- فإنها تصبح بمقتضى منعه باطلة، وموقوفة على حسب الأمر. 5 - وقال (¬3) أيضا تعليقا على ذلك: جاء في كتاب الوقف من [الدر المختار] وحاشيته [رد المحتار] نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية، ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين: سليمان وسليم، ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين، المعول على فتاويهم وترجيحاتهم- أنه: صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية 38 (¬2) [المدخل الفقهي العام] (1\191) ، ونسبه إلى [رد المحتار] (1\55) (¬3) [المدخل الفقهي العام] (1\191) وما بعدها.

المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله، قطعا لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم؛ لتهريبها من وجه الدائنين. وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الوقف المدين، ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه. . . ومضى إلى أن قال: والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها، بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه؛ لما له من تأثير ذي بال في شتى الأحكام. . . ومضى إلى أن قال تحت عنوان (مشكلة إعطاء هذه الصلاحية لولاة الأمور والحل الصحيح لها) قال: بقي أن يقال: إن إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر العام يؤدي إلى إمكان أن يتصرف هذا الحاكم بحسب هواه في تغيير الأحكام الاجتهادية وتقييدها بأوامر أو قوانين زمنية يصدرها. . إلى أن قال: والجواب: أن هذا النصوص الفقهية مفروضة في إحدى حالتين: إما أن يكون الحاكم نفسه من أهل العلم والتقوى والاجتهاد في الشريعة، كما كان في الصدر الأول من العهد العباسي. . وإما ألا يكون عالما مجتهدا، وعندئذ لا يكون لأوامره هذه الحرمة الشرعية، إلا إذا صدرت بعد مشورة أهل العلم في الشريعة وموافقتهم. 6 - قال (¬1) محمد سلام مدكور تحت عنوان: (تقييد القاضي على أن يحكم بمذهب أو رأي معين) قال: إذا قيد الحاكم القاضي أن يقضي بخلاف مذهبه وبالضعيف من مذهبه - فهذا التقييد باطل، ولم نقف على ¬

_ (¬1) [المدخل للفقه الإسلامي] ص (378) وما بعدها.

خلاف في هذا بين المتقدمين من فقهاء المذاهب، والدليل على ذلك: أن القاضي مأمور أن يحكم بالحق، والحق ما يعتقده صحيحا، سواء كان الاعتقاد عن طريق بذل الجهد والنظر، أم عن طريق الاقتناع برأي إمامه والعلم بمذهبه. وهذا يتفق مع قولهم: إن من شرط صحة القضاء أن يحكم القاضي برأيه من غير تفرقة بين ما إذا قيده السلطان أو لم يقيده، ولا بين ما إذا كان القاضي مجتهدا أو مقلدا؛ لأن المقلد رأيه هو رأي إمامه الذي هو مذهبه. وفي (¬1) [رسائل ابن عابدين] عن أنفع الوسائل: أن القاضي المقلد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر في المذهب، إلا أن ينص الفقهاء على أن الفتوى على غير ذلك، وفي (¬2) [حاشية ابن عابدين على الدر] : (ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه، كما في زماننا تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه) ، وهذان النقلان يشعران بأنه إذا قيده بغير مذهبه لا يتقيد بعد بطريق الأولى، كما يشعران بأن هذا التقييد لا يتجه إلى المجتهد أيضا بطريق الأولى. كما (¬3) أن ابن قدامة الحنبلي يقول: إنه لا يجوز أن يقلد القضاء الواحد على أن يحكم بمذهب بعينه عند أحمد والشافعي ولا أعلم فيه خلافا؛ لأن الحق لا يتعين في مذهب، وهذا يشعر أيضا بالإطلاق بالنسبة للقاضي مجتهدا أو مقلدا هذا الإطلاق المستفاد من كلمة (أن يقلد القضاء الواحد) ، وقد ¬

_ (¬1) [رسائل ابن عابدين] (2\ 75) . (¬2) [حاشية ابن عابدين] (4\ 369) . (¬3) [المغني] (9\ 106) .

فصل (¬1) الماوردي الكلام في هذا التقييد وقال: إنه إما أن يكون بالنسبة لجميع الأحكام أو لبعضها، وقد نقل (¬2) مثله ابن فرحون عن بعض فقهاء المالكية، وهذا التفصيل لا نرى فيه فرقا أكثر من أن ذلك الشرط إذا كان يقصد به عدم سماع القاضي بعض الدعاوى- فإنه يتقيد به، وهذا غير ما نتكلم عنه من تقييد ولي الأمر للقاضي أن يقضي بمذهب أو رأي، ومما يؤيد وجهتنا في عدم أثر هذه التفرقة ما علق به (¬3) ابن فرحون على ما نقله إذ يقول: (إن جميع تلك التقييدات لا يجوز للإمام اشتراطها؛ لأنه اشتراط ما لا يجوز، ومن كان لا يقتضي إلا بما أمره به من ولاه فليس بقاض على الحقيقة) ، ولما قيد القانون في مصر من زمن بعيد القضاء في المحاكم الشرعية بالمذهب الحنفي فيما لم يرد به قانون خاص فقد استلزم ذلك أن يكون القضاء فيها مقصورا على من كان حنفي المذهب، حتى لا يحكم القاضي بخلاف مذهبه بأمر من سلطان، وبعد أن اتفق الفقهاء (¬4) على بطلان تقييد السلطان للقاضي على أن يقضي بمذهب معين فقد تناولوا عقد التولية نفسه على هذا القيد بما خلاصته: أنه إذا كان تم العقد على اشتراطه، سواء أكان في صيغة العقد أو متقدما عليه- فإن عقد التولية باطل عند غير الأحناف، صحيح عندهم، وإذا كان غير مشروط في صيغة العقد فعقد التولية صحيح إجماعا. ¬

_ (¬1) [الأحكام السلطانية] ، ص (64) . (¬2) [تبصرة الحكام] (1\16، 17) . (¬3) [تبصرة الحكام] (1\16) . (¬4) انظر [المغني] (9\109) .

مما تقدم يتبين: أولا: الفرق بين الولاة والعلماء والرعية في القرون الأولى، والولاة والعلماء والرعية في القرون الأخيرة لهذه الأمة الإسلامية؟ لاختلاف أحوالهم علما وأمانة وعدلا، وفي قوة الثقة وضعفها، وكثرة المشاكل وقلتها، يترتب على هذا الأمر الثاني. ثانيا: الفرق بين القاضي المجتهد والمقلد. فالقاضي المجتهد يجب عليه أن يحكم فيما يرفع إليه من القضايا بما وصل إليه باجتهاده، ولا يجوز للحاكم العام إلزامه حين التولية أو بعدها أن يحكم بمذهب معين أو قول معين، فإن ألزمه بطل الشرط وصحت التولية، وقيل: يبطل الشرط والتولية جميعا، وإن كان الإلزام بعد التولية بطل الإلزام، وقضى بموجب اجتهاده. . أما القاضي المقلد فقيل فيه بما ذكر من الخلاف في حكم المجتهد، ويلزمه العمل بما قيد به ولو خالف اعتقاده. ثالثا: الفرق بين المسائل العلمية الكلية، والقضايا الجزئية، فحكم القاضي أو ولي الأمر لا يرفع الخلاف في الأولى، فيبقى لغيره حق النظر والحكم فيها بما يراه عن اجتهاد، ويرفع الخلاف في الثانية، فليس لأحد أن ينقض حكم ولي الأمر أو القاضي فيها بعينها، إلا إذا خالف نص الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع. رابعا: عموم التشريع وشموله، فلا يحتاج إلى أحد سوى الله ورسوله في التشريع، وإلى ولاة الأمور من العلماء والأمراء وأئمة المسلمين الفهم والتنفيذ لا غير، وإذا عرفت الأقوال فنشرع في الأدلة ومناقشتها:

أولا: أدلة من قال بالمنع: استدل من قال بمنع الإلزام بأدلة الكتاب والسنة والإجماع: أ- أما الكتاب: فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬1) فأوجب سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيما شجر بين الناس بما أعلمه الله في كتابه، وما فهمه من الوحي المنزل عليه. ومن المعلوم أنه يجب على ولاة الأمر بعده أن يحكموا بما حكم به، وإلزام القاضي ونحوه أن يحكم بما دون من القول الراجح، أو بمذهب معين، وإن كان على خلاف ما اقتنع به يتنافى مع ذلك فوجب رده؟ عملا بمقتضى الآية، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬2) والأقوال الراجحة في مسائل الخلاف إنما هي راجحة في نظر مرجحيها دون مخالفيهم، فلا يتعين أن تكون هي الحق الذي أنزله الله، وأمر بالحكم به بين الناس فلا يلزم القاضي ونحوه الحكم بها إذا كانت أو كان بعضها على خلاف ما يعتقده حقا في نظره بناء على اجتهاده، أو ثقته بمن قلده، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك حين التولية، أو يلزم به بعدها. وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬3) فأمر تعالى من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بين الناس بالحق، والحق لا يتعين في مذهب أو رأي بعينه، ولا في قول رجحه بعض الفقهاء، فلا يلزم القاضي ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 105 (¬2) سورة المائدة الآية 48 (¬3) سورة ص الآية 26

ونحوه الحكم أو الفتوى به، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك في التولية أو بعدها لجواز أن يفهم غير هذا الراجح ويقتنع به، أو يقتنع به ثقة بمن رجحه من المجتهدين، فيكون حكمه بما ألزم به حكما بغير ما اعتقده حقا، وهو حرام {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬1) فأوجب سبحانه الرجوع إلى حكمه الذي أوحاه إلى رسوله في الكتاب أو السنة الثابتة دون الرجوع إلى الراجح عند بعض المجتهدين في مسائل الخلاف. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2) فأوجب سبحانه طاعته وطاعة رسوله في كل الأمور، وأوجب طاعة أولي الأمر من الحكام والعلماء فيما وضح أمره وظهر حكمه دون اشتباه والتباس، بدليل المقابلة بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3) 30 الآية، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الطاعة في المعروف (¬4) » رواه البخاري ومسلم، فعند الاختلاف في حكم من الأحكام العلمية الكلية في أصول الدين أو فروعه يجب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط؛ ليتبين الحق في محل الخلاف، وأكد سبحانه ذلك بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬5) ولم يشرع لنا سبحانه الرجوع فيما اختلفنا فيه إلى القول الراجح في نظر بعض ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية 10 (¬2) سورة النساء الآية 59 (¬3) سورة النساء الآية 59 (¬4) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) . (¬5) سورة النساء الآية 59

العلماء المجتهدين دون بعض؛ لأنه لم يتعين أن يكون هو الحق حتى يتفق عليه من يعتد بهم في الإجماع فيمكن أن يرجع إليه، لكونه إجماعا في نظر بعض الأصوليين، هذا وآيات القرآن في هذا المعنى كثيرة، اجتزأنا عنها بما ذكر. ب- وأما السنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (¬1) » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه، ومن عرف الحق حسب اجتهاده واقتنع به، أو اقتنع به واعتقده؛ ثقة لمقلده، وتحسينا للظن به، ثم حكم بغير ما ظهر له أنه الحق- فقد جار وأثم، وكان من أهل النار، فلا يصح أن يشترط عليه في التولية، أو يؤمر بعدها أن يحكم بغير ما ظهر له أنه الحق، وفي معنى هذا كثير من الأحاديث الصحيحة. ج- وأما الإجماع: فقد جرى العمل على ما تقدم في تولية رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة وإمضائه ما اختلف فيه من الأعمال، بناء على اختلاف فهم المجتهدين في المسائل النظرية التي يعذر في مثلها من أخطأ، ثم جرى العمل على هذا في عهد الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من ولاة وعلماء القرون المشهود لها بالخير إلى ما شاء الله، فكان هذا إجماعا عمليا يلزم الوقوف معه والعمل بمقتضاه، فلا يصح أن يلزم من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بغير ما رجح عنده عن اجتهاد أو عن ثقة بمن قلده من المجتهدين، وإن كان ما ألزم به راجحا عند غيره. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الأحكام (1322) ، سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .

المناقشة: نوقش أولا: بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة من وجوب الحكم بما أنزل الله، وما جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق، ولكن لا نسلم أن ما ألزم الحكم به ليس شرعا يجوز العمل به، إذ هو إلزام بما يسمى شرعا مؤولا، فهمه الفقهاء مما يسمى شرعا منزلا، وكلاهما يصح العمل بموجبه والحكم بمقتضاه، وقد يجاب: بأن مناط الاستدلال إلزام من تولى القضاء أو الإفتاء أن يحكم أو يفتي بخلاف ما يعتقده حقا لا مطلق جواز العمل أو الحكم بما يسمى: شرعا مؤولا، ولا يلزم من جواز الثاني جواز الأول. ونوقش ثانيا: بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة في القاضي أو المفتي المجتهد، أما المقلد فلا رأي له، بل هو مخير فيمن يتبعه من أئمة الاجتهاد، فلولي الأمر أن يلزمه بقول من أقوال من في اتباعهم خير؛ رعاية للمصلحة، وقد يجاب: بأنه وإن كان مخيرا فيمن يتبعه من الفقهاء إلا أنه قد يثق بمجتهد بناء على معرفته بسيرته وأحواله ويعتقد رجحان رأيه، فلا يجوز إلزامه القضاء أو الإفتاء بغير ما يعتقده. ونوقش ثالثا: بأن مضرة عدم إلزام القاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي بقول معين قد تكون أشد من مضرة إلزامه بذلك، فلولي الأمر أن يلزمه بقول معين، ولو خالف عقيدته في المسائل الاجتهادية؛ رعاية للمصلحة بارتكاب أخف المفسدتين؛ تفاديا لأشدهما، وقد يقال: إن معرفة ذلك تتوقف على معرفة الآثار المترتبة على كل منهما، وسيأتي بحث ذلك. ثانيا: أدلة من قال بجواز الإلزام أو وجوبه: استدل من قال بجواز إلزام القاضي أو المفتي بمذهب أو قول معين-

بالدواعي والأسباب الطارئة التي اقتضت ضرورة تدوين أحكام المعاملات وإلزام القضاة والمفتين أن يعملوا بموجبها. . كما استدلوا بآثار عن السلف ووقائع قضوا فيها، ومن لم يثبت عنه قول في ذلك ولا عمل به سكت ولم ينكر، فكان سكوته تقريرا، وصار ذلك إجماعا على مشروعية الإلزام.

وفيما يلي تفصيل ذلك مع المناقشة. أولا: الدواعي والأسباب التي تبرر التدوين والإلزام: أ- وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون. . إلخ، ويمكن أن يناقش ذلك بأن أحكام القضاة التي قيل فيها: إنها متناقضة قد يكون اختلاف الحكم فيها ناشئا عن اختلاف الظروف والأحوال في القضيتين، وتابعا للملابسات والدلائل والأمارات المختلفة فيهما، فيظن من نظر إلى أصل القضيتين دون ما أحاط بهما تماثل القضيتين، ويحكم بتناقض الحكم فيهما حسب نظره، والواقع أنه لا تناقض، بل هذا من اختلاف الحكم لاختلاف الملابسات، وقد يكون تقابل الحكمين واختلافهما ناشئا عن اختلاف اجتهاد القاضيين، أو عن تغير اجتهاد القاضي، وهذا سائغ شرعا، بل الواجب على القاضي أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده حين الفصل في القضية الحاضرة، ولو خالف اجتهاده فيها اجتهاده في قضية سابقة مماثلة، وإن قدر أنه لم يفعل ذلك كان آثما، ولهذا نظير في أحكام الخلفاء الراشدين، بل اختلف الحكم في قضاء الصحابي الواحد، مثاله: ما حكم به عمر بن الخطاب في قضية ميراث، ومثيلتها من حرمان الإخوة الأشقاء أولا من الميراث في قضية وتشريكهم مع الإخوة للأم في الثلث بعد ذلك في مثيلة

الأولى، ولم يبعث ذلك ريبة في القاضي للثقة بعلمه وعدله وأمانته، ولم يحملهم ذلك على التفكير في اختيار رأي واحد يلتزمون القضاء به، وقد يكون الاختلاف ناشئا من قصور القاضي في علمه أو في تطبيقه أو غير ذلك، فيكون طريق الخلاص من ذلك النهوض بالقضاة علميا، وتدريبهم على التطبيق، إلى غير هذا مما سيأتي بيانه. ب- عدم وجود كتاب في المعاملات سهل العبارة يتعرف منه الناس أحكام المعاملات التي يفصل بها في الخصومات؟ ليراعوها، ويوفقوا بينها وبين أعمالهم. . إلخ ما تقدم في الدواعي. ونوقش ذلك بما يأتي: 1 - الخلاف بين الفقهاء في الأحكام الفقهية قديم، وكان القاضي يعين منهم، وليس له فقه مدون فيقضي باجتهاده، وأحيانا يعين حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا فيقضي بالفقه المدون، في مذهب الإمام الذي انتسب إليه، وقد يؤديه اجتهاده إلى القضاء بقول في غير مذهب إمامه، ولم يتوقف وجوب رجوع المتخاصمين في الحقوق إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية على معرفة الرعية بشيء من الأحكام قبل بدئهم في العمل أو قبل التقاضي أكثر من أن القاضي سيحكم بينهم بما أداه إليه اجتهاده أو اجتهاد إمامه في الكتاب والسنة وما تفرع عنهما، فكان ذلك منهم إلغاء لاعتبار هذا السبب في تدوين الراجح عند بعض الفقهاء وإلزام القضاة العمل به. 2 - إن هذا الداعي أو السبب مجرد فرض ومحض تقدير. وبيانه: أن القوانين الوضعية مدونة، ولها لوائح تفسيرية، ومع ذلك يجهلها السواد الأعظم من الأمة قبل العمل وقبل التقاضي عند الخلاف،

وإنما يعرفها القليل من المتعلمين؛ ولهذا يوكلهم السواد الأعظم في التقاضي، لجهلهم بمراجع القضاء في الحكم وقصورهم عن الدفاع، فكان ما ذكر مجرد تقدير لا يتفق مع واقع الأمم. 3 - إنه على تقدير معرفة الناس بأحكام كلية حددت لهم فهي مما تختلف فيه الأفهام في التطبيق على جزئيات القضايا والوقائع، وخاصة إذا اختلفت الظروف والملابسات التي تحيط بالقضايا، فلا يزول ما تصور من الإشكال بالتدوين الخاص والإلزام بما فيه. 4 - إذا رضي السواد الأعظم في كل أمة تتحاكم إلى القوانين الوضعية بالتقاضي إلى محاكمهم مع جهلهم بهذه القوانين- وجب أن يرضوا بالتحاكم إلى المحاكم الشرعية مع جهلهم بتفاصيل مراجعهم في المعاملات، بل الرضا بهذه المحاكم أولى؛ لأن مراجعها أعدل وأحكم، إذ هي مستقاة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقضاة المحاكم الشرعية أقرب إلى الخير والعدالة، وأحرص على الحق، وأكثر تحريا له، وأبعد عن الهوى وبواعث الجور. ج- تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية. . إلى آخر ما تقدم في الدواعي. . ويمكن أن يناقش بأن التهرب من المحاكم الشرعية ليس ناشئا من عدم تدوين الأحكام، فإنها مدونة ميسور الاطلاع عليها وفهمها وتحقيق الحق منها لمن راض نفسه على البحث فيها، وليس من ترك الاقتصار على الراجح وإلزام القضاة به خاصة. فإن القوانين الوضعية قد دونت وجعلت أحكاما موحدة منظمة معها أرقامها، وألزم قضاتها بالعمل بها، فمع ذلك اختلفوا

في فهمها أحيانا وفي تطبيقها أكثر، ووقع في الحكم بها اختلاف وأخطاء ونقض بعضها في محاكم الاستئناف، فلم يكن الاقتصار على أحكام موحدة في دولة ما، ولا الإلزام بها مانعا من الاختلاف ولا من الخطأ في فهمها أو تطبيقها، ولا من الخطأ عن إهمال أو هوى، وإذن فما وقع من الخطأ في الأحكام القضائية ليس مرده عدم الإلزام بقول واحد، وإنما مرده إلى عدم النهوض بالقضاة علميا، وقلة تدريبهم على تطبيق الأحكام على الوقائع. . إلى غير هذا من عدم توفر الوسائل والنظم التي لا بد منها؛ لتفادي الأخطاء أو تقليلها، فبذلك ضعفت الثقة عند بعض الناس، وتمكنت الريبة فيهم، فكان ما قيل من التهرب من التقاضي أمام المحاكم الشرعية واللجوء إلى غيرها. أما الأجانب فيلزمون بما ذكر في عقودهم من الشروط الخاصة بعقدهم، وهم أدرى بمقتضاه فنيا، ويطبق عليهم ذلك كما يطبق عليهم ما ذكر في العقد الموحد من الخضوع للأحكام المعمول بها في المملكة، وقد دخلوا على ذلك عند التعاقد باختيارهم مع عقل ورشد، فيلزم كل بما التزم به، وليس لدولته التدخل في ذلك مع معرفته إجمالا بما دخل عليه، فيجب حل الإشكال بما أشير إليه من قبل إجمالا، وسيأتي شرحه دون اللجوء إلى التدوين والإلزام بما دون من القول الراجح. وقد يقال: إن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة ولا على الإلزام برأي معين؛ لقوة العلماء في ذلك العهد وكفايتهم وقلة الاختلاف في الأحكام، وندرة المشاكل، فتوفرت الثقة في نفوس الأمة وأمنت الفتنة؛ فلهذا وأمثاله لم تلجئهم حاجة

إلى ما ذكر من التدوين ولا إلى إلزام القضاة بقول معين، أما اليوم وقد صار أمر الناس إلى خلاف ذلك، فالحاجة ملحة، والضرورة إلى التدوين على الطريقة المقترحة والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون- أمر لا بد منه؛ رعاية للمصلحة، وحفظا لحقوق الأمة، وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية. ويقال أيضا: إن الخطأ في الفصل في الخصومات وإن كان لا يزال متوقعا بعد الاقتصار على القول الراجح إلا أنه أقل وأخف خطرا؛ لأنه بالتزام العمل بالقول الراجح تنحصر الأخطاء في تطبيقه على الوقائع بعد تحقيقها وتشخيصها، ومن المعلوم شرعا: أن المفاسد إذا لم يمكن القضاء عليها وجب بذل الجهد لتقليلها. ثانيا: استدل من قال بجواز الإلزام بأدلة من الكتاب والسنة والآثار: أ- أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1) فأمر سبحانه بطاعة أولي الأمر، وهم: الأمراء والعلماء، وقرن حق طاعتهم بحق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن حق طاعة الله وطاعة رسوله عام في كل شيء وفي كل حال، وحق طاعة أولي الأمر خاص بالمعروف، فتجب طاعتهم فيما وافق الكتاب والسنة، وفيما لم يكن فيهما لكنه لم يتعارض معهما إذا أمروا به؛ رعاية للمصلحة. ونوقش ذلك: بما تقدم بيانه من أن طاعتهم فيما وضح حكمه، واتفقت عليه الأمة، أما ما اشتبه أمره واختلف فيه العلماء فالمرجع في فصل النزاع ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 59

فيه الكتاب والسنة بدليل قوله تعالى في نفس الآية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1) الآية، ولذا استدل علماء الأصول بهذه الآية على حجية الإجماع، وبذلك تكون الآية دليلا على المنع لا على الجواز، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬2) وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬3) فأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه في الأمر ينزل به أو بالمسلمين، وأثنى على خيار المؤمنين بأن من شأنهم أن يتشاوروا بينهم، وقرن ذلك بثنائه عليهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبالتناصر عند البغي عليهم؛ ردا للعدوان، ونصرة للحق، وغير هذا من الأفعال الواجبة، والصفات الحميدة، ولا شك أن القضاء والفصل في الخصومات من أهم شئون المسلمين فينبغي تعاون القضاة مع كبار العلماء في حل مشاكل القضاء والعمل بمشورتهم، ليكون القاضي على بصيرة فيما يحكم به بدلا من أن يستقل في ذلك بنفسه، فيكون عرضة لكثرة الخطأ والتناقض في أحكامه، ويكفيه أن يتحمل مشقة البحث في تشخيص القضايا وعناء تطبيق ما اختاره كبار العلماء من الأقوال على الوقائع والقضايا الجزئية بعد تحقيقها. ب- وأما السنة: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في شئونه وشئون الأمة، من ذلك أنه استشار الصحابة في أمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما هو معروف في قصة الإفك، ومنها استشارته إياهم في غزواته: ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 59 (¬2) سورة آل عمران الآية 159 (¬3) سورة الشورى الآية 38

في غزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وغيرها مما لا يكاد ينكره أحد، وعمل بمشورة أم سلمة حينما دخل عليها في صلح الحديبية مغضبا، وقد أمر أصحابه أن ينحروا هديهم، ويتحللوا من إحرامهم فلم يفعلوا، فأشارت عليه أن يبدأ في ذلك بنفسه فقبل مشورتها، وكان في قبولها الخير، إلى غير هذا من الاستشارات والمشورات الكثيرة التي تواتر معناها، ومنها فيما ذكروا ما جاء في الأثر: «إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه نص من كتاب ولا سنة، فقال: اجمعوا له العالمين، ولا تقضوا فيه برأي واحد» . فثبت بهذا أن الشورى أصل شرعي فيجب على العلماء وضع كتاب فقهي مشتمل على الأقوال الراجحة؛ ليسهل على الجميع معرفة الأحكام منه، وبالتالي يلزم القضاة الحكم بمقتضاه؛ تفاديا لمفاسد الاختلاف، وقضاء على التناقض في الأحكام، وإلا تعطلت الشورى، واستشرى الفساد، وتفاقم التناقض. ونوقش: بأن الشورى مشروعة باتفاق، وعليها قامت الأدلة من الكتاب والسنة، وعمل خير القرون من هذه الأمة، لكنها غير ملزمة لمن استشار إلا إذا وافق اجتهاده اجتهاد من أشار عليه واقتنع به، ولا يصح أن يلزم بما أشير به عليه من آراء خالفت اجتهاده، وإن كان فردا، والمشيرون عليه كثرة؛ لأن الحق ليس وقفا على الكثرة، وليست الكثرة ميزانا يفرق به بين الحق والباطل. وأيضا الصحابة كانوا أحرص الناس على الشورى وأكثرهم عملا بها، ولم يلزموا المستشير أن يعمل بما أشير به عليه، ولم تتعطل الشورى، من ذلك أن عمر أشار على أبي بكر رضي الله عنهما: أن يفاوت بين الناس في العطاء من بيت المال، فيعطي كلا منهم حسب درجته ونصرته للإسلام

وسبقه إليه، فأبى أبو بكر إلا أن يسوي بينهم في العطاء، لاختلاف نظرهما في مقتضى العطاء. ومن ذلك ما أشار به الصحابة- وهم كثرة- على أبي بكر بترك قتال المرتدين ومانعي الزكاة، فأبى إلا أن يقاتلهم، ومضى فيما عزم عليه، وكان خيرا للمسلمين من رأي مخالفيه. ومن ذلك: أن عمر استشار الصحابة في دخول أرض علموا أن بها طاعونا وعدوله عن الدخول فيها، ثم خالف مشورتهم وعدل عن الدخول فيها، وهم كثرة، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وأخبره بما حفظه في ذلك من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيه تأييد لرأي عمر رضي الله عنه. وبالجملة: فالأمر كما تقدم من أن الشورى ليست ملزمة، ولا حرج على الواحد في مخالفة الكثرة والعمل بمقتضى اجتهاده، بل هذا هو الواجب، وأصول الشريعة تشهد لصحته. ولقائل يقول: إن ما ذكر في المناقشة إنما ينطبق على المجتهد؛ لأن له قولا أداه إليه اجتهاده واعتقد صحته، أما المقلد المحض فلا رأي له وهو لعجزه عن استنباط الأحكام مخير في اتباع إمام من الأئمة المجتهدين، فمثل هذا قد يقال: بأن إمام المسلمين له أن يلزمه إذا تولى القضاء أن يحكم بمذهب أو قول معين؛ رعاية لما تقدم بيانه من المصلحة، ولا ضرر في ذلك؟ لأنه تابع على كل حال، فليكن تابعا لما أمره به ولي الأمر في الشئون العامة والحقوق المشتركة بين الأمة، وقد استدل بعض المعاصرين بأن الصحابة قالوا: «إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه كتاب ولا سنة، فقال: اجمعوا له العالمين، ولا تقضوا فيه برأي واحد» على الإلزام، ولكن الاستدلال به يتوقف على إثبات كونه عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يصح، فقد

ذكره الخطيب البغدادي في باب القول في الاحتجاج بصحيح القياس ولزوم العمل به من كتاب الفقيه والمتفقه، قال: أنا أبو القاسم علي بن محمد بن موسى البزار، وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله المعدل قالا: أنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري، أنا محمد بن الربيع بن بلال العامري، أنا إبراهيم بن أبي الفياض، أنا سليمان بن بزيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، «عن علي بن أبي طالب قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن، ولم يسمع منك فيه شيء، قال: اجمعوا له العابدين من أمتي، واجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد» . وساق ابن حجر في [لسان الميزان] هذا الحديث في ترجمة سليمان بن بزيع، ثم قال: قال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث لا يعرف من حديث مالك إلا بهذا الإسناد، ولا أصل له في حديث مالك عندهم، ولا في حديث غيره، وإبراهيم وسليمان ليسا بالقويين، ولا يحتج بهما. قلت: وقال الدارقطني في [غرائب مالك] : لا يصح، تفرد به إبراهيم بن أبي الفياض، عن سليمان، ومن دون مالك ضعيف، وساقه الخطيب في [كتاب الرواة] عن مالك من طريق إبراهيم، عن سليمان، وقال: لا يثبت عن مالك. . والله أعلم. انتهى. ثم هو مخالف لما جرى عليه العمل قرونا كثيرة حيث كان كل من المجتهدين يعمل بمقتضى اجتهاده ويحكم به، وكان الصحابة، بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقبلون مشورة الواحد ويعملون بها، ولم يكن من شأنهم أن يجمعوا العالمين في كل ما نزل بهم، ثم لو ثبت لم يزد على أن يكون نصا

من نصوص المشورة، وتقدم أنها غير ملزمة إلا إذا وافقت اجتهاد المستشير، وإلا عمل باجتهاد نفسه، كما تقدم بيانه في النقل عن الصحابة رضي الله عنهم. ج- وأما الآثار فكثيرة: 1 - منها: إجماع الصحابة على جمع القرآن وتدوينه في نسخة واحدة؛ حفظا للقرآن من أن يذهب بذهاب القراء، وهذا وإن كان في بادئ الأمر أمرا جديدا وعملا محدثا، حيث إنه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه واجب؛ لاتفاقه مع روح الشريعة ومقاصدها، فكذا إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء، فإنه وإن كان يبدو أمرا محدثا إلا أنه لا يخالف كتابا ولا سنة، بل هو مقتضى المصلحة؛ لما فيه من دفع الريبة والقضاء على الاضطراب والتناقض في الأحكام، فكان واجبا. ونوقش: بأن القرآن كان مكتوبا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة مأمورة بحفظ الدين وإبلاغه بالنصوص المتواترة، ولم يزد الصحابة على أن جمعوا ما كان مفرقا؛ عملا بمقصد ضروري من مقاصد الشريعة، وهو وجوب حفظ الدين وإبلاغه، بخلاف إلزام القضاة بالحكم بالراجح من أقوال الفقهاء، فإنه مخالف لمقتضى النصوص، ولما جرى عليه العمل في القرون التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير. 2 - ومنها: جمع عثمان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن، وقصر الناس على القراءة بهذا الحرف وتحريقه المصاحف الأخرى التي تخالف مصحف الإمام، وقد كتب من هذا المصحف نسخا وأرسل بها إلى أمهات البلاد الإسلامية،

واستمرت القراءة لهذا اليوم. فكذا إلزام القضاة بالقول الراجح من أقوال الفقهاء، بل هو أولى بأن أقوال الفقهاء شرع مؤول يحتمل كل منها الخطأ أو الصواب، والقراءات شرع منزل كلها حق لا يحتمل الخطأ، فكان الإلزام واجبا؛ رعاية للمصلحة. ونوقش هذا بأمور: الأول: أن عثمان ومن وافقه من الصحابة استندوا إلى مصلحة شهدت لها أصول الشريعة، فإن في قصره على حرف واحد، حفظا للدين بحفظ أصله- وهو القرآن- من الاختلاف فيه، وحفظا للنفوس، وبيانه: أن حذيفة أخبره بأن الصحابة اختلفوا في القراءة اختلافا تخشى منه الفتنة ووقوع القتال بينهم، وفي اختلافهم واقتتالهم ضياع للدين، وقضاء على وحدة المسلمين وقوتهم، بل قضاء على نفوسهم، وحفظ الدين والنفوس من الضروريات الخمس، فوجب إيثار ذلك على بقاء القراءات؛ لأن بقاءها كمالي للاستغناء عنها بقراءة منها؛ لتضمنها ما في القراءات الأخرى من المعاني والأحكام، بخلاف إلزام القضاة أن يحكموا بقول راجح اختير من قولين أو أقوال للفقهاء، فإن ما ظن فيه من المصلحة غير معتبر؛ لشهادة الأدلة السابقة بعدم اعتباره، ولأن القراءات كلها معصومة متحدة الأحكام والمقاصد، فصح الاكتفاء بواحدة منها، بخلاف أقوال الفقهاء، فإنها مختلفة في مقاصدها وأحكامها، ولا ينحصر الحق في واحد منها - فلم يجز الاقتصار على ما يرى جماعة من العلماء أنه الراجح منها وإلزام الناس به، فقد يكون الحق فيما ترك. الثاني: أنه منع من القراءة بما يخالف مصحفه، أما الاحتجاج

بالقراءات الأخرى فلم يمنع منه؛ ولذا لا يزال الاحتجاج بما صح منها قائما باقيا عند جماعة من الأئمة المجتهدين؛ إما على أنها أخبار آحاد، أو قول صحابي عند من يعتبره حجة. الثالث: إن القراءة بالأحرف السبعة كانت على التخيير لا الإلزام؛ تيسيرا للقراءة على الناس لاختلاف ألسنتهم، فلما لانت بها ألسنتهم لكثرة اجتماعهم والاختلاط بينهم، وكان ما كان من الاختلاف فيها- كان بقاؤها كماليا عارضه مصلحة ضرورية، فقدمت على مصلحة بقاء القراءات، ولم يفت المسلمين شيء من أحكام القرآن بذلك لاجتماعها في المصحف الإمام، بخلاف الاقتصار على قول من أقوال الفقهاء، فإنه لا يدري عما اختير، هل هو متضمن للحق والصواب أو الحق فيما ترك من الأقوال. 3 - ومنها: ما رواه سعيد بن منصور في سننه،، وابن أبي شيبة في [المصنف] : أن معاوية كتب إلى زياد أن يأمر شريحا بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، فلما أمره زياد قضى بقوله، فكان إذا قضى بذلك يقول: هذا قضاء أمير المؤمنين، فهذا من معاوية وشريح دليل على جواز إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين، وعلى التزام القاضي بذلك، ولو كان مجتهدا. ونوقش أولا: بأن في سند هذا الأثر مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. وثانيا: بأن قضاء شريح بقول معاوية يحتمل أن يكون من باب الخبر، بدليل: أنه كان يقول بعد قضائه: هذا قضاء أمير المؤمنين. 4 - ومنها: كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في شئون القضاء، وفيه (اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك) فأمره

عمر أن يحكم بالقياس، وأن يجتهد في ذلك، وكلاهما مجتهد، وقد يكون رأي أبي موسى في أصل العمل بالقياس مخالفا لرأي عمر رضي الله عنهما، ففي الأثر تقييد الإمام لقاضيه المجتهد برأيه، حيث أمره أن يقيس الأمر بما يشبهه، ويحكم بمقتضاه، فدل على جواز إلزام القضاة - ولو كانوا مجتهدين - برأي معين. وقد يناقش بما ذكره ابن حزم في الجزء السابع من [كتاب الأحكام] من أن هذا الحديث روي من طريقتين: الأولى: فيها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، قال ابن حزم: عبد الملك متروك الحديث، ساقط بلا خلاف، وأبوه مجهول. وذكر أن في الطريق الثانية أربعة مجهولين، وأنها منقطعة، وقد ناقشه ابن القيم في ذلك في كتاب [إعلام الموقعين] ، وقد يناقش أيضا: بأن هذا من باب إجابة الإمام لمن استرشده من أمرائه وعماله والنصيحة والتوجيه له في القيام بعمله، ثم هو مجتهد فيما يحكم به، قاض بمقتضى نظره، وليس من باب تقييد القاضي وإلزامه أن يحكم بقول معين وإن كان مجتهدا؛ لقيام الدليل على أن كل مجتهد يجب عليه العمل باجتهاده. 5 - وفي معنى ما تقدم من الآثار تدوين السنة، وسائر العلوم العربية والدينية وإنشاء المعاهد والمدارس والجامعات العلمية والمصانع والمصحات ودور العجزة والأيتام، وتدوين الدواوين ونحوها مما يدخل في عموم تصرفات ولاة الأمور؛ رعاية لمصلحة الأمة في دينها ودنياها، وحفظا لحقوقها العامة والخاصة، وسيأتي إن شاء الله بيان مدى تصرف إمام المسلمين، وبيان ما إذا كان يدخل فيه إلزام القضاة أن يحكموا بقول أو

مذهب معين أو لا يدخل في ذلك.

خامسا الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل والتي تترتب على العدول عنه إعمالا للدواعي الطارئة

الخامس: الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل، والتي تترتب على العدول عنه إعمالا للدواعي الطارئة: لما كان الترجيح بين الأقوال المختلفة لا يتوقف على أدلة كل منها فقط، بل يتوقف أيضا على ذكر لوازم الأقوال وما يترتب على العمل بكل منها من الآثار- وجب ذكر الآثار للنظر فيها إلى جانب الأدلة المتقدمة، وبعد المقارنة من هيئة كبار العلماء بين الأدلة والآثار يمكنها الترجيح، ويحسن قبل ذكر الآثار ذكر تمهيد لها في الفرق بين الشرع المنزل والمؤول، والمبدل. تمهيد: في الفرق بين الشرع المنزل، والمؤول، والمبدل: من المعلوم أن ما يسمى شرعا يكون منزلا، ومؤولا، ومبدلا، فالمنزل: ما أراده الله من الكتاب، وما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم من السنة، والمؤول: ما فهمه العلماء من الشرع المنزل؛ ولذا انقسموا إلى قسمين: مصيبون، ومخطئون، فالمصيبون: هم الذين أصابوا مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع المنزل، والمخطئون بخلافهم، وأما المبدل: فهو ما لم يرجع في وضعه إلى الكتاب والسنة من القوانين الوضعية ونحوها مما خالف الحكم فيه الكتاب والسنة الصحيحة، أو إجماع الأمة، وهذا القسم ليس بمقصود في بحثنا للإجماع على تحريمه. وفيما يلي بيان الآثار المترتبة على كل منهما:

الآثار المترتبة على البقاء مع الأصل

أ- الآثار المترتبة على البقاء مع الأصل: ا- في البقاء مع الأصل حفاظ تام على الشرع المنزل، وإعمال الأفكار

في فهم أحكامه من عبادات ومعاملات، وأخلاق، وتدبر آياته ومواعظه إلى غير ذلك مما جاء به من هداية البشر وصلاح الناس أجمعين. 2 - في البقاء مع الأصل ربط القلوب به، وزيادة الثقة فيه، وإذكاء روح الغيرة عليه في النفوس، وتربية المهابة والإجلال في القلوب. 3 - في البقاء مع الأصل السلامة من الزيادة والنقص في التشريع والأمن من التغيير والتبديل، ومن المعلوم أن سد الذرائع واجب شرعا. 4 - العناية بالفقه المؤول الذي دونه أسلافنا، وكان من خير ما ورثنا عنهم، ومن المعلوم أن مصادر التشريع لم تكن جميعها معلومة لكل واحد منهم، وأن الفقه لم يكن وقفا على جماعة من العلماء دون غيرهم، ولا كان الحق من آراء الفقهاء متعينا في قول جماعة منهم دون سائرهم، فكان البقاء مع الأصل، وترك الباب مفتوحا لدراسة الفقه المؤول ومقارنته بمصادر الشريعة، وتطبيقه على جزئياته نظريا وعمليا في الحياة الخاصة والعامة- أوفق ليسر الشريعة وكمالها وإحاطتها بجميع الأحكام. 5 - من المعلوم أن المسائل العلمية منها ما هو موضع إجماع، وهذا لا إشكال فيه، ومنها: ما هو موضع خلاف، وهذه للخلاف فيها أسباب متعددة: منها: ما يرجع إلى بقاء الدليل من عدمه. ومنها: ما يرجع إلى طريق الأدلة. ومنها: ما يرجع إلى متن الدليل. ومنها: ما يرجع إلى دلالته، ومنها: ما يرجع إلى ما يحيط به من اختلاف في التقعيد، فنراهم في بعض المذاهب يحبذون فهم الأدلة الشرعية وحكم المسائل الجزئية على التقعيد المذهبي، هذا من جهة،

ومن جهة أخرى هم مختلفون في مسالك الترجيح بناء على اختلافهم في التقعيد، فتجد مرجوحا عند الشافعية راجحا عند الحنفية وهكذا، ومن جهة ثالثة وصف القول بأنه راجح من حيث التقعيد الشرعي، لا من حيث التقعيد المذهبي، وصفه بذلك ليس من الأوصاف اللازمة، فقد يكون راجحا في وقت بالنظر لما يحيط به من ظروف وملابسات من اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والأشخاص، ويكون مقابله على هذا الأساس مرجوحا، فتتغير الأمور ويكون المرجوح راجحا، والراجح مرجوحا، وهذا كما يجري في الظاهر ومقابله، يجري أيضا في المسائل ذات الأقوال المتساوية في ظن المجتهد، فإن هذا قد يكون بالنسبة لوقت، ويأتي وقت آخر يوجد فيه من القرائن ما يجعل واحدا منها راجحا، فراجحية القول في المسائل الخلافية إنما تظهر بعد دراسة واقع المسألة وتطبيقها على موضعها من الشرع، ومن ثم تبرز راجحية القول، هذا من جهة فقه القضاء، وهذا أمر يورثه الله فيمن يشاء من عباده ولا يدخل تحت حصر البشر. 6 - ما تقدم ذكره من الدواعي التي دعت إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة الحكم به.

الآثار التي تترتب على العدول عن الأصل

ب- الآثار التي تترتب على العدول عن الأصل: ا- إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء ينتهي على مر الأيام إلى فصل أهل العلم عن فقه الكتاب والسنة فصلا يتدرج بهم إلى هجرهما، وعدم الرجوع إليهما في هذا المجال؛ اكتفاء بهذه المواد التي يقال: إنها هي القول الراجح. 2 - القضاء على التراث الإسلامي قضاء نهائيا في مجال البيان لأحكام

المعاملات؛ اكتفاء بهذه المواد المدونة، ومعلوم أن الفقه الإسلامي المدون هو أعظم ثروة، فتجب المحافظة عليها، والعناية بالبحث فيها، والرجوع إليها. 3 - التضييق على الناس بحملهم على قول واحد بصفة مستديمة وإهدار الأقوال الأخرى. 4 - كونه مدخلا لتغيير الشريعة بزيادة أو نقص، وتبديل، وتعديل. 5 - إماتة الفكر الفقهي، والحجر عليه، بحيث لا يكون قابلا للقوة والنماء والتوسع والعمق في التفكير؛ لأنه جعل في دائرة من العلم محدودة. 6 - حمل القضاة على الحكم بخلاف ما يعتقدون في بعض المسائل وهذا غير جائز شرعا. 7 - وبالتالي فهو نقطة تحول عما كانت عليه الأمة الإسلامية، وعدول عن أمر جرت عليه أربعة عشر قرنا، منها القرون المفضلة، وفي هذا مخالفة للإجماع العملي. منا قشة الآثار المترتبة على إلزام القضاة الحكم بقول معين: يناقش الأول والثاني: بأن سبب انصراف الكثير من المتعلمين عن فقه الكتاب والسنة، والمراجع الكبيرة في الفقه الإسلامي هو: ضعف الهمة، والملكات العلمية، والوازع الديني، والتعصب المذهبي في السواد الأعظم ممن يشتغل بالعلوم الدينية، بدليل انصرافهم عن فقه الكتاب والسنة مع دراسة التفسير والحديث، وعنايتهم بدراسة المختصرات الفقهية لمعرفة الأقوال دون تجشم لمتاعب الاستدلال حتى في الدول التي لم تلزم قضاتها الحكم بقول معين.

ويناقش الثالث بأن الأقوال الأخرى لا تهدر نهائيا، بل لا تزال دراستها موضع عناية في دور التعليم، وإنما قسر القضاة على الحكم بالراجح لمصلحة دفع مضرة التناقض في الأحكام الراجحة على ما يدعى من التيسير في بقاء الأمر على ما كان. ويناقش الرابع: بأن المدخل في التبديل.. . إلخ يرجع إلى ضعف الوازع الديني، لا إلى قسر القضاة على الحكم بما اختير لهم من القول الراجح، وربما قيل: إن تناقض الأحكام الناشئ من اختلاف أقوال الفقهاء في مراجع القضاة مدعاة إلى النفرة من الثروة الفقهية جملة، وإلى التبديل الشامل، كما تقدم بيانه في الدواعي. ويناقش الخامس: بما تقدم في الأول والثاني والثالث. ويناقش السادس: بأنه قد يسلم هذا بالنسبة للمجتهد المطلق أو مجتهد المذهب دون المقلد المحض فإنه تابع لغيره مخير فيمن يتبعه، والمتعلمون اليوم يغلب فيهم طابع التقليد المحض، فللإمام العام أن يلزم من تولى القضاء منهم بقول من الأقوال المخير بينها، تحقيقا للمصلحة على أن الحكم بأن هذا غير جائز هو محل النزاع. ويناقش السابع: بأنه من استصحاب الإجماع في محل النزاع، وهو مختلف في الاحتجاج به، وبيانه: أن ما ذكر من الإجماع العملي كان في قرون قويت فيها الملكات العلمية، وكثر فيها المجتهدون في الشريعة، أما بعد أن ضعفت الملكات العلمية، وطغى التقليد المحض على المتعلمين- فلا إجماع، بل النزاع قائم على أشده، كما تقدم في سرد الأقوال في الإلزام، فتعين أن ذلك قول باستصحاب إجماع في قرون نيط فيها بأحوال

إلى محل نزاع في قرون تلاشى فيها مناطه لاختلاف الظروف والأحوال.

سادسا هل إلزام القضاة الحكم بمذهب معين ضروري لحل مشاكل القضاء أو يمكن تفاديه بحل آخر

السادس - هل إلزام القضاة الحكم بمذهب معين أو قول معين ضروري لحل مشاكل القضاء أو يمكن تفاديه بحل آخر؟ من المسلم به وجود مشاكل حول القضاء، والفصل بين الناس في الخصومات، ومن المسلم به أيضا أنه يجب بذل الجهود من الجهات المعنية، والتعاون بينها لإيجاد حل ناجح لهذه المشاكل حتى يسهل على القضاة القيام بمهمتهم على خير حال، ولا يتهرب من العمل في حقل القضاء أحد من المؤهلين عند تعيينه من قبل أولي الأمر للعمل فيه، وحتى يطمئن من بينهم خصومات إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية، وتذهب عنهم الريب والظنون، وإذن لا بد من تحديد هذه المشاكل وبيان منشئها، ثم بيان وسائل حلها ورسم طريق الخلاص منها على ضوء معرفتها ومعرفة أسبابها. أ- أما المشاكل فقد يقال فيها: إنها ما تقدم بيانه في دواعي إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين من التناقض في الأحكام سببه: قصور القضاة، واختلاف الأقوال في المصادر الفقهية التي يرجعون إليها في أحكامهم، فنشأ من هذا: الاضطراب في الأحكام والريبة والاتهام باتباع الهوى والانصراف عن المحاكم الشرعية، وعلى هذا قيل: إن طريق الخلاص من هذه المشاكل إلزام القضاة الحكم بأقوال معينة راجحة تختارها جماعة كبار العلماء، وتقدمها منظمة بعبارة سهلة، معها أدلتها ولائحة تفسيرها، وأمثلة فرضية أو مأخوذة من الواقع يسهل تطبيقها، ولا يلزم مما ذكر التقنين الوضعي، ولا إغلاق باب الاجتهاد في وجوه الأقوياء من القضاة، بل إذا

رأوا رجحان قول يخالف ما قد اختير لهم عرض على هيئة كبار العلماء، فإن أيدوه جعلوه بدلا مما اختير من قبل، وإلا مضوا على ما كان. وقد تقدم مناقشة هذه الفكرة وبيان الآثار المرتبة عليها، ويزاد هنا أن الإلزام ينافي تخويل الاجتهاد للقاضي المتأهل للترجيح وحسن الاختيار على تقدير أن الهيئة لم تقنع برأيه، وأبقت على ما رآه ضعيفا وعرضه عليها، أما على تقدير اقتناعها برأيه والتعديل على مقتضى ما رجح عنده- فيلزم اختلاف الحكم وتناقضه في قضيتين متماثلتين حكم في إحداهما قبل التعديل وفي الأخرى بعده، وقد يتكرر مثل هذا الاجتهاد، ويوافق عليه، وتعدل! المادة، فيزداد ما سمي من قبل تناقضا، وتعود المشكلة جذعة، ويتكرر ما سمي مأساة ومدعاة للتهرب من القضاء أمام المحاكم الشرعية، وسببا لإباء الأجانب من التحاكم إليها، ولم يطمئن بذلك من وفق أعماله قبل الإقدام عليها مع الأقوال الراجحة؛ لتوقعه التعديل والتغيير. . إلخ، وربما كان استمرار التعديل ذريعة إلى تعديل بعض الأقوال الفقهية بقوانين وضعية- لا سمح الله- كما حصل في بعض الدول الأخرى على ما سبق ذكره في النبذة التاريخية لمراحل التدوين، والأدلة الشرعية دالة دلالة قاطعة على وجوب سد الذرائع، والقضاء على وسائل الشر ومسالكه. ب- وقد يقال: إن المشكلة نشأت من أسباب كثيرة، من قصور بعض القضاة، ومن التوسع في تعيينهم حتى في قرى ربما يكفيها متعلم يقوم بالوعظ والإرشاد، وإمامة المسجد، وخطبة الجمعة، وعقود الأنكحة ونحو ذلك، ومن قضايا جديدة في نوعها ربما يقال: إنها لم يسبق لها نظير ولم يتبين لها حلول، إلى غير ذلك مما يشابهه.

وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الطريق للإصلاح هو: أولا: إعداد القضاة، والعناية بتأهيلهم علميا، وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء، ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل إن لم يمكن تفريغه لإعداده والنهوض به. ثانيا: تقليل المحاكم وتركيزها في المدن وعواصم المناطق مثلا، ويكتفى بتعيين متعلمين في القرى؛ ليقوموا بشئون المساجد، وعقود الأنكحة، والوعظ الإرشاد، وكتابة الوثائق ونحو ذلك، ويساعد على هذا سهولة المواصلات اليوم، ووجود مرافق في المدن يرتفق بها الغريب، ويستريح فيها، ولو أقام أياما، وهذا مما يسهل على القضاة في المدن الاجتماع للاشتراك في دراسة القضايا وهضمها، ويمنع من رفع قضايا تافهة لأقل الأسباب، ويدعو إلى الصلح في كثير من القضايا، وهو خير من التقاضي، واستمرار النزاع حتى يفصل في الخصومة. ثالثا: حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم، ورجاحة عقل وحلم وأناة، وبعد نظر، وصدق وأمانة، وبعد عن مظان الريبة. . إلى غير ذلك من الصفات الكريمة التي ينبغي أن تتوفر فيمن يولى هذا المنصب، ومما يساعد على سهولة حسن الاختيار ما تقدم من تركيز المحاكم. رابعا: مراعاة أحوال القضاة في توزيع القضايا عليهم، أو تخصيص كل منهم بنوع منها، والاشتراك في القضايا المهمة، والتشاور فيما فيه التباس، وهذا يتيسر إذا تم تركيز المحاكم في المدن، وعواصم المناطق. خامسا: تأليف لجنة من العلماء، لبحث المسائل القضائية المعضلة،

وإيضاح غامضها، وحل مشكلها من جهة تحقيق الحكم فيها، ومن جهة توضيح تطبيقها بأمثلة، وخاصة القضايا التي جدت في عصرنا، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم إن اقتنعوا به، وليكون نموذجا لهم في دراسة القضايا وحل مشكلها، والدقة في تطبيقها، وبهذا تضيق شقة الخلاف، وتتحقق الدقة في الأحكام إن شاء الله، أما ارتفاع أصل الخلاف فلا سبيل إليه، ولو توحد المرجع العلمي للقضاة باختيار الأقوال الراجحة؛ لما تقدم بيانه من اختلاف الناس في المدارك والأفهام، واختلاف أحوال القضايا وما يحيط بها من قرائن وأمارات، فبذلك تختلف أفهامهم للمادة العلمية، ويختلف تطبيقهم لما فهموه على ما رفع إليهم من الخصومات. من هذا يتبين أنه قد لا يكون هناك حل آخر لهذه المشكلة سوى الإلزام. 7 - مدى تصرف المسلمين في مجال الإلزام مع أمثلة توضح ذلك: تمهيد: لما كان لولي المسلمين العام حق التصرف في أمور كثيرة من شئون الأمة بمقتضى الإمامة الكبرى، والخلافة العامة؛ رعاية لمصلحة الأمة، وحفظا لكيان الدولة، وجب بيانها ليتبين ما إذا كان منها إلزام القضاة والمفتين أن يحكموا، أو أن يفتوا بمذهب معين أو قول معين، من أقوال فقهاء الإسلام أولا. وحيث إن فقهاء الإسلام قد بحثوا هذه الحقوق وبينوا ما يختص منها بولي الأمر العام، وما لا يختص به- كان من الضروري ذكر ما قالوه في هذا الأمر؛ ليعرف مصدره من الشريعة، والسر في تخصيص ولاة الأمور

ومنحهم إياه، ولنسترشد به فيما نحن بصدده. وفيما يلي ذكر كلام الفقهاء فيما لهم وما عليهم، وما على الأمة لهم من الحقوق، مع الإيجاز والاجتزاء ببعض النقول عن بعض؛ خشية الطول، وبعدا عن التكرار؛ ولذا أشير إلى المراجع؛ ليرجع إليها في شرح الغامض ومعرفة ما تفرع عنه النقل وما تفرع عليه. 1 - قال القرافي (¬1) : تصرفه صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى أربعة أقسام: قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة؛ كالإقطاع، وإقامة الحدود، وإرسال الجيوش ونحوها. وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء؛ كإلزام أداء الديون، وتسليم السلع، ونقد الأثمان، وفسخ الأنكحة ونحو ذلك. وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا؛ كإبلاغ الصلوات وإقامتها، وإقامة النسك، ونحوها. وقسم وقع منه صلى الله عليه وسلم مترددا بين هذه الأقسام، اختلف العلماء فيه على أيها يحمل؛ وفيه مسائل.. . إلخ. 2 - وقال (¬2) أيضا: وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء؛ لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس. 3 - وقال (¬3) أيضا: فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة، كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب ¬

_ (¬1) [الأحكام] ص (96، 97) (¬2) [الأحكام] ص (93) (¬3) [الأحكام] ص (95)

الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في القرى ونحو ذلك- فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعا مقررا؛ لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬1) انتهى ما قاله القرافي. لكن مع ثبوت اختصاص الإمام بالتصرف في هذه الأمور وأمثالها لا يجوز له أن يتصرف فيها بمحض عقله أو هواه، بل يطبق فيها حكم الشريعة، وبذلك لم ينشئ حكما كليا. 4 - وقال (¬2) أيضا: بل الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء، وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما، فقد يفوض إليه التنفيذ، وقد لا يندرج في ولايته، فصارت السلطة العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث هو حكم. انتهى كلام القرافي. يريد بذلك: أن القاضي له إصدار الحكم في القضايا الجزئية التي رفعت إليه حسب ما فهمه من الشريعة، ولا يملك التنفيذ إلا إذا أعطاه إياه من له السلطة: من ولي الأمر العام ومن في حكمه. 5 - قال (¬3) الماوردي: والذي يلزمه من الأمور عشرة أشياء: أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة..إلخ. الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين، ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 158 (¬2) [الأحكام] ص (93) . (¬3) [الأحكام السلطانية] للماوردي ص (15، 16) .

حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم. الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم. . إلخ. الرابع: إقامة الحدود. . إلخ. الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة. . إلخ. السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة..إلخ. السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف. الثامن: تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة. العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأموال وتصفح الأحوال. . إلخ.

وقال (¬1) أيضا: وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغير حاله. 6 - وقال (¬2) القرافي: تصرفات الحكام والأئمة بغير الحكم أنواع كثيرة ¬

_ (¬1) [الأحكام السلطانية] ص (17) (¬2) [الأحكام] ص (177) وما بعدها.

أنا ذاكر منها إن شاء الله عشرين نوعا، وهي عامة تصرفاتهم فيسلم من الغلط فيها: أ- العقود، كالبيع والشراء في أموال الأيتام. . إلخ. 2 - إثبات الصفات نحو ثبوت العدالة عند حاكم. . إلخ. 3 - ثبوت أسباب المطالبات، نحو ثبوت مقدار قيمة المتلف في المتلفات. . إلخ. 4 - إثبات الحجاج الموجبة لثبوت الأسباب الموجبة للاستحقاق، نحو كون الحاكم ثبت عنده التحليف ممن تعين عليه الحلف. . إلخ. 5 - إثبات أسباب الأحكام الشرعية نحو الزوال. . إلخ. 6 - الفتاوى في الأحكام في العبادات وغيرها. . إلخ. 7 - تنفيذات الأحكام الصادرة عن الحكام فيما تقدم الحكم فيه من غير المنفذ، بأن يقول: ثبت عندي أنه ثبت عند فلان من الحكام كذا وكذا. . إلخ. 8 - تصرفات الحكام بتعاطي أسباب الاستخلاص ووصول الحقوق إلى مستحقيها من الحبس والإطلاق. . إلخ. 9 - التصرف في أنواع الحجاج بأن يقول: لا أسمع البينة؛ لأنك حلفت قبلها مع قدرتك على إحضارها. . إلخ. 10 - تولية النواب عنهم في الأحكام. . إلخ. 11 - إثبات الصفات الموجبة للمكنة من التصرف في الأموال؛ كالترشيد في الصبيان والبنات. 12 - الإطلاقات من بيت المال وتقدير مقاديرها في كل عطاء. . إلخ.

13 - اتخاذ الأحمية من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين ترعى فيها إبل الصدقة وغيرها. . إلخ. 14 - تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا. . إلخ. 15 - تعيين أحد الخصال في الحرابة لعقوبة المحاربين. . إلخ. 16 - تعيين مقدار من التعزير إذا رفع لغيره قبل تنفيذه فرأى خلاف ذلك فله تعيينه وإبطال الأول. . إلخ. 17 - الأمر بقتل الجناة وردع الطغاة إذا لم ينفذ. . إلخ. 18 - عقد الصلح بين المسلمين وبين الكفار ليس من المختلف فيه، بل جوازه عند سببه مجمع عليه. . إلخ. 19 - عقد الجزية للكفار لا يجوز نقضه ولا تغييره. . إلخ. 20 - تقرير الخراج على الأرضين وما يؤخذ من تجار الحربيين. . إلخ. 7 - وقال (¬1) أيضا: الضابط الذي يرجع إليه في ترتيب الأحكام على أسبابها من غير حكم حاكم، وما يفتقر لحكم الحاكم: أن الموجب للافتقار لحكم الحاكم ثلاثة أسباب: السبب الأول: كون ذلك الحكم يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد من عالم بصير حكم عدل في تحقيق سببه ومقدار مسببه وله مثل: أ- الطلاق بالإعسار. 2 - التعزيرات. 3 - التطليق على المولى. ¬

_ (¬1) [الأحكام] ص (146) وما بعدها.

4 - إذا حلف ليضربن عبده ضربا مبرحا فالقضاء بالعتق عليه يفتقر للحاكم. السبب الثاني: الموجب لافتقار ترتيب الحكم على سببه إلى حكم الحاكم ومباشرة ولاة الأمور: كون تفويضه لجميع الناس يفضي إلى الفتن والشحناء والقتل والقتال وفساد النفس والمال وله مثل: ا- الحدود. 2 - قسمة الغنائم. 3 - جباية الجزية وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها من مال المسلمين. السبب الثالث: قوة الخلاف مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق، وله مثل: 1 - من أعتق نصف عبده لا يكمل عليه بقيته إلا بالحكم. 2 - العتق بالمثلة. 3 - بيع من أعتقه المديان. فهذه الأسباب الثلاثة هي الموجبة للافتقار للحاكم وولاة الأمور، فإذا لم يوجد شيء منها تبع الحكم سببه الشرعي حكم به حاكم أم لا. ولأجل هذه القاعدة انقسمت الأحكام ثلاثة أقسام: 1 - منها: ما يتبع سببه بالإجماع، ولا يفتقر لحكم؛ لقوة بعده عن اشتماله على أحد تلك الأسباب الثلاثة الموجبة للافتقار. 2 - ومنها: ما يفتقر للحاكم إجماعا؛ للجزم باشتماله على أحد الأسباب الثلاثة أو اثنين منها.

3 - ومنها: ما اختلف فيه هل هو من القسم الأول أو من القسم الثاني؛ لما فيه من وجوه الإحالة باشتماله على أحد الأسباب أو عدم اشتماله، فلحصول التردد في الاشتمال حصل التردد في الافتقار. ثم ذكر أمثلتها. 8 - وقال (¬1) أيضا في أثناء الكلام على أي شيء ما يفيد الإنسان أهلية أن ينشئ حكما في مواطن الخلاف فيجب تنفيذه، ولا يجوز نقضه فهل ذلك لكل أحد، أو إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص، وما هو ذلك السبب، وهل هو واحد أو أنواع كثيرة؟ قال: إنه لا خلاف بين العلماء أن ذلك ليس لكل أحد، بل إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص، وهو ولاية خاصة ليس كل الولاية تفيد ذلك. فمن الولايات ما لا يفيد أهلية شيء من الأحكام. ومنها: ما يفيد أهلية الأحكام كلها. . إلخ. وبعد أن ذكر: أن الولاية لها طرفان ووسط، وأن لها خمس عشرة مرتبة، قال: الرتبة الأولى: الإمامة الكبرى، فأهلية جميع أنواع القضاء في الأموال والدماء وغيرها جزؤها، وهي صريحة في ذلك، فتتناول بصراحتها أهلية القضاء، وأهلية السياسة العامة. 9 - وقال (¬2) أيضا: كيف يمكن أن يقال: إن الله جعل لأحد أن ينشئ حكما على العباد؛ وهل ينشئ الأحكام إلا الله تعالى؛ فهل لذلك نظير وقع ¬

_ (¬1) [الأحكام] ص (156) وما بعدها. (¬2) [الأحكام] ص (26- 28) .

في الشريعة، وما يؤنس هذا المكان ويوضحه؟ فأجاب عن هذا السؤال: لا غرو في ذلك ولا نكير، بل الله تعالى قرر الواجبات، والمندوبات والمحرمات، والمكروهات، والمباحات، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) ومع ذلك قرر في أصل شريعته: أن للمكلف أن ينشئ الوجوب فيما ليس بواجب في أصل الشرع، فينقل أي مندوب شاء، فيجعله واجبا عليه، وخصص ذلك بالمندوبات، وخصص الطريق الناقل للمندوبات إلى الواجبات بطريق واحد وهو النذر، فالنذر إنشاء للوجوب في المندوب. وقرر الله تعالى أيضا الإنشاء للمكلف في صورة أخرى. . له أن ينشئ السببية في المندوبات، والواجبات، والمحرمات، والمكروهات، والمباحات، وما ليس فيه حكم شرعي البتة، كفعل النائم. . إلخ. ومع ذلك فلكل مكلف أن يجعل أي ذلك شاء سببا لطلاق امرأته، أو عتق عبده. . إلخ، فعمم صاحب الشرع في هذا الباب جميع الأشياء في المجعول سببا، وخصص في الطريق المجعول به، فعينه في التعليق، وفي الباب الأول خصص فيهما، فعين المجعول فيه في المندوب، وخصص الطريق بالنذر، فهذا الباب خاص، والأول خاص وعام. وإذا تقرر أن الله تعالى جعل لكل مكلف، وإن كان عاميا جاهلا الإنشاء في الشريعة لغير ضرورة- فأولى أن يجعل الإنشاء للحكام مع علمهم ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3

وجلالتهم؛ لضرورة درء العناد، ودفع الفساد، وإخماد النائرة، وإبطال الخصومة. انتهى كلام القرافي. ليس فيما ذكر من الصورتين إنشاء العبد لحكم شرعي، وضعي أو تكليفي، فإن الذي وقع من العبد في الصورة الأولى مجرد النذر لمندوب، وهو محل للحكم، وليس حكما، والله هو الذي جعل النذر سببا لما بناه عليه سبحانه من الحكم بوجوب الوفاء، وهو الذي جعل القابلية لذلك في المندوب وليس إلى غير الله إنشاء في هذه الثلاثة. وأما الصورة الثانية فالذي من العبد التعليق للعتق أو الطلاق مثلا على شيء مما ذكر في هذه الصورة، والتعليق الذي هو فعل العبد محل للحكم وليس حكما، ولا إنشاء للحكم، والله سبحانه الذي عم في المعلق عليه، فجعله أيا كان قابلا لأن يكون سببا لترتيب الحكم على تحققه، وعلى ذلك يتبين بطلان ما ذكره من أن الله تعالى جعل لكل مكلف، ولو عاميا جاهلا إنشاء الأحكام في الشريعة لغير ضرورة، وبطلان ما رتبه عليه من أن للحكام من باب أولى إنشاء أحكام كلية في الشريعة، وإنما الذي إليهم فهم الشريعة وتطبيقها على الوقائع والقضايا الجزئية، كما دلت على ذلك أدلة اختصاص الله بالتشريع. 10 - قال (¬1) القرافي في الفرق بين المفتي والحاكم، وبين الإمام الأعظم في تصرفاته - قال: إن الإمام نسبته إليهما كنسبة الكل لجزئه، والمركب لبعضه، فإن للإمام أن يقضي، وأن يفتي كما تقدم، وله أن يفعل ¬

_ (¬1) [الأحكام] ص (32) .

ما ليس بفتيا ولا قضاء؛ كجمع الجيوش، وإنشاء الحروب، وحوز الأموال، وصرفها في مصارفها، وتولية الولاة، وقتل الطغاة، وهي أمور كثيرة يختص بها لا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي، فكل إمام قاض ومفت، والقاضي والمفتي لا يصدق عليهما وصف الإمامة الكبرى. 11 - وقال (¬1) أيضا: وظهر حينئذ أن القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة، وأن تصرف الإمامة الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة. 12 - قال (¬2) ابن القيم في مبحث غزوة حنين بعد كلام في حديث: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه (¬3) » قال: ومأخذ النزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والحاكم والمفتي، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة، كقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (¬4) » ، وقوله: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته (¬5) » ، وكحكمه بالشاهد واليمين، وبالشفعة فيما لم يقسم. وقد يقول بمنصب الفتوى، كقوله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد شكت إليه شح زوجها، وأنه لا يعطيها ما يكفيها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (¬6) » فهذه فتيا لا حكم، إذ لم يدع بأبي سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البينة. ¬

_ (¬1) [الأحكام] ص (41) . (¬2) [زاد المعاد] (3 \ 489- 491) . (¬3) صحيح البخاري فرض الخمس (3142) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير (1751) ، سنن الترمذي السير (1562) ، سنن أبو داود الجهاد (2717) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (990) . (¬4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) . (¬5) سنن الترمذي الأحكام (1366) ، سنن أبو داود البيوع (3403) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2466) ، مسند أحمد بن حنبل (3/465) . (¬6) صحيح البخاري النفقات (5364) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/206) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .

وقد يقوله بمنصب الإمامة فتكون مصلحة الأمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال، فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا وحالا. ومن هاهنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فله سلبه (¬1) » هل قاله بمنصب الإمامة، فيكون حكمه متعلقا بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما؛ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضا ميتة فهي له (¬2) » هل هو شرع عام لكل أحد أذن فيه الإمام، أو لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة فلا يملك بالإحياء إلا بإذن الإمام؟ على قولين: فالأول: للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما. والثاني: لأبي حنيفة، وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح، فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول. . انتهى. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري فرض الخمس (3142) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير (1751) ، سنن الترمذي السير (1562) ، مسند أحمد بن حنبل (5/306) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (990) . (¬2) سنن الترمذي الأحكام (1379) ، مسند أحمد بن حنبل (3/356) ، سنن الدارمي البيوع (2607) .

مما تقدم يتبين ما يأتي: ا- تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم أنواع: أ- تصرفه باعتباره رسولا، وهو قسمان: القسم الأول: أن يحكم حكما شرعيا بوحي من الله تعالى، والأصل في هذا أن يكون حكما كليا وتشريعا عاما في الأعيان والأزمان إلا ما خصه الدليل، وهذا القسم خاص به فلا يشاركه في التشريع أحد من الأمة لا الراعي ولا الرعية، وهو فيه معصوم. القسم الثاني: إبلاغ هذا التشريع وإرشاد الناس به وحثهم عليه، وهذا

واجب عليه، هو معصوم فيه، وليس مختصا به، بل يرثه عنه العلماء فيجب عليهم البلاغ والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلا أنهم غير معصومين في بلاغهم وفهمهم له. ب- تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضيا، فبهذا الاعتبار يفصل في الخصومات ويحكم فيها بمقتضى طرق الإثبات من البينات ودلائل الأحوال والأمارات. . إلخ. وهذا المنصب ورثه عنه ولي الأمر العام، ويكون لغيره بإذنه وتنصيبه إياه، فيحكمون بين الناس على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بالهوى ومحض الرأي. ج- تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إماما أعظم للمسلمين، فإليه بهذا الاعتبار إبرام العهود الدولية، وقسمة الغنائم، وإقامة الحدود. . إلى آخر ما ذكر في النقول من هذا الجنس، وهذا المنصب يرثه عنه ولي أمر المسلمين العام، فله ما للرسول صلى الله عليه وسلم من التصرف بحكم الإمامة. 2 - معنى كون هذه التصرفات للإمام بحكم الإمامة الكبرى: أنها مختصة به لا يقوم بها غيره إلا بإذنه ممن يرى فيه الأهلية لها، وليس معنى كونها له أنه يشرع فيها شرعا جديدا، بل يجب عليه أن يقوم بها باعتباره مسئولا عن الأمة، وعليه أن يتبع فيها حكم الشرع ويطبقه فيها تطبيقا يكفل لهم المصلحة الخالصة، أو الراجحة، ويدفع المضرة أو يخففها عنهم. فإنه صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله كان يقوم بها على مقتضى ما أمره الله وفق المقاصد الشرعية، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬1) الآية، وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 21 (¬2) سورة الأعراف الآية 158

3 - للإمام العام سلطة البلاغ والإرشاد، وسلطة الحكم والقضاء، وسلطة التنفيذ، بخلاف غيره، فإنه لا يملك سلطة القضاء أو التنفيذ إلا بإذنه وتنصيبه في ذلك، ومن ذلك يعرف: أن من تصرفات الإمام ما يكون بطريق القضاء، وقد ذكر القرافي ثلاثة ضوابط لما يكون فيه ذلك، وأوضحها بالأمثلة، ومنها: ما يكون بغير طريق الحكم والقضاء، وقد ذكر القرافي منها عشرين نوعا مع الإيضاح بالأمثلة. 4 - قد يكون للناس الخيار بين أمرين أو أمور فيما يأتون وما يذرون من شئون معاشهم ونظام حياتهم، وقد تنشأ مضرة عن تخلية سبيلهم؛ ليختار كل لنفسه ما شاء مما هو مباح له، أو فوضى عامة شاملة، فيجب على ولي الأمر ومن أنابه عنه أن يحملهم على أحد الأمرين أو الأمور، ويلزمهم بالوقوف عنده؛ رعاية للمصلحة العامة، ودفعا للمضرة، ومن خالف ذلك فله تعزيره بما يتناسب مع خطر اعتدائه، ويراه كافيا في تأديبه وردع أمثاله، مثال ذلك: أن للتاجر زيادة السعر ونقصانه وعرض السلع بالأسواق واحتكارها، فلإمام المسلمين إذا رأى من التاجر التواطؤ على الاحتكار ورفع الأسعار وانتهاز الفرص ورأى ما يلحق المستهلكين من المضرة بسبب صنيع هؤلاء - أن يحدد الأسعار ويمنع الاحتكار على وجه يكفل العدالة والرحمة، ويقضي على الأثرة والأزمة والغلاء المصطنع، ومن ذلك التعليم، ودوام

الموظفين بالنسبة للأوقات، وطرق المواصلات بالنسبة للسيارات والقطارات، فلولي الأمر العام أن يضع نظاما يحدد أوقات العمل، وينظم سير المواصلات. وأخيرا فهذا ما ذكره العلماء فيما لولي الأمر العام أن يتصرف فيه من شئون الأمة بالإمامة والفتيا والقضاء، وليس فيه ذكر لإلزام القضاة أن يحكموا بمذهب أو قول معين، لكن يمكن أن يقال: إن هذه التصرفات لم تذكر على وجه الحصر بدليل ما تقدم في البحث من قول بعض العلماء بإلزام القضاة بذلك، وقد سبقت أدلته مع المناقشة. ويمكن أن يقال أيضا: إنه وإن لم يذكر صريحا لكنه شبيه بما ذكر في البناء على رعاية مصلحة الأمة والمحافظة على الشريعة واستمرار الحكم بها، أو يقال: إنه مندرج تحت تصرف الإمام بالإلزام بأمر من أمرين أو أمور للأمة فيها الخيار؛ رعاية للمصلحة، ومنعا للفوضى، فإن التقليد في المسائل الفقهية غالب على أهل زماننا، والمقلد مخير في من يتبعه من الأئمة المجتهدين، وعليه لا يأتي الإلزام لمن كان مجتهدا ولو في المذهب. هذا ما تيسر جمعه وإعداده مع الاجتزاء ببعض النقول عن بعض لكونه في معناه، والى أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء النظر وترجيح ما يرونه. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

مصادر البحث

"مصادر البحث" (أ) كتب المذهب الحنفي: 1 -[بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] للكاساني، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية عام 1327 هـ. 2 -[تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] لعثمان بن علي الزيلعي، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية عام 1314 هـ. 3 -[تنوير الأبصار] ، و [الدر المختار] ، و [رد المحتار] الشهير بـ[حاشية ابن عابدين] ، الطبعة الأولى بالمطبعة الميمنية بمصر عام 1318 هـ، وكذلك اعتمد على نسخة أخرى. 4 -[معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام] للطرابلسي، طبعة أولى بالمطبعة الأميرية سنة 1300 هـ. 5 -[رسالة رسم المفتي] ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، طبع بالآستانة بالمطبعة العثمانية عام 1321 هـ. (ب) كتب المذهب المالكي: 1 -[مختصر خليل] وعليه [مواهب الجليل] للحطاب، الطبعة الأولى، بالمطبعة الأميرية. 2 -[مختصر خليل] وعليه [الشرح الكبير] للدردير، و [حاشية الدسوقي] طبعة حلبية. 3 -[فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك] للشيخ عليش.

4 -[حاشية علي الصعيدي على شرح أبي الحسن على رسالة ابن أبي زيد] ، طبع مطبعة محمد عاطف. 5 -[تزيين الممالك بمناقب مالك] للسيوطي. 6 -[مناقب الإمام مالك] لعيسى بن مسعود الزواوي. كلاهما في أول [المدونة] طبعة أولى بالمطبعة الخيرية عام 1335 هـ. 7 -[تبصرة الحكام] لابن فرحون، طبع بالمطبعة البهية بمصر عام 1302 هـ. 8 -[الإحكام في أصول الأحكام] للآمدي، طبع بمطبعة مؤسسة النور. 9 -[الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام] للقرافي، الناشر مكتبة المطبوعات الإسلامية، طبع سنة 1387 هـ. 10 -[مراقي السعود وشرحها] لمحمد الأمين الجكني الشنقيطي، طبع بمطبعة المدني. (ج) كتب المذهب الشافعي: 1 -[المجموع شرح المهذب] للنووي، طبع مطبعة العاصمة بالقاهرة. 2 -[نهاية المحتاج، شرح المنهاج] للرملي، طبعة حلبية. 3 -[المحلى على المنهاج] ، طبعة حلبية. 4 -[قليوبي على شرح المنهاج] ، طبعة حلبية. 5 -[المهذب] للشيرازي، طبعة حلبية. 6 -[الفقيه والمتفقه] ، طبع مطابع القصيم. 7 -[الأحكام السلطانية والولايات الدينية] للماوردي، الطبعة الأولى بالمطبعة الحلبية عام 1380 هـ.

(د) كتب المذهب الحنبلي: 1 -[المغني والشرح الكبير] . 2 -[الإقناع] وشرحه [الكشاف] . 3 -[المنتهى وشرحه] . 4 -[الإنصاف] 5 -[الفتاوى المصرية] . 6 -[مجموع فتاوى شيخ الإسلام] . 7 -[تفضيل مذهب أهل المدينة] ، طبع مطبعة الإمام. 8 -[المنتقى] للذهبي [مختصر منهاج السنة] طبع المطبعة السلفية ومكتبتها عام 1374 هـ. 9 -[مسودة آل تيمية] . 10 -[إعلام الموقعين] . 11 -[الأحكام السلطانية] لأبي يعلى. 12 -[السياسة الشرعية] . 13 -[زاد المعاد] . (هـ) كتب أخرى: 1 - مجلة المنار. 2 -[فتاوى المنار] . 3 -[المدخل الفقهي العام] للزرقاء. 4 -[المدخل للفقه الإسلامي] لمدكور.

5 -[مقدمة في إحياء علوم الدين] للمحمصاني. 6 -[رسالة الصحابة] ضمن [المجموعة الكاملة] لابن المقفع.

قرار هيئة كبار العلماء رقم 8 بشأن تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به

قرار هيئة كبار العلماء رقم (8) تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان السالكين لمنهجهم القويم. وبعد: فبناء على أمر جلالة الملك - وفقه الله - بالنظر من قبل هيئة كبار العلماء في أمر جواز تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به. وقبل الدخول في صلب البحث وتقرير ما هو الحق الذي تشهد به قواعد الشريعة وعليه عمل السلف رحمهم الله نقول: أولا: إنه مما لا شك فيه لدى كل عارف أن إمام المسلمين وفقه الله وثبته على الحق ونصره به - لم يكن له من هدف في هذا الأمر سوى الخير والحرص على جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ولما بلغه - حفظه الله - أن فيما يصدر من بعض القضاة ما يلفت النظر، ويدعو إلى البحث من صدور أحكام قد يظن بعض الناس أنها متناقضة، مع أن قضاياها متماثلة، وهي في الحقيقة ليست كذلك، كما قد يدعو إلى اتهام القضاة باتباع الهوى، أو رميهم بالقصور في تطبيق أحكام الشريعة على ما

يرفع لهم من القضايا، وأن ذلك ربما كان من أجل عدم وجود كتاب على قول واحد يحكم به القضاة ويتعرف الناس منه أحكام المعاملات؛ ليوفقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام على عمل ما حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم عند حدوث ترافع قضائي، وأنه قد يدعو إلى تهرب بعض الناس من رفع قضاياهم للمحاكم الشرعية في المملكة والذهاب بها لمحاكم في دول أجنبية. من أجل هذا، وحرصا من جلالة الملك - وفقه الله - على صيانة الشريعة وبقاء الحكم بها بين الناس أمر - حفظه الله - بعرض موضوع التدوين المشار إليه لإلزام القضاة والحكم به على هيئة كبار العلماء؛ ليبينوا حكم الشريعة في جواز ذلك أو عدمه. ثانيا: يحسن أن نذكر شيئا مما من الله به على هذه البلاد من باب التحدث بنعمة الله التي غمرنا بها - فنقول: إنه غير خاف على أحد من أهل المعرفة ما كانت عليه بلادنا قبل تأسيس هذه الدولة المباركة من الفوضى والاضطراب، واللصوصية المغرقة، والخوف المتفاقم والفرقة المتمكنة، حتى هيأ الله سليل بيت المجد والسؤدد: الملك عبد العزيز - رحمه الله - فقام بلم شعثها، وجمع شملها المتفرق، وبناء كيانها على أساس من منهج السلف الصالح الذي ورثه عن آبائه الكرام حماة الدعوة السلفية، وبناة حصونها في هذه البلاد، وهذه الدعوة وهي الدعوة التي دعا إليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فضرب الأمن في ربوع الجزيرة أطنابه بعد أن كان مفقودا، وانتشر العدل بين الناس، وأمنوا على أنفسهم وأموالهم، واتصلوا بالعالم الخارجي اتصالا واسعا، وعرفت حال البلاد عند سائر الدول،

وتعامل أهلها مع أولئك منذ مدة طويلة والبلاد في تقدم مستمر ولله الحمد، لم يضرها بقاؤها في منهاج القضاء على ما كان عليه السلف الصالح - رحمهم الله وفهم نظامها القضائي لدى سائر أمم الأرض المتحضرة، واشتهر الأمن فيها حتى صار مضرب المثل ومثار العجب عند كل مصنف، رغم اتساع رقعة البلاد وعدم تعلم غالبية أهلها، وما ذاك إلا بفضل الله سبحانه، ثم بفضل تمسك هذه الدولة بشريعة الإسلام وسيرها على محجة سلف الأمة الذين نشروا الإسلام وساسوا العباد بالعدل وحكموا فيهم الشرع، وفوضوا إلى قضاتهم الحكم بما فهموه من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما استنبطه العلماء منها فصلحت بذلك أحوالهم، واستقامت أمورهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وقد اشتهرت نزاهة القضاء في بلادنا ولله الحمد، وعدالته وبساطته، ومسايرته للفطرة، وتمشيه مع مقتضى المصلحة الحقة، حتى صار معلوما عند الموافق والمخالف، ولا يسعنا إزاء هذه النعمة العظيمة التي من الله علينا بالتمسك بها حين تخلى عنها الأكثرون إلا أن نشكره جل وعلا، ونسأله أن يثبتنا على ما نحن عليه من الحق، ويرزقنا الإعانة والتوفيق. ثالثا: نظرت الهيئة في الموضوع، فرأت أن دواعي الإصلاح قائمة، وأنه لا بد من إيجاد حل للمشكلة، وإصلاح لما تخشى عواقبه، غير أن الهيئة بأكثريتها ترى: أنه لا يجوز تدوين الأحكام على الوجه المقترح لإلزام القضاة الحكم به؛ لأنه ليس طريقا للإصلاح، ولا يحل المشكلة، ولا يقضي على الخلاف في الأحكام، أو على ظنون بعض الناس في القضاة ما دام هناك محكوم عليه، لأن اتهام القاضي في حكمه لم يسلم منه

أحد حتى خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد قال له بعض الناس: اعدل، فإنك لم تعدل، وفي رواية: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله. ومع ذلك فإن التدوين المراد يفضي إلى ما لا تحمد عاقبته؛ وذلك لأمور: 1 - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما اختير لهم مما يسمى بالقول الراجح عند من اختاره يقتضي أن يحكم القاضي بخلاف ما يعتقد، ولو في بعض المسائل، وهذا غير جائز، ومخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، ومن بعدهم السلف الصالح، ويسبب التحول عن سبيلهم، ولقد سبق أن وجدت هذه الفكرة في خلافة بني العباس، وعرضها أبو جعفر المنصور على الإمام مالك رضي الله عنه فردها وبين فسادها، فهي فكرة مرفوضة لدى السلف، ولا خير في شئ اعتبر في عهد السلف من المحدثات. 2 - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما يدعى أنه القول الراجح فيه حجر عليهم، وفصل لهم في قضائهم عن الكتاب والسنة وعن التراث الفقهي الإسلامي، وتعطيل لهذه الثروة التي هي خير تراث ورثناه عن السلف الصالح، وفي ذلك أيضا مخالفة صريحة لما دل عليه كتاب الله تعالى من وجوب الرجوع فيما اختلف فيه من الأحكام إلى الكتاب والسنة، وإن عدم الرد إليهما عند الاختلاف ينافي الإيمان بالله تعالى، قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 59

3 - إن الإلزام بما يدون يفضي إلى نفس النتيجة التي وصل إليها من سبقنا إلى هذه التجربة من الدول الإسلامية المتأخرة، فقد جربوا هذا التقنين، وألزموا القضاة العمل به، فلم يأتهم بخير، ولم يرفع اختلاف القضاة في الأحكام، وإنما أدى بهم إلى الحكم بالقوانين الوضعية فيما عدا الأحوال الشخصية، وبعض العقوبات؛ فسدا لذريعة الفساد، ومحافظة على البقاء في التحاكم إلى شريعة الله، وإبقاء على إظهار شعار أمتنا الإسلامية - يجب علينا أن نفكر في طريق آخر للإصلاح سليم من العواقب الوخيمة. 4 - إن إيجاد كتاب يشتمل على قول واحد هو الراجح في نظر من اختاره يكون موحد الأرقام مسلسل المواد - لا يمكن أن يقضي على الخلاف، ويوجد الاتفاق في الأحكام في كل القضايا؛ لاختلاف القضاة في مداركهم وفي فهم المواد العلمية، ومدى انطباقها على القضايا التي ترفع لهم، ولاختلاف ظروف القضايا وما يحيط بها من أمارات، ويحف بها من أحوال - فقد اختلف الناس في مدلول بعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة مع وضوحها وجلائها، وعلم مصدرها الذي ليس علمه كعلم من يختار القول الراجح المراد. 5 - المحاكم المدنية في الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية دونت قوانينها على هيئة مواد موحدة، مسلسلة الأرقام، ومع ذلك اختلفت أحكام قضاتها، ووقع في بعضها التناقض والخطأ، واستؤنفت بعض الأحكام، فنقض في محاكم الاستئناف، فلم يكن ذلك التنظيم والإلزام به مانعا من الخطأ والتناقض، واتهام القضاة، ونقض الأحكام

ما دام القضاة متفاوتين في الأفكار والأفهام، وبعد النظر والقدرة على تطبيق الأحكام على القضايا والوقائع. 6 - لا يصلح للتخلص من الآثار السيئة التي ترتبت على إلزام القضاة بما يدون لهم - إعطاؤهم حق الرفع فيما يخالف فيه اعتقادهم ما دون إلى مرجعهم، فإن ذلك يعود إلى التواكل، وتدافع القضايا والتهرب من المسئولية، وتعويق المعاملات، وتكديسها، وفتح باب الاحتيال للتخلص من بعض القضايا؛ لأمر ما، ولا يعدم من أراد ذلك أن يجد في وجهة نظر المخالفين لما دون ما يسند رأيه؛ لأن الرجحان أمر نسبي مختلف فيه، ولكل قول وجهته. 7 - الواقع يشهد بأن معرفة الخصوم لما يرجع إليه القاضي تفصيلا ليس بضروري، ولا شرط لقبول حكم القاضي، ولا نفاذه لا من جهة الشرع ولا من جهة القانون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يحكمون بين الناس في الخصومات، ولم يكن الفقه مدونا وكثير من المتخاصمين لا يحفظ القرآن كله، ولا كثيرا من السنة، وإنما يعرفون إجمالا: أن القاضي سيحكم فيما يرفع إليه من القضايا مما فهمه من الكتاب والسنة، كما أن الدول التي تحكم بقوانين وضعية لا يعرف السواد الأعظم فيها ما يرجع إليه القضاة من القوانين؛ ولذلك يقيمون المحامين ليرافعوا عنهم في قضاياهم، فلم يكن تدوين الأحكام على النهج المقترح ليوافق المتحاكمون أعمالهم معها ضروريا، ومع ذلك فالأحكام الشرعية مدونة، ومن أرادها أمكنه الوصول إليها ومعرفتها، ومع معرفته لها فإنه لا يأمن أن يخالفه القاضي في فهمها وتطبيقها على

قضيته، سواء في ذلك من يرجع في تحاكمه إلى الشرع ومن يرجع إلى القانون الوضعي؛ لأن الأحكام لو دونت لا يكون فيها ذكر جميع الجزئيات من القضايا، وإنما يجتهد كل قاض في تطبيق النص على القضية التي ترفع إليه. فيما سبق ذكره وغيره مما لم يذكر من الآثار السيئة التي تنشأ عن إلزام القضاة الحكم بما يختار لهم - يجب التماس طريق آخر لعلاج الوضع. وحل المشكلة وهو ما يلي: 1 - إعداد القضاة، والعناية بهم، وتأهيلهم علميا، وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء، ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل. 2 - تقليل المحاكم وتركيزها في المدن وعواصم المناطق، ويكتفى بتعيين متعلمين في القرى؛ ليقوموا بشئون المساجد، وعقود الأنكحة، والوعظ والإرشاد، وكتابة الوثائق، وتلقي استخلافات القضاة ونحو ذلك، ويساعد على هذا سهولة المواصلات اليوم ووجود مرافق في المدن يستريح فيها الغريب، ويرتفق بها، ولو أقام أياما، ويسهل ذلك على القضاة في المدن الاجتماع لدراسة القضايا وهضمها، ويمنع من الترافع في الأمور التافهة البسيطة، ويدعوا إلى الصلح بين الناس، وهو أنفع من التمادي في الخصومات حتى البت في القضايا. 3 - حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم، ورجاحة في العقل، مع حلم وأناة، وبعد نظر، وصدق وأمانة، وابتعاد عن مظان الريبة. . إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في القاضي،

وسيساعد على سهولة الاختيار الاقتصار على تركيز المحاكم في المدن، كما أشرنا إليه سابقا. 4 - تأليف لجنة من العلماء؛ لبحث المسائل القضائية الهامة التي ربما يشتبه الحكم فيها على بعض القضاة، فتبين بالأدلة وجه الحكم فيها، وتوضح تطبيقها بأمثلة، خاصة القضايا التي حدثت في عصرنا، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم، ونموذجا لهم في دراسة القضايا وحل مشكلها، والدقة في تطبيق الأحكام فيها، فبذلك تضيق شقة الخلاف، وتتحقق المصلحة المرجوة. أما ارتفاع أصل الخلاف فلا سبيل إليه، ولو توحد المرجع العلمي للقضاة باختيار قول واحد وألزم القضاة الحكم به؛ لما تقدم بيانه. ومع ذلك فإن الحكومة - وفقها الله - قد بذلت مجهودا تشكر عليه، فجعلت محاكم تمييز تدرس الأحكام الصادرة من المحاكم، وتوجه القضاة فيما تراهم قد قصروا فيه، وجعلت وراء ذلك هيئة قضائية عليا تدقق الأحكام التي يحصل حولها اختلاف بين القضاة وهيئات التمييز - كل ذلك حرصا من ولي الأمر - وفقه الله - على براءة الذمة، وإراحة الناس، وإيصال الحقوق إلى أصحابها. 5 - إن الاختلاف في الأحكام قد وجد في عهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح، حتى من القاضي الواحد في قضيتين متماثلتين ظهر له في الثانية ما لم يظهر له في الأولى، فحكم به، ولم ينقض حكمه السابق، ولم يكن ذلك داعيا إلى التفكير في مثل التدوين المقترح، ولا إلزام

القضاة لحكم بقول واحد، وهم كانوا أحرص منا على حفظ الدين، وعلى سمعته وسمعة المسلمين ما وسعهم، ولا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مثار ريبة وتهمة للقاضي، فالأصل فيمن يختار للقضاء: أن يكون عالما أمينا على مستوى المسئولية. 6 - مما تقدم يعلم أن العلاج للمشكلة في غير التدوين المذكور الذي لا تؤمن عاقبته، ونتيجته غير مضمونة، ويفضي إلى فصل الناس عن مصادر شريعتهم وثروة أسلافهم الفقهية، كما سبق بيانه، فتعين سلوك الطريق السليم العاقبة، المأمون النتيجة، الذي استقامت عليه حياة الأمة الإسلامية وأحوالها في قرونها السالفة. ونسأل الله أن يحفظ لأمتنا دينها، ويتم عليها نعمة الأمن والاستقرار، ويثبت إمام المسلمين، ويسدده ويعينه بالبطانة الصالحة، ويمد في أجله على عمل صالح، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة الثالثة . ... . ... محمد الأمين الشنقيطي عبد الله بن حميد ... صالح بن محمد اللحيدان ... عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان عبد الله بن غديان ... عبد الله خياط مخالف وله وجهة نظر ... عبد الله بن منيع له وجهة نظر محمد بن جبير مخالف، وله وجهة نظر ... راشد بن خنين لي وجهة نظر وليس فيها إلزام القاضي بالحكم بخلاف ما يعتقد ... صالح بن غصون

وجهة نظر لفضيلة الشيخ راشد بن صالح بن خنين

وجهة نظر أحمد الله، وأصلي وأسلم على رسوله، وأسأل الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل. . وبعد: فمما لا شك فيه أن هذا الأمر الذي نبحثه أمر خطير، وله شأن كبير، وآمل أن تنظره هذه الهيئة نظرة فاحصة مبنية على ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، وتحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وقد ظهر لي من إثارة هذا البحث ومما سمعته من كلام بعض من حضره - أن هناك اتجاها لتدوين الأحكام الشرعية على شكل مواد، وأخشى أنه إذا رفضت هذه الهيئة الإشراف على هذا الأمر، أو وضع بديل عنه - أن يسند إلى غيرها فتحصل مفسدة أكثر، وفي نظري أنه لو تولى هذا الأمر أهل العلم بالشريعة، وأخذوا بزمامه، واشترطوا إشرافهم عليه، وقيدوه بالقيود الشرعية، أو اقترحوا له بديلا - لكان ذلك أصلح، وأكثر محافظة على تحكيم الشريعة في كل شيء. وبناء على ما تقدم، وعلى ما هو معلوم لدى الجميع من ضعف المستوى العلمي لدى كثير من القضاة، بحيث لا يمكن اعتبارهم من أهل الاجتهاد والترجيح مع وجود قضايا كثيرة جدت في هذا الزمن، وهي غير منصوص عليها في كتب المذهب، بالإضافة إلى وجود اختلاف الأحكام في كثير من المسائل المتساوية، من أجل ترجيح قول على قول، أو رواية في المذهب على أخرى، لا من أجل اختلاف وقائع القضية أو ملابساتها - فإنني أرى أن تبحث من قبل هذه الهيئة في دوراتها القادمة المسائل التي فيها

الخلاف المشهور، مع المسائل المستجدة، وتقرر فيها ما تراه راجحا بالدليل، ويعمم على المحاكم للعمل به، ويترك ما عدا ذلك على ما هو عليه من الحكم بالراجح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ويؤكد على المحاكم بالتزام ذلك، وأن من ظهر له الحكم في مسألة ما بخلاف ذلك فعليه رفع وجهة نظره، مع بيان مستنده لمجلس القضاء، فإن ظهر للمجلس صحة وجهة نظره وافقه على ذلك، وعممه على المحاكم، وإن لم تظهر له صحة وجهة نظره نبهه على ذلك، فإن اقتنع اعتبر الموضوع منتهيا، وإن لم يقتنع أحيلت المسألة إلى غيره، فإن لم تر هذه الهيئة دراسة المسائل الخلافية والمستجدة ووضع حد لاختلاف الأحكام، والحالة ما ذكر - فإنني أرى أنه لا مانع من تدوين الأحكام الشرعية على القول الراجح بدليله، ويعمم على المحاكم للعمل به، وإذا ظهر لأحد منهم الحكم في مسألة ما بخلاف ما هو مدون فيرفع عن ذلك لمجلس القضاء على ما هو موضح في الرأي الأول. وأسأل الله أن يوفق الجميع لمعرفة الحق واتباعه، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. حرر في 5\ 4\ 1393 هـ مقدمه عضو الهيئة راشد بن صالح بن خنين

خلاصة رأي فضيلة الشيخ صالح بن علي بن غصون

خلاصة رأيي الحمد لله وحده. . . أرى أن يستغنى عن تدوين الأحكام بإلزام القضاة بأن يكون الحكم بالراجح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، حسبما هو مدون في [الإقناع] و [المنتهى] مع وضع حد لمسائل الخلاف في المذهب، وتوحيد الحكم فيها، وهذا في نظري أفضل إجراء يقلل من اختلاف القضاة في أحكامهم، أما إذا بقي وضع القضاة كما هو الآن - فإنني لا أرى مانعا من تدوين الأحكام الشرعية مستمدة من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة؛ وذلك تفاديا لما يعرفه الجميع من وقوع تفاوت في الأحكام في قضايا متماثلة، بالإضافة إلى ضعف المستوى العلمي لدى الكثيرين من القضاة، وما لذلك من آثار على القضاء والمشرفين عليه والبلاد عامة. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. وحرر في 6\ 4\ 1393 هـ. صالح بن علي بن غصون عضو هيئة كبار العلماء

وجهة نظر لبعض أعضاء هيئة كبار العلماء

وجهة نظر الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: فلقد كانت مسألة تدوين الأحكام الشرعية الراجحة في كتاب يعمم على المحاكم وإلزام القضاة التمشي بموجبه - موضع دراسة من قبل هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة؛ بناء على رغبة المقام السامي. وبعد الاطلاع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث حول تلك المسألة وتبادل الرأي بشأنها - أسفرت الدراسة عن انقسام الرأي في المسألة بين مانع ومجيز. وحيث أننا نحن الموقعين أدناه نرى جواز ذلك؛ تحقيقا للمصلحة العامة - وقد أدلى كل منا في المسألة برأيه مقتضبا حينما جرى استطلاع الآراء - دون ذكر للاستنادات والمبررات والاعتبارات التي بنينا فيها آرائنا - فإننا نوضح ذلك فيما يلي: أولا: هناك مجموعة اعتبارات يحسن بنا قبل البدء في توجيه ما نراه إيرادها. أ- ما أجمع عليه المعنيون بالدراسات الاجتماعية من أن القضاء يعتبر عنوانا لما عليه البلاد من حال، فإن كان قويا مهيبا دقيقا في تحقيق العدل والإنصاف - كان ذلك دليلا على قوة البلاد وحسن إدارتها، وإن كان غير ذلك دل على ضعفها واضطرابها، وفوضويتها، كما أجمعوا على أن أول ما تفقده البلاد عند اضطرابها وتزعزعها النزاهة في المرافق القضائية.

ب- ما عليه بلادنا من اتصالات مختلفة بالبلدان الأجنبية الأخرى، سواء ما كانت بلادنا متصلة بها أو كانت هي متصلة ببلادنا، مما كان لذلك أثره في قيام علاقات مختلفة معها، وما تبع هذا من قيام اتفاقيات وتبادل معلومات وخدمات. ج- إدراك الظروف والعوامل التي برزت للجهات المسئولة عندنا إيجاد وحدات قضائية لها استقلالها الكامل من الناحية الإدارية عن الجهة الإدارية للقضاء؛ كمحاكم العمل والعمال، ومكافحة الرشوة، وفض المنازعات التجارية، ومحاكم التأديب وغيرها. مما كان لذلك أثره في تفتت الوحدة الإدارية للقضاء في بلادنا، وبالتالي تقلص الاختصاص القضائي من المحاكم الشرعية. د- الوضع القائم الآن، ومنذ استتباب الأمن لحكومتنا الرشيدة مبني على الالتزام بالحكم الراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكان ذلك امتدادا لما كانت عليه الحكومة التركية من التزام محاكمها بالحكم الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، هذا بالنسبة إلى الحجاز وغيره من المناطق التي كانت خاضعة للحكم التركي سابقا. أما بالنسبة لنجد وتوابعها فقد كان الحكم في محاكمها طبقا للراجح من مذهب الإمام أحمد، وذلك قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حتى وقتنا هذا. هـ- ما عليه قضاة زماننا بالنسبة للمراتب العلمية التي ذكرها أهل العلم مما جاء في بحث اللجنة الدائمة من أن من يمكن إسناد القضاء إليه لا يخلو من أربع حالات: إما أن يكون مجتهدا مطلقا، كالأئمة

الأربعة، أو مجتهدا منتسبا، كشيخ الإسلام ابن تيمية، أو مجتهدا في المذهب ممن له قدرة على التخريج والترجيح واستنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي أنتسب إليه، كمتقدمي أصحاب الأئمة، أو مقلدا متعلما، كأصحاب الأئمة المتأخرين ممن تبحروا في مذاهب أئمتهم وتمكنوا من تقرير أدلتهم، إلا أنهم لم يبلغوا درجة الترجيح والتخريج. وانتشار الوعي الحقوقي في البلاد وتطلع تلك الفئات الواعية إلى التعرف على المسالك القضائية وعجزها عن حصر تلك المسالك في إطار واضح المعالم وما نتج عن ذلك من تساؤلات وتعريضات بنزاهة القضاء وخضوعه لتأثيرات خارجية واعتبارات شخصية. ثانيا: أن أمر إثبات الراجح من أقوال أهل العلم وتدوين ذلك في كتاب وتعميمه على المحاكم الشرعية للعمل بمقتضاه - ليس أمرا محدثا، وإنما كانت الفكرة موضع إثارة وبحث الجهات المعنية بالمرافق القضائية، وذلك منذ أكثر من عشرة قرون. وقد أوردت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في بحثها الموضوع فصلا تاريخيا للفكرة، وكيف أنها برزت من حيز التفكير إلى نطاق العمل، بعد أن تكاثرت الأسباب الملحة في الأخذ بها فنجتزئ بذلك ونكتفي بإيراد حلقة تاريخية للفكرة لم تشر إليها اللجنة في بحثها. ذلك أن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وغفر له، أراد أن يحمل القضاة على الأخذ بأحكام مختارة يجري تدوينها ثم تعميمها على المحاكم، فقد جاء في افتتاحية (أم القرى) في عددها الصادر بتاريخ 28\ 2\ 46 هـ ما نصه:

إن جلالة الملك حفظه الله يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة. وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293 هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور: أهمها عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة. وجاء فيها ما نصه: فأصدر أمره إلى هيئة المراقبة القضائية بالشروع في عملها على الطريقة التالية: إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذا الحكم معتبرا وملزما لجميع المحاكم والقضاة. والمذاهب الأربعة هي متفقة في الأحكام الأساسية وفي كثير من الأحكام الفرعية. أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم، وفي وكل أسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحل العلماء، وينظرون فيما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلا من كتاب الله وسنة رسوله - فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب، ويصدر القرار بشأنها، ويكون هذا القرار ملزما لسائر المحاكم الشرعية والقضاة، وأساسا قويا لتوحيد الأحكام وتأليفها. اهـ. المقصود، ثم تحولت الفكرة إلى أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على

المفتى به من مذهب الإمام أحمد، فقد صدر قرار الهيئة القضائية رقم (3) في 17\1\1347هـ المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24\3\1347هـ بما يأتي: أ- أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد ابن حنبل؛ نظرا لسهولة مراجعة كتبه، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله. ب- إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم- يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب؛ مراعاة لما ذكر. ج- يكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الآتية: 1 -[شرح المنتهى] . 2 -[شرح الإقناع] . فما اتفقا عليه أو انفرد به أحدهما فهو المتبع، وما اختلف فيه فالعمل على ما في [المنتهى] ، وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي [الزاد] ، أو [الدليل] إلى أن يحصل بها الشرحان، وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح المذكورة طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها، وقضى بالراجح. اهـ. ولم يكن الإلزام بالعمل الراجح من المذهب ابتداء من ولي الأمر،

وإنما كان بمشورة هيئة علمية هي الهيئة القضائية، فالتزم القضاة التابعون لرئاسة القضاة بذلك، واستمر الالتزام به حتى وقتنا هذا، ويندر من أحدهم الخروج عن المذهب، فإن خرج نقض حكمه، كما كان الحال بالنسبة للحكم الصادر من رئيس وقضاة محكمة الرياض بعدد (57\1) وتاريخ 2\8\1386هـ في قضية قسامة، فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بالرياض بعدد (6\3) وتاريخ 6\ 10 \ 1387هـ؛ لعدة أسباب منها: الخروج بذلك عن المذهب، وتأيد النقض من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله موجب خطابه رقم (3798\2\1) في 17\11\87هـ، وكذا بالنسبة للحكم الصادر من محكمة الرياض بعدد (86\1) وتاريخ 9\6\1388هـ في قضية قسامة، فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بعدد (7\3) وتاريخ 26\3\1390هـ كما صدر من سماحة رئيس القضاة ومفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله خطابه رقم (1492) وتاريخ 21\9\1380هـ، ويتضمن الاعتراض على الفتوى باعتبار الثلاث في الطلاق واحدة. وقد جاء فيه ما نصه: نفيدكم: أن الذي عليه الفتوى وقوع مثل هذا الطلاق ثلاثا، هو الذي عليه الجماهير من أهل الفتوى.. . إلى أن قال: فلا ينبغي لأحد أن يفتي بخلاف ما عليه الفتوى في عموم المحاكم في سائر أنحاء المملكة؛ لما في ذلك من الاختلاف الذي هو شر. إلى آخره. وأخيرا: فإن هيئة التمييز بالمنطقة الوسطى قد أصدرت قرارا برقم (88\2) باريخ 20\3\1391هـ بصدد قضية رجل قتل غيلة، وحكم

على قاتله بالقتل دون التفات إلى عفو الورثة، جاء فيه نصه: أولا: أن هذا الحكم مخالف للمفتى به في مذهب أحمد، أو مخالف لمذهبه بالكلية، وقد صرح العلماء: أن المقلد إذا خالف مذهب إمامه ينقض حكمه. . إلى أن قالت: ثانيا: أن إمام المسلمين أصدر التعليمات المقيدة لأحكام القضاة بأن تكون على المفتى به من مذهب أحمد، وفي بعض الأوامر قيد الحكم في ذلك في كتب معينة، ولا يخفى أن هذا تعيين مشترط، والمسلمون عند شروطهم، والقاضي إذا أقدم على الحكم بشيء لم يعينه إمامه فيه، ولم يسمح له يكون قد حكم بغير ما ولي فيه، ومعروف حكم ذلك، وقد وقع القرار المشار إليه رئيس الهيئة الشيخ عبد العزيز بن رشيد، وأعضاؤها المشايخ: محمد البواردي ومحمد بن سليم ومحمد بن عودة وصالح بن غصون،: كما أن هيئة التمييز بالمنطقة الغربية قد أصدرت قرارها رقم (505) وتاريخ 15\4\90هـ حول قضية وقف انتهت فيه إلى أن المادة (121) والمادة (122) من مجموعة النظم قد جاء فيه: أنه إذا لم يكن للوقف أو الوصية شرط ثابت أو عمل يستأنس به يجري النظر في دعوى المستحقين على بعض على المفتى به من مذهب الواقف أو الموصي إن علم، وإلا فيجري النظر على المذهب الذي كان الحكم بمقتضاه في زمن الواقف. وقالت الهيئة: إن القاضي يتخصص فيما يخوله ولي الأمر له. ومن هذا الاستعراض التاريخي القريب لهذه الفكرة، وما ذكر من الوقائع ـ يتضح بأنها من حيث العموم موضع التنفيذ، وأن العمل جار على اعتبارها في مجالات القضاء والإفتاء والتدريس. وأن ما يرغب ولي الأمر

حفظه الله إعطاء الرأي نحوه لا يخرج عن كونه تنظيما لهذا الوضع القائم، مع الخروج عن التقيد المذهبي، وذلك بتعيين الأقوال الراجحة من قبل هيئة علمية على مستوى يسمح لها بذلك، وتدوينها في كتاب يجري تعميمه على المحاكم للعمل به، بدلا من أن يكون الراجح من المذهب موضع ادعاء يجد كل مدع في كتب المذهب ما يؤيده ويسند دعواه، مما كان لذلك أثره الواضح في اختلاف الأحكام في القضايا المتشابهة، مما في أحكامها الخلاف القوي؛ كمسائل الشفعة والرهن والقسامة وإجبار الأب ابنته البكر البالغ على الزواج، والإقطاع من حيث اعتباره اختصاصا أو تمليكا ومسألة الجد مع الإخوة واشتراط مطالبة المسروق منه في القطع وتكرار الإقرار فيه مرتين: إلى غير ذلك من مسائل الخلاف، بل قد يقع اختلاف الأحكام من القاضي نفسه، كما كان الحال من أحدهم حيث حكم في قضيتي رهن لم يقبض بلزومه في إحداهما وعدم لزومه في الأخرى، وقد لا يتجه الإيراد على ذلك بما قاله عمر رضي الله عنه: (ذلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي) ، إذ أن قضاة زماننا لا يمكن لأحد منهم مهما كانت حصيلته العلمية أن يكون في درجة عمر رضي الله عنه وأضرابه رضي الله عنهم، ممن هم في مستوى يمكنهم من الاجتهاد المطلق، بل قد يكون التردد في إلحاق أغلبهم بمرتبة علمية يجوز لأصحابها تقلد القضاء والفتوى، وقد كان للضرورة حكمها في قبول ذلك. ثالثا: مما سبق يتضح أن المسألة ليست وليدة التفكير، وأن إلزام القضاة بالحكم بمذهب إمام بعينه كان موضع التنفيذ في أماكن من البلاد الإسلامية مختلفة، وفي أعصار متفاوتة، ولا يزال العمل بذلك حتى وقتنا هذا، بل

وفي بلادنا بالذات.

وأقوال أهل العلم في اعتبار ذلك وإجازته كثيرة، نذكر منها ما يلي: المذهب الحنفي: قال (¬1) ابن عابدين: لو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه فيه ناسيا - نفذ عنده، وفي العامد، روايتان، وعندهما لا ينفذ في الوجهين، واختلف الترجيح، وقال في [الفتح] : والوجه الآن أن يفتي بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره، هذا كله في القاضي المجتهد، وأما القاضي المقلد فإنما ولاه؛ ليحكم بمذهب أبي حنيفة، فلا يملك المخالفة، فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم. وقال أيضا تحت مطلب قضاء القاضي بغير مذهب ما نصه: وحاصل هذه المسألة: أنه يشترط لصحة القضاء أن يكون موافقا لرأيه ـ أي: لمذهبه ـ مجتهدا كان أو مقلدا، فلو قضي بخلافه لا ينفذ، لكن في [البدائع] : إذا كان مجتهدا ينبغي أن يصح، ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير. ويأخذ (¬2) القاضي كالمفتي بقول أبي حنيفة على الإطلاق ثم بقول أبي يوسف ثم بقول محمد ثم بقول زفر والحسن بن زياد، وهو الأصح وصحح في [الحاوي] اعتبار قوة المدرك، والأول أضبط [نهر] ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا، بل المقلد متى خالف معتمد مذهبه لا ينفذ حكمه، ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (4\498) . (¬2) [حاشية ابن عابدين] (5\400) .

وينقض، هو المختار للفتوى، كما بسطه المصنف في فتاويه وغيره. . وفي القسهتاني وغيره. وقال (¬1) ابن عابدين: ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه كما في زمننا ـ تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه. وقال (¬2) أيضا نقلا عن معروضات أبي السعود: إن العبد الآبق إذا كان من عبيد العسكرية فقد صدر الأمر السلطاني بمنع القضاة من بيعه كيلا يتخذ العبيد الإباق وسيلة للتخلف من خدمة الجيش، ثم قال: وحينئذ لا يصح بيع هؤلاء العبيد، بل يؤخذون من مشتريهم، ويرجع المشتري بالثمن، وكذلك بيع العبيد الآبقين من الرعايا إذا بيعوا بغبن فاحش، وبذلك ورد الأمر السلطاني فليحفظ فإنه مهم. وقال في [حاشية ابن عابدين] صفحة (408) ج (5) : فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة، فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم. انتهى. . قال في (الشر نبلاليه) : عن [البرهان] : وهذا صريح الحق الذي يعض عليه بالنواجذ. أهـ. وقال في [النهر] : وادعى في البحر أن المقلد إذا قضى بمذهب غيره أو برواية ضعيفة أو بقول ضعيف ـ نفذ. وأقوى ما تمسك به ما في البزازية إذا لم يكن القاضي مجتهدا أو قضى بالفتوى على خلاف مذهبه نفذ وليس لغيره نقضه، وله نقضه كذا عن محمد، وقال الثاني: ليس له نقضه. . انتهى. ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (4\369) . (¬2) [حاشية ابن عابدين] (3\325)

وما في [الفتح] يجب أن يعول عليه في المذهب، وما في البزازية محمول على روايتين عنهما إذ قصارى الأمر أن هذا منزل منزلة الناسي لمذهبه وقد مر عنهما في المجتهد أنه لا ينفذ، فالمقلد أولى. المذهب المالكي: ويجب (¬1) على كل من الخليفة والقاضي إذا لم يكن مجتهدا مطلقا أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه، لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه، وكذا المفتي فإن حكم بالضعيف نقض حكمه إلا إذا لم يشتهر ضعفه وكان الحاكم به من أهل الترجيح وترجح عنده ذلك الحكم فلا ينقض، وإن حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه، لكن القول بأنه يلزمه الحكم بمذهب إمامه ليس متفقا عليه حتى قيل: ليس مقلده رسولا أرسل إليه، بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه، فقيل: لا يلزمه الشرط، وقيل: بل ذلك يفسد التولية، وقيل: يمضي الشرط للمصلحة [الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل] . وسئل (¬2) القرافي: هل يجب على الحاكم أن لا يحكم إلا بالراجح عنده كما يجب على المجتهد ألا يفتي إلا بالراجح عنده أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحا عنده؟ . فأجاب قائلا: إن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير والدسوقي] (4\130) . (¬2) [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام] (79)

إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعا. . إلخ. قال (¬1) محمد بن عبد الرحمن الحطاب: قال ابن الحاجب: وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه في الاجتهاد أو التقليد، ولو شرط الحكم بما يراه كان الشرط باطلا والتولية صحيحة، قال الباجي: كان في سجلات قرطبة، ولا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده، قال في [التوضيح] : للإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه، كالمالكي يولي شافعيا أو حنيفا ولو شرط ـ أي: الإمام ـ على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له ـ كان الشرط باطلا وصح العقد، وهكذا في [الجواهر] عن الطرطوشي، وقال غيره: العقد غير جائز، وينبغي فسخه ورده، وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهدا، وهكذا المازري فيه قال: وإن كان الإمام مقلدا وكان متبعا لمذهب مالك أو اضطر إلى ولاية قاض مقلد ـ لم يحرم على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك، ويأمره أن لا يتعدى في قضائه مذهب مالك؛ لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي فيه هذا القاضي، وقد ولى سحنون رجلا سمع بعض كلام أهل العراق، وأمره أن لا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة. . انتهى المقصود. قال (¬2) ابن فرحون: قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: أخبرنا القاضي أبو الوليد الباجي: أن الولاة بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل] (6\98) . (¬2) [تبصرة الحكام] (1\48) .

سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده، قال الشيخ أبو بكر: وهذا جهل عظيم منهم، يريد أن الحق ليس في شيء معين، وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان، فتكلم على أهل زمانه وكان معاصرا للإمام أبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي الوليد الباجي، والقاضي أبي الوليد بن رشد، والقاضي أبي بكر بن العربي، والقاضي أبي الفضل، والقاضي أبي محمد بن عطية صاحب التفسير، وغير هؤلاء من نظرائهم، وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب. وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون، وذلك أنه ولى رجلا القضاء، وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق، فشرط عليه سحنون أن لا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك. . . قال (¬1) ابن رشد: وهذا يؤيد الباجي، ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر، فكيف يقول ذلك، والمالكية إذا تحاكموا إليه فإنما يأتونه؛ ليحكم بينهم بمذهب مالك؟! انتهى المقصود. قال (¬2) الدسوقي: بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه أن لا يحكم إلا بمذهب إمامه: فقيل: لا يلزمه الشرط، وقيل: بل ذلك يفسد التولية، وقيل: يمضي الشرط للمصلحة. المذهب الشافعي: قال: (¬3) النووي وجلال الدين المحلي: (ويحكم باجتهاده إن كان ¬

_ (¬1) [الدسوقي على مختصر خليل] (4\130) . (¬2) [مواهب الجليل] . (¬3) [المحلي على المنهاج] (4\29) .

مجتهدا، أو اجتهاد مقلده ـ بفتح اللام ـ أن كان مقلدا ـ بكسرها ـ حيث ينفذ قضاء المقلد) . وقال (¬1) قليوبي على قول النووي: (واجتهاد مقلده) أي: المعتمد عند مقلده إن لم يكن هو متبحرا، وإلا فباعتماده لا يجوز له الحكم بغير مذهبه. وقال (¬2) الرملي على قول النووي: (مجتهد) قال: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد. . . ومضى إلى أن قال بعد بيان صفة المجتهد المطلق: واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه. أما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع، فإنه مع المجتهد كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص. قال (¬3) الإمام فخر الدين في كتابه: [ملخص البحر] : لا يجوز لمفت على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده، إذا ألزمناه اتباعه، ذكره الغزالي واقتصر عليه في [الروضة] وغيرها، وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه، فإن فعل نقض؛ لفقد الاجتهاد، وكذا في [أدب القضاء] للغزي ـ كلام ابن الصلاح، ومرادهم بالمقلد: من حفظ مذهب إمام ونصوصه لكن عاجز عن تقويم ـ وفي ¬

_ (¬1) [قليوبي على المنهاج] (4\298) . (¬2) [نهاية المحتاج] (8\240) . (¬3) [مجموع المنقور] (2\152) .

نسخة: تقديم ـ أدلته غير عارف بغوامضه أهـ. بواسطة ـ المنقور. المذهب الحنبلي: وعلى المقلد (¬1) أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك، ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد، ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه كمخالفة المفتي نص الشارع [الإنصاف] ، ومن حاشية ابن قندس قوله: (فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها) ويقلد كبار مذهبه في ذلك، ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه، ووجوب الحكم بمذهب إمامه، وعدم الخروج عن الظاهر عنه، وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك؛ لمخالفته الواجب عليه. . إلى أن قال: وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه، والمنع من تقليده غيره، وظاهره ترجيح القول من منع تقليده غيره، وهذا هو اللائق لقضاة الزمان؛ ضبطا للأحكام، ومنعا من الحكم بالتشهي. فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي، بل لرغبة في الدنيا، وكثرة الطمع، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم، وإنما يحصل ذلك إذا نقض حكم بغير مذهب إمامه، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء، ولم تنحسم مادة السوء، ويرشح ذلك بأن يقال: هذه مسألة خلافية فبعضهم ألزم بذلك، وبعضهم لم يلزمه، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك فيرتفع الخلاف. . . إلى أن قال: قال بعض أصحابنا: مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (11\179) .

الشارع. . . إلى أن قال: قال النووي في [الروضة] : (فرع) : إذا استقضى مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده، قال الغزالي: إن قلنا: لا يجوز للمقلد تقليد من شاء، بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه، وإن قلنا: له تقليد من شاء لا ينقض. . ثم قال: الذي تقرر: أن مذهبنا: أن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه، بخلاف الشافعية فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه، قال شيخنا. . قال (¬1) شيخ الإسلام ابن تيمية: وأولو الأمر صنفان: الأمراء، والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله ويفعله؛ طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان الواجب، وإن لم يمكن لضيق الوقت، أو عجز الطالب، أو تكافؤ الأدلة عنده، أو غير ذلك - فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال. وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال، وقيل: له التقليد بكل حال، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد. وقال: ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب، وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر. . كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام فإنهم كانوا يولون القضاء تارة لحنفي، وتارة لمالكي، وتارة لشافعي، وتارة لحنبلي. وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة، أو يخالفه أخرى، ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان. ¬

_ (¬1) [فتاوى شيخ الإسلام] (21\73، 74) .

ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط (فعلوا) ، فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير - كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولكن هذا لا يسوغ لواقف أن يجعل النظر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائما، مع إمكان إلا أن يتولى في ذلك المذهب، فكيف إذا لم يشرط ذلك؛ ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يشرط على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب معين، كما صار أيضا في بعضها بولاية قضاة مستقلين، ثم عموم النظر في عموم العمل، وإن كان في كل من هذا نزاع معروف، وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان: هل يعين الأقرب أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف، وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذت.

أما العلماء المعاصرون الذين يرون التدوين والإلزام فإننا نورد أقوالهم كما يلي: قال (¬1) الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء: والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها، ويأمر بالعدل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به، وبذلك صرح فقهاؤنا وفقا لقاعدة: (المصالح المرسلة) ، وقاعدة: (تبدل الأحكام بتبدل الزمان) ، ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي - أي: قابل للاجتهاد، غير مصادم للنصوص القطعية في ¬

_ (¬1) [المدخل الفقهي العام] (1\391) ، ونسبه إلى [رد المحتار] (1\55) .

الشريعة - كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا. وقال (¬1) أيضا تعليقا على ذلك: جاء في كتاب الوقف من [الدر المختار] ، وحاشيته [رد المحتار] نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية، ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين: سليمان، وسليم، ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين، المعول على فتاويهم وترجيحاتهم - أنه إذا صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله عليه قطعا؛ لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم؛ لتهريبها من وجه الدائنين. وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الموقف شرعا، وقد كانت النصوص في أصل المذهب صريحة في نفاذ وقف المدين، ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه. . . ومضى إلى أن قال: والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها، بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه؛ لما له من تأثير ذي بال في شتى الأحكام. وقال الدكتور أحمد موافي في كتابه [الفقه الجنائي المقارن] : ومن القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية: أن لولي الأمر ولاية حمل الناس على ما يختاره لهم من الأحكام، وصياغتها في نصوص مكتوبة يلتزم بها القضاة. وينهي الدكتور أحمد موافي بحثه بقوله: وهكذا نخلص مما تقدم إلى: 1 - أن تدوين الأحكام في الشرع عمل سائغ. ¬

_ (¬1) [المدخل الفقهي العام] (1\392) وما بعدها.

2 - أن الأحكام موجودة من قبل التدوين على عكس القوانين الوضعية، فإنها لا تعتبر قائمة إلا من بعد تدوينها. 3 - وأن غير المدون في القوانين لا يعتبر حكما، ولكنه في الشرع يستدل عليه بالاجتهاد، ويستنبط بالطرق المرسومة لذلك في علم الأصول. 4 - وأنه يمكن مسايرة التطور بالبحث عن حكم الله وصياغته في مواد كلما دعت حاجة المجتمع ومصلحته إلى ذلك؛ لأنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله. 5 - وأن لولي الأمر ولاية حمل الناس على إلزامهم باتباع حكم بذاته غير مقيد في ذلك المجتمع ومصلحته، مادام يرى المصلحة في ذلك. هذا وقد أسلفنا أن الشرع الإسلامي من وضع الله سبحانه وتعالى فكل حكم في الشريعة الإسلامية منه جلت قدرته، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (¬1) فقد أنزل الله الشريعة على رسوله بالقرآن الكريم، وبما أوحاه إليه من أحكام، وبما أقره عليه من اجتهاد، وفي ذلك يقول سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2) وقال الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر المتوفى عام 1365 هـ، وكان رئيسا لمحكمة مصر الشرعية العليا: القاضي لا ينفذ قضاؤه، بخلاف مذهب متبوعه عامدا أو ناسيا؛ لأنه إنما ولي ليحكم بمذهب متبوعه - كأبي حنيفة مثلا - فهو معزول عن الحكم بغير هذا ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 57 (¬2) سورة الجاثية الآية 18

المذهب، وللسلطان أن يحكم ويقضي بين الخصوم على المفتى به، ومتى صادف مجتهدا فيه نفذ أمره، ولا شبهة في أن علة عدم نفاذ حكم القاضي بخلاف مذهبه، سواء كان مجتهدا أم مقلدا - انحصرت في أمرين: الأول: اتباع الهوى. الثاني: عزله عن خلاف مذهبه. ونحن لا نخالف في هذا، ونصرح بأن الحكم بالهوى باطل. ونصرح بأن الحكم بخلاف ما أذن به القاضي من الحاكم الذي ولاه باطل، ولكن الذي نتحدث عنه شيء وراء هذا كله، ذلك أننا نتحدث عن شيء سيضعه الحاكم ويلزم فيه القضاة باتباع مذاهب معينة غير مذاهبهم لمصلحة رآها، ورآها المسلمون، ونحن نصرح بأن هذا جائز شرعا، وأن القاضي يجب عليه شرعا أن يقضي في مثل هذا بما يقيده به الحاكم، ولا يجوز له أن يقضي بغير ما قيده به الحاكم، وإلا كان قضاؤه باطلا؛ وذلك لأن القاضي نائب عن الحاكم في الحكم، وقد كان يجوز للحاكم أن يقضي بالأقوال التي يريد تقييد قضائه بها، فيجب عليهم اتباع شروط التوكيل عنه. . . إلى أن قال: والمجتهد يحرم عليه شرعا أن يعمل بغير رأيه، سواء كان مجتهدا مطلقا، أو مجتهدا في مسألة، أو مسائل خاصة، والمقلد الذي يستطيع النظر في الأدلة وترجيح بعضها على بعض - يجب عليه أن يعمل بما يترجح عنده بالدليل، ولا يجوز له أن يتخير، ومن يستطيع الترجيح يتخير أو يعمل بما يطمئن إليه قلبه. والقاضي والمفتي لا يحيدان عن هذا، غير أن القاضي يمتاز عمن يريد العمل لنفسه ذلك أنه عندما يقلد القضاء من الحاكم يجب عليه اتباع شروط

الحاكم الذي ولاه، فإن ولاه على أن يحكم بمذهب إمام معين - كأبي حنيفة مثلا - وجب عليه امتثاله، وإن حتم عليه العمل بالراجح وجب عليه امتثاله، وإن نص في منشوره على العمل بأقوال قيل إنها مرجوحة في مسائل معينة - وجب عليه امتثاله، وإن نص في منشوره على العمل بغير مذهب أبي حنيفة في مسائل معينة وجب عليه امتثاله، ومتى حكم القاضي بما يقيده له الحاكم الذي ولاه لا يمكن أن يقال: إن حكمه للهوى والغرض، ولا أنه حكم بأخذ المال. أما الشيخ أبو الأعلى المودودي فقد دعا في كتابه [القانون الإسلامي] إلى تدوين الأحكام الفقهية على شكل مواد وفق الأسلوب الحديث؛ لتنفذها المحاكم، وتدرسها كليات الحقوق. ومن هذه الأقوال التي نقلناها عن عدد من علماء المذاهب الأربعة وما اطلعنا عليه ضمن بحث اللجنة الدائمة نستطيع أن نقول: إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على أن من توفرت فيه من القضاة شروط الاجتهاد التي ذكرها العلماء في كتبهم فإنه لا يجوز إلزامهم بالحكم بمذهب معين، أما إذا كان القاضي مقلدا ولا يتصف بأي شروط من شروط الاجتهاد - كما هو حال قضاتنا - فإن الأقوال طافحة وصريحة بأن إلزام أمثال هؤلاء بالحكم بمذهب معين - أمر سائغ. والذين لا يجيزون الإلزام بالحكم بمذهب معين فإنهم لا يقولون بأن غير المجتهد من القضاة لا يصح إلزامه؛ لأنهم يرون أن تولية القضاء غير المجتهد غير صحيحة، وهو رأي فيه من الحرج والضيق الشيء الكثير، وما أحسن قول شهاب الدين بن عطوة في هذا المقام حيث يقول: فإن ولاية الحكام في وقتنا ولايات صحيحة؛ لأنهم سدوا من ثغور

الإسلام ثغرا سده فرض كفاية، ولو أهملنا هذا القول ومشينا على طريقة التفاؤل التي يمشي عليها من مشى من الفقهاء الذين يذكر كل منهم في كتابه شروطا في القاضي إذا قلنا به - لم يصح أن يكون أحد قاضيا حتى يكون من أهل الاجتهاد، ثم يذكر في شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام - فهذه إحالة، أو كالتناقض وكانت تعطيلا للأحكام وسدا للباب وألا ينفذ حق ولا يكاتب فيه، ولا تقام بينة إلى غير ذلك من القواعد الشرعية - فكان هذا غير صحيح. اهـ. رابعا: لئن كان للإلزام بالحكم بقول معين بعض المآخذ التي قد يكون من أهمها: تبلد الفكر، والجمود بالبحث، فإن في ذلك من المصالح العامة التي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفاظ ما يدعو إلى التغاضي عن هذه المآخذ؛ تطبيقا لقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، فالدواعي إلى الأخذ بذلك كثيرة، نذكر منها ما يلي: أ - ما عليه غالب القضاة من مستوى علمي ضعيف لا يستطيعون به الاجتهاد لأنفسهم، ولا إدراك الراجح من مذهب من هم منتسبون إليه من بين الأقوال المبثوثة في كتب المذهب، لا سيما وفي الكتب المؤلفة في المذهب أقوال مختلفة يذكر كل مؤلف في الغالب: أن ما ذكره في هذه المسألة مثلا هو المذهب، كما هو الأمر بالنسبة لـ[المنتهى] و [الإنصاف] وغيرهما من كتب الحنابلة. ب - ما نتج عن إطلاق الأمر للقاضي في تعيينه الراجح من المذهب أو إطلاق الأمر إليه في الاجتهاد في الحكم بما يراه من الاختلاف في

الأحكام الصادرة من المحاكم، ومن الاختلاف في اتجاهاتها - فهذه تحكم بصرف النظر عن دعوى القسامة مثلا؛ لعجز المدعي عن إحضار خمسين رجلا يحلفون خمسين يمينا على قتل المدعى عليه صاحبهم، والأخرى تحكم بقتل المدعى عليه؛ لحلف ورثة القتيل خمسين يمينا، فيترك الأول ويقتل الثاني، كما أن إحدى المحاكم تحكم بقطع يد السارق بغض النظر عن مطالبة المسروق منه ذلك، بينما تشترط المحكمة الأخرى للحكم بقطع يده مطالبة المسروق منه بذلك، فتقطع يد الأول وتترك يد الثاني، وهذه تحكم بالشفعة، وهذه تمنعها، وهذه تحكم بملكية المقطع، والأخرى تحكم بالاختصاص دون التملك؛ مما كان لذلك أثره السيئ في نفوس كثير من الناس قد يكون منه اتهام القضاة في أحكامهم بالهوى والتشفي والاستهانة بالحقوق ومجريا. ج - كثرة الشكاوى من فئات مختلفة داخل البلاد وخارجها من أن القضاء في البلاد غير واضح المعالم حتى لطلبة العلم أنفسهم، إذ أن أحدهم يمكن أن يكون طرفا في خصومة عند أحد القضاة، وقد يكون مستواه العلمي أعلى من مستوى القاضي نفسه، ومع ذلك لا يدري بما يحكم القاضي به، وقد كان لذلك أثره السيئ في تبرم البعض من حال القضاء لدينا، وفي الطعن فيه من بعضهم بأنه - بحكم أنه غير واضح المعالم في تحقيق العدل وفض النزاع - ليس موضع ثقة. د - القضاء على التعللات التي كانت تبريرا لإيجاد محاكم مستقلة عن الجهة الإدارية للقضاء لدينا؛ كمحاكم الرشوة والتزوير، ومكافحة

المخدرات، وفض المنازعات التجارية وغيرها مما هو موجود أو في طريقه إلى الوجود، مما كان له أثره في تفتت الوحدة القضائية، وتقلص اختصاص المحاكم الشرعية. هـ - منع الجائز لدى بعض أهل العلم قد يترتب عليه حصول مفسدة ويخشى أن في الإبقاء على الوضع القائم ما يدعو إلى ما لا تحمد عقباه. وفي التاريخ من ذلك عبر. واستحالة تنفيذ الرأي الذي أشار إليه بعض الزملاء في إعطاء بعض القضاة الحرية فيما يحكمون به؛ للثقة بقدراتهم العلمية، وتقييد الآخرين بالراجح من مذهب الإمام أحمد؛ لاستحالة تصنيف القضاة إلى هذين القسمين. ز - اختلاف وجهات النظر حتى لدى محكمتي التمييز في الرياض ومكة، ونذكر لذلك مثالا، فقد سبق أن قامت محكمة التمييز بالرياض بنقض حكم بالقسامة صادر من محكمة الرياض، لأنه كان مبنيا على قول مرجوح في المذهب بينما كانت محكمة التمييز في مكة المكرمة تشير إلى المحكمة الكبرى بمكة في قضية قتل بأن تحكم فيها بالقسامة بالقول المرجوح الذي قامت محكمة التمييز في الرياض بنقض الحكم المبني عليه. ح - أن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة، وعلى الإلزام برأي معين؛ لقوة العلماء في ذلك العهد، وكفايتهم، فتوفرت الثقة في نفوس الأمة، وأمنت الفتنة، فلم يكن ثم حاجة إلى التدوين والإلزام به. أما في زمننا هذا وما قبله من

أزمان بعد أن طرأ الضعف على الكيان الإسلامي - فالحاجة ملحة إلى التدوين بالطريقة المقترحة، والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون - أمر لا بد منه؛ رعاية للمصلحة، وحفظا للحقوق، وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية. ط - حدوث مسائل جديدة ليس في الكتب الفقهية المعتمدة لدى القضاة لها ذكر، كالمعاملات المصرفية، ومسائل المقاولات والمناقصات، وشروط الجزاء، ومشاكل الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه، ونحو ذلك مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها، مما كان سببا في إيجاد محاكم أخرى لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية، وفي اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين، وذلك؛ كمحاكم الرشوة، وفض المنازعات التجارية وغيرها. ي - هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ممن أبعدها الاستعمار عن روح الشريعة، فبعد أن استقلت وتنفست الصعداء من ثقل وطأة المستعمر عليها - راحت تخطط لعودتها إلى الحكم بالشريعة الإسلامية إلا أنها تقرر العجز في اختيار ما تراه، وليس أمامها شيء ميسور يمكن أن تسير عليه، ونمثل لذلك بباكستان. وأن الغيورين على الشريعة الإسلامية أخذوا في الآونة الأخيرة يطالبون بوضع قانون إسلامي مستمد من الشريعة الإسلامية، وعقدت لأجل ذلك المؤتمرات؛ ولذلك فإن على بلادنا أن تأخذ بزمام المبادرة، وتقدم

للعالم الإسلامي أحكاما إسلامية مدونة، وبلادنا أقدر البلاد الإسلامية على مثل تلك المبادرة؛ لعدم وجود أي سيادة أو فكر للقانون الوضعي. والحمد لله. خامسا: أن الإلزام بقول معين كان موضع الاعتبار والتنفيذ من الصدر الأول في الإسلام. ففي عهد عثمان رضي الله عنه جمع القرآن على حرف واحد، ومنع القراءة بالحروف الأخرى، وأحرق المصاحف المخالفة؛ وذلك تحقيقا لمصلحة المسلمين، وحفاظا على وحدة القرآن أن يكون موضع اختلاف، وكان الخير فيما فعل، ولا يرد ما قيل بأن الرسم العثماني كان مشتملا على جميع القراءات السبع حسب العرضة الأخيرة، فإن العرضة الأخيرة لم يشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن ثابت، وليس في أمر عثمان للأربعة الأفاضل الذين عهد إليهم بالمهمة أن يكون الجمع طبقا للعرضة الأخيرة. ثم إن تنقيط المصحف كان في القرن الأول من قرون الإسلام قام به الحجاج بن يوسف، وقد تلقاه الناس بالقبول والارتياح، واعتبرت هذه مزية كريمة للحجاج، مع أن التنقيط يستلزم إلغاء القراءات الأخرى في الرسم العثماني، على افتراض أن يشملها بدون تنقيط. وفي عهد معاوية ألزم بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، فكان شريح يقضي بذلك ويقول: هذا قضاء أمير المؤمنين، وفي زمننا صدرت عن الجهة المسئولة في القضاء لدينا مجموعة تعاميم لاعتبارها في المحاكم والتمشي بموجبها، ومن ذلك الاستشمام ومقادير الديات ونظام المساييل وغيرها. سادسا: ما يقال بأن التدوين خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية،

والاستدلال على ذلك بأن حكومة ما دونت الراجح من مذهب من هي منتسبة إليه في مواد، وألزمت العمل بذلك في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا - فهذا مردود؛ لأن تلك الحكومة لم يقتصر تنكرها للدين على المسلك القضائي في المحاكم، وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا، وانتقلت إلى دولة علمانية، ثم إن هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ليست دولة أو دولتين لم يكن لها مواد مدونة من الشريعة الإسلامية، وإنما كانت محاكمها تحكم بالراجح من مذهب إمام ما من أئمة المسلمين فكان منها - والعياذ بالله - أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية، وأخذت بقوانين أوروبا وغيرها، وتركت التعاليم الإسلامية عن القضاء خاصة بالأحوال الشخصية. نقصد بذلك أن التدوين ليس وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه. وأما القول بأن في التدوين تبليدا للفكر، وجمودا به عن البحث والاستقصاء - فيجاب عن ذلك بأمرين: الأمر الأول: أن الإلزام بمذهب معين كان موضع التنفيذ لدى كثير من ولاة أمر المسلمين على مختلف الأمصار والأعصار، ولم يكن هذا مانعا من الاتساع الفقهي، بل إن مطولات الكتب في الفقه لم توجد إلا في هذه الفترات. الأمر الثاني: أن الإلزام ليس شاملا للجهات العلمية المختلفة، وإنما هو خاص بالقضاة فيما يحكمون به، مع أن القاضي إذا كان لديه الأهلية في البحث والاستقصاء والاجتهاد فإن الجهة المختصة به إداريا ستعير اجتهاده ما يستحقه، كما أن تدوين الأحكام لا يمكن أن يكون شاملا لجميع القضايا

فإن الأمر كما قيل: (القضايا ممدودة، والأحكام محدودة) فللقضاة مجال البحث والتحقيق في قياس ما لم ينص عليه على ما نص عليه، وذلك بالرجوع إلى المصادر الشرعية المستقى منها هذا التدوين. ثم إن طبيعة العمل القضائي لا سيما في العصور المتأخرة تقتضي تبلد الفكر، وركود الحصيلة، والقضاة يقررون ذلك، ويكثرون من الشكوى منه، وقد روي عن الإمام أبي حنيفة أنه لا يرى أن يتولى القاضي القضاء أكثر من سنتين خشية ضياع علمه. سابعا: أن النهوض بالمرفق القضائي يتطلب مجموعة عوامل يعتبر التدوين في نظرنا أحدها، لا أنه العامل الوحيد للنهوض بمستواه. بمعنى: أن الاقتصار عليه لا يعطي نتيجة مرضية في ذلك. لذلك كله وبحكم ممارسة أكثرنا للأعمال القضائية مدة طويلة - حكما وتدقيقا - وما نتج عن ذلك من إدراك لأحوال القضاة، واطلاع على جوانب النقص في أحكام غالبيتهم، وتحسبا لما نخشى وقوعه في حال رفض هذه الفكرة - فإننا نرى جواز تدوين الأحكام الشرعية المختارة من أرجح أقوال العلماء دليلا في كتاب يجري تعميمه على المحاكم وإلزام القضاة الحكم بموجبه، وإلى أن يتم التدوين نرى أن يؤكد ما سبق صدوره في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - من أن الحكم يكون بالراجح من مذهب الإمام أحمد، ما عدا المسائل التي يصدر فيها قرار من هيئة كبار العلماء، أو مجلس القضاء الأعلى بأن الراجح فيها من حيث الدليل خلاف الراجح في المذهب. وإذا ظهر لأحد القضاة وجه للحكم في قضية بخلاف ذلك فعليه الرفع عن وجهة نظره مع ذكر مستنده إلى مرجعه؛ لدراسة ذلك في مجلس

القضاء الأعلى. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. عضو هيئة كبار العلماء صالح بن غصون احتفاظي بالتفصيل الذي جاء في رأيي المدون بالمحضر والتقيد بما ورد فيه ... عضو هيئة كبار العلماء عبد المجيد حسن عضو هيئة كبار العلماء محمد بن جبير عضو هيئة كبار العلماء عبد الله بن منيع ... عضو هيئة كبار العلماء عبد الله خياط عضو هيئة كبار العلماء راشد بن خنين مع احتفاظي بالتفصيل الذي جاء في رأيي المدون بالمحضر والمرفقة صورته

إقامة طابق على شارع الجمرات

(5) إقامة طابق على شارع الجمرات هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم إقامة طابق على شارع الجمرات إعداد اللجنة الدائمة للبعوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على كتاب صاحب الفضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم (127\1) وتاريخ 12\1\1393 هـ، المحال إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء نحو عرض الاستفتاء المرفق على مجلس الهيئة؛ لأن هذا الموضوع من المواضيع الهامة، فأحاله فضيلة الأمين إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وبرفقه خطاب صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة رقم (59\5\7\ أم) وتاريخ 4\1\1393 هـ الموجه إلى معالي وزير العدل، والذي يطلب فيه ما ذكره بقوله: نظرا لتزايد أعداد الحجاج في كل عام، وخاصة في القفزة الكبيرة التي قفزها العدد في موسم حج هذا العام 1392 هـ وما يصادفه الحجاج من ازدحام شديد عند الرجم، وبدراسة الوضع من قبل لجنة الحج العليا - اقترح إحداث طابق ثان على شارع الجمرات، ورفع الشاخص وحوض كل جمرة إلى منسوب يمكن الرجم من الطابق الثاني؛ وذلك لإتاحة المجال للرجم من أسفل ومن أعلى؛ تخفيفا للضغط، وحفاظا

على الأرواح التي قد تزهق نتيجة لهذا الضغط، وأن يتم التنفيذ إذا كان ذلك يتفق والوجهة الشرعية، وقد أوصت اللجنة بالكتابة لمعاليكم لإبداء الوجهة الشرعية في ذلك، وطلب الجواب على ذلك، بناء على ذلك، وعلى البرقية عدد (أم \141) وتاريخ 7\1\1393 هـ، والتي فيها اقتراح اللجنة العليا للحج بناء حوض خارجي عن الحوض الحالي للجمار مع بقاء الحوض الأول؛ ليجتمع فيه للحصى الذي لا يستوعبه الحوض الأول. . أعدت اللجنة ما يأتي: أن هذه الاقتراحات تشتمل على أربعة أمور: على بناء طابق على شارع الجمرات، وعلى رفع شاخص الجمرات وجدار الحوض، وعلى رمي الجمرات من أعلى الطابق، وتوسعة حوض المرمى بوضع حوض خارجي مع بقاء الأول. 1 - أما رمي الجمرات من فوق الطابق، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رمى جمرة العقبة من فوقها خشية الزحام، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم. وأما ما روى عبد الرحمن بن يزيد من أنه مشى مع عبد الله بن عمر وهو يرمي الجمرة، فلما كان في بطن الوادي أعرضها فرماها، فقيل له: إن ناسا يرمونها من فوقها، فقال: «من ها هنا والذي لا إله إلا هو رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة رماها (¬1) » متفق عليه - فإنه حث على الفضيلة في الرمي من جهة بطن الوادي عند السعة، فإذا رماها الحاج في الحوض من فوق طابق أقيم على بطن الوادي - ولو في السعة - فقد أتى بالفضيلة، فإنه رمى من الجهة التي رمى منها النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكب ¬

_ (¬1) صحيح مسلم كتاب الحج (1296) ، سنن الترمذي الحج (901) ، سنن النسائي مناسك الحج (3073) ، سنن أبو داود المناسك (1974) ، سنن ابن ماجه المناسك (3030) .

راحلته، والذي استنكر إنما هو رمي جمرة العقبة في الحوض من الخلف والناس في سعة، وأما عند الضيق وشدة الزحام فللحاج أن يرمي في الحوض ولو من غير جهة بطن الوادي، سواء كان في مكان مساو لبطن الوادي أو أعلى منه، ثم إن القاعدة المقررة عند الفقهاء: أن من ملك أرضا ملك تخومها وما فوقها من الفضاء، فما فوق بطن الوادي تبع له، فمن رمى من أعلى الطابق الذي بني على الوادي فهو في حكم من رمى من بطن الوادي، وبهذا يكون قد أتى بفضيلة الرمي من الجهة التي رمى منها صلى الله عليه وسلم. 2، 3 - وأما بناء طابق على شارع الجمرات ورفع الشاخص وجدار الجمرة. . فيمكن أن يقال: ليس فيه مخالفة للشريعة، بل سماحة الشريعة توجبه وتقتضيه في هذه السنوات التي تزايد فيها عدد الحجاج إلى حد يوقع في الحرج، بل تزهق فيه الأرواح، ففي إقامة مثل هذا الطابق دفع للحرج، وحفظ للنفوس، وتيسير لأداء النسك على حجاج بيت الله الحرام. وليس هذا البناء من جنس البناء بمنى للتملك أو الارتفاق الخاص، بل هو من المرافق العامة التي تسهل أداء نسك الرمي مع الراحة وسلامة النفوس، وفي رفع الشاخص وجدار حوض الجمرة إلى حد يمكن معه الرمي من أعلى الطابق ومن أسفله إعانة لمن فوق الطابق على معرفة مكان رمي الحصيات، وسهولة رميها من غير أن يخل ذلك بسهولة الرمي على من كان أسفل الطابق. 4 - وأما توسعة دائرة المرمى بحيث تتسع لوقوف أكثر عدد ممكن من

الحجاج، وأن تبقى دائرة المرمى الحالية كما هي عليه من السابق، أي: أن المقصود هو عمل حوض خارجي أوسع من الحالي تتجمع فيه الجمرات التي لا يستوعبها الحوض الحالي - فإن حكم ذلك يتبين من الكلام على سبب مشروعية الرمي وبيان موضع الرمي، والأصل في مشاعر الحج، وبيان المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار مساحة الأرض - لهو الأساس لامتناع بناء حوض خارجي أوسع من الحالي تتجمع فيه الجمرات التي لا يستوعبها الحوض الحالي. وفيما يلي بيان ذلك:

سبب المشروع

1 - سبب المشروع: من المعلوم أن الله جل وعلا ما شرع شيئا إلا لحكمة، وليس هذا هو الغرض الذي يراد بيانه، وإنما الذي يراد بيانه ما رواه الإمام أحمد في [المسند] قائلا: حدثنا سريج ويونس قالا: حدثنا حماد - يعني: ابن سلمة - عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس - وساق الحديث إلى أن قال -: «ويزعم قومك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة، وأن ذلك سنة، قال: صدقوا، إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة، فعرض له شيطان - قال يونس: الشيطان - فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات - ثم ساق بقية الحديث إلى أن قال: قال: ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان، فرماه

بسبع حصيات حتى ذهب (¬1) » - الحديث (¬2) . درجة هذا الحديث وبيان طبقات رجاله، وذكر من أخرجه غير الإمام أحمد: قال أحمد شاكر في بيان درجته: إسناده صحيح، أبو عاصم الغنوي ثقة، وثقه ابن معين، وترجمه البخاري في [الكنى] كعادته رقم (527) ، وأشار إلى هذا الحديث كعادته في إشاراته الدقيقة، قال: (أبو عاصم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، قال: الذبيح، قال حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وصححه الهيتمي (¬3) . بيان طبقات سنده: الأولى: سريج بن النعمان بن مروان الجوهري اللؤلؤي، قال (¬4) ابن حجر: قال المفضل الغلابي عن ابن معين: ثقة، وسريج بن يونس أفضل منه، وقال العجلي: ثقة، وقال أبو داود: ثقة حدثنا عنه أحمد بن حنبل، غلط في أحاديث، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن مسعد: كان ثقة. . . قال ابن حجر: قلت: وقال الحاكم عن الدارقطني: ثقة مأمون، وقال ابن حبان في [الثقات] : يكنى أبا الحارث، ورمز له ابن حجر بأنه روى له البخاري والأربعة. ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/298) . (¬2) [المسند] (4\247-249) ، طبعة شاكر. (¬3) [المسند] ، (4\247-248) ، طبعة شاكر. (¬4) [تهذيب التهذيب] (3\457) .

الثانية: حماد بن سلمة، قال (¬1) ابن حجر: حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره من كبار الثامنة. الثالثة: أبو عاصم الغنوي، قال (¬2) ابن حجر: أبو عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس في الرمل وغيره، وعنه حماد بن سلمة، قال أبو حاتم: لا أعرف اسمه ولا أعرفه، ولا حدث عنه سوى حماد، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة (د) . وقال (¬3) ابن حجر أيضا: أبو عاصم الغنوي: بالمعجمة والنون مقبول من الخامسة، وقال (¬4) الخزرجي: أبو عاصم الغنوي: بفتح المعجمة والنون عن أبي الطفيل، وعنه حماد بن سلمة فقط، وثقه ابن معين (د) . الرابعة: أبو الطفيل، وهو أحد الصحابة كما ذكره ابن حجر (¬5) ، واسمه عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي، أبو الطفيل، ذكر من أخرجه غير الإمام أحمد: أخرجه (¬6) الحاكم بسنده مختصرا عن ابن عباس رفعه، وقال بعد إخراجه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورمز له الذهبي في [تلخيصه لمستدرك الحاكم] بأنه على شرط ¬

_ (¬1) [تقريب التهذيب] صـ (135) . (¬2) [تهذيب التهذيب] (12\143) . (¬3) [التقريب] صـ (596) . (¬4) [خلاصة تهذيب تهذيب الكمال] صـ (453) . (¬5) [التقريب] صـ (239) . (¬6) [المستدرك] (1\466) .

مسلم، وأخرجه (¬1) البيهقي من طرق بعضها موقوف وبعضها مرفوع، وذكره الهيتمي في [مجمع الزوائد] في موضعين: الأول: في (3\259) ، وقال بعده: رواه أحمد والطبراني في [الكبير] ورجاله ثقات، والثاني: في (8\200، 201) ، وقال بعده: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عاصم الغنوي وهو ثقة، وساقه ابن كثير (¬2) في تفسيره عن الإمام أحمد من طريقين عن ابن عباس، ولم يتعرض للإسنادين بشيء. ونسبه (¬3) السيوطي إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في [شعب الإيمان] ، عن ابن عباس، وذكر الساعاتي (¬4) : أنه أخرجه الإمام أحمد في [المسند] أيضا عن ابن عباس، وفيه عطاء بن السائب، وقد اختلط. ¬

_ (¬1) [سنن البيهقي] (5\153) . (¬2) [تفسير ابن كثير] (4\15) . (¬3) الدر المنثور، (5\280) . (¬4) [ترتيب المسند] (12\168) .

موضع الرمي

2 - موضع الرمي: وبتأمل ما سبق ذكره على هذا الحديث يظهر أنه يدل على أنه حجة، وهو حجة أيضا على بدء مشروعية الرمي، وعلى بيان مواضع الرمي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى الجمار في هذه المواضع في حجة الوداع، وهو صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني مناسككم (¬1) » ، فصار رميه الجمار في هذه المواضع شرعا دائما إلى يوم القيامة، وقد تلقاه الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا. وفيما يلي بيان كلام ابن منظور في موضع الجمار، ونبذة من كلام بعض ¬

_ (¬1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .

فقهاء المذاهب الأربعة مرتبة حسب الترتيب الزمني لنشأة المذاهب. قال (¬1) ابن منظور: والجمرة: اجتماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر القبائل، ومن هذا قيل لمواضع الجمار التي ترمى بمنى: جمرات؛ لأن كل مجمع حصى منها جمرة، وهي ثلاث جمرات. قال (¬2) القاري: ولو وقف الحصى على الشاخص أي: أطراف الميل الذي هو علامة للجمرة - أجزأه، ولو وقف على قبة الشاخص ولم ينزل عنه؛ فالظاهر أنه لا يجزيه للبعد، كما في [النخبة] بناء على ما ذكره من أن محل الرمي الموضع الذي عليه الشاخص وما حوله، لا الشاخص. وقال (¬3) الحطاب: قال الباجي: الجمرة: اسم لموضع الرمي، قال ابن فرحون في [شرحه على ابن الحاجب] : وليس المراد بالجمرة البناء القائم، وذلك البناء قائم وسط الجمرة علامة على موضعها، والجمرة اسم للجميع. وقال (¬4) النووي: قال الشافعي رحمه الله تعالى: الجمرة: مجتمع الحصى، لا ما سال من الحصى، فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه، ومن أصاب مسايل الحصى الذي ليس هو بمجتمعه لم يجزه، والمراد: مجتمع الحصى في موضعه المعروف، وهو الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو حول ورمى الناس في غيره واجتمع فيه الحصى لم يجزه. ¬

_ (¬1) [لسان العرب] (5\226) . (¬2) [إرشاد الساري إلى مناسك ملا علي قاري] صـ (164) . (¬3) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل 3\134] . (¬4) [الإيضاح وشرحه] ، صـ (410) ، ويرجع أيضا إلى [نهاية المحتاج شرح المنهاج] (3\313) .

قال الهيتمي على قول النووي: الجمرة: مجتمع الحصى، حده الجمال الطبري بأنه ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع فقط، وهذا التحديد من تفهمه، وكأنه قرر به مجتمع الحصى غير السائل، والمشاهدة تؤيده، فإنه مجتمعه غالبا، لا ينقص عن ذلك. وقال أيضا على قول النووي: والمراد: مجتمع الحصى. . . إلخ يدل على أن مجتمع الحصى المعهود الآن بسائر جوانب الجمرتين الأوليين، وتحت شاخص جمرة العقبة - هو الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم، وليس ببعيد، إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يعرف خلافه. . . . . إلخ. وقال (¬1) البهوتي: قد علمت مما سبق أن المرمى: مجتمع الحصى - كما قال الشافعي - لا نفس الشاخص ولا مسيله. وقال (¬2) صاحب [شفاء الغرام] نقلا عن الأزرقي بشأن جمرة العقبة تحت هذه الترجمة (ذكر ما غير من فرش أرض الكعبة) : وكانت الجمرة زائلة عن موضعها أزالها جهال الناس برميهم الحصى، وغفل عنها حتى أزيحت من موضعها شيئا يسيرا منها، ومن فوقها، فردها إلى موضعها الذي لم يزل عليه، وبنى من ورائها جدارا أعلاه عليها ومسجدا متصلا بذلك الجدار؛ لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها. . . ومضى إلى أن قال: والذي أشار إليه الأزرقي بقوله: (فردها) وبقوله: (وبنى) هو: إسحاق بن سلمة الصائغ الذي أنفذه المتوكل العباسي لعمل أمور تتعلق ¬

_ (¬1) [الكشاف] ، (2\450) . (¬2) [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] ، (1\294) .

بالكعبة وغير ذلك.

الأصل في تحديد المشاعر التوقيف

3 - الأصل في تحديد المشاعر التوقيف: فلا دخل للعقل فيها بزيادة أو نقص أو تغيير عن مواضعها، إذ أن تعيين هذه المواضع وتحديدها من قبل الشرع، ومواضع رمي الجمار من ذلك، فلا يزاد فيها عما كان عليه الأمر منذ أن جعلها الله مواضع لأداء العبادات التي شرع أداؤها فيها، وهذا كتحديد أوقات الصلوات الخمس، وتعيين ما لكل صلاة من الوقت، وكذلك أعداد الصلوات وكلمات الأذان.

المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار

4 - المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار مساحة الأرض هو استصحاب العكس أو الاستصحاب المقلوب (¬1) . وحقيقته: ثبوت أمر في الزمن الماضي بناء على ثبوته في الزمن الحاضر، وهو حجة، وهذه المسألة مدار البحث من المسائل المندرجة تحت هذا النوع، إذ إن هذه المواضع المشاهدة هي متحددة الآن، والأصل أنها لم يطرأ عليها تغيير، فثبت لها ذلك في الزمن الماضي، بناء على ثبوته في الوقت الحاضر. ¬

_ (¬1) [مراقي السعود وشرحها] ، صـ (210) ، و [فصول البدائع في أصول الشرائع] (2\388) .

قد يقال لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي

5 - قد يقال: لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي: ومستند المنع هو: قاعدة سد الذرائع، إذ أن بناء هذا الحوض يؤدي إلى التباس المرمى على الناس، فيرمون فيه، والرمي فيه ممتنع؛ لأن هذه القطعة ليست من المرمى، وقاعدة سد الذرائع معلومة من القرآن والسنة، وقد عمل بها أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن احتذى

حذوهم، ويذكرها الأصوليون في باب الاستدلال، وقد (¬1) قررها ابن القيم في [إعلام الموقعين] وبين منها ما يمتنع وما لا يمتنع، وساق لتأييد ما ذكره تسعة وتسعين وجها. ومما يشهد لتوقع التباس المرمى الصحيح على الناس بالحوض الذي سيزاد - ما حصل من الالتباس على الناس حينما أزيل الجبل الواقع شرق العقبة، والذي كان متصلا بها، حيث صار بعض الناس يرمون هذه الجمرة من الجهة الشرقية في غير المرمى. ويمكن أن يستخلص مما تقدم ما يلي: 1 - يجوز بناء طابق على شارع الجمرات ورفع الشاخص وجدار الجمرة بناء على قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) . 2 - يجوز رمي الجمرة من فوق الطابق؛ لفعل عمر رضي الله عنه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه محمول على الأفضلية، ولأن من ملك أرضا ملك تخومها وهواءها، هذا هو المقرر شرعا. 3 - بدء مشروعية الرمي، وبه تحدد موضع الرمي، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار الثلاث في حجة الوداع والصحابة معه، وقال صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (¬2) » ، وتلقى الصحابة رضوان الله عليهم ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وتلقى ذلك عن الصحابة التابعون ومن بعدهم إلى يومنا هذا. 4 - ما سبق من النقول يدل على أن المرمى هو مجتمع الحصى. ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\119) . (¬2) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .

5 - ما قرره الطبري من تحديد مجتمع الحصى بأنه ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع. 6 - أن الأصل في تحديد المشاعر التوقيف: ومن نظائر ذلك أوقات الصلوات الخمس. 7 - مما يدل على بقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار المساحة استصحاب العكس. 8 - لا يجوز بناء حوض خارجي أوسع من الحالي بناء على قاعدة سد الذرائع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار رقم 11 بخصوص بناء طابق على شارع الجمرات وبناء شاخص للجمرات

قرار رقم (11) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد: فبناء على خطاب صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة، ورئيس لجنة الحج العليا رقم (59\5\7\ أم) ، وتاريخ 4\1\1393 هـ، الوارد إلى رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عن طريق وزارة العدل، والذي يطلب فيه إبداء الوجهة الشرعية، وبيان الحكم فيما اقترحته لجنة الحج العليا من بناء طابق على شارع الجمرات، ورفع شاخص الجمرات، ورفع جدار حوض كل جمرة إلى منسوب يمكن معه رمي حصى الجمار من أعلى الطابق ومن أسفله بسهولة. بناء على ذلك درست هيئة كبار العلماء هذا الموضوع، وما أعدته اللجنة الدائمة من البحث عليه، ورأت بالاتفاق أن يؤجل النظر فيه والبت في حكمه إلى دورة أخرى حتى يصل الرسم الهندسي لهذا العمل، والذي سبق أن طلبته الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء؛ لتعرف الهيئة منه تفاصيل الأمر المطلوب وهل يحقق هذا الاقتراح مصلحة من غير استلزام مفسدة

أم لا؟ . وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة الثالثة . ... . ... محمد الأمين الشنقيطي عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

حكم تمثيل الصحابة رضي الله عنهم

(6) حكم تمثيل الصحابة رضي الله عنهم هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم تمثيل الصحابة رضي الله عنهم إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد أحيل إلى هيئة كبار العلماء في رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية - في دورتها الثالثة المنعقدة في شهر ربيع الآخر عام 1393هـ موضوع تصوير حياة (بلال) مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيلم سينمائي. وفي تلك الدورة قدمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع هذا نصه: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه، وبعد: فهذا بحث يتعلق بمسألة حكم تمثيل الصحابة في شكل رواية مسرحية أو فيلم سينمائي قامت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداده تمهيدا لعرض المسألة على مجلس هيئة كبار العلماء في دورتها القادمة إنفاذا لأمر المقام السامي رقم 24\93 وتاريخ 1\1\1393هـ. والله الموفق.

حكم تمثيل الصحابة في مسرحية أو فيلم سينمائي

حكم تمثيل الصحابة في مسرحية أو فيلم سينمائي يحسن بنا قبل تقديم ما تيسر الحصول عليه من أقوال أهل العلم في حكم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم - أن نشير إلى اعتبارات تحسن ملاحظتها أثناء بحث المسألة: الأول: ما لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المكانة العليا في الإسلام: بحكم معاصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم بواجب نصرته وموالاته، والتفاني في سبيل الله ببذلهم أموالهم وأولادهم ونفوسهم، فقد اتفق أهل العلم على أنهم صفوة هذه الأمة وخيارها، وأن الله شرفهم وخصهم بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم في كتابه الكريم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (¬1) الآية، وجاءت الأحاديث الصحيحة بتسجيل فضلهم، وأن لهم قدم صدق عند الله، ففي [صحيح البخاري] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: حدثنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من ¬

_ (¬1) سورة الفتح الآية 29

الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: نعم، فيفتح لهم (¬1) » . وفي [صحيح البخاري] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، "ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن (¬2) » . وفي [الصحيحين] عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن بعض أصحابه رضوان الله عليهم: «لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (¬3) » . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3649) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2532) ، مسند أحمد بن حنبل (3/7) . (¬2) صحيح البخاري المناقب (3650) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2535) ، سنن الترمذي الفتن (2222) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3809) ، سنن أبو داود السنة (4657) ، مسند أحمد بن حنبل (4/427) . (¬3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2540) ، سنن ابن ماجه المقدمة (161) .

الثاني: النظرة العامة إلى مشاهدة التمثيل

الثاني: النظرة العامة إلى مشاهدة التمثيل: من أنه حال من أحوال اللهو والتسلية وشغل فراغ الوقت، فمشاهده في الغالب لا يريد من المشاهدة ما فيه مجال للعظة والتأمل، وإنما يقصد من ذلك إشباع غرائزه بما يشرح النفس، وينسي الهموم، وينقل المرء من حال الجد إلى حال العبث والهزل.

الثالث حال محترفي التمثيل من المناحي المسلكية

الثالث: حال محترفي التمثيل من المناحي المسلكية: إن المتتبع لحياة الممثلين يخرج بنتيجة هي: أن غالبهم سقط من الناس ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة، ولا للأخلاق الإسلامية والعربية محل في دائرة أخلاقهم، ولا للقيم الإنسانية اعتبار عندهم، فإذا

تقمص أحدهم شخصية صالح أو نبيل أو شهم أو عفيف أو جواد - فذلك لأجل ما سيتقاضاه ثمنا لذلك، ثم يعود إلى سيرته الأولى ضاحكا لاهيا ساخرا معرضا عن الجوانب المشرقة في حياتهم.

الرابع أغراض التمثيل

الرابع: أغراض التمثيل: قد لا يختلف اثنان في أن الهدف الأول لأرباب المسارح في إقامة التمثيل فيها المكاسب المادية، ومكاسبهم المادية لا تحصل إلا بمداعبة غرائز المشاهدين وشهواتهم، فإذا عرفنا أن غالب المشاهدين لا يقصدون من مشاهدتهم التمثيل إلا قضاء فراغ أوقاتهم بما فيه العبث واللهو والتسلية، وفهمنا أن الهدف الأول والأخير من التمثيل الكسب المادي - أدركنا أن القائمين على التمثيل سيحرصون على إنماء رصيد مشاهدي مسرحياتهم بتحقيق رغبة المشاهد في إشباع غرائزه العاطفية، وعرض ذلك على شاشات التمثيل وخشبات المسارح.

الخامس اعتياد كثير من المؤرخين في مؤلفاتهم التاريخية على التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية

الخامس: اعتياد كثير من المؤرخين في مؤلفاتهم التاريخية على التساهل في تحقيق الوقائع التاريخية: يضاف إلى أن مجموعة من ذوي الميول المنحرفة والأهواء المغرضة قد نفثوا سمومهم في التاريخ الإسلامي ما بين وقائع تاريخية كاذبة، وتعليلات للجوانب التاريخية في الإسلام ترمي إلى التقليل من القيمة العليا لتضحية المسلمين في سبيل الله، فإذا كانت مادة التمثيل من التاريخ وليس هناك مرجع غيره أمكن تصور وجود الكذب والافتراء على السلف الصالح، لا سيما صفوة هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قرار رابطة العالم الإسلامي بخصوص تمثيل شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيلم

قرار رابطة العالم الإسلامي وقد صدر قرار من رابطة العالم الإسلامي بخصوص تمثيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيلم - استعرض حكم تمثيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نصه: وكما يحرم ذلك كله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يحرم تمثيل الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين باتفاق أهل العلم؛ لشرفهم بالصحبة العظيمة، واختصاصهم بها دون من عداهم من الناس، ولكرامتهم عند الله تعالى وثنائه عليهم في القرآن الكريم، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (¬1) الآية، فهم أحقاء إجماعا بالتكريم والتعظيم والتوقير؛ ولذلك أجمع أهل العلم على حرمة تصويرهم في الأفلام أو على المسارح؛ لما فيه من المنافاة الصارخة لكل ذلك. اهـ. كما صدر قرار من المنظمات الإسلامية العالمية المنعقدة في دورتها في مكة المكرمة في ذي الحجة سنة 1390هـ، جاء فيه ما نصه: قرر المؤتمر استنكاره الشديد لمحاولة إخراج فيلم سينمائي يمثل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأية صورة من الصور أو كيفية من الكيفيات، كما يستنكر تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم، ويناشد المؤتمر كل الحكومات الإسلامية أن تقضي على هذه المحاولة في مهدها. ¬

_ (¬1) سورة الفتح الآية 29

فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا كما صدر ثلاث فتاوى للشيخ محمد رشيد رضا في حكم التمثيل الأخلاقي. الأولى: في حكم التمثيل الأخلاقي وهذا نصها مع سؤالها (¬1) من صاحب الإمضاء الحرفي في (دمشق الشام) ع. . . س: سيدي الأستاذ صاحب المنار الأغر: ما رأي الأستاذ حفظه الله في تمثيل الروايات الأخلاقية التي لا يشوبها ضروب الخلاعة، أو من ظهور النساء حاسرات على المسارح، والتي تحبب الحضور بالفضيلة، وتنفرهم من الرذيلة؟ يجوز لنا أن نعتبر التمثيل غيبة فنحرمه بدعوى أن الغيبة محرمة؟ وهل ورد في النصوص الشرعية تصريحا أو تلميحا ما يدل على حرمة التمثيل الأخلاقي، أو يشير إلى اجتنابه، وعهدنا بهذا النوع من التمثيل أنه خير ما يغرس في النفوس حب الفضائل وكره الرذائل؟ أرجو إجابتي على هذه الأسئلة حتى لا يبقى مجال لتغرير المسلمين باسم الشريعة، ورميها بسهام غير سديدة، هدانا الله بمناركم الوضاح إلى أقوم طريق. الجواب: جاءنا مثل هذا السؤال أيضا من دمشقي آخر أشار إلى اسمه بحرفي (م. ن) ، وجاء في سؤاله: أن للسؤال واقعة حال في دمشق، ¬

_ (¬1) انظر [فتاوى رشيد رضا] (3\1090) ، و [المنار] (14) (1911) \827 - 830.

وهي: أن تلاميذ المدرسة العثمانية بدمشق مثلوا قصة زهير الأندلسي التي تشرح كيفية انقراض المسلمين من الأندلس، فقام بعض الحشوية من طلاب الشهرة، وأصحاب الدعوى يشنعون على المدرسة، ويكفرون تلاميذها ومعلميها، ويزعمون أنهم حاولوا هدم الإسلام بتذكير المسلمين بأسباب انقراض المسلمين من مملكة إسلامية كانت زينة ممالك الأرض بالعلوم والفنون والآداب، وخطبوا بذلك على المنابر في رمضان، وصدق فيهم قول من قال: إن لمتعصبي دمشق في كل رمضان ثورة. أشار السائل الذي نشرنا نص سؤاله إلى ما صرح به السائل الآخر من احتجاج محرمي التمثيل على تحريمه بأنه يتضمن الغيبة، وقال هذا المصرح: إن بعضهم حرم قراءة الجرائد والمجلات بمثل هذا الدليل. نقول: إن صح قولهم: أن تلك القصة أو الواقعة التي مثلت في دمشق، كانت متضمنة لشيء من الغيبة - وهو ما يستبعد جدا - فالمحرم فيها هو الغيبة لا جميع القصة، ولا القصص التي تمثل ولا التمثيل نفسه. وكان الأظهر أن يقولوا: أنها تتضمن الكذب في بعض جزئياتها، وكأنهم فطنوا إلى كون الكذب غير مقصود فيها، ولا يتحقق إلا بالنسبة إلى مجموع القصة إذا كان ما تقرره وتودعه في الأذهان من مغزاها المراد غير صحيح، كأن تصور قصة زهير لقرائها، وحاضري تمثيلها: أن الإسبانيين اضطهدوا المسلمين، وفتنوهم عن دينهم، وخيروهم بين الكفر والخروج من الوطن، ويكون هذا الذي تصوره لم يقع أو وقع ضده. هذه القصص التمثيلية من قبيل ما كتبه علماؤنا المتقدمون من المقامات التي تقرأ في المدارس الدينية وغير الدينية؛ كمقامات البديع، ومقامات

الحريري، وقد كان الحريري رحمه الله تعالى توقع أن يوجد في عصره أمثال أولئك المتنطعين الذين حرموا قصة زهير الأندلسي، فرد عليهم بقولهم في فاتحة مقاماته: على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر (حقد) متجاهل، يضع مني لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأمعن النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات، وأثم رواتها في وقت من الأوقات، ثم إذا كانت الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات، فأي حرج على من أنشأ ملحا (¬1) للتنبيه، لا للتموين، ونحا بها منحى التهذيب، لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم، وهدي إلى صراط مستقيم (¬2) . فهو يقول: إنه لم يعرف عن أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ككتاب [كليلة ودمنة] وغيره؛ لأن المراد بها الوعظ والفائدة، وصورة الخير في جزئياتها غير مرادة، وما سمعنا بعده أيضا أن أحدا من العلماء حرم قراءة مقاماته، ولكن اجتهاد بعض المغرورين بالحظوة عند العوام، يتجرءون على تحريم ما لم يحرمه ¬

_ (¬1) وردت في المنار (مقامات) . (¬2) [مقامات الحريري] تحقيق سلفستر دي ساسي. باريس - دار الطباعة الملكية 1822 صـ (11، 12) .

الله ورسوله، ولا حرم مثله أحد من علماء الملة، وهم مع هذا يتبرءون بألسنتهم من دعوى الاجتهاد واسم الاجتهاد، ويشنعون على من يقول: إنه يمكننا أن نعرف الأحكام بأدلتها الشرعية، فهم يعترفون بأنهم ليسوا أهلا للاستدلال، ولا لمعرفة حكم بدليله، ويدعون أنهم مقلدون لبعض الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم، فليأتونا بنص من أولئك الأئمة على تحريم ما حرموه إن كانوا صادقين. ثم نقول من باب الدليل: قد فسر الحرام في بعض كتب الأصول بأنه: خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، فليأتونا بخطاب الله المقتضي بتحريم تمثيل الوقائع الوعظية والتهذيبية، أما أصول المحرمات في الكتاب، فقد بينها الله تعالى بالإجمال في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1) أفلا يخشى أولئك المتجرئون أن يكونوا من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، الذين قال فيهم أيضا: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (¬2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس (¬3) » الحديث، وهو في [الصحيحين] والسنن كلها من حديث خيار الآل والصحب علي وولده الحسين والعبادلة الثلاثة وعمار والنعمان بن بشير رضي الله عنهم. فإذا كان الحرام بينا، فكيف يخفى منه مثل هذا الحكم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 33 (¬2) سورة النحل الآية 116 (¬3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .

على جميع المسلمين في هذه القرون الطويلة، ولا يهتدي إليه إلا أولئك المضيقون في هذا العام؟ ‍! إننا لا نرى وجها ما لهذا التحريم، ولو سلمنا أن في القصة الممثلة كلاما يصح أن يعد غيبة أو كذبا، فإنا نعلم أن في كثير من كتب الحديث والفقه والوعظ أحاديث موضوعة، ولم يقل أحد أن ذلك يقتضي تحريم تأليف تلك الكتب وقراءتها وطبعها، وفي كتب الحديث طعن في الرجال فهل نحرم علم أصول الحديث؟ ألا إنه ليحزننا أن يكون لأمثال هؤلاء المفتاتين المتنطعين كلمة تسمع في مدينة دمشق الفيحاء التي هي أجدر البلاد بأن تكون ينبوعا لحياة الدين والعلم والارتقاء في سورية وجزيرة العرب كلها، وما آفتها إلا نفر من المتنطعين قد جعلوا الدين عقبة في طريق الارتقاء العلمي والعملي، فنسأل الله تعالى أن يلهمهم الرشد، ويهديهم طريق القصد، وأن يبصر العامة كالخاصة في تلك المدينة الزاهرة بحقيقة أمرهم حتى لا تتبع كل ناعق منهم. والثانية: في حكم تمثيل حياة بعض الصحابة، وهذا نصها مع سؤالها: السؤال: هل يجوز تمثيل حياة بعض الصحابة على شكل رواية أدبية خلقية تظهر محاسن ذلك الصحابي الممثل؛ لأجل الاتعاظ بسيرته ومبادئه العالية مع التحفظ والتحري لضبط سيرته دون إخلال بها من أي وجهة كانت أم لا؟ الجواب: لا يوجد دليل شرعي يمنع تمثيل الصحابة أو أعمالهم الشريفة بالصفة المذكورة في السؤال (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر [فتاوى رشيد رضا] (6\2348) .

والثالثة: في حكم التمثيل العربي وتمثيل قصص الأنبياء، وهذا نصها (¬1) : التمثيل العربي: اشتغال المرأة المسلمة به وتمثيل قصص الأنبياء [المنار] (20 (1917) \ 310- 316) . من صاحب الإمضاء بمصر محمد محمد سعفان طالب بمدرسة القضاء الشرعي. بسم الله الرحمن الرحيم: إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا. جمعتني النوادي بطائفة من المتعلمين الذين قلما يخلو مجلسهم من البحث، وبأية مناسبة - دار بيننا ذكر التمثيل العربي، وبسطنا على بساط بحثنا (¬2) المرأة المسلمة والتمثيل؛ تمثيل روايات الأنبياء عليهم السلام عموما، وخاتمهم خصوصا، فقر رأى فريق منا على جواز ذلك كله؛ إذ لا تتم أدوار التمثيل وفصوله إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، وأي مانع يمنع تمثيل روايات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، عموما وخاتمهم خصوصا، وهو لم يخرج عن كونه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل ممن يصادفه أو يجد له أثرا، ومنع فريق آخر ذلك وعده نوعا من التقليد الإفرنجي الذي يستحوذ على بعض البسطاء فيعدونه مفتاح تمدن الأمة، في حين أنه شر عليها وعلى أخلاقها الذاتية. فهذا ما كان من الفريقين، أما أنا كاتب هذه السطور فقد أعلنت الحيدة حتى أسترشد برشدكم أو أستنير بفتيا ¬

_ (¬1) انظر [فتاوى رشيد رضا] (4\1418) . (¬2) [المنار] (20 (1917) \310 - 316)

مناركم، والسلام. الجواب: قلت: هدانا الله وإياك بحجة الصواب في الحكم، وعصمنا أن نقفو ما ليس لنا به علم: إن بعض الأندية جمعك بطائفة من المتعلمين البحاثين، وأنهم ذكروا (التمثيل العربي) فاختلفوا في جواز اشتغال المرأة المسلمة به، وفي جواز تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة وخاتمهم خاصة، فقالت طائفة منهم: بجواز الأمرين، وعللوا الأول: بأن أدوار التمثيل وفصوله لا تتم إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مسارح التمثيل، وعللوا الثاني: بأنه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل من يصادفه أو يجد له أثرا، وقالت طائفة أخرى بمنع الأمرين، وعدوه من التقليد الإفرنجي الضار، الذي يغتر به الأغرار، وقلت: إنك وقفت حتى تستفتي المنار، فهاك ما أفهمه في المسألتين بالاختصار. لم يأت فريق المجيزين بشيء من العلم، يدل على ما جزموا به من الحكم، فإن سلمنا لهم أن التمثيل لا يتم إلا بالمرأة لا نسلم لهم أن جوازه يستلزم جواز اشتغال المرأة المسلمة به، بل نسألهم ماذا يعنون بهذا التمام؟ وهل يعتد به شرعا؟ ولماذا لا يستغنى فيه بالمرأة غير المسلمة التي تستبيح من أعماله ما لا يباح للمسلمة؟ وبأي حجة جعلوا القول بجواز التمثيل الذي ينقصه وجود المرأة المسلمة أصلا بنوا عليه القول بجواز اشتغالها بالتمثيل، وهل يعدو التمثيل المطلق أن يكون مباحا أو مستحبا بشرط خلوه من فعل الحرام وذرائع الفساد، واشتماله على الوعظ النافع والإرشاد؟ أو ليس الصواب أن يقال - والأمر كذلك-: إن التمثيل الذي يتوقف على قيام

المرأة المسلمة ببعض أعماله على الوجه المعروف في دور التمثيل بمصر غير جائز؛ لأن ما توقف على غير الجائز فهو غير جائز، أو لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟

اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل

اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل إن اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل المعروف يشتمل على منكرات محرمة، منها: ظهورها على أعين الرجال متبرجة كاشفة ما لا يحل كشفه لهم من أعضائها؛ كالرأس والنحر وأعالي الصدر والذراعين والعضدين، وتحريم هذا مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا حاجة إلى ذكر النصوص فيه. ومنها: الاشتراك مع الرجال الممثلين في أعمال تكثر في التمثيل، وإن لم تكن من لوازمه في كل قصة؛ كالمعانقة، والمخاصرة، والملامسة، بغير حائل. ومنها: غير ذلك من المنكرات التي تشتمل عليها بعض القصص دون بعض؛ كالتشبه بالرجال، وتمثيل وقائع العشق والغرام المحرم، بما فيه من الأعمال المحرمة لذاتها، أو لكونها ذريعة إلى المحرم لذاته. ولا أنكر أنه يمكن للكاتب العالم بأحكام الشرع وآدابه أن يكتب قصة تمثيلية يودع بعض فصولها أعمالا شريفة، وأقوالا نافعة، إذا مثلتها امرأة مسلمة تبرز في دار التمثيل غير متبرجة بزينة، ولا مبدية لشيء مما حرم الله إبداءه من بدنها، ولا آتية بشيء من أعمال الفساد ولا من ذرائعه - فإن

تمثيلها يكون بهذه الشروط مباحا أو مستحبا. مثال ذلك: أن تؤلف قصة في الترغيب في الحروب للدفاع عن الحقيقة وحماية البلاد عند وجوبها باعتداء الأعداء عليها، ويذكر فيها ما روي عن الخنساء رضي الله عنها في حث أبنائها على القتال بالنظم والنثر، فمن ذا الذي يتجرأ على القول بتحريم ظهور امرأة تمثل الخنساء في مثل تلك الحال، التي هي مثال الفضيلة والكمال؟! ولكن إمكان وضع مثل هذه القصة وهو من الممكنات التي لم تقع لا يبنى عليه القول بإطلاق جواز ما هو واقع من التمثيل المشتمل على ما ذكرنا وما لم نذكر من المنكرات المحرمة والمكروهة شرعا. وأما تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد عللوه بأنه درس وعظ مؤثر، يعنون أن كل ما كان كذلك فهو جائز، وهذه الكلية المطوية ممنوعة، وتلك المقدمة الصريحة غير متعينة، فإن هذه القصص قد توضع وضعا منفرا، فلا تكون وعظا مؤثرا، وإن من الوعظ المؤثر في النفوس ما يكون كله أو بعضه باطلا، وكذبا وبدعا، أو مشتملا على مفسدة أو ذريعة إليها، ويشترط في جواز الوعظ أن يكون حقا لا مفسدة فيه، ولا ذريعة إلى مفسدة. وبناء على هذا الأصل ننظر في هذه المسألة من وجوه: أحدها: أن العرف الإسلامي العام يعد تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إهانة لهم أو مزريا بقدرهم، ومما أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض النصارى كانوا أرادوا أن يمثلوا قصة يوسف عليه السلام في بعض المدن السورية فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورفع الأمر

إلى الآستانة، فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل القصة وأمثالها. فإن قيل: إن بعض مسلمي مصر كأولئك المتعلمين القائلين بالجواز لا يعدون ذلك إهانة ولا إزراء، إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الأنبياء أو الإزراء بهم أقل ما يقال فيه: إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفرا صريحا وردة عن الإسلام. نقول: إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي تربى على آداب الإسلام وأحكامه، لا بالأفراد القلائل، ومن غلبت عليهم التقاليد الإفرنجية، حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية، كذلك القاضي الأهلي الذي حكم ببراءة أستاذ مدرسة أميرية غازل امرأة محصنة وتصباها، وكاشفها بافتتانه بجمالها، حتى هجره الرقاد، وواصله السهاد، فشكت المحصنة هذه الوقاحة إلى زوجها فرفع الزوج الأمر إلى قاضي العقوبات طالبا تعزير ذلك العادي المفتات، فكان رأي القاضي أن مغازلة المحصنات الحسان وتصبيهن، يحتمل ذلك الكلام الذي يفسدهن على أزواجهن، لا يقتضي سجنا ولا غرامة، ولا تأنيبا، ولا ملامة؛ لأنه إظهار لحب الحسن والجمال، وهو من ترقي الذوق وآيات الكمال، ولكن ما رآه هذا القاضي المتفرنج حسنا وكمالا، رآه السواد الأعظم من المسلمين نقصا قبيحا، وأنكره عليه في الجرائد، حتى منعتها مراقبة المطبوعات من التمادي في الإنكار، واستأنف الزوج الحكم فنقضه الاستئناف، وحكم بأن كلام ذلك الأستاذ جريمة منافية للآداب. ولو حاول بعض أجواق التمثيل تمثيل قصة أحد الرسل الكرام- عليهم الصلاة والسلام- لرأوا من إنكار العلماء

والجرائد ما لا يخطر ببال أولئك الأفراد الذين يرون جوازه، ولو وقع مثل ذلك في بلد لم تذلل أهله سيطرة الحكام لما كان إلا مثارا للفتنة، ولتصدي الناس لصد الممثلين بالقوة، بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يزري بمقامهم، ويضع من قدرهم، وأن أحدا من هؤلاء الكبراء لا يرضى لنفسه ذلك. الوجه الثاني: أن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة، وأرقاهم في الصناعة- لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراء بهم على إطلاقه، أفلا يعدون من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم: أن يسمى: (السي فلان) أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله، أو موسى كليم الله، أو عيسى روح الله، أو محمدا خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله، ما قولك في كذا. . . فيقول كذا. . . ولا يبعد بعد ذلك أن يخاطبه بعض الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية، أو من باب التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثما، فيقول له: مدد يا رسول الله! ألا إن إباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدي إلى مثل هذا، وكفى به مانعا لو لم يكن ثم غيره. الوجه الثالث: تمثيل الرسول في حالة أو هيئة تزري بمقامه ولو في أنفس العوام، وذلك محظور، وإن كان تمثيلا لشيء وقع. مثل ذلك: أن يمثل بعض هؤلاء الممثلين المعروفين يوسف الصديق عليه السلام بهيئة بدوي مملوك تراوده سيدته عن نفسه وتقد قميصه من

دبره، ثم يمثله مسجونا مع المجرمين، ويتجلى النظر في هذا الوجه ببيان مسألة من أعظم المسائل يغفل عنها أمثال أولئك الباحثين الذين ذكرهم المستفتي، وهي: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام بشر، ميزهم الله تعالى بما خصهم به من الوحي، وهداية الخلق إلى الحق، وقد كانت بشريتهم حجابا على أعين الكافرين حال دون إدراك خصوصيتهم، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. وروي عن المسيح عليه السلام: أن النبي لا يهان إلا في وطنه وقومه، وقال بعض العلماء في المعنى: أزهد الناس في الولي أهله وجيرانه، أي: لأنهم قلما يرون منه إلا ما هو مشارك لهم فيه من الصفات والعادات، وأما ما يمتاز به من دقائق الورع والتقوى والمعرفة بالله تعالى فمنه ما هو سلبي لا يفطنون له، ومنه ما هو خفي لا يدركونه؛ ولذلك احتيج في إيمان أكثر الناس بالرسل قبل الارتقاء العقلي إلى الآيات الكونية، وبعده إلى الآيات العلمية، (كالقرآن الحكيم من الأمي) ، والذين يؤمنون بالرسل من بعدهم يسمعون من أخبار آياتهم وخصائصهم وفضائلهم أكثر مما يسمعون من أخبار عاداتهم وصفاتهم البشرية، وبذلك يكون تعظيمهم وإجلالهم لهم غير مشوب بما يضعف الإيمان بهم من تصور شئونهم البشرية، على أن الواجب أن يعرفوا منها ما يحول دون الغلو في التعظيم والإطراء الذي يدفع به الغلاة الأنبياء إلى مقام الربوبية والإلهية، والتفريط في ذلك كالإفراط. فتمثيل أحوال الأنبياء وشئونهم البشرية بصفة تعد زراية عليهم، وازدراء بهم، أو مفضية إلى ضعف الإيمان والإخلال بالتعظيم المشروع - مفسدة من المفاسد التي يحظرها الشرع، فكيف إذا أضيف إليها كون التمثيل في

حد ذاته يعد في العرف العام تنقيصا أو إخلالا ما بما يجب من التكريم - وكون الممثلين من عوام الناس، وقد علمت ما في هذا وذاك. الوجه الرابع: أن من خصائص القصص التمثيلية: الكذب، وأن الكذب على الأنبياء ليس كالكذب على غيرهم، فإذا جاز أن يسند إلى أسماء لا مسميات لها كلام تقصد به العظة والفائدة، كما يحكون مثل ذلك عن ألسنة الطير والوحش، وهو ما احتج به الحريري في فاتحة مقاماته على جواز وضعه لها، وإذا صح أن يقاس على ذلك إسناد مثل ذلك الكلام إلى أناس معروفين من الملوك وغيرهم فيما لا ضرر فيه، ولا إفساد في التاريخ ولا غيره من الحقائق - إذا جاز ما ذكر وصح القياس فلا يظهر جواز مثله في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، على أن في المسألة نصا خاصا لا محل للقياس مع مورده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (¬1) » رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما من حديث سعيد بن زيد، وروي عجزه - وهو: "من كذب علي" إلخ متواترا، وروى أحمد من حديث عمر مرفوعا: «من كذب علي فهو في النار (¬2) » وهو مطلق لم يقيد بالتعمد، وإسناده صحيح، وقياس الكذب على غيره من إخوانه الرسل عليه الصلاة والسلام - جلي، فهو أقرب من قياس الكذب على الرسل على الكذب على العجماوات الذي احتج به الحريري، وأشار إلى اتفاق العلماء على جوازه، والكذب عليهم يشمل ما يحكى عنهم من أقوال لم يقولوها، وما يسند إليهم من أعمال لم يعملوها. فإن قيل: إنه يمكن وضع قصة لبعض الرسل يلتزم فيها الصدق في كل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (1/47) .

ما يحكى عنه أو يسند إليه. قلنا: إن النقل الذي يعتد به عند المسلمين هو نقل الكتاب والسنة، ولا يوجد قصة من قصص الأنبياء في القرآن يمكن فيها ذلك إلا قصة يوسف، وكذا قصة موسى، وقصة سليمان مع ملكة سبأ، إذا جعل التطويل فيهن في غير الحكاية عنهم، والأولى هي التي يرغب فيها الممثلون، ويرجى أن يقبل على حضور تمثيلها الكثيرون، وفيها من النظر الخاص ما بيناه في الوجه الثالث، وأما السنة فليس في أخبارها المرفوعة ولا الموقوفة ما يبلغ أن يكون قصة تصلح للتمثيل إلا وقائع السيرة المحمدية الشريفة، والعلماء بها لا يكاد أحد منهم يقدم على جمع طائفة منها وجعلها قصة تمثيلية، وإذا فتح هذا الباب ووجد منهم من يدخله على سبيل الندرة، لا يلبث أن يسبقه إليه كثير من الجاهلين بالسنة، المتقنين لوضع هذه القصص بالأسلوب الذي يرغب فيه الجمهور، فيضعون من قصص الأنبياء المشتملة على الكذب ما يكون أروج عند طلاب الكسب بالتمثيل، فيكون وضع الصحيح ذريعة إلى هذه المفسدة. فعلم من هذه الوجوه: أن جواز تمثيل قصة رسول من رسل الله عليهم السلام - يتوقف على اجتناب جميع ما ذكر من المفاسد وذرائعها؛ بحيث يرى من يعتد بمعرفتهم وعرفهم من المسلمين أنه لا يعد إزراء بهم، ولا منافيا لما يجب من تعظيم قدرهم، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى من اهتدى بهم.

قرار لجنة الفتوى بالأزهر

قرار لجنة الفتوى بالأزهر كما صدرت فتوى مستفيضة من اللجنة المختصة بالفتوى في (مجلة الأزهر) في عددها الصادر في رجب عام 1374هـ في حكم تمثيل الأنبياء قد يكون في مبررات القول بمنع تمثيلهم ما يصلح مبررا للقول بمنع تمثيل الصحابة، وهذا نص المقصود منه: التمثيل في المسرح: تشخيص الأفراد الذين تتألف منهم القصة أو الرواية التي يراد عرضها على النظارة - تشخيصا يحكيها طبق أصلها الواقع أو المتخيل، أو هو بعبارة موجزة: ترجمة حية للقصة وأصحابها. وقد تلتقط صورة للممثلين في المسرح على شريط خاص يسمونه (الفلم) ليعرض على النظارة في شاشة السينماء. هل يمكن تمثيل الأنبياء؟ لندع القصص المكذوبة على أنبياء الله جانبا، ولنفترض أن التمثيل لا يتناول إلا القصص الحق الذي قدمنا شذرات منه عاجلة، ثم نتساءل: 1 - كيف يمثل آدم أبو البشر وزوجه وهما يأكلان من الشجرة؟ وما هي هذه الشجرة؟ أهي شجرة الحنطة؟ أم هي شجرة التين؟ أم هي النخلة؟ . . . وعلى أي حال نمثلهما وقد طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة؟ وهل نمثل الله تعالى وقد ناداهما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (¬1) ؟ ! أو نترك تمثيله تعالى وهو ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 22

ركن في الرواية ركين؟ ! سبحانك سبحانك، نعوذ بك من سخطك ونقمتك ومن هذا الكفر المبين؟ ؟ ! ! 2 - وكيف يمثل موسى وهو يناجي ربه؟ وكيف يمثل وقد وكز المصري فقتله؟ بل كيف يمثل وقد أحاط به فرعون والسحرة، ورماه فرعون بأنه مهين، ولا يكاد يبين؟ وكيف تمثل العقدة التي طلب من الله أن يحلها من لسانه؟ وما مبلغ كفر النظارة والممثلين إذا أفلتت - ولا بد أن تفلت - منهم فلتة مضحكة أو هازئة حينما يتمثلون الرسولين وقد أخذ أحدهما برأس الآخر وجره إليه؟ وما مبلغ التبديل والتغيير لخلق الله الفطري ليطابق هذا الخلق الصناعي وقد عملت فيه أدوات الأصباغ والعلاج عملها؟ 3 - وكيف يمثل يوسف الصديق وقد همت به امرأة العزيز وهم بها لولا أن رأى برهان ربه؟ وما تفسير الهم في لغة الفن؟ 4 - وكيف يمثل أنبياء الله وأقوامهم يرمونهم بالسحر تارة، وبالكهانة والجنون تارة أخرى؟ بل كيف يمثلون حينما كانوا يرعون الغنم " وما من نبي إلا رعاها "؟ بل كيف يمثلون وقد آذاهم المشركون ولم يستح بعضهم أن يرمي القذر والنجس على خاتم النبيين وهو في الصلاة والكفار يتضاحكون؟ سيقول السفهاء من النظارة - وما أكثرهم - مقالة المستهزئين الكافرين من قبل: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬1) ؟ وسيغضب فريق لأنبياء الله ورسله فيقاتلون السفهاء، وينتقمون منهم، وتقوم المعارك الدينية لا محالة {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬2) . ¬

_ (¬1) سورة الفرقان الآية 41 (¬2) سورة الشعراء الآية 227

تمثيل الأنبياء تنقيص لهم لسنا بحاجة بعد هذا إلى بيان أن من قصص الأنبياء ما لا يستطاع تشخيصه، وأن ما يستطاع تشخيصه من قصصهم فهو تنقيص لهم، وزراية بهم، وحط من مقامهم، وانتهاك لحرماتهم وحرمات الله الذي اختارهم لرسالته واصطفاهم لدعوته. . . لا ريب في ذلك كله ولا جدال. . وهذا كله في القصص الحق الذي قصه الله علينا ورسوله، وأما القصص الباطل - وما أكثره - فهو زور على زور، وكفر على كفر، وهو البلاء والطامة. . وما نظن أن أحدا يستطيع أن يجادل في هذه الحقائق الناصعة. . . وأكبر علمنا أن أول من يخضع لها ويؤمن بها هم أهل الفن أنفسهم، فإنهم أرهف حسا، وأشد إدراكا لمقتضيات التمثيل وملابساته. على أنا لو افترضنا محالا، أو سلمنا جدلا بأن تمثيل الأنبياء لا نقيصة فيه ولا مهانة، فلن نستطيع بحال أن نتجاهل أنه ذريعة إلى اقتحام حمى الأنبياء وابتذالهم، وتعريضهم للسخرية والمهانة، فالنتيجة التي لا مناص منها ولا مفر: أن تشخيص الأنبياء تنقيص لهم، أو ذريعة إلى هذا التنقيص لا محالة. سد الذرائع وسد الذرائع ركن من أركان الدين والسياسة، فقد أجمع العلماء أخذا من كتاب الله وبيان رسوله، على أن من أعمال الناس وأقوالهم ما حرمه الله تعالى؛ لأنه يشتمل على المفسدة من غير وساطة؛ كالغصب والقذف والقتل بغير حق، وأن من الأعمال والأقوال ما حرمه الله سبحانه؛ لأنه

ذريعة إلى المفسدة، ووسيلة إليها، وإن لم يكن هو في نفسه مشتملا على المفسدة، ومن ذلك مناولة السكين لمن يسفك بها دما معصوما، فالمناولة في نفسها عارية عن المفسدة، ولكنها وسيلة إليها، ومن ذلك سب معبودات المشركين وهم يسمعون، فهو في نفسه جائز، ولكنه منع لجره إلى مفسدة، وهي إطلاق ألسنة المشركين بسب الله تعالى؛ ولهذا نهانا الله سبحانه عن هذا السب فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) ومن هذا القبيل تفضيل بعض الأنبياء على بعض، هو نفسه جائز، فقد فضل الله بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، ولكنه يمنع حينما يجر إلى الفتنة والعصبية، وقد تخاصم مسلم ويهودي في العهد النبوي، ولطم المسلم وجه اليهودي؛ لأنه أقسم بالذي اصطفى موسى على العالمين، وأقسم المسلم بالذي اصطفى محمدا على العالمين، فلما بلغت الخصومة خاتم النبيين صلى الله وسلم عليهم أجمعين - غضب حتى عرف الغضب في وجهه، وقال: «لا تخيروني على موسى (¬2) » ، ثم أثنى عليه بما هو أهله، ونهاهم أن يفضلوا بين أنبياء الله تعالى؛ سدا لذريعة الفتن، وحرصا على وقارهم صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كانت الدول تشدد في سد الذرائع وترى ذلك ركنا من أركان السياسة والأمن والنظام والمعاملات الدنيوية، فإنه في العقائد أخلق، وفي مقام النبوة أوجب وأحق. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108 (¬2) صحيح البخاري الرقاق (6517) ، صحيح مسلم الفضائل (2373) ، سنن أبو داود السنة (4671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/264) .

مفاسد تمثيل الأنبياء ومفاسد تمثيل الأنبياء كثيرة نكتفي منها بهذه الأمثلة: 1 - تشكيك المؤمنين في عقائدهم، وتبديد ما وقر في نفوسهم من تمجيد هذه المثل العليا، إذ أنهم قبل رؤية هذه المشاهد يؤمنون حقا بعظمة الأنبياء ورسالتهم، ويتمثلونهم حقا في أكمل مراتب الإنسانية وأرفع ذراها - إذا هم بعد العرض قد هانت في نفوسهم تلك الشخصيات الكريمة، وهبطت من أعلى درجاتها إلى منازل العامة والأخلاط، وقد تقمصهم الممثلون في صور وأشكال مصطنعة مما يتقلص معه ظل الدين والأخلاق. 2 - إثارة الجدل والمناقشة والنقد والتعليق حول هذه الشخصيات الكريمة وممثليها من أهل الفن والمسرح تارة، ومن النظارة تارة أخرى، وها نحن أولا نرى صفحات للفن والمسرح ومجادلات في التعليق والنقد، وأنبياء الله ورسله مثل كلام الله عز وجل، فوق النقد والتعليق. 3 - التهاب المشاعر، وتحزب الطوائف، ونشوب الخصام والقتال بين أهل الأديان كما وقع بين المسلم واليهودي في العصر النبوي، وما أحوجنا إلى الأمن والاستقرار وإطفاء الفتن وتسكينها لا إثارتها وإشعالها. 4 - الكذب على الله ورسله؛ لأن التمثيل أو التخييل ليسا إلا ترجمة للأحوال والأقوال والحركات والسكنات، ومهما يكن فيهما من دقة وإتقان فلا مناص من زيادة أو نقصان، وذلك يجر طوعا أو كرها إلى الكذب والضلال، والكذب على الأنبياء كذب على الله تعالى، وهو

كفر وبهتان مبين، والعياذ بالله. هذه أمثلة من مفاسد تمثيل الأنبياء. . فماذا تفيد الإنسانية من هذا التمثيل إلا الضلال والنكال، وإذا كان الله جلت قدرته قد أعجز الشياطين عن أن يتشبهوا بالأنبياء توقيرا وإعظاما لهم عليهم الصلاة والسلام، كما يدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي (¬1) » ، وسبق أن قلنا: إن الأنبياء إخوة يمس كل واحد منهم ما يمس أخاه، نقول: إذا كان الله سبحانه قد حال بين الشياطين وبين التمثيل بالأنبياء مع أنه أعطاهم القدرة على التشكل كما يهوون، فكيف يستبيح الإنسان لنفسه أن يكون أخبث من الشيطان بتمثيل الأنبياء؟ ! ثم ماذا يكون الشأن إذا اجترأ إنسان على التمثل بالنبي محمد أو غيره واهتاج الناس وأثار شعورهم استياء من الجرأة على قداسة النبوة وخاصة في نفوس النظارة المتدينين؟ ! إن حقا محتوما علينا أن نجل الأنبياء، وأن نجل آل الأنبياء وأصحاب الأنبياء عن التمثيل والتشخيص، واحتراما وإجلالا للأنبياء أنفسهم؛ لأن حرمتهم مستمدة من حرمة الأنبياء، كما أن حرمة الأنبياء مستمدة من حرمة الله عز وجل، وهذا بعض حقهم على الإنسانية جزاء ما صنعوا لها من جميل، وأدوا إليها من إحسان. وجملة القول: أن أنبياء الله تعالى ورسله معصومون بعصمة الله لهم من النقائص الخلقية والخلقية، وأن تمثيلهم تنقيص لهم، أو ذريعة إلى التنقيص لا محالة، وكلاهما مفسدة أو مؤد إلى المفسدة التي من شعبها إثارة العصبيات والفتن التي لا يعلم مداها إلا الله تعالى. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الرؤيا (2276) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3900) ، مسند أحمد بن حنبل (1/400) ، سنن الدارمي الرؤيا (2139) .

وإن في الأدب والتاريخ وتصوير الفضائل ومكارم الأخلاق لميدانا فسيحا للفن والتمثيل، فليتجه إليها الفن ما شاء له الاتجاه، وليبتكر ما شاء له الابتكار، وليدع أنبياء الله ورسله محفوفين - كما حفهم الله تعالى - بالجلال والوقار، وليعمل على أن يكون مفتاحا للخير مغلاقا للشر، فطوبى لمن كان كذلك، والويل ثم الويل لمن يثير غضب الله وسخطه وانتقامه وغيرته لأنبيائه. في قصص الأنبياء كفاية {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1) وأن العبرة لا تزال ماثلة في مواطنها، واضحة في معالمها، ينتفع بها في القرآن الكريم، وصادق الأخبار، ولو شئنا لأطلنا، ولكن في هذا بلاغا. النتيجة من أجل ما قدمنا تقرر في إثبات واطمئنان أنه لا ينبغي ولا يحل بحال أن يشخص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في المسرح، ولا على شاشة السينما. والله نسأل أن يجمع قلوبنا على محبته، وتوقير أنبيائه ورسله، وأن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. والسلام عليكم ورحمة الله ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 111

وبركاته. 10 من جمادى الآخرة سنة 1374 هـ الموافق 3 من فبراير سنة 1955م. عبد اللطيف السبكي مدير التفتيش وعضو جماعة كبار العلماء طه محمد الساكت ... حافظ محمد الليثي من مفتشي العلوم الدينية والعربية ... عبد الكريم جاويش

كما صدرت فتوى من لجنة الفتوى بالأزهر نشر في (مجلة الأزهر) في عددها الصادر بتاريخ محرم سنة 1379هـ عن حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية، هذا نصه: حكم تمثيل الشخصيات الإسلامية، ومن لم يثبت إسلامهم ولهم عون أكيد للنبي الكريم في دعوته. السؤال: ما حكم الشريعة الإسلامية فيمن يمثل الشخصيات الآتية على شاشة التليفزيون؟ : 1 - الصحابة، وهل منهم من يجوز ظهور من يمثله، علما بأن بلالا قد ظهر من يمثله في فيلم (ظهور الإسلام) وخالد بن الوليد في فيلم (خالد بن الوليد) . 2 - بنات النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - أبا طالب ممن لم يثبت إسلامهم، وكان لهم عون أكيد للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وكذلك التابعين وتابع التابعين. 4 - مسلمين ومسلمات لم تثبت صحبتهم للرسول وعلى الأخص طالب بن أبي طالب؟ الجواب: إن التمثيل في ذاته وسيلة ثقافية سواء كان على المسارح أو الشاشة أو التليفزيون، فإن كثيرا من وقائع التاريخ، وأحداث السياسة، ومواقف الأبطال في ساحات الجهاد، والدفاع عن الأوطان ينبغي أن يتجدد ذكرها وينادى بها؛ لتكون فيها القدوة الحسنة للأجيال الحديثة، وخير وسيلة لإحياء تلك الذكريات: أن يكون القصص عنها بتمثيلها

تمثيلا واقعيا، غير أن التمثيل قد يتجاوز الأهداف الجدية، ويتخذ وسيلة للترفيه الممنوع، وبث الدعاية نحو أغراض غير كريمة، وخاصة فيما يتعلق بالتاريخ حول شخصيات من السابقين، والتاريخ يكون مشوبا بما يحتاج إلى تمحيص من العصبيات. وبما أن السابقين من الصحابة رضي الله عنهم لهم مقام كريم، وشأن خاص بين جماعة المسلمين، وبما أن تمثيلهم على المسارح أو الشاشة قد ينحرف بهم إلى ما يمس بشخصياتهم أو عن تاريخهم الحق؛ لما يتعرضون له أحيانا من أكاذيب القصاصين، أو أهواء المتعصبين لبعض ضد البعض الآخر من جراء الفتن والخلافات التي قامت حولهم في أزمانهم، وانقسام الناس في تبعيتهم إلى طوائف وأشياع، بسبب الدسائس بينهم - فإن اللجنة إزاء هذه الاعتبارات تفتي بما يأتي: أولا: عدم جواز من يمثل كبار الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين ومعاوية وأبنائهم رضي الله عنهم جميعا؛ لقداستهم، ولما لهم من المواقف التي نشأت حولها الخلافات وانقسام الناس إلى طوائف مؤيدين ومعارضين. . أما من لم ينقسم الناس في شأنهم؛ كبلال وأنس وأمثالهما - فيجوز ظهور من يمثل شخصياتهم بشرط أن يكون الممثل غير متلبس بما يمس شخصية من يمثله. ثانيا: عدم جواز ظهور من يمثل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته؛ لأن حرمتهم من حرمته عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى في شأن نسائه:

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (¬1) وبناته بذلك أولى. ثالثا: من لم تثبت صحبته من الرجال المسلمين، وكذلك التابعين وأتباعهم - لا مانع من ظهور من يمثل شخصياتهم متى روعي في التمثيل ما من شأنه ألا يخل بكرامة المسلم. وأما النساء المسلمات فيجب الاحتياط في تمثيلهن أكثر مما يحتاط في تمثيل الرجال المسلمين الذين لم نثبت صحبتهم، وعلى المرأة التي تقوم بالتمثيل ألا يوجد مع تمثيلها اختلاط بأجنبي عنها من الرجال، ولا يصحبه كشف ما يحرم كشفه من جسمها، ولا يكون معه تكسر في صوتها، ولا حركات مثيرة للغرائز، ولو مع ستر الجسم، إذا كان الأمر كذلك فلا حرمة في التمثيل، خصوصا إذا كان التمثيل لغرض علمي يعود على الأفراد والأمة بالفائدة. وأما إن صحبه اختلاط بالرجال الأجانب، أو كشف ما لا يحل كشفه من جسمها، أو وجد معه تكسر في صوتها أو حركات مثيرة للغرائز بجسمها ولو مع ستره، أو كان لباسها يحدد مفاتن جسمها - فإن التمثيل حينئذ يكون محرما على من تقوم بهذا التمثيل. رابعا: من لم يثبت إسلامه كأبي طالب وغيره ممن له عون أكيد في دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام ونصرته - لا مانع من ظهور من يمثله إذا روعيت صلة عودته للنبي عليه الصلاة والسلام، بحيث لا يكون في تمثيله ما يخدش مقامه؛ تقديرا لما كان منه نحو الرسول عليه السلام من مناصرة وعون أكيد. اهـ. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 32

قصص الأنبياء في السينما

قصص الأنبياء في السينما صدر بحث للأستاذ محمد علي ناصف نشر في (مجلة الأزهر) في عددها الصادر بتاريخ المحرم عام 1382هـ بعنوان (قصص الأنبياء في السينما) هذا نصه: اعترضت مشيخة الأزهر على فكرة إنتاج فيلم سينمائي يتناول حياة يوسف عليه السلام، وحاول الأستاذ محمد التابعي في مقالين بجريدة الأخبار أن يثبت: أولا: أن رأي رجال الدين في هذا الموضوع لم يتطور، ولم يختلف عن آراء لهم قديمة. ثانيا: أنهم ناقضوا أنفسهم فلم يحتجوا على حديث نشرته صحيفة (الأهرام) في عام 1955م جاء فيه: أن سيسل دي ميل، يبحث عن ممثل يسند إليه القيام بتسجيل (صوت الله) باللغة العربية في الطبعة التي ستوزع على البلاد الإسلامية من فيلم (الوصايا العشر) الذي يخرجه. ويبدو لي أن الأستاذ التابعي على قدر اتصاله بالمشتغلين بصناعة السينما ليس لديه الوقت لمشاهدة إنتاجهم؟ وإلا كان حكمه - وهو الناقد الأريب - أن صناعة السينما عندنا لم تتطور هي الأخرى حتى تتطور الآراء بالنسبة إليها، وحتى يطمئن ويثق رجال الدين والدنيا في مهارة القائمين بها وفي ائتمانهم على إخراج موضوع جدي عن حياة أحد الأنبياء، لقد عاصر الأستاذ التابعي صناعة السينما في مصر

خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ولعله لا يعترض كثيرا حين أذكر أن تسعين في المائة من الإنتاج الحالي يهبط في مستواه الفني عن أول فيلم أخرجه (ستديو مصر) مثلا، وإذا كانت هذه حال السينما عندنا فيجب أن نتردد ونتريث طويلا عن طلب إقحام قصص الأنبياء والرسل في سوق يضرب فيه الفوضى والجهل والارتجال بأوفر سهم. إن الأفلام الدينية لا يجب الترخيص بموضوعاتها بمثل البساطة التي ترخص بها لموضوعات الأفلام الأخرى لأسباب كثيرة: أولها: مكانة مصر في العالم الإسلامي، واعتبار ما يصدر عنها مثلا يحتذى، ولقد سمعت من أحد الدبلوماسيين: أن بعض الأفلام المصرية التي عرضت في أندونيسيا كان لتفاهتها أسوأ الأثر في نفوس الذين شاهدوها؛ لدرجة اضطرت معها سفارتنا هناك إلى التدخل والنصح باتباع سياسة معينة في هذا الشأن، فما بالك إذا كانت هذه الأفلام تعالج موضوعات لها قداستها وجلالها. أفلام دينية يروج لها أعداء الإسلام إن بعض الأفلام الدينية التي رخصنا بصنعها ولا تزال تعرض حتى الآن - لا يرغب أعداء المسلمين في أكثر من الحصول على حق توزيعها، وليت أشك في إخلاص معظم منتجي هذه الأفلام، ولكن الإخلاص وحسن النية لا يعالج بهما القصور الفني، ولقد حشدنا كل الإخلاص والنيات الحسنة في فيلم (خالد بن الوليد) مثلا: ولكني أعتقد أننا نلنا من شخصية

خالد في هذا الفيلم ما عجز عن نيله الروم والفرس، وقد يقال: إن قصة الفيلم مكتوبة في أسلوب وهيكل رائعين، ولكن الكتابة الممتازة لا تكفي وحدها، فمسرحيات (شكسبير) هي هي بنصها على مسرح (الأولدفيك) ، وعلى مسرح (الانشراح) في بغداد، ولكن الفارق بين الأدائين هو نفس الفارق بين ترجمة حياة ينتجها للسينما كل من ستوديو (متروجو لدوين) وستوديو (شبرا) ، والتمثيل الممتاز لا يكفي كذلك وحده ولا يكفي الإخراج، أو التصوير. . إلخ. . فإن العمل السينمائي يتألف من عشرات الحلقات المتصلة التي يجب أن تكون جميعها قوية متماسكة، وفي مستوى متقارب. . ونحن للأسف لم نصل بعد إلى الدرجة التي ننتج فيها فيلما خطيرا تصل نسبة الكمال فيه إلى درجة عالية؛ ولذلك يجب أن تقتصر تجاربنا على الموضوعات العادية، ولا نقحم الدين في هذه التجارب. إن أفلام (الوصايا العشر) و (الرداء) و (كوفاديس) التي ضرب الأستاذ التابعي المثل بها قد تكلف الواحد منها بين ستة ملايين و13 مليونا من الدولارات، وعبئت من أجلها أقوى الطاقات الفنية، ولا يزال أناس يتصدون بالقول، إنما نصنع أفلاما ممتازة على مستوى الأفلام العالمية. والدليل على ذلك: أن أصحاب هذه الأفلام لا يجدون متفرجين لها حتى في بلادنا، ويطالبون الحكومة بأن توفر لهم جمهورا بقوة القانون، والدليل الآخر: أن فيلما واحدا من هذه الأفلام لم ينل جائزة من الدرجة الثالثة في أي مهرجان دولي أو شبه دولي. ويقول فريق أكثر اعتدالا: إن علينا أن نستعين بالخبراء الأجانب في إخراج أفلام عن ظهور الإسلام وفتوحاته وحضارته وأبطاله.

وهذا رأي غير مدروس، فقد ثبت بالتجربة أن العمل الفني عن دين ما يجب أن يضطلع به رجل يعتنق هذا الدين ويؤمن به في قرارته، ولقد كنت في الولايات المتحدة عند عرض فيلم (الوصايا العشر) والذي لا يعرفه أكثر الناس أن النقاد اليهود قابلوا الفيلم بجفوة، ووصفوه بأنه جنسيا أكثر منه دينيا، ونقموا على مخرج الفيلم اختياره لتمثيل دور فرعون نجما محبوبا (يول برينز) أكثر من الذي قام بدور موسى (شارلتون هستون) ، ولو أن (سيسل ديميل) كان يهوديا لتلافى هذا النقد، أو لما كان عمله موضع شبهة. وشبيه بذلك ما قرأته أخيرا عن رفض مدينة (سلبي) بمقاطعة (يوركشير) الإنجليزية تمثالا ضخما للسيد المسيح من صنع المثال اليهودي (أبشتاين) بحجة أن ملامح التمثال تدل على القسوة والفظاظة، إنني أول من يمني النفس بكتابة قصة عمر رضي الله عنه للسينما، ولكن في الوقت ذاته أعتقد أن قصورنا الفني لن يحقق في الوقت الحالي مثل هذه الأمنية، حينما نستطيع أن نخرج أفلاما عن أمجادنا الدينية في نفس المستوى الذي يخرج فيه الغرب أمثال هذه الأفلام عن أمجاده، فإن التردد والاعتراض يكونان وقتئذ خطأ كبيرا. من أجل ذلك أعتقد أن مشيخة الأزهر كانت موفقة في رأيها الخاص في قصة (يوسف الصديق) ، كما كانت كذلك غير متناقضة مع نفسها حينما لم تبادر فتعترض على حديث نشر في (الأهرام) عام 1955م جاء فيه: أن (سيسل ديميل) يبحث عن ممثل يسند إليه القيام بتسجيل (صوت الله) باللغة العربية في الطبعة التي ستوزع من فيلم (الوصايا العشر) في البلاد الإسلامية؛ لأنه ونحن الآن في عام 1959م لم يعرض الفيلم المذكور بعد

في أي بلد إسلامي، وأعتقد أنه لن يعرض أبدا في جمهوريتنا لأسباب أخرى غير الدين، وأغلب الظن أن (حديث الأهرام) المشار إليه لم يكن صحيحا؟ لأنني- للمصادفة- لازمت (مستر ديميل) خلال السنوات الثلاث التي أنتج فيها هذا الفيلم ووقفت على خطته ورأيه في هذا الشأن. . اهـ وقصارى القول: أن من جرم تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ نظرا إلى ما لهم من مكانة عالية عند الله بوأهم إياها في محكم كتابه، وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته، مع ما هو الشأن في التمثيل من اللهو والمجون، وما عليه أكثر الممثلين من الاستهتار والولع بالخيال الكاذب، وعدم تحري الحقائق التاريخية، وما عرف عنهم من مجاراة رواد المسارح وعشاق التمثيل؛ تحقيقا لرغباتهم، وإرضاء لأهوائهم، وإشباعا لميولهم وغرائزهم المنحرفة، أملا في زيادة الكسب بكثرة الوافدين إليهم- ففي تمثيلهم الصحابة مدعاة إلى انتقاصهم، والحط من قدرهم، وذريعة إلى السخرية منهم، والاستهزاء بهم، وفي هذا منافاة للكرامة التي أكرمهم الله بها، ومناقضة للثناء الذي أثنى به عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا مانعا من الدخول لهم هذا المدخل الكريه. ومن أجاز من العلماء تمثيل الصحابة فإنما بنى فتواه على ما جاء في السؤال من أن القصد إظهار مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة، وضبط السيرة، وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ. ومن عرف حال الممثلين وما لهم من أغراض، وحال الوافدين إلى المسارح، وما يهدفون إليه- عرف أن هذا النوع من

التصوير للتمثيل مجرد فرض وتقدير يأباه واقع الممثلين وروادهم، وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم. هذا ما تيسر جمعه وإعداده، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم. اللجة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بمنع تمثيل الصحابة رضي الله عنهم

قرار هيئة كبار العلماء رقم (13) وتاريخ 16\ 4 \ 1393 هـ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1\ 4 \ 1393هـ، و 10\4\1393 هـ قد اطلعت على خطاب المقام السامي رقم (44\ 93\ 1) وتاريخ 1\ 1\ 1393 هـ، الموجه إلى رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والذي جاء فيه ما نصه: نبعث إليكم مع هذا الرسالة الواردة إلينا من طلال ابن الشيخ محمود البسني المكي مدير عام شركة لونا فيلم من بيروت بشأن اعتزام الشركة عمل فيلم سينمائي يصور حياة (بلال) مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرغب إليكم بعد الاطلاع عليها عرض الموضوع على كبار العلماء لإبداء رأيهم فيه وإخبارنا بالنتيجة: وبعد اطلاع الهيئة على خطاب المقام السامي وما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ذلك وتداول الرأي فيه- قررت الهيئة بالإجماع ما يلي: 1 - أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الصحابة، وبين منزلتهم العالية، ومكانتهم الرفيعة. وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى الله تعالى عليهم

به، وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها. 2 - أن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعا للسخرية والاستهزاء به، ويتولاه أناس غالبا ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة، والأخلاق الإسلامية، مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي، وأنه مهما حصل من التحفظ فيشتمل على الكذب والغيبة، كما يضع تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم في أنفس الناس وضعا مزريا، فتتزعزع الثقة بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين، وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم، والجدل والمناقشة في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله، ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الإسلام، ولا شك أن هذا منكر، وكما يتخذ هدفا لبلبلة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم، وكتاب ربهم، وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. 3 - ما يقال من وجود مصلحة، وهي: إظهار مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، مع التحري للحقيقة، وضبط السيرة، وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه؛ رغبة في العبرة والاتعاظ- فهذا مجرد فرض وتقدير، فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين، ورواد التمثيل، وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم. 4 - من القواعد المقررة في الشريعة: أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم، وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه، فمفسدته

راجحة؛ فرعاية للمصلحة، وسدا للذريعة، وحفاظا على كرامة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يجب منع ذلك. وقد لفت نظر الهيئة ما قاله طلال من أن محمدا صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين هم أرفع من أن يظهروا صورة أو صوتا في هذا الفيلم- لفت نظرهم إلى أن جرأة أرباب المسارح على تصوير (بلال) وأمثاله من الصحابة إنما كان لضعف مكانتهم، ونزول درجتهم في الأفضلية عن الخلفاء الأربعة، فليس لهم من الحصانة والوجاهة ما يمنع من تمثيلهم وتعريضهم للسخرية والاستهزاء في نظرهم، فهذا غير صحيح؛ لأن لكل صحابي فضلا يخصه وهم مشتركون جميعا في فضل الصحبة وإن كانوا متفاوتين في منازلهم عند الله جل وعلا، وهذا القدر المشترك بينهم وهو فضل الصحبة يمنع من الاستهانة بهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة الثالثة . ... . ... محمد الأمين الشنقيطي عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن باز إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان العبيد ... محمد الحركان عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

قرار رقم 107 بتحريم إظهار فيلم محمد رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم

قرار رقم (107) وتاريخ 3 \ 11\ 1403هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة العشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف من 25\ 10\ 1402هـ حتى 6\ 11\ 1402هـ اطلع المجلس على الأمر السامي رقم (1244) وتاريخ 26\ 7\ 1402 هـ المتضمن الرغبة الكريمة في قيام مجلس هيئة كبار العلماء بالنظر في موضوع تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتمثيل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وحكم تمثيل الأنبياء وأتباعهم من جانب، والكفار من جانب آخر. بعد صدور الفتوى رقم (4723) وتاريخ 11\ 7\ 1402هـ من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بتحريم ذلك؛ لأن الموضوع من الأمور المهمة والحساسة، ولا يقتصر أثره على هذه الدولة، بل يتعداها إلى سواها من الدول الإسلامية الأخرى، ولأنه سبق أن أجيز مثل هذا العمل من عدد من مشايخ الدول الإسلامية، وبما أنه سوف يترتب على البت فيه كثير من الأمور التي لها مساس بوسائل الإعلام المختلفة، وما يترتب على ذلك إنتاج وبث كثير من البرامج أو منعها نهائيا، ولأن بعض الدول الإسلامية قد تأخذ المملكة قدوة في ذلك إذا درس من قبل مجلس هيئة كبار العلماء. ولما استمع المجلس إلى فتوى اللجنة الدائمة رأى أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل فأجل البت فيه إلى دورة أخرى. وفي الدورة الثانية والعشرين المنعقدة بمدينة الطائف من العشرين من

شهر شوال حتى الثاني من شهر ذي القعدة عام 1403 هـ أعاد المجلس النظر في الموضوع ورجع إلى قراره السابق رقم (13) وتاريخ 16\ 4\1393هـ، وإلى الكتاب المرفوع من المجلس بتوقيع رئيس الدورة الخامسة إلى جلالة الملك فيصل رحمه الله برقم (1875 / 1) وتاريخ 27\ 8\ 1394 هـ المتضمن تأييد مجلس هيئة كبار العلماء لما قرره مؤتمر المنظمات الإسلامية من تحريم إظهار فيلم محمد رسول لله، وإخراجه، ونشره، سواء فيما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو بأصحابه الكرام رضي الله عنهم؛ لما في ذلك من تعريض مقام النبوة، وجلال الرسالة، وحرمة الإسلام، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم للازدراء والاستهانة والسخرية، وبعد المناقشة وتداول الرأي قرر المجلس تأييد رأيه السابق الذي تضمنه القرار والكتاب المشار إليهما آنفا. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة . ... . ... عبد العزيز بن صالح عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن ... راشد بن خنين عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان ... عبد الله بن غديان . ... . ... عبد الله بن قعود

إقامة أكشاك في منى

(7) إقامة أكشاك في منى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم إقامة أكشاك في منى إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه، وبعد: فبناء على المعاملة الواردة من وزارة الداخلية برقم (17\ 23301) وتاريخ 29\ 6\ 1393 هـ بخصوص طلب بعض المطوفين إقامة أكشاك في منى من دورين لاستيعاب قدر أكبر من الحجاج، وتوجيه جلالة الملك حفظه الله في خطابه رقم (13212) وتاريخ 4\6\ 1393 هـ بأن يؤخذ رأي المشايخ في هذا الخصوص. وبناء على ما تقرر من عرض الموضوع على هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة، وبناء على المادة (7) من لائحة سير العمل لدى الهيئة. أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيما يتعلق بذلك. ونظرا لعدم ورود نص صريح في الكتاب والسنة يتبين منه حكم ذلك- رأت اللجنة أن تشير إلى ما كان عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما جرت عليه الأمة بعده من ضرب خيام بمنى في موسم الحج، وأن تذكر ما ورد في السنة من النهي عن البناء في منى، وأن منى مناخ من سبق، وتذكر طرفا من كلام الفقهاء؟ عسى أن يكون في المقارنة بين إقامة الأكشاك،

وبين ما ذكر تقريب للحكم في هذه المسألة، وفيما يلي بيان ذلك: من المعلوم أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة نص صريح يدل على حكم إقامة أكشاك من خشب ونحوه بمنى في موسم الحج؛ رغبة في التوسعة على الحجاج، وحلا لمشكلة الزحام التي تزداد باطراد في منى كل عام أيام رمي الجمرات، لكن ثبت أن الخيام كانت تضرب بمنى أيام النزول؛ لأداء النسك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر العمل على ذلك إلى يومنا، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء في منى، وأنه قال: «منى مناخ من سبق (¬1) » ، وكره أهل العلم قديما وحديثا البناء بها، ونصوا على المنع من ذلك. وعلى هذا فيمكن لقائل أن يقول: إن إقامة أكشاك بمنى إن كان على وجه يصعب معه حلها بعد تركيبها، أو لا يتأتى معه حلها بعد تركيبها إلا بعناء- فإقامتها أشبه بالبناء منها بالخيام، وهي إليه أقرب؛ لغلبة القصد إلى الدوام في مثل ذلك، فتعطى حكم البناء، وإن كانت إقامتها على حال يسهل معها الحل بعد التركيب- فهي إلى ضرب الخيام أقرب، وبه أشبه، فتعطى حكم الخيام، فإن كلا منهما يغلب فيه عدم القصد إلى الدوام والاستقرار، ويبعد أن ينتهي إلى دعوى التملك والاختصاص، إنما أقيم مؤقتا؛ لينزل به الحجاج أياما معدودة. ولقائل آخر أن يقول: إن إقامة الأكشاك بمنى ملحق بالبناء على كل حال، أما إلحاقها به في الحال الأولى فلما ذكر من قوة شبهها به في القصد إلى الدوام، والإشعار بالتملك أو الاختصاص، إذ لا فرق فيما أقيم على هذا الوجه بين أن يكون من حجارة أو أخشاب أو نحوهما. وأما الحالة ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/207) ، سنن الدارمي المناسك (1937) .

الثانية فإنها وإن كانت شبيهة بضرب الخيام من جهة سهولة فكها بعد تركيبها، وإزالتها بعد إقامتها- غير أنها قد تفضي على مر الأيام وطول العهد إلى الإبقاء عليها في مكانها، وتنتهي إلى الطمع في سكناها، ودعوى تملكها أو الاختصاص بها، ومن القواعد العامة في الشريعة: سد ذرائع المحظورات، والقصد إلى حماية الناس من المحرمات، والتحذير من الحوم حول حماها خشية الوقوع فيها، كما دل عليه حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه (¬1) » . . . إلى آخر الحديث. فينبغي منع ذلك. وجملة القول: أن المسألة نظرية للاجتهاد فيها مجال؛ لترددها بين مباح ومحظور، وأخذها بطرف من الشبه بكل منهما، شأنها في ذلك شأن كثير من مسائل الفقه التي تندرج تحت قياس الشبه، أو يرجع في بيان حكمها إلى القاعدة القائلة: (الأمور بمقاصدها) ، ومنها: سد ذرائع المحظورات. وفيما يلي ذكر ما ورد من السنة في حكم البناء بمنى، وطرف من كلام الفقهاء في ذلك: في [مسند الإمام أحمد] : حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا إسرائيل وزيد بن الحباب، قال: أخبرني إسرائيل - المعني- عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة: ألا نبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .

فقال: «لا، إنما هو مناخ لمن سبق إليه (¬1) » . قال الشيخ أحمد البنا: جاء في رواية ابن ماجه: (بيتا) ، وفي رواية الترمذي: (بناء) ، وفي رواية أبي داود: (بيتا أو بناء) ، كما هنا. أي: لا تبنوا لي بناء بمنى، لأنه ليس مختصا بأحد دون آخر من الناس، إنما هو موضع العبادة من الرمي والذبح والحلق ونحوها يشترك فيه الناس، فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية؛ تأسيا به صلى الله عليه وسلم، فتضيق على الناس، وكذلك حكم الشوارع ومواضع الأسواق. وعند الإمام أبي حنيفة: أرض الحرم موقوفة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة قهرا، وجعل أرض الحرم موقوفة، فلا يجوز أن يتملكها أحد. كذا في [المرقاة] . اهـ. وروى أبو داود بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بمنى بيتا، أو بناء يظلك من الشمس؟ «فقال: "لا، إنما هو مناخ من سبق إليه " (¬2) » . وقال أبو الطيب شمس الحق في شرحه لهذا الحديث: (ألا نبني) من البناء، أي: نحن معاشر الصحابة، "مناخ" بضم الميم، موضع الإناخة، «"من سبق إليه (¬3) » ، والمعنى: أن الاختصاص فيه بالسبق لا بالبناء. وقال الطيبي: معناه: أتأذن أن نبني لك بيتا في منى؛ لتسكن فيه؟ فمنع وعلل: بأن منى موضع لأداء النسك من النحر ورمي الجمار والحلق، يشترك فيه الناس، فلو بني فيها لأدى إلى كثرة الأبنية؛ تأسيا به، فتضيق ¬

_ (¬1) [الفتح الرباني] (13\ 220- 223) الطبعة الأولى (¬2) سنن أبو داود المناسك (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) . (¬3) سنن أبو داود المناسك (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) .

على الناس، وكذلك حكم الشوارع ومقاعد الأسواق. قال المنذري. وأخرجه الترمذي وابن ماجه عن أمه مسيكة، وذكر غيرهما أنها مكية. اهـ (¬1) . وقال ابن القيم: قال ابن القطان: وعندي أنه ضعيف، لأنه من رواية يوسف بن ماهك عن أمه مسيكة، وهي مجهولة، لا نعرف روى عنها غير ابنها. والصواب: تحسين الحديث، فإن يوسف بن ماهك من التابعين، وقد سمع أم هانئ، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وقد روى عن أمه، ولم يعلم فيها جرح، ومثل هذا الحديث حسن عند أهل العلم بالحديث، وأمه تابعية قد سمعت عائشة (¬2) اهـ. وقال ابن ماجه: باب النزول بمنى، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بمنى بيتا؟ «قال: " لا، منى مناخ من سبق (¬3) » . حدثنا علي بن محمد وعمرو بن عبد الله قالا: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة، عن عائشة قالت: قلنا: يا رسول الله، ألا نبني لك بمنى بيتا يظلك؟ قال: «لا، منى مناخ من سبق (¬4) » . وقال الترمذي: باب ما جاء أن منى مناخ من سبق، حدثنا يوسف بن عيسى ومحمد بن أبان قالا: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن ¬

_ (¬1) [عون المعبود، شرح سنن أبي داود] (2\161) الطبعة الهندية. (¬2) [تهذيب سنن أبي داود] (2\438) مطبعة السنة المحمدية. (¬3) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/207) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬4) [سنن ابن ماجه] ص (222) .

مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة، عن عائشة قالت: قلنا يا رسول الله، ألا نبني لك بيتا يظلك بمنى؟ قال: «لا، منى مناخ من سبق (¬1) » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن العربي: باب منى مناخ من سبق- مسألة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلنا: يا رسول الله، ألا أنشئ لك بيتا يظلك من منى؟ قال: «لا، منى مناخ من سبق (¬2) » . قال ابن العربي: قال أبو عيسى. هذا حديث حسن. وهو يقتضي بظاهره أن لا استحقاق لأحد بمنى إلا بحكم الإناخة بها؛ لقضاء النسك في أيامها، ثم يبنى بعد ذلك بها ولكن في غير موضع النسك، ثم خربت فصارت قفراء، وكنت أرى بمدينة السلام يوم الجمعة كل أحد يأتي بحصيره وخمرته فيفرشها في جامع الخليفة، فإذا دخل الناس إلى الصلاة تحاموها حتى يأتي صاحبها فيصلي عليها، فأنكرت ذلك، وقلت لشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي: أيوطن أحد في المسجد وطنا أو يتخذ منه مسكنا؟ قال: لا. ولكن إذا وضع مصلاه كان أحق بذلك الموضع من غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «منى مناخ من سبق (¬3) » . فإذا نزل رجل بمنى برحله ثم خرج لقضاء حوائجه لم يجز لأحد أن ينزع رحله لمغيبه منه. قال ابن العربي: وهذا أصل في جواز كل مباح للانتفاع به، خاصة الاستحقاق والتملك (¬4) . اهـ. وقال عبد الرحمن المباركفوري: قوله: (عن يوسف بن ماهك) بفتح هاء وبكاف ترك صرفه، وعند الأصيلي مصروف- كذا في [المغني] ثقة من ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/207) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬2) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/207) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬3) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/207) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬4) [صحيح الترمذي] (4\111، 112) . ومعه العارضة

الثالثة (عن أمه مسيكة) بالتصغير: المكية لا يعرف حالها من الثالثة، كذا في [التقريب] ، وذكرها الذهبي في [الميزان] في المجهولات. قوله: (ألا نبني لك بناء) ، وفي رواية لابن ماجه: (بيتا) ، (قال: لا) أي لا تبنوا بناء بمنى؛ لأنه ليس مختصا بأحد، إنما هو موضع العبادة من الرمي وذبح الهدي والحلق ونحوها، فلو أجيز البناء فيه لكثرت الأبنية وتضيق المكان، وهذا مثل الشوارع ومقاعد الأسواق، وعند أبي حنيفة: أرض الحرم موقوفة، فلا يجوز أن يملكها أحد، (منى) مبتدأ «مناخ من سبق (¬1) » خبر مبتدأ، والمناخ: بضم الميم، موضع إناخة الإبل. قوله: هذا حديث حسن وأخرجه ابن ماجه والحاكم أيضا، ومدار هذا الحديث على مسيكة، وهي مجهولة كما عرفت (¬2) . ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬2) [تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي] (2\99) الطبعة الهندية. اهـ

وقال الطحاوي: فرأينا المسجد الحرام الذي كل الناس فيه سواء، لا يجوز لأحد أن يبني فيه بناء، ولا يحتجز منه موضعا. وكذلك حكم جميع المواضع التي لا يقع لأحد فيها ملك، وجميع الناس فيها سواء. ألا ترى أن عرفة لو أراد رجل أن يبني في المكان الذي يقف فيه الناس فيها بناء لم يكن ذلك له. وكذلك منى لو أراد أن يبني فيها دارا كان من ذلك ممنوعا، وكذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا الحكم بن مروان الضرير الكوفي، قال: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نتخذ لك بمنى شيئا تستظل به؟ «فقال: "يا عائشة، إنها مناخ

لمن سبق (¬1) » . أفلا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم أن يجعلوا له فيها شيئا يستظل به؛ لأنها مناخ من سبق، ولأن الناس كلهم فيها سواء. حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا الفريابي. ح. وحدثنا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن المهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه، وكانت تخدم عائشة أم المؤمنين، فحدثته عن عائشة مثله. قال: وسألت أمي مكان عائشة رضي الله عنها بعد ما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أن تعطيها إياه. فقالت لها عائشة: لا أحل لك، ولا لأحد من أهل بيتي أن يستحل هذا المكان، تعني: منى. قال أبو جعفر: فهذا حكم المواضع التي الناس فيها سواء، ولا ملك لأحد عليها. اهـ المقصود [ (¬2) . وقال النووي في إجابته عن أدلة من منع بيع أرض مكة، وما في حكمها وكراء دورها: وأما حديث: «منى مناخ من سبق (¬3) » فمحمول على مواتها ومواضع نزول الحجيج منها. اهـ (¬4) . وقال عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي بعد أن ذكر الخلاف في منع بيع دور مكة وكرائها بناء على أنها فتحت عنوة وجواز ذلك بناء على أنها فتحت صلحا: قال ابن عقيل: وهذا الخلاف في غير مواضع المناسك، أما بقاع المناسك- كموضع المسعى والرمي - فحكمه حكم المساجد بغير خلاف. اهـ (¬5) . ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬2) شرح معاني الآثار] (2\224) . (¬3) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/207) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬4) [المجموع] (9\251) الطبعة الأولى. (¬5) [الشرح الكبير] (4\21) .

وقال المرداوي: وعلى الرواية الثانية في أصل المسألة يجوز البيع والإجارة بلا نزاع. لكن يستثنى من ذلك بقاع المناسك؟ كالمسعى، والرمي، ونحوها- بلا نزاع. والطريقة الثانية: إنما يحرم بيع رباعها وإجارتها؛ لأن الحرم حريم البيت والمسجد الحرام، وقد جعله الله {لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬1) فلا يجوز لأحد التخصص بملكه وتحجيره، لكن إن احتاج إلى ما في يده منه سكنه، وإن استغنى عنه وجب بذل فاضله للمحتاج إليه، وهو مسلك ابن عقيل في نظرياته، وسلكه القاضي في خلافه، واختاره الشيخ تقي الدين، وتردد كلامه في جواز البيع فأجازه مرة ومنعه أخرى. اهـ (¬2) . وقال القاضي أبو يعلى: فأما ما طاف بمكة من نصب حرمها فحكمه في تحريم البيع والإجارة حكمها، قال في رواية مثنى الأنباري وقد سأله: هل يشترى من المضارب- يعني: التي بمنى؟ - قال: لا يعجبني أن يشترى ولا يباع، وكذلك الحرم كله. فقد بين أن جميع الحرم حكمه حكم مكة. وقال في رواية أبي طالب: لم يكن لهم أن يتخذوا بمنى شيئا. فإذا اتخذوا فلا يدخله أحد إلا بإذنه، قد كان سفيان اتخذ بها حائطا وبنى فيه بيتين. وربما قال لأصحاب الحديث: بقوها فلا يدخل رجل مضرب رجل إلا بإذنه. وظاهر هذا أنه قد أجاز البناء بمنى على وجه ينفرد به. وقال في رواية ابن منصور: (أما البناء بمنى فإني أكرهه) . فظاهر هذا: المنع. ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 25 (¬2) [الإنصاف، (4\ 289، 290] الطبعة الأولى

فهذا كله إذا قلنا: إنها فتحت عنوة. فأما إذا قلنا: إنها فتحت صلحا فإنه يجوز بيعها وإجارتها. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب فيما تقدم: إذا كانت أرضا حرة مثل مكة وخراسان - فعليهم الصدقة، لأنهم يملكون رقبتها. فقد نص على ملك رقبة مكة، وشبهها بخراسان، ومعلوم أن أرض خراسان يجوز بيعها. اهـ (¬1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد حدثنا بعض الوفد أنهم كانوا يجمعون ببعض أرضكم، ثم إن بعض أهل العراق أفتاهم بترك الجمعة، فسألناه عن صفة المكان، فقال: هنالك مسجد مبني بمدر، وحوله أقوام كثيرون، مقيمون مستوطنون، لا يظعنون عن المكان شتاء ولا صيفا، إلا أن يخرجهم أحد بقهر، بل هم وآباؤهم وأجدادهم مستوطنون بهذا المكان، كاستيطان سائر أهل القرى، لكن بيوتهم ليست مبنية بمدر، إنما هي مبنية بجريد النخل ونحوه، فاعلموا- رحمكم الله- أن مثل هذه الصورة تقام فيها الجمعة، فإن كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا- تقام فيه الجمعة إن كان مبنيا بما جرت به عادتهم من مدر وخشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر ويتنقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا، وهذا مذهب جمهور العلماء. ¬

_ (¬1) [الأحكام السلطانية] ص (175) .

وبقصة أرضكم احتج الجمهور على أبي حنيفة حيث قال: لا تقام الجمعة في القرى - بالحديث المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة بالبحرين بقرية يقال لها جواثى من قرى البحرين، وبأن أبا هريرة رضي الله عنه، وكان عامل عمر رضي الله عنه على البحرين فكتب إلى أمير المؤمنين عمر يستأذنه في إقامة الجمعة بقرى البحرين فكتب إليه عمر: أقيموا الجمعة حيث كنتم. ولعل الذين قالوا لكم: إن الجمعة لا تقام، قد تقلدوا قول من يرى الجمعة لا تقام في القرى، أو اعتقدوا أن معنى قول الفقهاء في الكتب المختصرة: إنما تقام بقرية مبنية بناء متصلا أو متقاربا بحيث يشمله اسم واحد. فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة أو لبن، وهذا غلط منهم، بل قد نص العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به عادة أولئك المستوطنين من أي شيء كان، قصب أو خشب ونحوه. ولهذا فالعلماء الأئمة إنما فرقوا بين الأعراب أهل العمد، وبين المقيمين، بأن أولئك يتنقلون ولا يستوطنون بقعة، بخلاف المستوطنين، وقد كان قوم من السلف يبنون لهم بيوتا من قصب، والنبي صلى الله عليه وسلم سقف مسجده بجريد النخل، حتى كان يكف المسجد إذا نزل المطر. قالوا: يا رسول الله، لو بنينا لك- يعنون: بناء مشيدا- فقال: بل عريش كعريش موسى. وقد نص على مسألتكم بعينها- وهي: البيوت المصنوعة من جريد أو سعف- غير واحد من العلماء منهم أصحاب الإمام أحمد؛ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن الآمدي، وابن عقيل، وغيرهم- فإنهم ذكروا أن كل بيوت مبنية من آجر أو طين أو حجارة أو خشب أو قصب أو

جريد أو سعف فإنه تقام عندهم الجمعة، وكذلك ذكرها غير واحد من أصحاب الشافعي- رضي الله عنهم- من الخراسانيين، كصاحب [الوسيط] فيما أظن، ومن العراقيين أيضا أن بيوت السعف تقام فيها الجمعة. وخالف هؤلاء الماوردي في [الحاوي] ، فذكر أن بيوت القصب والجريد لا تقام فيها الجمعة، بل تقام في بيوت الخشب الوثيقة. وهذا الفرق ضعيف مخالف لما عليه الجمهور والقياس، ولما دلت عليه الآثار وكلام الأئمة، فإن أبا هريرة كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يسأله عن الجمعة وهو بالبحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب: أن جمعوا حيثما كنتم، وذهب الإمام أحمد إلى حديث عمر هذا. وعن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يمر بالمياه التي بين مكة والمدينة وهم يجمعون في تلك المنازل- فلا ينكر عليهم. فهذا عمر يأمر أهل البحرين بالتجميع حيث استوطنوا، مع العلم بأن بعض البيوت تكون من جريد. ولم يشترط بناء مخصوصا، وكذلك ابن عمر أقر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع، ومعلوم أنها لم تكن من مدر، وإنما هي إما من جريد أو سعف. وقال الإمام أحمد: ليس على البادية جمعة؛ لأفهم ينتقلون، فعلل سقوطها بالانتقال، فكل من كان مستوطنا لا ينتقل باختياره فهو من أهل القرى. والفرق بين هؤلاء وبين أهل الخيام من وجهين: أحدهما: أن أولئك في العادة الغالبة لا يستوطنون مكانا بعينه، وإن استوطن فريق منهم مكانا فهم في مظنة الانتقال عنه، بخلاف هؤلاء

المستوطنين الذين يحترثون ويزدرعون، ولا ينتقلون إلا كما ينتقل أهل أبنية المدر. إما لحاجة تعرض، أو ليد غالبة تنقلهم كما تفعله الملوك مع الفلاحين. الثاني: أن بيوت أهل الخيام ينقلونها معهم إذا انتقلوا، فصارت من المنقول لا من العقار، بخلاف الخشب والقصب والجريد، فإن أصحابها لا ينقلونها؛ ليبنوا بها في المكان الذي ينتقلون إليه، وإنما يبنون في كل مكان بما هو قريب منه. مع أن هذا ليس موضع استقصاء الأدلة في المسألة، وهذه المسألة- إقامة الجمعة بالقرى - أول ما ابتدأت من ناحيتكم، فلا تقطعوا هذه الشريعة من أرضكم فإن الله يجمع لكم جوامع الخير. اهـ المقصود (¬1) . والمشاهد من نقل كلام شيخ الإسلام: أن لا اعتبار لنوع ما أقيم به المسكن، فإن الحكم لا يختلف باختلاف نوعه، وإنما الاعتبار بنية من أقامه أو النازل من حيث القصد إلى الاستقرار أو عدمه، وغلبة أحد الأمرين عليه، سواء كان من مدر أم خشب أم قصب أو خيام أو نحو ذلك، وعلى هذا فلا أثر لكون ما أقيم من المنازل في منى من خيام أو خشب أو قصب أو نحوها، وإنما الأثر لما يغلب على الظن من اتخاذ ذلك من الدوام والاستقرار أو الظعن والارتحال عن المكان. ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (24\166- 170) .

وقال ابن القيم: وأما مكة فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمها، ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى، وهي أنها لا تملك، فإنها دار النسك

ومتعبد الخلق، وحرم الرب سبحانه وتعالى الذي جعله {لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬1) فهي وقف من الله على العالمين، وهم فيه سواء، «ومنى مناخ من سبق، (¬2) » قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬3) والمسجد الحرام هنا المراد به: الحرم كله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬4) فهذا المراد به: الحرم كله، وقوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (¬5) وفي الصحيح: أنه أسري به من بيت أم هانئ، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬6) وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة، وإنما هو حضور الحرم، والقرب منه، وسياق آية الحج تدل على ذلك فإنه قال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬7) وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعا، بل المراد به الحرم كله، فالذي {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬8) هو الذي توعد من صد عنه ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه. فالحرم ومشاعره، كالصفا والمروة والمسعى ومنى وعرفة ومزدلفة - لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس، إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم، فهي مسجد من ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 25 (¬2) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬3) سورة الحج الآية 25 (¬4) سورة التوبة الآية 28 (¬5) سورة الإسراء الآية 1 (¬6) سورة البقرة الآية 196 (¬7) سورة الحج الآية 25 (¬8) سورة الحج الآية 25

الله وقفه ووضعه لخلقه؛ ولهذا امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى له بيت بمنى يظله من الحر، وقال: «منى مناخ من سبق (¬1) » . اهـ (¬2) . وقال الحافظ محمد بن أحمد الفاسي: ذكر حكم البناء بمنى: أخبرني إبراهيم بن محمد الدمشقي سماعا بالمسجد الحرام: أن أحمد بن أبي طالب أخبره قال: أخبرنا ابن الليثي قال: أخبرنا أبو الوقت قال: أخبرنا الداودي قال: أخبرنا ابن حمويه قال: أخبرنا عيسى بن عمر قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أخبرنا إسحاق قال: أخبرنا وكيع قال: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أمه مسيكة - وأثنى عليها خيرا- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بيتا يظلك؟ «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو مناخ من سبق (¬3) » أخرجه أحمد بن حنبل في [مسنده] بهذا الإسناد، ولفظه: قال: قلت: يا رسول الله، ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك؟ «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو مناخ من سبق (¬4) » أخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي، قال أبو اليمن بن عساكر بعد إخراجه لهذا الحديث: ومفهوم هذا الخطاب يدل على أنه لا يجوز إحياء شيء من مواتها، ولا تملك جهة من جهاتها، فلا ينبغي لأحد أن يختص بمكان من أماكنها دون غيره، فيحظر عليه حظارا، أو يتخذه دارا، وأهل مكة وسواهم في ذلك سواء، قال الله سبحانه: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬5) والضمير في قوله: فيه مختلف بين أهل العلم: فمن قال: أراد به جميع الحرم - وهو الأكثر- منع ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/207) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬2) [زاد المعاد] (2\413، 414) مطبعة السنة المحمدية. (¬3) سنن أبو داود المناسك (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) . (¬4) سنن أبو داود المناسك (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) . (¬5) سورة الحج الآية 25

من جواز إحياء مواتها وتملكها، ومن ملك منها شيئا قبل ذلك كان هو وسواه في منافعه سواء، فلا يجوز له بيعه ولا كراؤه، ثم قال: ومن تأول الآية على المسجد أجاز بيع دورها وكراءها، وبه قال أبو يوسف والشافعي، وكره مالك على جميعهم البيع والكراء، وفي جواز إحياء موات عرفة ومزدلفة اختلاف بين أهل العلم، وما ذكرنا في منى أولى بالمنع؛ «لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما هو مناخ لمن سبق (¬1) » ، و (إنما) في كلام العرب لإثبات المذكور، ولنفي ما سواه، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى باختصار من كلامه عن بعض ما استدل به على عدم الاختصاص في ذلك. وقال المحب الطبري في القرى لما تكلم على هذا الحديث: وقد احتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها، ثم قال: قلت: فيحتمل أن يكون ذلك مخصوصا بمنى؛ لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد اقتطاع موضع فيها لبناء ولا غيره، بل الناس فيها سواء، وللسابق حق السبق، وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقا بها. انتهى. وجزم النووي في [المنهاج] من زوائده بأن منى ومزدلفة لا يجوز إحياء مواتهما، كعرفة، والله أعلم. انتهى. ونقل عن الشافعي: أنه بنى بمنى مضربا ينزل فيه أصحابه إذا حجوا. روى ذلك عنه أبو ثور، وهو أحد رواة القديم، وتمسك به بعضهم على جواز البناء بمنى، وفي العمل به على تقدير صحته عن الشافعي نظر لأمرين: أحدهما: أن الشافعي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والحديث ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) ، سنن الدارمي المناسك (1937) .

الوارد في النهي عن البناء بمنى تقوم به الحجة، لأن الترمذي حسنه، وأبا داود سكت عنه، فهو في معنى الصحيح؛ لقيام الحجة به على ما هو مقرر في علم الحديث، فالشافعي حينئذ يقول به ويصير ذلك مذهبه وصحبه، ومثل هذا لا ينكر؛ لأنه وقع للنووي مثله في غير مسألة، ولعل هذا فيما ذكره من عدم جواز إحياء موات منى ومزدلفة مع قياسهما على عرفة، لمشاركتهما لعرفة في علة الحكم، والله أعلم. والأمر الثاني: أنه لا ريب في أن الشافعي على تقدير ثبوت بنائه بمنى لم يكن يحجر بناءه بمنى عن أحد، ولا يأخذ على النزول فيه أجرا، وأن بناءه بمنى لأجل الارتفاق به من جهة الظل، وصيانة الأمتعة، وشبه ذلك، فلا يقاس عليه من لم يقصد ببنائه إلا الاختصاص بنزوله وأخذ الأجرة على نزوله، كما هو الغالب من أحوال أهل العصر، وإلحاق من هو بهذه الصفة لمن حسنت نيته عند الشافعي لا يحسن. والله أعلم. وسمعت قاضي الحرم - جمال الدين أبا حامد بن ظهيرة أبقاه الله- يقول: إن جدي لأمي قاضي مكة، أبا الفضل النويري كان ينكر على البناء بمنى، ويشدد فيه، وينهى أشد النهي. انتهى بالمعنى. وأما ما أفتى به الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الشافعي مؤلف [مختصر الروضة] من أن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها - فإن ذلك غير سديد نقلا ونظرا: أما النقل؛ فلمخالفته مقتضى الحديث، وكلام النووي، وابن عساكر، والمحب الطبري وغيرهم، وأما النظر؛ فلأن أعظم ما يمكن أن يتمسك به في ذلك كون موات الحرم يجوز إحياؤه، ومنى من الحرم فيملك ما أحيي فيها، ويجري فيها أحكام الملك، وهذا

لا يستقيم؛ لأن في منى أمرا زائدا يقتضي عدم إلحاقها بموات الحرم، وهو كونها متعبدا ونسكا لعامة المسلمين- فصارت كالمساجد وغيرها من المسبلات، وما هذا شأنه لا اختصاص فيه لأحد إلا بالسبق في النزول لا بالبناء. إذ هو ممتنع فيه. فالبناء بمنى ممتنع حينئذ، ولا يملك، ولا يكون كغيره مما يصح تملكه، ويجرى حكم البناء بمنى على حكم البناء بعرفة؛ لمساواتها لعرفة في السبب الذي لأجله امتنع البناء بعرفة على الأصح، فمنى كذلك. والله أعلم. اهـ (¬1) هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 22\ 9\ 1393 هـ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ¬

_ (¬1) [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] (1\ 321، 322) مطبعة الحلبي.

قرار رقم 20 حول الأكشاك

قرار رقم (20) وتاريخ 12\ 11\ 1393هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فبناء على المعاملة المتعلقة بطلب المطوف سراج عمر أكبر السماح له بإقامة أكشاك خشبية في منى من دورين لاستيعاب حجاجه، المشتملة على الأمر الملكي الكريم رقم (13212) وتاريخ 4\ 6\ 1393 هـ القاضي بأخذ رأي المشايخ في هذا الخصوص والإفادة. فقد جرى إدراج هذا الموضوع في جدول أعمال هيئة كبار العلماء في دورتها الرابعة، وفي هذه الدورة جرى الاطلاع على أوراق المعاملة بما في ذلك صورة المخطط المعد للأكشاك، كما جرى الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد الدراسة والمناقشة وتداول الرأي رأى المجلس بأغلبية الأصوات أنه لا يجوز إقامة أكشاك بمنى على الصفة الموضحة بالمخطط المرفق بالمعاملة، فإنها متى أقيمت على هذه الصفة، وكان تأسيسها مبينا على تصميمات فنية، وأسس قوية يرتاح إلى متانتها وتحملها، كما جاء في قرار لجنة الحج العليا رقم (6) وتاريخ 23\ 2\ 1393 هـ فهي إذن في حكم البناء، إذ لا فرق فيما أقيم على وجه من شأنه الثبات والدوام بين أن يكون من حجارة أو لبن أو أخشاب أو غير ذلك، ومع هذا فإنها قد تفضي على مر الأيام وطول العهد إلى الإبقاء عليها في مكانها، وتنتهي إلى الطمع في تملكها أو الاختصاص بها على الأقل، ودعوى أنها لا تكون ثابتة، وأنها

يسهل فكها بعد تركيبها - لا تتفق مع إقامتها على الصفة الموضحة في المخطط، ولا مع الشرط الذي ذكرته لجنة الحج العليا في قرارها، بل إقامتها كذلك من شأنه ثباتها وبقاؤها؛ تفاديا من متاعب إقامتها كل عام، وحرصا على عدم النفقات المتكررة، وحفظا للمال من الخسائر التي تنشأ عن تلف بعض ما أقيم على هذه الصفة عند فكها، وطمعا في الانتفاع بها، ثم الوصول إلى دعوى الاختصاص بها على الأقل. أما الشيخان عبد المجيد حسن وعبد الله بن منيع فإنهما لا يريان في ذلك مانعا شرعيا، ولهما وجهة نظر مرفقة. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة الرابعة عبد الله بن محمد بن حميد عبد الله خياط ... محمد الأمين الشنقيطي ... عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن صالح ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن باز إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... محمد الحركان عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... صالح بن غصون صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع ... محمد بن جبير

وجهة نظر لفضيلة الشيخ عبد المجيد حسن وفضيلة الشيخ عبد الله المنيع

وجهة نظر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإذا كان الأمر كما جاء في قرار لجنة الحج العليا من أن هذه الأكشاك بديل عن الخيام فقط، وأنها تزال بعد انتهاء موسم الحج من كل عام، فإذا لم يكن فيها تعريض لحجاج بيت الله الحرام للأذى والمضرة، سواء الساكن فيها وغيره من الحجاج - إذا كان الأمر كذلك ولم يكن في هذا الإجراء مضرة ولا أذى، فلا يظهر لنا مانع شرعي يحول دون جواز ذلك؛ لأن للحاج الارتفاق بالأرض التي يحلها في منى أيام الحج بأي وجه يراه، مما لا يتعارض مع المقاصد الشرعية، فإذا انقضت أيام الحج انتهى حقه في الارتفاق بتلك الأرض ذلك العام، ولا يظهر لنا وجه القول بأن هذا وسيلة إلى التملك أو الاختصاص لثلاثة أمور: أحدها: أن إزالة هذه الأكشاك كل عام بعد انتهاء الحج كما تزال الخيام يمنع الاحتجاج بالاختصاص على فرض وروده شرعا، مع أن احتمال دعوى الاختصاص غير واردة؛ لمعرفة الخاص والعام: أن منى مناخ من سبق. وألا اختصاص لأحد فيها بغير السبق. الثاني: ما عليه جمهور أهل العلم من منع التملك في منى مما هو مشهور ومعلوم لدى العموم، حيث لا يمكن تصور قيام أحد بدعوى التملك فيها شرعا، ولا يرد على ذلك واقع ما في منى من أبنية يتمسك أهلها بدعوى تملك ما هي عليه، فإن دعوى تملكها دعوى باطلة. وقد بنت الحكومة أيدها الله بنصره - على بطلان دعوى التملك في تعويضها- ما

قامت بهدمه من هذه المباني، حيث قصرت التعويض على الأنقاض فقط. الثالث: أن مجموعة من الحجاج والمطوفين قد اعتادوا أن ينزلوا في منى في أماكن معينة منذ سنين طويلة، ولم يكن هذا الاعتبار شافعا لأحدهم بدعوى الاختصاص فيما لو سبقه غيره في ذلك المنزل وفوق ذلك كله فإن للحكومة - أعزها الله وأدام تمكينها - من الهيبة والقوة والحرص على رعاية مصالح حجاج بيت الله الحرام، والعناية وتمام الاهتمام بالمشاعر المقدسة بحال تقطع على أهل النوايا السيئة كل هدف وتفكير. والله من وراء القصد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء عبد المجيد حسن ... عبد الله بن سليمان بن منيع

مقام إبراهيم عليه السلام

(8) مقام إبراهيم عليه السلام هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم مقام إبراهيم عليه السلام إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى سماحة مفتى الديار السعودية في جواز نقل مقام إبراهيم عليه السلام حيث وجد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل في كتابه الكريم: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) والصلاة والسلام على خاتم رسله الذي أتى بالحنيفية السمحة، وعلى آله وصحبه، ومن لسبيلهم نهج. وبعد: فإنه لما كثر الوافدون إلى بيت الله الحرام في عصرنا هذا الذي توفر فيه من وسائل نقلهم ما لم يتوفر قبل، وازدادوا زيادة لم تعهد فيما مضى- أدى ذلك إلى وقوع الطائفين في حرج شديد فيما بين المقام وبين البيت؛ ولذلك قدمت الرابطة الإسلامية رغبتها إلينا في أن نكتب رسالة في حكم تأخير المقام عن ذلك الموضع إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له؛ رفعا للحرج، فاستخرت الله تعالى، وكتبت إجابة لها هذه الرسالة، ورتبتها على ما يلي: ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 78

1 - بيان موضع المقام في عهد النبوة، وأن أول من أخره عنه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. 2 - إيراد أدلة القائلين بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة، والجواب عنها. 3 - سرد العلل التي علل بها تأخير عمر المقام، وترجيح التعليل برفع الحرج عن الطائفين. 4 - بيان حكم تأخير المقام اليوم عن موضعه إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له. والله أسأل أن يكون هذا الجواب خالصا لوجهه الكريم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب: بيان موضع المقام في عهد النبوة وأن أول من أخره عمر بن الخطاب: ثبت عن السلف الصالح: أن مقام إبراهيم - عليه السلام - كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر - رضي الله عنه - في سقع البيت، وأن أول من أخره عن ذلك الموضع عمر بن الخطاب، وممن ثبت ذلك عنه من أعيانهم المذكورون في ما يلي: 1 - أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - عند البيهقي، قال في [سننه] : أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل

السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها -: «أن المقام كان زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر - رضي الله عنه - ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه» -. اهـ صحح الحافظ ابن كثير إسناده في [تفسيره] في الكلام على آية المقام، وقواه الحافظ في [فتح الباري] ، في كتاب التفسير في الكلام على تلك الآية، قال ج (8) ص (137) : أخرج البيهقي عن عائشة مثله، أي: مثل ما روى عن عطاء وغيره من التصاق المقام بالبيت إلى أن أخره عمر بسند قوي، ولفظه: أن المقام كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن أبي بكر ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر ا. هـ كلام [الفتح] ، ولا يرد على جزم رواية أبي ثابت المذكورة.

شك رواية يعقوب بن حميد بن كاسب عند الفاكهي قال يعقوب: حدثنا عبد العزيز بن محمد بن هشام بن عروة عن أبيه قال عبد العزيز: أراه عن عائشة: أن المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سقع البيت، فإن يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء. قال ابن أبي حاتم في [الجرح والتعديل] : قرئ على العباس بن محمد الدوري أنه سأل يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب فقال: (ليس بشيء) ، وقال أيضا: سمعت أبي يقول: (هو ضعيف الحديث) ، وقال النسائي: في [الضعفاء والمتروكين] : يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء، مكي، وقال العقيلي في [الضعفاء] : حدثنا زكريا الحلواني قال: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه، وسألته عنه فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها فطالبناه بالأصول فدفعنا ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها. اهـ. 2 - عروة بن الزبير، قال عبد الرزاق في [مصنفه] : عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام» . وأصرح من هذه الرواية ما روى عبد الرحمن بن أبي حاتم في [العلل] عن أبي زرعة، عن أبي ثابت، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه: «أن المقام كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه» -، وتقدم أن هذا الحديث رواه أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي عن أبي ثابت عن الدراوردي عن

هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، والروايتان ثابتتان، فدل ذلك على أن عروة روى هذا الحديث عن خالته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، فكان يحدث به عنها تارة، ويتكلم به تارة أخرى من غير أن يسنده إليها فروي عنه بالوجهين. 3 - عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج عند عبد الرزاق، قال في [مصنفه] : عن ابن جريج، قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من رفع المقام، فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة، صحح الحافظ ابن حجر العسقلاني إسناده في [فتح الباري] ج (8) ، ص (137) ، قال في كلامه على المقام في كتاب التفسير: (كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه] بسند صحيح عن عطاء وغيره. اهـ. ومعنى قول ابن جريج: (يزعمون) : (يقولون) من باب استعمال الزعم في القول المحقق، نظير ما رواه البخاري في صحيحه في باب إذا حرم طعاما، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} (¬1) قال البخاري: (حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج بن محمد، عن ابن جريج قال: زعم عطاء: أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة تزعم: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا (¬2) » . . . .) الحديث، وذكر الحافظ في شرح قول الراوي: (زعم عطاء أن أهل الحجاز يطلقون الزعم بمعنى: القول، وقرر الحافظ هو والنووي ¬

_ (¬1) سورة التحريم الآية 1 (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5267) ، سنن النسائي الطلاق (3421) ، سنن أبو داود الأشربة (3714) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) .

أن ذلك الاستعمال كثير، قال النووي في شرح قول ضمام بن ثعلبة: (يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك) قال: قوله: (زعم) و (تزعم) مع تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه دليل على أن (زعم) ليس مخصوصا بالكذب والقول المشكوك فيه، بل يكون أيضا في القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه، وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "زعم جبريل كذا"، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه الذي هو إمام كتب العربية من قوله: (زعم الخليل) (زعم أبو الخطاب) يريد بذلك: القول المحقق، وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم، ونقله أبو عمرو الزاهد في [شرح الفصيح] عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين. اهـ. وقال الحافظ في [الفتح] في كتاب العلم في شرح قول ضمام بن ثعلبة المتقدم: إن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا، كما نقله أبو عمرو الزاهد في شرح فصيح ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: (زعم الخليل) في مقام الاحتجاج. ومما استدل به الحافظ في [فتح الباري] لاستعمال الزعم بمعنى القول المحقق قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في حديثه في (المواقيت) : ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ويهل أهل اليمن من يلملم (¬1) » يعني: ابن عمر بقوله: (يزعمون) : الصحابة. قلت: ويشهد لكون (يزعمون) في رواية عبد الرزاق المتقدمة عن ابن جريج، عن عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج بمعنى: القول المحقق- رواية عبد الرزاق الأخرى التي ذكرها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1525) ، سنن النسائي مناسك الحج (2652) ، سنن أبو داود المناسك (1737) ، سنن ابن ماجه المناسك (2914) ، مسند أحمد بن حنبل (2/47) ، موطأ مالك الحج (734) ، سنن الدارمي المناسك (1790) .

الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) فإنه (قال عبد الرزاق: حدثني ابن جريج عن عطاء وغيره من أصحابنا قالوا: أول من نقله- أي: المقام - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) فقول ابن جريج في هذه الرواية: (قالوا) يفسر في الرواية الأولى (يزعمون) . 4 - مجاهد عند عبد الرزاق قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) (قال عبد الرزاق: عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) صححه الحافظ في [فتح الباري] في (كتاب التفسير) ج (8) ، ص (137) ، وذكر ابن كثير في تفسيره: أنه أصح مما في رواية ابن مردويه عن مجاهد، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله. وعبارة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125 (¬2) سورة البقرة الآية 125

ابن كثير بعد ذكر أثر مجاهد هذا (هذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاده بما تقدم) . اهـ. يعني ابن كثير بما تقدم: الآثار التي أوردها قبل ذلك بأسانيد قوية عن عائشة وعطاء وغيره من أصحاب ابن جريج وسفيان ابن عيينة.

5 - بعض مشايخ مالك، ففي [المدونة] في ج (2) في رسم في قطع شجر الحرم من كتاب الحج ما نصه (قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وكان ملصقا بالبيت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وقبل ذلك، وكان قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت، إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. اهـ. 6 - سفيان بن عيينة عند ابن أبي حاتم في [تفسيره] ، قال في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

سفيان: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، قال سفيان: لا أدري أكان لاصقا بها أم لا. صحح الحافظ في [فتح الباري] ، إسناده في (كتاب التفسير) ، ج (8) ، ص (137) في شرح باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) وصحح هذا الحديث قبل صاحب [فتح الباري] الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم إيراده في تفسيره الذي ذكر في أوله: أن جماعة من إخوانه طلبوا منه تفسيرا مختصرا بأصح الأسانيد وحذف الطرق، ثم قال: (فأجبتهم إلى مسألتهم، وبالله التوفيق، وإياه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتحريت إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادا، وأشبهها متنا، فإذا وجدت التفسير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أذكر معه أحدا من الصحابة، ممن أتى بمثل ذلك، وإذا وجدته عن الصحابة، فإن كانوا متفقين ذكرته عن أعلاهم درجة بأصح الإسناد، وسميت موافقيهم بحذف الإسناد، فإن لم أجد عن الصحابة ووجدته عن التابعين عملت فيما أجد عنهم ما ذكرته من المثال في الصحابة، وكذلك أجعل المثال في أتباع التابعين وأتباعهم) . اهـ. ما ذكره ابن أبي حاتم في مقدمة تفسيره، وهو دليل على صحة هذا الحديث. 7 - الواقدي عند ابن جرير الطبري بتاريخه، قال في حوادث سنة ثمان عشرة: (وزعم- أي: الواقدي - أن عمر - رضي الله عنه - حول المقام في هذه السنة في ذي القعدة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت قبل ذلك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

اهـ. وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه [البداية والنهاية] : أن الواقدي لم ينفرد بهذا وعبارته ج (7) ص (93) : (قال الواقدي وغيره: في هذه السنة - أي: سنة ثمان عشرة في ذي الحجة منها - حول عمر المقام، وكان ملصقا بجدار الكعبة وأخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين ثم قال ابن كثير: (قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر، ولله الحمد والمنة) . 8 - مشايخ ابن سعد، قال في [الطبقات الكبرى] في ترجمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (قالوا: وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت) . اهـ. هذه جملة من أعيان السلف الذين صرحوا بأن المقام كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في صقع البيت، وأن أول من أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد جزم بما صرحوا به غير واحد من أئمة المتأخرين، منهم: الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ، والحافظ ابن كثير في [التفسير] و [البداية والنهاية] ، والشوكاني في [فتح القدير] ، قال الحافظ في [الفتح] ج (8) ، ص (137) في باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) من (كتاب التفسير) : (كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر - رضي الله عنه - إلى المكان الذي هو فيه الآن) أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه] بسند صحيح عن عطاء وغيره، وعن مجاهد أيضا، وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قوي، ولفظه: «أن المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن أبي ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

بكر ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر» ، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله، والأول أصح، وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة قال: «كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر، فجاء سيل فذهب به فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقا بالبيت أم لا» . اهـ. وبهذا ظهر رجوع الحافظ عما كتبه في باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) من كتاب الصلاة، فإنه كتب ما نصه: (قد روى الأزرقي في [أخبار مكة] بأسانيد صحيحة: أن المقام كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، حتى جاء سيل في خلافة عمر فاحتمله حتى وجد بأسفل مكة فأتي به ربط إلى أستار الكعبة، حتى قدم عمر فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول، فأعاده إليه، وبنى حوله، فاستقر، ثم إلى الآن اهـ. وهذا الذي كتبه الحافظ في (كتاب الصلاة) سبق قلم نبه على رجوعه عنه بالصواب الذي ذكره في (كتاب التفسير) ، وكان يصنع ذلك تارة فيما سبق به القلم ويصرح تارة بالرجوع عما كتبه أولا، ومما صرح فيه بالرجوع ما يلي: 1 - قوله في ج (8) ص (16) في الباب الذي بعده (باب منزل النبي - صلى الله عليه وسلم -) يوم الفتح بالكلام على حديث أبي شريح العدوي في تعظيم مكة قال: (قوله العدوي) : كنت جوزت في الكلام على حديث الباب في الحج أنه ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

من حلفاء بني كعب؛ وذلك لأني رأيته في طريق أخرى الكعبي نسبة إلى كعب بن ربيعة بن عمرو بن لحي، ثم ظهر لي أنه نسب إلى بني عدي بن عمرو بن لحي، وهم إخوة كعب، ويقع هذا في الأنساب كثيرا. 2 - قوله في شرح حديث عباد بن تميم عن عمه قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى (¬1) » في باب الاستلقاء، في ج (11) ، ص (68) : (تقدم بيان الحكم في أبواب المساجد من كتاب الصلاة، وذكرت هناك قول من زعم أن النهي عن ذلك منسوخ، وأن الجمع أولى، وأن محل النهي حيث تبدو العورة، والجواز حيث لا تبدو، وهو جواب الخطابي ومن تبعه، ونقلت قول من ضعف الحديث الوارد في ذلك وزعم أنه لم يخرج في الصحيح، وأوردت عليه بأنه غفل عما في (كتاب اللباس) من الصحيح، والمراد بذلك [صحيح مسلم] ، وسبق القلم هناك، فكتبت [صحيح البخاري] ، وقد أصلحته في أصلي) . 3 - قوله في باب الدعاء على المشركين، ج (11) ، ص (162) في الكلام على قول البخاري: (حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، حدثنا محمد بن سيرين، حدثنا عبيدة، حدثنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا (¬2) » الحديث. قال الحافظ: (قوله: حدثنا هشام بن حسان) يرجح قول من قال في الرواية التي مضت في الجهاد من طريق عيسى بن يونس، حدثنا هشام) أنه ابن حسان، وكنت ظننت أنه الدستوائي ورددت على الأصيلي حيث جزم بأنه ابن حسان، ثم نقل تضعيف هشام بن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الاستئذان (6287) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2100) ، سنن الترمذي الأدب (2765) ، سنن النسائي المساجد (721) ، سنن أبو داود الأدب (4866) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) ، موطأ مالك النداء للصلاة (418) ، سنن الدارمي الاستئذان (2656) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2931) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (627) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2984) ، سنن أبو داود الصلاة (409) ، سنن ابن ماجه الصلاة (684) ، مسند أحمد بن حنبل (1/113) ، سنن الدارمي الصلاة (1232) .

حسان يروم رد الحديث فتعقبته هناك، ثم وقفت على هذه الرواية فرجعت عما ظننت إلخ. ويدل على رجوع الحافظ عما كتبه في (كتاب الصلاة) إلى ما بينه في (كتاب التفسير) تعذر الجمع بين تصحيح الحافظ أسانيد تلك الروايات الأزرقية التي تذكر: أن المقام كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الموضع الذي هو فيه الآن، وهو الذي رده إليه عمر بعدما ذهب به السيل وبين تصحيحه في (كتاب التفسير) أسانيد روايات كون المقام لزق البيت إلى أن أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأن الروايات الأزرقية التي أشار إليها ليس فيها شيء صحيح صريح، كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى عند الكلام على تلك الروايات، مع ذكر كلام الحافظ فيمن تكلم فيه من رواتها؛ ليتبين أن ما ذكره في (كتاب الصلاة) في الروايات الأزرقية كما لا يتفق ما في (كتاب التفسير) لا يتفق مع كلامه في رواية تلك الروايات الأزرقية في كتبه في [الجرح والتعديل] وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه [البداية والنهاية] ج (1) ص (162) تحت عنوان: (ذكر بناية البيت العتيق) في الكلام على مقام إبراهيم - عليه السلام -: (قد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأخره عن البيت قليلا؛ لئلا يشغل المصلون عنده الطائفين بالبيت) ، وقال في الجزء السابع من التاريخ المذكور [البداية والنهاية] ص (13) في الكلام على حوادث سنة ثمان عشرة: (قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام، وكان ملصقا بجدار

الكعبة، أخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين وقال في [التفسير] في الكلام على قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) (قلت: قد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، وأنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا والله أعلم، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر (¬2) » وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين-) ، وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} (¬3) (قد كان- أي: المقام - ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125 (¬2) سنن الترمذي المناقب (3662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (97) ، مسند أحمد بن حنبل (5/382) . (¬3) سورة آل عمران الآية 97

قد أمرنا بالصلاة عنده، حيث قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) اهـ ما جمعناه من تاريخ ابن كثير وتفسيره. وقال العلامة الشوكاني في [فتح القدير] في تفسير آية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) وهو: أي المقام الذي كان ملصقا بجدار الكعبة، وأول من نقله عمر بن الخطاب، كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بأسانيد صحيحة، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. اهـ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125 (¬2) سورة البقرة الآية 125

أدلة القائلين بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة والجواب عنها: استدل القائلون: بأن موضع مقام إبراهيم - عليه السلام - هذا الذي هو فيه اليوم هو موضعه في عهد النبوة: بأمور نذكرها مع الإجابة عنها فيما يلي: الأول: ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه قال: أخبرنا ابن عمر، وهو: أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم، وهو: ابن أبي إياس في تفسيره، أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: «يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعه هذا، (¬2) » قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن) . والجواب عن هذا: ما ذكره الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر العسقلاني في [فتح الباري] . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصلاة (402) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2959) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1009) ، سنن الدارمي المناسك (1849) . (¬2) سورة البقرة الآية 125 (¬1) {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره الآية الكريمة: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) بعد ذكر هذا الأثر الذي رواه ابن مردويه: (هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضادها بما تقدم اهـ. وقال الحافظ في [الفتح] ج (8) ص (137) في باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) من (كتاب التفسير) : أخرج ابن مردويه بسند ضعيف، عن مجاهد: أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوله،» والأول أصح) . اهـ. ووجه ضعف سنده: أن فيه شريكا النخعي، وإبراهيم بن المهاجر، وهما ضعيفان؛ أما شريك، فقد روى علي بن المديني عن يحيى بن سعيد تضعيفه جدا، وقال ابن المثنى: ما رأيت يحيى ولا عبد الرحمن حدثا عن شريك شيئا، وروى محمد بن يحيى القطان عن أبيه قال: رأيت تخليطا في أصول شريك، وقال ابن المبارك: ليس حديثه بشيء، وقال الجوزجاني: سيئ الحفظ، مضطرب الحديث، ومائل، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: أخطأ شريك في أربعمائة حديث، وقال الدارقطني: ليس شريك بالقوي فيما ينفرد به، وقال عبد الجبار بن محمد: قلت ليحيى بن سعيد: زعموا أن شريكا إنما خلط بآخره قال: ما زال مخلطا. نقل هذا عن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125 (¬2) سورة البقرة الآية 125

هؤلاء الأئمة الحافظ الذهبي في [ميزان الاعتدال] . وأما إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي - فقد قال العقيلي في [الضعفاء] : حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قلت ليحيى: إن إسرائيل روى عن إبراهيم بن المهاجر ثلاثمائة حديثا، قال إبراهيم بن المهاجر: لم يكن بالقوي، حدثنا محمد، حدثنا صالح، عن علي قال: سئل يحيى بن سعيد عن إبراهيم بن المهاجر وأبي يحيى القتات فضعفهما. حدثنا عبد الله قال: سألت أبي عن إبراهيم بن المهاجر فقال: كان كذا وكذا، (وقال النسائي في [الضعفاء والمتروكين] : إبراهيم بن المهاجر الكوفي ليس بالقوي) ، ونقل الحافظ في [تهذيب التهذيب] عن النسائي أنه صرح أيضا في [الكنى] بأنه ليس بالقوي في الحديث، قال الحافظ: (وقال ابن حبان في [الضعفاء] : هو كثير الخطأ، وقال الحاكم: قلت للدارقطني: فإبراهيم بن المهاجر! قال: ضعفوه، تكلم فيه يحيى بن سعيد وغيره، قلت: بحجة، قال: بلى، حدث بأحاديث لا يتابع عليها، وقد غمزه شعبة أيضا) قال الحافظ: وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، هو وحصين وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، ومحلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج به، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟) قال: كانوا قوما لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطرابا ما

شئت) . اهـ. ما في [تهذيب التهذيب] . الثاني: مما استدل به القائلون بأن موضع مقام إبراهيم - عليه السلام - اليوم: هو موضعه في عهد النبوة: ما في مغازي موسى بن عقبة في سياق خبر فتح مكة بلفظ: (وأخر- أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - المقام إلى مقامه اليوم، وكان ملتصقا بالبيت) . والجواب عن هذا: أن هذا المنقول من مغازي موسى بن عقبة يخالف ما تقدم عن عائشة وعروة شيخ موسى بن عقبة ومشايخ ابن جريج هو: أن أول من حول المقام إلى مقامه اليوم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ ولذلك لم يلتفت الحافظ ابن كثير الذي نقل هذا عن مغازي موسى بن عقبة إليه، بل جزم بخلافه. الثالث: مما استدلوا به: ما رواه الأزرقي في [تاريخ مكة] قال: حدثني جدي، قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هذا الذي هو فيه اليوم: هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر، فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فرده بمحضر الناس) . والجواب عنه بأمرين: أحدهما: أن راوي هذا عن ابن أبي مليكة عبد الجبار بن الورد، وهو وإن كان ثقة يخالف في بعض حديثه، قال البخاري في [تاريخه الكبير] : (يخالف في بعض حديثه) ، واعتمد العقيلي على كلام البخاري هذا، فذكره في [الضعفاء] ثم قال: (حدثني آدم بن موسى، قال: سمعت البخاري قال: (عبد الجبار بن الورد المكي يخالف في بعض حديثه) . اهـ

كلام العقيلي. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في [تقريب التهذيب] في عبد الجبار بن الورد: صدوق يهم) . الثاني: أن ما قاله ابن أبي مليكة على فرض ثبوته عنه لم يأخذه عن الصحابة فيما يرى المحب الطبري صاحب [القرى] ، بل إنما فهمه من سياق رواية كثير بن المطلب عن أبيه قصة احتمال سيل أم نهشل المقام) ، ولا يسعنا ما دام الأمر كذلك أن نقدم ذلك الفهم على تصريح أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - «بأن المقام كان ملصقا بالبيت في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه» - (¬1) ، وكلمة: (أين موضعه) ؟ التي فهم منها ابن أبي مليكة ذلك- يفسرها ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسند صحيح، عن ابن عيينة أنه قال: (كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه) ، الحديث المتقدم، فإن هذا يدل على أن الموضع الذي سأل عنه عمر، ليرد المقام إليه: الموضع الذي وضعه فيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول مرة، لا موضعه في عهد النبوة. الرابع: مما استدل به القائلون بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة- ما رواه الأزرقي في [تاريخ مكة] قال: حدثني جدي قال: حدثنا سليم بن مسلم (¬3) عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن السائب - وكان يصلي بأهل مكة - فقال: أنا أول من صلى خلف ¬

_ (¬1) روى حديث عائشة المشار إليه هنا البيهقي بسند صحيح، كما تقدم (¬2) سورة البقرة الآية 125 (¬3) ضبط الحافظ الذهبي سليم بن مسلم في [المشتبه] بفتح السين، وقال: (واه) .

المقام حين رد في موضعه هذا، ثم دخل عمر وأنا في الصلاة فصلى خلفي صلاة المغرب) . وجه الاستدلال به: أن قول عبد الله بن السائب: (حين رد في موضعه هذا) يفهم منه: أن له موضعا قبل التحويل، فيلزم عنه أنه موضعه في عهد النبوة. والجواب عن هذا: أن سياق عبد الرزاق أحسن من سياق سليم بن مسلم، فقد قال عبد الرزاق في [مصنفه] : عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر وعمر بن عبد الرحمن بن صفوان وغيرهما، أن عمر قدم فنزل في دار ابن سباع، فقال: يا أبا عبد الرحمن، صل بالناس المغرب، فصليت وراءه، وكنت أول من صلى وراءه حين وضع، ثم قال: فأحسست عمر وقد صليت ركعة، فصلى ورائي ما بقي. اهـ. فكلمة (حين وضع) في رواية عبد الرزاق هذه هي التي غيرها سليم بن مسلم بقوله: (حين رد في موضعه هذا) : وسليم بن مسلم غير مأمون، لا على عقيدته ولا على الحديث، كما بينه الأئمة، قال العقيلي في [الضعفاء] : حدثنا محمد قال: حدثنا عباس، قال: سمعت يحيى ذكر سليم بن مسلم المكي فقال: كان ينزل مكة، وكان جهميا خبيثا. اهـ. وقال النسائي في [الضعفاء والمتروكين] : (سليم بن مسلم الخشاب متروك الحديث) . اهـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في [لسان الميزان] : (سليم بن مسلم المكي الخشاب الكاتب عن ابن جريج - قال ابن معين: جهمي خبيث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئا) . قال الحافظ: (وقال أبو حاتم في ترجمة سليم: منكر الحديث، ضعيف الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: ليس بقوي، وقال مرة: متروك) .

اهـ. المراد من كلام الحافظ في [لسان الميزان] .

الخامس: مما استدلوا به: ما ذكره الأزرقي في [تاريخ مكة] بعدما ساق حديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في وجه الكعبة حذو الطرقة البيضاء: روى عن جده أنه قال: قال داود: وكان ابن جريج يشير لنا إلى هذا الموضع، ويقول: هذا الموضع الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الموضع الذي جعل فيه المقام حين ذهب به سيل أم نهشل إلى أن قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرده إلى موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - وبعض خلافة عمر - رضي الله عنه - إلى أن ذهب به السيل. والجواب عن هذا: أن ما ذكره الأزرقي عن ابن جريج يخالف ما صح عن مشايخ ابن جريج عطاء وغيره من رواية ابن جريج عنهم، فقد تقدم أن عبد الرزاق روى في [مصنفه] بسند صحيح: أنهم قالوا: إن عمر أول من رفع المقام فوضعه موضعه الآن السادس: مما استدلوا به: ما رواه الأزرقي في [تاريخ مكة] قال: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه، عن جده، قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب

الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب: باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، يقال له: سيل أم نهشل، إنما سمي بأم نهشل؛ لأنه ذهب بأم نهشل ابنة عبيدة بن أبي أحيحة سعيد بن العاص، فماتت فيه، فاحتمل المقام من موضعه هذا، فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتى به فربطه إلى أستار الكعبة في وجهها، وكتب في ذلك إلى عمر - رضي الله عنه -، فأقبل عمر فزعا فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غبي موضعه وعفاه السيل، فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدا عنده علم في هذا المقام، فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وعندي في البيت، فقال له عمر: فاجلس عندي وأرسل إليها، وأتى بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا، فسأل الناس فشاورهم، فقالوا: نعم، هذا موضعه، فلما استثبت ذلك عمر - رضي الله عنه - وحق عنده أمر ربه فأعلم ببناء ربطه تحت المقام، ثم حوله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم. اهـ.

والجواب عنه: أن المراد بالموضع المذكور في هذا الخبر الموضع الذي وضعه فيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أول مرة، وهو الذي سأل عنه؛ ليضعه في المرة الثانية، بدليل رواية ابن أبي حاتم المتقدمة، عن أبيه، عن ابن أبي عمر العدني، عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) الآية، قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه.. الخبر المتقدم. السابع: مما استدلوا به: ما رواه الأزرقي في [أخبار مكة] قال: حدثني ابن أبي عمر قال: حدثنا ابن عيينة، عن حبيب ابن أبي الأشرس قال: كان سيل أم نهشل قبل أن يعمل عمر الردم بأعلى مكة احتمل المقام من مكانه، فلم يدر أين موضعه، فلما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل من يعلم موضعه؟ فقال المطلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين، قد كنت قدرته، وذرعته بمقاط، وتخوفت عليه، هذا من الحجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه الكعبة إليه، فقال: إيت به فجيء به فوضعه في موضعه هذا، وعمل عمر الردم عند ذلك، قال سفيان: فذلك الذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه: أن المقام كان عند سقع البيت، فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن، وأما ما يقول الناس: أنه كان هناك موضعه فلا. قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوا من حديث ابن أبي الأشرس هذا، لا أميز أحدهما عن صاحبه. والجواب عن هذا: أن ما ذكره ابن أبي الأشرس، وذكر عمرو بن دينار نحوه من سؤال عمر عن موضع المقام - لا يدل على أن مراد عمر موضع ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

المقام في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل الذي دلت عليه رواية ابن أبي حاتم المتقدمة عن سفيان بن عيينة: أن سؤال عمر - رضي الله عنه - إنما هو عن الموضع الذي وضعه فيه أول مرة؛ ليضعه فيه المرة الثانية مع أن أمر حبيب ابن أبي الأشرس هين؛ لأنه لا يحتج به، قال البخاري في [التاريخ الصغير] : (قال أحمد: متروك، وقال في [الضعفاء الصغير] : (منكر الحديث، وقال النسائي في [الضعفاء والمتروكين] : حبيب بن حسان، وهو حبيب بن أبي الأشرس كوفي متروك الحديث) ، وقال العقيلي في [الضعفاء] : حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن حدثا عن سفيان عن حبيب بن حسان بن أبي الأشرس شيئا. حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا عباس بن محمد قال: سمعت يحيى بن معين قال: حبيب بن أبي الأشرس كوفي ليس حديثه بشيء، وقال في موضع آخر: حبيب بن حسان ليس بثقة، وكانت له جاريتان نصرانيتان فكان يذهب معهما إلى البيعة. وقال في موضع آخر: حبيب بن حسان بن الأشرس هو حبيب بن هلال ليس بشيء، حدثنا الخضر بن داود قال: حدثني أحمد بن محمد بن هانئ قال: سألت أبا عبد الله، وذكر حبيب بن حسان، فقال: متروك الحديث، حدثني آدم بن موسى قال: سمعت البخاري قال: حبيب بن حسان الكوفي هو حبيب بن أبي الأشرس منكر الحديث) . اهـ. وقال ابن أبي حاتم في [الجرح والتعديل] قرئ على العباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: حبيب بن حسان بن أبي الأشرس، وهو حبيب بن هلال، روى عنه مروان الفزاري، وليس بثقة، وقال: سمعت أبي يقول: حبيب

بن حسان موجه صالح البغدادي، وليس بقوي، منكر الحديث أحيانا. اهـ. وقال ابن حبان في [كتاب المجروحين] في حبيب بن أبي الأشرس: (منكر الحديث جدا، وكان قد عشق امرأة نصرانية، وقد قيل: إنه تنصر وتزوج بها، وأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح. أنبأ مكحول: سمعت جعفر بن أبان يقول: سئل يحيى بن معين - وأنا شاهد- عن حبيب بن حسان، فقال: ليس بثقة، كان يذهب مع جاريتين له إلى البيعة. اهـ. وفي [لسان الميزان] للحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمة حبيب بن أبي الأشرس: (قال أبو داود: ليس حديثه بشيء، روى عنه سفيان ولا يصرح به، وقال أبو بكر بن عياش: لو عرف الناس حبيب بن حسان لضربوا على بابه الختم. وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. اهـ. وأما رواية الأزرقي عن عروة أنه قال: (فأما موضعه الذي هو موضعه فموضعه الآن) إلخ.. فيعارضها ما روى عبد الرزاق في [مصنفه] عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت، حتى صلى عمر بن الخطاب خلف المقام) ، وما روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة عن أبي ثابت، عن عبد العزيز الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن المقام كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولا شك في أنه إذا وقع التعارض بين رواية أبي الوليد الأزرقي مؤرخ مكة وبين روايتي: عبد الرزاق، وابن أبي حاتم - نقدم رواية عبد الرزاق وابن أبي حاتم على رواية أبي الوليد الأزرقي مؤرخ مكة؛

لأنهما يحملان شهادات أئمة الحديث في زمانهما بالإمامة في الحديث، وأما أبو الوليد الأزرقي مؤرخ مكة فلم نر شهادة أي معاصر له، ولم يرها قبلنا الفاسي على سعة اطلاعه؛ ولذلك يقول في [العقد الثمين] ،: (لم أر من ترجمه، وإني لأعجب من ذلك) ، وأما الذين لم يعاصروه فأقدم من رأيناه تعرض له منهم ابن النديم صاحب [الفهرست] ، قال فيه بعد ذكر نسبه: (أحد الأخباريين وأصحاب السير، وله من الكتب [كتاب مكة وأخبارها وجبالها وأوديتها، كتاب كبير) . ا. هـ. وهذا لا يغني شيئا؛ لأمرين: أحدهما: أن الغالب على الأخباريين والسيريين عدم الاعتناء بالروايات، وفي ذلك يقول الحافظ العراقي في [ألفية السيرة] . وليعلم الطالب أن السيرا ... تجمع ما صح وما قد أنكرا الثاني: أن ابن النديم قال الحافظ ابن حجر في [لسان الميزان] ،: (هو غير موثوق به ومصنفه المذكور- يعني [الفهرست]- ينادي على مصنفه بالاعتزال والزيغ، نسأل الله السلامة) ثم قال الحافظ: (لما طالعت كتابه ظهر لي أنه رافضي معتزلي، فإنه يسمي أهل السنة: الحشوية، ويسمي الأشاعرة: المجبرة، ويسمي كل من لم يكن شيعيا: عاميا، وذكر في ترجمة الشافعي شيئا مختلقا ظاهر الافتراء) ا. هـ. ومراد الحافظ بذلك الشيء المختلق الظاهر الافتراء: قول ابن النديم في [الفهرست] ، ص (294، 295) : (بخطه- يعني: أبا القاسم الحجازي - أيضا قرأت: قال: ظهر رجل من بني أبي لهب بناحية المغرب، فحمل إلى هارون الرشيد ومعه الشافعي، فقال الرشيد للهبي: سمت بك نفسك إلى هذا، قال: وأي الرجلين كان أعلى ذكرا وأعظم قدرا جدي أم جدك أنت؟

ليس تعرف قصة جدك وما كان من أمره، وأسمعه كل ما كره؛ لأنه استقبل، قال: فأمر بحبسه، ثم قال للشافعي: ما حملك على الخروج معه؟ قال أنا رجل أملقت، وخرجت أضرب في البلاد طلبا للفضل، فصحبته لذلك، فاستوهبه الفضل بن الربيع فوهبه، فأقام بمدينة السلام مدة فحدثنا محمد بن شجاع الثلجي قال: كان يمر بنا في زي المغنين على حمار وعليه رداء محشا وشعره مجعد) ثم وصف ابن النديم الشافعي وذكر حكاية عن أخريين من نوع الافتراء الذي ذكر أولا. ثم بعد ابن النديم الحافظ عبد الكريم بن محمد السمعاني صاحب كتاب [الأنساب] ، قال في [الأنساب] ،: (الأزرقي هو: أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي صاحب كتاب [أخبار مكة] ، وأحسن في تصنيف ذلك الكتاب غاية الإحسان، روى عن جده، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، وغيرهما، روى عنه أبو محمد إسحاق بن أحمد بن نافع الخزاعي. ا. هـ. وليس في هذا كبير فائدة من ناحية ترجمة أبي الوليد الأزرقي؛ لأن في إمكان كل من نظر في كتابه [أخبار مكة] أن يتحصل على مشايخه وعلى من روى ذلك الكتاب عنه؛ لأن جميع ذلك موجود في [أخبار مكة] ، ومجرد كلمة روى فلان عن فلان، وروى عنه فلان، وأخرج له فلان- لا يروي الغلة، ولا يشفي العلة، كما بينه الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة كتابه [تهذيب التهذيب] ، وأما ثناء السمعاني على كتاب [أخبار مكة] ، فلا يوصله إلى درجة تقديم ما فيه على ما في مصنفات الإمامين الشهيرين: عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، ثم بعد ابن السمعاني الإمام النووي قال في الكلام على حجر إسماعيل عليه السلام:

(قد وصفه الإمام أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة، فأحسن وأجاد) ، وقد بحثنا عن قول النووي هذا فوجدناه يعتقد في مؤرخ مكة: أنه هو جده الإمام أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، بدليل قوله في [المجموع] ج (7) ص (464) بعد ذكر حدود الحرم، (هكذا ذكر هذه الحدود أبو الوليد الأزرقي في [كتاب مكة] وأبو الوليد هذا أحد أصحاب الشافعي الآخذين عنه، الذين رووا عنه الحديث والفقه) ، وقد نبه العلامة الفاسي في [العقد الثمين] ، على وهم الإمام النووي في هذا قال: (وهم النووي في قوله في [شرح المهذب] بعد أن ذكر في حدود الحرم نقلا عن أبي الوليد الأزرقي هذا: أنه أخذ عن الشافعي وصحبه، وروى عنه، وإنما كان ذلك وهما لأمرين: أحدهما: أن الذين صنفوا في طبقات الفقهاء الشافعية لم يذكروا في أصحاب الشافعي إلا أحمد بن محمد بن الوليد، جد أبي الوليد هذا. والأمر الثاني: لو أن أبا الوليد هذا روى عن الإمام الشافعي لأخرج عنه في تاريخه؛ لما له من الجلالة والعظمة، كما أخرج عن جده، وابن عمر العدني وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عم الإمام الشافعي، ثم قال الفاسي: (والسبب الذي أوقع النووي في هذا الوهم: أن أحمد الأزرقي جد أبي الوليد هذا يكنى بأبي الوليد، فظنه النووي هو والله أعلم. وإنما

نبهت على ذلك لئلا يغتر بكلام النووي، فإنه ممن يعتمد عليه، وهذا مما لا ريب فيه) . اهـ المراد من كلام الفاسي؟ وأما تاريخ وفاة مؤرخ مكة الأزرقي فقد بيض السمعاني في الأنساب لما بعد المائتين منها، وتعرض لتاريخ وفاته بعده محمد بن عمر بن عزم التونسي، وصاحب [كشف الظنون] ، وصاحب [هداية العارفين] ، لكن أخطأوا فيها، وبيان ذلك فيما يلي. أما محمد بن عمر بن عزم فيقول في [دستور الإعلام بمعارف الأعلام] ،: (الأزرقي إلى جده الأزرق صاحب [تاريخ مكة] محمد بن عبد الله بن أحمد سنة مائتين وأربع، وجده أحمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمر بن الحارث بن أبي شمر الغساني المكي، روى عن سفيان بن عيينة، وداود بن عبد الرحمن العطار، روى عنه حفيده سنة مائتين واثني عشر. ا. هـ. وهذا غير صحيح لا من ناحية الجد ولا من ناحية الحفيد، أما الجد؛ فلأنه حدث بواقعة بعد تاريخ مائتين واثني عشر، ففي الجزء الأول من [تاريخ الحفيد] ، ص (194) ما نصه: (قال أبو الوليد: قال جدي: أول من أثقب النفاطات بين الصفا والمروة في ليالي الحج وبين المأزمين- مأزمي عرفة - أمير المؤمنين إسحاق المعتصم بالله طاهر بن عبد الله بن طاهر، سنة تسع عشرة ومائتين، فجرى ذلك إلى اليوم. ا. هـ. وأما الحفيد مؤرخ مكة فقد وجدناه حدث بحادث سنة ثلاث وأربعين ومائتين، ففي الجزء الأول من تاريخه ص (171) ما نصه: قال أبو الوليد:

(أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله بإذالة (¬1) القميص القباطي حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكعبة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين) . ا. هـ. وأما صاحب [كشف الظنون] فقد قال في الكلام على تواريخ مكة، منها: تاريخ الإمام أبي الوليد محمد بن عبد الكريم المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومائتين) . ا. هـ. وهذا غلط في اسم والد مؤرخ مكة، فإن اسمه عبد الله لا عبد الكريم، وغلط في تاريخ وفاته، لما تقدم في الرد على التونسي، وقد تبع صاحب [كشف الظنون] في الغلط التاريخي إسماعيل باشا في [هداية العارفين] ، وتنبه الكتاني لغلط صاحب [كشف الظنون] في تاريخ وفاة أبي الوليد الأزرقي، ذكر عنه في [الرسالة المستطرفة] ، أنه أرخ وفاته بسنة ثلاث وعشرين ومائتين، ثم قال: (لكن جده - أي: جد أبي الوليد - أحمد المذكور ذكر في [التقريب] ،: أنه توفي سنة سبع عشرة، وقيل: اثنتين وعشرين ومائتين، فيبعد عليه أن يكون حفيده مؤرخ مكة توفي في السنة المذكورة أولا يصح ذلك بالكلية) ، ولم يذكر الكتاني من ناحية الأزرقي شيئا يجدي. ¬

_ (¬1) الإذالة: بالذال المعجمة: الإسبال.

لماذا أخر عمر بن الخطاب المقام؟ علل تأخير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المقام بأربعة أشياء، نذكرها مع الكلام عليها: 1 - خشية عمر لما كثر الناس أن يطأوه بأقدامهم؛ لما رواه الفاكهي كما في [شفاء الغرام] ج (1) ص (307) قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال:

حدثنا يحيى بن محمد بن ثوبان، عن سليم، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه قال: كان المقام في وجه الكعبة، وإنما قام إبراهيم عليه حين ارتفع البيت، فأراد أن يشرف على البناء، قال: فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطأوه بأقدامهم، فأخره إلى موضعه الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة. ا. هـ. وهذا في سنده سليم بن مسلم الراوي عن ابن جريج، وقد تقدم أنه جهمي خبيث متروك الحديث. 2 - مما علل به تأخير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مقام إبراهيم - عليه السلام - عن موضعه الأول: رده إلى الموضع الذي كان فيه في عهد النبوة، وقد بينا فيما تقدم: أن صريح ما يستند إليه هذا التعليل غير صحيح، وغير الصريح يفسره ما تقدم عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان المقام في سقع البيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه) فإن هذا يدل على أن عمر إنما رده إلى الموضع الذي وضعه فيه أول مرة. 3 - مما علل به تأخير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المقام: رده إلى موضعه في عهد إبراهيم الخليل - عليه السلام؛ لما في رواية [المدونة] ، المتقدمة بلفظ: (فلما ولي عمر أخرج أخيوطة كانت في خزانة الكعبة قد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل، فقاسه عمر، فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. ا. هـ. وهذا تعارضه رواية الفاكهي عن عثمان بن أبي ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في سياق قصة بناء البيت بلفظ: (فلما بلغ- أي: إبراهيم عليه السلام- الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقا بالبيت) ، كما يعارضه ما ذكره الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ج (8) ص (137) في باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) من (كتاب التفسير) قال: (كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت، إلى أن أخره عمر - رضي الله عنه - إلى المكان الذي هو فيه الآن. أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه] ، بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضا،. ا. هـ. فهاتان الروايتان هما المانعتان من قبول ما في رواية [المدونة] ، ولا يقال: إن رواية [المدونة] تتأيد برواية ابن الجوزي في [تاريخ عمر بن الخطاب] ، في باب ذكر ما خص به في ولايته مما لم يسبق إليه: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كان مقام إبراهيم لاصقا بالكعبة، حتى كان زمن عمر بن الخطاب، فقال عمر: إني لأعلم ما كان موضعه هنا، ولكن قريش خافت عليه من السيل فوضعته هذا الموضع، فلو أني أعلم موضعه الأول لأعدته فيه، فقال رجل من آل عايذ بن عبد الله بن عمر ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

بن مخزوم: أنا والله يا أمير المؤمنين أعلم موضعه الأول، كنت لما حولته قريش أخذت قدر موضعه الأول بحبل، وضعت طرفه عند ركن البيت الأول أو الركن أو الباب، ثم عقدت في وسطه عند موضع المقام فعندي ذلك الحبل، فدعا عمر بالحبل فقدروا به، فلما عرفوا موضعه الأول أعاده عمر فيه، قال عمر: إن الله عز وجل يقول: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) فإن هذه الرواية يمنع من اعتبارها: أن ابن الجوزي لم يذكر سندها إلى عبد الرحمن بن أبي الزناد - وما في عبد الرحمن بن أبي الزناد من المقال- ففي [الجرح والتعديل] حدثنا عبد الرحمن حدثنا محمد بن إبراهيم قال: سمعت عمرو بن علي قال: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن عبد الرحمن بن أبي الزناد. حدثنا عبد الرحمن، حدثنا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل قال: قلت لأبي: عبد الرحمن بن أبي الزناد؟ قال: مضطرب الحديث. حدثنا عبد الرحمن، قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن أبي الزناد دون الدراوردي، لا يحتج بحديثه، حدثنا عبد الرحمن، سئل أبي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد؟ فقال: يكتب حديثه، ولا يحتج به، وهو أحب إلي من عبد الرحمن بن أبي الرجال، ومن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. حدثنا عبد الرحمن قال: سألت أبا زرعة عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، وورقاء، والمغيرة بن عبد الرحمن، وشعيب بن أبي حمزة، من أحب إليك ممن يروي عن أبي الزناد؟ قال: كلهم أحب إلي من عبد الرحمن بن أبي الزناد) . ا. هـ. ما في [الجرح والتعديل] . وقال النسائي في [الضعفاء ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125

والمتروكين] ،: عبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف. ا. هـ. وفي كتاب [المجروحين] ، لابن حبان في ترجمة عبد الرحمن بن أبي الزناد: أنه كان ممن ينفرد بالمقلوبات عن الأثبات، قال: وكان ذلك من سوء حفظه، وكثرة خطئه، فلا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد) ، وفي [الميزان] : أن من مناكيره حديث: «من كان له شعر فليكرمه (¬1) » ، وحديث: «الهرة من متاع البيت (¬2) » ، ومما يمنع اعتبار رواية ابن أبي الزناد المذكورة ما روى عبد الرزاق، عن معمر عن حميد، عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه عافية السيول، وكانوا يطوفون خلفه، فقال عمر للمطلب بن أبي وداعة السهمي: هل تدري أين موضعه الأول؟ قال: نعم، قدرت ما بينه وبين الحجر الأسود، وما بينه وبين الباب، وما بينه وبين زمزم، وما بينه وبين الركن عند الحجر، قال: تأتي بمقدار، فجاء بمقداره، فوضعه موضعه الأول) . ا. هـ. فإن في هذه الرواية: أن الذي دل عمر بن الخطاب على موضعه الأول: سهمي، لا مخزومي، وهذا أشهر من رواية ابن الجوزي عن ابن أبي الزناد. 4 - مما علل به تأخير عمر المقام مخافة التشويش على الطائفين، قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة- أي: سنة ثماني عشرة- في ذي الحجة منها حول عمر منها المقام، وكان ملصقا بجدار الكعبة، فأخره إلى حيث هو الآن؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين، نقله عن الواقدي وغيره الحافظ ابن كثير في الجزء السابع من تاريخه [البداية والنهاية] ص (93) ثم قال الحافظ ابن كثير: (قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر، ولله الحمد والمنة) . ا. هـ. إلى هذه العلة مال الحافظان ابن ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الترجل (4163) . (¬2) سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (369) .

كثير في [التاريخ] ، وابن حجر في [فتح الباري] في (كتاب التفسير) . قال ابن كثير في التاريخ المذكور ج (1) ص (164) : (قد كان هذا الحجر- أي: مقام إبراهيم عليه السلام- ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأخره عن البيت قليلا؛ لئلا يشغل المصلون عنده الطائفين بالبيت) . وقال الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ، ج (8) ص (137) : كان عمر رأى أن إبقاءه- أي: مقام إبراهيم عليه السلام - يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين فوضع في مكان يرتفع به الحرج. ا. هـ.

حكم تأخير المقام اليوم نظرا للحرج أثبتنا فيما تقدم أن مقام إبراهيم - عليه السلام - كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر الصديق وبعض خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في سقع البيت، ثم أخره عمر أول مرة مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة، ومادام الأمر كذلك فلا مانع من تأخير المقام اليوم عن ذلك الموضع إلى موضع آخر في المسجد الحرام يحاذيه ويقرب منه، نظرا إلى ما ترتب اليوم على استمراره في ذلك الموضع من حرج أشد على الطائفين من مجرد التشويش عليهم الذي حمل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أن يؤخره عن الموضع الذي كان فيه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بتأخيره؛ نظرا لما ذكرنا نكون مقتدين بعمر بن الخطاب المأمور بالاقتداء به، ونرفع الحرج من ناحية أخرى عن الأمة المحمدية التي دلت النصوص القطعية على رفع الحرج عنها، قال الشاطبي

في [الموافقات] : إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) وسائر ما يدل على هذا المعنى، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬3) وقوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} (¬4) وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬5) ' قال الشاطبي: (وقد سمي هذا الدين: الحنيفية السمحة؛ لما فيه من التسهيل والتيسير) ، وأطال الشاطبي في ذلك، وذكر أن قصد الشارع من مشروعية الرخص رفع الحرج عن الأمة، وقال السيوطي في [الإكليل] ،: (قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬6) هو أصل القاعدة: (المشقة تجلب التيسير) ، وقال أبو بكر بن العربي في [أحكام القرآن] ، في تفسير الآية الكريمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬7) قال: (كانت الشدائد والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدا قبلها) ، وقال عبد الرزاق في تفسيره: (أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬8) قال: من ضيق، وقال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬9) ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 78 (¬2) سورة البقرة الآية 185 (¬3) سورة النساء الآية 28 (¬4) سورة الأحزاب الآية 38 (¬5) سورة الأعراف الآية 157 (¬6) سورة الحج الآية 78 (¬7) سورة الحج الآية 78 (¬8) سورة الحج الآية 78 (¬9) سورة الحج الآية 78

يقال للنبي: أنت شهيد على قومك، وقال الله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬1) ويقال للنبي: سل تعط، وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2) ا. هـ. وفي كلام الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] ما يدل على أن تأخير عمر بن الخطاب المقام عن موضعه الأول إلى موضعه اليوم من قبيل رفع الحرج عن الأمة، ونصه ج (8) ص (137) : (كان عمر رأى أن إبقاءه- أي: مقام إبراهيم عليه السلام - في الموضع الأول، يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين فوضع في مكان يرتفع به الحرج) . ا. هـ. ومثل نظر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في شأن المقام إلى رفع الحرج نظره إليه أيضا في شأن المطاف حينما كثر الناس فوسعه، وتبعه في ذلك عثمان، ففي [الأحكام السلطانية] ، للماوردي ما نصه: (كان- أي: المسجد الحرام - فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - جدار يحيط به، فلما استخلف عمر - رضي الله عنه - وكثر الناس، وسع المسجد، واشترى دورا هدمها، وزادها فيه، وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا، ووضع لهم الأثمان، حتى أخذوها بعد ذلك، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، وكان عمر - رضي الله عنه - أول من اتخذ جدارا للمسجد، فلما استخلف عثمان - رضي الله عنه - ابتاع منازل فوسع بها المسجد، وأخذ منازل قوم ووضع لهم أثمانها فضجوا منه عند البيت، فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم، فقد فعل بكم عمر - رضي الله عنه - هذا، فأقررتم ورضيتم، ثم أمر بهم إلى الحبس، حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسد، فخلى سبيلهم، وبنى للمسجد ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 143 (¬2) سورة غافر الآية 60

الأروقة، فكان عثمان - رضي الله عنه - أول من اتخذ للمسجد الأروقة) . ا. هـ. المراد من كلام الماوردي في [الأحكام السلطانية] وهو آخر البحث. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. محمد بن إبراهيم آل الشيخ

قرار رقم 35 بخصوص نقل مقام إبراهيم عليه السلام والبناء بمنى

قرار رقم (35) وتاريخ 14\ 2\ 1395هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على خطاب المقام السامي رقم (30560) وتاريخ 9\ 10\ 1394 هـ الموجه من جلالة الملك حفظه الله إلى فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بخصوص عرض الرسالة التي هي من تأليف الشيخ\ علي الصالحي، الخاصة بنقل مقام إبراهيم - عليه السلام -، والبناء بمنى، وبعض المقترحات في المسجد الحرام - على هيئة كبار العلماء لدراسة المقترحات التي تضمنتها الرسالة، وبيان الرأي فيها. وفي الدورة السادسة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر صفر عام 1395 هـ جرى من مجلس الهيئة استعراض الرسالة المذكورة، فوجدت تتلخص فيما يأتي: أ- اقتراح بنقل المقام من مكانه الحالي إلى مكان آخر؛ ليتسع المطاف للطائفين أيام الحج. ب- اقتراح بالبناء في منى بصفة جاء وصفها وتحديدها في الاقتراح. ج- اقتراح ببناء طرق معلقة في المسعى فوق الساعين تنفذ إلى الحرم دون أن يتأذوا أو يتأذى الساعون. د- اقتراح باستغلال هواء المطاف بتسقيفه بطريقة جاء وصفها وتحديدها في الاقتراح، واقتراحات بربط مبنى الحرم القديم بالجديد، وتبليط

حصوات الحرم. ثم جرى من المجلس مناقشة هذه المقترحات، ومداولة الرأي فيها، وتقرر ما يلي: أولا: بالنسبة لموضوع نقل المقام، فمما لا شك فيه أن وضعه الحالي يعتبر من أقوى الأسباب فيما يلاقيه الطائفون في موسم الحج من المشقة العظيمة والكلفة البالغة التي قد تحصل بالبعض إلى الهلاك أو تقارب، وذلك بسبب الزحام والصلاة عنده، وقد سبق أن بحث موضوع نقله، وصدر من سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- فتوى بجواز نقله شرعا، إلا أنه رؤي الاكتفاء بتجربة تتلخص في إزالة الزوائد المحيطة بالمقام، ويبقى في مكانه، فإن كان ذلك كافيا ومزيلا للمحذور استمر بقاؤه في مكانه، وإلا تعين النظر في أمر نقله. وحيث مضى على هذه التجربة عدة سنوات، واتضح أن بقاءه في مكانه الحالي لا يزال سببا في حصول الزحام والمشقة العظيمة به، ونظرا إلى أن من قواعد الشريعة الإسلامية: أن المشقة تجلب التيسير، وأن النصوص الشرعية قد تضافرت في رفع الحرج عن هذه الأمة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬3) وقد تتبعت الهيئة الآثار الواردة في تعيين مكان مقام إبراهيم - عليه السلام - في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذكره بعض أهل التفسير والحديث والتاريخ أمثال: الحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والشوكاني وغيرهم- ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 78 (¬2) سورة البقرة الآية 185 (¬3) سورة النساء الآية 28

فترجح لديها أن مكانه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وبعض من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في سقع البيت، ثم أخره عمر أول مرة؛ مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة. قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) بعد ذكره الأحاديث الواردة في الصلاة عنده- قال: قلت: وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا- والله أعلم- أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أحد الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر (¬2) » ، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. قال عبد الرزاق: عن ابن جريج، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا، قال: أول من نقله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال عبد الرزاق أيضا: عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال الحافظ أبو بكر أحمد ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125 (¬2) سنن الترمذي المناقب (3662) ، سنن ابن ماجه المقدمة (97) ، مسند أحمد بن حنبل (5/382) .

بن الحسين بن علي البيهقي، أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: «أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه،» وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان- يعني: ابن عيينة - وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه، وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، وقال سفيان: لا أدري أكان لاصقا بها أم لا. فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا ابن عمر، وهو: أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم، هو: ابن أبي إياس في [تفسيره] ، أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد قال: «قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا، (¬3) » قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي، فينزل به القرآن، هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول من ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 125 (¬2) صحيح البخاري الصلاة (402) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2959) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1009) ، سنن الدارمي المناسك (1849) . (¬3) سورة البقرة الآية 125 (¬2) {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}

أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم. اهـ. وقال رحمه الله في معرض تفسيره قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} (¬1) قد كان- أي المقام - ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في الجزء الثامن من [الفتح] ،: كان عمر رأى أن إبقاءه- أي: مقام إبراهيم عليه السلام - يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين فوضع في مكان يرتفع به الحرج. اهـ. وقال الشوكاني في تفسيره [فتح القدير] ، على قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬3) وهو- أي: المقام - الذي كان ملتصقا بجدار الكعبة، وأول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بأسانيد صحيحة، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. اهـ. وبناء على ذلك كله: فإن الهيئة تقرر بالإجماع جواز نقله شرعا إلى موضع مسامت لمكانه من الناحية الشرقية؛ نظرا للضيق والازدحام الحاصل في المطاف، والضرورة إلى ذلك، ما لم ير ولي الأمر تأجيل ذلك لأمر مصلحي. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية 97 (¬2) سورة البقرة الآية 125 (¬3) سورة البقرة الآية 125

ثانيا: بالنسبة إلى البناء في منى فلا يخفى أن منى مشعر من المشاعر المقدسة، وأنها مناخ من سبق، وأن أهل العلم رحمهم الله قد منعوا البناء فيها؛ لكون ذلك يفضي إلى التضييق على عباد الله حجاج بيته الشريف. ونظرا إلى أن سفوح جبالها غير صالحة في الغالب لسكنى الحجاج فيها أيام منى، وأنه يمكن أن تستغل هذه السفوح بطريقة تحقق المصلحة العامة، ولا تتعارض مع العلة في منع البناء في منى - فإن المجلس يقرر بالأكثرية: جواز البناء على أعمدة في سفوح الجبال المطلة على منى على وجه يضمن المصلحة للحجاج، ولا يعود عليهم بالضرر، ويكون هذا البناء مرفقا عاما، وما تحته لمن سبق إليه من الحجاج كبقية أراضي منى، على أن يكون الإشراف على هذا البناء للدولة. وقد توقف في ذلك صاحبا الفضيلة الشيخان: صالح اللحيدان، وعبد الله بن غديان.. ثالثا: بالنسبة لما يتعلق بتسقيف المطاف فيرى المجلس أنه لا حاجة إلى ذلك، ولما فيه من المضرة والمضايقات. رابعا: بالنسبة لبقية المقترحات؟ كبناء الجسور في المسعى، وتبليط حصوات الحرم، وتخطيط منى، وربط مبنى الحرم القديم بالبناء الجديد - فما كان منها محققا للنفع فإن الشريعة جاءت بتحقيق المصالح ودفع المضار، فتحال إلى الجهة المختصة لدراستها، وتقرير ما يحقق المصلحة

في ذلك منها. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة السادسة. . عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن حميد ... عبد الله خياط محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ومتوقف في البناء في سفوح الجبال بمنى ... راشد بن خنين صالح بن لحيدان متوقف في أمر البناء في السفوح ... عبد الله بن منيع ...

قتل الغيلة

(9) قتل الغيلة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم قتل الغيلة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة المنعقدة في شهر صفر عام 1395 هـ من إعداد بحث في قتل الغيلة، ليدرج في جدول أعماله بالدورة السابعة- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته بيان معنى قتل الغيلة في اللغة، وخلاف الفقهاء في ضابطه شرعا، وخلافهم فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا، وبيان ما يترتب على هذا الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدم قبوله، مع ذكر أدلة القولين ومناقشتها. وختمت البحث بخلاصة عن ذلك. والله الموفق.

معنى قتل الغيلة في اللغة وضابطه عند الفقهاء

ا- معنى قتل الغيلة في اللغة وضابطه عند الفقهاء: أ- قتل الغيلة: لغة: قال الإمام اللغوي إسماعيل بن حمد الجوهري: (غاله الشيء واغتاله: إذا أخذه من حيث لم يدر) (¬1) ، قال: (واغتاله: قتله غيلة، والأصل ¬

_ (¬1) [الصحاح] ، (5\ 1785) طبعة دار الكتاب العربي بمصر

الواو) (¬1) هكذا ذكر الجوهري في مادة (غول) المعتلة العين بالواو، وقال في مادة: (غيل) المعتلة العين بالياء (والغيلة: بالكسر الاغتيال، يقال: قتله غيلة، وهو: أن يخدعه فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله) (¬2) . وقال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (غول) : الغين والواو واللام أصل صحيح يدل على ختل وأخذ من حيث لا يدري، يقال: غاله يغوله: أخذه من حيث لم يدر. قالوا: والغول بعد المفازة؛ لأنه يغتال من مر به، قال: به تمطت غول كل ميل. والغول من السعالي: سميت؛ لأنها تغتال، والغيلة: الاغتيال، والياء واو في الأصل، والمغول: سيف دقيق له قفا، وأظنه سمي مغولا؛ لأنه يستر بقراب حتى لا يدرى ما فيه (¬3) . وقال الزمخشري في (الغيلة) : (هي: فعلة من الاغتيال، وياؤها عن واو؛ لأن الاغتيال من (غالته الغول) وتغوله غولا، وأورد هناك أثرا (أن صبيا قتل بصنعاء غيلة فقتل به عمر سبعة، وقال: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم) (¬4) . وقال المجد الفيروزآبادي: (والغول: الهلاك والإهلاك خفية، غاله واغتاله بمعنى) (¬5) . ¬

_ (¬1) [الصحاح] (5\1786) (¬2) [الصحاح] (5 \1787) (¬3) معجم مقاييس اللغة، (4\ 402) طبعة دار إحياء الكتاب العربي الأولى (¬4) الفائق في غريب الحديث (2 \ 118) طبعة حيدرأباد (¬5) [بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز] ، (4\ 154)

وقال المجد الفيروزآبادي في معاني الغيلة بكسر الغين: والخديعة والاغتيال، وقتله غيلة: خدعه فذهب به إلى موضع فقتله. وعلق الزبيدي على هذه العبارة بقوله: (نقله الجوهري وقد اغتيل. وقال أبو بكر: الغيلة في كلام العرب: إيصال الشر أو القتل إليه من حيث لا يعلم ولا يشعر، وقال أبو العباس: قتله غيلة إذا قتله من حيث لا يعلم. وفتك به: إذا قتله من حيث تراه وهو غار غافل غير مستعد) (¬1) . ¬

_ (¬1) [القاموس وشرحه تاج العروس] ، (8\ 53) .

قتل الغيلة شرعا

ب- قتل الغيلة شرعا: اختلف العلماء في ضابط قتل الغيلة: هل يخص القتل عمدا عدوانا على مال ونحوه، أو يعم كل قتل عمد عدوان على غرة، أو مع خداع بحيث يتعذر معه الخلاص؟ وفيما يلي أقوال الفقهاء في ذلك: قال العلامة علي بن سلطان القاري في قتل الغيلة: (هو أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد، والغيلة: فعلة من الاغتيال، وفي المغرب: الغيلة: القتل خفية، وفي القاموس: الغيلة بالكسر: الذريعة والاغتيال، وقتله غيلة، أي: خدعه فذهب به إلى موضع فقتله) (¬1) . وقال القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي: (أصحابنا- أي: المالكية- يوردونه- أي: قتل الغيلة- على وجهين: أحدهما: القتل على وجه المحيل والخديعة. ¬

_ (¬1) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح] (4\ 19) طبعة بمبي

والثاني: على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ) (¬1) . وقال العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القروي: (قال الفاكهاني عن أهل اللغة: قتل الغيلة: هو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع خفي، فإذا صار فيه قتله) ومر إلى أن قال: (ونقل عن بعض أصحابنا- وأظنه البوني رحمه الله تعالى- أنه اشترط في ذلك أن يكون القتل على مال- وأما الثائرة، وهي: العداوة بينهما، فيجوز العفو فيه. قلت: ما ظنه عن البوني مثله نقل الباجي عن العتبية والموازية قال: قتل الغيلة حرابة، وهو: قتل الرجل خفية لأخذ ماله، قال: (ومن أصحابنا من يقول: هو القتل على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ، وقبله ابن زرقون) (¬2) . وقال الشيخ أحمد بن أحمد بن عيسى البرنسي الفاسي المعروف بزروق: (قال أهل اللغة: قتل الغيلة: أن يخدعه بالقول حتى يأمن فيمشي به إلى موضع فيقتله، يريد لأخذ ماله لا لثائرة بينهما، وإلا فليس بغيلة، وفي النوادر عن الموازية: قتل الغيلة من الحرابة، أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخل موضعا فيقتله ويأخذ ما معه. وقال اللخمي: من أخذ مال رجل بالقهر ثم قتله خوفا من أن يطلبه بما أخذ لم يكن محاربا، وإنما هو مغتال، ثم هذا إذا فعل ذلك خفية وإلا فليس بغيلة. اهـ (¬3) وقال الحطاب: (قال: - أي: خليل - في التواضيح في باب الحرابة: الغيلة: أن يخدع غيره؛ ليدخله موضعا ويأخذ ماله. وقال أيضا: قال ابن ¬

_ (¬1) [المنتقى شرح الموطأ، للباجي] (7\ 116) طبعة مطبعة العادق الأولى (¬2) [شرح الرسالة] لابن ناجي بهامش شرح زروق (2\ 228، 229) (¬3) [شرح الرسالة] لزروق (2\ 228، 229) طبعة المطبعة الجمالية.

رشد في رجل مرض وله أم ولد من سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين: إن قتل الغيلة: هو القتل على مال. وقال القاضي علي بن عبد السلام التسولي: (فأما الغيلة فهي من أنواع الحرابة، وهي: أن يقتله؛ لأخذ ماله أو زوجته أو ابنته، وكذا لو خدع كبيرا أو صغيرا فيدخله موضعا خاليا؛ ليقتله ويأخذ ماله، أو يخادع الصبي أو غيره ليأخذ ما معه) (¬1) . وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في شرح قول خليل في باب الحرابة من مختصره: (ومخادع أو غيره ليأخذ ما معه) ، قال الدسوقي بعد أن ذكر أن هذا القتل قتل غيلة: (وقتل الغيلة من الحرابة، ونص الجواهر: قتل الغيلة من الحرابة، وهي: أن يغتال رجلا أو صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة) اهـ. قال طغى: تفسيرها- الغيلة- بما ذكر يدل على أن القتل ليس شرطا فيها، وأن قتل الغيلة من الحرابة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قوله: (قتل غيلة) بكسر أوله، أي: خديعة، والاغتيال: الأخذ على غفلة) (¬2) . ¬

_ (¬1) [البهجة في شرح التحفة] ، (2\ 342) (¬2) [هدي الساري] (1\ 123) طبعة المنار

وقال الفقيه مصطفى السيوطي الرحيباني: (وقتل الغيلة، بكسر الغين المعجمة، وهو: القتل على غرة، كالذي يخدع إنسانا فيدخله بيتا أو نحوه أو غيره) (¬1) . وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: (أما إذا كان يقتل النفوس سرا؛ لأخذ المال، مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب، أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله- فهذا يسمى: القتل غيلة) (¬2) . ¬

_ (¬1) [مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى] (6\39) (¬2) [السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية] ، ص (84) طبعة دار الكتاب العربي بمصر- ط: الثالثة

خلاف الفقهاء فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا

2 - خلاف الفقهاء فيما يوجبه من القتل حدا أو قودا وبيان ما يترتب على الخلاف من قبول العفو عن القاتل وعدمه: اختلف أهل العلم فيما يوجبه قتل الغيلة، ولمن الأمر فيه على قولين: أحدهما: القصاص أو الدية، على حسب اختيار أولياء المقتول. والثاني: القتل، ويرجع فيه إلى السلطان، وفيما يلي ذكر نقول عن بعض من قال بكل واحد منهما، وأثر الخلاف، مع الأدلة والمناقشة. المذهب الأول: أن من قتل رجلا عمدا غيلة أو غير غيلة، فذلك إلى أولياء القتيل، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا عفوا، وبهذا قال أبو حنيفة (¬1) ، ¬

_ (¬1) الأم، (7\ 299)

والشافعي (¬1) ، وابن قدامة (¬2) ، وابن حزم، ومن وافقهم من أهل العلم. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (¬3) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬4) قال محمد بن الحسن الشيباني في توجيه الاستدلال بالآيتين قال: فلم يسم في ذلك قتل الغيلة ولا غيرها. وقال ابن حزم بعد ذكره للآيتين وحديث: «من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين (¬5) » . . . قال: (إن الله تعالى لو أراد أن يختص من ذلك قتل الغيلة أو الحرابة لما أغفله ولا أهمله، ولبينه صلى الله عليه وسلم) (¬6) . أما السنة: فما أخرجه الترمذي بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما فتح الله على رسوله مكة قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو، وإما أن يقتل (¬7) » . قال الترمذي: وفي الباب عن وائل بن حجر وأنس وأبي شريح خويلد بن ¬

_ (¬1) [الأم] (7\299) (¬2) [المغني] (7\648) وما بعدها (¬3) سورة الإسراء الآية 33 (¬4) سورة البقرة الآية 178 (¬5) سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن أبو داود الديات (4504) . (¬6) [المحلى] 7\521 (¬7) صحيح البخاري العلم (112) ، صحيح مسلم الحج (1355) ، سنن الترمذي الديات (1405) ، سنن النسائي القسامة (4785) ، سنن أبو داود الديات (4505) ، سنن ابن ماجه الديات (2624) .

عمرة، ثم ساق بسنده إلى أبي شريح الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما (¬1) » ... إلى أن قال: «ثم إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل (¬2) » ، قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وقال السهيلي في حديث أبي شريح: حديث صحيح، وإن اختلفت الرواة (¬3) . وممن استدل بحديث أبي شريح ابن حزم وابن قدامة. قال ابن حزم في توجيه الاستدلال: فذكر الدية أو القود أو المفاداة، والدية لا تكون إلا بالعفو عن القود بلا شك، فعمم عليه الصلاة والسلام ولم يخص، وذكر أيضا: أن قتل الغيلة لو كان مخصوصا من ذلك لبينه صلى الله عليه وسلم (¬4) . وما أخرجه البخاري وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬5) إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬6) فالعفو: أن تقبل الدية في العمد {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬7) مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} (¬8) قتل بعد قبول الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬9) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العلم (104) ، صحيح مسلم الحج (1354) ، سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن النسائي مناسك الحج (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/32) . (¬2) سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن أبو داود الديات (4504) . (¬3) [الروض الأنف] (2\278) (¬4) [المحلى] (10\520) (¬5) سورة البقرة الآية 178 (¬6) سورة البقرة الآية 178 (¬7) سورة البقرة الآية 178 (¬8) سورة البقرة الآية 178 (¬9) سورة البقرة الآية 178

وجه الدلالة: قال ابن حجر العسقلاني في كلامه على رواية البخاري لهذا الحديث: استدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد ولو كان غيلة (¬1) ويمكن أن الجمهور استدلوا بالحديث لما ذكره ابن حجر أخذا من عمومه في قتل الغيلة وغيره، وأنهم لم يطلعوا على مخصص يخرج قتل الغيلة من هذا العموم، فبقي العموم على أصله. وأما الأثر: فما رواه الإمام الشافعي عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو حنيفة رحمه الله، عن حماد، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا، فأمر بقتله، فعفا بعض الأولياء، فأمر بقتله، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت لهم النفس، فلما عفا هذا أحيا النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصة الذي عفا، فقال عمر: وأنا أرى ذلك (¬2) . أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن النخعي قال: من عفا من ذي سهم فعفوه عفو. وجه الدلالة: ما قاله الشافعي عن محمد بن الحسن: فقد أجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء، ولم يسألوا: أقتل غيلة كان ذلك أو غيره؟ (¬3) ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12\176) وما بعدها. (¬2) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم] ، (7\299) (¬3) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم] ، (7\299)

وقال الشافعي بعد سياقه لهذين الأثرين ولكلام محمد بن الحسن: كل من قتل في حرابة أو صحراء أو مصر أو مكابرة أو قتل غيلة على مال أو غيره أو قتل ثائرة - فالقصاص والعفو إلى الأولياء، وليس إلى السلطان من ذلك شيء، إلا الأدب إذا عفا الولي (¬1) . وأما المعنى: فقال ابن قدامة: إنه قتيل في غير المحاربة، فكان أمره إلى وليه كسائر القتل (¬2) . المذهب الثاني: أنه لا يجوز العفو في قتل الغيلة، وإذا عفا الأولياء قتله السلطان، وممن قال بهذا القول: مالك ومن وافقه على ذلك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أخذ سماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله بهذا القول. وفيما يلي ذكر طائفة من النقول في ذلك عن بعض أهل العلم نذكر بعدها الأدلة: قال الشافعي: وقال أهل المدينة: إذا قتله قتل غيلة من غير ثائرة ولا عداوة فإنه يقتل، وليس لولاة المقتول أن يعفوا عنه، وذلك إلى السلطان يقتل فيه القاتل (¬3) وقال ابن حجر: وألحقه مالك بالمحارب فإن الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه، وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل إذا ¬

_ (¬1) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم] ، (7\299) (¬2) [المغني] ، (7\ 649) (¬3) الرد على محمد بن الحسن للشافعي ضمن كتاب [الأم] (7\ 299) .

رآه الإمام (¬1) وقال ابن القاسم: (قتل الغيلة أيضا من الحرابة، مثل: أن يغتال رجل صبيا فيخدعه حتى يدخله موضعا فيأخذ ما معه، فهو كالحرابة) وقال سحنون: (قلت- أي: لابن القاسم -: أرأيت إن قتل رجل وليا لي قتل غيلة، فصالحته على الدية، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا، إنما ذلك إلى السلطان، ليس لك ها هنا شيء، وترد ما أخذت منه، ويحكم عليه السلطان بحكم المحارب، فيقتله السلطان بضرب عنقه، أو يصلبه إن أحب حيا فيقتله مصلوبا. قلت: وهذا قول مالك. قال: أما في القتل فكذلك قال لي مالك وفي الصلب، وأما في الصلح فإنه لا يجوز، وهو رأي؛ لأن مالكا قال: ليس لولاة الدم فيه قيام بالدم مثل العمد، وإنما ذلك إلى الإمام يرى فيه رأيه، يقتله على ما يرى من أشنع ذلك) . وقال أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنا النغراوي المالكي على قول ابن أبي زيد: (لا عفو فيه) - قال: لا للأولياء، ولا للسلطان، ولا للمقتول أيضا، ولو بعد إنفاذ مقاتله، ولو كان المقتول كافرا والقاتل حرا مسلما (¬2) . وقال الشيخ علي الصعيدي العدوي في [شرح الرسالة] على قوله: ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (12\210) (¬2) [كفاية الطالب شرح رسالة ابن أبي زيد] ، (2\ 229)

(وقتل الغيلة لا عفو فيه) - قال: لا للمقتول، ولا للأولياء، ولا للسلطان، ظاهر كلامه: ولو كان المقتول كافرا، وهو كذلك في [المدونة] (¬1) . وقال به أحمد بن جزي (¬2) وأحمد الدردير (¬3) ، وأحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي المعروف بزروق (¬4) ونقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه لا يصح العفو في قتل الغيلة؛ لتعذر الاحتراز كالقتل (¬5) ¬

_ (¬1) [شرح رسالة ابن أبي زيد] ، لزروق (2\ 299) (¬2) [قوانين الأحكام] ، ص (375) (¬3) [شرح مختصر خليل] (4\211) ومعه [حاشية الدسوقي] . (¬4) [شرح مختصر خليل] (4\ 211) ومعه [حاشية الدسوقي] (¬5) [الفروع] (5\69) .

وقال ابن القيم: قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، قال أيضا: وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، اختاره شيخنا وأفتى به (¬1) وأما سماحة مفتي الديار السعودية رحمه الله فقد كتب في قضية امرأة قتلت زوجها غيلة خطابا إلى إمارة منطقة الرياض بعدد (365) وتاريخ 21\6\1379هـ جاء فيه ما نصه: إنه بناء على اعترافها، وكون قتلها للرجل غيلة فإنه يتحتم قتلها، وحيث الحال ما ذكره فإنه لا يلتفت إلى ما أبداه الأولياء ووكيل الأم، بل لا بد من قتلها شرعا؛ لأجل حق الله، ثم ساق كلام شيخ الإسلام وابن القيم السابق. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى: ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (3\79)

أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (¬1) قال ابن القاسم: وقتل الغيلة من الحرابة (¬2) وهو قول مالك. وقد أجاب ابن حزم عن ذلك فقال: وجدنا أن الله تعالى قد حد الحرابة: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬3) فلا تخلو هذه الآية أن تكون على الترتيب أو التخيير، فإن كانت على الترتيب فالمالكيون لا يقولون بهذا، وإن كانت على التخيير- وهو قولهم- فليس في الآية ما يدعونه من أن قاتل الحرابة والغيلة لا خيار فيه لولي القتيل، فخرج قولهم: أن يكون له متعلق أو سبب يصح فبطل ما قالوه (¬4) . وأما السنة: فمن ذلك ما يلي: أ- ما أخرجه البخاري ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «لما قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم اجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها ففعلوا، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم، واستاقوا الإبل، وحاربوا الله ورسوله، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأخذوا، فقطع ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 33 (¬2) [تبصرة الحكام] (2\243) (¬3) سورة المائدة الآية 33 (¬4) [المحلي] (10\520)

أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا (¬1) » . قال ابن القيم: وهذا الحديث- أيضا- يدل على أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة (¬2) . وقد أجاب ابن حزم عن الاستدلال بهذا الحديث بعد جوابه عن حديث اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين- فقال: وأما حديث العرنيين فلا حجة لهم فيه أيضا لما ذكرنا في هذا الخبر، سواء بسواء، من أنه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام لم يشاور أولياء الرعاة إن كان لهم أولياء، ولا أنه قال لا خيار في هذا لولي المقتول، فإذا ليس فيه شيء من هذا، فلا حجة لهم ولا لنا بهذا الخبر في هذه المسألة خاصة، فوجب علينا طلب حكمها بموضع آخر. ثم هذا الخبر حجة عليهم؛ لما روينا من طريق مسلم، نا يحيى بن يحيى التميمي، نا هشيم عن عبد العزيز بن صهيب وحميد، عن أنس: أن أناسا من عرينة قدموا، وذكر الحديث، وفيه: أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإسلام- وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا. قال أبو محمد: فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام، والمالكيون هم على خلاف هذا الحكم من وجوه ثلاثة: أحدها: أنه لا يقتل المرتد عنده، ولا عندنا هذه القتلة أصلا. والثاني: لا يقتص عندهم من المرتد، وإنما هو عندهم القتل أو الترك إن تاب. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3018) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الأطعمة (1845) ، سنن النسائي تحريم الدم (4025) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/186) . (¬2) [زاد المعاد] (3\79)

والثالث: أنهم يقولون باستتابة المرتد، وليس في هذا الحديث ذكر استتابته البتة، فعاد حجة عليهم، ومخالفا لقولهم في هذه المسألة وغيرها (¬1) . وذكر جوابا آخر بقوله: قد يمكن أن يكونوا غرباء لا ولي لهم (¬2) ب- ما ثبت في الصحيحين، عن أنس بن مالك: «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي فأخذ واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين (¬3) » . قال ابن القيم في أثناء الكلام على فقه هذا الحديث- قال: وإن قتل الغيلة لا يشترط فيه إذن الولي؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل: إن شئتم فاقتلوه، وإن شئتم فاعفوا عنه، بل قتله حتما. وأورد رحمه الله اعتراضا، وأجاب عنه، فقال: ومن قال: إنه فعل ذلك لنقض العهد لم يصح، فإن ناقض العهد لا يرض رأسه بالحجارة، بل يقتل بالسيف (¬4) وقد يقال: إن هذا الحديث يدل على قتل الرجل بالمرأة قصاصا. وأجاب عن ذلك الأبي فقال: في الاحتجاج به على ذلك ضعف؛ لأن قتله لها إنما كان غيلة، وقتل الغيلة حرابة (¬5) . وقد أجاب ابن حزم أيضا عن الاحتجاج بهذا الحديث فقال: أما حديث اليهودي الذي رضخ رأس الجارية على أوضاحها فليس فيه أن رسول الله ¬

_ (¬1) [المحلى] (10\520) (¬2) [المحلى] (10\521) (¬3) صحيح البخاري الخصومات (2413) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) ، سنن الترمذي كتاب الديات (1394) ، سنن النسائي القسامة (4779) ، سنن أبو داود الديات (4529) ، سنن ابن ماجه الديات (2666) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) ، سنن الدارمي الديات (2355) . (¬4) [زاد المعاد] (2\200) (¬5) [إكمال أكمل المعلم شرح صحيح مسلم] (4\413، 414)

صلى الله عليه وسلم لم يشاور وليها، ولا أنه شاوره، ولا أنه قال: أختار لولي المقتول في الغيلة أو الحرابة، فإذا لم يقل ذلك عليه الصلاة والسلام فلا يحل لمسلم أن ينسب ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكذب عليه، ويقول عليه ما لم يقل، فكيف وهذا الخبر حجة عليهم، فإنهم لا يختلفون في أن قاتل الغيلة أو الحرابة لا يجوز البتة أن يقتل رضخا في الرأس بالحجارة وحدها، وهذا لا يقوله أحد من الناس، فصح يقينا إذ قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم رضخا بالحجارة أنه إنما قتله قودا بالحجارة، وإذا قتله قودا بها فحكم قتل القود: أن يكون بالخيار في ذلك، أو العفو للولي. وإذ ذلك كذلك بلا شك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين (¬1) » . . . إلى آخره، فنحن على يقين من أن فرضا على كل أحد أن يضم هذا الحكم إلى هذا الخبر، وليس سكوت الرواة عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وليها يسقط ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتل من تخيير وليه، بل بلا شك في أنه عليه الصلاة والسلام لم يخالف ما أمر به. ولا يخلو هذا مما ذكرنا من قبول الزيادة المروية في سائر النصوص أصلا. ولو كان هذا الفعل تخصيصا أو نسخا؛ لبينه عليه الصلاة والسلام، فبطل تعلقهم به (¬2) . وذكر جوابا آخر بقوله: قد يكون للأنصارية ولي صغير لا خيار له فاختار النبي صلى الله عليه وسلم القود. لو صح أنه عليه الصلاة والسلام لم يخير الولي فكيف وهو لا يصح أبدا؟! (¬3) ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن أبو داود الديات (4504) . (¬2) [المحلى] (10\520) (¬3) [المحلى] (10\521)

ج- ما رواه البيهقي بسنده إلى الواقدي، وسنده عند الواقدي: حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة في ذكر من قتل بأحد من المسلمين، قال: «مجذر بن زياد قتله الحارث بن سويد غيلة، وكان من قصة مجذر بن زياد أنه قتل سويد بن الصامت في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت، فشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا؛ ليقتله بأبيه، فلم يقدر عليه يومئذ، فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة، أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم خرج إلى حمراء الأسد، فلما رجع أتاه جبريل عليه السلام فأخبره: أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد غيلة، وأمره بقتله، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فلما رآه دعا عويم بن ساعدة فقال: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بالمجذر بن زياد، فإنه قتله يوم أحد غيلة، فأخذه عويم، فقال الحارث: دعني أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى عليه عويم، فجابذه يريد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يركب- إلى أن قال: - حتى إذا استوعب كلامه قال: قدمه يا عويم، فاضرب عنقه، فضرب عنقه (¬1) » . وقد اعترض على الاستدلال بهذا الحديث بقول الشافعي: ولو كان حديثه- أي: حديث مجذر هذا- مما يثبت قلنا به، فإن ثبت فهو كما قالوا، ولا أعرفه إلى يومي هذا (¬2) . ¬

_ (¬1) [السنن الكبرى] ، (8\57) وقد بسطت القصة في [مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم] للواقدي ص (234- 236) (¬2) [السنن الكبرى] (8\56)

وقول البيهقي: إنما بلغنا قصة مجذر بن زياد من حديث الواقدي منقطعا وهو ضعيف (¬1) . وأما الآثار: فمن ذلك ما يلي: أ- ما روى مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا (¬2) وقد ذكره البخاري من طريق آخر، فقال: قال لي ابن بشار: حدثنا يحيى بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن غلاما قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به ب- ما رواه ابن حزم قال: وذكروا ما حدثناه أحمد بن عمر، نا الحسين بن يعقوب، نا سعيد بن فلحون، نا يوسف بن يحيى المعافري، نا عبد الملك بن حبيب، عن مطرف، عن ابن أبي ذئب، عن مسلم بن جندب الهذلي: أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان: أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله، فكتب إليه عثمان أن اقتله به، فإن هذا قتل غيلة على الحرابة. ج- وبه- أي: بالسند السابق- إلى عبد الملك بن حبيب، عن مطرف، عن خاله الحارث بن عبد الرحمن: أن رجلا مسلما في زمان أبان بن عثمان ¬

_ (¬1) [السنن الكبرى] (8\57) (¬2) [الموطأ] ، رواية يحيى بن يحيى الليثي بشرح الباجي (7\ 115)

بن عفان قتل نبطيا بذي حميت على مال معه، فرأيت أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي؛ لقتله إياه غيلة، فرأيته حتى ضرب عنقه. د- وعن عبد الملك بن حبيب، عن مطرف بن أبي الزناد، عن أبيه أنه شهد أبان بن عثمان إذ قتل مسلما بنصراني قتله غيلة. وقد أجاب ابن حزم عن أثر عثمان بقوله: وأما الرواية عن عثمان فضعيفة جدا؛ لأنها عن عبد الملك بن حبيب، وهو ساقط الرواية جدا، ثم عن مسلم بن جندب، ولم يدرك عثمان، وأيضا فلا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم قصة خالفوا فيها عثمان رضي الله عنه بأصح من هذا السند؛ كقضائه في ثلث الدية فيمن ضرب آخر حتى سلح، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، ومن المحال أن يكون ما لم يصح عنه حجة في إباحة الدماء، ولا يكون ما صح عنه حجة في غير ذلك (¬1) وأما المعنى: فإن قتل الغيلة حق لله. وكل حق تعلق به حق الله تعالى فلا عفو فيه، كالزكاة وغيرها (¬2) ؛ لأنه يتعذر الاحتراز منه، كالقتل مكابرة (¬3) . وقد تبين مما تقدم أن أثر الخلاف بين الفريقين: قبول العفو من أولياء الدم بناء على القول بأنه يقتل قصاصا، وعدم قبول العفو بناء على القول بأنه يقتل حدا. ¬

_ (¬1) [المحلى] (10\521) (¬2) [شرح الرسالة] ، لابن أبي زيد القيرواني لزروق (2\ 229) (¬3) [الفروع] (5\669)

الخلاصة

الخلاصة قتل الغيلة: تطلق الغيلة لغة: على أخذ الشيء من حيث لا يدري، فهي متضمنة معنى الختل والغرة والخداع والخفاء، وهي اسم هيئة من الغول بمعنى: الاغتيال والإهلاك، يقال: غاله يغوله، إذا أخذه من حيث لم يدر، ومن ذلك سمي السيف الدقيق مغولا، لأنه يستتر بقراب حتى لا يدرى ما فيه، وسميت المفازة المتباعدة الأطراف غولا، لأنها تغتال من مر بها، وتطلق لغة أيضا على رضاع الولد المرأة الحامل أو التي جامعها زوجها مثلا. والقتل غيلة: في اللغة: هو القتل على غرة، أو مع ختل وخداع، يقال: قتله غيلة إذا ختله وخدعه فقتله من حيث لا يعلم. أما عند الفقهاء: فقد اختلف رأيهم فيه: فمنهم من خصه بالقتل خفية لأخذ المال، ومنهم من قال: هو قتل شخص لأخذ ما معه من مال أو زوجة أو أخت ونحو ذلك، ومنهم من توسع فيه، فقال: إنه القتل على وجه التحيل والخديعة، أو على وجه القصد الذي لا يحتمل معه الخطأ، ويمكن أن يقال: إن هذا الأخير هو مذهب مالك وأصحابه، وما نقل عنهم من التعبير بالقتل على مال محمول على التمثيل لا الحصر، بدليل تعميمهم في كثير من عباراتهم، وتصريح ابن القاسم بجعل القتل على مال مثالا للقتل غيلة (¬1) ، وإدخالهم القتل على وجه القصد الذي لا يحتمل معه الخطأ في ¬

_ (¬1) السطر الأول من ص 25 من [الإعداد]

قتل الغيلة، كقتل المدلجي ولده؛ ولذا أوجب فيه مالك قتل الوالدين لولدهما؛ لكونه قتل غيلة عندهم وإن لم يكن على مال. وأما من اشترط من المالكية في قتل الغيلة: أن يكون على مال فهو بعض المتأخرين (¬1) ، ومقتضى استدلال ابن تيمية التعميم، حيث علل ذلك بقوله: لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة، فيمكن أن يحمل ما نقل عنه من ذكر المال ونحوه على التمثيل. وكذا تسمية العلماء ما جاء في أثر عمر من قتل الجماعة للغلام خشية أن يفضحهم قتل غيلة. ولم يكن ذلك على مال ولا لأخذ شيء من الغلام، وقد استدل المالكية بهذا الأثر على مطلوبهم من أن من قتل غيره غيلة يقتل حدا، ولم ينكر من خالفهم أنه غيلة، وإنما تأولوا الأثر بما يتفق مع ما ذهبوا إليه من أن قتلهم كان قصاصا. هذا ومهما يكن من الاختلاف في ضابط قتل الغيلة فلا أثر له بالنسبة لمن لم يفرق بين أنواع القتل العمد العدوان في إيجابها القصاص دون الحد، وقبول عفو أولياء الدم في ذلك، إنما يظهر أثر الاختلاف في ضابط قتل الغيلة بالنسبة لمن فرق بين جزاء من قتل غيلة ومن قتل عمدا غير غيلة، فقد يكون قتل غيلة تترتب عليه آثاره عند بعضهم ما لا يكون غيلة عند آخرين فلا تترتب عليه آثاره. ¬

_ (¬1) ص 17 من [الإعداد]

الخلاف بين الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة

الخلاف بين الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة: اختلف الفقهاء فيما يوجبه قتل الغيلة: فقال الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية: إنه يوجب القتل قصاصا كسائر أنواع القتل عمدا عدوانا،

وعليه يكون الحق في قتل الجاني لأولياء الدم من ورثة القتيل أو عصبته، فيجب تنفيذه إن اتفقوا على ذلك، ويسقط بعفوهم أو عفو بعضهم، وقال أبو الزناد ومالك وابن تيمية وابن القيم ومن وافقهم: إنه يوجب قتل الجاني حدا لا قودا، فيتولى تنفيذه السلطان أو نائبه، ولا يسقط بعفو أحد، لا السلطان ولا غيره. استدل من قال: إنه يقتل قصاصا بالكتاب والسنة والإجماع والقياس: أما الكتاب: فعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (¬1) قالوا: جعل الله سبحانه الحق في الدم لأولياء القتيل من ورثة أو عصبة دون غيرهم، وعمم في ذلك فلم يخص قتلا دون قتل، والأصل بقاء النص على عمومه حتى يرد ما يصلح لتخصيصه. وأيضا عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬2) فحكم تعالى في عموم القتلى بوجوب القصاص إلا ما خصه الدليل، فأوجب فيه الدية أو لم يوجب فيه شيئا، كما عمم تعالى في العفو بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬3) فلم يخص به قتلا دون قتل، فوجب تعميمه في كل قتل عمد عدوان، غيلة كان ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 33 (¬2) سورة البقرة الآية 178 (¬3) سورة البقرة الآية 178

أم غير غيلة. ونوقش الاستدلال بالآيتين: بأنهما وإن كان ظاهرهما العموم إلا أنه قد ورد ما يصلح لتخصيص عمومهما، وسيأتي مناقشة المخصص عند الاستدلال به للقول الثاني. ونوقش الاستدلال بالآية الثانية: بأنها نزلت في مقاصة بين قتلى بالفعل في حرب فتنة بين المسلمين، فمن بقي له قتلى بعد المقاصة أخذ ديتهم، وليست في القصاص من جان معين لقتيله، ممن اختار تفسيرها بذلك ابن تيمية رحمه الله. وأما السنة: فعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل، أو أن يقتلوا (¬1) » ، فجعل عليه الصلاة والسلام الخيرة لأهل القتيل بين العقل والقصاص في كل قتل، غيلة كان أم غير غيلة. وأما الإجماع: فما رواه أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل قد قتل عمدا فأمر بقتله بعد عفو بعض الأولياء، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت لهم النفس فلما عفا هذا أحيا النفس، فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصة الذي عفا، فقال عمر: وأنا أرى ذلك، فأجاز عمر وابن مسعود العفو من أحد الأولياء، ولم يسألا: أقتل غيلة كان ذلك أم غيره، ولم يعرف لهما في ذلك مخالف، فكان إجماعا. ونوقش: بأنه منقطع، لأن إبراهيم- هو ابن يزيد النخعي ولد سنة 50 هـ، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الديات (1406) ، سنن أبو داود الديات (4504) .

وعمر مات سنة 23 هـ وعليه فما ادعي من الإجماع غير صحيح؛ لأنه سكوتي لا قولي ولا عملي، والسكوتي هنا فرع ثبوت القضية وهي لم تثبت، ويمكن أن يناقش أيضا: بأن عدم الاستفسار بناء على أن الأصل عموم القصاص في كل قتل عمد عدوان. وأيضا ما روى عبد الرزاق عن سماك بن الفضل: أن عروة كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل خنق صبيا على أوضاح له حتى قتله فوجدوه والحبل في يده، فاعترف بذلك، فكتب: أن ادفعوه لأولياء الصبي، فإن شاءوا قتلوه. ولم يسأل عمر عن صفة القتل أهو غيلة أم لا؟ ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعا. ونوقش: بأن فيه عنعنة عبد الرزاق بن همام وهو مدلس. ونوقش الأثران: بأن كلا منهما واقعة عين لا عموم لها، ودعوى ترك السؤال مجرد احتمال لا دليل عليه، إذ ليس في كل من الأثرين ثبوت السؤال ولا نفيه، ومع تساوي الاحتمالين يسقط الاستدلال. أما القياس: فقالوا فيه: إنه قتل في غير حرابة، فكان كسائر أنواع القتل في إيجاب القصاص وقبول العفو؛ لعدم الفارق. ونوقش: بوجود الفارق، بأنه من الحرابة أو كالحرابة، ويتبين ذلك مما يأتي في الاستدلال للقول الثاني إن شاء الله. واستدل من قال: إن قتل الغيلة يقتل فيه الجاني حدا لا قودا فلا يسقط بالعفو من السلطان أو غيره بالكتاب والسنة والإجماع والقياس: أما الكتاب: فإن قتل الغيلة نوع من الحرابة، فوجب به القتل حدا لا قودا؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (¬1) الآية. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 33

ونوقش: بمنع كونه نوعا من الحرابة. وأما السنة: أ- ما ثبت أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ ‍‍‍ حتى ذكروا يهوديا، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضوا رأسه بالحجارة. قالوا: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل اليهودي، ولم يجعل ذلك إلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصا لكان الحق لأوليائها، ولم يضرب عنهم صفحا، فدل ذلك على أنه قتله حدا لا قودا. ب- ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل العرنيين الذين قتلوا الرعاة قتل حرابة وغيلة، ولم ينقل أنه جعل لأولياء الرعاة الخيار، ولو كان قتله إياهم قصاصا لشاورهم وطلب رأيهم، فدل على أنه قتلهم حدا لا قودا. وبذلك يتبين أن قتل الغيلة له حكم خاص يختلف عن حكم سائر القتل العمد العدوان. ونوقش الاستدلال بالحديثين: بأن عدم نقل مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أولياء الجارية والرعاة لا يدل على عدم المشاورة ولا على ثبوتها، فلا يصح أن يخصص هذان الحديثان أدلة عموم القصاص بالقتل العمد العدوان، ثم إن العرنيين جمعوا بين جريمة القتل والسرقة والتمثيل أو الردة فقتلوا حدا، ولا يلزم منه أن يقتل حدا كل من لم يحصل منه إلا القتل وحده وإن كان غيلة. ثم مراعاة المماثلة في تنفيذ العقوبة دليل على أن قتل اليهودي

بالجارية كان قصاصا. ج- مما رواه الواقدي قال: حدثني اليمان بن معن، عن أبي وجزة قال: دفن ثلاثة نفر يوم أحد في قبر: النعمان بن مالك، ومجذر بن زياد وعبدة بن الحسحاس، ثم ذكر قصة قتل مجذر بن زياد، وفيها: أن الحارث بن سويد قتل مجذر بن زياد يوم أحد غيلة بأبيه سويد بن الصامت الذي قتله مجذر بن زياد في الجاهلية غدرا، وكان ذلك مما هيج وقعة بعاث، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحارث قتل مجذرا غيلة، وأمره بقتله، فلما جاء الحارث بن سويد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عويم بن ساعدة أن يضرب عنقه بقتله مجذرا غيلة، وبنو مجذر حضور عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستشر أحدا منهم. قال المستدلون بالقصة: دل ذلك على أن القاتل غيلة يقتل حدا لا قودا، ولا عفو فيه لأولياء الدم ولا للسلطان. ونوقش: بأن الواقدي مختلف فيه، فوثقه جماعة، وضعفه آخرون، بل رماه جماعة بالكذب في الحديث ووضعه، منهم أحمد بن حنبل والنسائي، وأيضا في سنده اليمان بن معن وهو مجهول، وأيضا في سنده انقطاع (¬1) . وعلى ذلك لا تقوم به حجة، ولا يصلح لتخصيص عموم أدلة القول الأول. وأما الآثار: فمنها أولا: ما ثبت أن عمر رضي الله عنه أمر بقتل جماعة اشتركوا في قتل غلام غيلة بصنعاء وقال: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم ¬

_ (¬1) يرجع إلى الصحفة (31) من [الإعدد]

به، وفي رواية: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا، فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولم ينقل أنه استشار أحدا من أولياء الدم، ولو كان لهم حق العفو لرد الأمر إليهم، وطلب رأيهم، ولم ينقل أن أحدا من الصحابة أنكر عليه فكان إجماعا. ونوقش: بأنه لا يلزم من عدم النقل عدم الاستشارة. ولا عدم وجود من ينكر، فلا يتم الاستدلال بالأثر على إسقاط حق أولياء الدم في العفو، ولا على ثبوت الإجماع. وتأول ابن قدامة قول عمر: لأقدتهم به) على معنى: لأمكنت الولي من استيفاء القود منهم. ثانيا: ما روي أن عبد الله بن عامر كتب إلى عثمان بن عفان أن رجلا من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله. فكتب إليه عثمان أن اقتله به، فإن هذا قتل غيلة. ورد بأن في سنده عبد الملك بن حبيب الأندلسي، وهو ضعيف، وفي سنده أيضا مسلم بن جندب الهذلي، ولم يدرك عثمان، فكان الأثر منقطعا. ثالثا: ما روي أن رجلا مسلما في زمن أبان بن عثمان أمر بالمسلم فقتل بالنبطي؛ لقتله إياه غيلة، فرأيته حتى ضربت عنقه، ولم ينقل أنه استشار أولياء الدم، ولا أن أحدا أنكر عليه فكان إجماعا. ورد بأن في سنده عبد الملك بن حبيب، وهو ضعيف، كما أن فيه ما تقدم من مناقشة الاستدلال بأمر عمر. وأما القياس: فإن القتل غيلة لما كان في الغالب عن ختل وخداع وأخذ على غرة- تعذر التحفظ منه، فكان كالقتل حرابة ومكابرة في أن عقوبة كل

منهما من الحدود لا القود والقصاص. وأيضا في ذلك سد لذريعة الفساد والفوضى في الدماء، والقضاء على الاحتيال والخديعة وسائر طرق الاغتيال، وبذلك يخصص عموم النص في وجوب القتل قصاصا، فيحمل على ما عدا قتل الغيلة. وهنا إيراد على كلا الفريقين، وهو أن ما ادعاه كل منهما من الإجماع على ما أورده من القضايا في الآثار مردود بأنه مجرد سكوت ممن بلغه ذلك عند المعارضة في حكم صدر من ولي الأمر العام أو نائبه في قضايا أعيان من المسائل الاجتهادية، ومثل ذلك يتعين حمله على الموافقة، فقد يكون من سمع ذلك أو بلغه من العلماء مخالفا فيه، لكنه لم ينكر؛ لما تقرر عند العلماء من أن حكم الحاكم في واقعة عين اجتهادية يرفع الخلاف ويجب إمضاؤه، وعلى هذا لا تصح دعاوى الإجماع فيما تقدم ذكره في الآثار من الأحكام، ولهذا أمثلة كثيرة: منها: قضاء عمر في المشركة أولا بحرمان الأشقاء؛ لاستغراق الفروض كل التركة، وقضاؤه في مثلها ثانيا بتشريك الأشقاء مع الإخوة من الأم في سهمهم، ولم يكن سكوت الصحابة عن حكمه الأول إجماعا؛ وكذا لم يكن سكوتهم عن حكمه الثاني إجماعا، ولذا استمر الخلاف بين العلماء حتى اليوم في حكم هذه المسألة، فمنهم من رأى الصواب في حكمه الأول، ومنهم من رأى الصواب في حكمه الثاني. ومن ذلك ما ورد في المدونة، في مسألة الغيلة من أن سحنونا قال لابن القاسم: أرأيت من قتل قتل غيلة، ورفع إلى قاض من القضاة فرأى ألا يقتله، وأن يمكن أولياء المقتول منه. ففعل، فعفوا عنه، ثم استقضى غيره

فرفع إليه، أفترى أن يقتله القاضي الثاني أم لا يقتله؛ لأنه قد حكم به قاض قبله في قول مالك، قال: (لا أرى أن يقتله؛ لأنه مما اختلف الناس فيه) اهـ (¬1) . فهذا ابن القاسم مع كونه يرى أن عقوبة القاتل غيلة من باب الحدود لا القصاص- منع أن يحكم قاض بحد من قتل غيلة بعد أن حكم قبله قاض يخالفه في الرأي بقبول العفو. فكيف يصح مع ذلك وأمثاله دعوى الإجماع بمجرد السكوت على حكم في قضايا الأعيان؟! هذا ما تيسر، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ¬

_ (¬1) [المدونة] ، (16\ 104) تحت عنوان: الذين يسقون السيكران

قرار رقم 38 حول قتل الغيلة

قرار رقم (38) وتاريخ 11\ 8\ 1395 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة (السادسة) لهيئة كبار العلماء، بأن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الغيلة، وقد أعدته وأدرج في جدول أعمال الهيئة في الدورة السابعة المنعقدة في الطائف من 2\8\ 1395 هـ إلى 11\8\ 1395 هـ. وقد عرض البحث على الهيئة، وبعد قراءته في المجلس ومناقشة المجلس لكلام أهل العلم في تعريف الغيلة في اللغة وعند الفقهاء، وما ذكر من المذاهب والأدلة والمناقشة في عقوبة القاتل قتل غيلة هل هو القصاص أو الحد؟ وتداول الرأي، وحيث إن أهل العلم ذكروا أن قتل الغيلة ما كان عمدا عدوانا على وجه الحيلة والخداع، أو على وجه يأمن معه المقتول من غائلة القاتل، سواء كان على مال أو لانتهاك عرض، أو خوف فضيحة وإفشاء سرها، أو نحو ذلك، كأن يخدع إنسان شخصا حتى يأمن منه ويأخذه إلى مكان لا يراه فيه أحد، ثم يقتله، وكأن يأخذ مال رجل بالقهر ثم يقتله؛ خوفا من أن يطالبه بما أخذ، وكأن يقتله لأخذ زوجته أو ابنته، وكأن تقتل الزوجة زوجها في مخدعه أو منامه- مثلا- للتخلص منه، أو العكس ونحو ذلك. لذا قرر المجلس بالإجماع- ما عدا الشيخ صالح بن غصون - أن القاتل قتل غيلة يقتل حدا لا قصاصا، فلا يقبل ولا يصح فيه العفو من أحد. والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى:

أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} (¬1) الآية. وقتل الغيلة نوع من الحرابة فوجب قتله حدا لا قودا. وأما السنة: فما ثبت في [الصحيحين] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين على أوضاح لها أو حلي فأخذ واعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين. فأمر صلى الله عليه وسلم بقتل اليهودي، ولم يرد الأمر إلى أولياء الجارية، ولو كان القتل قصاصا لرد الأمر إليهم؛ لأنهم أهل الحق، فدل أن قتله حدا لا قودا. وأما الأثر: فما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. فهذا حكم الخليفة الراشد في قتل الغيلة، ولا نعلم نقلا يدل على أنه رد الأمر إلى الأولياء، ولو كان الحق لهم لرد الأمر إليهم على أنه يقتل حدا لا قودا. وأما المعنى: فإن قتل الغيلة حق لله، وكل حق يتعلق به حق الله تعالى فلا عفو فيه لأحد، كالزكاة وغيرها، ولأنه يتعذر الاحتراز منه كالقتل مكابرة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 33

وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة السابعة عبد الله بن محمد بن حميد عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن باز عبد المجيد حسن ... عبد العزيز صالح ... محمد الحركان إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... صالح بن غصون عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين ... (له وجهة نظر) محمد بن جبير ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر فضيلة الشيخ صالح بن علي بن غصون

وجهة نظر الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه وبعد: فبناء على إدراج موضوع قتل الغيلة في جدول أعمال الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء، وبعد الاطلاع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة ومناقشة المجلس للموضوع- أرى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا، وأنه لا يجوز العفو فيه، غير أنه لم يظهر لي أن ما يحدث من قتل بسبب خصومة أو عداوة أو ثائرة- يعتبر قتل غيلة، وقد نص على ذلك غير واحد من علماء المالكية في كتبهم. كما وإن شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر قتل الغيلة، قال بعده ما نصه: (بخلاف من يقتل شخصا لغرض خاص مثل خصومة بينهما، فإن هذا حق لأولياء المقتول، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا باتفاق المسلمين) . اهـ. ص: 310- 311 ج 28 من [المجموع] . وله كلام في هذا الموضع ص 316، 317 من المجلد المذكور، جاء في آخره: (واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان- كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما- هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا، أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم؛ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لأن في قتله فسادا عاما) . اهـ. وهذا واضح أنه رحمه الله لم يعتبر قتل الإمام علي رضي الله عنه غيلة، رغم أنه قتل عمدا على سبيل الخفية، كما هو معلوم. هذا ما تبين لي. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. صالح بن علي بن غصون عضو هيئة كبار العلماء

المجلد الرابع - إصدار: سنة 1421 هـ - 2001 م

بسم الله الرحمن الرحيم

(1) توحيد الأذان بالمسجد النبوي هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم توحيد الأذان بالمسجد النبوي إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فبناء على ما ورد من المقام السامي برقم 4 \2 \ 28079 وتاريخ 23 \ 11 \ 1396هـ المبني على اقتراح سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من إحالة موضوع توحيد الأذان بالمسجد النبوي إلى هيئة كبار العلماء، وأنه تقرر إدراجه ضمن جدول أعمال الدورة العاشرة - فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يتضمن ما يأتي: 1 - بيان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في تعدد المؤذنين في المسجد الواحد للوقت الواحد. 2 - أقوال فقهاء الإسلام في ذلك. 3 - حكمة مشروعية الأذان.

أولا: بيان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في تعدد المؤذنين في المسجد الواحد للوقت الواحد أ - هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين لغير صلاة الفجر والجمعة: 1 - قال البخاري: باب بدء الأذان وساق بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: «ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (¬1) » . 2 - قال البخاري في [صحيحه] : باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، وساق بسنده عن مالك بن الحويرث: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رفيقا، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم وصلوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم (¬2) » . قال ابن حجر معلقا على الترجمة: كأنه يشير إلى ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح: أن ابن عمر كان يؤذن للصبح في السفر أذانين، وهذا مصير منه إلى التسوية بين الحضور والسفر. وظاهر حديث الباب أن الأذان في السفر لا يتكرر؛ لأنه لم يفرق بين الصبح وغيرها، والتعليل في حديث ابن مسعود يؤيده. وعلى هذا فلا مفهوم لقوله: مؤذن واحد في السفر؛ لأن الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد، ولو احتيج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري] (1\150) . (¬2) [صحيح البخاري] (154، 155) .

واحد في جهة، ولا يؤذنون جميعا (¬1) انتهى المقصود. 3 - روى البخاري أيضا: عن مالك بن الحويرث قال: «أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر، فقال النبي: إذا أنتما خرجتما فأذنا، ثم أقيما، ثم ليؤمكما أكبركما (¬2) » . وقد علق ابن حجر على قوله: "فأذنا"، قال: قال أبو الحسن بن القصار: أراد به الفضل، وإلا فأذان الواحد يجزئ، وكأنه فهم منه أنه أمرهما أن يؤذنا جميعا كما هو ظاهر اللفظ، فإن أراد أنهما يؤذنان معا فليس ذلك بمراد. وقد قدمنا النقل عن السلف بخلافه، وإن أراد أن كل واحد منهما يؤذن على حدة ففيه نظر، فإن أذان الواحد يكفي الجماعة. نعم، يستحب لكل أحد إجابة المؤذن، فالأولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن والآخر يجيب، وقد تقدم له توجيه في آخر الباب الذي قبله، وأن الحامل على صرفه عن ظاهره قوله فيه: «فليؤذن لكم أحدكم (¬3) » وللطبراني من طريق حماد بين سلمة عن خالد الحذاء في هذا الحديث: «إذا كنت مع صاحبك فأذن وأقم، وليؤمكم أكبركما» . انتهى المقصود. 4 - روى البخاري في [صحيحه] بسنده: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (2\110) . (¬2) [صحيح البخاري] (1\ 155) . (¬3) [صحيح البخاري] (1\113) .

يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا (¬1) » . الحديث. (¬2) . قال ابن حجر: واستدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد، وليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد، ولأن الاستهام على الأذان يتوجه من جهة التولية من الإمام؛ لما فيه من المزية، وزعم بعضهم أن المراد بالاستهام هنا: الترامي بالسهام، وأنه أخرج مخرج المبالغة، واستأنس بحديث لفظه: «لتجالدوا عليه بالسيوف (¬3) » . لكن الذي فهمه البخاري منه أولى؛ ولذلك استشهد له بقصة سعد، ويدل عليه رواية لمسلم: «لكانت قرعة (¬4) » (¬5) انتهى. والقصة التي أشار إليها ابن حجر هي ما أشار إليها البخاري في باب: باب الاستهام في الأذان، قال: (ويذكر أن أقواما ما اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد) (¬6) . قال ابن حجر: أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريق أبي عبيد، كلاهما عن هشيم عن عبد الله بن شبرمة قال: تشاح الناس في الأذان بالقادسية، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم، وهذا منقطع، وقد وصله سيف بن عمر في [الفتوح] ، والطبري من طريقه عنه عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق - وهو أبو وائل - قال: افتتحنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أصيب المؤذن، فذكره، وزاد: فخرجت القرعة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأذان (615) ، صحيح مسلم الصلاة (437) ، سنن الترمذي الصلاة (225) ، سنن النسائي الأذان (671) ، سنن أبو داود الأدب (5245) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (797) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) ، موطأ مالك النداء للصلاة (295) . (¬2) [صحيح البخاري] (1\152) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (3/29) . (¬4) صحيح مسلم الصلاة (439) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (998) . (¬5) [فتح الباري] (2\97) . (¬6) [صحيح البخاري] (1\152) .

لرجل منهم فأذن (¬1) . انتهى. ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (2\ 96) .

هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر

ب- هديه صلى الله عليه وسلم في عدد المؤذنين للفجر: قال البخاري في [صحيحه] : باب الأذان قبل الفجر، وساق بسنده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنعن أحكم - أو أحدا منكم - أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن - أو ينادي - بليل: ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم، وليس أن يقول الفجر أو الصبح، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا. وقال زهير بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدهما عن يمينه وشماله (¬1) » . وساق بسنده أيضا عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم (¬2) » . وقال ابن حجر: (قال القاسم: لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا، وفي هذا تقيد لما أطلقه في الروايات الأخرى من قوله: «إن بلالا يؤذن بليل (¬3) » ولا يقال: إنه مرسل؛ لأن القاسم تابعي، فلم يدرك القصة المذكورة؛ لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث، وعند الطحاوي من رواية يحيى القطان كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث قالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا، وعلى هذا: فمعنى قوله في رواية البخاري: قال القاسم: أي في روايته عن عائشة، وقد وقع عند مسلم في رواية ابن نمير عن عبيد الله بن ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري] (1\ 153) . (¬2) [صحيح البخاري] (1\ 153، 154) . (¬3) صحيح البخاري الأذان (623) ، صحيح مسلم الصيام (1092) ، سنن الترمذي الصلاة (203) ، سنن النسائي الأذان (638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/57) ، موطأ مالك النداء للصلاة (164) ، سنن الدارمي الصلاة (1190) .

عمر عن نافع بن عمر مثل هذه الزيادة، وفيها نظر أوضحته في كتاب المدرج، وثبتت الزيادة أيضا في حديث أنيسة الذي تقدمت الإشارة إليه) (¬1) . انتهى المقصود. ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (2\105) .

هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة

ج- هديه صلى الله عليه وسلم وهدي خلفائه الراشدين في عدد المؤذنين للجمعة: 1 - قال البخاري في [صحيحه] : باب الأذان يوم الجمعة، وساق بسنده عن السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه - وكثر الناس - زاد النداء الثالث على الزوراء» . وقال ابن حجر على قوله: «كان النداء يوم الجمعة (¬1) » : (في رواية أبي عامر عن ابن أبي ذئب عند ابن خزيمة: كان ابتداء النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة، وله في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: «كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، (¬2) » قال ابن خزيمة: قوله (أذانين) يريد: الأذان، والإقامة، يعني: تغليبا، أو لاشتراكهما في الإعلام) . وقال أيضا على قوله: «إذا جلس الإمام على المنبر (¬3) » : (في رواية أبي عامر المذكورة: «إذا خرج الإمام، وإذا أقيمت الصلاة (¬4) » ، وكذا للبيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب. وكذا في رواية الماجشون الآتية عن الزهري، ولفظه: «وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام (¬5) » ، يعني: على المنبر، وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن الماجشون بدون ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (912) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (916) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135) ، مسند أحمد بن حنبل (3/450) . (¬3) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن النسائي الجمعة (1392) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) . (¬4) سنن الترمذي الجمعة (516) . (¬5) صحيح البخاري الجمعة (913) ، سنن النسائي الجمعة (1393) .

قوله: يعني، وللنسائي من رواية سليمان التيمي عن الزهري: «كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل أقام (¬1) » . وقال أيضا على قوله: (وكثر الناس) أي: بالمدينة، وصرح به في رواية الماجشون، وظاهره: أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته، لكن في رواية أبي ضمرة عن يونس عند أبي نعيم في المستخرج أن ذلك كان بعد مضي مدة من خلافته. (¬2) . وقال أيضا على قوله: «زاد النداء الثالث (¬3) » : (في رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: فأمر عثمان بالأذان الأول، ونحوه للشافعي من هذا الوجه، ولا منافاة بينهما؛ لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى: ثالثا، وباعتبار كونه جعل مقدما على الأذان والإقامة يسمى: أولا، ولفظ رواية عقيل الآتية بعد بابين: أن التأذين بالثاني أمر به عثمان، وتسميته ثانيا أيضا: متوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة. (¬4) . وقال أيضا على قوله: (على الزوراء) : (بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء ممدوة، وقوله: قال أبو عبد الله هو المصنف، في رواية أبي ذر وحده، وما فسر به الزوراء هو المعتمد، وجزم ابن بطال بأنه حجر كبير عند باب المسجد، وفيه نظر؛ لما في رواية ابن إسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه بلفظ: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها: الزوراء، وفي روايته عند الطبراني: فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها: ¬

_ (¬1) سنن النسائي الجمعة (1394) . (¬2) [فتح الباري] (2\393، 394) . (¬3) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) . (¬4) [فتح الباري] (2\394) .

الزوراء، فكان يؤذن له عليها فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة، وفي رواية من هذا الوجه: فأذن بالزوراء قبل خروجه؛ ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، ونحوه في مرسل مكحول المتقدم (¬1) . وفي [صحيح مسلم] من حديث أنس «أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء، قال: والزوراء بالمدينة عند السوق (¬2) » الحديث: زاد أبو عامر عن ابن أبي ذئب: «فثبت ذلك حتى الساعة» ، وسيأتي نحوه قريبا من رواية يونس بلفظ: «فثبت الأمر كذلك» ، والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك؛ لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني: أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة. وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم يسمى: بدعة، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك. وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله) (¬3) . ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (3\394) . (¬2) صحيح مسلم الفضائل (2279) . (¬3) [فتح الباري] (2\394) .

وقال الحافظ ابن حجر أيضا: تنبيهان: الأول: ورد ما يخالف هذا الخبر أن عمر هو الذي زاد الأذان، ففي تفسير جويبر عن الضحاك من زيادة الراوي عن برد بن سنان عن مكحول عن معاذ: أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا من المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين. انتهى. وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت؛ لأن معاذا كان خرج من المدينة إلى الشام في أول ما غزوا الشام؛ واستمر إلى أن مات بالشام في طاعون عمواس، وقد تواردت الروايات أن عثمان هو الذي زاده فهو المعتمد، ثم وجدت لهذا الأثر ما يقويه، فقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس دعاء، ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى. وعطاء لم يدرك عثمان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره. ويمكن الجمع بأن الذي ذكره عطاء هو الذي كان في زمن عمر، واستمر على عهد عثمان ثم رأى أن يجعله أذانا، وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه؛ لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان فعله عمر؛ لكونه مجرد إعلام. الثاني: تواردت الشراح على أن معنى قوله: (الأذان الثالث) أن الأولين: الأذان والإقامة، لكن نقل الداودي: أن الأذان أولا كان في سفل المسجد، فلما كان عثمان جعل من يؤذن على الزوراء، فلما كان هشام -

يعني: ابن عبد الملك - جعل من يؤذن بين يديه، فصاروا ثلاثة، فسمي فعل عثمان ثالثا لذلك. انتهى وهذا الذي ذكره يغني ذكره عن تكلف رده، فليس له فيما قاله سلف، ثم هو خلاف الظاهر، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله. وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين سنة (¬1) . انتهى. وقال ابن حجر أيضا في أثناء سرد الفوائد المستنبطة من الحديث قال: وعلى ترك تأذين اثنين معا. انتهى (¬2) . 2 - قال البخاري: باب المؤذن الواحد يوم الجمعة، وساق بسنده عن السائب بن يزيد، «أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه - حين كثر أهل المدينة - ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني على المنبر (¬3) » . وقال ابن حجر: (وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معا والمراد: أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم. قال الإسماعيلي: لعل قوله: "مؤذن" يريد به التأذين، فعبر عنه بلفظ: المؤذن لدلالته عليه، انتهى. وما أدري ما الحامل له على هذا التأويل، فإن المؤذن الراتب هو بلال، وأما أبو محذورة وسعد القرظ فكان كل منهما بمسجده الذي رتب فيه، وأما ابن أم مكتوم فلم يرد أنه كان يؤذن إلا في الصبح، كما تقدم في الأذان، فلعل الإسماعيلي استشعر إيراد هؤلاء فقال ما قال، ويمكن أن يكون ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (2\394، 395) . (¬2) [فتح الباري] (2\335) . (¬3) [صحيح الباري] (1\219) .

المراد بقوله: مؤذن واحد، أي في الجمعة فلا ترد الصبح مثلا، وعرف بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقى المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة، واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب» ، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها، ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي (¬1) . انتهى كلام ابن حجر. 3 - قال البخاري في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت: «فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله (¬2) » . . . . (¬3) إلخ. ولم يعلق الحافظ رحمه الله هنا على قوله: «وسكت المؤذنون» شيئا، ولم يذكر مسلم في روايته لهذا الحديث - أي: حديث الرجم - قوله: «وسكت المؤذنون» ، لكن الحافظ ذكر ذلك في [الدراية] بلفظ الإفراد، وهكذا الزيلعي في [نصب الراية] كما يأتي. 4 - قال الزيلعي تعليقا على قول [صاحب الهداية] : «فإذا صعد الإمام المنبر جلس، وأذن المؤذن (¬4) » بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث، ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان. قلت: أخرجه الجماعة - إلا مسلما - عن السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان زمن عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (2\395، 396) . (¬2) صحيح البخاري الحدود (6830) . (¬3) [صحيح البخاري] جزء من حديث طويل (8\26) . (¬4) وفي نسخة: المؤذنون.

الزوراء (¬1) » . انتهى. وفي رواية للبخاري: «النداء الثاني» ، وزاد ابن ماجه: «على دار في السوق يقال لها: الزوراء (¬2) » . وفي لفظ للبخاري: «إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر (¬3) » . انتهى. وروى إسحاق بن راهويه في [مسنده] بلفظ: «كان النداء الذي ذكره الله في القرآن يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر وعامة خلافة عثمان، فلما كثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء (¬4) » . انتهى. وقال النووي: إنما جعل ثالثا؛ لأن الإقامة تسمى: أذانا، كما جاء في الصحيح: بين كل أذانين صلاة (¬5) . انتهى. وأخرج البخاري في [صحيحه] في باب رجم الحبلى، عن ابن عباس قال: «جلس عمر يوم الجمعة على المنبر، فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله تعالى (¬6) » ، وذكر الحديث (¬7) انتهى. 5 - وجاء في [الدراية] : وللبخاري عن ابن عباس: «جلس عمر يوم الجمعة على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله (¬8) » ، فذكر الحديث. 6 - وجاء فيها أيضا: وروى إسحاق بإسناد جيد عن السائب بن يزيد: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (912) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (916) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1135) . (¬3) صحيح البخاري الجمعة (913) . (¬4) صحيح البخاري الجمعة (912) ، سنن الترمذي الجمعة (516) ، سنن أبو داود الصلاة (1087) . (¬5) [نصب الراية] (2\204، 205) . (¬6) مسند أحمد بن حنبل (1/56) . (¬7) [صحيح البخاري] جزء من حديث طويل (8\ 26) . (¬8) مسند أحمد بن حنبل (1/56) .

«كنا نصلي في زمن عمر يوم الجمعة فإذا جلس على المنبر قطعنا الصلاة، إذا سكت المؤذن خطب ولم يتكلم أحد» . انتهى المقصود (¬1) . 7 - وجاء فيها أيضا: ولأبي داود في المراسيل عن ابن شهاب: «بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيجلس على المنبر، فإذا سكت المؤذن قام فخطب (¬2) » . ¬

_ (¬1) [الدراية] (1\217) . (¬2) [الدراية] (1\215) .

ثانيا نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحد للوقت الواحد

ثانيا: نقول عن فقهاء الإسلام في تعدد المؤذنين في المسجد الواحد للوقت الواحد اكتفينا بذكر نقول عن الفقهاء في ذلك: 1 - قال ابن عابدين: ذكر السيوطي أن أول من أحدث أذان اثنين معا بنو أمية. اهـ. قال الرملي في حاشية البحر: ولم أر نصا صريحا في جماعة الأذان المسمى في ديارنا بأذان الجوق، هل هو بدعة حسنة أو سيئة؟ ، وذكره الشافعية بين يدي الخطيب، واختلفوا في استحبابه وكراهته. وأما الأذان الأول فقد صرح في النهاية بأنه المتوارث، حيث قال في شرح قوله: " وإذا أذن المؤذنون الأذان الأول ترك الناس البيع " ذكر المؤذنين بلفظ الجمع؛ إخراجا للكلام مخرج العادة، فإن المتوارث فيه اجتماعهم لتبلغ أصواتهم إلى أطراف المصر الجامع. اهـ. ففيه دليل على أنه غير مكروه؛ لأن المتوارث لا يكون مكروها، وكذلك نقول في الأذان بين يدي الخطيب، فيكون بدعة حسنة إذ ما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن. اهـ.

ملخصا. أقول: وقد ذكر سيدي عبد الغني المسألة كذلك أخذا من كلام النهاية المذكور، ثم قال: ولا خصوصية للجمعة، إذ الفروض الخمسة تحتاج للإعلام (¬1) . انتهى. 2 - قال الباجي: وقال ابن حبيب: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد رقى المنبر فجلس فأذن المؤذنون على المنار واحدا بعد واحد، فخطب، قال: ثم أمر عثمان لما كثر الناس أن يؤذن عند الزوال بالزوراء، وهو موضع السوق؛ ليرتفع منها الناس، فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار، ثم إن هشام بن عبد الملك في إمارته نقل الأذان الذي في الزوراء فجعله مؤذنا واحدا يؤذن عند الزوال على المنار، فإذا خرج هشام وجلس على المنبر أذن المؤذنون بين يديه، فإذا فرغوا خطب، قال ابن حبيب: وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع» (¬2) . انتهى. 3 - قال ابن حجر نقلا عن الشافعي: (وقال الشافعي في [الأم] : وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن، ولا يؤذن جماعة معا، وإن كان المسجد كبيرا، فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن يسمع من يليه في وقت واحد) (¬3) . انتهى. 4 - قال النووي: إذا كان للمسجد مؤذنان فأكثر أذنوا واحدا بعد واحد، كما صح عن بلال وابن أم مكتوم، ولأنه أبلغ في الإعلام، فإن تنازعوا في ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (1\390) ط دار الفكر. (¬2) [المننتقى] (1\134) . (¬3) # [فتح الباري] (2\210) .

الابتداء أقرع، فإن ضاق الوقت والمسجد كبير أذنوا في أقطاره كل واحد في قطر؛ ليسمع أهل تلك الناحية، وإن كان صغيرا أذنوا معا إذا لم يؤد إلى تهويش. قال صاحب [الحاوي] وغيره: ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة، فإن أدى على تهويش أذن واحد فقط، فإن تنازعوا أقرع، قال الشيخ أبو حامد والقاضي حسين وغيره: فإن أذنوا جميعا واختلفت أصواتهم لم يجز؛ لأن فيه تهويشا على الناس، ومتى أذن واحد بعد واحد لم يتأخر بعضهم عن بعض؛ لئلا يذهب أول الوقت، ولئلا يظن من سمع الأخير أن هذا أول الوقت. قال الشافعي في [الأم] : ولا أحب للإمام إذا أذن المؤذن الأول أن يبطئ بالصلاة ليفرغ من بعده، بل يخرج ويقطع من بعده الأذان بخروج الإمام) (¬1) . انتهى. 5 - قال أحمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الشهير بابن النحاس: ومنها: - أي: من البدع - ما اعتاده المؤذنون اليوم من الأذان جماعة على نسق واحد، وقد قال الغزالي: إن ذلك منكر مكروه يجب تغييره. انتهى. وقال ابن الحجاج: لم يعرف عن أحد جوازه. انتهى. قلت: ويحتمل أن يقال: إذا دعت إلى ذلك ضرورة، مثل: أن يكثر الناس، أو يستمع العمران ولا يبلغهم صوت واحد، وإن اجتمعت الأصوات وقطعت جرم الهواء أسرع وأبعد - فلا بأس، وكذلك إذا كثر الناس يوم الجمعة والعيد ولا يبلغ آخرهم أذان الواحد - فلا بأس ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (.3\131، 132) .

بالاجتماع، بشرط أن لا يخل اجتماعهم باللفظ المشروع) (¬1) انتهى. وفي كتاب [السنن والمبتدعات] : (والأذان جماعة على وتيرة واحدة بدعة) (¬2) . 6 - قال ابن الحاج: والسنة المتقدمة في الأذان: أن يؤذن واحد بعد واحد، فإن كان المؤذنون جماعة فيؤذنون واحدا بعد واحد في الصلوات الخمس التي أوقاتها ممتدة، فيؤذنون في الظهر من العشرة إلى الخمسة عشر، وفي العصر من الثلاثة إلى الخمسة، وفي العشاء كذلك، والصبح يؤذنون لها على المشهور من سدس الليل الآخر إلى طلوع الفجر، في كل ذلك يؤذن واحد بعد واحد، والمغرب لا يؤذن لها إلا واحد ليس إلا) (¬3) . انتهى. 7 - وقال ابن الحاج أيضا: فصل في الأذان جماعة: فإن كثر المؤذنون فزادوا على عدد ما ذكر، وكانوا يبتغون بذلك الثواب، وخافوا أن يفوتهم الوقت، ولم يسعهم الجميع إن أذنوا واحدا بعد واحد، فمن سبق منهم كان أولى، فإن استووا فيه فإنهم يؤذنون الجميع. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ومن شرط ذلك: أن يكون كل واحد منهم يؤذن لنفسه من غير أن يمشي على صوت غيره، وكذلك الحكم في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. قال الشيخ الإمام النووي رحمه الله في كتاب [الروضة] له: باب ¬

_ (¬1) [تنبيه عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين] (ص 41) . (¬2) [السنن والمبتدعات] ص (41) . (¬3) [المدخل] (2\247) .

الأذان. من كلام الرافعي رحمه الله: فإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا، فالمستحب أن لا يتراسلوا، بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم، وإن ضاق الوقت، فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره، وإن كان صغيرا وقفوا معا وأذنوا، وهذا إن لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تشويش، فإن أدى إليه لم يؤذن إلا واحد، فإن تنازعوا أقرع بينهم. اهـ. وأذانهم جماعة على صوت واحد من البدع المكروهة المخالفة لسنة الماضين، والاتباع في الأذان وغيره متعين، وفي الأذان آكد؛ لأنه من أكبر أعلام الدين، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو قوما أمهل حتى يدخل وقت الصلاة، فإن سمع الأذان تركهم، وإن لم يسمعه أغار عليهم؛ ولأن في الأذان جماعة جملة مفاسد منها: الأول: منها مخالفة السنة. الثاني: من كان منهم صيتا حسن الصوت - وهو المطلوب في الأذان - خفي أمره فلا يسمع. الثالث: أن الغالب في الجماعة إذا أذنوا على صوت واحد لا يفهم السامع ما يقولون، والمراد بالأذان إنما هو نداء الناس إلى الصلاة فذهبت فائدة معنى قوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم) . الرابع: أن بعضهم يمشي على صوت بعض، والمراد بالأذان أن يرفع الإنسان به صوته مهما أمكنه، وذلك لا يمكنه في الجماعة كما تقدم. الخامس: أن الغالب على بعضهم أنه لا يأتي بالأذان كله؛ لأنه لا بد أن

يتنفس في أثنائه، فيجد غيره قد سبقه بشيء منه، فيحتاج أن يمشي على صوت من تقدمه، فيترك ما فاته من ذلك ويوافقهم فيما هم فيه. السادس: أنه قد مضت عادة المؤذن على السنة أنه إذا أراد أن يؤذن عمل الحس؛ من تنحنح، أو كلام ما، من حيث إنه يشعر به أنه يريد أن يؤذن، ثم بعد ذلك يشرع في الأذان، هذا وهو مؤذن واحد فكيف بالجماعة؟! وما ذاك إلا خيفة أن يؤذن ومن حوله على غفلة، فقد يحصل بسببه لبعضهم رجفة، فإذا كان هذا في حق المؤذن الواحد فما بالك بجماعة يرفعون أصواتهم على بغتة، وقد تكون حامل فتأخذها الرجفة بذلك فتسقط، وترتجف بذلك الأولاد الصغار، وكذلك كل من ليس له عقل ثابت، وتشويشهم كثير قل أن ينحصر. وقد تقدم أن أول من أحدث الأذان جماعة هشام بن عبد الملك، فجعل المؤذنين الثلاثة الذين كانوا يؤذنون واحدا بعد واحد على المنار في عهد رسول لله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم - يؤذنون بين يديه جميعا إذا صعد الإمام على المنبر. وأخذ الأذان الذي زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه لما أن كثر الناس، وكان ذلك مؤذنا واحدا- فجعله على المنار، فهذا الذي أحدثه هشام بن عبد الملك، ولم يزد على الثلاثة الذين كانوا فيمن قبله يؤذنون واحدا بعد واحد شيئا، ثم أحدثوا في هذا الزمان على الثلاثة جمعا كثيرا، كما هو مشاهد. وكذلك زادوا على المؤذن الواحد على المنار فجعلوهم جماعة، وفعلهم ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك منهم ابتغاء الثواب، فالثواب لا يكون إلا بالاتباع لا بالابتداع، وإن كان لأخذ الجامكية، فالجامكية لا تصرف في بدعة، كما

أنه يكره الوقف عليها ابتداء، وبالجملة فكل ما خالف الشرع فمفاسده لا تنحصر في الغالب (¬1) . 8 - قال ابن قدامة: (فصل: ولا يستحب الزيادة على مؤذنين؛ لأن الذي حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان له مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز، فقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه كان له أربعة مؤذنين، وإن دعت الحاجة إلى أكثر منه كان مشروعا، وإذا كان أكثر من واحد وكان الواحد يسمع الناس، فالمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد؛ لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يؤذن بعد الآخر. وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه، أما أن يؤذن كل واحد في منارة أو ناحية، أو دفعة واحدة في موضع واحد. قال أحمد: إن أذن عدة في منارة فلا بأس، وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات أول الوقت، أذنوا جميعا دفعة واحدة) (¬2) . ¬

_ (¬1) [المدخل] لابن الحاج (2\247 - 249) . (¬2) [المغني] (1\ 378) .

ثالثا حكمة مشروعية الأذان

ثالثا: الحكمة الحكمة العامة لمشروعية الأذان: الإعلام بدخول الوقت، وأما الحكمة الخاصة في الأذان الأول للفجر: فالإعلام بقرب وقت الفجر، حتى أن المتهجد إذا سمعه أنهى ما بقي من صلاته وارتاح حتى يذهب إلى صلاة الفجر نشيطا، وفيه إيقاظ النائم حتى يتأهب لصلاة الفجر مبكرا. وأما الحكمة الخاصة للأذان الأول يوم الجمعة فهي: الإعلام بدخول

الوقت لصلاة الجمعة، ففيه تنبيه الغافلين والمشتغلين بمعايشهم. وأما الحكمة الخاصة للأذان الثاني الذي بين يدي الخطيب فهي: الإعلام بقرب شروع الخطيب في الخطبة؛ لينصت الناس ويتركوا الكلام. هذا ما تيسر ذكره وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء بخصوص توحيد الأذان في المسجد النبوي

قرار رقم (54) وتاريخ 4\4\1397هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد: ففي الدورة العاشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع الأول عام 1397هـ اطلع المجلس على ما ورد من المقام السامي برقم 4\ ب \ 28079 وتاريخ 23\11\96 هـ بخصوص توحيد الأذان في المسجد النبوي. وبعد البحث والمناقشة وتداول الرأي قرر المجلس بأكثرية الأصوات أنه يتعين توحيد الأذان في المسجد النبوي، كما هو الحال في المسجد الحرام؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحافظة على ما كان عليه العمل في عهده صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من عدم وجود أكثر من مؤذن في آن واحد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه لا يصار إلى التعدد إلا عند الحاجة إلى ذلك كما ذكره أهل العلم، وليس هناك حاجة؛ لوجود مكبر الصوت. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة العاشرة عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين عبد الله بن قعود ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر

(وجهة نظر) تابع قرار رقم (54) قد جرى في الدورة العاشرة في مجلس هيئة كبار العلماء المعقودة بمقر الهيئة بالرياض برئاسة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، جرى بحث توحيد الأذان في المسجد النبوي الشريف. وقد أدلى المجتمعون بآرائهم بعد أن تلي البحث المعد لذلك من إدارة البحوث. والغريب في الأمر أن البحث الذي قدم كله يدل على جواز تعدد الأذان، والبعض يقول بمشروعيته، ومع هذا حصل الاختلاف في الآراء ولكن هكذا الشأن حينما تعرض الآراء في مجلس ما. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1) أما رأينا نحن الموقعين أدناه كل من: محمد العلي الحركان الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وعضو هيئة كبار العلماء، وعبد الله خياط إمام وخطيب المسجد الحرام وعضو هيئة كبار العلماء، وعبد العزيز بن صالح رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة وإمام وخطيب المسجد النبوي الشريف وعضو هيئة كبار العلماء. رأينا في ذلك هو كما يلي: 1 - معنى الأذان: هو الإعلام بدخول الوقت، وهو مشروع، ويحصل الإعلام منه بقدر الحاجة. وحيث إنه مشروع فإن تعداده في مسجد واحد ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 82

أمر غير مؤثر في مشروعيته. ويحصل الإعلام بمؤذن واحد، ولكن لو زاد على مؤذن فأكثر فإنه لم يجد دليل على منعه إطلاقا، وإذا فإن رأينا هو جواز تعداد الأذان في المسجد النبوي الشريف؛ وذلك للأدلة الآتية: قال النووي في [شرح مسلم] على حديث عبد الله بن عمر: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان (¬1) » قال: وفي هذا الحديث استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد. . . . . إلى أن قال: (قال أصحابنا: فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة وأربعة فأكثر حسب الحاجة، وقد اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعة للحاجة عند كثرة الناس. . إلى أن قال رحمه الله: فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره، وإن كان ضيقا وقفوا معا وأذنوا، وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تهويش (¬2) . قال في [فتح الباري] على حديث مالك بن الحويرث: ولو احتيج إلى تعددهم -أي: في الحضر- لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة، ولا يؤذنون جميعا. . . . وقال الشافعي في [الأم] : (وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن، ولا يؤذن جماعة معا، وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه مؤذن يسمع من يليه في وقت واحد) (¬3) . اهـ. ونص الشافعي في [الأم] . قال: (فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد) (¬4) . وقال صاحب [الفتح] : وعن أبي حبيب «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقى المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحدا بعد واحد، فإذا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الصلاة (380) . (¬2) [صحيح مسلم بشرح النووي] (4\108) . (¬3) [فتح الباري] (2\110) حديث رقم (628) . (¬4) [الأم] (1\72) .

فرغ الثالث قام فخطب» ، ثم قال: فإنه دعوى تحتاج إلى دليل، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها) إلى أن قال: (ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي) (¬1) . اهـ. وذكر النووي في [المجموع على المهذب] نحو ما ذكره في [شرح مسلم] وزاد: جواز زيادة المؤذنين إلى ثمانية في المسجد الواحد. . . . . قال صاحب [الحاوي] وغيره: (ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة. . إلى أن قال: (وقال الشافعي في البويطي: النداء يوم الجمعة: هو الذي يكون والإمام على المنبر يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة، حينما يجلس الإمام على المنبر ليسمع الناس فيأتون إلى المسجد، فإذا فرغوا خطب الإمام) (¬2) . اهـ. وفي [صحيح البخاري] في باب رجم الحبلى من الزنا: (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فجلس عمر رضي الله عنه على المنبر يوم الجمعة، فلما سكت المؤذنون قان فأثنى على الله (¬3) » . . . الحديث. والاستدلال منه، قوله: «فلما سكت المؤذنون (¬4) » . - وقال الباجي في [شرح الموطأ] على حديث بلال: (ويدل هذا الحديث على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد يؤذنان لصلاة واحدة، وروى علي بن زياد عن مالك: لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة مؤذنين وأربعة، ولا بأس أن يتخذ في المسجد أربعة ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (2\395، 396) ، رقم الحديث (913) . (¬2) [المجموع شرح المهذب] للنووي (3\119، 120) . (¬3) [فتح الباري] (12\144) ، رقم الحديث (6830) . (¬4) [فتح الباري] (12\144) ، رقم الحديث (6830) .

مؤذنين وخمسة. قال ابن حبيب: ولا بأس فيما اتسع وقته من الصلوات؛ كالصبح والظهر والعشاء أن يؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد) (¬1) . اهـ. - قال في [المغني] : (فصل: ولا يستحب الزيادة على مؤذنين) وساق حديث بلال، ثم قال: (إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز، فقد روي عن عثمان رضي عنه، أنه كان له أربعة مؤذنين، وإن دعت الحاجة إلى أكثر منهم كان مشروعا) . . إلى أن قال: (وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه؛ إما أن يؤذن كل واحد في منارة، أو ناحية، أو دفعة واحدة في موضع واحد. قال أحمد: إن أذن عدة في منارة فلا بأس، وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات الوقت - أذنوا جميعا دفعة واحدة) (¬2) اهـ. ومن هذه النصوص التي جرى سردها أعلاه يعلم: أن تعدد الأذان في مسجد واحد ورد عن الصحابة منهم - عمر وعثمان - وورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الشافعي، وقالت به الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة حتى إنه نقل أيضا عن الإمام أحمد، كما أن ابن حزم ذكر ذلك. والغريب في الأمر أن من ضمن الآراء التي بحثت في المجلس أن تعداد الأذان في المسجد النبوي يثير الاستغراب والتساؤل، ونحن لا ندري هل الذي يثير الاستغراب والتساؤل هو العمل بشيء معمول به منذ عهد ¬

_ (¬1) [المنتقى شرح موطأ الإمام مالك] للإمام الباجي (1\141) . (¬2) [المغني] لابن قدامة (2\89) .

الصحابة حتى الآن ولم ينكره أحد، بل عليه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. ومضى عليه العمل قرون متعددة في المسجد النبوي الشريف، ولم ينكر على الرغم من توفر العلم في المدينة منذ القدم، وعلماء المدينة هم الذين دائما يحتج بأقوالهم. هل العمل على هذا الوضع هو الذي يثير الاستغراب والتساؤل أم الذي يثير التساؤل والاستغراب هو ترك عمل معمول به ودرج الناس عليه وألفه الناس، وفيه مظهر وروعة لهذه الشعيرة؟! أليس ترك هذا أو العدول إلى رأي آخر بعد العمل به في قرون متعددة، أليس هذا هو الذي يثير التساؤل والاستغراب والتشويش. وليس فعله منكر ولا بدعة؟! الذي نراه ترك العمل في المسجد النبوي الشريف على ما كان عليه الآن، فالمسجد حساس، وكل عمل يعمل فيه عكس ما كان مألوفا فيه له عوامله الخاصة في الاستثارة والاستغراب، ولا ينبغي فعل شيء من ذلك إلا إذا كان هناك منكر تجب إزالته. أما تعداد الأذان فليس منكرا، ولو كان منكرا -والخير كثير في من مضى- لأنكروه. هذا هو رأينا، والله الموفق للصواب. 4 \4\ 1397 هـ. عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء ... عضو هيئة كبار العلماء عبد العزيز بن صالح ... عبد الله خياط ... محمد العلي الحركان

التأمين

(2) التأمين هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

التأمين إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فبناء على ما تقرر من إدراج موضوع (التأمين) في جدول أعمال الدورة الرابعة، بناء على المادة (7) من سير أعمال هيئة كبار العلماء - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في التأمين يتضمن أمرين: الأول: تعريفه وبيان أسسه وأنواعه وأركانه وخصائص عقده وأنواع وثائقه وما على ذلك مما يتوقف على معرفته الحكم عليه بالإباحة أو المنع. الثاني: ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة، وبالله التوفيق ومنه نستمد العون. الأمر الأول: تعريفه وبيان أسسه وأنواعه وأركانه وخصائص عقدة وأنواع وثائقه: 1 - تعريف التأمين في اللغة وفي الاصطلاح: التأمين: في اللغة: من مادة أمن يأمن أمنا، إذا وثق وركن إليه فهو آمن، وأمنه تأمينا، إذا جعله في الأمن، وفرس أمين القوي، وناقة أمون قوية

مأمون فتورها، واستأمن الحربي استجار وطلب الأمان، وبيت آمن ذو أمن، قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (¬1) وفي [المنجد] يقال: أمن على ماله عند فلان تأمينا، أي: جعله في ضمانه. وأما في الاصطلاح: فقد اختلفت تعاريف التأمين لدى بعض الباحثين: فآثر القانون المصري المدني التعريف التالي للتأمين فجاءت المادة بهذا النص: التأمين: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن. ويرى الأستاذ جمال الحكيم في كتابه [عقود التأمين] من الناحيتين التأمينية والقانونية: أنه بالرغم من أن هذا التعريف كان خلاصة ما انتهت إليه مجموعة لجان إلا أنه لم ينج من نقد علماء القانون، وبالرغم من خبرتهم في إعطاء تعريف دقيق للتأمين إلا أنهم قد انتهوا أخيرا إلى التعريف الذي انتهى إليه وارتضاه الأستاذ هيمار، وهو ما يلي: التأمين عملية بها يحصل شخص يسمى المؤمن له على تعهد لصالحه أو لصالح غيره بأن يدفع له آخر هو المؤمن عوضا ماليا في حالة تحقق خطر معين، وذلك في نظير مقابل مالي هو القسط. وتنبني هذه ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 126

العملية على تحمل المؤمن تبعة مجموعة من المخاطر بإجراء المقاصة بينها وفقا لقوانين الإحصاء. ويقول الأستاذ جمال الحكيم: إن هذه التعاريف كلها لا تجمع بين الجانب الفني وجانب علاقة ما بين المؤمن له والمؤمن، وأن التعريف الجامع المانع يكون على النحو التالي: التأمين: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال، أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية يؤديها المؤمن له للمؤمن، ويتحمل بمقتضاه المؤمن تبعة مجموعة من المخاطر بإجراء المقاصة بينها وفقا لقوانين الإحصاء. ويقول الأستاذ مصطفى الزرقاء: في كتابه [عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه] : بأن علماء القانون يفرقون بين نظام التأمين باعتباره فكرة وطريقة ذات أثر اقتصادي واجتماعي ترتكز على نظرية عامة ذات قواعد فنية وبين عقد التأمين باعتباره تصرفا قانونيا ينشئ حقوقا بين طرفين متعاقدين وتطبيقا عمليا لنظام التأمين. فيمكن تعريف نظام التأمين بأنه: نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بواسطة هيئات منظمة تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس وقواعد إحصائية. أما عقد التأمين فقد عرفه القانون المدني السوري والقانون المدني المصري بالتعريف الآتي مع تحوير في الصياغة:

عقد بين طرفين أحدهما يسمى: المؤمن، والثاني: المؤمن له، ويلتزم فيه المؤمن بأن يؤدي إلى المؤمن لمصلحته مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع حادث أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له إلى المؤمن. اهـ. وعلى أي حال فمهما وجد الاختلاف بين العلماء في تعريف التأمين فإن الاتفاق واقع بينهم على العناصر الأساسية لعقد التأمين من وجود الإيجاب والقبول من المؤمن له والمؤمن واتجاه التأمين إلى عين يقع عليها التأمين، وأن يقوم المؤمن له بدفع مبلغ من المال دفعة واحدة أو على أقساط يتم الاتفاق عليها للمؤمن، وأن يقوم المؤمن بضمان ما يقع على العين المؤمن عليها إذا تعرضت لما يتلفها أو جزءا منها.

النشأة التاريخية لفكرة التأمين

2 - النشأة التاريخية لفكرة التأمين: لقد مرت فكرة التأمين منذ عهد قديم بأطوار عدة وأحوال مختلفة، فيرى بعض الباحثين أن فكرة التأمين كانت موجودة ومعمولا بها في القرن العاشر قبل الميلاد، فقد صدر أول نظام يتعلق بالخسارة العامة في رودس عام 916 قبل الميلاد حيث قضى بتوزيع الضرر الناشئ من إلقاء جزء من شحنة السفينة في البحر؛ لتخفيف حمولتها على أصحاب البضائع المشحونة فيها. ويرى فريق آخر من العلماء: أن الإمبراطورية الرومانية كانت أول من ابتدع فكرة التأمين، حيث ألزمت تجار الأسلحة بإرسال أسلحتهم بحرا؛ لتزويد قوات الإمبراطورية بها على أن تقوم الدولة بضمان خسارة

التاجر إذا فقدت أسلحته بسبب الأخطار البحرية أو بفعل العدو. ويكاد المؤرخون يجمعون على أن التأمين البحري هو أسبق أنواع التأمين ظهورا، حيث كان أول تطبيق عملي له بشكل تجاري كان في القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث جرى على عهد تجار مناطق البحر الأبيض المتوسط ممارسة هذا النوع من التأمين. ويذكر المؤرخ (فيللاني) الذي عاش في القرن الرابع عشر من الميلاد: أن التأمين على المنقولات بحرا بقصد التعويض عن الخسارة التي تنتج من ضياعها في البحار- ظهر في لمبارديا سنة 182 م بواسطة جماعة اللومبارد، ثم انتقل بواسطة هذه الجماعة إلى إنجلترا وإلى غيرها من الأقاليم الأوربية، وصدرت الأوامر الحكومية لتنظيم هذا النوع من التأمين، ثم نشأ بعده التأمين ضد الحريق، وقد كان موجودا في إنجلترا قبل القرن السابع عشر الميلادي على شكل نقابات تعاونية، كانت تعطي إعانة لأعضائها في حال احتراق أملاكهم، وفي منتصف القرن السابع عشر أخذ التأمين ضد الحريق طابعا تجاريا صدرت به نظم إدارية تختلف باختلاف أوضاع البلدان. أما التأمين على الحياة، فيقال: بأن أول وثيقة للتأمين عليها صدرت سنة 1583 م في إنجلترا، ومع ذلك فقد كان وجوده محددا جدا، ولم يتخذ قالبا نظاميا معتبرا إلا في سنة 1774 م، وقد كان للثورة الصناعية وما صاحبها من ظهور طبقة متوسطة أثر كبير في الإقبال على التأمين على الحياة واتساع نطاق انتشاره. وفي القرن التاسع عشر بعد أن عمت الثورة الصناعية البلدان الأوربية وتبع ذلك تطور الآلة وانتشارها- ظهرت فكرة التأمين ضد الحوادث؛ نظرا

لما كانت تسببه الآلات المتحركة من حوادث القتل، وتعطيل المنافع البدنية، فتأسس في إنجلترا سنة 1848 م أول مكتب للتأمين ضد الحوادث التي يتعرض لها المسافرون بالسكة الحديدية، وكانت بطاقات التأمين تباع مع بطاقات السفر، ثم تطورت الفكرة حتى شملت التأمين ضد الحوادث الشخصية وكافة الأمراض. وبالتوسع في الأخذ بفكرة التأمين ظهر ما يسمى بـ: التأمين ضد خيانة الأمانة، وبـ: التأمين ضد الضمانات القضائية مما هو خاص بالمسئوليات المالية على الأوصياء الذين يعينون بقرارات قضائية على القصار والأوقاف والمعتوهين ونحوهم، وبالتأمين ضد التضمينات الحكومية من جراء خيانة بعض الموظفين، وبالتأمين ضد حوادث السيارات والطائرات. أما تأريخ دخول التأمين على البلدان الإسلامية فإن كثيرا من علماء المسلمين ممن كتب في هذا الموضوع يرى أن دخوله على البلاد الإسلامية كان قريبا جدا، بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن الثالث عشر الهجري لم يبحثوا هذا الموضوع مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شئون حياتهم العامة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية. ويقال: بأن أول من كتب فيه من علماء المسلمين هو ابن عابدين، وذلك حينما قوي الاتصال التجاري بين الشرق والغرب بعد النهضة الصناعية، واضطر الوكلاء التجاريون الأجانب المقيمون في البلدان الإسلامية لعقد صفقات الاستيراد - إلى التأمين على نقل البضائع المجلوبة من بلادهم.

أقسام التأمين

3 - أقسام التأمين: للتأمين عدة تقسيمات لاعتبارات مختلفة: أ- فينقسم من حيث شكله إلى قسمين: تأمين تعاوني، أو ما يسمى بـ: (التأمين التبادلي) ، وتأمين تجاري، أو ما يسمى بـ: (التأمين بقسط ثابت) . فالتأمين التعاوني: يقوم به عدة أشخاص يتعرضون لنوع من المخاطر، وذلك عن طريق اكتتابهم بمبالغ نقدية على سبيل الاشتراك، تخصص هذه المبالغ لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه منهم الضرر، فإن لم تف الأقساط المجموعة طولب الأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز، وإن زادت عما صرف من تعويض كان للأعضاء حق استرداد هذه الزيادة، وكل واحد من أعضاء هذه الجمعية يعتبر مؤمنا ومؤمنا له، وتدار هذه الجمعية بواسطة بعض أعضائها، ويتضح من تصوير هذا النوع من التأمين أنه أشبه بجمعية تعاونية تضامنية لا تهدف إلى الربح، وإنما الغرض منها درء الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء بتعاقدهم على توزيعها بينهم على الوضع المذكور.

التأمين التجاري

أما التأمين التجاري: أو ما يسمى بـ: (التأمين بقسط ثابت) فهو الذي تنصرف إليه كلمة التأمين عند إطلاقها، فالمؤمن له يلتزم بدفع قسط دوري محدد إلى المؤمن -شركة التأمين- في مقابلة تعهد المؤمن بتعويضه عند تحقق الخطر المؤمن منه، ويتميز هذا النوع عن سابقه باستقلال المؤمن عن المؤمن له حيث إن المؤمن هو الذي يستفيد من الربح إذا زادت الأقساط الدورية عن مبالغ التعويض المستحق دفعها للمؤمن لهم. كما أن

المؤمن هو وحده المتضرر بالخسارة في حال نقص الأقساط الدورية عن مبالغ التعويض المستحق دفعها. فالتأمين التجاري: يكون المؤمن له غير المؤمن الذي ليس له هدف إلا الربح، وبهذا يتضح الفرق بينه وبين سابقه، ذلك أن التأمين التبادلي أو التأمين التعاوني لا يسعى أصحابه إلى الربح، وإنما غايتهم التعاون على تحمل المخاطر، وكل واحد من أعضائه يعتبر مؤمنا له ومؤمنا، أما التأمين التجاري فالتعاون فيه يأتي بطريق غير مباشر وغير مقصود أيضا. وهناك من الكتاب من يذهب في تحليله عملية التأمين التجاري إلى أن التعاون بين المؤمن له والمؤمن هو الفكرة الأساسية للتأمين، ذلك أن المؤمن لا يعتمد في دفع مبالغ التأمين على رأس ماله، وإنما سنده في ذلك الأقساط الدورية التي يجمعها من المؤمن لهم. فالمؤمن لهم هم في الواقع المؤمنون لأنفسهم، وتتلخص وظيفة المؤمن في تنظيم هذا التعاون، وتوزيع المخاطر على المؤمن لهم.

أقسام التأمين من حيث موضوعه

ب- وينقسم التأمين من حيث موضوعه إلى قسمين: أحدهما: تجاري، ويشتمل على التأمين البحري والنهري والبري والجوي. فالتأمين البحري: ويقصد به: التأمين من المخاطر التي تحدث للسفن أو لحمولتها، وهذا النوع يعتبر أقدم أنواع التأمين. والتأمين النهري: هو التأمين من مخاطر النقل في مياه الأنهار والترع العامة. والتأمين الجوي: هو التأمين من مخاطر الجو التي تتعرض لها

الطائرات أو حمولاتها. وأما التأمين البري: فهو التأمين ضد الحوادث العامة فيما عدا حوادث البحر والجو.

تأمين الأضرار والأشخاص

القسم الثاني: تأمين الأضرار والأشخاص. فتأمين الأضرار يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمن له؛ لتعويضه عن الخسارة التي تلحقه بسببها، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: تأمين من المسئولية: وذلك بضمان المؤمن له ضد الرجوع الذي قد يتعرض له من جانب الغير بسبب ما أصابهم من أضرار يسأل عن التعويض عنها كحوادث السيارات والعمل. الثاني: التأمين على الأموال: وذلك بتعويض المؤمن له عن الخسارة التي قد تلحقه في ماله من سرقة أو حريق أو موت حيوان أو فيضانات أو آفات زراعية أو غير ذلك من أسباب الأضرار والمخاطر. أما تأمين الأشخاص: فيتناول أنواع التأمين المتعلقة بشخص المؤمن، وذلك بتعويض المؤمن له أو وارثه عن الضرر الذي أصابه في جسمه سواء كان موتا أو عاهة أو مرضا أو شيخوخة بما يتناسب مع مقدار الإصابة التي حلت به. ويشمل هذا النوع: التأمين على الحياة والتأمين من الحوادث الجسمية. أما التأمين على الحياة فله صور متعددة أهمها ما يلي: أ- التأمين للوفاة: وهو عقد يتعهد المؤمن بمقتضاه بأن يدفع للمؤمن له مبلغا معينا عند وفاة المؤمن عليه، وذلك لقاء أقساط دورية أو دفعة واحدة

تدفع له، وقد يكون الاتفاق على أن يدفع المؤمن المبلغ في أي وقت مات فيه المؤمن عليه. ويسمى هذا النوع بـ: (التأمين العمري) . وقد يكون الاتفاق على أن يدفع المؤمن المبلغ إذا مات المؤمن على حياته خلال مدة يتم الاتفاق على تحديدها، فإن مات المؤمن على حياته بعد انقضاء المدة برئت ذمة المؤمن، ولا حق للمؤمن له في الأقساط التي دفعها للمؤمن لقاء التأمين. ب- التأمين للبقاء: وهو عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يدفع للمؤمن له مبلغا من المال إذا امتدت حياة المؤمن له إلى تاريخ معين، فإن مات قبل ذلك التاريخ برئت ذمة المؤمن بحيث لا يستحق المؤمن له شيئا من المبلغ، كما أن الأقساط التي دفعها للمؤمن تعتبر من حق المؤمن نفسه وليس للمؤمن له منها شيء. ج- التأمين المختلط البسيط: وهو من أكثر أنواع التأمين على الحياة انتشارا وشيوعا، وهو: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه بأداء مبلغ معين في تأريخ معين للمؤمن له نفسه إذا امتدت حياته إلى ذلك التأريخ، فإن مات قبل ذلك التأريخ فيدفع المؤمن المبلغ المتفق على دفعه إلى المستفيد المعين، أو إلى ورثة المؤمن له، وذلك لقاء دفع المؤمن له للمؤمن مجموعة أقساط دورية يتم الاتفاق على تعيينها وتعيين مقدارها، وفي بعض أنواع التأمين المختلط يتعهد المؤمن بأن يدفع مبلغ التأمين المتفق عليه في حال وفاة المؤمن عليه خلال الفترة المحددة، وأن يضاعف هذا المبلغ إذا بقي حيا بعد انتهاء الفترة وهذا ما يسمى بـ: (التأمين المختلط المضاعف) . أما التأمين من الحوادث الجسمية: فهو عقد يتعهد المؤمن بمقتضاه أن

يدفع للمؤمن له مبلغا من المال معينا في حالة إصابته أثناء المدة المتفق على التأمين عليها بحادثة جسمانية أو إلى المستفيد المعين، أو ورثة المؤمن له في حال وفاته، وذلك لقاء دفع المؤمن له للمؤمن أقساطا دورية يتم الاتفاق على تعيينها وتعيين مقدارها.

أقسام التأمين من حيث العموم والخصوص

ج- وينقسم التأمين من حيث العموم والخصوص إلى: تأمين فردي وتأمين اجتماعي. فالتأمين الفردي: هو الذي يكون فيه المؤمن له طرفا مباشرا في العقد حيث يتولى نفسه مباشرة العقد ليؤمن على نفسه من خطر معين لمصلحته الشخصية. أما التأمين الاجتماعي: فيقوم على فكرة التضامن الاجتماعي لتأمين الأفراد الذين يعتمدون في معاشهم على كسب أيديهم من بعض الأخطار التي قد يتعرضون لها، فتعجزهم عن العمل؛ كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز، ويكون في الغالب إجباريا، ويشترك في دفع القسط مع العامل صاحب العمل والدولة، وتتحمل الدولة دائما أكبر نسبة من أجزاء القسط المدفوع إلى المؤمن، وهذا النوع من التأمين يعتبر مظهرا من مظاهر السياسة العامة للدولة فهي التي تخطط برامجه وتحدد نطاقه؛ ضمانا لمصالح الطبقات المختلفة في المجتمع، ورفع مستواها، وقد تكون الدولة الطرف المؤمن، ومن صور هذا النوع التأمينات التقاعدية والاجتماعية والصحية وغيرها من أنواع التأمينات العامة.

وظائف التأمين

4 - وظائف التأمين: يكثر الباحثون من القول بأن للتأمين وظيفة أساسية تتلخص في وقاية

الفرد والمجتمع من آثار المخاطر المختلفة، وذلك بتوزيعها في دائرة أوسع نطاقا من دائرة حدوثها، فهو ضمان للفرد يدفعه إلى العمل، ويبعث في نفسه الثقة والاطمئنان، ويقيه من الخوف الذي يساوره في وقوع حوادث قد تؤثر على اتجاهه أو تشل نشاطه، وضمان للمجتمع من أن تتعرض مشاريعه الإنمائية والاجتماعية لأخطار تهز كيانه وتوقف نشاطه. ويقولون بأنه يمكن أن تتلخص وظائف التأمين فيما يأتي: أولا: يعتبر أحد عوامل الإنماء الصناعي؛ لما يقدمه من ضمان لأصحاب رؤوس الأموال عما تتعرض له أموالهم من مخاطر عندما يقومون بتوظيفها في مشاريع صناعية. ثانيا: يعتبر أحد عوامل اتساع نطاق التجارة، حيث إن تأمين التاجر على بضائعه المستوردة يمنحه الثقة والضمان لمخاطر نقلها برا وبحرا وجوا، وبالتالي يعطيه القدرة على توسيع دائرة تجارته فتزداد بذلك الحركة التجارية تصديرا وتوريدا. ثالثا: كما يعتبر أحد العوامل ذات الأهمية في نشوء البيوت المالية التي لها خدماتها في الميدان الاقتصادي بما تقدمه من قبول الودائع وفتح الاعتمادات وتمويل المشاريع المختلفة، وما إلى ذلك من أعمالها المصرفية، فبتأمينها على أعمالها التجارية تستطيع أن تضاعف من نشاطها، وأن توسع دائرة أعمالها وبالتالي تزداد مراكزها المالية قوة وثباتا. رابعا: يعتبر أحد العوامل الواقية للمجتمع من عوامل التصدع والانهيار، حيث إن التأمين بتدخله لرفع الخطر عن كاهل صاحب أي مشروع

تجاري أو صناعي ما، فإنما يهيئ له الإقدام على إعادة بناء مشروعه المتضرر، أو بناء مشروع آخر على أنقاض المشروع الأول، وفي هذا حماية للمجتمع من أن تتعرض مشاريعه الإنمائية لهزات عنيفة تؤدي به إلى التدهور والانهيار. خامسا: يساعد على تكوين رؤوس الأموال، وذلك حينما تتجمع نسبة كبيرة في أيدي شركات التأمين تضطر نتيجة لتكدسها لديها إلى توظيفها في مشاريع تجارية وصناعية وعمرانية، وفي توظيفها في ذلك إتاحة فرصة لتشغيل عدد كبير من الأيدي العاملة، كما أن في ذلك زيادة للنقد المتداول في البلاد. سادسا: كما يعتبر أحد عوامل الادخار: ذلك أن المؤمن على حياته مثلا يدفع مقابل تأمينه أقساطا ضئيلة تكون مدخرا للمؤمن له لدى صندوق المؤمن؛ حيث تدفع له بعد فترة من الزمن يتم الاتفاق عليها في عقد التأمين، فإن توفي المؤمن له قبل ذلك كان لورثته حق الحصول على مبلغ التأمين. سابعا: يعتبر أيضا عاملا من العوامل المحققة للضمان الاجتماعي؛ ذلك أن التأمين الاجتماعي يهيئ للفرد ضمانات كثيرة ومتعددة يواجه بها أخطارا قد تصيبه في بيته أو في عمله أو أثناء سفره، وفي ذلك ضمان للفرد من أن يقع عبئا ثقيلا على الدولة، وضمان للمجتمع من أن يتعثر أفراده فتنشل الحركة العامة له ويصاب بالتدهور والانهيار. وإلى جانب آخر هذه الوظائف التي تنتج من التأمين يرى كثير من

الكتاب أن التأمين لا يخلو من أضرار أهمها: استخفاف المؤمن لهم بالحفاظ على أموالهم وأشخاصهم من التعرض للمصائب، بل قد يتجاوزون ذلك إلى افتعال الحوادث فيؤدي الأمر إلى كثرة الحوادث وتفاقمها، وفي ذلك ضرر بالغ على الأفراد بحكم الاستخفاف بحقوقهم، كاستخفاف السائقين المؤمن لهم على أنفسهم وعلى سياراتهم بقوانين السير وأنظمته، وما ينتج عن ذلك من تعريض أفراد المجتمع للأضرار دهسا وصدما. كما أن في ذلك ضررا بالغا على المجتمع في تحمل أكبر نسبة ممكنة من التعويض عن الحوادث المفتعلة أو التي لم تبذل الأسباب لتفاديها. ويجيب على هذا الإيراد الأستاذ بهاء بهيج شكري: في كتابه [النظرية العامة للتأمين] : بأن هذا التخوف والأضرار مبالغ فيه، وعلى فرض وقوعه فينبغي أن لا يكون محل اعتبار بجانب الفوائد العظيمة التي يجنيها المجتمع من التأمين فضلا عن أن القواعد العامة التي تحكم التأمين قد عالجت هذا الجانب حيث أوجبت على المؤمن له أن يبذل جهده في الأخذ بالأسباب التي تدرأ المصائب، وأن يحرص على المحافظة على أمواله بالدرجة التي يحرص فيها لو كانت غير مؤمن عليها. فإذا ثبت للمؤمن تساهل في الاحتياط على دفع الأضرار كان له حق الدفع بذلك قضائيا؛ ليحكم له بعدم دفعه التعويض المتفق على دفعه.

أسس التأمين الفني

5 - أسس التأمين الفني: يرى كثير من علماء القانون أن التأمين يقوم على فكرة التعاون بين المشتركين فيه، سواء كان على أساس التأمين التبادلي أم على أساس

التأمين بقسط ثابت ... - التأمين التجاري - إذ يفترض فيه قيام مجموعة من الأفراد يشتركون لهدف معين هو اتقاء المخاطر المتوقعة عليهم بتقبلهم تحمل ما قد يقع منها موزعا بينهم؛ لإذابة عبء الخطر وتفتيت آثاره على من يكون محلا له منهم، وذلك بقيام كل منهم بدفع مبلغ من المال يتفق مع نسبة الخطر الذي يخشى وقوعه عليه إلى صندوق هيئة التأمين أو شركة من شركات التأمين؛ لتقوم تلك الهيئة أو الشركة بجمع هذه الأموال وتكوين رصيد تغطي منه الأضرار التي تقع على الأفراد المشتركين فيه، وبهذا يكون كل فرد قد ساهم في تخفيف المصاب بتحمله قسطا من التعويض عنه، ويجري تحديد القسط الواجب دفعه إلى صندوق هيئة التأمين لمجموعة اعتبارات. وطبقا لقواعد الإحصاء. مما تقدم يتضح أن التأمين يستند على الأسس التالية: أ- قيام تعاون بين مجموعة من الأفراد المهددين بالخطر تحت إشراف هيئة منها أو تحت إدارة شركة من شركات التأمين تقوم بتفتيت ذلك الخطر وتوزيعه بين جميعهم، ليخفف عبء ثقله على الفرد. ب- المقاصة بين المخاطر حيث تتولى هيئة التأمين تنظيم عملية توزيع الأخطار بين الأفراد المشتركين فيه بطرق فنية تعتمد على قواعد الإحصاء. ج- تعتبر قواعد الإحصاء أساسا فنيا لتقدير قسط التأمين ومبلغ التأمين وتوزيع الأخطار بين المشتركين، ذلك أن التأمين يقوم على أساس حساب الاحتمالات -أي معرفة فرص تحقق الخطر- وحساب ذلك أصبح ممكنا بحكم تقدم فن الإحصاء، فقد أثبت الإحصاء أن الاحتمالات والمصادفة تخضعان لقانون الاستكثار الذي مؤداه أن الملاحظة التي تعمل على عدد

كبير من الحالات تؤدي غالبا إلى نتائج واحدة، وأن هذه النتائج تكون دائما متقاربة كلما وردت الملاحظة على عدد كبير جدا من الحالات. ويشترط لتطبيق قانون الاستكثار شرطان: أحدهما: أن الإحصاء يجب أن يمتد على نطاق واسع في الزمان والمكان بحيث لا يتجمع وقوع الأخطار في وقت واحد؛ كالزلازل والحروب والاضطرابات. الثاني: أنه يجب أن تكون الأخطار متناسقة من حيث طبيعتها وقيمتها.

أركان التأمين وعناصره

6 - أركان التأمين وعناصره: تمهيد: كثيرا ما يختلف علماء الفقه الإسلامي وعلماء القانون عند الكلام على ما يسمى: ركنا للشيء أو شرطا فيه أو عنصرا له؛ لاعتبارات تختلف فيها أنظارهم، ومن هذا ما وقع من الاختلاف بين من كتبوا في التأمين، فمنهم من رأى أن أركانه ثلاثة هي: التراضي بين المؤمن والمؤمن له، ومحل التأمين، والسبب الباعث على التأمين، ومنهم من رأى أن أركانه هي عناصره، وقال بأنها أربعة هي: الخطر، والأقساط، ومبلغ التأمين، -عهدة المؤمن- والمصلحة التأمينية. ورعاية للجانبين وإتماما للفائدة رأت اللجنة أن تشرح أركانه على كل من الاعتبارين، وبالاطلاع والمقارنة يظهر ما بينهما من التداخل ولكل اصطلاحه ولا مشاحة فيه. أ- أركان التأمين: يرى بعض علماء القانون أن عقد التأمين كغيره من العقود اللازمة يعتمد

على أركان ثلاثة هي: التراضي بين المتعاقدين، محل العقد، السبب الذي يقوم عليه العقد. . فالتراضي: اتفاق إرادتين أو أكثر اتفاقا تترتب عليه حقوق معينة بشرط أن تكون الإرادة صادرة ممن هو أهل للإلزام والالتزام، فلا أثر لإرادة عديم الأهلية كالصغير والمجنون والسفيه والمحجور عليه لحظ غيره فيما إذا كان محل العقد أمواله الواقعة تحت الحجر، وبشرط أن تكون الإرادة خالية عما يؤثر على صحتها؛ كعقود الغرر والغبن والغلط وغيرها. أما محل العقد: فقد اختلف الكتاب في تعيينه: فذهب بعضهم إلى القول بأن محل التأمين هو الخطر المؤمن منه، وذهب البعض الآخر إلى أن محل التأمين يتكون من ثلاثة عناصر هي: الخطر، وقسط التأمين، والتعويض. وذهب فريق ثالث: إلى أن محل التأمين هو المصلحة التأمينية، وهي المصلحة الاقتصادية التي تربط المؤمن له بالشيء المؤمن عليه. وقد ذهب إلى هذا الرأي مجموعة من الكتاب، وبه أخذ القانون المصري حيث نصت المادة (749) على ما يلي: يكون محلا للتأمين كل مصلحة اقتصادية مشروعة تعود على الشخص من عدم وقوع خطر معين. وهناك رأي رابع يتلخص في أن محل التأمين هو كل شيء مشروع ينتفع المؤمن له بسلامته ويتضرر بضرره، وقد أخذ بهذا الرأي القانون العراقي. ويشترط لمحل العقد أن يكون موجودا وقت التعاقد أو ممكن الوجود في المستقبل خلال فترة نفاذ العقد، وأن يكون معينا وذلك بذكر خصائصه وأوصافه التي يتميز بها عن غيره فيكون بذلك معلوما، وأن يكون مشروعا

بحيث يمكن التعامل به فلا يجوز التأمين على أموال مسروقة أو مغصوبة أو على بيوت دعارة أو أثاثها، وأن يكون محل التأمين محلا لاحتمال وقوع الخطر عليه وقت عقد التأمين، فلا يجوز مثلا التأمين على بضاعة في البحر قد تلفت، ولا على بضاعة في البحر قد وصلت وأدخلت مخازن أهلها. أما الركن الثالث من أركان عقد التأمين: فهو السبب الذي يحمل كلا من طرفي عقد التأمين -المؤمن والمؤمن له- إلى إبرام عقد التأمين بينهما والالتزام بالآثار الحقوقية المترتبة عليه. فإذا انتفى السبب الذي يقوم عليه التزام المؤمن له للمؤمن بدفع القسط الدوري لقاء التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر اللاحق به في محل التأمين بأن لم يكن هناك خطر يخشى منه على الشيء المراد تأمينه، أو لم يكن لطالب التأمين مصلحة تأمينية في ذلك الشيء بطل عقد التأمين؛ لانعدام سبب الالتزام، وبهذا جاء القانون المدني العراقي حيث نصت المادة (132) منه على ما يأتي: يكون العقد باطلا إذا التزم المتعاقد دون سبب أو لسبب ممنوع قانونا أو مخالف للنظام العام والآداب.

عناصر عقد التأمين

ب- عناصر عقد التأمين أو أركانه: يرى بعض علماء القانون: أن عقود التأمين يجب أن تشتمل على أربعة عناصر إذا تخلف أحدها اعتبر التأمين باطلا بطلانا أصليا، تلك العناصر هي: الخطر والقسط ومبلغ التأمين والمصلحة التأمينية. أ- أما الخطر فإن الغاية من التأمين هي ابتغاء مصلحة اقتصادية تقي خطرا معينا يخشى وقوعه كأخطار الحريق والسرقة والإصابات وغيرها. وبعض الكتاب يرى أن التأمين لا يكون دائما ضد الأخطار والكوارث فقد

يكون الحادث المؤمن منه حادثا سعيدا؛ كإنجاب الأولاد وتزويجهم والتأمين على الحياة وغير ذلك؛ ولهذا يميل بعضهم إلى القول بأن الغاية من التأمين توقي ضائقة اقتصادية بابتغاء مصلحة اقتصادية تقيها. ويجب أن يكون الخطر المؤمن ضده معينا تعيينا دقيقا يتضح به نوعه وحده؛ ليعرف به المؤمن حدود التزامه، ويعرف المؤمن له الحال التي يستطيع فيها الرجوع على المؤمن عند حدوث الخطر لطلب التعويض. ويشترط لعنصر الخطر في التأمين الشروط التالية: 1 - أن يكون وقوع الخطر احتماليا، وبهذا جاءت المادة (782) من القانون المدني المصري بما نصه: يقع عقد التأمين باطلا إذا تبين أن الخطر المؤمن عنه كان قد زال، أو كان قد تحقق في الوقت الذي تم فيه العقد. 2 - أن لا يكون وقوعه إراديا محضا؛ لما في ذلك من انتفاء ركن احتمال وقوع الخطر؛ لأن وقوعه بالإرادة المحضة متعلق بإرادة أحد طرفي العقد. 3 - أن لا يكون الخطر مخالفا للنظام العام أو الآداب، وبهذا جاءت المادة (749) من القانون المدني المصري حيث نصت على أن يكون محلا للتأمين كل مصلحة اقتصادية مشروعة، فلا يجوز التأمين على الأخطار المترتبة على أعمال التهريب، أو الاتجار في المخدرات، أو على الأماكن التي تدار للدعارة أو المقامرة إلى غير ذلك من أنواع المصالح غير المشروعة التي تخل بالنظام العام والآداب. ب- وأما القسط في عقد التأمين فهو المقابل الذي يستحصله المؤمن من المؤمن له؛ ليتحمل مسئولية الخطر المؤمن منه، ولقسط التأمين أهمية

كبرى في قدرة هيئات التأمين على مواجهة التزاماتها، ولكل خطر قسطه المحدد له، ويخضع تحديد القسط لعدة قواعد فنية أهمها: قاعدة نسبة القسط إلى الخطر، وقاعدة حجم المخاطر المتشابهة على محل التأمين وللإحصاءات الدولية المنتظمة التي تقوم بها هيئات التأمين في أنحاء العالم على أنواع المخاطر، وفي الغالب تختلف فئات تحديد القسط بالنسبة للخطر الواحد تبعا لاختلاف الظروف والملابسات والمكان الذي يقع فيه محل التأمين. ولمبلغ التأمين أثر في تحديد القسط، فكلما كان المبلغ كثيرا كان القسط أكثر، وكلما كان قليلا كان القسط أنقص. ج- أما مبلغ التأمين فهو المال الذي يتعهد المؤمن بدفعه إلى المؤمن له عند حدوث الخطر المؤمن عنه، ويكون مبلغ التأمين الواجب دفعه من المؤمن نقودا سواء دفعها إلى المؤمن له مباشرة أو دفعها لغيره في مقابلة إصلاح محل التأمين كالسيارة المصدومة أو استبدال غيره به كالبضائع التالفة، وللمؤمن له حق طلب قيمة الإصلاح أو التالف؛ ليقوم بنفسه بإصلاح ما أمن عليه أو استبدل غيره به أو الاحتفاظ بالقيمة دون إصلاح أو استبدال بشرط براءة ذمة المؤمن من عهدة ذلك. د- أما المصلحة التأمينية فتعتبر أساسا لمشروعية التأمين وعنصرا مهما في عقده، وقد نصت مجموعة من القوانين العربية والغربية على اعتبار عقد التأمين باطلا إذا لم يكن للمؤمن له مصلحة في التأمين، وقد حددها بعضهم بقوله: هي علاقة مشروعة تربط طالب التأمين بمحل العقد من شأنها أن تجعله يتضرر فعلا من وقوع الحادث المؤمن منه وينتفع من عدم

وقوعه، كعلاقة المالك بملكه، والمرتهن برهنه، والوديع بالوديعة، والمستعير بالعارية، والوصي بأموال الموصى عليه، والشريك بالحصة المشاعة، فلكل واحد من هؤلاء مصلحة تأمينية بالمال الذي تحت يده بخلاف علاقة زيد من الناس بملك عمرو، فليس له فيه مصلحة تأمينية تعطيه حق التأمين عليه. ويشترط لاعتبار المصلحة التأمينية أن تكون مالية فلا عبرة بالمصلحة الأدبية، كتأمين الصديق على حياة صديقه، أو تأمين الأخ على أموال أخيه، وأن تكون مشروعة، فلا صحة لتأمين السارق على ما سرق، والغاصب على ما غصب، وكالتأمين على بيوت الدعارة، ومخاطر التهريب، والاتجار في المخدرات، ويذكر علماء القانون أن اعتبار المصلحة التأمينية عنصرا أساسيا لعقد التأمين ومدى مشروعيته يعطي عقد التأمين صفة تخرجه من عقود المقامرة والرهان. وإلى هذا تشير المادة الرابعة من قانون التأمين البحري الإنجليزي إلى أن أي عقد للتأمين البحري لا يكون فيه طالب التأمين في موقف يجعله يتضرر بتضرر المال المراد تأمينه وينتفع بسلامته يعتبر عقدا للمقامرة والرهان. وكذا نص قانون التأمين على الحياة الإنجليزي على ما يأتي: يقع باطلا كل تأمين يجري من قبل شخص أو أشخاص على حياة أي شخص أو أشخاص إذا كان الشخص أو الأشخاص الذين نظمت وثيقة التأمين لمصلحتهم لا يملكون مصلحة تأمينية في إجراء التأمين المذكور.

خصائص عقد التأمين

7 - خصائص عقد التأمين: لعقد التأمين مجموعة خصائص:

إحداها: أنه عقد من عقود التراضي، باعتبار أن الإيجاب والقبول صدرا من إرادتين، كل إرادة منهما أهل للإلزام والالتزام، ويعتبر عقدا مقتضيا للإلزام والالتزام بمجرد صدور الإيجاب والقبول من طرفيه سواء كان ذلك شفاها أو كتابة، ويرى بعضهم أن العقد لا يكون ساري المفعول حتى يكون مسجلا، وبعضهم يرى: أن عقد التأمين يبدأ نفاذه من استلام أول قسط من المؤمن له. الثانية: أنه عقد احتمالي؛ لأن خسارة أو ربح كل من طرفي العقد غير معروفة وقت العقد، إذ إن ذلك متوقف على تحقق أو تخلف الخطر المؤمن عنه فعند تحققه أو تخلفه يتعين الرابح منهما والخاسر، وهذا خاص في العلاقة الحقوقية القائمة بين طرفي العقد، أما المؤمن فحيث إنه يتعامل مع مجموعة كبيرة من طالبي التأمين فخسارته مع أحدهم تتحملها أرباحه مع الآخرين. ولهذا الجانب اتجه بعض الكتاب إلى أن عقد التأمين يعتبر احتماليا بالنسبة إلى المؤمن له إذ هو الطرف الوحيد الذي يتجه إليه احتمال الربح أو الخسارة، أما المؤمن فإن خسارته محمولة بأرباحه مع الآخرين فلا وجه لاحتمال خسارته، وهناك من الكتاب من يرى أن الطرف الذي يعتبر العقد احتماليا بالنسبة له هو المؤمن إذ هو الوحيد الذي يتحمل الخسارة ويحصل على الربح، أما المؤمن له فهو خاسر على كل حال؛ لأنه إن انتفى الخطر المؤمن عليه خسر قسط التأمين، وإن تحقق الخطر أعطي مقابله وخسر القسط فهو خاسر لقسط التأمين على أي حال، ويتجه جمهور علماء القانون إلى أن عقد التأمين عقد احتمالي للطرفين

بالنسبة للعلاقة القانونية بينهما. الثالثة: أنه عقد مستمر حيث إنه لا يتم الوفاء بالالتزام المترتب عليه بصفة فورية، وإنما يستغرق الوفاء بهذه الالتزامات مدة من الزمن هي مدة نفاذ ذلك العقد، ويظهر أثر اتصافه بالاستمرار فيما إذا طرأ على محل العقد ما يستحيل به الطرفين تنفيذ مقتضيات العقد كما لو هلك محل التأمين بسبب لا يمت إلى الخطر المؤمن عنه بصلة، فإن العقد لا ينفسخ بأثر رجعي، وإنما يبطل من تأريخ هلاك محل التأمين بحيث يستحق المؤمن الأقساط المدفوعة عن الفترة السابقة لهلاكه. الرابعة: أنه عقد إذعان حيث يتولى أحد طرفيه وضع الشروط التي يريدها ويعرضها على الطرف الآخر، فإن قبلها دون مناقشة أو تعديل أو إضافة أو حذف مضى العقد بينهما بقبوله، وإلا فلا. ويصف الدكتور محمد علي عرفة موقف شركات التأمين مع طالبي التأمين فيقول ما معناه: إن المؤمن لهم يضطرون إلى توقيع وثيقة مطبوعة دون أية مناقشة لشروطها، فلا تترك لهم الحرية إلا في اختيار التأمين من عدمه، فمن شاء أن يؤمن فليوقع على ما فرضه المؤمن من شروط. إلا أن عامل المنافسة بين شركات التأمين لعب دورا مهما في حمل شركات التأمين على التقليل من الشروط التعسفية ووضع شروط أكثر ملاءمة لمصالح المؤمن لهم. ويترتب على اعتبار عقد التأمين من عقود الإذعان أمران: أحدهما: أن للمحكمة الحق في إبطال أي شرط تعسفي لا يتفق

مع قواعد العدالة. الثاني: أن كل غموض أو شك في نصوص العقد يفسر لصالح المؤمن له. الخامسة: عقد معاوضة من حيث إن كل واحد من طرفيه يأخذ مقابلا لما يعطي. ذلك أن المؤمن له يحصل من المؤمن مقابل دفعه أقساط التأمين على التعهد بتحمل مسئولية الخطر على محل التأمين، ويأخذ المؤمن لقاء تعهده بذلك قسطا تأمينيا، وبهذا يتضح انتفاء صفة التبرع في عقود التأمين. السادسة: عقد ملزم للجانبين حيث إنه ينشئ التزامات متقابلة في ذمة كل طرف من طرفيه قبل الآخر، وتنشأ هذه الالتزامات على رأي بعضهم من اللحظة التي يتم فيها العقد بتحقق ركنيه الإيجاب والقبول، فيلتزم المؤمن له بتسديد قسط التأمين إلى المؤمن. كما يلتزم بإشعاره بالمعلومات التي تطرأ على محل التأمين خلال فترة العقد، وبإعلان الحادث عند وقوعه. أما المؤمن فيأخذ التزامه شكلا سلبيا حتى يقع الخطر، فيأخذ الجانب الإيجابي بقيامه بالتعويض اللازم للمؤمن له، وبهذا يتضح أن التزام المؤمن له بدفع القسط التزام محقق، وأن دفع المؤمن التعويض الملتزم به احتمالي. السابعة: عقد مسمى. ذلك أن العقود تنقسم قسمين: عقود مسماة، وعقود غير مسماة، أما العقود المسماة: فهي التي تخضع للأحكام العامة من حيث انعقادها، وللقواعد التي تقررها

الأحكام الواردة في القانون المحلي فيما يتعلق بالأمور التفصيلية، وعقود التأمين من العقود المسماة. وأما العقود غير المسماة: فهي التي لا تندرج تحت أي نوع من أنواع العقود المسماة في القانون المحلي؛ لذلك فهي تخضع للأحكام النظرية العامة للالتزام وللشروط التي اتفق عليها الطرفان إذا لم تتعارض مع النظام العام والآداب. الثامنة: هو عقد من عقود حسن النية: ذلك أن حسن النية يعتبر صفة لازمة لكل عقد من عقود التراضي، بمعنى أن كل طرف من المتعاقدين يجب أن يقف مع الطرف الآخر موقفا أساسه الإخلاص والأمانة والصدق. وعقد التأمين أكثر العقود احتياجا لحسن النية؛ لأنه يفترض في المؤمن جهله بما يتعلق بمحل التأمين ومقدار استهدافه الخطر، إذ هو يعتمد في تقديره للخطر على المعلومات التي يقدمها له المؤمن له باعتباره الجهة الوحيدة التي تعرف الشيء الكثير عن محل التأمين، كما يفترض في المؤمن له جهله بالأصول الفنية للتأمين، إلى غير ذلك مما يتطلب بإلحاح توافر حسن النية بين المتعاقدين. التاسعة: التأمين: عقد مدني تجاري: ذلك أن أعمال التأمين في الغالب تمارس من قبل مؤسسات تجارية، فالتأمين بالنسبة للمؤمنين عملية تجارية محضة يهدف أصحابها إلى الربح، أما بالنسبة إلى المؤمن لهم فقد يكون تصرفهم تجاريا، كالتأمين على المستودعات التجارية والبضائع المنقولة ونحو ذلك، وقد يكون

مدنيا كالتأمين على الحياة أو عن حوادث الاحتراق والسرقة بالنسبة إلى بيوتهم مثلا. وإذا كان التأمين بقسط محدود لا يثير أي إشكال بالنسبة إلى اعتباره تأمينا تجاريا فهل التأمين التبادلي -التعاوني- يعتبر تأمينا تجاريا؟ الواقع أن هذا التساؤل كان موضوع بحث مجموعة من رجال القانون، فاتجه غالبهم إلى القول بأن التأمين التبادلي ليس تأمينا تجاريا، وإنما هو إجراء تعاوني لا يهدف إلى الربح، وإنما يهدف إلى تبديد الأخطار وتوزيعها بين أكبر عدد ممكن، وذهب بعضهم إلى اعتباره عملا تجاريا؛ باعتباره يؤدي إلى تجنب الخسائر.

حق الحلول

8 - حق الحلول: يقصد بحق الحلول حق رجوع المؤمن على الذي أحدث الضرر بتعمده أو خطئه، وذلك بعد دفعه للمؤمن له مبلغ التأمين. لقد أخذت مجموعة من شركات التأمين بهذا المبدأ وأقرته بعض القوانين المدنية فقد جاء في المادة -771- من القانون المدني المصري ما نصه: يحل المؤمن قانونا بما دفعه من تعويض في الحريق في الدعاوي التي تكون للمؤمن له قبل من تسبب بفعله في الضرر الذي نجمت عنه مسئولية المؤمن، ما لم يكن من أحدث الضرر قريبا أو صهرا للمؤمن له ممن يكونون معه في معيشة واحدة أو شخصا يكون المؤمن له مسئولا عن أفعاله. اهـ. ويذكر العلماء في ذلك أن المؤمن لا يحل محل المؤمن له في حق المطالبة بالتعويض عن التسبب إلا في حدود مبلغ التأمين الذي دفعه للمؤمن له، وبعد أن يثبت أنه دفع مبلغ التأمين بالفعل، ويكون للمؤمن له

حق المطالبة بالباقي إن كان التعويض عن التسبب أكثر من مبلغ التأمين، وإذا أصبح الحلول متعذرا بفعل المؤمن له كأن يتنازل المؤمن له عن حقه في مطالبة المتسبب بقيمة التعويض، فإن ذمة المؤمن تبرأ من مسئولية التأمين براءة تامة أو جزئية حسب الأحوال.

مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر

9 - مبدأ السبب القريب أو السبب المباشر: يقصد بالسبب القريب: السبب المباشر الذي أدى إلى وقوع الخطر المؤمن عنه، أو الحلقة الأولى التي سمحت بتتابع سلسلة من الحوادث أدت إلى وقوع الخطر المؤمن عنه، وبالتالي وقوع الخسارة، وذلك بدون تدخل أي مؤثر خارجي مستقل، ويمثلون لذلك بالمثالين الآتيين: أ- رجل أمن منزله ضد الحرائق العادية، ومعلوم أن الحرائق التي يكون سببها الزلزال لا تدخل ضمن الحرائق العادية فشب حريق بسبب الزلزال في بيت ثم انتقل إلى آخر، ثم انتقل الحريق إلى بيت ذلك الرجل فهذه الحرائق لا تدخل ضمن نطاق التأمين، إذ إن السبب القريب في كل حالة هو الزلزال وهو غير داخل في نطاق التأمين. ب- رجل أمن منزله ضد الحريق فشبت النار فيه وتلف مجموعة من أثاثه من الماء المستخدم لإطفائه ومن إلقائه من النوافذ للاضطرار، فالخسائر الناجمة عن تلف هذه الأشياء تدخل ضمن نطاق التأمين حيث إن السبب القريب لتلفها هو الحريق المؤمن عن أخطاره، وهذا المبدأ يعطي المؤمن الحق في الدفع به قضائيا عند التهرب من الوفاء بالالتزام بدفع مبلغ التأمين للمؤمن له. ويذكر الأستاذ أحمد جاد عبد الرحمن في كتابه [التأمين] : أن تطبيق هذا

المبدأ صعب جدا من الوجهة العملية، ويتضح ذلك من كثرة عدد القضايا التي نشأت عن تطبيق هذا المبدأ، كما أن حيثيات الأحكام في هذه القضايا ليست واضحة أو شافية.

وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ بوليصة التأمين

10 - وثيقة التأمين أو ما يسمى بـ (بوليصة التأمين) : عرف القانون المصري وثيقة التأمين بما جاء في المادة (747) من القانون المدني بأنها: (عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال، أو إيرادا مرتبا، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن) . وقد جرت العادة حسب مقتضيات الحال أن عدة إجراءات تسبق إعداد وثيقة التأمين كصحيفة طلب التأمين من المؤمن له وإجابته على ما يرغب المؤمن الحصول عليه من المعلومات عن محل التأمين لكي يتمكن من تحديد درجة الخطر وتقرير قبول أو رفض التأمين وتقرير القسط الملائم لاحتمال وقوعه، وتعيين مبلغ التأمين في حال قبول التأمين، وقد لا يقتنع المؤمن بالمعلومات التي يقدمها طالب التأمين فيجري تحرياته الخاصة عن محل التأمين ومدى قابليته للخطر المراد التأمين عنه. كما يجري تحرياته عن طالب التأمين من حيث سمعته وأخلاقه وعاداته ومركزه المالي والاجتماعي إلى غير ذلك من التحقق والتحري مما يعتبره علماء القانون عملا ذا قيمة يقوم به المؤمن لمصلحته. فإذا اقتنع المؤمن بجدوى ارتباطه مع طالب التأمين بعقد التأمين قرر قبوله التأمين، واعتبر

طلب التأمين من طالبه إيجابا، وبتحقق الإيجاب والقبول يتم العقد وتسوى بينهما، وثيقته مشتملة على ما يأتي: أ- أسماء المتعاقدين ومحل إقامتهما واسم المستفيد إن كان معينا. ب- محل التأمين، بحيث تتضمن الوثيقة وصفا كاملا له بذكر نوعه وجنسه ومحل خزنه إن كان مالا، ومحل ونوع عمله إن كان شخصا. ج- وصف الخطر المؤمن منه وصفا دقيقا تنتفي به الجهالة. د- مقدار سعر التأمين الذي يمكن أن يحتسب قسط التأمين على ضوئه. هـ- مقدار القسط الدوري وتعيين وقته وطريق سداده. والمبلغ المؤمن به، ويسمى: رأس مال بوليصة التأمين. ز- مدة العقد، وذلك بتحديد مدة نفاذ العقد بذكر تاريخ ابتدائه وتاريخ انتهائه. ح- الشروط الخاصة بالعقد والمتعلقة بمصالح طرفيه. ط- توقيع طرفي العقد المؤمن والمؤمن له وتأريخ التوقيع.

أنواع وثيقة التأمين

11 - أنواع وثيقة التأمين: لوثائق التأمين تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة: أحدها: من حيث مدة سريان العقد، والثاني: من حيث نطاق ضمان العقد، والثالث: من حيث قيمة التأمين. أما تقسيم وثيقة التأمين من حيث مدة سريان العقد: فهي تنقسم إلى: وثيقة زمنية تتحدد فيها مدة سريان العقد، وتنقسم هذه المدة الزمنية إلى ثلاثة أقسام، وثيقة سنوية وتقضي باعتبار نفاذ سريان العقد لمدة سنة كاملة، ويمكن باتفاق الطرفين تجديدها عند الانتهاء، ووثيقة لفترة قصيرة، وهي

الوثيقة التي تكون فترة نفاذها أقل من سنة ويكون قسط التأمين لهذه الوثيقة متناسبا مع قصر هذه المدة محسوبا على أساس القسط السنوي مع إضافة 5% من مقدار الفرق بين القسط السنوي الكامل والنسبة التي تصيب فترة سريان الوثيقة، ويسمى هذا بقسط الفترة القصيرة، ووثيقة لفترة طويلة، وهي الوثيقة التي تحدد مدة سريانها بأكثر من سنة، ويدفع قسط التأمين لكامل المدة عند إنشاء العقد، وإلى وثيقة سفرية، وهي التي يتوقف أمد نفاذها على المدة التي تكمل فيها واسطة النقل سفرتها. وأما تقسيم وثيقة التأمين من حيث نطاق ضمان العقد فتنقسم إلى: وثيقة اعتيادية: وهي التي تضمن مالا معينا من خطر معين، وهذه الوثيقة من أكثر وثائق التأمين شيوعا، وإلى وثيقة عائمة، وهي وثيقة تصدر متضمنة شروطا عامة للتأمين؛ لتغطية شحنات متعددة خلال فترة غير محدودة وبمبلغ تأمين إجمالي، وبموجب هذه الوثيقة يلتزم المؤمن له بتسديد قسط التأمين بنسبة المبلغ الإجمالي مقدما، ثم يرصد مبلغ كل شحنة من المبلغ الإجمالي للتأمين إلى أن يتم استهلاكه، ويكون المبلغ الإجمالي خاضعا للتسوية عند انتهاء عمليات الشحن. وإلى وثيقة عامة: وهي التي تصدر بتأمين أخطار متعددة يخشى حدوثها على أموال مختلفة ويستوفى بمقتضاها قسط تأمين إجمالي يشمل كافة الأخطار المؤمن منها. وتنقسم وثيقة التأمين من حيث قيمة التأمين إلى وثيقة محدودة القيمة، وهي: وثيقة تحدد فيها قيمة التأمين باتفاق المؤمن والمؤمن له على أساس قيمة محل التأمين وقت العقد، وتكون هذه القيمة أساسا يقاس عليه مبلغ التعويض عند الخطر، وإلى وثيقة غير محدودة

القيمة، وهي التي لا يجري فيها تحديد قيمة التأمين على أساس قيمة المحل، فإن زادت قيمة محل التأمين على مبلغ التأمين فليس للمؤمن له حق المطالبة بمقابل هذه الزيادة عند تحقق الخطر، وإن قلت هذه القيمة عن مبلغ التأمين صار للمؤمن له حق المطالبة برد نسبة معينة من قسط التأمين، تحسب على أساس الفرق بين مبلغ التأمين وقيمة محل التأمين.

المشاركة في التأمين

12 - المشاركة في التأمين: يقصد بالمشاركة في التأمين: اشتراك مجموعة المؤمنين في توزيع الخسائر بينهم عند قيامهم بالتأمين على محل واحد يزيد مجموع مبالغ التأمين منهم عن القيمة الحقيقية لذلك المحل، وذلك كأن يستصدر شخص ما مجموعة وثائق تأمين متعددة على محل واحد ضد خطر معين ولمصلحة تأمينية، بحيث يتجاوز مجموع مبالغ هذه التأمينات الحد الذي يسمح به مبدأ التعويض الحقيقي فإن لمجموع المؤمنين الحق في تطبيق مبدأ المشاركة، وذلك بتوزيع الخسارة بينهم كل بنسبة مبلغ التأمين الذي التزم به. كما أن للمؤمن له الحق في الرجوع عليهم بمطالبتهم بإعادة نسبة من قسط التأمين حسب معادلة رياضية معروفة تحكم ذلك. ويشترط لتطبيق مبدأ المشاركة الشروط التالية: أ- أن يقوم نفس الشخص بالتأمين على محل التأمين لدى مؤمنين متعددين. ب- أن تشترك وثائق التأمين في تغطية نفس الأخطار. ج- أن تحمي هذه الوثائق مصلحة تأمينية معينة. د- أن تكون مبالغ التأمين في هذه الوثائق منشئة حالة تأمين زائد عن قيمة

محل التأمين. هـ- أن تكون هذه الوثائق سارية المفعول وقت تحقق الخطر. ويؤكد علماء القانون أن فكرة المشاركة مستمدة من مبدأ القول بأنه (لا يجوز أن يكون التأمين بأي حال من الأحوال مصدر ربح للمؤمن له، وإنما الغرض الوحيد منه هو تعويض المؤمن له عن الأضرار المادية التي لحقت الأشياء المؤمن عليها بحسب قيمتها الحقيقية وقت تحقق الخطر) .

التأمين الاقتراني وإعادة التأمين

13 - التأمين الاقتراني وإعادة التأمين: لا شك أن اختلاف الأخطار التي يجمعها المؤمن في ضمانه من حيث طبيعتها وقيمتها يؤدي إلى وجود فروق كبيرة تهدد نشاط المؤمن في حال زيادتها عن متوسط ما قدرت به التعريفة، ولكي يواجه المؤمن هذه الاحتمالات الخطرة فإن أمامه طريقين يمكنه بهما أو بأحدهما أن يحقق تناسقا بين الأخطار الواقعة في ضمانه: أحدهما: التأمين الاقتراني. والثاني: إعادة التأمين. أما التأمين الاقتراني: فيتلخص في أن يحتفظ المؤمن لنفسه بقدر من الخطر الاحتمالي بما يتناسب مع قدرته التحملية، ثم يعرض القدر الزائد على مؤمنين آخرين كل منهم يتقبل جزءا من الخطر في حدود إمكانياته، فإذا تحقق الخطر قام المؤمنون جميعا بمواجهة كل بقدر حصته منه، ويعتبر كل واحد من المؤمنين في حدود حصته من التأمين مرتبطا تعاقديا مع المؤمن له من غير أن يكون للآخرين ارتباط بهذه الحصة. ونظرا لرفض مجموعة كبيرة من المؤمن لهم التأمين الاقتراني؛ لعدم

التضامن بين المؤمنين فضلا عن الصعوبة في تحقق رضا المؤمن له عن كل شركة من شركات التأمين الاقتراني، وعن مساوئ تعدد الإدارات وبالتالي تأخر البت في إعطاء المؤمن له التعويض اللازم، نتيجة لاختلاف النظر والنشاط في التحقيق والتثبت عن صحة الالتزام، كل ذلك جعل التأمين الاقتراني غير مرغوب فيه كوسيلة من وسائل التنسيق بين الأخطار. أما إعادة التأمين فهي: اتفاق قائم يتم بموجب عقد يقع إبرامه بين هيئتين من هيئات التأمين تسمى الأولى منهما: معطية، والثانية: معيدة التأمين، تحيل الشركة المعطية بمقتضاه حصصا من الأخطار التي تتقبلها في معاملتها الخاصة إلى معيد التأمين الذي يتعهد بقبولها حسب شروط العقد. ويتضح من هذه العملية أنها تعتبر عقد تأمين جديد قائم بذاته لا علاقة للمؤمن له الأول به، ذلك أن المؤمن وهو المعطي يعتبر في هذه العملية مؤمنا له، ومعيد التأمين يعتبر مؤمنا، ودرك المؤمن له الأول على المؤمن الذي هو مؤمن له في عقد إعادة التأمين. وحيث إن عقد إعادة التأمين يعتبر في الواقع عقدا من عقود التأمين الاعتيادية، فإنه يتمتع بنفس الخصائص التي يتميز بها عقد التأمين الاعتيادي. ويمتاز إعادة التأمين بقدرته على توزيع المخاطر على أوسع نطاق ممكن، وعلى تحقيق التوازن بين المخاطر مع سلامته من المساوئ التي تتمثل في التأمين الاقتراني، ولهذا يحرص الكتاب دائما على تسميته بالعمود الفقري لكل شركة تأمين؛ لأن له أهمية كبرى في أسواق التأمين العالمية، إذ ما من شركة تأمين مهما كان مركزها المالي إلا وهي آخذة

بنصيبها منه.

تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها

14 - تنوع نظريات التأمين تبعا للاعتبارات التي بنيت عليها: للتأمين جوانب اقتصادية ومدنية وفنية، ولكل جانب من هذه الجوانب الثلاثة اتجاه نظري خاص. أ- فللتأمين من الجانب الاقتصادي نظريتان: إحداهما: نظرية التأمين للحاجة عاجلا أو آجلا، ذلك أن المرء قد يكون محتاجا احتياجا عاجلا لازما لإشباع متطلبات مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وما إلى ذلك من شئون حياته العاجلة، وقد يكون احتياجه آجلا كحاجته إلى تأمين استعداده للظروف المحتمل وقوعها مستقبلا، فتغطية حاجته عاجلا أو آجلا واستعداده للطوارئ التي قد يرتب وقوعها خسائر كبيرة هو الباعث على التأمين. الثانية: نظرية التأمين للأمن. ذلك أن المرء وإن كانت حاجته متوفرة لديه إلا أن قلقا نفسيا، يساوره حينما يعرف أن هذه الأمور محل للأخطار المتوقع حصولها عليها مستقبلا، لذلك يجد نفسه مدفوعة إلى التأمين على هذه الأشياء طلبا للراحة النفسية والأمن والاطمئنان إلى سلامتها ودوامها طيلة حاجته إليها. ب- وللتأمين من الجانب المدني نظريتان: إحداهما: نظرية التأمين عن الضرر، ذلك أن التأمين ضمان للتعويض عن الأخطار التي تترتب على وقوعها أضرار مادية. فطالب التأمين يطلبه؛ لأنه يرى فيه إنقاذا من أضرار لا قبل له بتحملها. الثانية: نظرية التأمين في مقابل. ذلك أن المؤمن له يدفع للمؤمن قسطا

دوريا في مقابلة التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر الواقع على محل التأمين في حدود ما تم عليه الاتفاق وشمله العقد، فالتأمين بهذا عملية تقابل: قسط يدفع في مقابلة تعويض عند وقوع الحدث المؤمن عنه يدفع. . ج- أما الجانب الفني فللتأمين نظريتان: إحداهما: المقاصة المنظمة، وذلك على أساس أن الأخطار التي يتعرض لها المؤمن لهم توزع عليهم عن طريق المقاصة. الثانية: نظرية المقاولة المنظمة فنيا. هذه النظرية تتلخص في أن التأمين ليس عقدا بين فردين عاديين، وإنما هو عقد بين فرد وهيئة منظمة تنظيما فنيا يجري تعاملها على أساس قواعد الإحصاء التي تعطي نسبة تقريبية لوقوع الأخطار، ويجري على ضوء النتائج الإحصائية مدى الدخول مع طالب التأمين في اتفاق تأميني ثم تقدير القسط وسعره ومبلغ التأمين في حال الاقتناع بجدوى ذلك. مما تقدم نستطيع استخلاص الحقائق التالية: أ- التأمين عقد إلزامي ليس من باب الإعانات ولا التبرعات. ب- يغلب على عمليات التأمين القصد التجاري، وإن وجد فيه التعاون فالغالب أنه جاء بطريق الاستلزام لا بطريق القصد. ج- ليس للمؤمن في جميع صوره مجهود في اتقاء المخاطر، وإنما مجهوده محصور في استقصاء المعلومات عن احتمال وقوع الخطر بواسطة قانون الاستكثار وغير ذلك من الملابسات والظروف، وعن الحال الاجتماعية والأخلاقية الذي يكون عليها المؤمن له حيث إن

عقود التأمين يفترض فيها توافر حسن النية لدى الطرفين. د- التأمين وإن كان بالنسبة للمؤمن يعتبر في الغالب عملا تجاريا واسعا، فهو بالنسبة للمؤمن له ليس عملا تجاريا وإنما هو إجراء مدني يقصد به الوقاية من كوارث يستطيع به المؤمن له درء خسائرها عليه. هـ- التأمين بالنسبة للمؤمن التزام احتمالي معلق قيامه على وقوع الخطر المؤمن عنه، حيث إن الخطر المؤمن عنه يحتمل وقوعه فيجري الالتزام بدفع مبلغ التأمين، ويحتمل ألا يقع فتبرأ ذمة المؤمن مما التزم به من تعويض، وأما بالنسبة للمؤمن له فالتزامه بدفع الأقساط التزام منجز ليس للاحتمال فيه مجال. ويعتبر المؤمن له في عقد التأمين مشتريا الأمان عن الخطر الذي أمن عليه كل فترة دورية (شهرية أو سنوية أو مدة معينة) بما يدفعه قسطا تأمينيا لها. ز- ليس للمؤمن له تأمينا تجاريا حق في استرجاع الأقساط التي دفعها أو شيئا منها في حال انقضاء المدة التي دفع عليها التأمين دون وقوع الحادث. ح- ليس للمؤمن له تأمينا تجاريا حق في الأرباح التي يستحصلها المؤمن من المؤمن لهم. ط- ليس للمؤمن حق في اقتطاع جزء من مبلغ التعويض عند وقوع الخطر على محل التأمين عند استكمال قيام التزامه بدفع كامل مبلغ التأمين. ي- المؤمن لا يقدم على عملية التأمين إقداما عشوائيا، وإنما يعقد التأمين بعد إجرائه الدراسات الإحصائية التي تعطيه نتائج تقريبية في ربح

الصفقة. ك- لا يصح التأمين على خطر ليس للمؤمن له مصلحة في عدم وقوعه، ولا التأمين على خطر قد وقع أو مستحيل الوقوع، ولا التأمين على أخطار ما يكون احترافه مخلا بالنظام العام والآداب.

الخلاصة

الخلاصة: وجملة القول: أن الكلام في التأمين ينحصر في مقامين: بيان حقيقة التأمين وما يتعلق بها، وبيان حكمه. أما المقام الأول فيتضمن ما يأتي: 1 - التأمين: لغة: بعث الأمن والطمأنينة في النفس، والأمن ضد الخوف. واصطلاحا: يعرف على أنه تصرف بين المؤمن والمستأمن بأنه عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال، أو إيرادا مرتبا، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين في العقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن. ويعرف باعتباره فكرة لها أثر اقتصادي واجتماعي بأنه نظام تقوم به هيئة منظمة على أساس المعاوضة أو التعاون، وتديره بصورة فنية قائمة على أساس ونظريات وقواعد إحصائية فتوزع بمقتضاه الحوادث والأخطار، وترمم به الأضرار. 2 - فكرة التأمين من حيث هو: نشأت قبل الميلاد بزمن، وأخذت على مر الأيام أشكالا عدة وصورا متنوعة تختلف كثيرا عن التأمين في العصر الحاضر، فمثلا ظهر في إلقاء بعض حمولة سفينة؛ ليخف عبؤها وتسلم

مع باقي حمولتها، ثم ظهر في إلزام الحكومة الرومانية تجار الأسلحة بإرسال ما لديهم من أسلحة إلى القوات بحرا على أن يضمنوا لهم ما تلف منها بحرا أو بيد العدو، وما زال التأمين يظهر في أشكال حتى انتهى إلى أنواعه وصوره الحاضرة، ويذكر أن أقدمها التأمين البحري، وقد وضعت النظم حسب مقتضيات البلاد التي انتشر فيها، ولم يدخل في البلاد الإسلامية إلا في وقت متأخر بدليل أنه لم يكتب في حكمه أحد من علماء المسلمين المتقدمين، ويقال: إن أول من كتب فيه ابن عابدين من فقهاء الحنفية. 3 - للتأمين عدة تقسيمات باعتبارت مختلفة: أ- فينقسم من حيث شكله والغرض منه إلى: تأمين تعاوني -تبادلي- وهو: أن يشترك جماعة بمبالغ تخصص لتعويض من يصببه الضرر منهم، وإن عجزت الأقساط عن التعويض دفع الأعضاء أقساطا إضافية لتغطية العجز، وإن زادت فللأعضاء حق استرداد الزيادة، ويقوم على إدارتها جماعة من المشتركين والغرض من هذا النوع التعاون في تحمل الخسائر لا الربح. وإلى تأمين تجاري -تأمين بقسط ثابت- وقد سبق تعريفه في فقرة (1) ، والغرض منه أصالة الربح وتختص به شركة التأمين التي تقوم بإدارته مستقلة عن الأعضاء المشتركين. ب- وينقسم من حيث موضوعه إلى: تأمين تجاري، ويشمل التأمين البحري والنهري والتأمين الجوي والتأمين البري، وإلى تأمين على الأشخاص، ويقوم المؤمن بتعويض المؤمن له أو وارثه عن الضرر الذي

أصابه في جسمه سواء كان موتا أم عاهة أم مرضا أم شيخوخة. وإلى تأمين من الأضرار ويتناول التأمين من المسئولية بضمان المؤمن كل ما يرجع فيه على المؤمن له من الأضرار التي أصاب بها غيره كحوادث السيارات والعمل. كما يتناول التأمين على الأموال بتعويض المؤمن له عن الخسارة التي تصيبه في ماله من سرقة أو حريق أو موت حيوان أو تلف زرع أو سيارة ونحو ذلك. 4 - للتأمين وظائف: منها: أنه من عوامل إنماء الصناعة والتجارة بضمانه لرؤوس أموالهما وتعويض التجار والصناع عما يصيبهم فيما يصدرون ويستوردون. . . إلخ. ومنها: أنه أحد العوامل في إقامة البنوك والمصارف التي لها خدماتها في المرافق الكثيرة للحكومات والأمم. ومنها: أنه يساعد على تكوين رؤوس الأموال للشركة والمستأمنين ولتكوين رؤوس الأموال أثر بالغ في نماء الاقتصاد وسد الحاجات، وقد أجمل بعض من كتب في التأمين وظائفه في الأمان والائتمان وتكوين رؤوس الأموال. 5 - أسس التأمين الفني: يقوم التأمين الفني على ثلاثة أمور: أ- التعاون بين المستأمنين تحت إشراف المؤمن وتنظيمه، وهذا يحقق أمرين: أولا: تجزئة المخاطر بتوزيع نتائجها على عدد كثير من المستأمنين

حيث تدفع مما تحصل من الأقساط التي دفعوها دون شعور منهم بعبء ثقيل. ثانيا: كفالة الأمان للمؤمن بتوفر عدد كثير من المشتركين، وللمستأمن لثقته بقدرة الشركة على الوفاء بعد تكوين الرصيد. ب- المقاصة بين المخاطر بتنظيم توزيعها بين المستأمنين توزيعا عادلا، ويتوقف ذلك على المتشابه بين المخاطر، وأن تكون عددا كثيرا لا نادرا، وأن لا تقع في زمن واحد، وأن تتحد في موضوعها وقيمتها. ج- جدول الإحصاء: تعتبر قواعد الإحصاء أساسا لقبول التأمين وتقدير قسطه وتقدير مبلغ التأمين وغير هذا مما يتوقف على الإحصاء. 6 - أركان التأمين وعناصره: يرى جماعة ممن كتب في التأمين الفرق بين عناصر التأمين وأركانه، فجعلوا أركانه ثلاثة: التراضي بين المتعاقدين، ومحل التأمين، والسبب الباعث للمتعاقدين على إبرام عقد التأمين، وعند الشرح يفسرون محل التأمين بالخطر أو بثلاثة أمور: الخطر، والقسط، ومبلغ التأمين، ويفسرون السبب بالمصلحة التأمينية، وهؤلاء يرون أن عناصر التأمين هي: الخطر والقسط، ومبلغ التأمين، والمصلحة التأمينية. ويرى جماعة آخرون منهم أن أركان التأمين وعناصره شيء واحد، وهي: الخطر المؤمن منه، والأقساط التي يدفعها المستأمن ومبلغ التأمين، والمصلحة التأمينية. وبالمقارنة يتبين ما بين الرأيين من تداخل والثاني منها هو الظاهر.

7 - خصائص عقد التأمين: لعقد التأمين خصائص هي: أولا: أنه من عقود التراضي، فيعتبر فيه الإيجاب والقبول، ويخضع للقواعد العامة التي تحكم سائر العقود الرضائية. ثانيا: أنه عقد احتمالي؛ لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مدى كسبه أو خسارته؛ حيث إنه تابع لأمر غير محقق الحصول، أو غير معروف وقت حصوله؛ ولذا قيل: إنه من عقود الغرر، وإن نظم المؤمن عملياته وبناها على الإحصاء. ثالثا: أنه عقد مستمر لاستمرار المستأمن في سداد الأقساط واستمرار عهدة المؤمن إلى السداد. رابعا: أنه عقد إذعان، لإذعان المستأمن إلى قبول الشروط التي وضعها المؤمن دون مناقشة أو تعديل؛ ولذا حمى المسئولون المستأمن في تنظيم عقد التأمين فأبطلوا الشروط التعسفية، وفسروا ما كان غامضا في العقد لمصلحة المستأمن. خامسا: أنه عقد معاوضة، لالتزام المؤمن بمبلغ التأمين مقابل الأقساط التي يدفعها المستأمن. سادسا: أنه عقد ملزم للمتعاقدين، حيث ينشأ عنه التزامات متقابلة لكل منهما. سابعا: أنه من العقود المسماة التي تخضع للأحكام والقواعد المقررة في قانون المحاكم بخلاف العقود غير المسماة في القانون المحلي، فإنها تخضع للنظرية العامة للالتزام وللشروط التي اتفق عليها الطرفان.

ثامنا: أنه من عقود حسن النية، لإذعان المستأمن للشروط دون مناقشة، ولعدم معرفة المؤمن بحال المستأمن تفصيلا؛ ولذا يجب ألا يخفي كل من الطرفين عن الآخر شيئا من الأمور الجوهرية. تاسعا: أنه عقد تجاري يقصد المؤمن به الربح، وأما بالنسبة للمستأمن فهو تجاري إن تعلق بشئون تجارته. عاشرا: أنه عقد يؤخذ فيه بالسبب القريب في التسبب كتلف أمتعة من إلقائها حين الحريق أو تهدم بنيان من إطفاء الحريق بالماء، ولا يؤخذ فيه بالسبب البعيد؛ كالزلازل والبراكين. . . 8 - حلول المؤمن لمحل المستأمن: يحل المؤمن محل المستأمن بما دفع من تعويض عن الحريق ونحوه في الدعاوى التي للمستأمن قبل من تسبب في ضرره، ويكون ذلك في حدود المبلغ الذي دفعه المؤمن للمستأمن ما لم يكن من أحدث الضرر قريبا للمستأمن أو صهرا له يعيش معه أو يكون تابعا للمستأمن مسئولا عنه، وإذا تعذر الحلول بتنازل المستأمن عن مطالبة المتسبب برئت ذمة المؤمن من مسئولية التأمين براءة تامة أو جزئية حسب الأحوال. 9 - وثيقة التأمين أو بوليصة التأمين: هي: عقد بين المؤمن والمستأمن يبرم بعد اتخاذ إجراءات بينهما من المؤمن لمصلحته؛ لإثبات حق كل منهما، وتشتمل على ما يلي: أ- أسماء المتعاقدين ومحل إقامتهما واسم المستفيد إن كان معينا. ب- وصف محل التأمين وصفا كاملا يتضمن بيان نوعه وجنسه ومحل خزنه إن كان مالا ومحل ونوع عمله إن كان شخصا.

ج- وصف الخطر المؤمن منه وصفا دقيقا تنتفي معه الجهالة. د- مقدار سعر التأمين الذي يمكن أن يحتسب قسط التأمين على ضوئه. هـ- مقدار القسط الدوري وتعيين وقته، وطريق سداده. وبيان مدة العقد وتحديد نفاذه بذكر تأريخ ابتدائه وتأريخ انتهائه. ز- المبلغ المؤمن به، ويسمى: رأسمال بوليصة التأمين. ح- الشروط الخاصة بالعقد المتعلقة بمصالح طرفيه. ط- توقيع طرفي العقد المؤمن والمؤمن له وتأريخ التوقيع. ولوثائق التأمين تقسيمات عدة باعتبارات مختلفة. أ- فتنقسم باعتبار مدة سريان العقد إلى وثيقة سنوية، وإلى وثيقة لفترة قصيرة -أي دون السنة- وإلى وثيقة لفترة طويلة، أي أطول من سنة إلى وثيقة سفرية، وهي التي يتوقف أمد نفاذها على المدة التي يكمل فيها النقل، ولقصر المدة وطولها تأثير في إضافة زيادة إلى القسط وعدم الإضافة، وفي تعجيل دفع كامل القسط وعدم تعجيله. ب- وتنقسم من حيث نطاق ضمان العقد إلى وثيقة اعتيادية، وهي التي تضمن شيئا معينا من خطر معين، وهي أكثر الوثائق شيوعا، وإلى وثيقة عائمة، وهي التي تتضمن شروطا عامة لتغطية شحنات متعددة لمدة غير محدودة بمبلغ تأمين إجمالي وبموجبها يلتزم المستأمن بدفع قسط التأمين بنسبة المبلغ الإجمالي مقدما، ويكون قابلا للتسوية عند انتهاء عمليات الشحن، وإلى وثيقة عامة وهي التي تصدر بالتأمين من أخطار متعددة يخشى حدوثها على أموال مختلفة، ولذا يستوفى بموجبها قسط تأمين إجمالي يشمل كافة الأخطار المؤمن منها.

ج- وتنقسم من حيث قيمة التأمين إلى وثيقة محدودة، وهي التي حددت فيها قيمة التأمين بالنسبة لقيمة محل التأمين وقيمة العقد، وإلى وثيقة غير محدودة، وهي التي لم يجر فيها تحديد قيمة التأمين بالنسبة لقيمة المحل، فإن زادت قيمة محل التأمين على مبلغ التأمين فليس للمستأمن حق المطالبة بمقابل هذه الزيادة عند تحقق الخطر، وإن نقصت قيمة المحل عن مبلغ التأمين كان للمستأمن المطالبة برد نسبة معينة من قسط التأمين تحسب على أساس الفرق بين مبلغ التأمين وقيمة محل التأمين. 10 - المشاركة في التأمين: قد يؤمن شخص على شيء معين ضد خطر معين عند عدد من شركات التأمين، وتتجاوز جملة مبالغ التأمين القيمة الحقيقية لمحل التأمين، فيكون لمجموع شركات التأمين حق توزيع الخسارة بينهم حال الخطر على محل التأمين، كل منهم بنسبة مبلغ التأمين الذي التزم به؛ منعا للمؤمن له من أن يتخذ التأمين طريقا تجاريا للربح، كما أن للمؤمن له الحق في مطالبتهم بإعادة نسبة من قسط التأمين حسب نظام معروف يحكم بينهم في ذلك. ويشترط لتطبيق مبدأ المشاركة في التأمين ما يأتي: أ- أن يقوم نفس الشخص بالتأمين على محل معين لدى مؤمنين عدة. ب- أن تشترك وثائق التأمين في تغطية نفس الأخطار. ج- أن تحمي هذه الوثائق مصلحة تأمينية معينة. د- أن تكون مبالغ التأمين في هذه الوثائق زائدة عن قيمة المحل. هـ- أن تكون هذه الوثائق سارية المفعول وقت تحقق الخطر.

11 - التأمين الاقتراني وإعادة التأمين: قد تختلف الأخطار التي جمعها المؤمن في طبيعتها وقيمتها فتعرضه لشدة الخطر، ولذا يحتاج إلى تنسيقها؛ ليخفف عن نفسه، فيلجأ إلى التأمين الاقتراني أو إعادة التأمين، ويتبين الفرق بينهما مما يأتي: أ- التأمين الاقتراني: أن يحتفظ المؤمن لنفسه بجملة من التأمينات المتناسقة في حدود قدرته ويعرض ما بقي على مؤمنين آخرين، وعند تحقق الخطر يقوم كل من المؤمنين بما التزم به في حدود حصته مرتبطا بالمؤمن له مستقلا عن غيره من المؤمنين. ب- إعادة التأمين: هي عقد يبرم بين هيئتين من هيئات التأمين تسمى الأولى معطية، والثانية معيدة، فتحيل الأولى بمقتضى العقد حصصا من الأخطار التي لديها إلى الثانية التي تتعهد بقبولها حسب شروط العقد، وتعتبر إعادة التأمين توثيقا للتأمين الأول، وكفالة له فقط. ونظرا لعدم التضامن بين المؤمنين في التأمين الاقتراني واختلاف إدارات شركات التأمين في نشاطها ووفائها، وتأخر دفع التعويض للمؤمن له نتيجة لذلك، ونظرا إلى زيادة الثقة في إعادة التأمين وتعجيل دفع التعويض لوحدة المسئول أمام المؤمن له وهو المؤمن الأول رغب المستأمنون في الشركات التي تلجأ في التنسيق إلى إعادة التأمين دون التي تلجأ إلى التأمين الاقتراني. 12 - نظريات التأمين: تتنوع نظريات التأمين تبعا للأسس التي بنيت عليها اقتصادية، أو فقهية، أو فنية.

أ- فللتأمين نظريتان من الناحية الاقتصادية: إحداهما: التأمين للحاجة، والباعث على ذلك حاجة الإنسان إلى إشباع رغبته من متطلبات الحياة أو إزالة ضرورته الواقعة أو المتوقعة. والثانية: التأمين للأمن، والباعث عليه خوف وقوع خطر على نفسه أو أملاكه فيؤمن؛ ليطمئن قلبه. ب- وللتأمين من الناحية المدنية -وقد تسمى: الفقهية- نظريتان: الأولى: التأمين عن الضرر، والباعث عليه الرغبة في الحصول على التعويض عن الضرر، الذي يصيبه عند وقوعه. والثانية: التأمين في مقابل، بناء على أن التأمين عقد مبادلة بين الأقساط الدورية ومبلغ التأمين. ج- وللتأمين من الناحية الفنية نظريتان: الأولى: المقاصة المنظمة؛ لتوزيع الأخطار على المستأمنين على ضوء أسس فنية، والثانية: نظرية المقاولة فنيا، بناء على أن كلا من مؤسسي شركات التأمين محترف، فكل مؤسسي شركة يديرون مقاولة على نظم معروفة، ويقومون بمقاصة على قواعد معلومة لديهم. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.

ذكر اختلاف الباحثين في حكمه وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة

الثاني: ذكر اختلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة: اختلف الباحثون من الفقهاء في حكم عقد التأمين التجاري: فمنهم: من منعه مطلقا، ومنهم: من أجازه مطلقا، ومنهم: من فصل في ذلك، وفيما يلي ذكر ما قيل في ذلك من الأدلة والمناقشة: ذكر كلام المانعين: ا- قال الباجي: ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته. روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك، ولا أفسخه إن وقع، وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ، وقال ابن القاسم عن مالك: لا يجوز إذا قال: لا ينفق عليه حياته (¬1) . 2 - قال ابن عابدين: وسئلت في رمضان سنة أربعين ومائتين وألف عما إذا جرت العادة بين التجار أنهم يستأجرون مركبا من مراكب أهل الحرب؛ لحمل بضائعهم وتجاراتهم، ويدفعون للمراكبي الحربي الأجرة المشروطة، وتارة يدفعون له مبلغا زائدا على الأجرة لحفظ البضاعة، بشرط ضمان ما يأخذه أهل الحرب منها، وأنه إن أخذوا منه شيئا فهو ضامن لصاحبها جميع قيمة ذلك، فاستأجر رجل من التجار رجلا حربيا كذلك ودفع له مبلغا تراضيا عليه، على أنه إن أخذ أهل الحرب منه شيئا من تلك البضاعة يكون ضامنا لجميع ما يأخذونه، فسافر بمركبه، فأخذه منه ¬

_ (¬1) [المنتقى] (5\41) .

بعض القطاع في البحر من أهل الحرب، فهل يلزمه ضمان ما التزم حفظه وضمانه بالعوض أم لا؟ فأجبت: الذي يظهر من كلامهم عدم لزوم الضمان؛ لأن ذلك المراكبي أجير مشترك، والخلاف في ضمان الأجير المشترك مشهور، والمذهب: أنه لا يضمن ما هلك في يده، وإن شرط عليه الضمان فيما في يده كما في [التنوير] ، ثم إذا هلك ما بيده بلا صنع منه ولا يمكنه دفعه والاحتزاز عنه؛ كالحرق والغرق وخروج قطاع الطريق والمكابرين لا يضمن بالاتفاق، لكنه في مسألتنا لما أخذ أجرة على الحفظ بشرط الضمان صار بمنزلة المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة، فإنها إذا هلكت يضمن، والفرق بينه وبين الأجير المشترك: أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، والحفظ واجب عليه تبعا، أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصود ببدل؛ فلذا ضمن، كما صرح بذلك الإمام فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير، وهنا لما أخذ البدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل فيضمن، لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا أو فيما يمكن الاحتراز عنه، والذي يظهر الثاني؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛ لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه، وقد صرحوا بأن إغارة القطاع المكابرين مما لا يمكن الاحتراز عنه، فلا يضمن في صورتها، حيث كان أخذ البضاعة من القطاع المكابرين الذين لا يمكن مدافعتهم، لكن ذكر في [التنوير] قبيل باب كفالة الرجلين، قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك وأخذ ماله لم

يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن، ضمن، وعلله في [الدر المختار] عن [الدرر] بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا. انتهى. أي: بخلاف المسألة الأولى فإنه لا يضمن؛ لأنه لم يصرح بقوله: فأنا ضامن، وهذا إذا كان المال مع صاحبه، وفي صورتنا المال مع الأجير وقد ضمن للمستأجر صفة السلامة نصا فيقتضي ضمانه بالأولى، وإن لم يمكن الاحتراز لكن الظاهر أن مسألة التغرير المذكورة مشروطة بما إذا كان الضامن عالما بخطر الطريق؛ ليتحقق كونه غارا وإلا فلا تغرير. وسياق المسألة في [جامع الفصولين] في فصل الضمانات يدل على ما قلنا، فإنه نقل عن فتاوى ظهير الدين، قال له: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلك، فأخذه اللصوص لا يضمن، ولو قال لو مخوفا: وأخذ مالك فأنا ضامن، والمسألة بحالها ضمن، فصار الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعارضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو، فجعله فيه، فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به - يضمن إذ غره في ضمن العقد، وهو يقتضي السلامة. انتهى، وحاصله: أن الغار يضمن إذا صرح بالضمان أو كان التغرير في ضمن عقد المعاوضة، وإن لم يصرح بالضمان، كما في مسألة الطحان، وقد صرح فيها بكون الطحان عالما بالنقب، وما ذاك إلا ليتحقق كونه غارا كما يشير إليه تسميته بذلك؛ لأن من لا علم له بذلك لا يسمى: غارا، فلو لم يكن العلم شرطا في الضمان لكان حقه أن يعبر عنه بالآمر لا بالغار. ويؤيد ذلك أيضا أنه في [جامع الفصولين] نقل بعد ذلك عن

[المحيط] : أن ما ذكره من الجواب في قوله: فإن أخذ مالك فأنا ضامن مخالف لما ذكره القدوري: إن من قال لغيره: من غصبك من الناس، أو من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك -فهو باطل. انتهى. فأجاب عنه في [نور العين] بقوله: يقول الحقير لا مخالفة أصلا، والقياس مع الفارق؛ لأن عدم الضمان في مسألة القدوري من جهة عدم التغرير فيها، بخلاف ما نحن فيه فافترقا. والعجب من غفلة مثل صاحب [المحيط] ، مع ماله من فضل وذكاء البحر المحيط انتهى. فقد أفاد أنه لا بد من التغرير، وذلك بكونه عالما بخطر الطريق، كما قلناه، ففي مسألتنا: إن كان صاحب المركب غر المستأجر بأن كان عالما بالخطر يكون ضامنا، وإلا فلا، هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم. لكن ينبغي تقييد المسألة بما إذا كان صاحب المال غير عالم بخطر الطريق؛ لأنه إذا كان عالما لا يكون مغرورا، لما في [القاموس] غره غرا وغرورا وغرة بالكسر، فهو: مغرور وغرير: خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو، وفي المغرب: الغرة بالكسر الغفلة، ومنه أتاهم الجيش وهم غارون، أي: غافلون، وفي الحديث (نهى عن بيع الغرور) والخطر الذي لا يدري أيكون أم لا، كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، فقد ظهر أن العالم بما قصد غيره أن يغره به لا يكون مغرورا، أرأيت صاحب البر لو كان عالما بنقب الدلو وأمره الطحان بوضعه فيه هل يكون مغرورا، بل هو مفرط مضيع لماله، لا أثر لقول الطحان معه. ففي مسألتنا لا بد أن يكون الأجير عالما بخطر الطريق والمستأجر غير

عالم به فيضمن، وإن كان الأجير غير عالم أو المستأجر عالما فلا ضمان على الأجير لعدم تحقق التغرير، والله تعالى أعلم (¬1) . ¬

_ (¬1) [مجموعة رسائل ابن عابدين] رسالة الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة (2\ 175- 177) .

قول الشيخ محمد بخيت المطيعي

3 - وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ورد علينا خطاب من بعض العلماء المقيمين بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية، إلى أن قال: (ورد خطابكم تذكرون به أن المسلم يضع ماله تحت ضمانة أهل قومبانية السوكرتاه أصحابها مسلمون وذميون أو مستأمنون ويدفع لهم نظير ذلك مبلغا من الدراهم حتى إذا هلك ماله الذي وضعه تحت ضمانهم يضمنونه له بمبلغ مقرر بينهم من الدراهم، وتستفهمون عما إذا كان له شرعا أن يضمنهم ماله المذكور إذا هلك بحرق ونحوه أم لا يكون له ذلك، وعما إذا كان يحل له ما أخذه من الدراهم إذا ضمنوا له ما هلك من ماله أم لا يحل له ذلك، وعما إذا كان يشترط في حل ما يأخذه من الدراهم بدلا من ماله الهالك أن يكون كل من العقد وأخذ الدراهم المذكورة في غير دار الإسلام، فإذا هلك الموضوع تحت الضمان كان لصاحبه أن يأخذ الدراهم المقررة بدلا من ماله الهالك ويتسلمها في دار الإسلام من وكيلهم الذمي أو المستأمن فيها، وعما إذا كان يحل لأحد الشركاء أن يعقد ذلك بغير دار الإسلام وأن يأخذ بدل ماله الهالك أيضا في غير دار الإسلام ثم يعود بما أخذه إلى دار الإسلام أو يبعث به إلى شريكه أو وكيله بها أم لا يحل له ذلك أيضا. وقلتم: إن ذلك مما عمت به البلوى في الديار التي أنتم بها الآن، وأنكم راجعتم ما لديكم من كتب المذهب فلم تقفوا على شيء تطمئنون به

في حكم ذلك. وأجاب: أن المقرر شرعا أن ضمان الأموال إما أن يكون بطريق الكفالة، أو بطريق التعدي والإتلاف. أما الضمان بطريق عقد الكفالة فليس متحققا هنا قطعا؛ لأن شرطه أن يكون المكفول به دينا صحيحا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، أو عينا مضمونة بنفسها بأن يجب على المكفول عنه تسليمها بعينها للمكفول له، فإن هلكت ضمن له مثلها في المثليات وقيمتها في القيميات، وذلك لمغصوب والمبيع بيعا فاسدا، ثم أورد أمثلة أخرى، ثم قال: وعلى ذلك لا بد من كفيل يجب عليه الضمان، ومن مكفول له يجب تسليمه للمكفول له، وبدون ذلك لا يتحقق عقد الكفالة، ولا شبهة أنها لا تنطبق على العقد المذكور؛ فإن المال الذي جعله صاحبه تحت ضمان أهل القومبانية لم يخرج عن يده، ولا يجب عليه تسليمه لأحد غيره؛ فلم يكن دينا عليه أداؤه، ولا عينا مضمونة عليه بنفسها يجب عليه تسليم عينها قائمة أو مثلها أو قيمتها هالكة، فأهل القومبانية لو ضمنوا يضمنون مالا للمالك وهو لم يزل تحت يده يتصرف فيه كيف يشاء، فلا يكون شرعا من ضمان الكفالة) . وقال: في الضمان بالتعدي أو الإتلاف (فهذا الضمان إنما يكون على المتعدي؛ كالغاصب إذا هلك مغصوبه، أو على المتلف؛ كالشريك الموسر إذا أعتق نصيبه في عبد مشترك، وأتلف بالعتق نصيب الشريك الآخر، وأهل القومبانية لم يتعد واحد منهم على ذلك المال، ولم يتلفه ولم يتعرض له بأدنى ضرر، بل إن المال هلك بالقضاء والقدر، ولو فرض وجود متعد أو متلف فالضمان عليه دون غيره؛ فلا وجه حينئذ لضمان أهل

القومبانية من هذا الطريق أيضا) . إذا علم ما تقدم كان هذا العقد هو عبارة عن أن الإنسان يلتزم بدفع مقدار معين من الدراهم لأهل تلك القومبانية في نظير التزامهم أن يدفعوا له في حياته أو لورثته بعد موته مقدارا معينا من الدراهم إذا هلك ذلك الإنسان نفسه، وهو ما يسمونه: (سوكرتاه الحياة والنفس) ، أو إذا أهلك المال الذي وضعه تحت ضمانهم، وهو ما يسمونه سكرتاه الأموال مع كون المال المذكور باقيا تحت يد مالكه وفي تصرفه، ولم يدخل تحت يد أحد من أهل القومبانية بوجه من الوجوه فيكون هذا العقد عقد التزام لما لا يلزم شرعا. . . إلى أن قال: (والعقد المذكور لا يصح أن يكون سببا شرعيا لوجوب الضمان، ولا يجوز أن يكون عقد المضاربة كما فهمه بعض العصريين؛ لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب المضارب والربح على ما شرطا، والعقد المذكور ليس كذلك؛ لأن أهل القومبانية يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا؛ وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى) . وقد صرح في [شرح السير الكبير] : (بأن حكم الحربي المستأمن في دار الإسلام حكم أهل الذمة) ، قال: (وعلى هذا لا يحل أخذ ماله بعقد فاسد، كما لا يحل أخذ مال الذمي به، وقد صرحوا في معتبرات المذهب بأن المسلم المستأمن في غير دار الإسلام يحل له أن يأخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار؛ لأن المحرم هو الغدر والخيانة فما أخذه برضاهم وليس فيه غدر ولا خيانة يكون حلالا على أي وجه أخذه، وقد صرحوا أيضا بأن دار الإسلام محل إجراء الأحكام الشرعية دون غير دار الإسلام، وإنه لا يحل

لمسلم في دار الإسلام أن يعقد مع المستأمن الذي فيها، وليس منها إلا ما يحل من العقود مع المسلمين) . ثم قال: وعلى ذلك إما أن تكون مباشرة العقد في دار الإسلام وأخذ بدل الهالك فيها أيضا ففي هذه الصورة لا يحل لمسلم أخذ ذلك البدل ولا يطيب له، بل إن قبضه ملكه ملكا خبيثا، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام وأخذ بدل الهالك في غيرها أيضا ففي هذه الصورة يحل له ما أخذه من البدل ويطيب له؛ لأنه إنما أخذه برضاهم في دارهم بدون غدر ولا خيانة، وإما أن تكون مباشرة العقد في غير دار الإسلام ولكن أخذ بدل المال، الهالك في دار الإسلام ففي هذه الصورة لا يحل أخذ ذلك البدل؛ لما علمت أنه لا يحل لمسلم أن يأخذ في دار المسلم من مال المستأمن فيها، وليس منها إلا ما يلزم ذلك المستأمن شرعا، وهذا المال لم يلزمه شرعا، وإما أن تكون مباشرة العقد بدار الإسلام، ولكن أخذ بدل المال الهالك كان بغيرها، وفي هذه الصورة يحرم مباشرة العقد والإقدام عليه في دار الإسلام؛ لأن العقود الفاسدة منهي عن مباشرتها شرعا، ولكن مع ذلك يحل أخذ بدل المال الهالك متى كان الأخذ بغير دار الإسلام وبرضاهم. فالحاصل: أن المدار في حل أخذ بدل المال الهالك منهم على أن يكون ما أخذ من مالهم وفي بلادهم وبرضاهم لا يضر في ذلك كون الأخذ -مبنيا على سبب فاسد شرعا،.

قول الشيخ محمد رشيد رضا

4 - لقد ورد سؤال إلى الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله- عن التأمين هذا نصه: رجل يضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان (السيكورتاه) على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل يجوز له شرعا مطالبة شركات الضمان بهذا المبلغ ويكون حلالا أم لا؟ وهل كل أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟ فأجاب بقوله: كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة في الإسلام فلم يرد بها نص من الشارع، ولم يقرها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر، ومن التزمها في غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم؛ فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه (¬1) . 5 - وأجاب أيضا عن التأمين على الحياة فقال: لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده، والمشهور أن هذه العقود التي تشبه الميسر (القمار) في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان لا يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك أن تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء يصرحون بأن ¬

_ (¬1) [فتاوى المنار] (4\1640، 1641) .

مثل هذا العقد باطل ومحرم؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب حفظه وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليس كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينا، فإنهم قد يشترطون شروطا اجتهادية لا يحكم قاضيهم، ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإن لم يكن في ترك الشروط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرخ بعض الفقهاء بحل جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة، وهذا هو الصواب (¬1) . ¬

_ (¬1) [فتاوى المنار] (3\964) .

قول إبراهيم الجبالي

6 - وقال إبراهيم الجبالي: وأما شركات التأمين على الأموال والأرواح فقد تغلغل الميل إليها في نفوس الكثير من الناس، خصوصا من المستنيرين إلى حد يصعب معه اقتلاعه من عقولهم، وأقوى حجة لهم في تبريرها أن يقول لك أحدهم: إني أدفع القليل؛ ليطمئن قلبي على الكثير فأنا رابح الطمأنينة حال السلامة والعوض إذا ما طرأ ما أخشاه، والشركة رابحة المال الذي تأخذه مني ومن سواي فكلا الطرفين مستفيد. ونقول له: أليس أمرك دائرا بين أن تدفع بلا مقابل وذاك إذا قدرت لك بسلامة المال أو تأخذ مالا حق لك فيه وترزأ غيرك ممن دفع وهو لم يجن عليك فيما إذا عطب مالك؟ أو ليس الأمر على كلا التقديرين أن هناك دفعا وغرما من أحد الجانبين بدون مقابل من الجانب الآخر؟ فإنه لا قيمة لما دفعه المؤمن بالنسبة لما يأخذه على فرض عطبه، كما أن طمأنينته عليه التي

زعم أنه استفادها في حالة سلامة ماله لا دخل لشركة التأمين فيما إذا لم تكن حارسة عليه، ولا تستطيع أن تقف في وجه المقادير وتصاريف الزمان. وأما التأمين على الحياة: فهو أبعد عن العقل السليم، وأوجب للدهشة والاستغراب، فما كانت الشركة لتطيل له عمرا، وما كانت لتبعد عنه قدرا، ولكنها التعللات بالأماني، وما أشبهها بشئون الدجالين والمشعوذين، سيقول لك قائلهم نفس المقالة الأولى أو قريبا منها، سيقول: إني متى دفعت ولو قسطا واحدا فإذا فاجأتني المنية استحق ورئتي ما أمنت به على حياتي، فكان لهم بذلك عزاء وسلوة عن فقدي، وإذا بقيت المدة المضروبة لي استرجعت كل ما دفعت بأرباحه، فأنا مستفيد على كلتا الحالتين، وللشركة فائدتها أيضا، وهي: التصرف في تلك الأموال مما يجتمع لها مني ومن غيري، فيتكون لها رأس مال عظيم تستغله فيما ترى من المشروعات التجارية، ومفاجآت العطب قليلة؛ فغرمها نادر لا يؤثر فيها؛ لأن كل امرئ حريص على حياته وماله، محافظ عليهما جهد استطاعته، وكل واحد يعمل لمصلحتها من حيث يعمل لمصلحه نفسه، فكلا الطرفين مستفيد. ونقول له: ليكن كل ما تقول، فما خرجت عن أنها معاملة فيها غرم أحد الطرفين حتما بلا مقابل، وما كانت العدالة إلا في المعاوضة، وأن يكون من كل طرف عوض يعادل ما استفاده، وأن يكون بين العوضين مناسبة تحقق المعادلة ولو التقريبية حتى تستقيم روح العدالة، فأما وأحد الطرفين غارم حتما بلا غنم، أو غانم حتما بلا غرم فلا عدالة، بل هي المقامرة والميسر، غير أنه لبس ثوبا لماعا، وجاء من قوم أوليناهم ثقتنا العمياء

وأخذنا منهم كل ما قالوه بالتقليد الأعمى، وما منشأ ذلك إلا أن جماعة منهم بهروا الناس بقوة استخدامهم للمادة واستنباطهم لقوى الطبيعة مما لا نغمطهم حقهم فيه، فكان لمجتمعهم في النفوس عزة الغلبة فأسلم الناس القياد لهم شأن كل غالب مع كل مغلوب، وإلا فمتى وزنت تلك التصرفات بميزان العقل السليم والنقد النزيه وجد ضررها أكبر من نفعها، وهكذا شأن أغلب المضار المنهي عنها لمصلحة المجتمع تجد ضررها أكبر من نفعها، فلا تكاد ترى شيئا تمخض للضرر بدون وجه نفع، وتمخض للنفع بدون وجه ضرر حتى إن الخمر والميسر وهما ما هما في الضرر لم يخلوا عن نفع ما، ولكنه ضئيل إذا قيس بكبير ضررهما، كما قال جل شأنه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1) وشأن التشريع الصحيح أن يعتمد على الموازنة بين النفع والضرر، فما غلب نفعه أحله وما غلب ضرره حرمه، والله عليم حكيم (¬2) . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 219 (¬2) [مجلة الأزهر] (1\367) وما بعدها.

قول الشيخ عبد الرحمن تاج

7 - وقال الشيخ عبد الرحمن تاج بعد عرضه لصورة التأمين: إن عقود التأمين على الصورة التي قدمناها ليس لها مسوغ من الوجهة الشرعية الإسلامية حتى في الحالة التي لا يشترط فيها على الشركة - أي: عقد التأمين على الحياة - دفع فوائد ربوية مع أصل مبلغ التأمين المتفق عليه لصاحب العقد على فرض بقائه حيا إلى نهاية المدة المعينة، فإن العقد ذاته

فاسد مشتمل على شروط فاسدة وعلى طريقة يستباح بها أكل أموال الناس بالباطل، ومثل ذلك يقال في حكم التأمين على الأموال (¬1) . ¬

_ (¬1) من بحث له طبع بمجمع البحوث الإسلامية للمؤتمر السابع.

أدلة المانعين مطلقا

أدلة المانعين مطلقا: أ- التأمين: عقد من عقود الغرر، وعقود الغرر ممنوعة. وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بهذا الدليل ومناقشتهم نذكر معنى الغرر لغة واصطلاحا، وأقسامه، وبيان ما يكون من أقسامه سببا في تحريم العقد وما لا يكون: معنى الغرر: لغة واصطلاحا: لما ذكر أحمد بن فارس بن زكريا: أن الغرر له أصول ثلاثة صحيحة وذكر منها: النقصان، قال: ومن الباب: بيع الغرر، وهو الخطر الذي لا يدري أيكون أم لا؟ كبيع العبد الآبق والطائر في الهواء فهذا ناقص لا يتم البيع فيه أبدا (¬1) . ونقل ابن منظور عن أبي زيد: والغرر الخطر، «ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (¬2) » ، وهو مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء، والتغرير حمل النفس على الغرر، وقد غرر بنفسه تغريرا وتغرة كما يقال: حلل تحليلا وتحلة وعلل تعليلا وتعلة، وقيل: بيع الغرر المنهي عنه ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. يقال: إياك وبيع الغرر، قال: بيع الغرر أن يكون على غير عهدة ولا ثقة، قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع ¬

_ (¬1) [معجم مقاييس اللغة] (4\380، 381) . (¬2) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .

المجهولة التي لا يحيط كنهها المتبايعان حتى تكون معلومة، وفي حديث مطرف إن لي نفسا واحدة وإني أكره أن أغرر بها، أي: أحملها على غير ثقة، قال: وبه سمي الشيطان غرورا؛ لأنه يحمل الإنسان على محابه ووراء ذلك ما يسؤه كفانا الله فتنته، وفي حديث الدعاء وتعاطي ما نهيت عنه تغريرا، أي: مخاطرة وغفلة عن عاقبة أمره، وفي الحديث: لأن أغتر بهذه الآية، يريد قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬1) وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (¬2) المعنى: أن أخاطر بتركي مقتضى الأمر بالأولى أحب إلي من أن أخاطر بالدخول تحت الآية الأخرى (¬3) . وقال ابن الأثير: الغرر ماله ظاهر تؤثره، وباطن تكرهه، فظاهره يغر المشتري، وباطنه مجهول (¬4) . وأما كلام الفقهاء: فقد قال السمرقندي في أثناء الكلام على أنواع البيوع الفاسدة قال: ومنها: أن يكون في المبيع وفي ثمنه غرر، مثل: بيع السمك في الماء وهو لا يقدر على تسلميه بدون الاصطياد والحيلة، وبيع الطير في الهواء، أو بيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه إليه؛ لأنه باع ما ليس بمملوك له للحال، وفي ثبوته غرر وخطر (¬5) . ¬

_ (¬1) سورة الحجرات الآية 9 (¬2) سورة النساء الآية 93 (¬3) [لسان العرب] (6\317) ، ويرجع أيضا إلى [القاموس] (2\99) وما بعدها. (¬4) [جامع الأصول] (1\527، 528) . (¬5) [تحفة الفقهاء] (2\66، 67) .

وأما المذهب المالكي: فإن القرافي رحمه الله ذكر بحثا في الفرق بين الجهالة والغرر من حيث الحقيقة والأثر، نصه ما يلي: اعلم أن العلماء قد يتوسعون في هاتين العبارتين، فيستعملون إحداهما موضع الأخرى، وأصل الغرر هو الذي لا يدرى هل يحصل أم لا؟ كالطير في الهواء والسمك في الماء، وأما ما علم حصوله وجهلت صفته فهو المجهول كبيعه ما في كمه فهو يحصل قطعا لكن لا يدرى أي شيء هو. فالغرر والمجهول كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فيوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، أما وجود الغرر بدون الجهالة فكشراء العبد الآبق المعلوم قبل الإباق لا جهالة فيه وهو غرر؛ لأنه لا يدري هل يحصل أم لا، والجهالة بدون الغرر كشراء حجر يراه لا يدري أزجاج هو أم ياقوت مشاهدته تقتضي القطع بحصوله فلا غرر، وعدم معرفته تقتضي الجهالة به. وأما اجتماع الغرر والجهالة فكالعبد الآبق المجهول الصفة قبل الإباق. ثم الغرر والجهالة يقعان في سبعة أشياء في الوجود كالآبق قبل الإباق، والحصول إن علم الوجود كالطير في الهواء، وفي الجنس كالسلعة لم يسمها، وفي النوع كعبد لم يسمه، وفي المقدار كالبيع إلى مبلغ رمي الحصاة، وفي التعيين كثوب من ثوبين مختلفين، وفي البقاء كالثمار قبل بدو صلاحها فهذه سبعة موارد للغرر والجهالة، ثم الغرر والجهالة ثلاثة أقسام: كثير ممتنع إجماعا، كالطير في الهواء، وقليل جائز إجماعا، كأساس الدار وقطن الجبة، ومتوسط اختلف فيه، هل يلحق بالأول أو الثاني؛ فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير ألحق

بالقليل، وهذا هو سبب اختلاف العلماء في فروع الغرر والجهالة. اهـ (¬1) . وقال محمد بن علي بن حسين: بعد ذكره للأقسام السبعة المتقدمة، وبقي الجهل بالأجل إن كان هناك أجل، والجهل بالصفة فهذه تسعة موارد للغرر من جهة الجهالة (¬2) . وقال القرافي: الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر، وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات. وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه السلام عن بيع الغرر، وعن بيع المجهول، واختلف العلماء بعد ذلك: فمنهم من عممه في التصرفات - وهو الشافعي - فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك. ومنهم من فصل - وهو مالك - بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام: طرفان، وواسطة، فالطرفان: أحدهما: معاوضة صرفة، فيجتنب فيه ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، كما تقدم إن الجهالات ثلاثة أقسام، فكذلك الغرر والمشقة. وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال، كالصدقة والهبة والإبراء، فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال، بل ¬

_ (¬1) [الفروق] (3\265، 266) . (¬2) [تهذيب الفروق] (3\271) .

إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه، أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق، بالمعلوم والمجهول، فإن ذلك أيسر؛ لكثرة وقوعه قطعا، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئا، وهذا فقه جميل، ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة منصوص صاحب الشرع، بل إنما وردت في البيع ونحوه، وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح. . . إلخ (¬1) . وقال محمد بن علي بن حسين مبينا أقسام الجهالة والغرر ما نصه: وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام، وقسم أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام: كثير وقليل ومتوسط، وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم فقال في بداية المجتهد: الفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر؛ لترددها بين الغرر الكثير والقليل. اهـ (¬2) . وأما المذهب الشافعي: فقد قال النووي: وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع؛ ولهذا قدمه مسلم، ويدخل في مسائل ¬

_ (¬1) [الفروق] (1\15) . (¬2) [تهذيب الفروق] (1\170) .

كثيرة غير منحصرة، كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع بعض الصبرة مبهما، وبيع ثوب من أثواب وشاة من شياه، ونظائر ذلك، وكل هذا بيع باطل؛ لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذا دعت إليه الحاجة، كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار؛ ولأن الحاجة تدعو إليه، فإنه لا يمكن رؤيته، وكذا القول في حمل الشاة ولبنها، وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة ونحو ذلك شهرا مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين وعكس هذا، وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء. قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده ما ذكرناه، وهو: أنه إن دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرا جاز البيع وإلا فلا، وما وقع في بعض مسائل الباب من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده، كبيع الغائبة مبني على هذه القاعدة، فبعضهم يرى: أن الغرر حقير، فيجعله كالمعدوم فيصح البيع، وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع،

والله أعلم (¬1) . قال الخطابي على هذا الحديث: قال الشيخ: أصل الغرر: هو ما طوي عنك علمه، وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك: طويت الثوب على غره، أي: على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل: أن يبيعه سمكا في الماء أو طيرا في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبدا آبقا أو جملا شاردا أو ثوبا في جراب، لم يره ولم ينشره أو طعاما في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمر شجرة لم تثمر، ونحوها من الأمور التي لا تعلم، ولا يدرى هل تكون أم لا؟ فإن البيع مفسوخ فيها. وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع؛ تحصينا للأموال أن تضيع، وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها، وأبواب الغرر كثيرة، وجماعها: ما دخل في المقصود منه الجهل (¬2) . وأما الغرر عند الحنابلة: فقد قال موسى الحجاوي: الخامس - أي: شروط البيع - أن يكون مقدورا على تسليمه، فلا يصح بيع آبق علم مكانه أو جهل ولو لقادر على تحصيله، وكذا جمل شارد، وفرس غائر، ونحوهما، ولا نحل ولا طير في الهواء، يألف الطير الرجوع أو لا، ولا سمك في لجة ماء (¬3) . ¬

_ (¬1) [شرح النووي على مسلم] (10\156، 157) . (¬2) [مختصر شرح وتهذيب أبي داود] (5\47، 489. (¬3) [الإقناع] (2\64) .

وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين: فقال الصديق محمد الأمين الضرير: عقد التأمين من العقود الاحتمالية عند جمهرة رجال القانون؛ لأن المستأمن من لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطا واحدا ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم المؤمن به، وقد لا تقع الكارثة مطلقا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا ماديا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي أو يأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وإن كان يستطيع إلى حد كبير التأمين في مثل هذه الأحوال لدفع مبالغ أكثر مما كانت تتوقع، والعقد الاحتمالي هو عقد الغرر، وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن بيع الغرر، وقاس الفقهاء عقود المعاوضات المالية على البيع. وعقد التأمين من عقود المعاوضات المالية فيؤثر فيه الغرر كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات.

أقسام الغرر

وقد قسم الفقهاء الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية ثلاثة أقسام: 1 - غرر كثير، وهذا يؤثر في عقود المعاوضات فيفسدها إجماعا، كبيع الطير في الهواء إلا ما دعت الضرورة إليه عادة. 2 - غرر يسير، وهذا لا تأثير له إجماعا، كقطن الجبة وأساس الدار. 3 - غرر متوسط، وهذا مختلف فيه، فبعض الفقهاء يلحقه باليسير،

وبعضهم يلحقه بالكثير. والغرر في التأمين ليس يسيرا قطعا؛ فهو إما من الغرر الكثير أو المتوسط، وأرجح أنه من الغرر الكثير؛ لأن من أركان عقد التأمين التي لا يوجد بدونها (الخطر) ، والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، والتأمين لا يجوز إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، فالغرر عنصر ملازم لعقد التأمين، ومن الخصائص التي يتميز بها. وهذا يجعله من الغرر المنهي عنه. يقول الباجي في [المنتقى] : نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر يقتضي فساده، ومعنى بيع الغرر والله أعلم: ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر، فهذا الذي لا خلاف في المنع منه. وهذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، وقد أورد الباجي في أثناء كلامه عن بيع الغرر مسألة توافق صورة من صور التأمين على الحياة تعرف في اصطلاح علماء القانون: (بالتأمين لحال البقاء براتب عمري وهو: أن يتعهد المؤمن بدفع إيراد لمدى الحياة نظير مبلغ متجمد يدفعه له المستأمن) . يقول الباجي: (ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته) ، روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك ولا أفسخه إن وقع. وقال أصبغ: هو حرام؛ لأن حياته مجهولة ويفسخ. وقال ابن القاسم: عن مالك: لا يجوز إذا قال: على أن ينفق عليه حياته، قال الصديق محمد الضرير: فهذه الصورة من صور التأمين غير جائزة عند هؤلاء الفقهاء؛ لما فيها من غرر، ويفسخ العقد إن وقع إلا عند

أشهب فإنه لا يفسخ العقد مع منعه له ابتداء (¬1) . وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقاء عن كون عقد التأمين فيه غرر بقوله: إن الغرر في اللغة العربية هو: الخطر، والمراد به في هذا المقام الشرعي أن يكون أصل البيع الذي شرع طريقا لمعاوضة محدودة النتائج والبدلين، قائما على مخاطرة أشبه بالقمار والرهان بحيث تكون نتائجه ليست معاوضة محققة للطرفين، بل ربحا لواحد وخسارة لآخر بحسب المصادفة. وبالنظر فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيوع تطبيقا لما نهى من الغرر يتضح لنا المقصود من الغرر في الحديث النبوي. فقد نهى النبي عليه السلام تطبيقا لذلك عن بيع المضامين، وهي: ما سوف ينتج من أصلاب فحول الإبل الأصيلة من أولاد. ونهى عن بيع الملاقيح، وهي ما ستنتجه إناث الإبل الأصيلة من نتاج. ونهى أيضا عن ضربة القانص، وهي: بيع ما ستخرجه شبكة الصياد البحري من السمك، أو ما يقع في شبك الصياد البري من حيوان أو طير ... ونهى أيضا عن بيع ضربة الغائص، وهي: ما سيخرجه الغواص من لؤلؤ في غوصته المقبلة، ونهى أيضا عن بيع الثمار على الأشجار في بداية انعقادها قبل أن يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وقال للسائل عنها: «أرأيت لو منع الله الثمرة فبم يستحل أحدكم مال أخيه (¬2) » . تلك المناهي النبوية تطبيق للنهي عن الغرر، وهي كما يرى من طبيعة ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] (ص461) وما بعدها (¬2) صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .

واحدة تدل على نوع المقصود، وقد قرر الفقهاء بناء على هذا النظر: عدم انعقاد بيع الأشياء غير مقدورة التسليم، أي: التي لا يستطيع البائع فيها التنفيذ العيني بتسليم المبيع ذاته، ولو كانت معيبة بذاتها لا جهالة فيها عند العقد، كبيع طير في الهواء أو سمكة في الماء لا يمكن أخذها إلا بصيد؛ لأن صيدها غير موثوق بإمكانه فيكون ذلك غررا، وإذا نظرنا أيضا إلى أن عنصر المغامرة والاحتمال والمخاطرة في حدوده الطبيعية قلما تخلو منه أعمال الإنسان وتصرفاته المشروعة باتفاق المذاهب. فالتجارة والزراعة والكفالة وسائر الأعمال والتصرفات التي يبتغى من ورائها مكاسب حيوية هي معرضة للأخطار، وفاعلها مقدم على قدر من الغرر، والمغامرة لا تخلو منه طبيعة الأشياء، إذا نظر ذلك وتأملنا في أنواع التصرفات التي خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي تطبيقا للنهي عن الغرر، ومنها ما قد علل النبي عليه السلام نفسه نهيه عنه بالغرر- أدركنا أن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز لحدود الطبيعة، بحيث يجعل العقد كالقمار المحض، اعتمادا على الحظ المجرد في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل، فلا يصلح أن يكون أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية، كما في الأمثلة المتقدمة؛ لأنها ترتكز على أسس موهومة. فإذا طبقنا هذا المقياس على نظام التأمين وعقده وجدنا الفرق كبيرا، فعقد التأمين فيه معاوضة محققة النتيجة فور عقده حتى إني لأنتقد على القانونيين عده من العقود الاحتمالية دون تحفظ، فالتأمين فيه عنصر احتمالي بالنسبة إلى المؤمن فقط حيث يؤدي التعويض إلى المستأمن إن وقع الخطر المؤمن عنه، فإن لم يقع لا يؤدي شيئا على أن هذا الاحتمال

أيضا إنما هو بالنسبة إلى كل عقد تأمين على حدة، لا بالنسبة إلى مجموع العقود التي يجريها المؤمن، ولا بالنسبة إلى نظام التأمين في ذاته؛ لأن النظام وكذا مجموع العقود يرتكزان على أساس إحصائي ينفي عنصر الاحتمال حتى بالنسبة للمؤمن عادة. أما بالنسبة إلى المستأمن فإن الاحتمال فيه معدوم؛ ذلك لأن المعاوضة الحقيقية في التأمين بأقساط إنما هي بين القسط الذي يدفعه المستأمن وبين الأمان الذي يحصل عليه، وهذا الأمان حاصل للمستأمن بمجرد العقد دون توقف على الخطر المؤمن منه بعد ذلك؛ لأنه بهذا الأمان الذي حصل عليه واطمأن إليه لم يبق بالنسبة إليه فرق بين وقوع الخطر وعدمه فإنه إن لم يقع الخطر ظلت أمواله وحقوقه ومصالحه سليمة، وإن وقع الخطر عليها أحياها التعويض، فوقوع الخطر وعدمه بالنسبة إليه سيان بعد عقد التأمين، وهذا ثمرة الأمان والاطمئنان الذي منحه إياها المؤمن نتيجة للعقد في مقابل القسط، وهنا المعاوضة الحقيقية على أن عنصر الاحتمال قد قبله الفقهاء في الكفالة ولو عظم، فقد نصوا على أن الإنسان لو قال لآخر: تعامل مع فلان وما يثبت لك عليه من حقوق فأنا كفيل به صحت الكفالة هكذا رغم الاحتمال في وجود الدين في المستقبل وجهالة مقداره. وصرحوا بصحة تعليقها على الخطر المحض في الشرط الملائم، كما لو قال الشخص لدائن: إن أفلس مدينك فلان أو مات في هذا الشهر مثلا أو إن سافر فأنا كفيله- فإن الكفالة تنعقد صحيحة، ويلتزم بموجبها إن وقع الشرط. فعلى فرض وجود غرر في عقد التأمين ليس هو من الغرر الممنوع

شرعا، بل من النوع المقبول، فإن قيل: إن الأمان ليس مالا يقابل بعوض، قلنا: إن الأمان أعظم ثمرات الحياة، وهو الذي امتن الله به على قريش بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (¬1) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬2) وإن الإنسان يسعى ويكد ويكدح ويبذل أغلى الأثمان من ماله وراحته في سبيل الحصول على الأمان والاطمئنان لنفسه ولأسرته ولحقوقهم ولمستقبلهم، فأي دليل في الشرع يثبت أنه لا يجوز الحصول عليه لقاء مقابل؛ هذا تحكم في شرع الله. وإننا نجد في بعض العقود القديمة المتفق بين جميع المذاهب الفقهية على شرعيتها ما يشهد لجواز بذل المال بطريق التعاقد بغية الاطمئنان والأمان على الأموال ذلك هو عقد الاستئجار على الحراسة (¬3) . وأجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال: ولقد قرر المانعون لعقد التأمين غير التعاوني أن فيه غررا، فمحل العقد فيه غير ثابت، وغير محقق الوجود، فيكون كبيع ما تخرجه شبكة الصائد، وكبيع ما يكون في بطن الحيوان، ووجه المشابهة: أن المبيع في هذه الصور غير معلوم محله وغير مؤكد الوجود، بل الوجود فيه احتمالي، وكذلك التأمين غير التعاوني محل العقد غير ثابت، فما هو محل العقد؟ أهو المدفوع من المستأمن، أم المدفوع من الشركة المؤمنة، أم هما معا باعتبار أن ذلك العقد من الصرف، ولا يكون مخرجا إلا على ذلك النحو، ولا شك أن ما يدفعه المستأمن غير ¬

_ (¬1) سورة قريش الآية 3 (¬2) سورة قريش الآية 4 (¬3) [أسبوع الفقه الإسلامي] (ص 401) وما بعدها

متعين فقد يكون قليلا وقد يكون كثيرا، وقد يكون كل ما نص عليه في الاتفاق وما تدفعه الشركة قد يكون قليلا، وقد يكون كثيرا، وفي الكثير لا تدفع شيئا، بل ترد ما أخذت مضافا إليه بعض ما كسبت فهل يكون كل ذلك خاليا من الغرر. ويقرر الأستاذ: أن التفاوت في المبادلات لا يمنع الصحة، ونقول: إنه لا تفاوت هنا فقط، إنما هو الاحتمال وعدم التعيين، والاختلاف في قيم الأبدال في المعاوضات العادية لا احتمال فيها، وحيث كان الاحتمال فهو الغرر والقمار فليس ثمة بدل يتعين قليلا أو كثيرا؛ ولذلك قرر فقهاء القانون المدني أن عقد التأمين عقد محله احتمالي، ولا مانع عندهم من جوازه، ولكن الأستاذ الجليل مصطفى الزرقاء يقول: لا غرر مطلقا، بل لا احتمال في محل العقد، فإن كل العقد هو الأمان (¬1) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] (ص 520) وما بعدها

عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم

ب- عقود التأمين فيها جهالة توجب التحريم. وقبل ذكر كلام المحدثين في الاستدلال بذلك والمناقشة نذكر كلام الفقهاء في المصادر التي رجع إليها المانعون في استدلالهم على تحريم التأمين. لقد وردت أدلة في حكم بيع المجهول نذكر منها ما فيه كفاية، ثم نذكر كلام الفقهاء في حكم بيع المجهول. أما الأدلة فمنها: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين، وعن بيعتين،

نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذاك، والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه وينبذ الآخر ثوبه ويكون ذلك بيعهما عن غير نظر ولا تراض (¬1) » الحديث، هذه رواية البخاري ومسلم إلا أن اللفظ للبخاري. قال ابن الأثير: الملامسة والمنابذة قد مر تفسيرهما في الحديث ونزيدها هنا بيانا. قال: هو: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المبيع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يقع البيع عليه، وهذا هو بيع الغرر والمجهول. وأما المنابذة فهي: أن يقول أحد المتبايعين للآخر: إذا نبذت إلي الثوب ونبذته إليك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع. وقال الفقهاء نحو ذلك في الملامسة والمنابذة، وهذا لفظهم. قالوا: الملامسة: أن يقول: مهما لمست ثوبي فهو مبيع منك، وهو باطل؛ لأنه تعليق وعدول عن الصيغة الشرعية، وقيل معناه: أن يجعل اللمس بالليل في ظلمة قاطعا للخيار، ويرجع ذلك إلى تعليق اللزوم وهو غير نافذ، قالوا: والمنابذة في معنى الملامسة، وقيل: معناه: أن يتنابذ السلع، وتكون معاطاة فلا ينعقد بها البيع عند الشافعي رحمه الله (¬2) ومنها: ما رواه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة (¬3) » وكان بيعا يبتاعه أهل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري اللباس (5820) . (¬2) [جامع الأصول] (1\524، 525) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2143) ، صحيح مسلم البيوع (1514) ، سنن الترمذي البيوع (1229) ، سنن النسائي البيوع (4625) ، سنن أبو داود البيوع (3380) ، سنن ابن ماجه التجارات (2197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، موطأ مالك البيوع (1357) .

الجاهلية، وكان الرجل يبتاع لحم الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها هذه رواية [الموطأ] ، وفي رواية البخاري ومسلم قال: «كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك (¬1) » ، وفي أخرى للبخاري نحوه وقال: ثم تنتج التي في بطنها، وفي أخرى له قال: «كانوا يبتاعون الجزور إلى حبل الحبلة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه (¬2) » ، ثم فسره نافع: أن تنتج الناقة ما في بطنها. قال ابن الأثير: حبل الحبلة: مصدر سمي به المحمول كما سمي بالحمل، وإنما أدخلت عليه التاء للأشعار بمعنى الأنوثة فيه، وذلك أن معناه: أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن يكون أنثى، وإنما نهى عنه؛ لأنه غرر، والحبل الأول: يراد به ما في بطن النوق، والثاني: حبل الذي في بطن النوق (¬3) وأما معنى المجهول في اللغة والاصطلاح: فقال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (جهل) الجيم والهاء واللام أصلان: أحدهما خلاف العلم ... فالأول الجهل نقيض العلم، ويقال للمفازة التي لا علم بها: مجهل (¬4) وقال الفيروزآبادي: (جهله) كسمعه، جهلا وجهالة ضد علمه (¬5) وقال أيضا: والجهل نقيض العلم، جهله يجهله جهلا وجهالة وجهل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3843) ، صحيح مسلم البيوع (1514) ، سنن النسائي البيوع (4625) . (¬2) صحيح البخاري السلم (2256) . (¬3) [جامع الأصول] (1 \489، 490) . (¬4) [معجم مقاييس اللغة] (1\489) . (¬5) [القاموس] (3\342) .

عليه أظهر الجهل كتجاهل وهو جاهل.. والجهل على ثلاثة أضرب: الأول: خلو النفس من العلم هذا هو الأصل، وقد جعل بعض المتكلمين الجهل معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النظام كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية على النظام. الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه. الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا كمن ترك الصلاة عمدا، وعلى ذلك قوله تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬1) سورة البقرة، الآية 67، فجعل فعل الهزو جهلا (¬2) وقال ابن منظور في مادة (جهل) : الجهل نقيض العلم، وقد جهله فلان جهلا وجهالة، وجهل عليه وتجاهل أظهر الجهل، عن سيبويه. والمعروف في كلام العرب جهلت الشيء إذا لم تعرفه (¬3) انتهى المقصود. وأما كلام الفقهاء: فقد ذكر السمرقندي من البيوع الفاسدة هذا النوع فقال: منها: أن يكون المبيع مجهولا أو الثمن مجهولا جهالة توجب المنازعة؛ لأنها مانعة عن التسليم والتسلم وبدونهما يكون البيع فاسدا؛ لأنه لا يفيد مقصوده، بيانه إذا اشترى شاة من قطيع أو اشترى أحد الأشياء ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 67 (¬2) [بصائر ذوي التمييز] (2\405، 406) . (¬3) [لسان العرب] (13\ 136، 137)

الأربعة بكذا على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحدا منها ويرد الباقي أو اشترى أحد الأشياء الثلاثة أو أحد الشيئين ولم يذكر فيه الخيار، فأما إذا ذكر الثلاثة أو الاثنين وشرط الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحدا ويرد الباقي فهذا جائز استحسانا اعتبارا بشرط الخيار ثلاثة أيام. وهل يشترط فيه ذكر مدة خيار الشرط، اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يشترط، وكذا إذا باع العبد بمائة شاة من هذا القطيع ونحوه لا يجوز لجهالة الثمن. فأما الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة فلا تمنع الجواز، فإنه إذا باع قفيزا من صبرة معينة بدراهم أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعرف عددها أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعرف عدد القفزان جاز لما ذكرنا، وعلى هذا: إذا اشترى شيئا لم يره بأن اشترى فرسا مجللا أو جارية منتقبة أو كرى حنطة في هذا البيت أو عبدا تركيا في هذا البيت فإنه يجوز إذا وجد كذلك وللمشتري الخيار، وعند الشافعي فاسد، ولو باع هذا العبد بقيمته فهو فاسد؛ لأن القيمة تعرف بالحزر والظن، وكذا لو اشترى عدل زطي أو جراب هروي بقيمته؛ لما قلنا، ولو اشترى بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذلك لو اشترى شيئا بألف درهم إلا دينارا أو بمائة دينار إلا درهما؛ لأن معناه: إلا قدر قيمة الدينار، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة. ولو باع وقال: هو بالنسيئة كذا وبالنقد كذا فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وكذا لو قال: بعت إلى أجل كذا أو كذا فهو فاسد؛ لأن الأجل

مجهول، ولو باع إلى الحصاد والدياس أو إلى رجوع الحاج وقدومهم فالبيع فاسد؛ لما ذكرنا، ولو باع عدل زطي برأس مال أو برقمه ولا يعلم المشتري رقمه ولا رأس ماله فهو فاسد؛ لأن الثمن مجهول ... (¬1) وقال القرافي: الفرق الثامن والمائتان بين قاعدة ما يمنع فيه الجهالة وبين قاعدة ما يشترط فيه الجهالة، بحيث لو فقدت فيه الجهالة فسد: أما ما تفسده الجهالة فهو البياعات، كما تقدم، وكثير من الإجارات، ومن الإجارات قسم لا يجوز تعيين الزمان فيه، بل يترك مجهولا، وهو الأعمال في الأعيان كخياطة الثياب ونحوها لا يجوز أن يعين زمان الخياطة بأن يقول له اليوم مثلا فتفسد؛ لأن ذلك يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم، بل مصلحته ونفي الغرر عنه أن يبقى مطلقا، وكذلك الجعالة لا يجوز أن يكون العمل فيها محدودا معلوما؛ لأن ذلك يوجب الغرر في العمل، بأن لا يجبر الآبق في ذلك الوقت، ولا بذلك السفر المعلوم، بل نفي الغرر عن الجعالة بحصول الجهالة فيها، والجهالة في هذين القسمين شرط إن كانت في غيرهما مانعا. وهاهنا قاعدة شرعية تعرف بجمع الفرق، وهي أن يكون المعنى المناسب يناسب الإثبات والنفي أو يناسب الضدين ويترتبان عليه في الشريعة وهو قليل في الفقه فإن الوصف إذا ناسب حكما نافى ضده، أما اقتضاؤه لهما فبعيد، كما تقدم بيانه في الجعالات والإجارات، ومن ذلك أيضا الحجر يقتضي رد التصرفات، وإطلاق التصرفات في حالة الحياة؛ ¬

_ (¬1) [تحفة الفقهاء] (2\62) وما بعدها.

صونا لمال المحجور عليه على مصالحه، وتنفذ وصاياه؛ صونا لماله على مصالحه؛ لأنا لو رددنا الوصايا لحصل المال للوارث ولم ينتفع به المحجور عليه فصار المال على المصالح يقتضي تنفيذ التصرفات ورد التصرفات وكذلك القرابة توجب البر بدفع المال وتوجب المنع من دفع المال إذا كان زكاة فيحرموا إياها وتعطى لغيرهم بسبب القرابة، وكذلك أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب برهم بسد خلاتهم بالمال، ويحرم دفع المال إليهم إذا كان زكاة فصار قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب في دفع المال ومنع المال باعتبار مالين ونسبتين؛ وكذلك كل معنى يوجب مصلحة أو يفسده، ويوجب نقيضها في محل آخر وباعتبار نسبة أخرى فإنه يوجب الضدين وهو ضابط جميع الفرق، وسمي بذلك؛ لأنه يجمع المفرقات وهي الأضداد فكذلك الجهالة توجب الإخلال بمصالح العقود في البياعات وأكثر أنواع الإجارات فكانت مانعة، ووجودها يوجب تحصيل مصلحة عقد الجعالة حتى يبقى المجعول له على طلبه فيجبر الآبق فلا يذهب عمله المتقدم مجانا، فإنا إذا قيدنا عليه العمل وقدرناه معلوما فإذا فعل ذلك العمل المعلوم ولم يجد الآبق ذهب عمله مجانا فضاعت مصلحة العقد (¬1) وقال الغزالي في كلامه على شروط البيع: قال: (الخامس: العلم) وليكن المبيع معلوم العين والقدر والصفة. أما العين: فالجهل به مبطل، ونعني به أنه لو قال: بعت منك عبدا من ¬

_ (¬1) [الفروق] (4\12، 13) .

العبيد أو شاة من القطيع بطل. ولو قال: بعت صاعا من هذه الصبرة- وكانت معلومة الصيعان- صح ونزل على الإشاعة، وإن كانت مجهولة الصيعان لم يصح على اختيار القفال؛ لتعذر الإشاعة، ووجود الإبهام، وإبهام ممر الأرض المبيعة؛ كإبهام نفس المبيع، وبيع بيت من دار دون حق الممر جائز على الأصح. أما القدر: فالجهل به فيما في الذمة ثمنا أو مثمنا مبطل، كقوله: بعت بزنة هذه الصنجة، ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم صح. وإن كانت مجهولة الصيعان؛ لأن تفصيل الثمن معلوم وإن لم يعلم جملته والغرر ينتفي به فإن كان معينا فالوزن غير مشروط، بل يكفي عيان صبرة الحنطة والدراهم فإن كان تحتها دكة تمنع تخمين القدر فيخرج على قولي بيع الغائب لاستواء الغرر، وقطع بعض المحققين بالبطلان لعسر إثبات الخيار مع جريان الرؤية. أما الصفة: ففي اشتراط معرفتها بالعيان قولان اختار المزني الاشتراط وأبطل البيع ما لم يره، ولعله أصح القولين. (¬1) وقال ابن قدامة في التمثيل لمفهوم الشرط السادس من شروط البيع (الجهالة) قال: ولا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأر، والنوى في التمر، ولا الصوف على الظهر، وعنه يجوز بشرط جزه في الحال، ولا يجوز بيع الملامسة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على ¬

_ (¬1) [الوجيز] (1\81) .

أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، ولا بيع المنابذة وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا ... (¬1) إلخ ما ذكره من الأمثلة. وقد أجاب الأستاذ الزرقاء عن هذا الدليل فقال: إن فقهاء الحنفية كانوا في قضية الجهالات التي تصاحب العقود عباقرة في تحليلهم الدقيق لطبيعة الجهالة وتمييزهم في آثارها بحسب أنواعها، فهم لا يحكمون ببطلان العقد وإفساده متى داخلته الجهالة مطلقا دون تمييز كما يفعل سواهم، بل يميزون بين جهالة تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد، وجهالة لا تأثير لها في التنفيذ، فالنوع الأول: وهو الجهالة التي تمنع التنفيذ هو الذي يمنع صحة العقود، كما لو قال شخص لآخر: (بعتك شيئا وأجرتك شيئا بكذا) ولم يعين الشيء أو عينه ولكن لم يعين الثمن أو الأجرة وقبل الآخر العقد بهذه الجهالة، وكذا لو باع شاة من قطيع تتفاوت آحاده فهذا كله وأمثاله لا يصح؛ لأن هذه الجهالة تتساوى معها حجج الفريقين ويقع القاضي في مشكلة منها تمنع التنفيذ؟ لأن البائع والمؤجر يريدان تسليم الأدنى وأخذ الأعلى بحجة عدم التعيين، والمشتري والمستأجر يريدان أخذ الأعلى وإعطاء الأدنى بحجة عدم التعيين ذاتها أيضا، فالجهالة حجة متساوية للطرفين فتمنع التنفيذ، فتمنع صحة العقد. أما الجهالة التي لا تؤدي إلى هذه النتيجة فلا تؤثر في العقد مهما عظمت كما لو صالح شخص آخر على جميع الحقوق التي له عليه كافة ولا يعرفان ¬

_ (¬1) [المقنع] (2\13، 14)

مقدارها وأنواعها لقاء بدل معين فإن الصلح يصح وتسقط الحقوق؛ ذلك لأن الجهالة فيها غير مانعة؛ لأن الحقوق في سقوطها لا تحتاج إلى تنفيذ بخلاف بدل الصلح؛ لأنه يحتاج إلى تنفيذ فيجب معلوميته، وبخلاف ما لو صالحه على بعض حقوقه دون بيان هذا البعض فإن الصلح لا يصح؛ لأن الحقوق غير المصالح عنها باقية تحتاج إلى تنفيذ فيجب معرفتها. هذه نظرية الحنفية في قضية الجهالة المصاحبة تكوين العقد، وعليها بنوا صحة الوكالة العامة خلافا للشافعية، كما بنوا صحة الكفالة بما سيثبت من الحقوق كما سبقت الإشارة إليه، وينطبق هذا المبدأ على أقساط التأمين على الحياة نجد أن الجهالة فيها هي من النوع غير المانع كما هو واضح؛ لأن مبلغ كل قسط عند حلول ميعاده هو مبلغ معلوم، أما كمية الأقساط فهي التي فيها الجهالة، وهي لا تمنع التنفيذ ما دام المؤمن قد تعهد بأن يدفع التعويض المتفق على دفعه عند وفاة المؤمن له إلى أسرته مثلا في أي وقت حصلت الوفاة ضمن المدة المحددة بالعقد، ومهما بلغ عدد الأقساط قلة أو كثرة، وذلك نظير ما قال الحنفية من صحة بيع محتويات صندوق مغلق دون معرفة أنواعها وكمياتها، فإنهم يرون أن هذه الجهالة رغم فحشها لا تمنع تنفيذ العقد وفقا لما اتفق عليه الطرفان؛ لأن البائع التزم بإرادته التنازل عن هذا المبيع مهما بلغ لقاء الثمن المعين، والمشتري قد قبله مهما بلغ أيضا، فكل منهما يمكن إلزامه بإرادته الواضحة (¬1) ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (406، 407) .

عقود التأمين من القمار والقمار ممنوع فتكون عقود التأمين ممنوعة

ج: قالوا: عقود التأمين من القمار، والقمار ممنوع، فتكون عقود التأمين ممنوعة: وقبل ذكر كلام المحدثين في هذا الدليل نذكر ما يستدل به من القرآن على تحريم القمار وبيان معناه، وأنه من الميسر الذي دلت النصوص على تحريمه. أما ما يستدل به على تحريم القمار، فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2) وأما معناه وبيان أنه من الميسر الذي دلت النصوص على تحريمه: فقال ابن منظور في مادة (قمر) : وقامر الرجل مقامرة وقمارا راهنه وهو التفاخر، والقمار والمقامرة وتقامروا: لعبوا القمار. وقميرك: الذي يقامرك، عن ابن جني، وجمعه أقمار عنه أيضا، وهو شاذ كنصير وأنصار، وقد قمره يقمره قمرا، وفي حديث أبي هريرة من قال: تعال أقامرك، فليتصدق بقدر ما أراد أن يجعله خطرا في القمار. الجوهري: قمرت الرجل أقمره بالكسر إذا لاعبته فيه فغلبته وقامرته فقمرته أقمره بالضم قمرا إذا فاخرته فيه فغلبته، وتقمر الرجل غلب من يقامره (¬3) . وقال ابن جرير: وأما الميسر فإنها المفعل من قول القائل: يسر لي هذا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 219 (¬2) سورة المائدة الآية 90 (¬3) [لسان العرب] (6\ 427)

الأمر إذا وجب لي فهو ييسر لي يسرا وميسرا، والياسر: الواجب بقداح أوجبت ذلك أو مباحة أو غير ذلك ثم قيل للمقامر، ياسر ويسر، كما قال الشاعر: فبت كأنني يسر غبين ... بعدما اختلج القداحا وكما قال النابغة: أو ياسر ذهب القداح بعرفي ... أسف بآكله الصديق مخلع يعني بالياسر: المقامر، وقيل للمقامر: ميسر، وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك ثم ساق رحمه الله جملة من الآثار عن مجاهد ومحمد بن سيرين وغيرهما: أن القمار من الميسر (¬1) وقال القرطبي: الرابعة: قوله تعالى: {وَالْمَيْسِرِ} (¬2) والميسر: قمار العرب بالأزلام، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله فنزلت الآية. وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية بن صالح وطاووس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق على ما يأتي. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار ما يتخاطر الناس عليه، قال علي بن أبي طالب: الشطرنج ميسر العجم، وكل ما قومر ¬

_ (¬1) [تفسير] ابن جرير، (2\ 208) . (¬2) سورة البقرة الآية 219

به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء (¬1) وقال ابن كثير: وقال موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: الميسر هو القمار، وقال الضحاك: عن ابن عباس قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة، وقال مالك: عن داود بن الحصين إنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان ميسر العرب في الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين (¬2) وفيما يلي كلام المحدثين في الاستدلال على تحريم التأمين؛ لكونه قمارا: قال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في رسالته (السوكرتاه) : عقد التأمين عقد فاسد شرعا؛ وذلك لأنه معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى، ص 24. ويقول الشيخ أحمد إبراهيم في التأمين على الحياة: أما إذا مات المؤمن له قبل إيفاء جميع الأقساط وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط، وقد يكون الباقي مبلغا عظيما جدا؛ لأن مبلغ التأمين على الحياة موكول تقديره إلى طرفي العقد على ما هو معلوم فإذا أدت الشركة المبلغ المتفق عليه كاملا لورثته أو لمن جعل له المؤمن ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته ففي مقابل أي شيء دفعت الشركة هذا المبلغ؟ أليس هذا مخاطرة ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (3\ 52، 53) . (¬2) [تفسير ابن كثير] (2\ 91، 92) .

ومقامرة، وإذا لم يكن هذا من صميم المقامرة ففي أي شيء تكون المقامرة إذن، على أن المقامرة حاصلة أيضا من ناحية أخرى فإن المؤمن له بعد أن يوفي جميع ما التزمه من الأقساط يكون له كذا، وإن مات قبل أن يوفيها كلها يكون لورثته كذا أليس هذا قمارا ومخاطرة حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الأمر على التعيين؟! (¬1) . المناقشات لهذا الدليل: المناقشة الأولى: لمصطفى الزرقاء: قال: إن القمار لعب بالحظوظ ومقتلة للأخلاق العملية والفعالية الإنسانية، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه حبالة من حبائل الشيطان ووسيلة من وسائله يوقع بها بين الناس- وهم المقامرون لاعبو الميسر- العداوة والبغضاء ويلهيهم بها عن ذكر الله وعن الصلاة، فأين القمار الذي هو من أعظم الآفات الخلقية والأدواء الاجتماعية وشلل للقدرة المنتجة في الإنسان في كل نواحي النتاج العلمي والاقتصادي- أين هذا من نظام يقوم على أساس ترميم الكوارث الواقعة على الإنسان في نفسه أو ماله في مجال نشاطه العملي وذلك بطريق التعاون على تجزئة الكوارث وتفتيتها ثم توزيعها وتشتيتها. ثم إن عقد التأمين يعطي المستأمن طمأنينة وأمانا من نتائج الأخطار الجائحة التي لولا التأمين من نتائجها إذا وقعت فإنها قد تذهب بكل ثروته أو قدرته فتكون حالقة ماحقة. فأين هذا الأمان والاطمئنان لأحد المقامرين ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (459)

في ألعاب القمار التي هي بذاتها الكارثة الحالقة فهل يسوغ تشبيه الشيء بضده وإلحاقه بنقيضه؟ ومن جهة ثالثة عقد التأمين من قبيل المعاوضة وهذه المعاوضة مفيدة فائدة محققة للطرفين، ففيها من حيث النتائج النهائية ربح اكتسابي للمؤمن وفيها أمان للمستأمن من قبل تحقق الخطر وتعويضه بعد تحقيقه فأين هذه المعاوضة في القمار، وما هي الفائدة التي عادت على الخاسر فيه من ربح الفائز؟ فالقمار ليس عامل التحريم الشرعي فيه عاملا اقتصاديا فقط حتى يوازن المانعون بينه وبين التأمين من حيث العوض المالي والعنصر الاحتمالي فقط، وإنما العامل في تحريم القمار شرعا هو عامل خلقي واجتماعي في الدرجة الأولى كما أشار إليه القرآن نفسه (¬1) وأجاب الأستاذ أبو زهرة على مناقشة الأستاذ مصطفى الزرقاء: لقد أثار بعض العلماء شبهة في عقد التأمين غير التعاوني، وهو: أن فيه قمارا وكسبا بالباطل، فالشخص قد يدفع عشرين فيكسب مائة، وقد يدفع مائة ويسترد مائة، وأن الشركة قد تخسر مائتين وقد تكسب من مستأمن واحد ألفا، وأن ما يأخذه المستأمن أو ورثته أخذ بغير حق ولا شيء في عقد التأمين يعد محقق الأخذ والعطاء، وأنه بهذا إن لم يكن مقامرا ففيه معنى القمار أو شبهته، ولكن الأستاذ مصطفى ينفي هذا التشابه نفيا باتا؛ لأن القمار لعب وهذا جد، ولأن القمار يؤدي إلى البغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (398، 399) .

وهذا ليس فيه شيء من ذلك، ويرده بأن هذا عقد فيه التزامات متبادلة وليس القمار فيه هذا المعنى. وبالحق إن الذين شبهوه بالقمار قد لاحظوا عنصر المخاطرة وعدم التناسق بين المكسب والخسارة وعدم التقابل العادل في حال الكسب، وادعاء أن القمار دائما لعب غريب؛ لأن العرب كانوا يستقسمون بالأزلام فيحكمونها في القسمة ويعتبرون القسمة بها عادلة، وقد نهى الله عنها في قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (¬1) واعتبر ذلك في المحرمات مع الخمر إذ قال سبحانه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬2) وهذا بلا ريب من أنواع القمار فليس كل قمار لعبا. وأما الفرق الثاني: وهو: أن عقود التأمين ليس فيها صد عن ذكر الله وعن الصلاة، وليس فيها إيغار للحقد والحسد والبغضاء، فنقول: إن هذه حكم وأوصاف مناسبة، وليست علة يسير معها الحكم طردا أو عكسا، بحيث يكون التحريم إن وجدت، ويكون الحل إن لم تكن، ومن الذين يشربون الخمر من تبدو مودتهم وعطفهم فهل يمنع التحريم بالنسبة لهم. وأن كون عقد التأمين عقد معاوضة لا يمنع منه معنى القمار، بل إننا نقول: إنه غير متعين أن يكون عقد معاوضة؛ لأن البدلين غير ثابتين، ولا يوجد محل عقد متعين يكون أحد البدلين، بل هو غير متعين، وأي ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 3 (¬2) سورة المائدة الآية 90

معاوضة بين من يدفع عشرين: فيأخذ مائتين، ثم أليس هذا ربا، هذا ما نراه فيما قرره الأستاذ مزيلا للشبهة، بل نرى أن مع القمار ربا مؤكدا في حال ما إذا مات المستأمن قبل المدة؛ لأنه يدفع نقدا قليلا ويأخذ بدله نقدا كثيرا، وهذا بلا ريب ربا أو معاملة لم يحلها أحد من الأئمة. اهـ (¬1) وقد علق الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك فقال: كرر الأستاذ أبو زهرة ما يقال من أن التأمين على الحياة ينطوي على عملية قمار، وأوضح ذلك بأن العقود تقوم عادة على المساواة بين ما يؤخذ وما يعطى. أما في التأمين على الحياة فإن التعويض الذي يؤخذ من شركة التأمين حال الوفاة يكون أعظم كثيرا من مجموع الأقساط المدفوعة، فهذا التفاوت في العوضين يجعل التأمين على الحياة من قبيل القمار. وجوابنا على ذلك: أقول: إن المساواة في الأبدال ليست واجبة فقها إلا في حالتين. الحالة الأولى: ضمان المتلفات فهذه يجب فيها التعادل المطلق بقدر الإمكان ففي الأموال المثلية يضمن الشيء بمثله؛ لأن المثل يخلف الأصل صورة ومعنى، وفي القيميات يضمن الشيء بقيمته وهي سعره الذي يساويه في السوق بين الناس؛ لأن القيمة عند عدم المثل تعتبر خلفا للأصل معنى، وإن لم تخلفه صورة، كما هو معروف في علم أصول الفقه. الحالة الثانية: عقود المعاوضات في الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها كالقرض والصرف. ¬

_ (¬1) [عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه] .

وفقهاؤنا يقسمون الأشياء التي يتناولها الضمان إلى نوعين: أشياء مضمونة بذواتها كالمتلفات وهذه يجب فيها التساوي فيضمن الشيء منها بمثله أو قيمته، وأشياء مضمونة بغيرها كالمبيع في عقد البيع فالمبيع مضمون على المشتري بالثمن لا بالقيمة، والثمن هو العوض المتفق عليه بالتراضي في عقد البيع سواء أكان قليلا أم كثيرا، فللإنسان أن يبيع الشيء النفيس الثمين بالثمن البخس وبالعكس؛ لأن الأساس في التقويم هنا إنما هو الإرادة، هذا مع ملاحظة أن البيع لا ينطوي على أية فكرة تعاونية، بل هو معاوضة تجارية بحتة، ومع ذلك جاز فيه شرعا هذا التفاوت بين العوضين في القيمة ما دام الأساس في التقويم فيه إنما هو الإرادة. فعقد التأمين على الحياة كذلك أساس الالتزام فيه بتقدير التعويض إنما هو الإرادة، وليس كضمان المتلفات، فلا يجب فيه التعادل ولا سيما أنه عقد من نوع جديد قائم على أساس ونظام تسايرت واندمجت فيه فكرتا المعاونة والمعاوضة، فهو أولى من البيع بقبول التفاوت وعدم التساوي فيه بين ما يؤخذ وما يعطى فأين هذا من القمار (¬1) قد يقال: إن تعليق الأستاذ مصطفى الزرقاء على كلام الأستاذ أبي زهرة رحمه الله يحمل رده في طيه، فإنه ذكر لوجوب المساواة بين البدلين في المعاوضات حالتين، وذكر أن الثانية منهما عقود المعاوضات الربوية إذا قوبلت بجنسها، ومن المعروف أن العوضين في عقود التأمين- حسب واقعه- من الأموال الربوية فوجب أن يتساويا عند وحدة الجنس، وأن ¬

_ (¬1) [عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه] ، ص (104- 106) ؟

تكون المعاوضة يدا بيد، ولم يتحقق ذلك في عقود التأمين، بل تفاوت العوضان، وعجل أحدهما وأخر الآخر فلزم أن تكون عقود التأمين ربوية مع ما فيها من الخطر والمقامرة. ويمكن أن يجاب عن شبهة وجود الربا في عمليات التأمين: بأن عمليات التأمين ليست نقودا بنقود، وإنما هي بيع وشراء، فالمؤمن له يشتري الأمان من المؤمن بما يدفعه له من أقساط، والمؤمن يعطيه الأمان فإذا وقع ما يخل بالأمان اتجه الضمان على ذلك فدفع المؤمن للمؤمن له ما يقابل ما ضمنه له من أمان عجز عن تحقيقه له. ونوقش ذلك: بأن المعاوضة في التأمين تقع بين ما يدفعه المؤمن له من الأقساط مقدما ومبلغ التأمين الذي تعهد المؤمن بدفعه للمؤمن له أو عنه أو للمستفيد، ثم نشأ عن ذلك ما سمي أمانا، وليس فيه بيع ولا شراء لأمان. المناقشة الثانية: للصديق محمد الأمين الضرير: قال: والواقع أنه ليس من اليسير اعتبار التأمين من القمار فإن القمار في الأصل هو الرهان على اللعب بشيء من الآلات المعدة له، ومنه الميسر الذي حرمه الله في القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1) يقول أبو حيان في [تفسيره] : الميسر: قمار أهل الجاهلية، فقد كان عرب الجاهلية يطلقون لفظة الميسر غالبا على المقامرة بالأقداح لاقتسام الجزور، فكلمة القمار في الأصل أعم من كلمة الميسر، ولكن الفقهاء أطلقوا الميسر على جميع ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 90

ضروب القمار. وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: كل شيء فيه خطر- وهو ما يأخذه الغالب في النضال والرهان ونحوهما- فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وذكر صاحب [البحر الزخار] ضابطا للقمار عند كلامه على السبق هو: أن يكون كل من المتسابقين غانما أو غارما نحو- إن سبقتني فلك عشرة وإلا فهي لي عليك-. والقانون يحرم المقامرة في حين أنه يجيز عقد التأمين ولا يعتبره من القمار. ويفرق شراح القانون بين التأمين والمقامرة بأن التأمين يقوم على التعاون بين المستأمنين، ذلك التعاون الذي يؤدي إلى توزيع بين أكبر عدد ممكن من الأفراد بدلا من أن يقع عبء الكارثة على فرد واحد. ويؤدي أيضا إلى كفالة الأمان للمستأمن والمؤمن معا، فالمستأمن واثق من الحصول على ما التزم المؤمن بأدائه، والمؤمن واثق أيضا من وفاء ما التزم به؛ لأن التعويض سيدفع من الرصيد المشترك الذي تعاون المستأمنون على جمعه لا من مال المؤمن الخاص، وهذا الأمان هو الغاية الأساسية التي يسعى إليها كل مستأمن. فالشخص الذي يؤمن على حياته أو يؤمن على ماله ضد الحريق مثلا إنما يفعل ذلك بغرض التحصين عن خطر محتمل لا يقوى على تحمله وحده، وهذه المعاني غير موجودة في المقامرة، فإن المقامر لا يتحصن من خطر، وإنما يوقع نفسه في الخطر، وهو عرضة لأن يفقد ماله جريا وراء ربح غير محقق بطبيعته موكول للحظ.

وعلى هذا فلست أرى ما يبرر قياس التأمين على المقامرة قياسا صحيحا، فالتأمين جد والمقامرة لعب، والتأمين يعتمد على أسس علمية، والمقامرة تعتمد على الحظ، وفي التأمين ابتعاد عن المخاطر وكفالة للأمان واحتياط للمستقبل، وفي المقامرة خلق للمخاطر وابتعاد عن الأمان وتعرض لمتاعب المستقبل فكيف يستويان؟ (¬1) ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بما يأتي: أولا: ما ذكره من أن الميسر أخص من القمار، وأن الفقهاء هم الذين أطلقوا الميسر على جميع ضروب القمار مردود بما تقدم من المنقول عن الصحابة والتابعين من أن كل قمار ميسر، وأن الميسر القمار كله ... إلخ. ثانيا: ما ذكره من أن القانون يحرم المقامرة في حين أنه يجيز عقد التأمين ولا يعتبره قمارا، وأن شراح القانون يفرقون بين التأمين والمقامرة ... إلخ- مردود بأن رجال القانون والتأمين ليسوا مرجعا في بيان الأحكام الشرعية، ومجرد تسميتهم التأمين تعاونا لا يكسبه معنى التعاون شرعا، بل يرجع في ذلك إلى واقع نظام التأمين وعقوده وتلحق بقاعدتها، ونظيرها عند فقهاء الشريعة اسما وحكما، وبالرجوع إلى واقعه يتبين أنها من العقود المالية التجارية. ثالثا: ما ذكره من الفروق بين القمار والتأمين تقدم جوابه في كلام الأستاذ أبي زهرة. ¬

_ (¬1) [الأسبوع] ، ص (459- 461) .

المناقشة الثالثة: للأستاذ أحمد محمد دانش. قال: هذا الاعتراض لا يقول به إلا من يجهل التأمين جهلا تاما، فالتأمين لا يسمى تأمينا إذا لم يتم بين فردين، والتأمين قائم أساسا على نظرية الأعداد الكبيرة أو على نظرية التعاون بين أفراد كثيرين، والأصل في التأمين أن لا يربح المتعاقد من عملية التأمين، ولكنه يحفظ بها ماله على نفسه. كل هذه الأسس تتعارض تماما مع الأسس التي يقوم عليها الميسر أو المقامرة ففي الميسر يخلق الإنسان الفرصة التي يتحقق بها المكسب أو الخسارة خلقا، فهو مثلا يقذف بلية أو كرة في صحن دائري مرقم، والرقم الذي تقف عليه الكرة هو الرقم الكاسب وباقي الأرقام تعتبر خاسرة، ويدخل المقامر فيضع بعض ماله على رقم من هذه الأرقام معتمدا على الصدفة أو الحظ، فإن وقفت الكرة على الرقم الذي اختاره، كسب وإلا فهو من الخاسرين، ويأتي بمجموعة من الورق المرقم متحد في الشكل مختلف في اللون والرقم كورق (الكوتشينة) ويقامر ببعض ماله على الورقة التي يسحبها من هذه المجموعة ذات لون معين أو رقم محدد فإن جاء اللون الذي عينه أو الرقم الذي حدده فقد كسب وإلا فهو من الخاسرين، هذا هو أساس المقامرة أن تخلق الصدفة خلقا وأن تعرض نفسك ومالك لحكم هذه الصدفة التي تخلقها، ورائدك أن تخلق ربحا وأنت في الغالب من الخاسرين، والميسر كما ترى فيه منفعة، ولكن فيه إثم وإثمه أكبر من نفعه، وهو رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه والبعد عنه. أما التأمين فعلى العكس من ذلك، إذ إن الضرر الذي نخشاه واقع لا محالة،

فالمشاهد مثلا أنه ما من سنة مرت بدون خسارة لحقت بعض الناس من حريق منازلهم أو محاصيلهم أو متاجرهم، والذي لا نعلمه؛ لأنه في ضمير الغيب هو من الذي يصيبه الضرر، فإن تركت الأمور تجري في أعنتها بدون أن تعقلها، فإنك سوف لا تبيتن خالي البال، أما إن عقلتها وذلك بتعاونك مع زملائك من أصحاب المنازل والمحاصيل والمتاجر، وسلحت نفسك بعقد التأمين فتوكل على الله فسوف لا يصيبك الضرر حتى ولو حل بالمنزل الذي تملكه أو المتجر الذي تديره، فعقد التأمين لا يمنع ولا يرد القضاء، ولكنه يحقق اللطف وهو الوسيلة التي يتحقق بها الإنسان من استجابة دعائه عندما يدعو: (اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه) والرجل الذي يكسب عيشه بنفسه وكده واجتهاده، يرى أنه لو مات فإنه يترك وراءه ذرية ضعافا، وأن الخير فيما قاله الرسول صلوات الله عليه: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (¬1) » ، والسبيل إلى ذلك هو الادخار عن طريق التأمين؛ لأن الادخار وحده قد لا يكفي إذا كان حبل الأجل قصيرا لتكوين المال اللازم لوقايتهم شر السؤال، وإنما الذي يكفي هو الادخار مع التعاون بين القادرين. وعقد التأمين على الحياة هو العقد الوحيد الذي يجمع بين هاتين الصفتين، وهو ليس قمارا إذا أخذ الورثة المبلغ المؤمن قبل انتهاء المدة وإنما هو تعاون، والشخص لا يقامر بحياته؛ ليأخذ ورثته المبلغ المؤمن، ولكنه في الحقيقة يدخر قرشا قرشا لو امتد به الأجل كما رأينا في المثل الذي ضربناه سابقا. ثم هو يتعاون مع زملائه بمبلغ آخر يكفي إذا ما ضم إلى ما يدفعه الآخرون؛ لتكملة ما تركه الذين سبق إليهم حكم القدر. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3936) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2708) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .

ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بما يأتي: أولا: إن تحريم عقود التأمين مبني على أنها عقود معاوضة تجارية فيها مخاطرة لا على مجرد تسميتها عقود تأمين، ولا على قلة عدد الأطراف المتعاقدين أو كثرتهم، وقيام التأمين أساسا على نظرية الأعداد الكبيرة والأفراد الكثيرة، وأن لا يربح المتعاقد من عملية التأمين، بل يراعى أن يكون الربح أصالة لشركات التأمين، وقيام التأمين على هذا من التعسف في وضع نظامه، والاحتياط بالشروط للاستئثار باتخاذه طريقا للتجارة والربح دون المؤمن له، وهذا الاحتياط لا يدفع ما في عقود التأمين من المخاطرة والمقامرة، بل جمع إلى ذلك آفة أخلاقية هي الأثرة الممقوتة في المعاوضات المالية. ثانيا: ما ذكر في المناقشة من أن في التأمين تعاونا على بعث الطمأنينة وتحمل الأخطار مردود بأن القصد الأول في عقود التأمين إلى المعاوضة التجارية للكسب، وقد يتم التعاون تبعا، وليس كل عقود المعاوضة تضمنت منفعة أو تعاونا مشروعة، بل قد يكون فيها من الخطر والإثم ما يطغى على ما فيها من التعاون والنفع، كما في عقود التأمين. ثالثا: ما ذكر في المناقشة من أمثلة للقمار إنما هو بيان لأنواع منه، وليس الميسر والقمار قاصرا على ذلك، بل يعم كل ما فيه مخاطرة. رابعا: ما ذكر في المناقشة من الحث على الاحتياط لمن قد يخلفه من بعده من ورثة ضعفاء، والاستدلال على هذا بحديث «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس (¬1) » فهو مما جاءت به الشريعة، ولا نزاع فيه بين المسلمين، ولكن ينبغي له أن يجتهد لهم في ما ينفعهم به ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3936) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2708) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .

في حياته وبعد مماته من طريق مشروعة، وليس منها التأمين المعروف، وطرق الكسب الحلال كثيرة متنوعة لا يحتاج الإنسان معها إلى الارتكاس في عقود التأمين. المناقشة الرابعة: للشيخ الحجوي: قال: وأما من زعم من علماء الوقت أن ضمان المال (السكرتاه) من الميسر والقمار المحرم بنص القرآن فهو خروج عن محل الاستنباط المعقول فإن في المعنى المراد من لفظ الميسر اختلافا بين أهل العلم حتى قال ابن العربي في [الأحكام] ، في سورة البقرة: ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله تعالى، فما حرم الله فعله وجهلناه حمدنا الله تعالى عليه وشكرناه. اهـ (عدد 63 ج1) (¬1) ، وإذا كان ابن العربي يجهله ولم يحقق ما هو، كان مجملا والمجمل لا تقوم به حجة كما هو مقرر في الأصول. كيف نلحق الضمان بأمر مجهول وهو الميسر، وقد حكى ابن الجصاص وغيره أقوالا في [تفسيره] فسقط الاستدلال بآية الميسر، ولم يقم له بها حجة لا لإجمالها على أن القمار أو الخطار أو الميسر الذي هو محرم بإجماع ولا يختلف فيه اثنان هو أن ينزل هذا مائة وهذا مائة ويلعبان لعبا فمن غلب أخذ جميع المائتين كما عند الزرقاء في [شرح الموطأ] ، عدد [326 ج 2] ، ومثله للحافظ في [فتح الباري] ، فانظره، ومن ذلك خطار أبي بكر مع أبي بن خلف، لما نزل قوله تعالى: {الم} (¬2) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (¬3) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} (¬4) ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] ، لابن العربي (1\ 150) ، ط دار المعرفة. (¬2) سورة الروم الآية 1 (¬3) سورة الروم الآية 2 (¬4) سورة الروم الآية 3

وكان ذلك قبل تحريمه، انظر [الكشاف] ، وحديثه في الترمذي حسن صحيح غريب بألفاظ مختلفة، وما أبعد هذه الصورة من صورة الضمان بعد السماء من الأرض والفروق بينهما أظهر من أن تبين فكيف تقاس إحداهما على الأخرى. انتهى (¬1) ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة: بأنه ليس كل اختلاف في تفسير آية أو حديث يقتضي الإجمال في ذلك فقد يكون اختلاف تنوع أو اختلافا في التعبير، وما ذكر في تفسير الآية من الأقوال بعضه من الاختلاف في التعبير، وبعضه من اختلاف التنوع فلا يوجب إجمالا في الآية، وعلى هذا يكون الاستدلال بالآية قائما. ومعنى جهل ابن العربي للميسر عدم معرفته باللعب به عمليا؛ لقوله: (ما كنا نشتغل به بعد أن حرمه الله) لا عدم معرفته بتفسيره وبيان معناه لغة وشرعا. د- قالوا: التأمين يتضمن ربا النساء والفضل وكل منهما ممنوع. وبيانه: أن ما تدفعه شركة التأمين للمستأمن أو لورثته عند حصول الخطر المحدد في العقد له ثلاث حالات- إما أن يكون أقل أو أكثر مما دفعه المستأمن أو يكون مساويا له، وفي كل ذلك يكون دفع الشركة لصاحب الحق واقعا بعد دفعه أقساط التأمين بفترة هي في الحقيقة مجهولة النهاية عند العقد، فهو ربا فضل من جهة ما إذا دفعت الشركة للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه لها، ونسيئة بالنظر إلى أن وقت الدفع مؤجل، فهو في الحقيقة بيع دراهم بدراهم مثلا إلى أجل فتبين أن في حالة التساوي ¬

_ (¬1) [الفكر السامي] ، ص (311) وما بعدها.

يكون فيه ربا النساء وفي حالة الزيادة يكون فيه ربا الفضل والنساء، وكل منهما محرم بانفراده فكيف إذا اجتمعا؟! هذا من جهة، ومن جهة أخرى شركات التأمين تستثمر احتياطي أموالها بطريق الربا، وأن المستأمن في التأمين على الحياة إذا بقي حيا بعد انقضاء المدة المحددة بالعقد يسترد الأقساط التي دفعها مع فائدة التأمين، وهذا محرم شرعا (¬1) وأجاب الأستاذ الزرقاء عن ذلك قائلا: إننا إنما نتكلم في التأمين من حيث هو نظام قانوني ولا نتكلم فيما تقوم به الشركات من أعمال وعقود أخرى مشروعة أو ممنوعة كما أن أخذ المستأمن في التأمين على الحياة فائدة ربوية علاوة على مبلغ الأقساط التي يستفيدها إذا ظل حيا بعد المدة في العقد ليس من ضرورة التأمين على الحياة ولوازمه من حيث كونه نظاما تأمينيا، بل هذا شرط يشرط في العقد يمكن الحكم عليه وحده دون الحكم على نظام التأمين في ذاته، وهنا يجب الانتباه إلى نقطة عظيمة الأهمية في هذا البحث وهي أننا إذا وجدنا أن قواعد الشريعة ونصوصها لا تقتضي منع التأمين فإنما نحكم بصحته من حيث كونه نظاما يؤدي بمقتضى فكرته الأصلية وطريقته الفنية إلى مصلحة مشروعة ولا نحكم شرعا بصحة كل شرط يشرطه العاقدان فيه ربا، ولو سوغه القانون. وحكمنا بالمشروعية على النظام في ذاته ليس معناه إقرار جميع الأساليب التعاملية والاقتصادية التي تلجأ إليها شركات التأمين، ولا إقرار ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (406- 420) ، و [عقد التأمين] ، ص (5، 52) . .

جميع ما يتعارف بعض الناس في بعض الدول أو الأماكن من التأمين فيه، بل إن نظام التأمين في ذاته إذا كان صحيحا شرعا فإن كل شرط يشرطه في عقده بعد ذلك، وكل أسلوب تتعامل به شركات التأمين هو أمر منفصل عن الحكم بصحة النظام في ذاته وخاضع لمقاييس الشريعة في الشروط العقدية والمحل العقدي، فقد يحكم على عقد التأمين بعدم صحة شرط غير مقبول شرعا ورد فيه كما أباحت الشريعة البيع والإجارة وسائر العقود المشروعة في ذاتها، وفي الوقت نفسه يمنع فيها بعض شروط يشرطها العاقدان منافية لقواعد الشريعة، وقد تبطل الشروط هذه العقود، وليس معنى ذلك أن العقد في ذاته غير مشروع، ففي بعض الدول اليوم تقوم شركات التأمين على تأمين الأشخاص المرشحين للانتخابات العامة من فشلهم في تلك الانتخابات للكراسي النيابية أو البلدية ونحوها، وقواعد الشريعة تأبى مثل هذا الموضوع وليس من ضرورة قبول نظام التأمين شرعا قبول مثل هذه الحالات (¬1) وجواب آخر: على أي أساس يبنى هذا الاعتراض؟ الواقع من الأمر أن قسط التأمين على الحياة يتكون من جزأين: أ- جزء يغطي الضرر المادي الذي يقع على الورثة عند وفاة عائلهم وهذا الجزء أو هذا النوع من التغطية صورة طبق الأصل لما سبق شرحه من أنواع التأمين الأخرى- أي: أنه للتعاون بين الأعضاء وهو مباح كما سبق لنا القول. ¬

_ (¬1) [رجل التأمين] ، ص (297) وما بعدها.

2 - والجزء الثاني يدخر ويتجمع باستمرار مدة العقد لكي يسلم للعضو إذا كان على قيد الحياة في آخر مدة التعاقد، فإذا لم يستمر هذا الجزء، وهو ممكن طبعا ورأينا حبسه في الخزائن حتى يحين موعد تسليمه، فإن عملية التأمين تصبح عملية ادخار محض مضافا إليها عملية تعاون، وأعتقد أنه لا اعتراض مطلقا لأحد على ذلك؛ لأنه ليس هناك استثمار أو فائدة أو ربا أو شبه الربا، وبذلك يكون العقد على هذه الصورة مباحا وحلالا. انتهى المقصود (¬1) . ويمكن أن يناقش جواب الأستاذ مصطفى الزرقاء بما يأتي: أولا- أنه تسليم بتحريم عقود التأمين التي اشترط فيها الربا. ثانيا- أنه على تقدير الدخول على إسقاط شرط نسبة ربوية على مبلغ التأمين لا يمكن التخلص مما في التأمين من ربا النساء في أي حال، ولا من ربا الفضل عند تفاوت العوضين؛ لأن تأجيل مبلغ التأمين أو عوض الخطر أصيل في التعاقد، وتماثل العوضين مشكوك فيه للجهالة بما يؤول إليه الأمر في المستقبل، والشك في التماثل كتحقق التفاضل، فيتبين أنه لا يتأتى التخلص من الربا في عقود التأمين إلا بالقضاء على التأمين المعروف واجتثاثه من أصوله. ويمكن أن يناقش الجواب الآخر: بأن تكون قسط التأمين من جزأين جزء يغطي الضرر والآخر يدخر لا أثر له في الحكم بحل أو بحرمة، فإن الحكم بذلك مبني على ما في عقود التأمين من ربا الفضل والنساء، لا على ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (406) .

تجزئة المبلغ وتوزيعه إلى جهات نفع أو ضر، فمآلها وتوظيفها بعد استحقاقها أو الحصول عليها له حكم آخر.

التأمين من قبيل الرهان والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين

هـ- قالوا: التأمين من قبيل الرهان، والرهان ممنوع شرعا إلا في صور معينة مستثناة ليس منها عقد التأمين. وفيما يلي بيان معنى الرهان، ودليل حكمه شرعا، ثم كلام بعض العلماء على الأدلة، ثم بيان وجه كون التأمين رهانا مع مناقشة ذلك. أما معنى الرهان: فقال فيه ابن منظور نقلا عن ابن الأعرابي: والرهان والمراهنة: المخاطرة، وقد راهنه، وهم يتراهنون وأرهنوا بينهم خطرا بدلوا منه ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ فيكون لهم سبقا، وراهنت فلانا على كذا مراهنة: خاطرته. وأما دليل حكم الرهان من الشرع: ففي [المسند] لأحمد من حديث أنس رضي الله عنه أنه قيل له: «أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له يقال له: سبحة، فسبق الناس، فبش لذلك وأعجبه (¬1) » . وقد راهن الصديق رضي الله عنه المشركين، وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له، فروى الترمذي في [جامعه] في حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى: {الم} (¬2) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (¬3) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (¬4) ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (3/256) ، سنن الدارمي الجهاد (2430) . (¬2) سورة الروم الآية 1 (¬3) سورة الروم الآية 2 (¬4) سورة الروم الآية 3

قال: «كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي بكر رضي الله عنه فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنهم سيغلبون. فذكروه لهم، فقالوا: اجعلوا بيننا وبينك أجلا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا جعلت إلى دون العشر"- قال سعيد: والبضع: ما دون العشر- قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال فذلك قوله: قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر (¬6) » . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي [جامعه] أيضا عن نيار بن مكرم الأسلمي، قال: «لما نزلت: إلى قوله: وكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قوله تعالى: وكانت قريش تحب ظهور فارس؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب، ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم بزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع ¬

_ (¬1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3193) . (¬2) سورة الروم الآية 1 (¬1) {الم} (¬3) سورة الروم الآية 2 (¬2) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (¬4) سورة الروم الآية 3 (¬3) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (¬5) سورة الروم الآية 4 (¬4) {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (¬6) سورة الروم الآية 5 (¬5) {بِنَصْرِ اللَّهِ} (¬7) سنن الترمذي تفسير القرآن (3194) . (¬8) سورة الروم الآية 1 (¬7) {الم} (¬9) سورة الروم الآية 2 (¬8) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (¬10) سورة الروم الآية 4 (¬9) {بِضْعِ سِنِينَ} (¬11) سورة الروم الآية 4 (¬10) {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (¬12) سورة الروم الآية 5 (¬11) {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬13) سورة الروم الآية 1 (¬12) {الم} (¬14) سورة الروم الآية 2 (¬13) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (¬15) سورة الروم الآية 3 (¬14) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}

سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى، قال: وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم نجعل البضع؟ - وهو ثلاث سنين إلى تسع سنين- فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين، قال: فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين؛ لأنه قال: قال: وأسلم عند ذلك ناس كثير، (¬2) » قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي [الجامع] أيضا من حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبته: " ألا أخفضت ". وفي لفظ: " ألا احتطت، فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع (¬3) » رواه من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. قال ابن القيم: وقوله في الحديث (مناحبته) فالمناحبة: المخاطرة، وهي المراهنة من النحب، وهو النذر، وكلاهما مناحب، هذا بالعقد، وهذا بالنذر، وقوله: "ألا أخفضت "؟ يجوز أن يكون من الخفض وهو الدعة، والمعنى: هلا نفست المدة فكنت في خفض من أمرك ودعة، ويجوز أن يكون من الخفض الذي هو من الانخفاض أي: هلا استنزلتم إلى أكثر مما اتفقتم عليه. وقوله في اللفظ الآخر: "هلا احتطت " هو من الاحتياط أي: هلا أخذت بالأحوط، وجعلت الأجل أقصى ما ينتهي إليه البضع، فإن النص لا يتعداه. وقوله: (وذلك قبل تحريم الرهان) من كلام بعض الرواة، ليس من كلام أبي بكر ولا النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) سورة الروم الآية 4 (¬15) {فِي بِضْعِ سِنِينَ} (¬2) سورة الروم الآية 4 (¬1) {فِي بِضْعِ سِنِينَ} (¬3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3191) .

وقال ابن القيم أيضا: وقد اختلف أهل العلم في إحكام هدا الحديث ونسخه على قولين: فادعت طائفة نسخه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر والقمار، قالوا: ففي الحديث دلالة على ذلك، وهو قوله: وذلك قبل تحريم الرهان قالوا: ويدل على نسخه ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «" لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (¬1) » . والسبق: بفتح السين والباء، وهو الخطر الذي وقع عليه الرهان، وإلى هذا القول ذهب أصحاب مالك والشافعي وأحمد. وادعت طائفة أنه محكم غير منسوخ، وأنه ليس مع مدعي نسخه حجة يتعين المصير إليها. قالوا: والرهان لم يحرم جملة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم راهن في تسبيق الخيل، كما تقدم، وإنما الرهان المحرم الرهان على الباطل الذي لا منفعة فيه في الدين. وأما الرهان على ما فيه ظهور أعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، كما راهن عليه الصديق فهو من أحق الحق، وهو أولى بالجواز من الرهان على النصال وسباق الخيل والإبل أدنى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان وبالسيف، والقصد الأول إقامته بالحجة، والسيف منفذ. قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل؛ لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد، فجواز ذلك في المسابقة والمباردة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويعز الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى، وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية، قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق، قالوا: ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الجهاد (1700) ، سنن أبو داود الجهاد (2574) .

والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام ولا أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قمار فضلا عن أن يأذن فيه وهذا تقرير قول الفريقين (¬1) . وقال ابن العربي في أثناء الكلام على فقه حديث مراهنة أبي بكر للمشركين قال: إن الله حرم أكل المال بالباطل ومنه المناحبة على رهن، وقد كان ذلك يجري في صدر الإسلام كما كان يجري سائر الأحكام قبل بيان وجود الحلال والحرام حتى أنزل الله الآيات وفصل ذلك كله تفصيلا ولم يبق من ذلك شيء يستعمل إلا في سباق الخيل ونحوه تحريضا على الجهاد وتحضيضا به على التأهب للأعداء والاستعداد المبين في بحث الجهاد (¬2) . وأما بيان كون التأمين رهانا فإن كلا من التأمين والرهان معلق على خطر تارة يقع وتارة لا يقع، وقد أجاب الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك فقال: والجواب على هذه الشبهة قد أصبح واضحا من الجواب عن الشبهة السابقة- يشير بذلك- إلى الجواب عن قياس التأمين على القمار، فالمراهن معتمد على المصادفات والحظوظ كالمقامر وقد يضيع في التلهي به أوقاته ويقتل فعاليته ونشاطه كالمقامر. وأبرز المفارقات بين التأمين والرهان: أن الرهان ليس فيه أية صلة بترميم أضرار الأخطار العارضة على النشاط الاقتصادي المنتج من ميدان الحياة الإنسانية لا بطريق التعاون على تفتيت تلك الأضرار وتشتيتها ولا ¬

_ (¬1) [لفروسية] (5، 6) . (¬2) [عارضة الأحوذي] (12\ 68) ، تفسير سورة الروم

بطريق تحمل فردي غير تعاوني، ولا يعطي أحدا من المتراهنين أي أمان أو طمأنينة، كما هو الأثر المباشر في عقد التأمين، وفي هذا ما يكفي لهدم هذه الشبهة (¬1) . ونوقش هذا الجواب: بأنه قد أصبح واضحا أيضا من الجواب عن مناقشة الاستدلال على تحريم التأمين بقياسه على القمار، وأيضا فالمتعاقدان في التأمين يعتمدان على المصادفات والحظوظ، وغاية ما يحتاط به من إحصاء وتنسيق ومقاصة ونحوها أن يخفف قدر الخطر شيئا ما، لكن لا يزال الخطر فاحشا بالنسبة للمتعاقدين، فإن شركات التأمين وإن احتاطت بعملياتها الفنية للكسب فالخطر لا يزال يساورها بشدة بالنسبة لكل مستأمن وحده، بل لا يزال يساورها بالنسبة لمجموع المستأمنين وإن كان أقل من سابقه، فلم يخرج التأمين بذلك عن شبهه الوثيق بالقمار، ثم ليس كل ما كان نافعا ومساعدا على ترميم الأخطار ودفع الأضرار يكون جائزا حتى يغلب نفعه ضره، وخيره شره، وهيهات أن يتحقق ذلك في التأمين. ¬

_ (¬1) [عقد التأمين] ، ص (41) وما بعدها.

التأمين من أكل أموال الناس بالباطل وأكل المال الباطل ممنوع

وقالوا: التأمين من أكل أموال الناس بالباطل، وأكل المال الباطل ممنوع. وفيما يلي دليل حكم أكل المال بالباطل، وبيان معناه ووجه اشتمال عقد التأمين على أكل أموال الناس بالباطل. أما دليل الحكم: فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 188

الآية. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) وأما معناه: فقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أكل مال الغير بالباطل واختلفوا في تفسيره، ففسره أحمد بن فارس بذهاب الشيء (¬2) ، وذكر معنى ذلك الفيروزآبادي (¬3) . وقال ابن جرير في تفسير آية النساء: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها، ورجح هذا القول (¬4) . وقال أبو حيان في تفسير آية البقرة: {بِالْبَاطِلِ} (¬5) قال الزجاج: بالظلم، وقال غيره: بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغصب والنهب والقمار وحلوان الكاهن والخيانة والرشا وما يأخذه المنجمون وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع (¬6) وقال في تفسير آية النساء: والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة فيدخل فيه السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا وأثمان البياعات الفاسدة. وقد اختلف السلف في تفسير قوله: {بِالْبَاطِلِ} (¬7) فقال ابن عباس والحسن: هو أن يأكله بغير عوض، وعلى هذا التفسير ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 29 (¬2) [معجم مقاييس اللغة] (1\ 258) . (¬3) [القاموس المحيط] ، (3\ 324) ، ويرجع أيضا إلى [اللسان] ، (13\ 59) . (¬4) [تفسير ابن جرير] ، (5\ 20) . (¬5) سورة النساء الآية 29 (¬6) [البحر المحيط] (2 \ 56) . (¬7) سورة النساء الآية 29

قال ابن عباس: هي منسوخة؛ إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكا أو إرثا أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض، وقال السدي: هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به، وعلى هذا تكون الآية محكمة، وهو قول ابن مسعود والجمهور، وقال بعضهم: الآية مجملة؛ لأن معنى قوله: {بِالْبَاطِلِ} (¬1) بطريق غير مشروع، ولما لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل صارت الآية مجملة (¬2) ويمكن أن يقال في وجه اشتمال عقد التأمين على أكل أموال الناس بالباطل: أن ما يدفعه المستأمن مبلغ محدود وقد يأخذ أقل منه أو أكثر أو مثله أو لا يأخذ شيئا، ففي حالة ما إذا لم يأخذ المستأمن شيئا، أو أخذ أقل مما دفع فبأي حق تستحق الشركة ما أخذته بدون مقابل شرعي، وبأي وجه يستحق ورثة المستأمن أو المستفيد مبلغ التأمين إذا توفي قبل أن يدفع كامل الأقساط. وقد يستدل لدخول أخذه على ما وصف في عموم أكل المال بالباطل ما ثبت في [صحيح مسلم] وغيره من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (¬3) » . كما يدل لدخوله في عموم الآية ما تقدم من أدلة التحريم. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 29 (¬2) البحر المحيط، (3\ 23) . (¬3) صحيح مسلم المساقاة (1554) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4528) ، سنن أبو داود البيوع (3470) ، سنن ابن ماجه التجارات (2219) ، سنن الدارمي البيوع (2556) .

ذكر القائلين بالجواز مطلقا

الرأي الثاني: الجواز مطلقا: نذكر فيما يلي كلام طائفة ممن قالوا بالجواز مطلقا أو نسب إليهم القول بذلك، ثم نتبعه بأدلتهم مع المناقشة. أولا- ما نقل عن بعضهم من القول بالجواز: 1 - سئل الشيخ محمد عبده عن رجل يريد أن يتعاقد مع جماعة على أن يدفع لهم مالا من ماله الخاص على أقساط متساوية؛ ليعملوا فيه بالتجارة، واشترط معهم أنه إذا قام بما ذكره، وانتهى الاتفاق بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال، وكان حيا فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن يكون له حق الولاية في ماله أن يأخذ المبلغ، تعلق مورثهم مع الأرباح فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون- مفيدا لأربابه بما ينتجه لهم من الربح جائزا شرعا؟ الجواب: إنه لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائزا شرعا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيا ما يكون له من المال مع ما خصه من الربح، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته، أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح (¬1) لقد نقلت اللجنة هذه الفتوى وجوابها نظرا إلى أن شركات التأمين تحتج ¬

_ (¬1) [مجلة نور الإسلام] سابقا، وهي [مجلة الأزهر] الآن (1\ 679) .

قول الشيخ الحجوي

بها على الجواز، وبمطالعتها يتبين أنها ليست في موضوع التأمين. 2 - وقال الحجوي: كأنها- يريد عقود التأمين- عندي جمعية اكتتابية خيرية لإعانة المنكوبين بنظام والتزام تأخذ من مائة ألف رجل شيئا قليلا ما تعوض به نكبة رجل مثلا واستنباطها من قاعدة القليل في الكثير كثير لذلك يبقى لها ما يقوم بأجرة قيامها على ذلك وربما ربحت أرباحا عظيمة إذا قلت نكبات المضمونين فيها (¬1) . ¬

_ (¬1) [الفكر السامي] ، ص (307) .

قول عبد الرحمن عيسى

3- وقال عبد الرحمن عيسى: يجوز شرعا التأمين لدى شركات التأمين ضد أخطار الملكية وضد أخطار المسئولية المدنية، وكذلك التأمين على الحياة وضد سائر الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة، ويجوز في غير الصناعات والمهن الخطرة إذا كان تأمينا مختلطا (¬1) ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (479) .

قول محمد يوسف موسى

4 - وقال محمد يوسف موسى: إن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون التي تفيد المجتمع، والتأمين على الحياة يفيد المؤمن كما يفيد الشركة التي تقوم بالتأمين أيضا، وأرى شرعا أنه لا بأس إذا خلا من الربا بمعنى أن المؤمن عليه إذا عاش المدة المنصوص عليها في عقد التأمين استرد ما دفعه فقط دون زيادة، أما إذا لم يعش المدة المذكورة حق لورثته أن يأخذوا قيمة التأمين- أي: التعويض- وهذا حلال شرعا (¬1) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (382) .

قول مصطفى الزرقاء

5 - وقال مصطفى الزرقاء: الشرع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة قبلا من العقود، بل للناس أن يبتكروا أنواعا جديدة

تدعوهم حاجتهم الزمنية إليها بعد أن تستوفي الشرائط العامة المشار إليها (¬1) وقال أيضا: لا يوجد مانع من قواعد الشريعة الإسلامية يمنع جواز نظام التأمين في ذاته وبهذا يثبت حله شرعا (¬2) 6 - وقال عبد الوهاب خلاف: بجواز عقد التأمين على الحياة، وأنه عقد مضاربة، وسيأتي توجيهه لهذا الدليل وبيان رأيه في كون عقد التأمين صار عقد مضاربة (¬3) 7 - ومن القائلين بالجواز الأستاذ طه السنوسي، وسيأتي رأيه مفصلا ضمن استدلاله بولاء الموالاة على جواز عقد التأمين. ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (388) . (¬2) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (409) . (¬3) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (454) .

أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة

ثانيا- أدلة من أجازوا التأمين مطلقا مع المناقشة: وأمام كل دليل استدل به الفقهاء المعاصرون على الجواز نذكر كلام العلماء السابقين في المصادر التي اعتمد عليها الفقهاء المعاصرون في استدلالهم على الجواز. أ- قياس عقد التأمين على ولاء الموالاة: فيما يلي كلام المفسرين وغيرهم على آية ولاء الموالاة، ثم كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل. قال أبو جعفر النحاس: باب ذكر الآية السابقة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬1) فمن أصح ما روي في ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 33

هذه الآية إسنادا وأجله قائلا ما حدثناه أحمد بن شعيب قال: أخبرني هارون بن عبد الله قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثني إدريس بن يزيد، قال: حدثنا طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس «في قوله تعالى: فإنه كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرثون الأنصار دون رحم، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حتى نزلت الآية: قال: نسختها قال: من النصر والنصح والرفادة يوصى له وهو لا يرث، (¬4) » قال أبو عبد الرحمن: إسناده صحيح. قال أبو جعفر: فحمل هذا الحديث وأدخل في المسند على أن الآية ناسخة، وليس الأمر عندي كذلك، والذي يجب أن يحمل عليه الحديث أن يكون {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬5) ناسخا لما كانوا يفعلونه، وأن يكون {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬6) غير ناسخ ولا منسوخ، ولكن فسره ابن عباس وسنبين العلة في ذلك عند آخر هذا الباب، ولكن ممن قال: إن الآية منسوخة سعيد بن المسيب كما حدثنا جعفر بن مجاشع قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا مروان بن أبي الهذيل: أنه سمع الزهري يقول: أخبرني سعيد في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬7) قال: الحلفاء في الجاهلية، والذين كانوا يتبنون فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬8) فنزع الله ميراثهم وأثبت لهم الوصية. وقال الشعبي: كانوا يتوارثون حتى أزيل ذلك، وممن قال: إنها منسوخة: الحسن، وقتادة، كما قرأ علي عبد الله بن أحمد بن عبد السلام ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحوالات (2292) ، سنن أبو داود الفرائض (2922) . (¬2) سورة النساء الآية 33 (¬1) {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬3) سورة النساء الآية 33 (¬2) {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ} (¬4) سورة النساء الآية 33 (¬3) {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬5) سورة النساء الآية 33 (¬6) سورة النساء الآية 33 (¬7) سورة النساء الآية 33 (¬8) سورة النساء الآية 33

عن أبي الأزهر قال: حدثنا روح عن أشعب عن الحسن {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬1) قال: كان الرجل يعاقد الرجل على أنهما إذا مات أحدهما ورثه الآخر فنسختها آية المواريث، وقال قتادة: كان يقول: ترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك فنسختها: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬2) وقال الضحاك: كانوا يتحالفون فيتعاقدون على النصرة والوراثة، فإذا مات أحدهم قبل صاحبه كان له مثل نصيب أبيه فنسخ ذلك بالمواريث، ومثل هذا أيضا مروي عن ابن عباس مشروحا، كما حدثنا بكر بن سهل قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬3) كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه الآخر، فأنزل الله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (¬4) قال: هو أن يوصي له بوصية فهي جائزة من ثلث مال الميت فذلك المعروف، وممن قال: إنها محكمة مجاهد وسعيد بن جبير، كما قرأ علي إبراهيم بن موسى الحوريني عن يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا وكيع بن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬5) قال: من العقل والمشورة والرفادة، وقال سعيد بن جبير: فآتوهم نصيبهم من العون والنصرة. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 33 (¬2) سورة الأحزاب الآية 6 (¬3) سورة النساء الآية 33 (¬4) سورة الأحزاب الآية 6 (¬5) سورة النساء الآية 33

قال أبو جعفر: وهذا أولى مما قيل في الآية إنها محكمة لعلتين: إحداهما: أنه إنما يجعل النسخ على ما لا يصح المعنى إلا به وما كان منافيا، فأما ما صح معناه وهو متلو فبعيد من الناسخ والمنسوخ. والعلة الأخرى: الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الإسناد، كما حدثنا أحمد بن شعيب قال: أنبأنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدثنا إسحاق الأزرق عن زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن إبراهيم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة (¬1) » . فبين بهذا الحديث أن الحلف غير منسوخ، وبين الحديث الأول وقول مجاهد وسعيد بن جبير أنه في النصر والنصيحة والعون والرفد، ويكون ما في الحديث الأول من قول ابن عباس نسختها يعني {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} (¬2) ؛ لأن الناس يتوارثون في الجاهلية بالتبني وتوارثوا في الإسلام بالإخاء ثم نسخ هذا كله فرائض الله بالمواريث (¬3) وقال الجصاص: باب ولاء الموالاة: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬4) وروى طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬5) قال: كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم، فلما نزلت: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (¬6) نسخت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬7) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) . (¬2) سورة النساء الآية 33 (¬3) [الناسخ والمنسوخ] ، ص (107- 109) المكتبة العلامة بجوار الأزهر 1357 هـ. (¬4) سورة النساء الآية 33 (¬5) سورة النساء الآية 33 (¬6) سورة النساء الآية 33 (¬7) سورة النساء الآية 33

قال: من النصر والرفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬1) قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (¬2) يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، فذلك المعروف. وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬3) قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية، فيموت فيرثه، فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه، وقال سعيد بن المسيب: هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم، فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية، ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة. قال أبو بكر: قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام، وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة، ثم قال قائلون: إنه منسوخ بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬4) وقال آخرون: ليس بمنسوخ من الأصل، ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة، فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه. واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: من أسلم على يدي رجل ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 33 (¬2) سورة الأحزاب الآية 6 (¬3) سورة النساء الآية 33 (¬4) سورة الأحزاب الآية 6

ووالاه وعاقده، ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له. وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي: ميراثه للمسلمين، وقال يحيى بن سعيد: إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه، ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين، فولاؤه للمسلمين عامة، وقال الليث بن سعد: من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره. وقال أبو بكر: الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه أصحابنا؛ لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام وحكم الله به في نص التنزيل، ثم قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} (¬1) فجعل ذوي الأرحام أولى من المعاقدين الموالي، فمتى فقد ذوو الأرحام وجب ميراثهم بقضية الآية إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا، فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي الأرحام، وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر (¬2) قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب «عن تميم الداري أنه قال: يا رسول الله، ما السنة في الرجل يسلم؟ ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 6 (¬2) صدوق يخطئ.

على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته (¬1) » ، فقوله: "هو أولى الناس بمماته "، يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث، وهو في معنى قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬2) يعني: ورثة، وقد روي نحو قول أصحابنا في ذلك عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم، وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس؟ قال: لا بأس به، قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب، وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال: من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه، وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: «كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل بطن عقوله، وقال: " لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم (¬3) » . وقد حوى هذا الخبر معنيين: أحدهما: جواز الموالاة؛ لأنه قال: "إلا بإذنهم" فأجاز الموالاة بإذنهم. والثاني: أن له أن يتحول بولاية إلى غيره إلا أنه كره إلا بإذن الأولين، ولا يجوز أن يكون مراده - عليه السلام - في ذلك إلا في ولاء الموالاة؛ لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لحمة كلحمة النسب (¬4) » . فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الفرائض (2112) ، سنن أبو داود الفرائض (2918) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2752) ، مسند أحمد بن حنبل (4/103) ، سنن الدارمي الفرائض (3033) . (¬2) سورة النساء الآية 33 (¬3) صحيح مسلم العتق (1507) ، سنن النسائي القسامة (4829) ، مسند أحمد بن حنبل (3/342) . (¬4) سنن الدارمي الفرائض (3159) .

عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة (¬1) » . قال: فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به. قيل له: يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية؛ وذلك لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول: هدمي هدمك، ودمي دمك وترثني وأرثك، وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل، وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى ينتصف منه، وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (¬2) فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب، وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما، قال: أن ترده عن الظلم، فذلك معونة منك له (¬3) » ، وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا حلف في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) . (¬2) سورة النساء الآية 135 (¬3) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .

الإسلام (¬1) » التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم، وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه، ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حلف في الإسلام (¬2) » . وأما قوله: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة (¬3) » ، فإنه يحتمل أن الإسلام قد زاد شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله فكأنه قال: إذا لم يجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك. انتهى المقصود (¬4) . وقال أبو بكر ابن العربي: المسألة الرابعة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬5) اختلف الناس فيه وابن عباس، فتارة قال: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (¬6) يعني: تؤتوهم من الوصية جميلا وإحسانا في الثلث المأذون فيه، وتارة قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم فكان الأنصاري يرث المهاجري، والمهاجري يرث الأنصاري فنزلت هذه الآية، ثم انقطع ذلك فلا تواخي بين أحد اليوم. وقال ابن المسيب: نزلت في الذين كانوا يتبنون الأبناء فرد الله الميراث إلى ذوي الأرحام والعصبة وجعل لهم نصيبا في الوصية. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) . (¬2) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) . (¬3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) . (¬4) [أحكام القرآن] ، (2\ 225- 228) طبع بالمطبعة البهية بمصر سنة 1347 هـ (¬5) سورة النساء الآية 33 (¬6) سورة الأحزاب الآية 6

وقد أحكم ذلك ابن عباس في الصحيح بيانا بما رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برهانا، قال البخاري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الصحيح، «قال: ورثة، والذين عقدت أيمانكم فكان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما نزلت نسخت. ثم قال: من النصرة والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له، (¬4) » وهذه غاية ليس لها مطلب (¬5) . وقال القرطبي بعد ذكره لرواية البخاري عن ابن عباس المتقدمة قال: قال أبو الحسن بن بطال: وقع في جميع النسخ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬6) قال: نسختها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬7) والصواب أن الآية الناسخة {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬8) والمنسوخة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬9) وكذا رواه الطبري في روايته. وروي عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬10) قوله تعالى في الأنفال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬11) وروي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري وهو الذي انتبه أبو عبيد في كتاب [الناسخ والمنسوخ] ، له. وفيها قول آخر: رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عز وجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الإسلام أن يجعل لهم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4580) ، سنن أبو داود الفرائض (2922) . (¬2) سورة النساء الآية 33 (¬1) {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬3) سورة النساء الآية 33 (¬2) {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬4) سورة النساء الآية 33 (¬3) {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬5) [أحكام القرآن] ، (1\ 414، 415) ، الطبعة الأولى الحلبية، سنة 1376هـ. (¬6) سورة النساء الآية 33 (¬7) سورة النساء الآية 33 (¬8) سورة النساء الآية 33 (¬9) سورة النساء الآية 33 (¬10) سورة النساء الآية 33 (¬11) سورة الأحزاب الآية 6

نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة. وقالت طائفة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1) محكم وليس بمنسوخ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك، ذكره الطبري عن ابن عباس {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬2) من النصرة والنصيحة والرفادة، ويوصي لهم، وقد ذهب الميراث، وهو قول مجاهد والسدي. قلت: واختاره النحاس، ورواه سعيد بن جبير، ولا يصح النسخ فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري، ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير (¬3) . وقال أيضا: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬4) يعني: بالحلف، عن قتادة، وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ (¬5) . وقال ابن حجر على قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬6) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة. وهكذا حملها ابن عباس على من آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وحملها غيرهم على أعم من ذلك، فأسند الطبري عنه قال: كان الرجل يحالف ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 33 (¬2) سورة النساء الآية 33 (¬3) [تفسير القرطبي] ، (5\ 165، 166) . (¬4) سورة النساء الآية 33 (¬5) [تفسير القرطبي] ، (5\ 166) ، طبع مطبعة دار الكتب المصرية، سنة 1356 هـ. (¬6) سورة النساء الآية 33

الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك، ومن طريق سعيد بن جبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر مولى فورثه. وقال أيضا على قوله: فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬1) نسخت. هكذا وقع في هذه الرواية أن ناسخ ميراث الحليف هذه الآية. وروى الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل يعاقد الرجل فإذا مات ورثه الآخر فأنزل الله عز وجل {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} (¬2) يقول: إلا أن توصوا لأوليائكم الذين عاقدتم. ومن طريق قتادة: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك وترثني وأرثك فلما جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث وهو السدس ثم نسخ بالميراث فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬3) ومن طرق شتى عن جماعة من العلماء كذلك، وهذا هو المعتمد. ويحتمل أن يكون النسخ وقع مرتين. الأولى حيث كان المعاقد يرث وحده دون العصبة فنزلت {وَلِكُلٍّ} (¬4) وهي آية الباب فصاروا جميعا يرثون وعلى هذا يتنزل حديث ابن عباس ثم نسخ ذلك آية الأحزاب، وخص الميراث بالعصبة وبقي للمعاقد النصر والإرفاد ونحوهما، وعلى هذا يتنزل بقية الآثار، وقد تعرض له ابن عباس في حديثه أيضا لكن لم يذكر الناسخ الثاني ولا بد منه. والله أعلم. وقال أيضا على قوله: ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬5) من ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 33 (¬2) سورة الأحزاب الآية 6 (¬3) سورة الأحزاب الآية 6 (¬4) سورة النساء الآية 33 (¬5) سورة النساء الآية 33

النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له: كذا وقع فيه وسقط منه شيء بينه الطبري في روايته عن أبي كريب عن أبي أسامة بهذا الإسناد ولفظه، ثم قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬1) من النصر إلخ، فقوله من النصر يتعلق بآتوهم لا بعقدت ولا بأيمانكم وهو وجه الكلام. انتهى المقصود (¬2) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما (المؤاخاة) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة، حتى أنزل الله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬3) فصاروا يتوارثون بالقرابة، وفي ذلك أنزل الله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬4) وهذا هو المحالفة. واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ على قولين: أحدهما: أن ذلك منسوخ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في [صحيح مسلم] عنه أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة (¬5) » . والثاني: أن ذلك محكم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى (¬6) . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 33 (¬2) [فتح الباري] (8\ 247- 249) طبع المطبعة السلفية. (¬3) سورة الأحزاب الآية 6 (¬4) سورة النساء الآية 33 (¬5) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2530) ، سنن أبو داود الفرائض (2925) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) . (¬6) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (11\ 99، 100) ، ويرجع أيضا إلى (35\ 92- 98) .

وأما كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل: فقال الأستاذ طه السنوسي: ولاء الموالاة في التشريع الإسلامي هو عبارة عن رابطة قانونية بين شخصين بمقتضاها يتعاقدان على أن يعقل أولهما وهو (مولى الموالاة) عن الآخر وهو (المعقول عنه) إذا جنى أن يدفع الدية في مقابل ميراثه منه إذا توفي غير مخلف وارثا قط. وقد اختلف في صحة هذا العقد ونفاذه من حيث كونه سببا من أسباب الميراث ويمكن إجمال وجهات النظر في هذا الصدد في رأيين، قال: أولهما بصحته وجوازه واعتباره سببا للإرث، وقال: ثانيهما ببطلانه ورفضه سببا له. الرأي القائل بالرفض والبطلان: قال بهذا الرأي جمهور الفقهاء، ومنهم الشافعي ومالك وأحمد وأسانيده تتلخص في أربعة: أولها: ورد نص صريح في القرآن المصدر الأول للتشريع الإسلامي هو قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬1) بمقتضاه يكون ذو القرابات بعضهم أولى ببعض في الإرث من التوارث بسبب عقد الموالاة ذلك العقد الذي عرف في الجاهلية. وثانيها: ورود نص ثابت في الحديث المصدر الثاني للتشريع، بمقتضاه «الولاء لمن أعتق (¬2) » وهو يحصر الولاء في نوع واحد هو ولاء العتاقة، وعلى ذلك يعتبر باطلا كل ولاء سواه. وثالثها: أن عقد الموالاة فيه في الواقع وصية بجميع المال، والوصية بجميع المال ممن لا وارث له غير جائزة عند الشافعي؛ لأن وارث من لا وارث له هو جماعة المسلمين ولا يستطيع المورث أن يبطل حق هذه ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 6 (¬2) صحيح البخاري الزكاة (1493) ، سنن الترمذي البيوع (1256) ، سنن أبو داود العتق (3929) .

الجماعة، تفريعا على عدم إبطال حق ورثته في حالة ما إذا كان له ورثة بالوصية بجميع ماله. ورابعها: قول الشافعي: إن الملك بطريق الوراثة لا يثبت ابتداء، وإنما يثبت على سبيل الخلافة، وأن أسباب الإرث معلومة شرعا لكن عقد الموالاة ليس منها. الرأي القائل بالجواز والصحة: وقد قال به عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم -، وقال به كذلك أبو حنيفة وأصحابه، وهو الرأي الصحيح، والراجح والذي أميل إليه، وأسانيده تتلخص في خمسة: أولها: وجود هذا الولاء باعتباره سببا للإرث في الجاهلية، وإقرار الإسلام له حين جاء، وذلك بنص صريح في المصدر الأول للتشريع هو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (¬1) ومقتضاها أنه يجب أن تعطوا حلفاءكم الذين تعاقدتم وإياهم على النصرة والميراث - نصيبهم منه؛ لأن ذلك المقتضي للعقد، ولا يرد على ذلك بوجود نص صريح آخر في المصدر نفسه بمقتضاه يكون ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في الإرث من التوارث بسبب عقد الموالاة؛ لأن هذا النص الأخير ليس نصا على الأولوية في الميراث، ثم إنه لا يتعارض مع النص الأول، وذلك لأن حق الإرث المقرر لمولى الموالاة لا يثبت له إلا عند عدم وجود (أولي الأرحام) فمرتبته في الإرث متأخرة عن مرتبة ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 33

هؤلاء، بل وعن مرتبة مولى العتاقة وعصبته، وما دام ليس بين النصوص التشريعية من تعارض ما فالواجب إعمال كل فيما يخصه. وثانيها: أن الحديث القائل بأن «الولاء لمن أعتق (¬1) » ليس الحصر فيه حقيقيا، بل إضافيا، أي: أن الولاء لمن أعتق لا لغيره ممن كان أجنبيا لقصة بريرة وفيه: «الولاء لمن أعتق (¬2) » ولهذا لا يكون هذا الحديث نافيا استحقاق الإرث بسبب ولاء الموالاة، جاء في حديث تميم الداري - رضي الله عنه -، أنه سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن الرجل ليأتيني فيسلم على يدي ويواليني فقال الرسول: هو أخوك ومولاك فأنت أحق به محياه ومماته» والمقصود محياه تحمل عقل الجريمة عنه، ومماته في الإرث منه. وثالثها: أن ولاء الموالاة متصل بالوصية بجميع المال وهي صحيحة ممن لا وارث له؛ لأن من لا وارث له يصرف ماله إلى بيت مال المسلمين، ومن حيث إن الموصى له هو أحد هؤلاء المسلمين يشركهم في دين الله، ومن حيث إنه قد ترجح بإيجاب الموصى له فمن أجل ذلك هو أولى من هذا البيت، وكذلك الأمر بالنسبة لمن عاقده مولى الموالاة عقد الموالاة. [43\ المبسوط] ورابعها: أنه فيما يتعلق بخلافة الوارث الموروث في ماله، الظاهر أن الإنسان في شأن هذه الخلافة إنما يؤثر قرابته على الأجانب، ومن أجل ذلك اقتضت حكمة التشريع الحنيف أن يقدم الأقرب على الأبعد فيها؛ لأن الموروث نفسه يفعل ذلك ويريده في أغلب الأحوال. والمسألة لا تخلو من فرضين: الأول: أن يكون أحد من قرابته وفي هذه الحالة يوجد النظر من الشرع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الزكاة (1493) ، سنن الترمذي البيوع (1256) ، سنن أبو داود العتق (3929) . (¬2) صحيح البخاري الزكاة (1493) ، سنن الترمذي البيوع (1256) ، سنن أبو داود العتق (3929) .

له ويقع الاستغناء عن نظره لنفسه. والثاني: أن لا يكون أحد من قرابته، وهنا تقع الحاجة إلى نظره لنفسه فإذا نظر إليها وعقد عقد الموالاة مع شخص ما، اعتبر ذلك منه تصرفا صحيحا في خالص حقه على سبيل النظر منه لنفسه. وخامسها: أن عدم الدليل المقول به في شأن إثبات بين الوارث والموروث بطريق العقد عن قصد فيه نظر؛ لأن إثبات هذه الخلافة بالعقد قصدا مشروع بالاتفاق وذلك في عقد النكاح، إذ المعروف أن الزوجة التي أساسها العقد وتوافق الإرادتين هي سبب للميراث، ومن أجل هذا ينتفي القول بعدم الدليل في إثبات الخلافة عن طريق عقد الموالاة (¬1) . وقال أيضا: يعرف التأمين بوجه عام: بأنه عملية يحصل بها أحد الطرفين وهو المستأمن أو المؤمن له على تعهد لمصلحته أو لمصلحة غيره في نظر مقابل مال، ويتعهد فيها الطرف الآخر وهو المؤمن بدفع عوض مالي في حالة تحقق خطر معين، أي: بتحميله تبعية مجموعة من المخاطر. ولعقد التأمين أركان أربعة: أولها: الخطر، ويشترط فيه أن يكون حادثا احتماليا مستقبلا، وليس إراديا محضا. وثانيها: المقابل المالي الذي يحصل عليه المؤمن من المستأمن؛ ليتحمل الأول تبعة الخطر المؤمن منه، وهنا يبدو أن عقد التأمين معاوضة تنشئ التزامات متقابلة في ذمة الطرفين. ¬

_ (¬1) [مجلة الأزهر] (25\ 223) وما بعدها.

وثالثها: العوض المالي الذي يلتزم المؤمن دفعه عند تحققه. ورابعها: المصلحة في التأمين أو المصلحة القابلة للتأمين ... وقد أسلفت التكييف القانوني لعقد الموالاة في التشريع الإسلامي. ومنه يتضح أن أركانه تتفق إلى حد كبير وأركان عقد التأمين في صورة التأمين على المسئولية في التشريع الحديث، فهو أولا عقد بين طرفين: أولهما: (مولى الموالاة) يقابل المؤمن وهو شركة التأمين. وثانيهما: (المعقول عنه) وهو المستأمن أو المؤمن له وهو يتضمن ثانيا عنصر (العوض المالي) الذي يلتزم المؤمن (وهو مولى الموالاة) دفعه عند تحقق الخطر المؤمن منه، وهو يتمثل في الدية أو التعويض عن الجريمة التي ينتج عنها الضرر للغير المستحق له كما هو الحال في المسئولية الناشئة عن الأضرار الناشئة من ارتكاب جريمة تترتب عليها الغرامة المالية، وهو يتضمن ثالثا (عنصر المقابل المالي) الذي يحصل عليه (مولى الموالاة المؤمن) مقابل تحمله تبعة الخطر وهو يتمثل في (مال الشركة المورثة) إذا توفي عنه (المعقول عنه المستأمن) غير مخلف وارثا مطلقا باستثناء الحالة التي يوجد فيها مع مولى الموالاة أحد من الزوجين، فيكون ما يتبقى من مال التركة بعد فرض هذا الزوج حقا مستحقا لهذا المولى المؤمن، أما شرط المصلحة في التأمين فمفهوم كما سلف أنه من مستلزمات صورة التأمين على المسئولية، وهي الصورة التي ينطبق عقد ولاء الموالاة عليها (¬1) . . انتهى المقصود من كلام السنوسي. ¬

_ (¬1) [مجلة الأزهر] (25\ 303) وما بعدها

وقد اعترض على هذا القياس بما يأتي: أولا: نلاحظ على تشبيهه ولاء الموالاة بعقود التأمين التي تعقد بين المستأمن بأن هناك عنصرا معنويا يقوم عليه ولاء الموالاة وهو مفقود في عقد التأمين، ولهذا العنصر المعنوي من عظيم الأهمية ما يجعل ولاء الموالاة غير عقد التأمين، أن الولاء في الإسلام- من حيث هو- صلة ولحمة كصلة القرابة ولحمتها ومولى القوم منهم، وكبار أئمة الإسلام الذين يتصلون ببعض القبائل بصلة الولاء يفتخرون بهذه الصلة حتى بعد زوالها؛ لأنهم يعتبرونها قرابة كقرابة الدم ولحمة كلحمة الرحم وهذا المعنى الأدبي موجود في ولاء الموالاة؛ لأنه ولاء على كل حال، والولاء نصرة وفيه كل ما في معاني التبني والإخاء والقرابة، والرجلان اللذان يتعاقدان عقد الموالاة يترابطان برباط القرابة والتناصر الأدبي حتى يكون ذلك هو الأصل في هذا التعاقد، ثم تكون نتائجه المالية من ثمرات ذلك. أما عقود التأمين فلا حظ فيها لهذا العنصر المعنوي، وإنما هي تعاقد بين مصالح مالية محضة، للمخاطرة دخل كبير فيها، وما ينتظره المتعاقد عقد الولاء من معونة صاحبه له في الحياة وأعبائها الأدبية والمادية لا ينتظره المتعاقدان عقد تأمين إلا فيما نص عليه العقد من نتائج مالية محدودة لا مطمع في غيرها؛ لأنها في سبيل غير سبيل عقد الموالاة (¬1) وأجاب الأستاذ الزرقاء عن ذلك: بأن الشبه الذي رأيناه بين عقد الموالاة وعقد التأمين ليس هو بين الموالاة والتأمين على الحياة، وإنما هو ¬

_ (¬1) [مجلة الأزهر] (2\ 307) (تعليق) . .

بين الموالاة والتأمين من المسئولية كما أوضحناه وأوضحه الأستاذ طه السنوسي الذي نقلنا أيضا رأيه وبحثه بمقتضى عقد الموالاة يتحمل المولى المسئولية المدنية، أي: الضمان المالي الذي يترتب على المولى نتيجة لجناية الخطأ الصادرة منه، وذلك بسبب العقد (عقد الموالاة) رغم أن المولى المتعاقد لم يجن شيئا، وفي مقابل هذا التحمل (الاحتمالي غير المحقق) يستفيد الموالي الإرث من المولى إن مات عن غير وارث (وهو أيضا عوض احتمالي غير محقق) فكذلك التأمين من المسئولية- وهو من أهم فروع نظام التأمين- كالتأمين من المسئولية في حوادث السيارة مثلا حيث يكون المالك والسائق مسئولين ماليا بما تلحقه السيارة بالغير من أضرار في حوادثها التي هي من جنايات الخطأ، ذلك أن الحوادث التي تقع من السيارة مثلا لا يقتصر ضررها على السيارة نفسها، بل قد تصيب الغير بأضرار بالغة في النفس والمال تترتب عليها التزامات مالية بالدية أو بالتعويض هي التي تسمى: المسئولية، فالتأمين من حوادث السيارة قد يكون لما يصيبها هي من ضرر فتلتزم شركة التأمين بإصلاحه، وقد يكون لما يترتب على صاحبها من مسئولية مالية تجاه الغير إن ألحقت ضررا بالغير وهذا من قبيل ما يسمى: التأمين من المسئولية. وهو كما يرى محكم الشبه بنظام الموالاة الذي استدللنا به، حيث يتحمل فيه الموالي عن المولى ما يلحق ذلك المولى من ضمان مالي نتيجة لما يقع منه من جنايات الخطأ في مقابل أن الموالي يرثه إذا مات من غير وارث، فأي صلة أقوى من هذه الصلة، وهذا الشبه المحكم بين الموضوعين. والتأمين من المسئولية لا ينحصر في حوادث السيارات كما هو معلوم،

بل هو فرع واسع جدا في نظام التأمين يمكن أن يجري فيه التأمين على جميع أنواع المسئوليات المدنية سوى مسئولية الشخص عن فعله العمد. . (¬1) ثانيا: اعترض بأن قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة قياس مع الفارق المؤثر، وبيانه من وجوه. الأول: روى مسلم في [صحيحه] عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: «كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسر المسلمون رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الوثاق فقال: يا محمد، فأتاه فقال: "ما شأنك "؟ فقال: بم أخذتني وأخذت سابلة الحجاج، فقال إعظاما لذلك: " أخذت بجريرة حلفائك ثقيف " ثم انصرف فناداه: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقيقا فرجع إليه فقال: "ما شأنك؟ " فقال: إني مسلم، قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح (¬2) » الحديث. فهل المستأمن حينما يتعاقد مع شركات التأمين يكون عضوا فيما ستفيد من فوائدها ويتحمل خسارتها ويؤخذ بجريرتها كما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجريرة حلفائه، الواقع أن هذا غير صحيح. الوجه الثاني: أن شركة التأمين ضامنة ومتحملة لمسئولية المستأمن عند وقوعه في الخطأ، والمستأمن ليس عليه سوى دفع القسط مهما عظم الخطر على شركات التأمين، وهذا بخلاف عقد الموالاة في الإسلام فكل ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (541، 542) . . (¬2) صحيح مسلم النذر (1641) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3316) ، مسند أحمد بن حنبل (4/434) .

منهما يعقل عن الآخر ويرثه. والوجه الثالث: أن الهدف الأساسي والغاية القصوى من ولاء الموالاة هو النصرة، ومن التأمين الكسب المادي المحض لقاء أخطار قد تقع وقد لا تقع.

قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية

ب - قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند المالكية: فيما يلي كلام العلماء السابقين في الوعد، هل يجب الوفاء به أولا؟ ثم ما تيسر من كلام علماء العصر في هذا الدليل مع المناقشة: قال أحمد بن علي الرازي في كلامه على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬2) قال أبو بكر: يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة أو أوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به، إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلا ما لا يفعل وقد ذم الله فاعل ذلك وهذا فيما لم يكن معصية. . . . وكذلك الوعد بفعل يفعله في المستقبل وهو مباح فإن الأولى الوفاء مع الإمكان، فأما قول القائل: إني سأفعل كذا، فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة الله، وأن يكون في عقد ضميره. الوفاء به ولا جائز له أن يعدو في ضميره أن لا يفي به؛ لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله عليه، وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك مكروه؛ لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا، فغير جائز له إطلاق القول في مثله مع خوف إخلاف فيه (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة الصف الآية 2 (¬2) سورة الصف الآية 3 (¬3) [أحكام القرآن] (3\ 543) وما بعدها.

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا فهذا لازم إجماعا من الفقهاء، وإن كان وعدا مجردا، فقيل: يلزم بمطلقه، وتعلقوا بسبب الآية فإنه روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهو حديث لا بأس به، وقد روى مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال: لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل، والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. قلت: قال مالك: فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له أن لا يفعل، فما أرى ذلك يلزمه، وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي إليكم فإن هذا يلزمه، وأما أن يقول: نعم أنا أفعل ثم يبدو له فلا أرى عليه ذلك. قلت: أي: لا يقضي عليه بذلك، فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم، وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره، فقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} (¬1) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (¬2) وقد تقدم بيانه. وقال القرطبي أيضا: الرابعة قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬3) استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 177 (¬2) سورة مريم الآية 54 (¬3) سورة الصف الآية 2

عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي فيكون كذبا وأما في المستقبل فيكون خلفا وكلاهما مذموم وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1) أي: لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون، فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول (¬2) . وقال القرطبي أيضا: وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العدة لا يلزمه منها شيء؛ لأنها منافع لم يقبضها في العارية؛ لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. انتهى المقصود (¬3) وقال القرافي: الفرق الرابع عشر والمئتان بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد وما يجب الوفاء به منه وما لا يجب. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬4) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬5) والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزمه أن يكون كذبا محرما، وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا. وقال عليه السلام: «من علامة المنافق ثلاث: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف (¬6) » ، فذكره في سياق الذم دليل على التحريم، ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وأي المؤمن واجب» أي: وعده واجب الوفاء به. وفي [الموطأ] «قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكذب ¬

_ (¬1) سورة الصف الآية 2 (¬2) [تفسير القرطبي] (18\ 79، 80) . (¬3) [تفسير القرطبي] (11\ 116) . (¬4) سورة الصف الآية 2 (¬5) سورة الصف الآية 3 (¬6) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .

لامرأتي؟ فقال - عليه السلام -: لا خير في الكذب (¬1) » ، فقال: يا رسول الله، أفأعدها وأقوله لها؟ فقال - عليه السلام -: «لا جناح عليك (¬2) » ، فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل، فإن رضى النساء إنما يحصل به، ونفى الجناح على الوعد، وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا؛ لجعله قسيم الكذب. وثانيهما: أن إخلاف الوعد لا حرج فيه، ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه، ولما ذكره مقرونا بالكذب، ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه. وفي أبي داود قال - عليه السلام -: «إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه (¬3) » . فهذه الأدلة تقتضي عدم الوفاء بالوعد وأن ذلك مباح، والكذب ليس بمباح فلا يكون الوعد يدخله الكذب عكس الأدلة الأول. واعلم أنا إذا فسرنا الكذب بالخبر الذي لا يطابق لزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة مع أن ظاهر الحديث يأباه، وكذلك عدم التأثيم فمن الفقهاء من قال: الكذب يختص بالماضي والحاضر، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل فلا يدخله الكذب، وسيأتي الجواب عن الآية ونحوها إن شاء الله تعالى. ومنهم من يقول: لم يتعين عدم المطابقة في المستقبل بسبب أن المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم ولم يقع فيه بعد وجود ولا عدم فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة ولا بالمطابقة؛ لأنه لم يقع بعد ما يقتضي أحدهما. وحيث قلنا: الصدق: القول المطابق، والكذب: القول ¬

_ (¬1) موطأ مالك الجامع (1859) . (¬2) موطأ مالك الجامع (1859) . (¬3) سنن الترمذي الإيمان (2633) ، سنن أبو داود الأدب (4995) .

الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل، وذلك مختص بالحال والماضي، وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة وعدمها، ونحن متى حددنا بوصف نحو قولنا في الإنسان: الحيوان الناطق أو نحوه، إما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقول، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا؛ لأنه قابل للحياة والنطق، وهذا التعليل يؤيد القول الأول. ومنهم من يقول: الكل يدخله الكذب، وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف، فعلى هذا لا فرق بين الكذب والوعد، والأول هو الذي ظهر لي؛ لعدم تعيين المطابقة وعدمها اللذين هما ضابطا الصدق والكذب، وعلى ذلك يقع الفرق بينه وبين الكذب وبين الصدق، فلا يوصف بواحد منهما ويختص بالماضي والحاضر- وبعد إيراده اعتراضا وإجابته عنه قال: واعلم أن الفقهاء اختلفوا في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا؟ قال مالك: إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت: نعم، ثم بدا لك لا يلزمك، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد؛ لأجله لزمك، لإبطالك مغرما بالتأخير. قال سحنون: الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به واخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأن أسلفك؛ لأنك أدخلته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق، وقال أصبغ: يقضي عليك به تزوج الموعود أم لا. وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا، لزمك، تسبب في ذلك أم لا. والذي لا يلزم من ذلك أن تعده من غير ذكر سبب فيقول: أسلفني كذا، فتقول:

نعم. بذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وإن وعدت غريمك بتأخير الدين لزمك؛ لأنه إسقاط لازم للحق سواء قلت له: أؤخرك، أو أخرتك، وإذا أسلفته فعليك تأخيره مدة تصلح لذلك، وحينئذ تقول: مرجع الجمع بين الأدلة المتقدمة التي يقتضي بعضها الوفاء به وبعضها عدم الوفاء به أنه إن أدخله في سبب يلزم بوعده لزم، كما قال مالك وابن القاسم وسحنون أو وعده مقرونا بذكر السبب، كما قال أصبغ؛ لتأكد العزم على الدفع حينئذ، ويحمل عدم اللزوم على خلاف ذلك مع أنه قد قيل في الآية: إنها نزلت في قوم كانوا يقولون: جاهدنا وما جاهدوا، وفعلنا أنواعا من الخيرات وما فعلوها، ولا شك أن هذا محرم؛ لأنه كذب، ولأنه تسميع بطاعة الله، وكلاهما محرم ومعصية اتفاقا، وأما ما ذكر من الإخلاف في صفة المنافق فمعناه: أنه سجية له ومقتضى حاله الإخلاف ومثل هذه السجية يحسن الذم بها كما يقال: سجيته تقتضي البخل والمنع فمن كانت صفاته تحث على الخير مدح أو تحث على الشر ذم شرعا وعرفا. واعلم أنه لا بد في هذا الفرق من مخالفة بعض الظواهر إن جعلنا الوعد يدخله الكذب بطل؛ لقوله - عليه السلام - للسائل لما قال له: أأكذب لامرأتي؟ قال: لا خير في الكذب، وأباح له الوعد، وهو ظاهر في أنه ليس بكذب ولا يدخله الكذب، ولأن الكذب حرام إجماعا فيلزم معصيته فيجب الوفاء به نفيا للمعصية وليس كذلك، وإن قلنا: إن الكذب لا يدخله ورد علينا ظواهر وعد الله ووعيده فلا بد من الجمع بينهما وما ذكرته أقرب

الطرق في ذلك (¬1) . وقال ابن حجر: قوله: (باب من أمر بإنجاز الوعد) وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه، قاله الكرماني، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا، فتزوج لذلك وجب الوفاء به. وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك بالقبض أو قبله، وقرأت بخط أبي - رحمه الله - في إشكالات على [الأذكار] للنووي، ولم يذكر جوابا عن الآية يعني: قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬2) وحديث آية المنافق، قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد، وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء؟ أي: يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك (¬3) . وقال محمد بن مفلح: ولا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه (وهـ ش) ؛ لأنه يحرم بلا استثناء؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (¬4) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬5) ¬

_ (¬1) [الفروق] (4\ 20- 25) . (¬2) سورة الصف الآية 3 (¬3) [فتح الباري] (5\ 290) طبع المطبعة السلفية ومكتبتها. (¬4) سورة الكهف الآية 23 (¬5) سورة الكهف الآية 24

ولأنه في معنى الهبة قبل القبض. وذكر شيخنا وجها: يلزم، واختاره، ويتوجه أنه رواية من تأجيل العارية والصلح عن عوض المتلف بمؤجل. ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال: بخلف المواعيد، وهذا متجه، وقاله من الفقهاء ابن شبرمة، وقال ابن العربي المالكي: أجل من قاله عمر بن عبد العزيز؛ لقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} (¬1) ولخبر: «آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف (¬2) » . وحملا على وعد واجب. وبإسناد حسن «العدة عطية» ، وبإسناد ضعيف «العدة دين» ، وذكر أبو مسعود الدمشقي والبرقاني أن مسلما روى «ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه (¬3) » ، ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بإسناد حسن «ثم لا يفي له (¬4) » ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور. وفيه: والسعيد من وعظ بغيره. وفيه عبيد بن ميمون المدني روى عنه غير واحد، ووثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: مجهول، وعن ابن مسعود مرفوعا: «لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده ثم تخلفه» رواه الترمذي وغيره. قال ابن الجوزي: فائدة الاستثناء خروجه من الكذب إذا لم يفعل، كقوله: ستجدني - إن شاء الله صابرا، وذكر القاضي في مسألة الفرار من الزكاة لما قيل له: إن أصحاب الجنة عوقبوا على ترك الاستثناء في القسم، قال: لا؛ لأنه مباح، وعلى أن الوعيد عليهما. ومذهب (م) يلزم ¬

_ (¬1) سورة الصف الآية 3 (¬2) خرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة. (¬3) سنن ابن ماجه المقدمة (46) ، مسند أحمد بن حنبل (1/410) ، سنن الدارمي الرقاق (2715) . (¬4) سنن ابن ماجه المقدمة (46) .

لسبب، كمن قال لغيره: تزوج وأعطيك كذا، واحلف لا تشتمني ولك كذا وإلا لم يلزم، وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي النعمان عن أبي وقاص - ولا يعرفان- عن زيد بن أرقم مرفوعا: «إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه (¬1) » ، وتقدم آخر كتاب العهد وأنه غير الوعد، ويكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفظ والرعاية والوصية وغير ذلك، وفي سيد الاستغفار: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت (¬2) » . قال ابن الجوزي: قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به الذي يحسن فعله، والوعد من العهد، وقال في وأوفوا بالعهد: عام فيما بينه وبين ربه وبين الناس، ثم قال الزجاج: كل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو من العهد (¬3) . وقال ابن حزم: مسألة، ومن وعد آخر بأن يعطيه مالا معينا أو غير معين أو بأنه يعينه في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك، وكان الأفضل لو وفى به، وسواء أدخله بذلك في نفقته أو لم يدخله كمن قال: تزوج فلانة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا أو نحو هذا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأبي سليمان، وقال مالك: لا يلزمه شيء من ذلك إلا أن يدخله بموعد ذلك في كلفة فيلزمه ويقضي عليه، وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم ويقضي به على الواعد ويجبر. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الإيمان (2633) ، سنن أبو داود الأدب (4995) . (¬2) خرجه البخاري والنسائي وأحمد عن شداد بن أوس. (¬3) [الفروع] (6\ 415، 416) .

فأما تقسيم مالك فلا وجه له، ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صاحب ولا قياس. فإن قالوا: قد أضر به إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة. قلنا: فهبكم إنه كما تقولون، من أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا؟ ما علمنا هذا في دين الله تعالى إلا حيث جاء به النص فقط، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. وأما من ذهب إلى قول ابن شبرمة فإنهم احتجوا بقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1) والخبر الصحيح من طريق عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر (¬2) » (¬3) . والآخر الثابت من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من علامة النفاق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (¬4) » (¬5) . فهذان أثران في غاية الصحة، وآثار أخر لا تصح، أحدها من طريق الليث عن ابن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر «قالت لي أمي: هاه تعال أعطك، فقال لها رسول ¬

_ (¬1) سورة الصف الآية 3 (¬2) صحيح البخاري الإيمان (34) ، صحيح مسلم الإيمان (58) ، سنن الترمذي الإيمان (2632) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020) ، سنن أبو داود السنة (4688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) . (¬3) متفق عليه. (¬4) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) . (¬5) متفق عليه.

الله - صلى الله عليه وسلم - ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمرا، فقال لها - عليه السلام -: أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة (¬1) » هذا لا شيء لأنه عمن لم يسم. وآخر من طريق ابن وهب أيضا عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وأي المؤمن حق واجب (¬2) » هشام بن سعد ضعيف، وهو مرسل. ومن طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة» . وهذا مرسل وإسماعيل بن عياش ضعيف. ومن طريق ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لصبي: تعال، هاه لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة (¬3) » ابن شهاب كان- إذ مات أبو هريرة - ابن أقل من تسع سنين لم يسمع منه كلمة، وأبو حنيفة ومالك يرون المرسل كالمسند، ويحتجون بما ذكرنا، فيلزمهم أن يقضوا بإنجاز الوعد على الواعد ولابد، وإلا فهم متناقضون فلو صحت هذه الآثار لقلنا بها. وأما الحديثان اللذان صدرنا بهما فصحيحان إلا أنه لا حجة فيهما علينا؛ لأنهما ليسا على ظاهرهما؛ لأن من وعد بما لا يحل أو عاهد على معصية فلا يحل له الوفاء بشيء من ذلك كمن وعد بزنا أو بخمر أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا، بل قد يكون مطيعا مؤدي فرض، فإن ذلك كذلك فلا يكون ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الأدب (4991) ، مسند أحمد بن حنبل (3/447) . (¬2) رواه أبو داود في مراسيله، والوأي: الوعد لفظا ومعنى. (¬3) مسند أحمد بن حنبل (2/452) .

فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد بواجب عليه، كإنصاف من دين أو أداء حق فقط، وأيضا فإن من وعد وحلف واستثنى فقد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعد أقسم عليه وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضا فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (¬1) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬2) فصح تحريم الوعد بغير استثناء، فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد أحدا على معصية، فإن استثنى فقال: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله تعالى أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون مخلفا لوعده إن لم يفعل؛ لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله تعالى، وقد علمنا أن الله تعالى لو شاء لأنفذه فإن لم ينفذه فلم يشأ الله تعالى كونه. وقول الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬3) على هذا أيضا مما يلزمهم كالذي وصف الله تعالى عنه إذ يقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬4) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬5) {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (¬6) فصح ما قلنا؛ لأن الصدقة واجبة، والكون من الصالحين واجب، فالوعد والعهد بذلك فرضان فرض إنجازهما، وبالله التوفيق، ¬

_ (¬1) سورة الكهف الآية 23 (¬2) سورة الكهف الآية 24 (¬3) سورة الصف الآية 3 (¬4) سورة التوبة الآية 75 (¬5) سورة التوبة الآية 76 (¬6) سورة التوبة الآية 77

وأيضا هذا نذر من هذا الذي عاهد الله تعالى على ذلك، والنذر فرض (¬1) . وأما كلام علماء العصر في هذا الدليل فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: وأما قاعدة الالتزامات والوعد الملزم عند المالكية فخلاصتها: أن الشخص إذا ما وعد غيره عدة بقرض أو يتحمل وضيعة عنه- أي: خسارة- أو إعارة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه في الأصل، فهل يصبح بالوعد ملزما ويقضي عليه بموجبه إن لم يف له، أو لا يكون ملزما؟ اختلف فقهاء المالكية في ذلك على أربعة آراء: قد فصلها الحطاب في رسالته في الالتزامات، ونقلها عنه الشيخ محمد عليش في فتاواه المسماة [فتح العلي المالك] ج 2، ص 225 في بحث مسائل الالتزام فمنهم من يقول: يقضي بالعدة مطلقا أي أنها ملزمة له، ومنهم من يقول: لا يقضي بها مطلقا أي: أنها غير ملزمة، ومنهم من يقول: إن العدة تلزم الواعد فيقضي بها إذا ذكر لها سبب، وإن لم يباشر الموعود ذلك السبب، كما لو قال لآخر: إني أعيرك بقري ومحراثي لحراثة أرضك، أو أريد أن أقرضك كذا لتتزوج، أو قال الطالب لغيره: أريد أن أسافر، أو أن أقضي ديني فأسلفني مبلغ كذا، فوعده بذلك، ثم بدا له فرجع عن وعده قبل أن يباشر الموعود السبب الذي ذكر من سفر، أو وفاء دين، أو حراثة أرض. . . إلخ- فإن الواعد ملزم ويقضى عليه بالتنفيذ جبرا إن امتنع. ومنهم من يقول: لا يلزم بوعده إلا إذا دخل الموعود في سبب ذكر في الوعد أي: إذا باشر السبب، كما إذا وعده بأن يسلفه ثمن شيء يريد شراءه ¬

_ (¬1) [المحلى] لابن حزم (8\ 26- 28) .

فاشتراه فعلا، ومبلغ المهر في الزواج فتزوج ونحو ذلك، وهذا هو الراجح في المذهب من بين هذه الآراء الأربعة. أما عند الحنفية فإن المواعيد ملزمة إلا في حالات ضيقة إذا صدرت بطريق التعاون، فإذا نظرنا إلى مذهب المالكية الأوسع في هذه القضية فإننا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعا لتخريج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المؤمن للمستأمنين، ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر الذي هو معرض له، أي: أن يعوض عليه الخسائر، فقد نص المالكية أصحاب الرأي الرابع، وهو الرأي الأضيق على أنه لو قال شخص لآخر: بع كرمك الآن وإن لحقتك من هذا البيع وضيعة- أي: خسارة- فأنا أرضيك فباعه بالوضيعة، كان على القائل أن يرضيه بما يشبه ثمن ذلك الشيء المبيع والوضيعة فيه- أي: أن يتحمل عنه مقدار الخسارة- وهو قول ابن وهب، قال أصبغ: وقول ابن وهب هذا هو أحب إلي. قال ابن رشد: لأنها عدة على سبب وهو البيع، والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال (فتاوى عليش من المحل الآنف الذكر) . ولا يخفى أن أقل ما يمكن أن يقال في عقد التأمين: أنه التزام تحمل الخسائر عن الموعود في حادث معين محتمل الوقوع بطريق الوعد الملزم نظير الالتزام بتحمل خسارة المبيع عن البائع مما نص عليه المالكية على سبيل المثال لا على سبيل الحصر (¬1) ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (410) .

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمور: الأول: أن عقد التأمين من عقود المعاوضات، والوعد الملزم من عقود التبرعات، فلا يصح أن يقاس معاوضة على عقد تبرع؛ لاختلافهما في التقعيد. الثاني: أن العوض في الوعد الملزم معلوم عند الطرفين ابتداء، وأما ما تدفعه الشركة فهو مجهول لا يعلم لكل واحد من الطرفين إلا بعد وقوع الخطر، فلا يصح قياس مجهول على معلوم. الثالث: الوعد الملزم لا يجب الوفاء به إلا إذا تسبب الموعود بالدخول في الأمر الموعود من أجله، وأما في التأمين فإن المستأمن لا يستحق شيئا إذا دخل بنفسه فأتلف المؤمن عليه قصدا ويستحق ما سوى هذه الصورة من صور التأمين، فالصورتان مختلفتان في تحقيق المناط فلا يصح القياس، وبيان ذلك أنه في الوعد الملزم إذا تحقق الحكم الوضعي تحقق بعده الحكم التكليفي، وفي التأمين إذا انتفى الحكم الوضعي- وهو: تسبب المستأمن- استحق المبلغ، وإذا ثبت الحكم الوضعي- وهو التسبب من المستأمن- انتفى الاستحقاق.

قياس عقد التأمين على عقد المضاربة

ج- قياس عقد التأمين على عقد المضاربة: نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام العلماء السابقين فيها، ثم نتبع ذلك بكلام العلماء المعاصرين. أما كلام العلماء السابقين فقد قالوا في تعريف المضاربة: أن يدفع مالا إلى غيره؛ ليتجر فيه، ويكون الربح بينهما على ما شرطا، فيكون الربح لرب المال بسبب ماله؛ لأنه نماء ماله، وللمضارب باعتبار عمله الذي هو

سبب وجود الربح. وأما بيان أنواعها وشروطها وأحكامها: فقال السمرقندي: ثم هي نوعان: مطلقة، وخاصة. أما المطلقة: فأن يدفع المال إلى رجل ويقول: دفعت هذا المال إليك مضاربة على أن الربح بيننا نصفان (¬1) . وقال أيضا: ومن شروط صحتها: أن يكون الربح جزءا مشاعا في الجملة. . . . ومنها: إعلام قدر الربح؛ لأن الربح هو المقصود، فجهالته توجب فساد العقد، فكل شرط يؤدي إلى جهالة الربح يفسد المضاربة (¬2) . وقال أيضا: المضاربة تشتمل على أحكام مختلفة، إذا دفع المال إلى المضارب فهو أمانة في يده في حكم الوديعة؛ لأنه قبضه بأمر المالك لا على طريق البدل والوثيقة. فإذا اشترى به فهو وكالة؛ لأنه تصرف في مال الغير بإذنه، فإذا ربح صار شركة؛ لأنه ملك جزءا من المال بشرط العمل والباقي نماء مال المالك فهو له فكان مشتركا بينهما، فإذا فسدت المضاربة بوجه من الوجوه صارت إجارة؛ لأن الواجب فيها أجر المثل، وذلك يجب في الإجارات، فإن خالف المضارب صار غاصبا، والمال مضمون عليه؛ لأنه تعدى في ملك غيره (¬3) . وجاء في [مدونة الإمام مالك] رحمه الله: قلت: أرأيت المقارضة على النصف أو الخمس أو السدس أو أقل من ذلك أو أكثر؟ قال: فلا بأس بذلك عند مالك. . . قلت: أرأيت إن دفعت إلى أجل مالا قراضا ولم أسم له ثلثا ¬

_ (¬1) [تحفة الفقهاء] (3\ 23) . (¬2) [تحفة الفقهاء] (3\ 24) . (¬3) [تحفة الفقهاء] (3\ 5 / 2، 26) ، ويرجع أيضا إلى [بدائع الصنائع] (6\ 86، 87) وما بعدها.

ولا ربعا ولا نصفا ولا أكثر من أن قلت له: خذ هذا المال قراضا فعمل فربح وتصادق رب المال والعامل على ذلك، قال: يرد إلى قراض مثله (¬1) . وقال ابن جزي: وإنما يجوز بستة شروط. . . . الثاني: أن يكون الجزء مسمى كالنصف، ولا يجوز أن يكون مجهولا. . . . السادس: أن لا يشترط أحدهما لنفسه شيئا ينفرد به من الربح، ويجوز أن يشترط العامل الربح كله، خلافا للشافعي (¬2) . وقال أيضا: فروع سبعة، الفرع الأول: إذا وقع القراض فاسدا فسخ، فإن فات بالعمل أعطى العمل قراض المثل عند أشهب، وقيل: أجرة المثل مطلقا وفاقا لهما، وقال ابن القاسم: أجرة المثل إلا في أربعة مواضع وهي: قرض بعرض، أو لأجل، أو لضمان، أو بحظ مجهول. . . الفرع الثالث: لا يفسخ القراض بموت أحد المتقارضين، ولورثة العامل القيام به إن كانوا أمناء أو يأتون بأمين. . . . إلخ (¬3) . وقال النووي: الركن الثالث: الربح وله أربعة شروط. . . . الشرط الثالث: أن يكون معلوما، فلو قال: قارضتك على أن لك في الربح شركا أو شركة أو نصيبا فسد. . . . الشرط الرابع: أن يكون العلم به من حيث الجزئية لا من حيث التقدير، فلو قال: لك من الربح أو لي منه درهم أو مائة والباقي بيننا نصفين فسد القراض (¬4) . . . . ¬

_ (¬1) [المدونة] ، (4\ 48) . (¬2) [القوانين الفقهية] ، ص (309) . (¬3) [القوانين الفقهية] ، ص (309، 310) . (¬4) [الروضة] (5\ 122، 123) .

وقال أيضا: إذا فسد القراض بتخلف بعض الشروط فله ثلاثة أحكام: أحدها: تنفذ تصرفاته، كنفوذها في القراض الصحيح؛ لوجود الإذن كالوكالة الفاسدة. الثاني: سلامة الربح بكماله للمالك. الثالث: استحقاق العامل أجرة مثل عمله، سواء كان في المال ربح أم لا، وهذه الأحكام مطردة في صور الفساد (¬1) . وقال ابن قدامة: والشرط في المضاربة على ضربين: صحيح، مثل: أن يشترط ألا يتجر إلا في نوع معين أو بلد معين أو لا يعامل إلا شخصا معينا، وفاسد وهو على ضربين: أحدهما: أن يضاربه ولا يذكر الربح أو يشترط جزءا من الربح لأحدهما ولأجنبي، والباقي بينهما، أو يقول: خذه مضاربة والربح كله لك أو كله لي وما أشبه هذا مما يعود بجهالة الربح فإن المضاربة تفسد والربح كله لرب المال وللمضارب الأجر. والثاني: أن يشترط عليه ضمان المال من الوديعة. . . . . . فهل يبطل العقد بهذا؟ على روايتين (¬2) . وقال الشيخ مرعي بن يوسف: والمضارب أمين بالقبض، وكيل بالتصرف، شريك بالربح، أجير بالفساد، غاصب بالتعدي، مقترض باشتراط كل الربح له، مستبضع باشتراط كل الربح لرب المال (¬3) . ¬

_ (¬1) [الروضة، (5\ 125) . (¬2) كتاب [الهادي وعمدة الحازم] ، ص (116) . (¬3) [غاية المنتهى] ، (2\ 171) .

وأما كلام العلماء المعاصرين: فقال الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير بعد ذكره لفتوى الشيخ محمد عبده: ثم جاء بعد الشيخ محمد عبده الأستاذ عبد الوهاب خلاف، وقال: بجواز عقد التأمين على الحياة، وأنه عقد مضاربة؛ لأن عقد المضاربة في الشريعة هو: عقد شركة في الربح بمال من طرف وعمل من طرف آخر، وفي التأمين المال من جانب المشتركين الذين يدفعون الأقساط والعمل من جانب الشركة التي تستغل هذه الأموال، والربح للمشتركين وللشركة حسب التعاقد، وقد أورد الأستاذ خلاف نفسه على هذا القياس اعتراضا هو أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعا بالنسبة، وفي التأمين يشترط للمشترك قدر معين في الربح= 3% أو 4% فالمضاربة غير صحيحة. وأجاب عنه: أولا: بما جاء في تفسير آيات الربا في سورة البقرة للشيخ محمد عبده وهو: لا يدخل في الربا المحرم بالنص الذي لا شك في تحريمه من يعطي آخر مالا يستغله ويجعل له من كسبه حظا معينا؛ لأن مخالفة أقوال الفقهاء في اشتراط أن يكون نسبيا لاقتضاء المصلحة ذلك لا شيء فيه وهذه المعاملة نافعة لرب المال والعامل معا. ثانيا: بأن اشتراط أن يكون الربح نصيبا لا قدرا معينا خالف فيه بعض المجتهدين من الفقهاء، وليس حكما مجمعا عليه (¬1) . مناقشة هذا الدليل: قال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ولا يجوز أن يكون العقد المذكور- ¬

_ (¬1) [الروضة] ، (5\ 122، 123) . [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (454) .

أي: عقد التأمين- عقد مضاربة كما فهمه بعض العصريين؛ لأن عقد المضاربة يلزم أن يكون المال من جانب المالك والعمل من المضارب والربح على ما اشترطاه والعقد المذكور ليس كذلك؛ لأن أهل القومبانية- الشركة- يأخذون المال على أن يكون لهم يعملون فيه لأنفسهم فيكون عقدا فاسدا شرعا؛ لأنه معلق على خطر، تارة يقع وتارة لا يقع، فهو قمار معنى (¬1) . وقال الأستاذ محمد كامل البناء: إن هناك فرقا واضحا يتعذر معه قياس عقد التأمين على المضاربة، وهو أن رب المال يتحمل الخسارة وحده وليس الأمر كذلك في التأمين، كما أنه لو مات رب المال في المضاربة فليس لورثته إلا ما دفعه مورثهم لا يزيد شيئا، أما في التأمين فإنه لو مات المؤمن استحق صاحب منفعة التأمين مبلغا ضخما، وهذه مخاطرة ينهى عنها الشارع؛ لأن ذلك لا ضابط له إلا الحظوظ والمصادفات (¬2) . وقال الأستاذ الدكتور مصطفى زيد: الواقع أن عقد التأمين كان يمكن أن يكون من عقود المضاربة لولا أمران: أولهما: أن طبيعة المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح أو الخسارة، وليس في طبيعة عقد التأمين أي تعرض للخسارة. والثاني: أن من شروط المضاربة أن يكون الربح نسبيا غير محدد (¬3) . وقال الصديق محمد الأمين الضرير: والذي أراه أنه ليست هناك صورة ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (430) . (¬2) [التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه] ، ص (79) . (¬3) [التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه] ، ص (79) .

من صور عقد التأمين يمكن قياسها على عقد المضاربة، حتى لو تجاوزنا عن كون الربح في المضاربة يشترط فيه أن يكون قدرا شائعا بالنسبة، وذلك للأسباب الآتية: 1 - المبلغ الذي يدفعه رب المال للعامل في المضاربة يظل ملكا لصاحبه ولا يدخل في ملك العامل، وذلك بخلاف التأمين فإن القسط يدخل في ملك الشركة تتصرف فيه تصرف المالك في ملكه. 2 - في حالة موت رب المال في عقد المضاربة يستحق ورثته المال الذي دفعه مع ربحه إن كان، أما في عقد التأمين على الحياة فإن الورثة يستحقون عند موت المؤمن له المبلغ الذي اتفق عليه من الشركة بالغا ما بلغ، فلو أن شخصا أمن على حياته بمبلغ ألف جنيه ثم مات بعد أن دفع مبلغ مائة جنيه فقط للشركة فإن ورثته يستحقون الألف كاملة، فكيف يقاس هذا العقد على عقد المضاربة، ولا يصح أن يقال: إن الشركة تتبرع بالزائد على ما دفعه المؤمن له؛ لأن من خصائص عقد التأمين أنه عقد معاوضة وهو عقد ملزم للطرفين، فالشركة ملزمة بدفع المبلغ المتفق عليه إذا وفى المؤمن له بالتزامه في دفع الأقساط. 3 - في حال موت صاحب المال في عقد المضاربة يكون المبلغ الذي في يد الضارب- العامل- في ضمن تركة المتوفى يجري فيه ما يجري في سائر أموال التركة، أما في عقد التأمين فإن المال المستحق لا يذهب للورثة مطلقا، وذلك في حالة ما إذا عين المؤمن له مستفيدا- وهذا من حقه- فإن جميع المال يذهب لهذا المستفيد، ولو لم يكن للمتوفى مال غيره ولا حق

لورثته في الاعتراض (¬1) . د- قياس عقد التأمين على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب: نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في ذلك ونتبعه ببيان فقهاء العصر، ووجه الاستدلال لهذا القياس على الجواز، مع المناقشة: أما كلام الفقهاء السابقين: فقال السرخسي: باب ضمان ما يبايع به الرجل، قال رحمه الله: وإذا قال الرجل لرجل: بايع فلانا فما بايعته به من شيء فهو علي، فهو جائز على ما قال؛ لأنه أضاف الكفالة إلى سبب وجوب المال على الأصيل، وقد بينا أن ذلك صحيح، والجهالة في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة؛ لكونها مبنية على التوسع، ولأن جهالة عينها لا تبطل شيئا من العقود، وإنما الجهالة المفضية إلى المنازعة هي التي تؤثر في العقود وهذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن توجه المطالبة على الكفيل بعد المبايعة، وعند ذلك ما بايعه به معلوم، ويستوي إن وقت لذلك وقتا أو لم يوقت إلا أن في الموقت يراعى وجود المبايعة في ذلك الوقت حتى إذا قال: ما بايعته به اليوم فباعه غدا لا يجب على الكفيل شيء من ذلك؛ لأن هذا التقييد مفيد في حق الكفيل، ولكن إذا كرر مبايعته في اليوم فذلك كله على الكفيل؛ لأن حرف (ما) يوجب العموم، وإذا لم يوقت فذلك على جميع العمر، وإذا بايعته مرة بعد مرة فذلك كله على الكفيل، ولا يخرج نفسه من الكفالة لوجود الحرف الموجب للتعميم في كلامه، ويستوي إن بايعه بالنقود أو ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ص (455) .

بغير النقود؛ لأنه قال: ما بايعته به من شيء وهو يجمع كل ذلك. انتهى المقصود (¬1) . وقال ابن جزي: ويجوز ضمان المال المعلوم اتفاقا، والمجهول خلافا للشافعي، ويجوز الضمان بعد وجوب الحق اتفاقا، وقبل وجوبه خلافا لشريح القاضي وسحنون والشافعي (¬2) . وقال النووي: ويشترط في المضمون كونه ثابتا، وصحح القديم ضمان ما سيجب، والمذهب صحة ضمان الدرك بعد قبض الثمن، وهو أن يضمن للمشترى الثمن إن خرج المبيع مستحقا أو معيبا أو ناقصا لنقص الصنجة، وكونه لازما، لا كنجوم كتابة، ويصح ضمانه الثمن في مدة الخيار في الأصح وضمان الجعل كالرهن به، وكونه معلوما في الجديد، والإبراء من المجهول باطل في الجديد إلا من إبل الدية ويصح ضمانها في الأصح، ولو قال: ضمنت مالك على زيد من درهم إلى عشرة فالأصح صحته، وأنه يكون ضامنا لعشرة، قلت: الأصح لتسعة، والله أعلم. وقال ابن قدامة: ولا كون الحق معلوما ولا واجبا إذا كان مآله إلى الوجوب، فلو قال: ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح (¬3) . قال في الحاشية: قوله: (ولا كون الحق معلوما) يعني: إذا كان مآله إلى العلم (ولا واجبا إذا كان مآله الوجوب) فلو قال: ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح، هذا المذهب، وبه قال أبو حنيفة، ومالك وقال ¬

_ (¬1) [المبسوط] (20\ 50) . (¬2) [قوانين الأحكام الشرعية] ، ص (353) . (¬3) [المقنع] ، (2\ 113) .

الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح؛ لأنه التزام مال فلم يصح مجهولا كالثمن، ولنا قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬1) وحمل البعير غير معلوم؛ لأن حمل البعير يختلف باختلافه، وعموم قوله - عليه الصلاة والسلام -: «الزعيم غارم (¬2) » ، ومن ضمان ما لم يجب ضمان السوق، وهو: أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقتضيه من عين مضمونة، قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، وقال: تجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازه؛ لأنه محل اجتهاد، قال: وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام، واختار صحة ضمان حارس ونحوه وتجار حرب ما يذهب من البلد أو البحر وأن غايته ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التجار للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر العلماء؛ كمالك وأبي حنيفة وأحمد، وقال: الطائفة الواحدة الممتنعة من أهل الحرب التي ينصر بعضها بعضا تجري مجرى الشخص الواحد في معاهدتهم إذا شورطوا على أن تجارهم يدخلون دار الإسلام بشرط أن لا يأخذوا للمسلمين شيئا وما أخذوه كانوا ضامنين في أموالهم جاز حاشية [المقنع] ، (2\113) وما بعدها. . وأما كلام الفقهاء المعاصرين في توجيه الاستدلال والمناقشة فقالوا: الضامن يجب عليه أداء ما ضمنه مع أنه مجهول من حيث المبدأ، فكذلك ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 72 (¬2) أخرجه أبو داود الطيالسي، والبيهقي وأحمد وابن عدي والترمذي وتمام في [الفوائد] ، وسنده صحيح.

التأمين يجب على المؤمن أن يدفع للمستأمن قيمة ما ضمنه بعد وقوع الخطر، وإن كان مجهولا من حيث المبدأ. والجواب عن هذا: يمكن أن يقال: لا يصح قياس عقد التأمين على ضمان المجهول وما لم يجب، ومنه ضمان السوق؛ لأنه قياس مع الفارق وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن الضمان من عقود التبرعات فاغتفرت فيه الجهالة من باب دفع المشقة واليسر على الناس، وأما عقد التأمين فهو من عقود المعاوضات فلا تغتفر فيه الجهالة. الوجه الثاني: أن الضمان يتكون من أربعة أركان: ضامن، ومضمون له، ومضمون عنه، ومضمون، وفي التأمين: ثلاثة أركان: ضامن وهو الشركة، ومضمون له، وهو: المستأمن، ومضمون، وهو: ما تدفعه الشركة عند وقوع الخطر، وأما المضمون عنه فمفقود هنا فلا يصح أن يقاس عليه لفقد ركن من أركانه فالصورتان مختلفتان. الوجه الثالث: صورة الضمان تختلف عن صورة التأمين من وجه آخر وهو: أن الضامن في الشريعة فرع والمضمون عنه أصل، والتأمين اعتبر فيه الضامن أصلا، ومن شرط القياس الاتفاق في الصورة. الوجه الرابع: أن الضامن إذا دفع إلى المضمون له فإنه يرجع إلى المضمون عنه، ويأخذ منه ما دفعه فلا ضرر عليه، أما الشركة فإذا وقع الضرر فإنها تدفع ما وجب عليها ولا ترجع إلى أحد، فتقرر الضرر عليها، فلا يصح أن يقاس ما فيه ضرر على ما لا ضرر فيه.

قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق

هـ- قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق: نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في ضمان خطر الطريق وأسباب الضمان ثم ما تيسر من كلام فقهاء هذا العصر. أما كلام الفقهاء السابقين: فقال ابن عابدين في أثناء كلامه على السوكرة: فإن قلت: سيأتي قبيل باب كفالة الرجلين، قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلكه وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن، ضمن، وعلله الشارح هناك بأول ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا. اهـ. بخلاف الأولى فإنه لم ينص على الضمان بقوله: فأنا ضامن، وفي جامع الفصولين: الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرر في ضمن المعاوضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فصار كقول الطحان لرب البر اجعله في الدلو فجعله فيه فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالما به يضمن إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة. اهـ. قلت: لا بد في مسألة التغرير من أن يكون الغار عالما بالخطر كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة، وأن يكون المغرور غير عالم إذ لا شك أن رب البر لو كان عالما بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة؛ لما في [القاموس] غره غرا وغرورا فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو. اهـ. ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا، وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار؛ لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف طمعا

في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل. اهـ (¬1) . وقال أبو محمد البغدادي: إذا غرقت السفينة فلو من ريح أصابها أو موج أو جبل صدمها من غير مد الملاح وفعله لا يضمن بالاتفاق، وإن كان بفعله يضمن سواء خالف بأن جاوز العادة أو لم يخالف؛ لأنه أجير مشترك ولو دخلها الماء فأفسد المتاع فلو بفعله ومده يضمن بالاتفاق، ولو بلا فعله إن لم يمكن التحرز عنه لا يضمن إجماعا، وإن كان بسبب يمكن التحرز عنه لا يضمن عند أبي حنيفة، وعندهما يضمن، وهذا كله لو لم يكن رب المتاع أو وكيله في السفينة فلو كان لا يضمن في جميع ما مر إذا لم يخالف بأن لم يجاوز المعتاد؛ لأن محل العدل غير مسلم إليه، كذا في الفتاوى الصغرى، ومشى عليه صاحب الفصولين، وكذا إذا كان بأمر لا يمكن التحرز عنه فإنه لا يضمن، ذكره في البزازية وفيها نقلا عن المنتقى لو كانت السفن كثيرة وصاحب المتاع أو الوكيل في إحداها فلا ضمان على الملاح فيما ذهب من السفينة التي فيها صاحب المتاع أو وكيله وضمن فيما سوى ذلك. وعن أبي يوسف: إذا كانت السفن تنزل معا وتسير فلا ضمان على الملاح فيما هلك فإنهن كسفينة واحدة وإن تقدم بعضها بعضا، فكون أحدهما في إحداهن ككون أحدهما في كلهن. وعن أبي يوسف أيضا في سفينتين أحدهما في إحداهن لا ضمان على الملاح، وكذا لو غير مقرونتين ويسيران معا ويحبسان معا (¬2) انتهى المقصود. ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (3\271، 272) . (¬2) [مجمع الضمانات] ، ص (47) .

وقال القرافي: الفرق السابع عشر والمائتان بين قاعدة ما يوجب الضمان وبين قاعدة ما لا يوجبه أسباب الضمان ثلاثة، فمتى وجد واحد منها وجب الضمان، ومتى لم يوجد واحد منها لم يجب الضمان. أحدها: التفويت مباشرة؛ كإحراق الثوب، وقتل الحيوان، وأكل الطعام ونحو ذلك. وثانيها: التسبب للإتلاف؛ كحفر بئر في موضع لم يؤذن فيه، ووضع السموم في الأطعمة، ووقود النار بقرب الزرع أو الأندر، ونحو ذلك مما شأنه في العادة أن يفضي غالبا للإتلاف. وثالثها: وضع اليد غير المؤتمنة، فيندرج في غير المؤتمنة يد الغاصب، والبائع يضمن المبيع الذي يتعلق به حق توفية قبل القبض، فإن ضمان المبيع الذي هذا شأنه منه؛ لأن يده غير مؤتمنة ويد المتعدي بالدابة في الإجارة ونحوها، ويخرج بهذا القيد يد المودع وعامل القراض ويد المساقي ونحوهم فإنهم أمناء فلا يضمنون (¬1) وقال أيضا: الفرق الخامس والمئتان بين قاعدة ما يضمن بالطرح من السفن وبين قاعدة ما لا يضمن. قال مالك: إذا طرح بعض الحمل للهول شارك أهل المطروح من لم يطرح لهم شيء في متاعهم، وكان ما طرح وسلم لجميعهم في نمائه ونقصه بثمنه يوم الشراء أن اشتروا من موضع واحد بغير محاباة؛ لأنهم صانوا بالمطروح مالهم والعدل عدم اختصاص أحدهم بالمطروح إذ ليس أحدهم بأولى من الآخر، وهو سبب سلامة ¬

_ (¬1) [الفروق] (4\27) .

جميعهم، فإن اشتروا من مواضع، أو اشترى بعض، أو طال زمان الشراء حتى تغيرت الأسواق- اشتركوا بالقيم يوم الركوب دون يوم الشراء؛ لأنه وقت الاختلاط، وسواء طرح الرجل متاعه أو متاع غيره بإذنه أم لا. قال ابن أبي زيد: ولا يشارك من لم يرم بعضهم بعضا؛ لأنه لم يطرأ سبب يوجب ذلك بخلاف المطروح له مع غيره. قال ابن حبيب: وليس على صاحب المركب ولا النواتية ضمان كانوا أحرارا أو عبيدا إلا أن يكونوا للتجارة فتحسب قيمتهم، ولا على من لا متاع له؛ لأن هذه كلها وسائل، والمقصود من ركوب البحر إنما هو مال التجارة ويرجع بالمقاصد في المقاصد ومن معه دنانير كثيرة يريد بها التجارة فكالتجارة بخلاف النفقة وما يراد للقنية، وقال ابن بشير: لا يلزم في العين شيء من المطروح، لأنه لا يحصل الغرق بسببها لخفتها، وقال سحنون: يدخل المركب في قيمة المطروح؛ لأنه مما سلم بسبب الطرح (¬1) . وقال أبو محمد: إن خيف عليه بصدم قاع البحر فطرح لذلك دخل في القيمة. وقال أهل العراق: يدخل المركب وما فيه للقنية أو التجارة من عبيد وغيرهم، لأن أثر المطروح سلامة الجميع، وجوابهم: أن شأن المركب أن يصل برجاله سالما إلى البر، وإنما يغرق ما فيه عادة وإزالة السبب المهلك لا يوجب شركة، بل فعل السبب المنجي وهو فرق حسن فتأمله فإن فاعل الضرر شأنه أن يضمن فإذا زال ضرره ناسب أن يستحقه أو بعضه؛ لأن موجد الشيء شأنه أن يكون له، فإن صالحوا صاحب المطروح ¬

_ (¬1) [الفروق] ، (4\ 8، 9) .

بدنانير ولا يشاركهم- جاز، إذا عرفوا ما يلزم في القضاء، فإن خرج بعد الطرح من البحر سالما فهو له وتزول الشركة، أو خرج وقد نقص نصف قيمته انتقض نصف الصلح ويرد نصف ما أخذه. اهـ. وأما كلام الفقهاء المعاصرين: فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: وأما صحة ضمان خطر الطريق فيما إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن. فسلكه فأخذ ماله، حيث يضمن القائل هو ما نص عليه الحنفية في الكفالة، وانتبه إليه ابن عابدين وناقشه في كلامه عن (السوكرة) كما سبق بيانه فإني أجد فيه فكرة فقهية يصلح بها أن يكون نصا استثنائيا قويا في تجويز التأمين على الأموال من الأخطار وإن لم يسلم ابن عابدين - رحمه الله - بكفاية هذه الدلالة فيه، ورأى فرقا بينه وبين (السوكرة) يمنع القياس عليه. والذي أراه: أن فقهاءنا الذين قرروا هذا الحكم في الكفالة في ذلك الزمن البعيد لو أنهم عاشوا في عصرنا اليوم وشاهدوا الأخطار التي نشأت من الوسائل الحديثة؛ كالسيارات التي فرضت على الإنسان من الخطر بقدر ما منحته السرعة، وثبتت أمامهم فكرة التأمين، ولمسوا الضرورة التي نلمسها نحن اليوم في سائر المرافق الاقتصادية الحيوية؛ لتخفيف آثار الكوارث الماحقة- لما ترددوا لحظة في إقرار التأمين نظاما شرعيا (¬1) . وأجيب عن ذلك بما قاله الصديق محمد الأمين الضرير. قال: فهل يمكن أن يكون ما يلزم المؤمن بدفعه عند وقوع الكارثة من ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (410) .

قبيل الضمان؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد لنا أولا من معرفة أسباب الضمان. الضمان يكون بواحد من الأسباب التالية: 1 - العدوان؟ كالقتل والإحراق وهدم الدور ونحو ذلك، فمن تعدى في شيء وجب عليه الضمان؛ إما المثل إن كان مثليا، أو القيمة إن كان قيميا، وواضح أن المؤمن لم يتعد على المؤمن له في شيء حتى يضمنه له، وإذا كان هناك متعد فإن الضمان يكون عليه لا على الشركة. 2 - التسبب للإتلاف؛ كحفر البئر في طرق الحيوان في غير الأرض المملوكة للحافر أو في أرضه لكن حفرها لهذا الغرض، وكرمي ما يزلق الناس في الطرقات فيسقط بسبب ذلك حيوان أو غيره ونحو ذلك. وليس المؤمن متسببا في إتلاف مال المؤمن له فلا وجه لتضمينه. 3 - وضع اليد التي ليست بمؤتمنة، سواء أكانت عادية، كيد السراق والنصاب أو ليست بعادية كما في المبيع بيعا صحيحا يبقى بيد البائع فيضمنه. والمؤمن عليه الذي يلتزم المؤمن بتعويضه يكون في يد صاحبه ولا يضع المؤمن يده عليه مطلقا. 4 - الكفالة: والكفالة لا بد فيها من كفيل يلتزم بتأدية ما على الأصل. من الحق، ومكفول وهو المطالب في الأصل، ومكفول له هو صاحب الحق ومكفول به وهو الحق المطالب به. وعقد التأمين في كثير من صوره لا يوجد فيه ما يمكن أن يعتبر مكفولا، ففي تأمين الأشخاص يلتزم المؤمن بدفع المبلغ عند الوفاة أو حصول حادث جسماني، سواء كان ذلك قضاء وقدرا، أو كان بفعل فاعل.

وفي التأمين على الأشياء- كالتأمين من السرقة والحريق وموت الحيوان - يلتزم المؤمن بتعويض المؤمن له ما أصابه من ضرر، ولو كان وقوع الحادثة بما لا دخل للإنسان فيه، ففي مثل هذه الصور من التأمين لا يمكن أن يقاس التأمين على الكفالة لفقدان المكفول. ولكن هناك حالات يعتدي فيها معتد بإتلاف ماله المؤمن له، كما لو أحرق شخص مال المؤمن له فهل يمكن أن يعتبر ذلك الشخص مكفولا؟. جاء في [مجمع الضمانات] : أو قال: إن غصب فلان مالك أو أحد من هؤلاء القوم فأنا ضامن لك صح، ولو عمم فقال: إن غصبك إنسان شيئا فأنا له ضامن لك لا تصح (ص 270) ولو قال: ما ذاب لك على الناس أو على أحد من الناس فعلي، لا يصح لجهالة المضمون عنه (ص 270) . ومن صور التأمين ما يكون فيه المؤمن له هو المكفول، ويكون المكفول له مجهولا، وهذه حالة التأمين من المسؤولية؛- كالتأمين من حوادث السيارات- فإن الشركة تلتزم فيه بدفع ما يثبت على المؤمن من تعويض لمن أصابه ضرر منه يستحق التعويض بسببه. وهذه أيضا مكفولة غير صحيحة؛ لجهالة المكفول به. ففي [مجمع الضمانات] : لو قال: ما ذاب للناس أو لأحد من الناس عليك فعلي لا يصح؛ لجهل المضمون له (ص. 27) . ففي جميع الصور المتقدمة لا يصح قياس عقد التأمين على عقد الكفالة، وهناك فارق عام يمنع من صحة القياس، هو: أن الكفالة من عقود التبرعات، والتأمين من عقود المعاوضات؛ ولذا لو شرط في العقد للكفالة أن يكون بعوض فإن الكفالة تكون باطلة.

جاء في [مجمع الضمانات] : ولو كفل بمال على أن يجعل الطالب له جعلا، فإن لم يكن مشروطا في الكفالة فالشرط باطل، وإن كان مشروطا في الكفالة فالكفالة باطلة. (ص 282) . وفارق آخر: هو: أن عقد التأمين ملزم للطرفين، المؤمن والمؤمن له، فهو يلزم المؤمن له بدفع القسط، ويلزم المؤمن بدفع العوض المالي أو المبلغ المؤمن عليه، أما عقد الكفالة فإنه لا يلزم المكفول له بشيء، فالالتزام فيه من جانب الكفيل فقط؛ ولذا كان عقدا لازما بالنسبة للكفيل وغير لازم بالنسبة للمكفول له (¬1) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (456، 458) .

قياس عقد التأمين على نظام التقاعد

وقياس عقد التأمين على نظام التقاعد: قال الأستاذ الزرقاء: وأما نظام التقاعد والمعاش لموظفي الدولة، وهو نظام مالي عام في عصرنا، فإني لا أقصد الاستدلال به من حيث كونه نظاما قانونيا؛ لأن النظم القانونية لا تصلح حجة في الاستدلال لأحكام الشريعة الإسلامية ولكني أستدل بموقف فقهاء الشريعة أجمعين منه مع أنه نظام تأميني بكل ما في كلمة التأمين من معنى، فنظام التقاعد يقوم على أساس أن يقتطع من المرتب الشهري للموظف في أعمال الدولة جزء نسبي ضئيل محدود حتى إذا بلغ سن الشيخوخة القانونية وأحيل على التقاعد أخذ وهو غير موظف عامل راتبا شهريا يبلغ أضعافا مضاعفة من المبلغ الضئيل الذي كان يقتطع من راتبه شهريا وذلك بحسب مدة عمله في الوظيفة ويستمر المرتب

التقاعدي الجديد ما دام حيا مهما طالت حياته وينقل إلى أسرته التي يعولها من زوجة وأولاد وغيرهم بشرائط معينة بعد وفاته، فما الفرق بين هذا النظام وبين التأمين على الحياة؟ إن في كليهما يدفع الشخص قسطا ضئيلا دوريا لا يدري كم يستمر به دفعه، وكم يبلغ مجموعه عند التقاعد وفي حكمها يأخذ الشخص أو أسرته في مقابل هذا القسط الدوري الضئيل مبلغا كبيرا دوريا أيضا في التقاعد وفوريا في التأمين على الحياة يتجاوز كثيرا مجموع الأقساط ولا يدري كم يبلغ مجموعه من التقاعد إلى أن ينطفئ الاستحقاق وانتقالاته، بينما هو محدد معلوم المقدار في التأمين على الحياة، فالضرر والجهالة في نظام التقاعد أعظم منها في التأمين على الحياة. إن هذا النظام التقاعدي يقره علماء الشريعة الإسلامية كافة بلا نكير ولا يرون فيه أية شبهة شائبة من الناحية الشرعية، بل إنهم يرونه أساسا ضروريا في نظام وظائف الدولة ومصلحة عامة لا بد منها شرعا وعقلا وقانونا؛ لصيانة حياة الموظفين العاملين في مصالح الدولة بعد عجزهم وحياة أسرهم إلى مراحل معينة من بعدهم فلماذا يحسن وجود هذا النظام التقاعدي ترتبا يقوم بين الدولة وموظفيها ولا يجوز نظيره تعاقدا ملزما بين الناس؟ والخلاصة: أن نظام التأمين التقاعدي بوجه عام تشهد لجوازه جميع الدلائل الشرعية في الشريعة الإسلامية وفقهها، ولا ينهض في وجهه دليل شرعي على التحريم، ولا تثبت أمامه شبهة من الشبهات التي يتوهمها القائلون بتحريمه (¬1) ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (414، 415) .

ونوقش ذلك بما يأتي: أولا: أن قول المستدل: قد شهدت جميع الدلائل الشرعية في الشريعة الإسلامية وفقهها بجواز نظام التقاعد - مجرد دعوى مبالغ فيها ليس معه من الأدلة الصحيحة ما يعتمد عليه فيها فضلا عن أن يكون لها أدلة لا تقوم أمامها شبهة توهم المنع. ثانيا: ادعى المستدل أن علماء الشريعة كافة في عصرنا أقروا نظام التقاعد دون أية شبهة، وفي هذا من المبالغة مما في سابقه، وإنما هي دعوى يردها الواقع، فإن المسألة نظرية، ويوجد من العلماء المعاصرين من يخالف فيها. ثالثا: إنه على تقدير اتفاقهم هل يعتبر ذلك إجماعا شرعيا صحيحا تثبت به الأحكام وهم يعترفون على أنفسهم بالتقليد. رابعا: قد يقال: إن كان ما اقتطع من مرتب الموظف لا يزال باقيا على ملكه مع ما قد ضم إليه إلا أنه قيد صرفه بزمن محدود وكيفية محدودة، فالكلام في حكمه كالكلام في حكم التأمين وقد تقدم، وربما كان التقاعد أشد؛ لأن ما فيه من الغرر والمخاطرة والمغامرة أشد، ولأن توزيعه يجري على غير سنن المواريث عطاء مستمرا أو مؤقتا أو حرمانا. خامسا: أنه يمكن أن يقال: إن ما جعل للموظف أو أتباعه من راتب تقاعدي يعتبر مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسئولا عنه وعن أسرته، ووضع لصرفها نظاما راعى فيه مصلحته ومصلحة ألصق الناس به وأقربهم إليه من أسرته، كما راعى فيه ما بذله

الموظف من جهد في خدمة الأمة. وعلى هذا لا يكون المعاش التقاعدي من باب المعاوضات المالية التجارية حيث كان مبناه مسئولية ولي الأمر عن رعيته ومقابلة أرباب المعروف فيه بالمعروف، وإذن فلا شبهة بينه وبين عقود التأمين فإنها معاوضات مالية تجارية استغلالية يقصد بها الربح، فالفرق واضح بين مكافآت من أولياء أمور الأمة المسئولين عن رعيتهم لمن قام بخدمة الأمة أو من يعنيه أمره، جزاء معروفه - وبين عقود معاوضات تجارية تقصد بها شركات التأمين استغلال المستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة.

قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام

ز - قياس التأمين على نظام العواقل في الإسلام: نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في بيان العاقلة ثم نذكر بعده كلام الفقهاء المعاصرين في هذا الدليل مع المناقشة. أما كلام الفقهاء السابقين: فقال السمرقندي: ثم العاقلة من هم؟ فعندنا العاقلة: هم أهل الديوان في حق من له الديوان، وهم المقاتلة، ومن لا ديوان له فعاقلته من كان من عصبته في النسب. وعند الشافعي: لا يلزم أهل الديوان إلا أن يكونوا من النسب. والصحيح: قولنا؛ لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانت الدية على القبائل، فلما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على أهل الديوان وذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم من غير خلاف، وتبين أنه إنما كان على أهل القبائل للتناصر، فلما صار التناصر بالديوان اعتبر الديوان لوجود المعنى؛ ولهذا لا تكون المرأة والصبي والعبد والمدبر

والمكاتب من جملة العاقلة؛ لأنهم ليسوا من أهل التناصر ولا من أهل الإعانة بالشرع (¬1) . وقال ابن جزي: وإنما تؤدي العاقلة الدية بأربعة شروط، وهي: أن تكون الثلث فأكثر، وقال ابن حنبل: تؤدي القليل والكثير، وأن تكون عن دم؛ احترازا من قيمة العبد، وأن تكون عن خطأ، وأن تثبت بغير اعتراف وإنما يؤديها منهم من كان ذكرا بالغا عاقلا موسرا في الدين والدار، وتوزع عليهم حسب حالهم في المال، فيؤدي كل واحد منهم ما لا يضر به ويبدأ بالأقرب فالأقرب (¬2) . وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهذا أكثر من حديث الخاصة، ولم أعلم مخالفا في أن العاقلة العصبة وهم القرابة من قبل الأب، وقضى عمر بن الخطاب على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب وقضى للزبير بميراثهم؛ لأنه ابنها. قال: وعلم العاقلة أن ينظر إلى القاتل والجاني ما دون القتل مما تحمله العاقلة من الخطأ، فإن كان له إخوة لأبيه حمل عليهم جنايته على ما تحمل العاقلة، فإن احتملوها لم ترفع إلى بني جده وهم عمومته، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بني جده، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بني جد أبيه، ثم هكذا ترفع إذا عجز عنها أقاربه إلى أقرب الناس به ولا ترفع إلى بني أب ¬

_ (¬1) [تحفة الفقهاء] (3 \ 186) . (¬2) [قوانين الأحكام الفقهية] ، (ص 377) .

ودونهم أقرب منهم حتى يعجز عنها من هو أقرب منهم، كأن رجلا من بني عبد مناف جنى فحملت جنايته بنو عبد مناف فلم تحملها بنو عبد مناف فترفع إلى بني قصي فإن لم تحملها رفعت إلى بني كلاب فإن لم تحملها رفعت إلى بني مرة فإن لم تحملها رفعت إلى بني كعب فإن لم تحملها رفعت إلى بني غالب فإن لم تحملها رفعت إلى بني فهر فإن لم تحملها رفعت إلى بني مالك فإن لم تحملها رفعت إلى بني النضر فإن لم تحملها رفعت إلى بني كنانة كلها ثم هكذا حتى تنفد قرابته أو تحتمل الدية. قال: ومن في الديوان ومن ليس من العاقلة سواء، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على العاقلة ولا ديوان حتى كان الديوان حين كثر المال في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال أيضا: ولم أعلم مخالفا في أن المرأة والصبي إذا كانا موسرين لا يحملان من العقل شيئا، وكذلك المعتوه - عندي - والله أعلم، ولا يحمل العقل إلا حر بالغ ولا يحملها من البالغين فقير. فإذا قضي بها وهو رجل فقير فلم يحل نجم منها حتى أيسر أخذ بها، وإن قضي بها وهو غني ثم حلت وهو فقير طرحت عنه إنما ينظر إلى حاله يوم حل. . . إلخ (¬1) . وقال الفتوحي: وهي من غرم ثلث دية فأكثر بسبب جناية غيره وعاقلة جان ذكور عصبته نسبا وولاء حتى عمودي نسبه ومن بعد (¬2) . ¬

_ (¬1) [الأم] (1 \ 101) وما بعدها. (¬2) [المنتهى] ، (2 \ 448) .

كلام بعض الفقهاء المعاصرين في بيان العاقلة

وأما كلام بعض الفقهاء المعاصرين: فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: وأما نظام العواقل في الإسلام فهو نظام وردت به السنة النبوية الصحيحة الثبوت، وأخذ به أئمة المذاهب. وخلاصته أنه إذا جنى أحد جناية قتل غير عمد بحيث يكون موجبها الأصلي الدية أو القصاص فإن دية النفس توزع على أفراد عاقلته الذين يحصل بينه وبينهم التناصر عادة، وهم الرجال البالغون من أهله وعشيرته وكل من يتناصر هو بهم ويعتبر هو واحدا منهم، فتقسط الدية عليهم في ثلاث سنين بحيث لا يصيب أحدا منهم أكثر من أربعة دراهم في السنة فإذا لم يف عدد أفراد العشيرة بمبلغ الدية في ثلاث سنين يضم إليهم أقرب القبائل والأقارب نسبا على ترتيب ميراث العصبات، فإذا لم يكن للقاتل عشيرة من الأقارب والأنساب وأهل التناصر كما لو كان لقيطا مثلا - كانت الدية في ماله تقسط على ثلاث سنين، فإن لم يكن له مال كاف فعاقلته بيت المال العام، أي: خزانة الدولة فهي التي تتحمل دية القتيل. وهناك اختلافات يسيرة بين المذاهب في الموضوع. ينظر ابن عابدين جزء \ 5، كتاب المعاقل وغيره من كتب المذاهب. إن هذا النظام نظام العواقل خاص بتوزيع الموجب المالي في كارثة القتل الخطأ وتهدف الحكمة فيه إلى غايتين: الأولى: تخفيف أثر المصيبة عن الجاني المخطئ. والثانية: صيانة دماء ضحايا الخطأ من أن تذهب هدرا؛ لأن الجاني المخطئ قد يكون فقيرا لا يستطيع التأدية فتضيع الدية. قال ابن عابدين رحمه الله في أول كتاب المعاقل من حاشيته [رد

المختار] نقلا عن المعراج ما نصه: إن العاقلة يتحملون باعتبار تقصيرهم وتركهم حفظه ومراقبته وخصوا بالضم؛ لأنه إنما قصر لقوته بأنصاره، فكانوا هم المقصرين، وكانوا قبل الشرع الإسلامي يتحملون عنه تكرما واصطناعا بالمعروف، فالشرع قرر ذلك - أي: أوجبه وجعله إلزاميا - وتوجد هذه العادة بين الناس، فإن لحقه خسران من سرقة أو حرق يجمعون له مالا لهذا المعنى. انتهى كلام ابن عابدين. أقول: إن هذا الكلام صريح في أن نظام العواقل في الإسلام أصله عادة حسنة تعاونية كانت قائمة قبل الإسلام في توزيع المصيبة المالية الناشئة من القتل أو من الحرق أو السرقة ونحوها بغية تخفيف ضررها عن كاهل من لحقته؛ جبرا لمصابه، وإحياء لحقوق الضحايا في الجنايات، وقد أقر الشرع الفكرة لما فيها من مصلحة مزدوجة وجعلها إلزامية في جناية القتل؛ لأن فيها مسئولية متعدية بسبب التناصر، وذلك بعد إخراج حالة العمد منها كما يقتضيه التنظيم القانوني، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تعقل العواقل عمدا (¬1) » ، لكي لا يكون في معاونة العامة تشجيع على الجريمة، وهذا هو المنطق القانوني نفسه في عدم جواز التأمين من المسئولية قانونا عن فعل الغش وجناية العمد. وتركها اختيارة للمروءات؛ وفقا للتوجيه الشرعي العام في التعاون المندوب إليه شرعا في الكوارث المالية الأخرى. ¬

_ (¬1) روى هذا الحديث ابن عباس موقوفا عليه من رواية محمد بن الحسن. وروي مرفوعا وهو غريب. انظر [نصب الراية] للزيلعي (4 \ 399) ، كتاب المعاقل، الحديث الخامس.

فما المانع من أن يفتح باب لتنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث يجعله ملزما بطريق التعاقد والإرادة الحرة كما جعله الشرع إلزاميا دون تعاقد في نظام العواقل؟ وهل المصلحة التي يراها الشرع الإسلامي بالغة من القوة درجة توجب جعلها إلزامية بحكم الشرع تصبح مفسدة إذا حققها الناس على نطاق واسع بطريق التعاقد والمعاوضة التي يدفع فيها القليل؛ لصيانة الكثير وترميم الضرر الكبير من مختلف الكوارث؟ وذلك لكي يصبح هذا الباب قابلا لأن يستفيد منه كل راغب، مع ملاحظة أن هذا التوسع في النطاق داخل في دائرة التعاون المندوب إليه شرعا بصورة غير إلزامية. يقول ابن القيم رحمه الله في صدد ما يجوز من المشارطات العقدية شرعا: كل ما يجوز بذله وتركه دون اشتراط فهو لازم بالشرط. انظر [إعلام الموقعين] ، طبعة المنيرية ج 3 ص 339، 340 (¬1) ا. هـ. واعترض عليه: بأن العاقلة أسرة يربطها الدم وتربطها الرحم الموصولة والتي أمر الله تعالى بوصلها، ويربطها التعاون على البر والتقوى، ويربطها التعاون في تحمل الغرم والاشتراك في كسب الغنم فهل يشبهها بأي وجه من وجوه الشبه عقد جعلي ينشأ بالإرادة يكون بين شركة مستغلة، وطرف آخر يقدم إليها مالا كل عام أو كل شهر؟ إننا نستغرب كل الاستغراب هذا القياس بعد بيان الأستاذ الفاضل، بل إننا من بعده أشد استغرابا (¬2) . وأجيب عن ذلك: بأن تشبيه عقد التأمين بنظام العواقل في الإسلام من ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (412) . (¬2) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (517) .

حيث فكرة التعاون لا يستلزم أن تكون شركة التأمين أسرة أو عشيرة للمؤمن له، كما أن العاقلة هي أسرة الجاني في القتل الخطأ. إن من المقرر في علم أصول الفقه أن طريق القياس الذي إليه يرجع الفضل الأعظم في تضخم الفقه الإسلامي هذه الضخامة لا يجب فيه الاتحاد المطلق في الصورة بين المقيس والمقيس عليه وإلا لما كان عندئذ حاجة لإجراء القياس إذ يكون المقيس عندئذ فردا من أفراد المقيس عليه يدخل مباشرة تحت النص الشرعي الذي يقرر الحكم في المقيس عليه، بل يكفي في القياس التشابه بين المقيس والمقيس عليه في نقطة ارتكاز الحكم ومناطه وهي العلة، وهذا ما رأيناه في نظام العواقل الإسلامي، ونظام التأمين الحديث في بعض فروعه، ففي نظام العواقل تعاون إلزامي شرعا في تحمل المسئولية المالية عن القتل الخطأ، وفي نظام التأمين تعاون اختياري بطريق التعاقد على توزيع الموجب المالي (المسئولية المدنية) في حال التأمين من المسئولية وهو أحد فروع نظام التأمين، فما أوجبه الشرع إيجابا في بعض الأحوال دون تعاقد؛ لما فيه من مصلحة يمكن أن يسوغ نظيره تسويغا بطريق التعاقد في صور أخرى لمصالح أخرى تشبه تلك في المصلحة من حيث النفع التجاري والاقتصادي بوجه عام، وتخفيف نتائج الكوارث والأخطار عمن يصاب بها، وذلك بطريقة فنية؛ لتوزيعها وتشتيتها (¬1) . ويمكن أن يقال: لا يصح قياس عقد التأمين على نظام العواقل في ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (543، 544) .

الإسلام؛ لأنه قياس مع الفارق وتقرير ذلك من وجوه: الوجه الأولى: أن الهدف من تحمل العاقلة عن الجاني هو النصرة الشرعية بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى، والهدف من إنشاء عقد التأمين ما هو إلا الاستغلال المحض للشركة المتعاقدة مع المستأمن. الوجه الثاني: نظام العواقل الخطر الذي يتحمل تراه مشتركا، فكل فرد من أفراد العاقلة عضو يناله حظه من القسط الواجب عليه، وقد يقع منه شيء وقد لا يقع. وإذا وقع منه شيء يوجب تحمل العاقلة عنه فقد يكون أقل مما دفع أو أكثر أو مساويا، وليس بين ما يدفعه في حالة حصول الحادث من غيره وبين ما يدفع عنه في حالة وقوعه في الخطأ أي ارتباط لكن بينهما ارتباط في موجب العقل فكان واضحا في باب التعاون وتحمل المسئولية. الوجه الثالث: أن القدر الذي يحمله الفرد من أفراد العاقلة يختلف باختلاف أوصاف الأفراد من غني وفقير ودرجة متوسطة بينهما، فالفقير لا يحمل شيئا، وما يقدر عليه الغني والمتوسط يختلف باختلافهما، أما في عقد التأمين فالمقدر على الشركة إذا وقع الخطر يؤخذ حتما، سواء كانت غنية أو فقيرة فإن كانت غنية استلم منها وإن كانت فقيرة بقي في ذمتها، وسواء أجحف بها أو لم يجحف بها، فأين هذا من نظام العواقل؟ الوجه الرابع: ما تتحمله العاقلة مقدر شرعا وهو الدية أما في عقد التأمين فيؤخذ المبلغ الموقع عليه في العقد سواء كان أقل من الدية أو أكثر - هذا في التأمين على الحياة -.

قياس التأمين على عقد الحراسة

ح - قياس التأمين على عقد الحراسة: نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام الفقهاء السابقين في حكم عقد الحراسة. ثم نذكر بعده كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بهذا القياس على الجواز: أما كلام بعض الفقهاء السابقين: فقال أبو محمد بن غانم بن محمد البغدادي في أثناء الكلام على الأجير الخاص قال: النوع الثاني: ضمان الحارس، استأجر رجلا؛ لحفظ الخان فسرق من الخان شيء، لا ضمان عليه؛ لأنه يحفظ الأبواب، أما الأموال فإنها في يد أربابها في البيوت، وروي عن أحمد بن محمد القضي في حارس يحرس الحوانيت في السوق فنقب حانوتا فسرق منه شيء: أنه ضامن؛ لأنه في معنى الأجير المشترك، لأن لكل واحد حانوتا على حدة فصار بمنزلة من يرعى غنما لكل إنسان شاة ونحو ذلك. وقال الفقيه أبو جعفر الفقيه أبو بكر: الحارس أجير خاص ألا يرى أنه لو أراد أن يشغل نفسه في موضع آخر لم يكن له ذلك فلا يضمن الحارس إذا نقب حانوت؛ لأن الأموال محفوظة في يد ملاكها وهو الصحيح، وعليه الفتوى من المشتمل. وفي الخلاصة: حارس يحرس الحوانيت في السوق فنقب حانوت رجل فسرق منه شيء، لا يضمن؛ لأن الأموال في يد أربابها، وهو حافظ الأبواب كذا قال الفقيه أبو جعفر، وعليه الفتوى، قال: وهذا قولهما أما عند أبي حنيفة لا يضمن مطلقا وإن كان في يده؛ لأنه أجير. اهـ. الخاني المستأجر لحفظ الأمتعة ليلا ونهارا ذهب إلى الحمام بعد

طلوع الفجر قبل طلوع الشمس وتركها بلا حافظ مفتوحة فكسر السارق مغلاق الأنبار خانه وسرق ما فيه لا يضمن ليلا كان أو نهارا ولو سرق من الكنار التي في الصحن يضمن من القنية. وفي الوديعة من الخلاصة خان فيه منازل وبيوت وكل بيت مقفل في الليل فخرج من مقفل وترك باب الخان مفتوحا فجاء سارق ونقب بيتا وسرق منه مالا فإنه لا يضمن فاتح الباب وهو يظهر من باب فتح القفص. اهـ. وقال البهوتي: واختار الشيخ صحة ضمان حارس ونحوه (¬1) . ¬

_ (¬1) [الإقناع وشرحه] ، (3 \304) .

كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة

وأما كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بقياس عقد التأمين على عقد الحراسة: فقد بينه الأستاذ الزرقاء بقوله: الأجير الحارس هنا - وإن كان مستأجرا على عمل يؤديه هو القيام بالحراسة - نجد أن عمله المستأجر عليه ليس له أي أثر أو نتيجة سوى تحقيق الأمان للمستأجر على الشيء المحروس، واطمئنانه إلى استمرار سلامته من عدوان شخص أو حيوان يخشى أن يسطو عليه، فهو ليس كعمل الصانع فيما استؤجر على صنعه وعمل الخادم في الخدمة المستأجر عليها وعمل الناقل في نقل الأشياء التي استؤجر لنقلها فنقلها إلى مكان لم تكن فيه، فكل هذه أعمال منتجة نتيجة محسوسة يقوم بها الأجير، أما

الحارس فليس لعمله أية نتيجة سوى هذا الأمان الذي بذل المستأجر جزء ماله للحصول عليه، فكذا الحال في عقد التأمين يبذل فيه المستأمن جزءا من ماله في سبيل الحصول على الأمان من نتائج الأخطار التي يخشاها (¬1) . وأجاب الأستاذ أبو زهرة رحمه الله عن ذلك: بمنع أن يكون محل العقد هو الأمان، فقال: إننا نفهم أن يكون الأمان باعثا على العقد ولا نفهم أن يكون محل العقد فمن يشتري عقارا محل العقد هو العقار والباعث هو السكنى أو الاستغلال، ولا يعد الاستغلال محلا، والأمان أمر معنوي لا يباع ولا يشترى، وهو أمر نفسي يتصل بالنفس قد يأتي بغير ثمن وقد يدفع فيه الثمن الكثير ولا أمان، ولا نعرف عقدا من العقود الإسلامية والمدنية محل العقد فيه الأمان حتى نلحق به ذلك العقد الغريب ولكن الأستاذ حفظه الله يفكر، ثم يأتي لنا بعقد الحراسة ويعتبر محل العقد فيها الأمان ويلحق به عقد التأمين غير الاجتماعي كما تلحق الأشياء بأشباهها. ونقول له: إن الأمان في عقد الحراسة غاية وليس محلا للعقد، وطرفا العقد فيه هما: الأجير والمستأجر، وأحب أن أقول: إن الأجير هنا أجير واحد، أي: أجير خاص يأخذ الأجرة في نظير القرار في مكان معين يكون فيه قائما بالحراسة، والأجرة فيه على الزمن لا على مجرد العمل، ومن المؤكد أنه ليس محل العقد هو الأمان وعدم السرقة، وإلا ما استحق الأجرة إذا قام بالحراسة على وجهها وسرق المكان المحروس. وأن الأستاذ يقول في رد هذا الكلام بالنص: (العقود جميعا إنما شرعت ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (404) .

بحسب غايات ونتائجها، فما هي غاية عقد الحراسة؟ وما هو ذلك الأثر الذي يحصل من عمل الحارس؟ الجواب واضح، وهو أن ذلك الأثر ليس سوى أمان المستأجر واطمئنانه) . وأقول للأستاذ الجليل: إني لا أسيغ هذا الكلام؛ لأن آثار العقود لا تسمى محل العقود، فإذا اشتريت عقارا لأسكنه أتعد غايتي هذه هي محل العقد؟ وهل يعد البائع ضامنا إلى هذه السكنى بحيث إذا اشتريته وتبين لي أنه لا يصلح لسكناي أو لا يصلح للسكنى يكون البيع باطلا مع أني عاينت ونظرت ثم اشتريت (¬1) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (522) .

قياس التأمين على الإيداع

ط - قياس التأمين على الإيداع: وبيانه: أن المودع إذا أخذ أجرة عن الوديعة يضمنها إذا هلكت فكذلك المؤمن يضمن؛ لأنه يأخذ من المستأمن مبلغا من المال على أن يؤمنه من خطر معين، ويجاب عن هذا بقول ابن عابدين: والفرق بينه وبين الأجير المشترك أن المعقود عليه في الإجارة هو العمل، والحفظ واجب عليه تبعا، أما المودع بأجرة فإن الحفظ واجب عليه مقصودا ببدل؛ فلذا ضمن، كما صرح بذلك فخر الدين الزيلعي في باب ضمان الأجير. وهنا لما أخذ المبدل بمقابلة الحفظ الذي كان واجبا عليه تبعا صار الحفظ واجبا عليه قصدا بالبدل، فيضمن لكن يبقى النظر في أنه هل يضمن مطلقا أو فيما يمكن الاحتراز عنه؟ والذي يظهر الثاني؛ لاتفاقهم في الأجير المشترك على عدم ضمانه فيما لا يمكن الاحتراز عنه، فالظاهر أن المودع بأجر كذلك؛

لأن الموت والحريق ونحوهما مما لا يمكن ضمانه والتعهد بدفعه (¬1) انتهى. ويمكن أن يقال أيضا: بأن عقد التأمين عقد معاوضة تجارية بخلاف الإيداع فإن القصد به المساعدة بحفظ الوديعة لا الاتجار بها. . . ¬

_ (¬1) [مجموعة رسائل ابن عابدين] ، الأجوبة المحققة في أسئلة متفرقة (2 \ 178) .

قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة

ي - قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة: وصورتها: أنه في أواسط القرن الثامن وقعت مسألة بـ (سلا) على عهد قاضيها أبي عثمان سعيد العقباني تسمى: قضية تجار البز مع الحاكة. هي: أن تجار البز رأوا توظيف مغارم مخزنية ثقيلة عليهم فاتفقوا على أن كل من اشترى منهم سلعة دفع درهما عند رجل يثقون به، وما اجتمع من ذلك استعانوا به على الغرم، وأراد الحاكة منعهم بدعوى أنه يضر بهم، وينقص من ربحهم. قال العقباني: فحكمت بإباحة ذلك، بشرط ألا يجبر واحد من التجار على دفع الدراهم (¬1) . ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه قياس مع الفارق، فإن قضية تجار البز مع الحاكة من باب التأمين التبادلي، وهو تعاون محض، وعقود التأمين التي هي محل البحث عقود معاوضة تجارية يراد من ورائها الربح فلا يصح قياسها على قضية تجار البز مع الحاكة. . ¬

_ (¬1) [الفكر السامي] ، ص (310) .

التأمين فيه مصلحة وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح

ك - التأمين فيه مصلحة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبار المصالح نذكر فيما يلي الكلام في المراد بالمصلحة وفي الاحتجاج بها عند

العلماء السابقين، ثم نذكر ما تيسر من كلام الفقهاء المعاصرين في بيان الاستدلال بهذا الدليل. أما كلام العلماء السابقين: فقال الآمدي في بيان المصلحة المرسلة: هي ما لم يشهد الشرع باعتبارها ولا إلغائها. وقد اتفقت الشافعية والحنفية وأكثر الفقهاء على امتناع التمسك بها إلا ما نقل عن مالك مع إنكار أصحابه لذلك عنه، والحق في ذلك مذهب الجمهور؛ لأن ما لا يكون معتبرا في الشرع لا يكون دليلا شرعيا، وما يقال: إنه ما من وصف مصلحي إلا وقد اعتبر ما هو من جنسه - غير صحيح؛ لأنه إن أريد المشاركة بينه وبين الوصف المعتبر في الجنس القريب منه فهو الملائم ولا نزاع فيه، وإن أريد به الجنس الغائي فكما قد شارك الوصف المعتبر فيه فقد شارك الأوصاف الملغاة فيه وليس إلحاقه بالمعتبر أولى من الملغى (¬1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الطريق السابع: (المصالح المرسلة) وهو: أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه، فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها: (المصالح المرسلة) ، ومنهم من يسميها: الرأي. وبعضهم يقرب إليها الإنسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة لكن بعض الناس يخص المصالح ¬

_ (¬1) [منتهى السؤل في علم الأصول] (4 \ 56) .

المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين. وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا، كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي، فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال؛ ليحفظ الخمسة فقط فقد قصر. وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا، بناء على أن الشرع لم يرد بها ففوت واجبات ومستحبات أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه. وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها. وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا. والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله - غالبا - وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك، فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو

رؤية الشيء حسنا - كما أن الاستقباح رؤيته قبيحا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول: بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق، والقول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة؛ لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشرع ينفع في الدين والدنيا، ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1) (¬2) . وقال الشاطبي رحمه الله: المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص؛ حفظا للنفوس والأطراف وغيرها. والثاني: ما شهد الشرع برده، فلا سبيل إلى قبوله، إذ المناسبة لا تقتضي ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 219 (¬2) [مجموع الفتاوى] (11 \ 342) وما بعدها.

الحكم لنفسها، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي، بل إذا ظهر المعاني وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذ نقبله، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى، بل يرده، كان مردودا باتفاق المسلمين. ومثاله: ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء: أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء، وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم، والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين،. . . . . إلى أن قال: الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه. فهذا على وجهين: أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى؛ كتعليل منع القتل للميراث بالمعاملة بنقيض المقصود، بتقدير أن لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله. والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل

المسمى بالمصالح المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله. وذكر عشرة أمثلة لذلك، ثم قال: فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة، وتبين لك اعتبار أمور: أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله. والثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون (¬1) المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل؛ كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره، والحج ونحو ذلك. ثم ذكر مجموعة أمثلة توضح ذلك ثم قال: والثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري، من باب (ما لا يتم الواجب إلا به. . .) فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. اهـ. (¬2) . ¬

_ (¬1) كذا في المطبوع، ولعله (على سنن) . (¬2) انظر [الاعتصام] ، (2 \ 283، 284، 286، 287، 307، 313) .

كلام الفقهاء المعاصرين في بيان وجه الاستدلال بالمصالح المرسلة

وأما كلام الفقهاء المعاصرين في بيان وجه الاستدلال بهذا الدليل: فقال عبد الرحمن عيسى: ومن الإنصاف أن نقرر أن التأمين نشأ وليد الحاجة، ولم تزل عملياته تتعدد وتتنوع تبعا لما يحققه من مصالح اقتصادية

كبيرة فقلما نجد باخرة تعبر البحار إلا مؤمنا عليها، وقلما نجد البضائع تشحن من الخارج بحرا أو جوا إلا مؤمنا عليها وكذلك قلما نجد العمارات الشاهقة والمتاجر الكثيرة إلا مؤمنا عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البنوك ومخازن الشركات للقطن والحبوب وغيرها مؤمن عليها ضد الحريق، وكذلك مخازن البترول والزيوت ومخازن الأخشاب وكذلك المصانع الكثيرة وعمالها مؤمن عليها، وكذلك السيارات والطائرات فقد دفعت قواعد الاقتصاد الناس دفعا إلى التأمين لدى شركات التأمين، ليأمنوا الكوارث المالية الفادحة التي يتعرضون لها نظير ما يدفعون لشركات التأمين من مال لا يذكر بجانب الكوارث والخسارة إذا نزلت بفرد منهم. وكم سمعنا من قبل التأمين عن بيوت عظيمة للتجار خربت بغرق بضائعهم وسفنهم، وكم سمعنا عن محال تجارية نشيطة أكلتها النيران وأمسى ذووها يتكففون الناس، وكم وكم من كوارث حلت بذوي الحظ العاثر فبددت الثروات وجلبت الذل والخسران، ولكن التأمين وقد انتشر وظهرت آثاره حقق معناه، فأمن الناس من هذه الكوارث المخربة للديار العامرة وخففت من فداحتها. فعن رضا تام من طالب التأمين يتعاقد مع شركة التأمين ويدفع أقساط التأمين، وعن رضا تام من الشركة تتعاقد معه وتدفع قيمة الخسارة إذا نزلت به فإنها تجمع منه ومن غيره مبالغ كثيرة، وفي الغالب تكون السلامة بحيث يبقى لها بعد سداد الخسائر أرباح كثيرة (¬1) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (473، 474) .

وقال الأستاذ عبد الرحمن عيسى أيضا: وقد قرر العلماء أن المصالح العامة إذا كانت تناسب حكما شرعيا فإن ذلك الحكم الذي تناسبه يثبت للعمل الذي يحقق المصلحة العامة، اعتبارا بهذا الوصف المناسب للحكم، ولهم في ذلك سلف عظيم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فقد جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن في صحف بعد موقعة اليمامة؛ خوفا من ضياعه بقتل القراء ولم يكن ذلك من قبل أبي بكر. وقد نسخ عثمان بن عفان من هذه الصحف أربعة مصاحف ووزعها على الأقطار، وأمر بحرق كل صحيفة تخالف الصحف؛ منعا لاختلاف الناس في القرآن. ولعمر بن الخطاب من ذلك الكثير لإثبات الحكم الشرعي للعمل الذي يحقق المصلحة العامة فهو الذي أنشأ الدواوين، وأنشأ البريد، بل قد أسقط عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، مع أنها صنف من الأصناف الثمانية الذين تصرف لهم الزكاة؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه رأى أن هذا الصنف كان يأخذ من الزكاة مراعاة لمصلحة المسلمين إذ كان فيهم ضعف، وكانوا في حاجة إلى تألف هذا الصنف، ولكن لما قويت شوكة المسلمين ولم يصيروا في حاجة إلى تأليف هؤلاء، رأى عمر رضي الله عنه - وهو البصير بأمر المسلمين ألا مصلحة في إعطاء هذا الصنف من الزكاة، بل المصلحة في منعهم لئلا يظن بالمسلمين الضعف. كذلك أسقط عمر أيضا حد السرقة عن السارق عام المجاعة؛ لأن المجاعة لما اشتدت ربما تكون هي التي دفعت تحت تأثير العوامل الطبيعية إلى السرقة؛

ليحصل السارق على الطعام الذي لا يكاد يجده، فتكون حالة الضرورة هي الدافع على السرقة فاقتضى عدم إقامة الحد؛ مراعاة لهذه العوامل الطبيعية. فهذه المواقف وأمثالها من الخلفاء الراشدين على مشهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم إنكارهم - دليل على أنهم يرون أن المصالح العامة من الأمور المناسبة للحكم الشرعي، والتي ينبني عليها ثبوت ذلك الحكم. . . . وقد بينا بوضوح تام أن التأمين يحقق مصالح عامة هامة فيكون حكمه الجواز شرعا؛ اعتبارا لما يحققه من المصالح العامة (¬1) . وقال أيضا: قد يبدو ما قررناه ظاهرا وجليا من أن التأمين يحقق الصالح العام بالنسبة للتأمين ضد أخطار الملكية؛ كالتأمين ضد الحريق وضد الغرق وضد السرقة. وقد يبدو محتاجا إلى ظهور وجلاء بالنسبة للتأمين على الحياة وضد سائر الأخطار الشخصية فنجلي عمليات التأمين بالنسبة للأخطار الشخصية بما يأتي: إن التأمين على الحياة وضد سائر الأخطار؛ كالتأمين على بعض الحواس كالسمع والبصر، وغيرهما أو على بعض أجزاء الجسم كاليدين والساقين وغيرهما، هذا التأمين يحقق الصالح العام في الصناعات والمهن الخطيرة، فيه تخفيف آلام الكوارث التي تنزل برجال الصناعات، وتهون الشدائد التي تقع على المخاطرين من رجال الأعمال؛ لهذا يكون التأمين ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (474، 475) .

ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة جائزا شرعا (¬1) . وقد علق الأستاذ أبو زهرة على كلام الأستاذ عبد الرحمن عيسى في الاستدلال بالمصلحة على جواز التأمين فقال: لا بد أن أتعرض لبعض أمور جزئية ثارت في أثناء المناقشات أو جاءت في بعض البحوث، ومن ذلك الكلام على أمر يتعلق بالمصلحة فقد جاء في بحث فضيلة الشيخ عبد الرحمن عيسى: أن عمر بن الخطاب ترك بعض النصوص لأجل المصلحة، وذكر مسألتين أبلاهما التكرار، وهما: مسألة المؤلفة قلوبهم، ومسألة قطع اليد وإهماله عام المجاعة. ونقول: بالنسبة للأولى إن عمر بن الخطاب ما أسقط سهم المؤلفة قلوبهم وما كان في استطاعته أن يسقط نصا قرآنيا، ولكن عمر منع إعطاء أناس كانوا يأخذون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق رضي الله عنه - كالزبرقان بن بدر وغيره - فهو ما اعتبر إعطاءهم حقهم مكتسبا، بل اعتبر مثل هذا العطاء موقوفا بحال الشخص وحال المسلمين. وقد يقول: ولكنه لم يعط غيره، ونقول: إنه رأى أنه لا موضع لتطبيق النص؛ لعدم حاجة المسلمين إليه، ومثل ذلك سهم المدينين فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يجد مدينا يسد عنه، وكذلك سهم الرقاب فهل يعد إسقاطا للسهم إذا لم يوجد عبد مسلم يعتق. ولذلك قرر الفقهاء بالإجماع: أنه إذا وجدت حال يكون فيها إعطاء ناس تأليفا لقلوبهم فيه تقوية للإسلام فإن النص القرآني يجب الأخذ به، ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (477) .

ولذلك لا يصح لأحد أن يقول: إن عمر رضي الله عنه أسقط سهم المؤلفة قلوبهم، إن ذلك قول الإفرنجة الذين لا يرجون للإسلام وقارا ويريدون توهين نصوصه، وتبعهم بعض كبار العلماء عن غير بينة، وكل امرئ يخطئ ويصيب مهما كانت منزلته العلمية. وأما مسألة عدم قيام الحد عام الرمادة، وهو السنة التي اشتدت فيها المجاعة على المسلمين؛ فذلك لأن عمر رضي الله عنه وجد شبهة في إقامته، ومن المقررات الفقهية: أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا بالشبهات ما استطعتم (¬1) » ، والشبهة: أنه رأى السارقين في حال جوع شديد واضطرار، ويعلم كل فقير أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن من كان في حال جوع يتعرض فيه للتلف إذا لم يأكل يباح له مال غيره بقدر ما يسد رمقه، وإذا منعه فقاتله فقتل صاحب الطعام لا دية فيه، والقصة تنبئ عن ذلك، فإن غلمان حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة ونحروها وأكلوها، فهم عمر بأن يقيم الحد عليهم، ولكنه تبين له أن حاطبا يجيع غلمانه، فلم يقم الحد وغرمه، أليس في الخبر ما يدل على أنه درأ الحد بشبهة الاضطرار، وقد اشتكوا إليه وثبتت صحة شكواهم، والعام عام مجاعة؛ ولذلك يقرر فقهاء الحنابلة وكثيرون غيرهم أن من شرط إقامة الحد في السرقة ألا يكون السارق قد سرق طعامه في مجاعة؛ لمكان شبهة الاضطرار في إقامة الحد (¬2) . ¬

_ (¬1) خرجه ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة. (¬2) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (525) .

التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة

ل - التأمين لم يقم دليل على منعه فيكون مباحا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة: لقد ذكرت اللجنة في بحث الشرط الجزائي كلاما مفصلا عن العلماء السابقين على أن الأصل في الأشياء الإباحة، فرأت الاكتفاء بذكره هناك عن إعادته هنا. وأما وجه استدلال العلماء المعاصرين بهذا الدليل، فقد أوضحه الشيخ عبد الرحمن عيسى بقوله: قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1) قال المفسرون: أي: هو الذي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض؛ لتنتفعوا به في دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي دينكم بالاعتبار والاستدلال. وقالوا أيضا: استدل كثير من أهل السنة بالآية على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وقال صاحب [تفسير المنار] : إن هذه الجملة هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء: (إن الأصل في الأشياء الإباحة) . هذا الأصل يتبعه أن تكون معاملات الناس فيما خلقه الله لمنفعتهم مباحة إلا ما ورد فيه دليل بخصوصه يقتضي غير ذلك فبمقتضى هذه القاعدة تكون عمليات التأمين التي بيناها مباحة؛ لأنها من معاملات الناس فيما خلقه الله لمنفعتهم، ولم يرد بخصوصها نص يحظرها (¬2) . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 29 (¬2) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، (478) .

وقال أيضا بالنسبة للتأمين على الحياة: ويمكن أن نثبت للتأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة - الجواز أيضا من ناحية الإباحة التامة الثابتة لكل عمل يتصل بما خلقه الله لمنفعتنا، ولم يرد فيه بخصوصه دليل يقتضي الحظر؛ لأن كل ذلك ينطبق على هذا التأمين (¬1) . وقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: رأينا الشخصي في الموضوع في نظري أن نقطة الانطلاق في بحث حكم الشريعة الإسلامية في عقد التأمين يجب أن تبدأ من ناحية هي عندي حجر الأساس وهي: هل أنواع العقود في الشريعة الإسلامية محصورة لا تقبل الزيادة؟ أي: هل نظام التعاقد في الإسلام يحصر الناس في أنواع معينة من العقود المسماة، وهي العقود المعروفة في صدر الإسلام من بيع وإجارة وهبة ورهن وشركة وصلح وقسمة وإعارة وإيداع وسائر العقود الأخرى المسماة، التي ورد لها ذكر وأحكام في مصادر فقه الشريعة من كتاب وسنة وإجماع ولا يبيح للناس إيجاد أنواع من العقود غير داخلة في أحد الأنواع السابقة المذكورة لهم، أم أن الشريعة تركت الباب مفتوحا للناس في أنواع العقود وموضوعاتها فيمكنهم أن يتعارفوا على أنواع جديدة إذا دعتهم حاجاتهم الزمنية إلى نوع جديد ليس فرعا من أحد الأنواع المعروفة قبلا، ويصح منهم كل عقد جديد متى توافرت فيه الأركان والشرائط العامة التي تعتبر من النظام التعاقدي العام في الإسلام؛ كالشرائط المطلوبة شرعا في التراضي والتعبير عن الإرادة وفي محل العقد، بحيث لا يتضمن العقد ما يخالف قواعد ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (478) .

الشريعة التي عبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وإن كان مائة شرط (¬1) » ، فكتاب الله في هذا المقام معناه: القواعد العامة في الشريعة، وليس معناه القرآن فهو مصدر بمعنى المفعول، أي: ما كتبه الله على المؤمنين وأوجبه عليهم، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬2) والجواب على هذا السؤال: أن الشرع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة قبلا من العقود، بل للناس أن يبتكروا أنواعا جديدة تدعوهم حاجتهم الزمنية إليها بعد أن تستوفى الشرائط العامة المشار إليها. وهذا ما نراه هو الحق وهو من مبدأ سلطان الإرادة العقدية في الفقه الإسلامي وقد استوفيت بحثه في كتابي [المدخل الفقهي العام] وهو الجزء الأول من سلسلة الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد. . وقد خالف في ذلك الظاهرية، فاعتبروا أن الأصل في العقود هو التحريم ما لم يرد في الشرع دليل الإباحة (¬3) . وقد ذكر الأستاذ الزرقاء بيع الوفاء عند الحنفية شاهدا على أن العقود لا تنحصر فيما كان موجودا في عصر التنزيل أو الصحابة. فقال: ومن الشواهد الواقعية في المذهب الحنفي على أن الأصل في العقود الجديدة هو الإباحة شرعا عقد (بيع الوفاء) الذي نشأ في القرن ¬

_ (¬1) خرجه بهذا اللفظ البزار والطبراني عن ابن عباس. وأصله في الصحيحين وأحمد ومالك وأبو داود والنسائي وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والبيهقي عن عائشة. (¬2) سورة النساء الآية 103 (¬3) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (387، 388) .

الخامس الهجري. ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامي واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره لا من حيث موضوع العقدين، بل من حيث الملابسات الخارجية والاختلافات التي أحاطت بكل منهما، فبيع الوفاء أيضا عقد جديد ذو خصائص وموضوع وغاية يختلف فيها عن كل عقد آخر من العقود المسماة المعروفة قبله لدى فقهاء الشريعة، وهو ينطوي على غاية يراها الفقهاء محرمة؛ لأنه يخفي وراءه ألوانا من الربا المستور، وهو الحصول على منفعة من وراء القرض حيث يدفع فيه الشخص مبلغا من النقود ويسميه ثمنا لعقار يسلمه صاحبه إلى دافع المبلغ الذي يسمى مشتريا للعقار؛ لينتفع به بالسكنى أو الإيجار بمقتضى الشراء بشرط أن صاحب العقار الذي يسمى في الظاهر بائعا متى وفى المبلغ المأخوذ على سبيل الثمنية استرد العقار، ونتيجة ذلك أن ما يسمى مشتريا بالوفاء لا يستطيع أن يتصرف بالعقار الذي اشتراه، بل عليه الاحتفاظ بعينه كالمرهون؛ لأنه سوف يكلف رده لصاحبه متى أعاد إليه الثمن ولكل منهما الرجوع عن هذا العقد، أي: فسخه وطلب التراد ولو حددت له المدة. هذه خلاصة بيع الوفاء الذي تعارفه الناس في بخارى وبلخ في القرن الخامس الهجري وثارت حوله اختلافات عظيمة بين فقهاء العصر إذ ذاك حول جوازه ومنعه وتخريجه، أي: تكييفه، أعظم مما هو واقع اليوم في عقد التأمين. أ - فمن الفقهاء من نظر إلى صورته فاعتبره بيعا، وطبق عليه شرائط البيع فاعتبره بيعا فاسدا، لأن الشرط المقترن به مفسد وأفتى فيه بذلك.

ب - ومنهم من اعتبره بيعا صحيحا وألغى فيه شرط الإعارة معتبرا أن هذا الشرط من قبيل الشرط اللغو لا الشرط المفسد وأفتى بذلك، وهذا مشكل جدا وفيه ضرر للبائع؛ لأن الثمن فيه عادة أقل من القيمة الحقيقية للعقار كالدين المرهون له فيه. ج - ومنهم من نظر إلى غايته لا إلى صورته، فرآه في معنى الرهن الذي اشترط فيه انتفاع المرتهن بالمرهون، فاعتبره رهنا وألغى فيه شرط الانتفاع، وأفتى بذلك. قال العلامة الشيخ بدر الدين محمود بن قاضي سماوه: في الفصل (18) من كتابه [جامع الفصولين] نقلا عن فتاوى الإمام نجم الدين عمر بن محمد النسفي ما نصه: البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالا للربا وأسموه: بيع الوفاء هو رهن في الحقيقة لا يملكه المشتري ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمر وأتلفه من شجره ويسقط الدين بهلاكه، لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام؛ لأن المتعاقدين وإن سمياه بيعا لكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذ العاقد (أي: البائع) يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني، فهبة المرأة نفسها مع تسمية المهر وحضرة الشهود نكاح، وهكذا. ثم قال: قال السيد الإمام: قلت للإمام الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفتواك أنه رهن وأنا على ذلك، فالصواب: أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس. فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد

ظهر ذلك بين الناس فمن خالفنا فليبرز نفسه وليقم دليله. انتهى كلام النسفي. أقول: أبرز المخالفون بعد ذلك أنفسهم، واستقرت الفتوى في المذهب الحنفي على ما سمي: (القول الجامع) وهو أن بيع الوفاء ليس بيعا صحيحا، ولا بيعا فاسدا ولا رهنا، وإنما هو عقد جديد ذو موضوع وخصائص مختلفة عما لكل واحد من هذه العقود الثلاثة، ولكن فيه مشابه من كل عقد من هذه الثلاثة؛ لذلك قرر فقهاء المذهب بعد ذلك أحكاما مستمدة من هذه العقود الثلاثة جميعا، ولم يلحقوه بأحدها ويطبقون عليه أحكامه، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه من مؤلفات المذهب الحنفي. وبهذا القول الجامع أخذت مجلة [الأحكام العدلية] حتى جاء قانوننا المدني سنة 1949م فمنع بيع الوفاء استغناء بأحكام الرهن الحيازي، والتاريخ اليوم يعيد نفسه فتتجدد لدينا مشكلة نظير مشكلة بيع الوفاء هي مشكلة عقد التأمين، فبعض العلماء يراه عقد مقامرة وبعض آخر يراه عقد رهان يتحدى فيه قضاء الله وقدره، وبعض آخر يراه التزام ما لا يلزم، وآخرون يرونه عقد تعاون مشروع على ترميم المضار وتحمل مصائب الأقدار، فهو نظام معاوضة تعاونية، وإن انحرف به ممارسوه وأحاطوه بشوائب ليست من ضرورة نظامه، وواضح أني لا أعني تشبيه عقد بيع الوفاء بعقد التأمين من حيث الموضوع، وإنما أعني: أن بيع الوفاء شاهد واقعي في تاريخ الفقه الإسلامي على جواز إنشاء عقود جديدة، وأنه اعتراه في أول نشأته ما اعترى اليوم عقد التأمين من اختلاف في تخريجه وتكييفه

وإلحاقه ببعض العقود المعروفة قبلا وتطبيق شرائطه عليه أو اعتباره عقدا جديدا مستقلا يقرر له من الأحكام الفقهية ما يتناسب مع خصائصه وموضوعه (¬1) . وقد أجاب الأستاذ أبو زهرة عن ذلك فقال: قد قرر أن الأصل في العقود عند الحنابلة وخصوصا ابن تيمية - الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ونقول: إن موضوع الكلام كان في الشرط لا في أصل العقود. ولقد أجاب عن ذلك الأستاذ: بأن المشارطات قد تؤدي إلى تغير معنى العقد، وأن الاختلاف في العقود هو ذات الاختلاف في الشروط، ونقول: إن المذكور في كتاب العقود لابن تيمية هو في الشرط، ومجيئه للعقود إنما هو من أن الشروط بطبيعتها تغير مقتضى العقد فهي تتضمن تغييرا في ماهيته من بعض النواحي، وإذا كان الأمر كذلك فإن عقد التأمين عقد جديد، فهل يباح بمقتضى هذه القاعدة؟ وقد نساير الأستاذ الجليل ولا نمنع الإباحة ما دام العقد متفقا مع ما قرره الشارع من أحكام للعقود وليس مجافيا لها، فالعبرة في هذا العقد من ناحية لا من حيث إنه عقد جديد يجوز، بل ناحية ما اشتمل عليه، أيتفق مع أحكام الشريعة أم يخالفها؟ وبالنسبة لبيع الوفاء قلنا: إن هذا العقد معناه: أن يبيع شخص عينا على الشيخ أن له استردادها إذا رد الثمن في مدة معلومة، وفي غالب أحوال هذا العقد التعاقد تكون العين ذات غلة، فتكون غلتها للمشتري، ويكون مؤدى العقد أن يكون قد اقترض البائع مبلغا فائدته هي غلة العين، وإذا لم تكن لها غلة فإن ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (387) وما بعدها.

الربا ينتفي عنه، وإن كان يندر ذلك. وإن هذا العقد قد شاع في بلاد ما وراء النهر، وصارت القروض لا تكون إلا على أساسه وللناس حاجة فيها فصارت الحاجة تطلبه والحاجات إذا عمت نزلت منزلة الضرورات، ولذلك نقل ابن نجيم صحته والذين قالوا بصحته اختلفوا: أيخرج على أنه رهن أم يخرج على أنه بيع فيه شرط الخيار للبائع أو المشتري؟ وعلى الأول لا تباح الغلة، وعلى الثاني لا تنتقل الملكية إلى المشتري؛ لأنه إذا كان الخيار للبائع تستمر ملكيته للمبيع بمقتضى أحكام المذهب الحنفي وتنتقل الملكية للمشتري مع حق الفسخ إذا كان الخيار له. والكثيرون من الفقهاء لا يبيحونه، ولسنا ندري لماذا يستشهد الأستاذ بعقد تحيط به الشبهات، على هذا النحو، وعلى فرض إباحته فقد أدخل في عقد قائم إما الرهن وإما البيع فلا يكون جديدا، وقد كتب الأستاذ ردا ولم يجئ بالنسبة لبيع الوفاء بجديد غير أنه نقل نصوص الفقهاء فيه ونحن مسلمون بها ابتداء (¬1) . وعقب على ذلك الأستاذ مصطفى الزرقاء فقال: قال الأستاذ الجليل الشيخ محمد أبو زهرة: (إن الخلاف بين الظاهرية وغيرهم في مشروعية التعاقد إنما هو في الشروط التي يشرطها العاقد في العقد لا في إنشاء عقود جديدة، فالظاهرية يتطلبون في إباحة الشرط نصا شرعيا، وسواهم يطلب دليلا مطلقا من نص أو سواه، وإن الحنابلة جعلوها مباحا في الزواج، وابن ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (515) .

تيمية أباحه مطلقا. .) إلخ. وجوابي على هذه الملاحظة: أن الخلاف في جواز المشارطات العقدية التي لم يرد فيها نص شرعي إذا توافر فيها المعيار الشرعي في الشروط هو نفسه الخلاف في جواز إنشاء عقود جديدة لم يرد فيها نص شرعي وهو مشمول بقاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة) والخلاف الذي فيها، وذلك لأن الشرط جزء من العقد الواقع فيه، فما يقال في الشروط الجديدة التي لم يرد فيها نص شرعي من حيث الجواز وعدمه يقال في العقود الجديدة التي ليس فيها نص، وأستاذنا المفضال أبو زهرة نفسه يقرر هذا في كتبه وهو أمر مفروغ منه. اهـ. وقال الأستاذ الجليل أبو زهرة: بمناسبة ذكرى بيع الوفاء شاهدا من الواقع التاريخي في الفقه الإسلامي على جواز عقود جديدة غير العقود المعروفة قبلا قال رحمه الله: إن بيع الوفاء قد أباحه الحنفية على أساس أنه عقد من العقود المعروفة، وهو يرى أنه ليس عقدا جديدا، بل هو بيع ربوي اخترعه أكلة الربا، ولا يجوز أن يباح للضرورة. وجوابي على هذه الملاحظة: أن ما بينه الأستاذ أبو زهرة هو صحيح بالنسبة إلى بداية ظهور بيع الوفاء في القرن الخامس الهجري، حيث إن فقهاء العصر إذ ذاك اختلفوا في تخريجه والحكم فيه على أساس إلحاقه بأحد العقود المعروفة، فمنهم من ألحقه بالبيع الصحيح واعتبر شرط الوفاء والإعادة فيه لغوا، ومنهم من ألحقه بالبيع الفاسد، ومنهم من ألحقه بالرهن وهم الأكثر، ولكن المتأخرين من الفقهاء بعد ذلك ضربوا بكل هذه التخريجات عرض الحائط؛ لعدم انطباقها على حقيقة بيع الوفاء وطبيعته

العرفية وقصد المتعاقدين فيه، وخرجوا فيه برأي جديد سمي: (القول الجامع) ورجح بعلامة الفتوى وخلاصته: أنه عقد جديد لا يشبه أي عقد آخر من العقود المعروفة، وأثبتوا له حكما مركبا من بعض أحكام البيع الصحيح وبعض أحكام البيع الفاسد وبعض أحكام الرهن وصححوه على هذا الأساس إذا استوفى شرائط الانعقاد العامة، كما أوضحته في المحاضرة، وهذا مقرر في [الدر المختار] ، و [رد المحتار] ، و [تنقيح الفتاوى الحامدية] ، للعلامة ابن عابدين وغيرها من كتب المتأخرين وأخذت به المجلة في المادة (118) وبنت عليه أحكام بيع الوفاء في الفصل الذي عقدته له وأوضحه شراحها. وأما كونه حيلة اخترعها أكلة الربا كما يقول الأستاذ أبو زهرة فهذا أمر آخر، وإنني لم أبحث فيما ينبغي أن يحكم به على بيع الوفاء في نظري من الجواز وعدمه فقد أكون متفقا مع الأستاذ أبي زهرة في رأيه فيه ولكني أستشهد به شاهدا واقعيا على إقرار فقهائنا السابقين له بصفة أنه عقد جديد وليس صورة من عقد سابق معروف فتكون قضية جواز إنشاء عقود جديدة غير الأنواع المعروفة في العصر الفقهي الأول قد وقعت فعلا ولم تبق في الحيز النظري فقط. وتكون النتيجة بالنسبة إلى موضوعنا هي: إن كون التأمين عقدا جديدا خارجا عن نطاق العقود القديمة ليس بمانع من جوازه شرعا إذا لم يكن فيه ما يخالف الشرائط الشرعية العامة في نظام التعاقد (¬1) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (539 - 541) .

الاستدلال على جوازه بالعرف

م - الاستدلال على جوازه بالعرف: نذكر فيما يلي ما تيسر من كلام بعض العلماء السابقين في معنى العرف وأقسامه، ومستند اعتباره، ورجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف وشروط اعتباره وحكمه عند معارضته للشرع وكيفية إعماله، وهل هو دليل مستقل أو لا؟ ثم نذكر وجه استدلال بعض الفقهاء المعاصرين به على جواز التأمين ومناقشته هذا التوجيه. 1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا: (عرف) العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلا بعضه ببعض، والآخر على السكون والطمأنينة. فالأول العرف: عرف الفرس، وسمي بذلك؛ لتتابع الشعر عليه. ويقال: جاءت القطا عرفا عرفا، أي: بعضها خلف بعض. . . . والأصل الآخر المعرفة والعرفان. تقول: عرف فلان فلانا عرفانا ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه؛ لأنه من أنكر شيئا توحش منه ونبا عنه. . . والعرف والمعروف، وسمي بذلك، لأن النفوس تسكن إليه. . . . . . . . . . . (¬1) . وقال ابن عابدين: قال في الأشباه وذكر الهندي في شرح [المغني] : العادة عبارة عما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة وهي أنواع ثلاثة: العرفية العامة؛ كوضع القدم. والعرفية ¬

_ (¬1) [معجم مقاييس اللغة] ، (4 \ 281) .

الخاصة، كاصطلاح كل طائفة مخصوصة؛ كالرفع للنحاة والفرق والجمع والنقض للنظار، والعرفية الشرعية؛ كالصلاة والزكاة والحج تركت معانيها اللغوية بمعانيها الشرعية. انتهى. وفي [شرح الأشباه] للبيري عن [المستصفى] : العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. اهـ. وفي [شرح التحرير] : العادة هي الأمر المتكرر من غير علاقة عقلية. اهـ. قلت: بيانه أن العادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكررها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية، فالعادة والعرف بمعنى واحد من حيث المقاصد وإن اختلفا من حيث المفهوم (¬1) . 2 - وقال ابن عابدين - مبينا أقسام العرف -: ثم العرف عملي وقولي، فالأول: كتعارف قوم أكل البر ولحم الضأن، والثاني: كتعارفهم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه غيره، والثاني مخصص للعام اتفاقا؛ كالدراهم تطلق ويراد بها النقد الغالب في البلدة، والأول مخصص أيضا عند الحنفية دون الشافعية، فإذا قال: اشتر لي طعاما أو لحما، انصرف إلى البر ولحم الضأن عملا بالعرف العملي كما أفاده التحرير (¬2) . 3 - وقال ابن عابدين - مستدلا على اعتبار العرف -: واعلم أن بعض ¬

_ (¬1) [مجموعة رسائل ابن عابدين] (2 \ 114) . (¬2) [مجموعة رسائل ابن عابدين] (2 \ 114، 115) .

العلماء استدل على اعتبار العرف بقوله سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (¬1) ، وقال في [الأشباه] : القاعدة السادسة: العادة محكمة وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: «ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن (¬2) » قال العلائي: لم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه، أخرجه الإمام أحمد في [مسنده] . 4 - وقال ابن عابدين - مبينا رجوع كثير من المسائل إلى العادة والعرف -: واعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة، حتى جعلوا ذلك أصلا، فقالوا في الأصول في (باب ما تترك به الحقيقة) : تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة، هكذا ذكر فخر الإسلام، انتهى كلام [الأشباه] ، وفي [شرح الأشباه] للبيري قال في [المشرع] : الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي [المبسوط] : الثابت بالعرف كالثابت بالنص (¬3) . وقال ابن القيم في إعمال العرف في كثير من المسائل: وقد أجري العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع: منها: نقد البلد في المعاملات، وتقديم الطعام إلى الضيف، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره، والشرب من خوابي السيل ومصانعه في الطرق، ودخول الحمام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 199 (¬2) مسند أحمد بن حنبل (1/379) . (¬3) [مجموعة رسائل ابن عابدين] (2 \ 115) .

الحمامي لفظا، وضرب الدابة المستأجرة إذا حرنت في السير وإيداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة، ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه من امرأة أو خادم أو ولد. وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه، وجواز التخلي في دار من أذن له بالدخول إلى داره، والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثوي عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنه عقد الإجارة لفظا اعتمادا على الإذن العرفي، وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل، ولو وكل غائبا أو حاضرا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك، ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجة إلى التخلي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعا سواه، إما لضيق الطريق أو لتتابع المارين فيها، فكيف بالصلاة فيه والتيمم بترابه؟ ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظا لماليتها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعا، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الإضرار به وترك التصرف هاهنا هو الإضرار. ومنها: لو استأجر غلاما فوقعت الأكلة في طرفه فتيقن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه. ومنها: لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك، ولم يضمن نقب الحائط. ومنها: لو قصد العدو مال جاره فصالحه ببعضه دفعا عن بقيته جاز له

ولم يضمن ما دفعه. ومنها: لو وقعت النار في دار جاره فهدم جانبا منها على النار لئلا تسري إلى بقيتها لم يضمن. ومنها: لو باعه صبرة عظيمة أو حطبا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها به، وإن لم يأذن له في ذلك لفظا. ومنها: لو جذ ثماره أو حصد زرعه ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه وإن لم يأذن فيه لفظا. ومنها: لو وجد هديا مشعرا منحورا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع منه ويأكل منه. ومنها: لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقة الباب عليه، وإن كان تصرف في بابه لم يأذن له فيه لفظا. ومنها: الاستناد إلى جواره والاستظلال به. ومنها: الاستمداد من محبرته، وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر، وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا يشترى له به شاة فاشترى شاتين بدينار فباع إحداهما بدينار، وجاء بالدينار والشاة الأخرى (¬1) ، فباع وقبض بغير إذن لفظي اعتمادا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع، ولا إشكال بحمد الله في هذا الحديث بوجه عام، وإنما الإشكال في استشكاله، فإنه جار على محض القواعد كما عرفته (¬2) . ¬

_ (¬1) خرجه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارقطني. (¬2) [إعلام الموقعين] (2 \ 393، 394) .

5 - لقد اشترط العلماء رحمهم الله شروطا لاعتبار العرف نذكرها فيما يلي: الشرط الأولى: أن يكون العرف مطردا أو غالبا. قال السيوطي: إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا (¬1) . الشرط الثاني: أن يكون العرف عاما في جميع بلاد الإسلام، قال ابن نجيم: هل يعتبر في بناء الأحكام العرف العام أو مطلق العرف ولو كان خاصا؟ المذهب الأول: قال في البزازية معزيا إلى الإمام البخاري الذي ختم به الفقه: الحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص، وقيل: يثبت. وذكر مجموعة أمثلة (¬2) . الشرط الثالث: أن لا يكون العرف مخالفا لأدلة الشرع وقد مضى بيانه عن السيوطي في تعارض العرف والشرع. الشرط الرابع: أن يكون العرف الذي يحمل عليه التصرف موجودا وقت إنشائه بأن يكون حدوث العرف سابقا وقت التصرف ثم يستمر إلى زمانه فيقارنه سواء أكان التصرف قولا أو فعلا. قال السيوطي: العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر. قال الرافعي: العادة الغالبة تؤثر في المعاملات؛ لكثرة وقوعها ورغبة الناس فيما يروج في النفقة غالبا، ولا يؤثر في التعليق والإقرار، بل يبقى ¬

_ (¬1) [الأشباه والنظائر] للسيوطي، ص 83. (¬2) [الأشباه والنظائر] لابن نجيم، ص 102.

اللفظ على عمومه فيها، أما في التعليق فلقلة وقوعه، وأما في الإقرار فلأنه إخبار عن وجوب سابق، وربما تقدم الوجوب على العرف الغالب، فلو أقر بدراهم وفسرها بغير سكة البلد قبل، ثم ذكر طائفة من الأمثلة (¬1) . الشرط الخامس: وهو أن لا يوجد قول أو عمل يفيد عكس مضمونه، كما إذا كان العرف في السوق تقسيط الثمن، واتفق العاقدان صراحة على الحلول، قال العز بن عبد السلام: كل ما يثبت العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه، بما يوافق مقصود العقد صح (¬2) . 6 - وقال السيوطي في حكم العرف عند معارضته للشرع: (فصل) في تعارض العرف مع الشرع. هو نوعان: أحدهما: أن لا يتعلق بالشرع حكم فيقدم عليه عرف الاستعمال، فلو حلف لا يأكل لحما، لم يحنث بالسمك وإن سماها الله لحما، ثم ذكر جملة أمثلة وقال: فيقدم عرف الاستعمال على الشرع في جميع ذلك؛ لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف. والثاني: أن يتعلق به حكم فيتقدم على عرف الاستعمال فلو حلف: لا يصلي، لا يحنث إلا بذات الركوع والسجود، ثم ذكر جملة أمثلة وقال: ولو كان اللفظ يقتضي العموم والشرع يقتضي التخصيص اعتبر خصوصي الشرع في الأصح، فلو حلف لا يأكل لحما، لم يحنث بالميتة. . . إلى آخر الأمثلة (¬3) . ¬

_ (¬1) [الأشباه والنظائر] للسيوطي، ص 87. (¬2) [القواعد الكبرى] (2 \ 178) . (¬3) [الأشباه والنظائر] ، ص (83، 84) .

7 - وقال السيوطي في كيفية إعمال العرف: قال الفقهاء: كل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ومثلوه بالحرز في السرة، وذكر كثيرا من الأمثلة. (¬1) . 8 - بقي أن يقال: هل العرف دليل شرعي مستقل أو لا؟ قال عبد الوهاب بن خلاف: وبالنظر الدقيق في العرف وأمثلته وما قال الأصوليون والفقهاء فيه - يتبين أن العرف ليس دليلا مستقلا يشرع الحكم في الواقعة بناء عليه، وإنما هو دليل يتوصل به إلى فهم المراد من عبارات النصوص ومن ألفاظ المتعاملين، وعلى تخصيص العام منها وتقييد المطلق، ويستند إليه في تصديق قول أحد المتداعيين إذا لم توجد لأحدهما بينة، وفي رفض سماع بعض الدعاوى التي يكذبها العرف وفي اعتبار الشرط الذي جرى به العرف، وفي الترخيص بمحظور دعت إليه ضرورة الناس وجرى به عرفهم، وفي أمثال هذا مما يجعل اجتهاد المجتهد أو قضاء القاضي ملائما حال البيئة ومتفقا وإلف الناس ومصالحهم. قال شهاب الدين القرافي في قواعده: إذا جاءك رجل من غير إقليمك لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات - أيا كانت - إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين. (¬2) . وأما كلام الفقهاء المعاصرين فقالوا: كثر التعامل في التأمين وتعارف ¬

_ (¬1) [الأشباه والنظائر] ، ص (88 - 90) . (¬2) [مصادر التشريع فيما لا نص فيه] ، ص (126) .

عليه الناس والعرف مصدر شرعي فيكون التأمين جائزا بناء على قاعدة العرف. وقد أجاب أبو زهرة عن الاستدلال بالعرف فقال: أهذا العقد وهو التأمين غير التعاوني قد صار الآن عرفا عاما أو خاصا؟ إننا لو أحصينا عدد المستأمنين بهذا النوع من التأمين نجد نسبتهم بالنسبة لعموم الشعب الإسلامي نسبة ضئيلة جدا لا تسوغ لنا أن تعتبرهم موجدين لعرف. إن هذا العرف المدعى يصادم أمورا مستنبطة من النصوص وقد وضحنا هذه الأمور، وإذا قيل إنها شبهات، نقول: قد تكاثفت، وكثرت حتى صرنا نحكم معها بأن هذا النوع من العقد لا يتلاءم مع مقاصد الشارع ولا مع ما قرره الفقهاء، بل نقول: إنها تصادم نصا وهو نص الربا، فالربا يحيط بها من كان ناحية. (¬1) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (523) .

الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه

ن - الاستدلال على الجواز بتحقق الضرورة إليه: نذكر فيما يلي كلام بعض الفقهاء السابقين في تعريف الضرورة، ونتبعه ببيان بعض الفقهاء المعاصرين لوجه الاستدلال به. أما كلام الفقهاء السابقين: فقال الجصاص في معرض كلامه على حكم الأكل من الميتة للمضطر: الضرورة هي خوف الضرر بترك الأكل إما على نفسه أو عضو من أعضائه فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضرر في الحال فقد زالت الضرورة (¬1) . ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] (1 \ 151) .

وقال الزركشي والسيوطي: هي - أي: الضرورة - بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات أو تلف منه عضو. (¬1) . وقال ابن قدامة في كلامه على حكم الأكل من الميتة للمضطر: الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل (¬2) . وأما كلام الفقهاء المعاصرين في الاستدلال بالضرورة على جواز التأمين: فقد بينه الأستاذ عبد الرحمن عيسى بقوله: دين الإسلام مبني على أساس اليسر ورفع الحرج والعسر، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3) وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬4) وقد بنى العلماء على ذلك قواعد منها: (إذا ضاق الأمر اتسع) و (المشقة تجلب التيسير) و (الضرورات تبيح المحظورات) و (ما حرم لذاته يباح للضرورة) و (ما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة) . وقد ناط الفقهاء معرفة المشقة التي تجلب التيسير بالعرف فالرجوع إليه فيما شق على الناس وما لا يشق عليهم أمر لا بد منه. وقد تبين في التأمين أن حاجة الناس إليه قد اشتدت وعظمت، وأنه يشق عليهم جدا ألا يمارسوا عمليات التأمين؛ ليدفعوا بها الكوارث الفادحة ¬

_ (¬1) قواعد الزركشي [المنثور في ترتيب القواعد الفقهية] مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق (8543) . (¬2) [المغني] (8 \ 595) . (¬3) سورة البقرة الآية 185 (¬4) سورة الحج الآية 78

التي تقضي على الثروات وتخرب الديار وإن الاقتصاد الصحيح يحتم على ذوي المتاجر أو المصانع الكبيرة ممارسة عمليات التأمين؛ حفاظا على أموالهم، ودفاعا لما قد ينزل بهم من خسائر تبدد ثرواتهم وتخرب العامر من بيوتهم، كل هذا يحققونه بالتأمين لدى شركات التأمين في مقابلة ما يدفعون لهذه الشركات من مال يتضاءل بجانب ما يجنون من ثمرات مع اطمئنان قلوبهم واستقرارها من جهة المحافظة على ثرواتهم، وقال أيضا: بالنسبة للتأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة. قال: كذلك يمكن أن يثبت لهذا التأمين الجواز من ناحية أن الإسلام مبني على أساس اليسر ورفع الحرج والعسر؛ لأن التأمين ضد الأخطار الشخصية في الصناعات والمهن الخطيرة قد اشتدت إليه الحاجة وعظمت؛ لما يدرأ من الكوارث وما يخففه منها عن رجال الصناعات والأعمال في المصانع الكبيرة؛ لهذا يشق على الناس في هذه الصناعات والمهن الخطيرة أن تمنعهم من ممارسة هذا النوع من التأمين الذي تطمئن به أفئدتهم وتستقر قلوبهم على أنفسهم كلا وبعضا حتى يؤدوا أعمالهم فيكون جائزا شرعا؛ دفعا للحرج والعسر. انتهى المقصود (¬1) . وقال أيضا: أما التأمين ضد الأخطار الشخصية، سواء كان تأمينا على الحياة - أو على أي جزء من أجزاء الجسم في غير الصناعات والمهن الخطيرة - فينظر فيه: فإن كان من نوع التأمين المختلط، وهو: الذي يجمع بين التأمين ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (476) وما بعدها.

والادخار - كان جائزا شرعا؛ لأن فيه تشجيعا على الادخار، فهو يحقق الصالح العام من الناحية الاقتصادية، بشرط أن يتفق طالب التأمين مع الشركة على عدم استغلال أقساط تأمينية في الربا والكسب الحرام، حتى تبرأ ذمة المؤمن له من هذه الناحية التي قد تستوجب الحرمة بطريق التسبب. . . . . أما التأمين ضد الأخطار الشخصية في غير الصناعات والمهن الخطيرة إذا كان تأمينا عاديا - فإنه لا يجوز شرعا؛ لأنه لا يحقق صالحا عاما ولا يترتب على تركه مشقة يقرر العرف: أنها لا تتحمل كما أنه لا تدعو إليه حاجة تتصل بالمصالح العامة (¬1) . وقد أجاب عن ذلك الأستاذ الصديق محمد الضرير بقوله: (والواقع أن الضرورة بالمعنى الذي يقصده الفقهاء لا يتحقق بالنسبة لعقد التأمين، ولكن مما لا شك فيه أن الناس سيقعون في حرج لو منعنا عقد التأمين بالكلية بعد أن ألفوه وتغلغل في جميع نواحي حياتهم، فالتأمين وإن لم يكن من ضروريات الناس إلا أنه من حاجياتهم التي يترتب على فقدها الضيق والمشقة وقد أبيحت كثير من المعاملات التي يقتضي القياس منعها؛ لأن حاجة الناس تدعو إليها. ورغم كل هذا فإني لا أرى إباحة عقد التأمين بوضعه الحالي؛ لأنه لا يصح أن نلجأ إلى استخدام الضرورة أو الحاجة إلا إذا لم نجد سبيلا غيرهما) . (¬2) . ¬

_ (¬1) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (487) . (¬2) [أسبوع الفقه الإسلامي] ، ص (464) .

وقد أجاب الأستاذ أبو زهرة رحمه الله عن ذلك: فقال: ونحن نقر بهذه الوقائع؛ لأننا لا نحاول إنكار الواقع ولكن لكي نحكم بأن التأمين غير التعاوني أمر ضروري لا بد أن نفرض أنه لا يمكن أن يوجد تأمين سواه؛ لأن الضرورة لا تكون إلا حيث تستغلق الأمور ويتعين المحرم سبيلا للإنقاذ فهذا الذي يبلغ به الجوع أقصاه ولا يجد إلا الخنزير يأكله فإنه يباح له أكله، ولكن إن وجد طعاما آخر، ولكنه دون الخنزير اشتهاء مع أنه طيب حلال لا يعد في حال ضرورة. والأمر هنا كذلك فإن التأمين الاجتماعي فتح الأبواب وإن لم يكن قائما أقمناه، وإن كان ضيقا وسعناه، وإذا كان الأفق محدودا وضعنا بين أيدي المفكرين أوسع الآفاق. ويعجبني أن قائدي السيارات في الخرطوم عندما فرض عليهم نظام التأمين كونوا من بينهم جماعة تعاونية تكون هي المؤمنة فيكونون جميعا مستأمنين ومؤمنين، حفظ الله لهم إيمانهم وبارك لهم في رزقهم، فهلا دعونا العالم الإسلامي إلى إيجاد نظام تعاوني بدل هذا النظام غير التعاوني الذي لا نزال مصرين على أنه بدعة يهودية. إنه لا يصح لنا دينا أن نترك أمرا بينا نيرا ضاحيا، ونسير على أمر إن لم يكن حراما فهو مشتبه فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬1) » ، ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (دعوا الربا والريبة) . ¬

_ (¬1) خرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم عن الحسن بن علي. وأحمد أيضا عن أنس مرفوعا وموقوفا. والطبراني عن ابن عمر. صححه الترمذي وأبو الجوزاء السعدي. وهو قطعة من حديث طويل ذكر فيه قنوت الوتر.

ومن القائلين بجواز التأمين مطلقا: الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، إلا أنه لا يرى الاستدلال على جوازه بما استدل به غيره من قياسه على بعض العقود المعروفة، وإنما يراه عقدا مستحدثا قائما بذاته، ونظرا لذلك أوردنا رأيه، بدليله بعد كلام المانعين وكلام المجيزين، وفيما يلي ما برر به رأيه: الوقوف عند أحد جانبي عقد التأمين وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له بالذات، دون مجاوزة ذلك إلى الجانب الآخر وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن ومجموع المؤمن لهم حيث لا يكون المؤمن إلا وسيطا بينهم ينظم تعاونهم جميعا على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل منهم، هو الذي دفع بكثير ممن تصدوا للإفتاء في مشروعية التأمين في الفقه الإسلامي إلى القول بعدم مشروعيته. وتكون فتواهم في هذه الحالة صحيحة؛ لأنه إذا نظر إلى عقد التأمين من جهة العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له بالذات، ومن جهة هذه العلاقة وحدها، لم يعد عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة أو رهان كما قدمنا، ويكون غير مشروع، لا فحسب في الفقه الإسلامي، بل أيضا في القانون المصري وفي جميع القوانين التي تحرم المقامرة والرهان. ولكن الجانب الآخر من عقد التأمين وهو الجانب الذي يجب الوقوف عنده؛ لأنه هو الذي يؤصل التأمين ويحدد طبيعته ويبرز التأمين في ثوبه الحقيقي، ويبين أنه ليس إلا تعاونا منظما تنظيما دقيقا بين عدد كبير من الناس معرضين جميعا لخطر واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضرارا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا التعاون. وشركة التأمين ليست في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم

هذا التعاون على أسس فنية صحيحة، وهي أسس معقدة في أشد الحاجة إلى جهود شركات ضخمة، وسنعرض لها فيما يلي: فالتأمين إذن هو تعاون محمود، تعاون على البر والتقوى: يبر به المتعاونون بعضهم بعضا، ويتقون به جميعا شر المخاطر التي تهددهم. فكيف يجوز القول بأنه غير مشروع؟ وقد كثرت الفتاوى الشرعية في التأمين، بعضها يحلله وبعضها يحرمه، ومن الفتاوى البارزة في تحليله فتوى الأستاذ الإمام محمد عبده في شأن التأمين على الحياة، ثم ذكر فتوى الشيخ محمد عبده وأشار إلى أقوال الأستاذ الزرقاء ومناقشة أبي زهرة له، وقول برهام محمد عطا الله وأحمد السنوسي، وعيسوي أحمد عيسوي ثم ذكر رأي المانعين أمثال: الشيخ ابن عابدين والشيخ محمد بخيت والشيخ أحمد قراعة والشيخ أبي زهرة والأستاذ أحمد إبراهيم. ثم قال بعد ذلك: وفيما قدمناه من هذه الآراء المختلفة نقف عند المسائل الآتية: (أ) لا تصح التفرقة بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي، فكلاهما يقوم على أساس واحد، ولا يختلفان إلا في أن الدولة في التأمين الاجتماعي هي التي تقوم بدور المؤمن. فمن قال بجواز التأمين الاجتماعي وجب أن يقول بجواز التأمين الفردي. (ب) لا يجوز قياس عقد التأمين على عقود أو نظم معروفة في الفقه الإسلامي، فهو لا يشبه عقد المضاربة في شيء، ولا هو كفالة، ولا هو وديعة بأجر، ولا عقد موالاة، ولا يدخل في ضمان خطر الطريق، ولا في الوعد الملزم، ولا في نظام العواقل إلى آخر ما جاء

في التشبيهات. (ج) وإنما التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه، وهو ليس بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي. ويأخذ عليه المحرمون له أنه مقامرة، وفيه غرر، وينطوي على الربا. (د) أما أن فيه مقامرة، فقد بينا أن عقد التأمين بعيد كل البعد عنها. فهو من الناحية الفنية الاقتصادية ليس بمقامرة، لا بالنسبة إلى المؤمن فهو يأخذ الأقساط من المؤمن له ثم يعيد توزيعها عليهم ولا يعرض نفسه لاحتمال الخسارة أو المكسب بأكثر مما يعرض نفسه أي شخص آخر في تجارة مشروعة، ولا بالنسبة إلى المؤمن له إذ هو لا يقامر معتمد على الحظ والمصادفة، بل على العكس من ذلك تماما يقصد أن يتوقى شر الحظ والمصادفة ويتعاون مع غيره من المؤمن له على توزيع أضرار ما يبيته الحظ والمصادفة لهم جميعا، ولا يجوز أن نسمي التعاون مقامرة. (هـ) وأما الغرر، فقد بينا في كتابنا [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] أن هناك تطورا ملحوظا في الفقه الإسلامي، في هذه المسألة، وأن أكثر المذاهب تطورا فيها هو مذهب مالك. فقد بين ابن رشد في عبارة جلية الأصل عند مالك في ذلك فقال: (والأصل عنده أن من الغرر يجوز لموضع الضرورة) [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] للمؤلف، جزء 3، ص (32، 33) . (و) وأما الربا، فهذه مسألة لا تقتصر على عقد التأمين، بل تتناول ضروبا كثيرة التعامل، وقد بحثناها بحثا مفصلا، وميزنا بين ربا الجاهلية من

جهة وبين ربا النسيئة وربا الفضل من جهة أخرى، فالأول: غير جائز إلا للضرورة، والثاني: غير جائز أيضا إلا للحاجة. فإذا قامت الحاجة في نظام اقتصادي معين إلى دفع فوائد معتدلة على رءوس الأموال، كان هذا جائزا ما دامت الحاجة قائمة، وإلا عاد الأمر إلى أصله من عدم الجواز (انظر تفصيل ذلك في [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] للمؤلف ج 3 صـ 169 - 227) . (ز) بقي أن يقال: إن عقد التأمين لا يدخل في العقود المعروفة في الفقه الإسلامي وليس له نظير فيها، وقد وردت هذه العقود على سبيل الحصر، فأي عقد جديد لا يستند إليها يكون غير جائز. وقد سبق لنا أيضا أن بحثنا هذه المسألة، وقلنا في صددها ما يأتي: (هل العقود في الفقه الإسلامي مذكورة على سبيل الحصر؟ . يبدو لأول وهلة أنها كذلك. ففي كتب الفقه لا نجد نظرية عامة للعقد، بل نجد على النقيض من ذلك عقودا مسماة تأتي عقدا بعد عقد على ترتيب غير منطقي، ويختلف هذا الترتيب في كتاب عنه في كتاب آخر، حتى ليظن الباحث أن الفقه الإسلامي لا يعرف إلا هذه العقود المسماة، وأن أي اتفاق لا يدخل تحت عقد من هذه العقود لا يكون مشروعا. ولكن هذه النظرة إلى الفقه الإسلامي نظرة سطحية، فإن الباحث يلمح من خلال الأحكام التي يقررها الفقهاء في صدد هذه العقود المسماة إنهم يسلمون بإمكان أن يمتزج عقدان أو أكثر من هذه العقود في عقد واحد، يجمع بين خصائص العقود التي امتزجت فيه، بل ويلمح أن هناك قاعدة فقهية مسلمة، هي أن المسلمين عند شروطهم، وأن كل

اتفاق تتوافر فيه الشروط التي يقررها الفقه الإسلامي يكون عقدا مشروعا. ويكفي أن نشير إلى ما جاء في [البدائع] في هذا الصدد: (وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «المسلمون عند شروطهم (¬1) » . فظاهره يقتضي لزوم الوفاء بكل شرط إلا ما خص بدليل؛ لأنه يقتضي أن يكون كل مسلم عند شرطه، وإنما يكون كذلك إذا لزمه الوفاء به. . وهذا لأن الأصل أن تصرف الإنسان يقع على الوجه الذي أوقعه إذا كان أهلا للتصرف، والمحل قابلا، وله ولاية عليه) [البدائع] جزء 5، صـ 259. ومن ثم فما ذكره الفقهاء من العقود المسماة، إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في زمنه فإذا استحدثت الحضارة عقودا أخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقها كانت عقودا مشروعة [مصادر الحق في الفقه الإسلامي] للمؤلف الجزء الأول، صـ (80 - 83) ويؤخذ من ذلك أن عقد التأمين لا يجوز القول بعدم مشروعيته من ناحية أنه عقد جديد غير معروف في الفقه الإسلامي، وإنما قد يتوهم أن يتسرب إليه عدم المشروعية من ناحية الربا أو من ناحية الغرر، وقد سبق أن نفينا عنه كلا من الناحيتين. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) خرجه أبو داود وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة والحاكم وصححه؛ والدارقطني والحاكم عن عمرو بن عوف المزني. والحاكم عن أنس، والطبراني عن رافع بن خديج، والبزار عن ابن عمر. (¬2) حاشية على ج من [الوسيط] صـ (1087-1090) .

رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم

الرأي الثالث: رأى بعض العلماء المعاصرين التفصيل بين أنواع التأمين في الحكم، فحرم التأمين على الحياة أو بعض أعضاء الجسم؛ كالحنجرة أو الأصابع. واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المانعون للتأمين التجاري مطلقا من كونه قمارا، ونوعا من بيوع الغرر، ومتضمنا بيع دراهم بدراهم مثلا نسيئة مع التفاضل، وأباح التأمين على السيارات من الحوادث التي تصاب بها وما تصيب به غيرها من الأضرار في النفوس والأموال، واستدل على ذلك ببعض ما استدل به المجيزون للتأمين التجاري مطلقا من كونه من باب التعاون والوفاء بالعقود، وقد أمر الله بذلك، وكون الأصل في العقود الإباحة حتى يقوم دليل على المنع، ولم ينهض دليل على منع عقود التأمين، وقاسه على ضمان السوق وضمان المجهود، ومن كونه مصلحة ولشدة حاجة الناس إليه، وناقش كل أدلة مخالفيه بما ناقش كل من الفريقين السابقين مخالفه فلذا اكتفت اللجنة بما تقدم من استدلال الفريقين، ومناقشتها خشية الإطالة بما لا جدوى فيه. وسلك جماعة في التفصيل طريقا أخرى هي الفرق بين ما كان من عقود التأمين خاليا من الربا فيجوز، وما كان منها مشتملا على الربا إلا إذا دعت الضرورة إليه فيرخص فيه مؤقتا حتى تتاح الفرصة للتخلص مما فيه الربا، وقد تقدم استدلال المانعين وجه اشتمال عقود التأمين على الربا، ومناقشة المجيزين لذلك فلا نطيل بذكره خشية التكرار. وتردد بعض العلماء المعاصرين في الحكم على التأمين التجاري بحل وبحرمة ورأى أن هذه المسألة عامة ولها أهمية كبرى فينبغي أن لا تترك لفرد

يفتي فيها، بل يجب على علماء العصر أن يوفروا جهودهم ويكدسوها لبحثها، وأن يتعاونوا على حل مشاكلها، لينتهوا من بحثهم إلى رأي واضح يذهب ببلبلة الأفكار ويقضي على اختلاف الآراء أو يحد من كثرتها ويخفف من شدتها. ومن نظر في هذا لم يجد فيه حكما موافقا أو مخالفا لما تقدم وإنما هو نصيحة لعلماء العصر ومشورة عليهم بما يجب أن يعملوه وإرشاد إلى الطريق التي يجب أن يسلكوها لحل المشكل والوصول إلى نتيجة مرضية. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في المعاقد حلالها وحرامها تتعلق بما سبق من الأدلة - رأينا أن نتبعها ما تقدم؛ لما تشتمل عليه من زيادة البيان. قال رحمه الله تعالى: فصل: القاعدة الثانية: في المعاقد حلالها وحرامها. والأصل في ذلك: أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق. وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه هما: الربا، والميسر، فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة، وسور: آل عمران، والروم، والمدثر، وذم اليهود عليه في سورة النساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما

جمعه الله في كتابه، «فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر» ، كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه. والغرر: هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك: أن العبد إذا أبق، أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حصل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء، وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك - كله من نوع الغرر. وأما الربا: فتحريمه في القرآن أشد؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬2) وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم، وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما أمر مجرب عند الناس، وذلك: أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج، وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 278 (¬2) سورة البقرة الآية 279

إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف، وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه، فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج، بخلاف الميسر، فإن المظلوم فيه غير مفتقر، ولا محتاج إلى العقد، وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها، والربا فيه ظلم محقق لمحتاج، وبهذا كان ضد الصدقة، فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء، فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه، فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه، فهذا من أشد أنواع الظلم، ولعظمته: لعن النبي صلى الله عليه وسلم أكله، وهو الأخذ، وموكله وهو المحتاج المعطي للزيادة، وشاهديه وكاتبه، لإعانتهم عليه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق، كما حرم قليل الخمر؛ لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل: كون الدرهم صحيحا، والدرهمين مكسورين، أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك، ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما، فلم يروا به بأسا، حتى أخبرهم الصحابة الأكابر- كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما - بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل. وأما الغرر: فإنه ثلاثة أنواع: إما المعدوم؛ كحبل الحبلة، وبيع السنين، وإما المعجوز عن تسليمه؛ كالعبد الآبق، وإما المجهول المطلق، أو المعين المجهول جنسه أو قدره؛ كقوله: بعتك عبدا أو بعتك

ما في بيتي، أو بعتك عبيدي. فأما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته؛ كقوله: بعتك الثوب الذي في كمي، أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك - ففيه خلاف مشهور، وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة، وعن أحمد فيه ثلاث روايات، إحداهن: لا يصح بيعه بحال، كقول الشافعي في الجديد، والثانية: يصح وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه، كقول أبي حنيفة، وقد روي عن أحمد: لا خيار له. والثالثة: - وهي المشهور - أنه يصح بالصفة، ولا يصح بدون الصفة، كالمطلق الذي في الذمة، وهو قول مالك. ومفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن، وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا، وكذلك اللبن عند الأكثرين، وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، فإنه يصح، مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور؛ كمالك والشافعي وأحمد، وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد. وجوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل. فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره. ولما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص، فلم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه

الحاجة، وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب، على اختلاف القولين للشافعي وأحمد، وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب. إذا تبين ذلك: فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال: هو أفقه الناس في البيوع، كما كان يقال: عطاء أفقه الناس في المناسك، وإبراهيم أفقههم في الصلاة، والحسن أجمعهم لذلك كله؛ ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك من أجوبته، والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب. فإنهما يحرمان الربا ويشددان فيه حق التشديد؛ لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته، ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق، حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه، وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبالغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله، لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها. وجماع الحيل نوعان: إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود. فالأول: مسألة (مد عجوة) وضابطها: أن يبيع ربويا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه، مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر، حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار. فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة (مد عجوة) بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما، وإنما يسوغ مثل هذا من جوز الحيل من الكوفيين، وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا. وأما إن

كان كلاهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد، والمنع: قول مالك والشافعي، والجواز: قول أبي حنيفة، وهي مسألة اجتهاد. وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي، كبيع شاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن: فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز. والنوع الثاني من الحيل: أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود، مثل أن يتواطآ على أن يبيعه الذهب بخرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب، أو يواطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا، ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه، وهي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك، مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين، أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك. فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (¬1) » قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو من جنس حيل اليهود، فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل، ويسمونه: المشكند، وقد لعنهم الله على ذلك. وقد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» ، وفي الصحيحين عنه أنه قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها (¬2) » ، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن الدارمي البيوع (2560) . (¬2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .

أدخل فرسا بين فرسين - وهو لا يأمن أن يسبق - فليس قمارا، ومن أدخل فرسا بين فرسين - وقد أمن أن يسبق - فهو قمار (¬1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله (¬2) » . ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة، ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك، وذكرنا ما يحتج به من يجوزها؛ كيمين أبي أيوب، وحديث تمر خيبر، ومعاريض السلف، وذكرنا جواب ذلك (¬3) . ومن ذرائع ذلك: مسألة العينة، وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك، فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين؛ لأنها حيلة، وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم (¬4) » ، وإن لم يتواطآ فإنهما يبطلان البيع الثاني، سدا للذريعة، ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد، وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا، وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه. ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل؛ ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى: التورق. ففي كراهته عن أحمد روايتان. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الجهاد (2579) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) . (¬2) رواه البخاري ومسلم بنحوه من حديث عبد الله بن عمر. (¬3) في كتاب [إقامة الدليل على إبطال التحليل] . (¬4) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .

والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك، فيما أظن، بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة، أو غرضه الانتفاع أو القنية، فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق. ففي الجملة: أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة، وتدل عليه معاني الكتاب والسنة. وأما الغرر: فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي، أما الشافعي: فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع ما لا يدخله غيره من الفقهاء، مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان؛ كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده: أن ذلك لا يجوز، مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر، فخرج ذلك له قولا، واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الإصطخري " وروي عنه أنه ذكر له: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الحب حتى يشتد (¬1) » فدل على جواز بيعه بعد اشتداده، وإن كان في سنبله فقال: إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا، وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع. قال ابن المنذر: جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة، وعبيد الله بن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وقال الشافعي مرة: لا يجوز، ثم بلغه حديث ابن عمر، فرجع عنه وقال به، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به. وذكر بعض أصحابه له قولين. وأن الجواز هو القديم، حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة، متأولا إن بيع الغائب غرر وإن وصف، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1228) ، سنن أبو داود البيوع (3371) ، سنن ابن ماجه التجارات (2217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/250) .

حتى اشترط فيما في الذمة - كدين السلم - من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره؛ ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول، وقاس على بيع الغرر جميع العقود، من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير، وفدية الخلع والكتابة، وصلح أهل الهدنة، وجزية أهل الذمة - ما اشترطه في البيع عينا ودينا، ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع، وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها، أو يشترط لها شروط أخر. وأما أبو حنيفة: فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين، ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته، ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة مهر المثل، ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة، مع الخيار؛ لأنه يرى وقف العقود، لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا، والشافعي يجوز بيع بعض ذلك، ويحرم أيضا في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد. وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك، ويجوز من الوكالات والشركات ما لا يجوزه الشافعي، حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق. وقال الشافعي: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا. فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص، لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك. وأما مالك: فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة، أو يقل غرره، بحيث يحتمل في العقود، حتى يجوز بيع المقاتي جملة، وبيع المغيبات في الأرض، كالجزر

والفجل ونحو ذلك. وأحمد قريب منه في ذلك، فإنه يجوز هذه الأشياء، ويجوز - على المنصوص عنه - أن يكون المهر عبدا مطلقا، أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا تزيد جهالته على مهر المثل، وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق، كأبي الخطاب، ومنهم من يوافق الشافعي، فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع، كأبي بكر عبد العزيز، ويجوز - على المنصوص عنه - في فدية الخلع أكثر من ذلك، حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر، كقول مالك مع اختلاف في مذهبه، ليس هذا موضعه، لكن المنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض، كالجزر ونحوه إلا إذا قلع، وقال: هذا الغرر شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ والمنصوص عنه: أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة، ولا يباع من المقاتي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن، ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة؛ كقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن ذلك غرر، وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. ثم اختلف أصحابه: فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب؛ كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك، كقول الشافعي وأبي حنيفة. وقال الشيخ أبو محمد: إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله؛ كالبصل المبيع أخضر، والكراث والفجل، أو كان المقصود فروعه. فالأولى جواز بيعه؛ لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر والحيطان، ويدخل ما لم يظهر في المبيع تبعا، وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض؛ لأن الحكم للأغلب، وإن تساويا لم يجز أيضا؛ لأن الأصل

اعتبار الشرط، وإنما سقط في الأقل التابع. وكلام أحمد يحتمل وجهين، فإن أبا داود قال: قلت لأحمد: بيع الجزر في الأرض؟ قال: لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه، هذا الغرر، شيء ليس يراه، كيف يشتريه؟ فعلل بعدم الرؤية. فقد يقال: إن لم ير كله لم يبع. وقد يقال: رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد. وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها. كما هو العادة غالبا. فقال قوم من المتأخرين: يجوز ذلك؛ لأن بيع أصول الخضروات كبيع الشجر، وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز. فكذلك هذا. وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال المتقدمون: لا يجوز بحال، وهو معنى كلامه ومنصوصه. وهو إنما نهى عما يعتاده الناس، وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار: أن يباع دون عروقه، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده. فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه: إنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز، وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يجز، وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه، فإن كانت الأرض هي المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا، وإن كان المقصود هو الثمر والزرع، فاشترى الأرض لذلك لم يجز. وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر، فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ: إنما هو الخضروات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر.

وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين: أحدهما: كما في جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره. ولا شك أنه ظاهر، فإن المنع إنما يكون على قولنا: لا يصح بيع ما لم يره. فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب. والثاني: أنه يجوز بيعها مطلقا، كمذهب مالك، إلحاقا لها بلب الجوز. وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين: أحدهما: أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه، والمرجع في كل شيء إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرفون غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأولى. الثاني: أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه. فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم. فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه. وإن قلعوه جملة فسد بالقلع، فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر. وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب، أو البائع إلى أكل التمر، فحاجة البائع هنا أوكد بكثير وسنقرر ذلك إن شاء الله. وكدلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها، وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها، كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخلة أو شجرة: أن يباع جميع ثمرها. وإن كان فيها ما لم يصلح بعد.

وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا: إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة؛ لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد؛ لأن البسرة تصفر في يومها، وهذا بعينه موجود في المقتاة. وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود، وإنما يكون ذلك للمشتري؛ لأنه موجود في ملكه. والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر؛ لأنه يجب على البائع سقي الثمرة، ويستحق إبقاءها على الشجر بمطلق العقد، ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ، فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد، لا ما كان من موجبات الملك. وأيضا: فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها؟ على روايتين: أشهرهما عنه: أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه، وهي اختيار قدماء أصحابه؛ كأبي بكر وابن شاقلا. والرواية الثانية: يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع. وهي اختيار أكثر أصحابه؛ كابن حامد والقاضي ومن تبعهما. ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال: إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ، فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير، كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح، ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير، كأبي الخطاب وجماعات، وهو قول مالك

والشافعي والليث، وزاد مالك فقال: يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة. وحكوا ذلك رواية عن أحمد. واختلف هؤلاء: هل يكون صلاح النوع - كالبرني من الرطب - صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد. أحدهما: المنع، وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد. والثاني: الجواز، وهو قول أبي الخطاب. وزاد الليث على هؤلاء فقال: صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار. ومأخذ من جوز شيئا من ذلك: أن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين، ومن سوى بينهما، فإنه قال: المقصود الأمن من العاهة، وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح. ومأخذ من منع ذلك: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يبدو صلاحها (¬1) » يقتضي بدو صلاح الجميع. والغرض من هذا المذهب: أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه، فقياس قوله: جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها. والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة، فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر، إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات، وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق، فإنه أمر لا ينضبط. فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت. والغرض من هذا: أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل، كما قد روي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أصحابه على أصوله، وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الزكاة (1486) ، صحيح مسلم البيوع (1534) ، سنن أبو داود البيوع (3367) ، سنن ابن ماجه التجارات (2214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك البيوع (1303) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .

المسألة الواحدة قولان في وقتين، فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين، فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر. وإذا كانت الأفراد مستوية وكان له فيها قولان، فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقوله فيها واحد بلا خلاف، وإن كان مما قد يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب: لا يخرج، وقال الجمهور: - كالقاضي أبي يعلى - يخرج الجواب، إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله، ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين، وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا، وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما، فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا: كان الفرق قولا له، وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك، فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا، وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم، فأما ما كان من أمر دينكم فإلي (¬1) » . وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا؛ لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات، فإذا كان في وقت قد قال: إن هذا حرام. وقال في وقت آخر فيه أو في مثله: إنه ليس بحرام، أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام - فقد تناقض قولاه. وهو مصيب في كليهما ¬

_ (¬1) خرجه مسلم في صحيحه عن أنس وعائشة رضي الله عنهما.

عند من يقول: كل مجتهد مصيب، وإنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده. وأما الجمهور الذين يقولون: إن لله حكما في الباطن، علمه العالم في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها، وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاده في طلبه؛ ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء، مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا، بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين. هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله، مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد. وأما أهل الأهواء والخصومات، فهم مذمومون في مناقضاتهم؛ لأنهم يتكلمون بغير علم، ولا حسن قصد لما يجب قصده. وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان: أحدهما: لازم قوله الحق. فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق، ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره. وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب. والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق. فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه؛ لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه. وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو

ليس بمذهب؟ هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله. وما لا يرضاه فليس قوله. وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه. فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها. فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال، وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لكونه ملتزما لرسالته، فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له: ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه. ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه؛ لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين. وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء - مع وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقا، لكن اعتقادا ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط. فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة - عذر

بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء، فإنهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (¬1) ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه. فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده، لا باطنا ولا ظاهرا، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين، شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين، شبيها بالضالين. فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه. وثم قسم آخر - وهم غالب الناس - وهو أن يكون له هوى، وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة، فتجتمع الشهوة والشبهة؛ ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» . فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى: فهو مسيء. وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية. وأكثر المتأخرين - من المنتسبين إلى فقه أو تصوف - مبتلون بذلك. وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد، وبعض أصول ¬

_ (¬1) سورة النجم الآية 23

غيرهما هو أصح الأقوال. وعليه يدل غالب معاملات السلف ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به، وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه الله، فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال، وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم، فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل، ولا يمكنه ذلك، ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها. فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه، ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها، وإنما هي من جنس اللعب. ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم، فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (¬1) وهذا الذنب ذنب عملي. وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوا من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد، وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له، وأدى ما وجب عليه. فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا. فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فالسبب الأول: هو الظلم. والسبب الثاني: هو عدم العلم. والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 160 (¬2) سورة الأحزاب الآية 72

وأصل هذا: أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان؛ كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات؛ كالميسر والربا وما يدخل فيهما بنوع من الغرر وغيره؛ لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬1) فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء، سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب. فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلاحق يوقع في النفوس ذلك، وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون الثمار فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام - عاهات يحتجون بها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة، في ذلك: «فإما لا، فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر (¬2) » - كالمشورة، يشير بها لكثرة خصومتهم -. وذكر خارجة بن زيد بن ثابت: أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأصفر من الأحمر. رواه البخاري تعليقا، وأبو داود إلى قوله: خصومتهم، وروى أحمد في [المسند] عنه قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة فقال: ما هذا؟ فقيل له: هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون: أصابنا الدمان والقشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها (¬3) » . ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 91 (¬2) سنن أبو داود البيوع (3372) . (¬3) سنن أبو داود البيوع (3372) ، مسند أحمد بن حنبل (5/190) .

فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: ما أفضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر، وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين، من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس، وفي مسلم من حديث أبي هريرة، وفي حديث أنس تعليله، ففي الصحيحين عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر أو تصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ (¬1) » ، وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر حتى يزهو، فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر أو تصفر، أرأيت إن منع الله الثمرة، بم تستحل مال أخيك (¬2) » . قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: «أرأيت إن منع الله الثمرة (¬3) » من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أدرجاه فيه، ويرون أنه غلط. فهذا التعليل - سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام أنس - فيه بيان أن في ذلك أكل المال بالباطل، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون. وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته فإنهن من الحق (¬4) » صار هذا اللهو حقا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، موطأ مالك البيوع (1304) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2208) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2208) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) . (¬4) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1637) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2811) .

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، أو أكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، قاله جمهور العلماء، كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى؛ ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث: أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة كانت من ضمان البائع، كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر ابن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ (¬1) » ، وفي رواية لمسلم عنه: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح (¬2) » ، والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث - وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة فيه اضطراب - أخذ في ذلك بقول الكوفيين: إنها تكون من ضمان المشتري؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض؛ لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض، وهذا على أصل الكوفيين أمشى؛ لأن المشتري لا يملك إبقاءه على الشجر، وإنما موجب العقد عندهم: القبض الناجز بكل حال، وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه، مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك، ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع، ويفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا. ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصحيح يوافقه، وهو ما نبه عليه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم المساقاة (1554) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4528) ، سنن أبو داود البيوع (3470) ، سنن ابن ماجه التجارات (2219) ، سنن الدارمي البيوع (2556) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1554) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .

النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ (¬1) » فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها، لا عند العقد، كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا، فتلف الثمرة قبل التمكن من الجذاذ كتلف العين المؤجرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة، وفي الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق. فكذلك في البيع. وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة، وأن المشتري لم يملك الإبقاء، وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها. وفي لفظ لمسلم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة (¬2) » ، وفي لفظ لمسلم عنه «نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى الباع والمشتري (¬3) » ، وفي [سنن أبي داود] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض (¬4) » . فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما، فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد، وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة. فإن هذا لا سبيل إليه، إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين قسموا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (¬5) {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (¬6) ومما ذكره في سورة يونس في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (¬7) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2199) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) . (¬2) صحيح مسلم البيوع (1534) . (¬3) صحيح مسلم البيوع (1535) ، سنن الترمذي البيوع (1226) ، سنن النسائي البيوع (4551) ، سنن أبو داود البيوع (3368) . (¬4) سنن أبو داود البيوع (3369) . (¬5) سورة القلم الآية 17 (¬6) سورة القلم الآية 18 (¬7) سورة يونس الآية 24

وإنما المقصود: ذهاب العاهة التي يتكرر وجودها، وهذه إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب، وقبل ظهور النضج في الثمر، إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله، ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح. وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر. فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته. ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين، وضاق عليه عقله ودينه. وأيضا: ففي [صحيح مسلم] عن أبي رافع: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء (¬1) » . ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل والموزون من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث، خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك؛ لأن القرض موجبه رد المثل، والحيوان ليس بمثلي، وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم المساقاة (1600) ، سنن الترمذي البيوع (1318) ، سنن النسائي البيوع (4617) ، سنن أبو داود البيوع (3346) ، سنن ابن ماجه التجارات (2285) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) ، موطأ مالك البيوع (1384) ، سنن الدارمي البيوع (2565) .

عن مال. وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة، كما هو المشهور من مذاهبهم، خلافا للكوفيين، ووجه في مذهب أحمد: أنه يثبت بالقيمة. وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه: هو التقريب، وإلا فيعز وجود حيوان مثل ذلك الحيوان، لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي، وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة. وأيضا: فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجذاذ، وفيه روايتان عن أحمد. إحداهما: يجوز؛ كقول مالك، وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه. وأيضا: فقد دل الكتاب في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1) والسنة في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق. وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث، وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق، وهو أحد قولي الشافعي. وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه، وكما رواه أحمد في [المسند] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، وعن بيع اللمس والنجش وإلقاء الحجر (¬2) » فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر، فدل ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 236 (¬2) مسند أحمد بن حنبل (3/59) .

على الفرق بينهما. وسببه أن المعقود عليه في النكاح - وهو منافع البضع - غير محدودة، بل المرجع فيها إلى العرف، فكذلك عوضه الآخر؛ لأن المهر ليس هو المقصود، وإنما هو نحلة تابعة. فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه، وكذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم وخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي. قال لهم: «إني قائم فخاطب الناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله، وقام فخطب الناس، فقال: إني قد رددت على هؤلاء سبيهم، فمن شاء طيب ذلك، ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا (¬1) » فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة، إلى أجل متقارب غير محدود، وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة - وهي السلاح - ويخرجون منها. واشترط عليهم أن لا يكتموا، ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد. فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم. وعن ابن عباس قال: «صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون، ضامنون لها حتى يردوها عليهم، إن كان باليمن كيد أو غارة (¬2) » رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الوكالة (2308) ، سنن أبو داود الجهاد (2693) ، مسند أحمد بن حنبل (4/327) . (¬2) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3041) .

فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس، غير موصوفة بصفات السلم، وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون وقد لا يكون. فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال - كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب -: ليس بواجب أن يعلم، كما يعلم الثمن والأجرة، ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر؛ لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع، بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [القواعد النورانية] ، صـ (115-137) .

خلاصة الأمر الثاني

خلاصة الأمر الثاني: 2 - الأمر الثاني: ذكر خلاف الباحثين في حكمه، وأدلة كل فريق منهم، مع المناقشة: تمهيد: يتوقف إبداء الحكم في التأمين على أمرين: الأول: تصويره؛ ليعرف واقعه، وقد تقدم ذلك في الأمر الأول. الثاني: معرفة المصادر الشرعية التي يرجع إليها في الحكم عليه، من نصوص عامة، أو مقاصد شرعية، أو قواعد فقهية عامة، أو نظائر جزئية من الفقه الإسلامي يقاس عليها، ومع معرفة الأمرين قد يقع الاختلاف في الحكم عليه بين العلماء، إما لاختلاف نظرهم في شيء يرجع إلى تفصيل الأمر الأول، ككون الغرض الأصلي منه التجارة والربح أو التعاون على الخير، وكونه عقدا احتماليا أو غير احتمالي، وإما لاختلاف نظرهم في تطبيق النصوص العامة، أو في إدراجه تحت قاعدة شرعية عامة، أو في إلحاقه بنظير جزئي بعد تسليم حكم النظير، ولهذا اختلف الباحثون العصريون في حكمه أو في حكم صور منه. وفيما يلي بيان ذلك مع الأدلة والمناقشة: الأول: اختلف الباحثون من المعاصرين ومن سبقهم في حكم التأمين التجاري: فمنهم من قال بتحريمه مطلقا، ومنهم من قال بجوازه مطلقا، ومنهم من فصل فحرم بعض صوره، وأباح منه صورا أخرى، مع اتفاق من اطلعنا على كلامه من الكاتبين العصريين على جواز ما يسمى بالتأمين

التعاوني أو التبادلي. وقد يقال: من أن ما يسمى بالتأمين التبادلي حرام؛ لأنه ربا، بناء على توسع في تطبيق القاعدة المشهورة: (كل سلف جر نفعا فهو حرام) فإن كل مشترك يعتبر مسلفا بالنسبة لمن أصابه الحادث، وهو ينتظر أن يعود إليه نفع من رصيد الاشتراك إن قدر أن ينزل به حادث، فالقصد إلى الانتفاع بالرصيد محقق عند دفعه قصد الاشتراك، ولولا ذلك ما اشترك، وسواء انتفع في المستقبل بالفعل أم لم ينتفع. الثاني: أدلة هذه الأقوال مع المناقشة:

أدلة القائلين بمنع التأمين التجاري مطلقا مع المناقشة

1 - أدلة القائلين بمنع التأمين التجاري مطلقا: أ- استدلوا: بأن عقد التأمين من عقود المعاملات المالية الملزمة، على ما عرف من نظام التأمين وهي مشتملة على الغرر، فكانت ممنوعة شرعا، وبيانه من وجهين: الأول: أنها عقود يلتزم فيها كل من المتعاقدين بعوض مالي للآخر، فهي عقود معاوضة مالية، ويقصد كل منهما الربح؛ ولذا يقوم المؤمن بالإحصاء، ويحتاط بالشرط ونحوها؛ ليربح من وراء جملة المستأمنين غالبا، وإن خسر بالنسبة لبعض العقود، والمستأمن يقصد إلى الأمان بضمان المؤمن مبلغ التأمين له، فهو إذن عقد تجاري يقصد منه الربح، وإذا كان عقدا تجاريا ملزما لكل من المتعاقدين بما التزم به. من العوض المالي حرم فيه الغرر بخلاف عقود التعاون والتبرعات، فإنها ليس فيها مغالبة ولا قصد إلى ربح مادي، فلا مخاطرة فيها أو لا يضر فيها الغرر والمخاطرة. الثاني: أنه عقد احتمالي كما اعترف به رجال التأمين، وذكروه في

خصائصه، وذلك لأن كلا من المتعاقدين لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي وما يأخذ، ولا مدى كسبه أو خسارته، حيث إنه معلق على أمر غير محقق الحصول، أو غير معروف وقت حصوله في المستقبل، فكان من عقود الغرر. ونوقش أولا: بأن عقود التأمين ليست من عقود المعاوضة التجارية التي يقصد بها الربح حتى يكون ما ادعى فيها من الغرر موجبا للتحريم، وإنما هي عقود تعاونية؛ لما فيها من المساعدة على تكوين رءوس الأموال، وإنماء الثروات، والنهوض بالمشروعات وتحقيق الأمن للأسر، والإنقاذ من الشدائد عند نزول الكوارث، إلى غير هذا مما يعد من مزايا التأمين. وأجيب: بأنها مجرد دعوى يردها واقع عقود التأمين وما ذكر في خصائصها مما أشير إليه في الاستدلال فهي عقود معاوضة مالية رائدها الكسب، وباعثها الربح، وحاميها احتياط شركات التأمين؛ لأثرتهم بالاحتياط بالنظم والشروط والخداع والتغرير، وليس للمستأمن عند التعاقد إلا التسليم لما في وثائق التأمين؛ ولذا سميت عقود إذعان، وفسرت عند التقاضي لمصلحة المستأمن، ووقفت الحكومات منها موقف المدافع عن المستأمن، وما ينشأ عنها من التعاون فهو أمر ثانوي بالنسبة إلى الأصل فيها من أنها عقود تجارية القصد الأول منها الكسب عن طريق طابعه التغرير والخداع. ونوقش ثانيا: بأنها على تقدير كونها عقودا تجارية يقصد منها الربح لا غرر فيها؛ لأن كلا المتعاقدين قد دخل على شروط معلومة له وقت العقد ورضي بها، وكل منهما كاسب، فالمستأمن كاسب على كل حال، تحقق

الخطر أم لم يتحقق، والمؤمن كاسب على كل حال بالنسبة لما يربحه من جملة المستأمنين. وأجيب: بأن المستأمن قد يدفع الأقساط كلها ولا يعود إليه شيء، وذلك عند السلامة من الخطر، وقد يدفع قسطا واحدا ويعود إليه مبلغ التأمين، ويكون أضعاف القسط الذي دفعه، كما في التأمين على الحياة، وأما المؤمن فهو مخاطر مخاطرة فاحشة بالنسبة لكل عقد بانفراده، فإنه قد يخسر خسارة فادحة بدفعه لجميع مبلغ التأمين عند تحقق خطر الموت مثلا بعد تسديد المستأمن قسطا واحدا، ولا يبيح له اقتحام المخاطرات في العقود الفردية ربحه الغالب من مجموع عقود التأمين، فإن كل عقد من عقود التأمين مستقل عن الآخر بالنسبة للحكم عليه بحل أو حرمة. ونوقش ثالثا: بأن عقود التأمين على تقدير تحقق الغرر فيها فليس كل غرر في العقود المالية محرما، إنما المحرم منها ما كان فاحشا متجاوزا حدود التسامح، بحيث يعتمد على مجرد الحظ في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل مثلا، فإذا بلغ هذا المبلغ من المخاطرة لم يكن ما دخل فيه من عقود المعاملات مباحا، ولا أساسا يعتمد عليه في تصرفات اقتصادية، يؤيد هذا ما بين به النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن الغرر من بيع المضامين والملاقيح وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة، وما أجمع عليه من تحريم بيع السمك في الماء والطير في الهواء، وما إلى ذلك. أما إذا كان الغرر يسيرا فلا يدخل في النهي عن بيع الغرر، إذ قلما تخلو منه تصرفات الناس ومعاملاتهم في تجارتهم وإجاراتهم وصناعاتهم؟ ولذا أجازه العلماء وتسامحوا فيه، وإلا لضاقت دائرة الحلول ووقع الناس في

حرج. وأجيب: بأن العلماء قسموا الغرر بالنسبة لتأثيره في عقود المعاوضات المالية وعدم تأثيره فيها ثلاثة أقسام: غرر كثير يفسد عقود المعاوضات إجماعا؛ كبيع الملامسة والمنابذة والحصاة، وغرر يسير لا يفسدها إجماعا؛ كبيع الجزر والفجل واللوز والجح دون الوقوف على ما في جوفها بكسر وحفر مثلا، وغرر متوسط بينهما؛ كبيع المعين على الوصف دون رؤية، فهذا متردد بينهما لأخذه بشبه من كل منهما، ولذا كان مثار خلاف بين العلماء في الحكم بالتسامح فيه، وفي اعتباره مؤثرا في العقود. ولا شك أن غرر عقود التأمين من النوع الأول؛ لأن الخطر ركن من أركانها، وعنصر من عناصرها، كما تقدم بيانه في أركان التأمين وعناصره. ب- واستدلوا: بأن عقد التأمين ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة بما يعطي وما يؤخذ أو برفعهما من جانب أو من الجانبين كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (¬1) الآيتين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 90

ونوقش: بمنع كونه قمارا؛ لأن التأمين جد، وفيه تبادل المنافع من الجانبين مع وثوق كل من المؤمن والمستأمن من الوصول إلى الكسب والانتفاع، بخلاف القمار فإنه لعب ولهو، واقتحام لضروب من المخاطرة وجناية قد تأتي على المال كله. وقد يجاب: بأن في التأمين أيضا اقتحاما للمخاطر، وعدم وثوق بقدر ما يصل إلى المستأمن أو المؤمن من الكسب والانتفاع أو زمن وصوله فكان التأمين قمارا أو في معناه فيحكم له بحكمه، ثم ليس كل ما فيه كسب أو انتفاع مشروعا حتى ترجح منفعته مضرته ويغلب خيره شره. ج- واستدلوا: بأن الربا أصيل في عقود التأمين، لا تنفك عنه إلا بالقضاء على عقوده نفسها والتخلص منها إلى بديل يرتفق به دونها، وإلى جانب ما فيها من ربا أصيل معاملات ربوية أخرى طارئة. وبيان ذلك: الأول: إن المستأمن يدفع ما عليه من العوض المالي الربوي كله أو أقساطا، حسب مقتضى العقد؛ ليأخذ المقابل من المؤمن بعد زمن أو يتحمله عنه إذا وقع الخطر، وهذا هو ربا النساء المحرم بالنص والإجماع، ولا يمكن الانفكاك منه إلا بالتخلص من عقود التأمين نفسها؛ لأنه أساسها الذي لا يكون عقد التأمين إلا به. الثاني: فيه ربا الفضل صريحا أو حكما للشك في التماثل بين ربويين، وربا الفضل محرم بالنص والإجماع، ومن روي عنه من الصحابة جوازه فقد رجع عنه بعد مناظرة الصحابة واطلاعه على نص التحريم. الثالث: إن شركات التأمين تستغل رصيدها في معاوضات ربوية، وإن المستأمن يعود إليه مبلغ التأمين مع فائدة ربوية بعد انتهاء مدة التأمين دون

حصول الخطر المؤمن منه. ونوقش: بأن موضوع البحث نفس عقود التأمين التي أبرمت بين الشركة والمستأمن لا ما تقوم به شركات التأمين في استثمار رصيدها استثمارا ربويا، فالدليل في غير محل النزاع، وأما ما يأخذه المستأمن من الفائدة الربوية في بعض صور التأمين فليس من أركان التأمين، ولا لازما له، بل من الشروط التي يمكن التخلص منها باشتراط عدم الفائدة أو بترك اشتراطها على الأقل. وأجيب: بأنه إن أمكن التخلص من الوجه الثالث من وجوه الاستدلال فلا يمكن التخلص من الاستدلال بالوجه الأول والثاني إلا بترك التأمين التجاري نفسه. د- واستدلوا: بأن التأمين من قبيل الرهان المحرم؛ لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، ومن هذا «أن النبي صلى الله عليه وسلم راهن على فرس يقال له: سبحة، فسبق الناس، فبش لذلك وأعجبه (¬1) » ، وأقر الصديق رضي الله عنه على ما كان بينه وبين مشركي العرب من المراهنة بشأن حرب كانت بين الروم والفرس (¬2) ؛ ولهذا حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان في ثلاثة بقوله: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (¬3) » ، فما كان في معنى الثلاثة مما فيه نصرة الإسلام بالسلاح أو العلم والبرهان جاز، وليس التأمين من ¬

_ (¬1) خرجه أحمد في [مسنده] عن أنس رضي الله عنه. (¬2) خرجه الترمذي في [جامعه] ، عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) خرجه أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة.

ذلك. ونوقش ذلك بما تقدم من مناقشة الاستدلال على منع التأمين بأنه قمار. وأجيب عنه أيضا: بما تقدم من الجواب عن هذه المناقشات هناك، فلا نطيل بالإعادة خشية كثرة التكرار. هـ- واستدلوا: بعموم النهي عن أكل الأموال بالباطل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) قالوا: إن عقود التأمين تتضمن الغرر والقمار والربا وأخذ مال الغير في المعاوضات التجارية بلا مقابل، فكان من أكل أموال الناس بالباطل، فدخل في عموم النهي في الآية. ونوقش: بأنه لا يدخل في عموم النهي حتى يقوم دليل تفصيلي على منعه؛ لأن أكل الأموال بالباطل كلمة مجملة. وأجيب: بما تقدم تفصيلا من الأدلة الدالة على اشتماله على الربا والغرر والقمار وغيرها من نصوص المحظورات، فكان داخلا في عموم النهي في هذه الآية وما في معناها من نصوص الكتاب والسنة. وواستدلوا: بأن في عقود التأمين الإلزام بما لا يلزم شرعا، وبيانه أن المؤمن لم يحدث الخطر المؤمن منه ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفع المستأمن له، فكان حراما؛ لما فيه من تضمين من لا يضمن، وأيضا فيها أن المؤمن يأخذ مال المستأمن في عقود معاوضات مالية تجارية ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 29

دون أن يبذل عملا للمستأمن. ونوقش: بأن المؤمن التزم بالضمان حين العقد برضاه وعن طيب نفس منه، فألزم بما التزم ولا غضاضة في ذلك؛ لوجود نظير له وهو الكفالة. وأجيب: بالفرق فإن المؤمن لم يلتزم بالضمان تبرعا منه ورغبة في فعل المعروف، وإنما رغب طمعا في الكسب المادي، وحرصا على تملك ما بذله المستأمن له من العوض، فليس مثل الكفالة التي هي محض معروف وإعانة على سبب بعث الثقة في نفس المضمون له دون مقابل مادي يعطاه.

أدلة القائلين بجواز التأمين التجاري مطلقا مع المناقشة

2 - أدلة القائلين بجواز التأمين التجاري مطلقا: أ- استدلوا: بقياس عقود التأمين على عقد ولاء الموالاة، وفسروه: بأن يقول شخص مجهول النسب لآخر: أنت وليي تعقل عني إذا جنيت، وترثني إذا أنا مت، أو أن يتفق شخص من غير العرب قد أسلم مع عربي مسلم على أن يلتزم العربي بالدية إذا جنى مولاه، ويلتزم غير العربي أن يرثه مولاه العربي إذا لم يكن له وارث سواه. ووجه الشبه بينه وبين التأمين: أن العربي يتحمل جناية غير العربي بعقد الموالاة مقابل إرثه، والمؤمن يتحمل جنايات المستأمن نظير ما يدفعه من أقساط التأمين، فالمؤمن نظير المسلم العربي في تحمل المسئولية، والمستأمن نظير المولى المسلم من غير العرب فيما يبذل من أقساط أو إرث، وقد صحح الحنفية عقد ولاء الموالاة، وأثبتوا به الميراث، وعقود التأمين وثيقة الصلة وقوية الشبه به فتخرج عليه ويحكم لها بحكمه وهو الجواز.

ونوقش بما يأتي: الأول: بأن عقد ولاء الموالاة، وإن كان معمولا به بالنسبة للنصرة ونحوها، فهو مختلف في نسخه وأحكامه بالنسبة للإرث به والأدلة الصحيحة تشهد لنسخ الإرث به فلا يصح التخريج عليه. والثاني: بأن من شرط القياس أن يكون المقيس عليه منصوصا أو مجمعا وإلا فللمخالف في الفرع أن يمنع حكم الأصل فلا يكون القياس مفيدا في إلزام المخالف حكم الفرع، ثم هذا يتوقف على قول الحنفية بتحمل المولى جناية مولاه بعقد الموالاة، فهل الحنفية يقولون بذلك حتى يتم الشبه والتخريج على مذهبهم؟ ولم يبين المستدل ذلك. والثالث: بوجود الفارق، فإن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة، فالقصد الأول فيه إلى التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع، وشتان ما بين عقد يكون المتعاقد به كفرد من الأسرة وبين عقد لا يحس فيه كل من المتعاقدين بشيء من العاطفة الإنسانية والإخاء الإسلامي نحو الآخر ولا يتحسس كل منهما عن أحوال صاحبه إلا تحسسا تجاريا ليس لخالص مودة أو صدق إخاء، وإنما هو من خشية الإفلاس أو الغرامة عند العطب، فطابع هذا العقد التكالب على المال، والحرص الممقوت على جمعه من طرق شعارها المخاطرة ودثارها المقامرة فكيف يقاس بعقد عماره الإحسان وإسداء المعروف؟ ! . والرابع: بأن هذا الاستدلال على تقدير تسليمه لا يدل إلا على جواز

فرع من فروع التأمين وصورة من صوره، وهي التأمين ضد المسئولية، والمدعي جواز التأمين مطلقا، فلا مطابقة بين الدليل والدعوى. ب- استدلوا: بقياس عقود التأمين على الوعد الملزم عند المالكية، وبيانه أن يعد إنسان غيره بقرض أو تحمل خسارة أو إعارة كتاب أو دابة ونحو ذلك مما ليس واجبا عليه في الأصل، ونقلوا عن المالكية في حكم المسألة أربعة أقوال: الأول: لزوم الوفاء مطلقا فيقضي به. والثاني: عدم اللزوم مطلقا فلا يقضي به. الثالث: اللزوم إذا ذكر للعدة سبب، وإن لم يباشر الموعود ما وعد من أجله. الرابع: إذا ذكر لها سبب وباشر الموعود ما وعد من أجله، ونقلوا عنهم أن الراجح هو الرابع. قالوا: فيمكن قياس عقود التأمين على ذلك. فيقال: إن المؤمن قد التزم لكل مستأمن ولو بلا مقابل على سبيل الوعد أن يتحمل أضرار الخطر المؤمن منه كما لو التزم إنسان أن يعوض غيره عن خسارته في شيء قد أمره ببيعه فباعه بخسارة، فإنه يجب عليه الوفاء بما التزم عند المالكية؛ لأنه عدة على سبب باشره. ونوقش بما يأتي: الأول: أنه قياس على أصل مختلف فيه، وهو ممنوع لما تقدم بيانه. الثاني: بأنه قياس مع الفارق، فإن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين، فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح

المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة أو الغرر فشتان ما بين حقيقة العقدين، وما يقصد بكل منهما. الثالث: أنه على القول الراجح مما تقدم إنما وجب الوفاء وقضى به؛ لأن الوعد هو الذي جرأ الموعود على الدخول في السبب، ولولا وعده ما باشره، فإذا لم يف له بوعده كان مغررا به موقعا له في مشاكل ومضار كان في عافية منها، فالإلزام بالوفاء للتغرير بالموعود، لا لعوض بذل. الرابع: إنه على تقدير أن تكون عقود التأمين وعودا فالفارق بين الوعدين أن ما ذكره المالكية وعد بمعروف محض فكان الوفاء به واجبا، بخلاف الوعود المزعومة في عقود التأمين، فإنها التزامات منكرة لما تقدم، فكان التخلص منها واجبا والمضاء فيها حراما. ج- واستدلوا: بأن عقود التأمين من عقود المضاربة أو في معناها، وبيانه: أن المتعاقدين في المضاربة يتفقان على أن يدفع أحدهما مالا؛ ليعمل فيه لآخر، على أن ما كان من ربح فهو بينهما، وهذا ينطبق على عقود التأمين فإن المستأمن يدفع الأقساط مثلا، وشركة التأمين تستغل ما اجتمع لديها من الأقساط، والربح بينهما حسب التعاقد، وإذا كانت من عقود المضاربة أو في معناها فهي جائزة. ونوقش: بمنع أن يكون عقد التأمين من عقود المضاربة أو أن يكون فيه شبه منها؛ وذلك لوجوه: الأول: أن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسب ما يقضي به نظام التأمين.

الثاني: أن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته. الثالث: أن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا، بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدود. د- قياس عقود التأمين على ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب. فيصح ضمان المؤمن لما التزم به للمستأمن عند وقوع الخطر، ويجب عليه الوفاء به كما صح ضمان المجهول ووجب الوفاء به، وإن كان الملتزم به مجهولا فيهما. ونوقش: بأنه قياس مع الفارق لوجوه: الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين، فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع مادام تابعا غير مقصود إليه؛ ولذا اغتفر في الضمان ما لم يغتفر في المعاوضات المالية كالجهالة. الثاني: أن الضامن لا يأخذ عوضا عن الضمان، بل اشتراط ذلك يفسده بخلاف التأمين فإن المؤمن يأخذ أقساط التأمين عوضا عن ضمانه. الثالث: أن عقد التأمين فقد فيه ركن من أركان الضمان وهو المضمون له، فلا يجوز قياسه عليه، اللهم إلا أن يقال: إن المضمون له هو المضمون عنه وهو المستأمن.

الرابع: أن الضمان يكون فيه الضامن فرعا عن المضمون، وعليه فليس لصاحب الحق الرجوع على الضامن إلا بعد العجز عن أخذ حقه من المضمون، وعلى أشد الأحوال يكون صاحب الحق مخيرا بين الرجوع على الضامن أو المضمون، وليس كذلك الحال في التأمين فإن رجوع صاحب الحق على المؤمن دون المستأمن. الخامس: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وليس كذلك الحال في التأمين بكونه معاوضة لا ضمانا، وإذا ثبت الفرق بينهما في الحقيقة والآثار لم يصح قياس التأمين على الضمان. هـ- واستدلوا: بقياس عقود التأمين على ضمان خطر الطريق. وبيان ذلك: أنه إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن، فسلكه فأخذ ماله ضمن القائل، فكذا القول في عقود التأمين، فإن المؤمن ضمن للمستأمن مبلغا يدفعه له أو عنه أو للمستفيد بشروط تراضيا عليها، فإذا أجاز ضمان خطر الطريق مع وجود الجهالة ولزم الوفاء به عند حصول الحادث جازت عقود التأمين ولزم الوفاء بها، حيث لا فرق، ومن فرق بينهما كابن عابدين لو كان في عصرنا، وشاهد تزايد أسباب الأخطار، وعرفوا فكرة التأمين، ولمسوا الضرورة التي نلمسها لما ترددوا في مشروعية نظام التأمين. ونوقش: بأن بينهما فروقا: الأول: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به المعروف المحض، والتأمين عقد معاوضة مالية يقصد منها أولا الربح المادي، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع

ما دام تابعا غير مقصود إليه؛ ولذا اغتفر في الضمان ما لا يغتفر في عقود المعاوضات المالية، وأفسده اشتراط العوض عن الضمان. الثاني: أن تضمين خطر الطريق لا يكون إلا إذا كان الضامن مغررا بالمضمون، بأن كان عالما بخطر الطريق وأمره بسلوكه، وأخبره بأنه آمن، وكان السالك جاهلا بالخطر فالتضمين للتغرير لا لمجرد الضمان، وشركات التأمين تقرر التضمين مطلقا، ثم هي لا ترضى أن يلصق بها ولا يسرها أن يعرف عنها أنها تغرر بالمستأمنين. الثالث: أنه على تقدير إلزام الضامن بالغرامة مطلقا فإنما يكون ذلك بعد العجز عن تسليم الحق من المعتدي أو المتسبب أو عند اختيار صاحب الحق أخذها منه ابتداء وشركات التأمين تضمن الغرامة للمستأمن على كل حال دون المعتدي أو المتسبب ما دام الخطر قد تحقق مع توفر الشروط المتفق عليها. الرابع: أن الضامن يرجع على المضمون بما دفع عنه، وشركات التأمين إنما ترجع على المعتدي أو المتسبب بقيمه التالف أو مثله. الخامس: أنه لا يوجد في كثير من صور التأمين ما يمكن أن يعتبر مكفولا، فلا يصح قياسه على الكفالة لفقده ركنا من أركانها. أما ما ذكره المستدل من أن ابن عابدين وأضرابه من العلماء لو كانوا معنا اليوم وشاهدوا تزايد أسباب الأخطار وعرفوا التأمين والضرورة إليه لأباحوه فمناقشته تأتي عند مناقشة استدلالهم بالضرورة. واستدلوا: بقياس عقود التأمين على نظام التقاعد. وبيان ذلك: أن نظام التقاعد عقد معاوضة يقوم على اقتطاع جزء ضئيل

من مرتب الموظف شهريا بنسبة محدودة؛ ليعطي هو أو من يستحق من أسرته مرتبا شهريا يتناسب مع مدة خدمته وآخر مرتب كان يتقاضاه، ويصرف ابتداء من نهاية عمل الموظف في وظيفته بشروط محددة، والتأمين عقد معاوضة بين المستأمن والمؤمن يعجل فيه مبلغ إلى المؤمن ليعطي المستأمن عوضا عنه فيما بعد بشروط محددة، فكلاهما عقد عجل فيه أحد العوضين وأجل الآخر مع وحدة الجنس ووجود نوع من الجهالة أو المخاطرة، وقد شهدت جميع الدلائل الشرعية الإسلامية وفقهها بجواز التأمين التقاعدي بوجه عام، ودلت على ذلك دلالة لا تقوم معها شبهة توهم التحريم، وأقره علماء الشريعة الإسلامية، بل رأوا العمل به ضروريا في نظام وظائف الدولة، فإذا جاز تطبيق نظام التقاعد على الموظفين، لما فيه من المصلحة، ولأن الحاجة دعت إليه، واعتبر من باب التعاون فلم يوجب ما فيه من الجهالة والمخاطرة في العوضين أو في زمنهما منعه، فكذلك الحال في التأمين الذي أبرم بين المستأمن والمؤمن باختيارهما ورضاهما. ونوقش ذلك بما يأتي: الأول: قول المستدل قد شهدت جميع دلائل الشريعة الإسلامية وفقهها بجواز نظام التقاعد مجرد دعوى مبالغ فيها لا يساندها دليل صحيح فضلا عن أن يكون لها أدلة لا تقوم أمامها شبهة توهم المنع، ومثل هذه الدعوى لا يعجز أحد عنها ولا عن مقابلتها بمثلها. الثاني: دعوى أن علماء الإسلام أقروا ما عرف بنظام التقاعد دون أية شبهة دعوى يردها الواقع، فإن المسألة نظرية، ويوجد من العلماء

المعاصرين من يخالف في ذلك. الثالث: على تقدير اتفاقهم على الجواز هل يعتبر اتفاقهم إجماعا شرعيا تثبت به الأحكام وهم يعترفون على أنفسهم بالتقليد؟ . الرابع: إن كان ما يدعي من التقاعد عوضا عما اقتطع من الموظف شهريا فالكلام في حكمه كالكلام في حكم التأمين، وربما كان التقاعد أشد؛ لأن ما فيه من الغرر والمخاطرة والمقامرة أشد، ولأن توزيعه يجري على غير سنن المواريث شرعا، عطاء مستمرا أو مؤقتا أو حرمانا وإن كان ما يعطى من التقاعد مكافأة التزم بها ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته، وراعى في صرفها ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع لها نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين، والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر مكافأة من حكومات مسئولة عن رعيتها، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه، وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره، وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة. ز- واستدلوا: بقياس نظام التأمين وعقوده على نظام العاقلة، فإن العاقلة تتحمل شرعا دية قتل الخطأ عن القاتل، وتخفيفا لأثر المصيبة عن الجاني المخطئ، وصيانة لدماء ضحايا الخطأ أن تذهب هدرا؛ لأن القاتل خطأ قد يعجز عن دفع الدية فتضيع، وشركات التأمين قد وضعت نظاما

للتعاون على ترميم الأخطار، وتخفيف المصاب، وتفريج الكرب وجعلته ملزما عن طريق الإرادة الحرة، كما جعل الشرع نظام المعاقلة إلزاميا دون تعاقد، وكما ندب الشرع إلى التعاون في الشدائد، وحث على إغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب فتوسعت الشركة في الإلزام في التعاون عن طريق التعاقد على ترميم سائر المخاطر، وقد قال ابن القيم: كل ما يجوز بذله وتركه دون اشتراط فهو لازم بالشرط. ونوقش: بأن قياس عقود التأمين على نظام العاقلة في الإسلام قياس مع الفارق وبيانه من وجوه: الأول: أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ ما بينها وبين القاتل- خطأ - من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مادية محضة، لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة. الثاني: أن ما يتحمله أفراد العاقلة يختلف باختلاف أحوالهم من غنى وفقر وتوسط بينهما، أما أعضاء شركة التأمين فيتحملون على السواء في خصوص مال الشركة سواء في هذا ذكورهم وإناثهم غنيهم ومتوسطهم، ولا ينظر في التحمل إلى ثروتهم الخاصة في تقدير ما يتحمله كل عضو، وهذا مما يبعدها عن قصد المعروف والإحسان، ويعين قصد أعضائها إلى التجارة واستغلال المستأمنين؛ لإعانتهم على ترميم أختارهم. الثالث: أن صلة النسب والقرابة تقضي بأن يكون أهل النصرة من القبيلة مسئولين عن أفرادها في كثير من مشاكل الحياة ومطالبها، فعليهم حل

مشاكلهم والأخذ على يد مسيئهم، وحماية ضعيفهم من غوائل الزمن وأحداثه، وهذا المعنى مفقود في شركات التأمين، إذ لا رابطة روحية بينها وبين المستأمنين، ولا أواصر رحم تدعو إلى الإحسان ودفع الظلم والعدوان أو تجعل لها سلطانا على المستأمنين يخول لها الأخذ على أيديهم وتقويم اعوجاجهم. وإذا كان الشبه بين العاقلة والتأمين في بواعث التحمل وآثاره مفقودا لم يصح أن يقاس أحدهما بالآخر. ح- واستدلوا: بقياس عقود التأمين على عقود الحراسة، وبيانه أن عقود الحراسة وإن كان الحارس فيه مستأجرا على عمل الحراسة، فالغاية المقصودة منه هي الأمان، ونتيجته معنوية هي الاطمئنان على سلامة الشيء المحروس من العدوان، وليس كالمستأجر لنقل متاع أو على خياطة ثوب مثلا مما نتيجته حسية، وعقود التأمين كذلك، فإن المستأمن كالمؤجر، كل منهما دفع جزءا من ماله؛ لكسب الأمان، والسلامة من الخطر، والمؤمن كالحارس كل منهما أكسب صاحبه أمانا عوضا عما بذله من ماله. ونوقش أولا: بأن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس. وثانيا: أن الحارس بذل عملا يستحق عليه العوض، والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن ليأخذه عليه عوضا، وإنما يبذل مالا عند وقوع الخطر، والربا فيه محقق، وربما لا يبذل شيئا إذا لم يقع الخطر، فيكون أخذه

للأقساط أكلا للمال بلا مقابل في معاوضات تجارية، وهو باطل. وثالثا: الحارس لا يضمن الشيء المحروس إلا إذا ثبت تفريطه أو اعتداؤه، والمؤمن ضامن عند وقوع الخطر، ولو كان بسبب قهري لا يد لأحد فيه، وعلى هذا لا يصح القياس لوجود فروق في حقيقة كل من العقدين وآثارهما تمنع من الإلحاق. ط- قياس التأمين على الإيداع: وبيانه: أنه يجوز الإيداع بأجرة للأمين، وعليه ضمان الوديعة إذا تلفت فكذا يجوز أن يدفع المستأمن مبلغا لشركة التأمين على أن يؤمنه بعد خطر معين. ونوقش: بأن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شي في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن يعود إلى المستأمن بمنفعة، إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد. وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر. ونوقش أيضا: بأن التضمين في صورة الإيداع قاصر على ما يمكن الاحتراز عنه من الأخطار، بخلاف التأمين فإن التضمين عام فيما يمكن الاحتراز منه وما لا يمكن. ي- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة: وبيانه: أن تجار البز اتفقوا على أن كل من اشترى منهم سلعة دفع درهما عند رجل يثقون به؛ ليستعينوا بما اجتمع لديهم على ما يصيبهم من غرم،

وحاول الحاكة منعهم بدعوى: أن ذلك ينقص من ربحهم، فحكم الشيخ العقباني بإباحة ذلك بشرط ألا يجبر أحد من التجار على دفع الدرهم، فإذا جاز هذا جاز التأمين؛ لما في كل منهما من التعاون على الغرم وترميم الأخطار. ونوقش: بأنه قياس مع الفارق؛ إذ الأول من التأمين التبادلي وهو تعاون محض وما فيه البحث تأمين تجاري، وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس. ك- التأمين جرى به العمل، وتعارفه الناس فيما بينهم، فكان جائزا؛ لأن العرف من الأدلة الشرعية. ونوقش: بأن العرف ليس دليلا تثبت به الأحكام ولا مصدرا من مصادر التشريع، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام، وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره، وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين، فلا اعتبار به معها. ل- اشتدت حاجة الناس إلى التأمين في إقامة المشروعات المتنوعة وفي تحقيق مصالح لا بد لهم منها في حياتهم. وفي مضار وترميم أخطار لا يقوى الفرد على النهوض بها وحده فكان جائزا؛ دفعا للمشقة والحرج عن الناس، وتيسيرا لطرق الحصول على ما تقوم به حياتهم وتنظم به أمورهم وعلى ما تدفع به عنهم أحداث الزمان وغوائله. ونوقش: بأن الطريق المباحة لتحقيق المصالح وإقامة المشروعات

كثيرة، ولم يضيق الله على عباده فإن ما أباحه لهم من الطيبات وطرق كسبها أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين، وإنما هو إلف الكثير من الناس لما عهدوه وعكفوا عليه زمنا طويلا، وما عليهم إلا أن يحملوا أنفسهم على البعد عنه؛ والفطام منه، وأن يختاروا طرقا أخرى مباحة لتكون بديلة عنه؛ كالجمعيات التعاونية، وشركات إنشاء المشروعات التي تقوم على رءوس أموال الأعضاء، والذي مكن لأعضاء شركات التأمين أن تقوم على قدم وساق بطريقة غير مشروعة يمكن لغيرها من القيام على سنن الشرع، بل نرى كثيرا من الأفراد قد وفق الله كلا منهم لإقامة مشروعات، ولا يحتاج إلا لبذل النصح، والنشاط في الدعاية التي تبعث الطمأنينة إلى الطرق الأخرى المباحة، والعمل على إيجاد وعي إسلامي يحبب إلى النفوس استثمار الأموال في الوجوه المشروعة دون جبن أو شدة خوف من شبح الخسارة تصد عن السعي والنشاط؛ ودون طمع كاذب أو زيادة حرص تدفع إلى أكل الأموال بالباطل. م- استدلوا: بأن الأصل في عقود المعاملات الجواز ما دامت لا تعارض كتابا ولا سنة ولا مقصدا من مقاصد الشريعة، وأنها لا تنحصر فيما كان من أنواعها موجودا عند نزول الوحي، ولا فيما كان معهودا عند الناس في صدر الإسلام، فيجوز للناس أن يحدثوا من عقود المعاملات ما شاءوا مما لا يتنافى مع نص أو مقصد شرعي، ومن ذلك عقود التأمين، فكانت جائزة. ونوقش أولا: بعدم تسليم أن يكون الأصل في عقود المعاملات

الجواز، بل الأصل فيها المنع حتى يقوم دليل على الجواز. وثانيا: بأنه على تقدير أن يكون الأصل فيها الجواز فعقود التأمين قامت الأدلة على مناقضتها للكتاب والسنة، وعلى هذا لا تكون عقود التأمين داخلة في عموم أصل الجواز، وقد تقدم بيان ذلك في الكلام على أدلة التحريم مع المناقشة. ن- واستدلوا: بأن التأمين ضرب من ضروب التعاون المفيد في تنمية الثروة، والصناعات والنهوض في مختلف مجالاته ومشروعاته، وفي تفتيت الأخطار والتخلص من الأزمات، إلى غير هذا مما عرف من مزايا التأمين، وإذا تضمن مصلحة خاصة أو راجحة كان جائزا بل مأمورا به؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬1) ؛ ولأن تحقيق المصالح وجلب المنافع ودرء المفاسد من مقاصد الشريعة، ومن رجع إلى وظائف التأمين ومزاياه تبين له ما فيه من جلب المنافع ودرء المفاسد والأخطار. ونوقش أولا: بمنع رجحان ما في التأمين من المصلحة على ما فيه من مفسدة، بل مفسدته هي الراجحة، وعليه لا يكون من التعاون على البر والتقوى، بل من التعاون على الإثم والعدوان، فيدخل في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬2) وثانيا: بأن من المصالح ما شهدت له الشريعة بالاعتبار، وهذه لا شك في أنها حجة، ومنها ما شهدت الشريعة بإلغائه فليس بحجة، ومنها ما لم ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 2 (¬2) سورة المائدة الآية 2

تشهد الشريعة له باعتبار ولا إلغاء، بل كان من المصالح المرسلة، فاختلفت في الاحتجاج أنظار المجتهدين، وعقود التأمين فيها جهالة وغرر وقمار فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لطغيان جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة كما ألغت منافع الخمر والميسر؛ لطغيان ما فيها من خطر وإثم على ما فيها من منافع.

أدلة القائلون بالتفصيل بين أنواع التأمين مع المناقشة

3 - أما القائلون بالتفصيل بين أنواع التأمين: فمنهم: من فرق بين التأمين على الحياة وما في معناها بقية أنواع التأمين التجاري، فحرم الأول ومنع من الثاني، واستدل لما منعه بأدلة المانعين للتأمين مطلقا، ولما أجازه بأدلة المجيزين له مطلقا، وقد سبقت أدلة الطرفين مع مناقشتها. ومنهم: من فرق بين ما فيه من ربا وما خلا من الربا، فأباح من عقود التأمين ما خلا من الربا، ومنع ما اشتمل منها على ربا إلا أنه رخص فيما هو قام منها بالفعل مؤقتا للحاجة حتى تتاح الفرصة لوجود البديل، وأوصى بالسعي الحثيث في إيجاد البديل للاستغناء به عن أنواع التأمين التي لا تخلو من الربا. واستدل لصور المنع والجواز بما تقدم من أدلة المانعين مطلقا والمجيزين مطلقا، وقد سبق ذلك مع المناقشة. ومن توقف لعدم بحثه أو عدم انكشاف وجه الحق له بعد بحثه فتوقفه لا يعتبر حكما فلا يطالب بدليل، ولا توجه إليه مناقشة، ويشكر على نصيحته ببذل الجهد لحل المشكل بالوصول إلى نتيجة حاسمة.

ونوقش ما قاله الدكتور السنهوري بما يأتي: الأول: عقود التأمين عقود متعددة، وكل عقد منها مستقل عن الآخر فيما اشتمل عليه من إلزام والتزام، ونظير ذلك من جهة التعدد ما يقع في شركة العنان بين أعضائها مثلا وبين عدد من المشترين منهم أو البائعين عليهم، فكل عقد بين رجال الشركة وكل طرف آخر باع أو اشترى منهم عقد قائم بنفسه مستقل، ولذا لا يلزم من فساد عقد منها فساد الآخر، ولا من صحة عقد صحة الآخر، ولا من الإقالة في عقد الإقالة في الآخر.. . إلخ، وإن كان مال الشركة مختلطا يحمل ربحه خسارته أو تقضي خسارته على ربحه مثلا، ويسدد من مجموعه تبعات من تعامل معهم، فوحدة رأس مال الشركة ووحدة مسئوليتها أمام كل فرد أو جماعة عاملتها لا يقضي بوحدة العقود التي أبرمتها مع كل من تعاقد معها بيعا أو شراء مثلا، وشركة التأمين مع كل مستأمن لا يختلف عن ذلك. وقد اعترف الدكتور بأن عقود التأمين لو نظر إليها هذه النظرة، أي: من جهة العلاقة ما بين المؤمن ومؤمن له بالذات لم يعد عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة ورهان، ويكون غير مشروع، لا في الفقه الإسلامي ولا في جميع القوانين التي تحرم القمار والرهان، إلا أنه حاول أن يلبس التأمين ثوبا جديدا بالنظر إلى العلاقة ما بين المؤمن ومجموع المؤمن لهم حيث لا يكون إلا وسيطا ينظم لهم تعاونهم جميعا على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل، والواقع أنه ليس وسيطا حقيقة وإنما هو أصيل في كل عقد بانفراده، ملك به ما دفعه المستأمن إليه ملك التاجر لما بذل له من عوض يستثمره لمصلحته، وقد تقدم أن وحدة الشركة ووحدة مسئوليتها أمام

المستأمن لا يستلزم وحدة العقود وصرف النظر عن اعتبار كل منها مستقلا عن الآخر، وعلى هذا يجب أن يراعى في الحكم على عقود التأمين كل عقد بانفراده. الثاني: ذكر الدكتور أنه لا يصح التفريق بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي ... إلخ ويمكن أن يقال: إن هذا دفاع إلزامي لإسكات من يمنع التأمين الفردي أو التجاري لا يثبت بمثله جواز التأمين الفردي وقد يرجع عن التفريق فيسوي بينهما في المنع، وبهذا يسقط الإلزام. ويمكن أن يقال أيضا: إن بين الاجتماعي والفردي فرقا، فالاجتماعي الأول فيه التعاون لا التجارة، فإن داخله شوائب تبعث الريبة في جوازه أمكن تخليصه منها، أما التأمين الفردي فالقصد الأول منه التجارة على غير السنن الشرعي ولا ينفك عن الربا والغرر والقمار؛ لقيام أركانه عليها، وعلى هذا لا يصح ما ذكر طريقا لإثبات جوازه. الثالث: ذكر الدكتور أن عقد التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه، وليس من بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي. ويمكن أن يسلم بأن عقد التأمين جديد باعتباره جزئيا له مقوماته وخصائصه لكن ليس بصحيح أن يقال: ليس من النظم التي عرفها الفقه الإسلامي، بل هو مندرج تحت القواعد العامة في الفقه الإسلامي، فيعرف حكمه من تطبيقها عليه ومن مقاصد الشريعة التي بحثها الأصوليون والفقهاء بحثا كليا، ولا يمنع تمايزه عن العقود المسماة عند الفقهاء التي عرفوها في بيئتهم أو عصرهم اندراجه تحت قاعدة فقهية عامة، أو تحقيقه لمقصد من مقاصد الشريعة، أو بقاؤه عليه ليعرف حكمه، كما عرف حكم العقود المسماة

الخاصة التي وقعت في العصور السابقة؛ ولذا لم يكن بين العلماء إلا اختلاف النظر فيما يندرج تحته من كليات الشريعة وفقهها الإسلامي أو يلحق به من عقود أخرى مسماة تتمايز عنه من جهة، وتشبهه من جهة أخرى فيحكم له بما غلب شبهه به. فنرى منهم من يدرجه تحت ما يقتضي تحريمه أو يلحقه بجزئيات يقوى شبهه بها، ومنهم من يدرجه تحت كليات ومقاصد تقضي بجوازه أو يلحقه بجزئيات تقضي بجوازه؛ لقوة شبهه بها ومنهم من تردد فتوقف. الرابع: ما ذكر من مناقشة كونه قمارا أو تضمنه للربا أو الغرر سبق بحثه ومناقشته من المجيزين والمانعين فلا نعيد الكلام خشية كثرة التكرار. هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

قرار هيئة كبار العلماء بشأن موضوع التأمين

قرار رقم (5\10) وتاريخ 4 \4 \ 1397 الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فبناء على ما ورد من جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله بخطابه رقم (22310) وتاريخ 4\11\ 91هـ الموجه إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء بأن ينظر مجلس هيئة كبار العلماء في موضوع التأمين، وبناء على ذلك تقرر إدراجه في جدول أعمال الدورة الرابعة. وأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يتضمن أمرين: الأول: تعريفه وبيان أسسه وأنواعه وأركانه وخصائص عقده وأنواع وثائقه وما إلى ذلك مما يتوقف على معرفته الحكم عليه بالإباحة أو المنع. الثاني: ذكر خلاف الباحثين في حكمه وأدلة كل فريق منهم مع المناقشة، وفي الدورة السادسة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض ابتداء من 4\ 2\ 95 هـ استمع المجلس إلى ما يأتي: 1 - صورة قرار صادر من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية ورئيس القضاة رحمه الله برقم (570 \2) في 18\8\1388 هـ بشأن حكم صادر من محكمة جدة في موضوع التأمين بين شركة أمريكان لايف وبين بدوي حسين سالم ومذكرة اعتراضية للشيخ علي الخفيف عضو مجمع البحوث الإسلامية بمصر

على الحكم المشار إليه. 2 - البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. 3 - قرار صادر من المستشارين بمجلس الوزراء هما: الدكتور ظافر الرفاعي، وإبراهيم السعيد برقم (449) وتاريخ 26\ 11\ 1390 هـ. 4 - البحث المختصر الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1392 هـ من إعداد فضيلة الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري عضو مجمع البحوث الإسلامية بمصر، يشتمل هذا البحث على بيان مراحل بحث التأمين بجميع أنواعه، وبيان آراء جماعة كثيرة من فقهاء العالم الإسلامي والخبراء والاقتصاديين والاجتماعيين. 5 - ما لدى كل من الدكتورين: مصطفى أحمد الزرقاء وعيسى عبده عن هذا الموضوع، وقد استدعاهما المجلس بناء على المادة العاشرة من لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة المتفرعة عنها الصادرة بالمرسوم الملكي رقم (1\ 137) وتاريخ 8\ 7\1391 هـ (وبعد استماع المجلس إلى ما سبق استمرت المناقشة لأدلة القائلين بالجواز مطلقا، وأدلة القائلين بالمنع مطلقا، ومستند المفصلين الذين يرون جواز بعض أنواع التأمين التجاري ومنع أنواع أخرى، وبعد المناقشة وتبادل الرأي قرر المجلس بالأكثرية: أن التأمين التجاري محرم؛ للأدلة الآتية: الأولى: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم

تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر. الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1) والآية بعدها. الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة من العقد فيكون ربا نسأ، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع. الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم؛ لأن كلا منهما فيه جهالة ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 90

وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل (¬1) » ، وليس التأمين من ذلك ولا شبيها به فكان محرما. الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم؛ لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2) السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعا، فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن فكان حراما. وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقا أو في بعض أنواعه: فالجواب عنه ما يلي: أ- الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح، فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الجهاد (1700) ، سنن أبو داود الجهاد (2574) . (¬2) سورة النساء الآية 29

وهذا محل اجتهاد المجتهدين. والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة. ب- الإباحة الأصلية لا تصلح دليلا هنا؛ لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها، وقد وجد فبطل الاستدلال بها. ج- الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين. د- لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها. هـ- الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناها غير صحيح فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما

مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم، إلا قسطا واحدا، وقد لا يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة، وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدود. وقياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به- غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما: أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع. ز- قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به- لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق: أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر. ح- قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب - قياس غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق: أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولا الكسب المادي فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا

التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه. ط- قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق- لا يصح، فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله. ي- قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد - غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضا؛ لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة، ووضع له نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظرا إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة؛ لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقا التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة؛ كفاء لمعروفه وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة. ك- قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة - لا يصح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق: أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين القاتل- خطأ أو شبه العمد- من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث

المعروف بصلة. ل- قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة - غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق: أن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس. م- قياس التأمين على الإيداع لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق أيضا فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن يعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح، بل هو مفسد للعقد وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر. ن- قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة - لا يصح، والفرق بينهما: أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض، والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية، فلا يصح القياس. لكن أجل إصدار القرار بأكثرية الأصوات حتى يبحث البديل عن التأمين التجاري، وفي الدورة العاشرة لمجلس هيئة كبار العلماء اطلع المجلس على ما أعده بعض الخبراء في البديل عن التأمين التجاري، وقرر المتفقون على تحريم التأمين التجاري إصدار القرار، كما قرر المجلس- ما عدا فضيلة

الشيخ عبد الله بن منيع - إصدار قرار خاص يتعلق بجواز التأمين التعاوني بديلا عن التأمين التجاري. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة العاشرة عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط محمد الحركان ... عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين عبد الله بن قعود ... صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

بحث في البيوع

(3) بحث في البيوع هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم بحث في البيوع إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه، وبعد: فبناء على ما جاء في الأمر السامي رقم 30891 في 20\ 12 \ 1396 هـ من الرغبة في دراسة مجلس هيئة كبار العلماء للمعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات لحصولهم على مكاسب مالية بطرق ملتوية لا تتفق ومبدأ المعاملات الشرعية في البيع والاقتراض والنظر فيما إذا كان بالإمكان إيجاد بديل للحد من جشع أمثال هؤلاء واستغلالهم للمحتاجين من الناس. وبناء على ما قرره المجلس في دورته العاشرة من إعداد بحث في هذا الموضوع فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في أنواع من البيوع التي يستعملها كثير من الناس، وهي قد تؤدي إلى الوقوع في الربا المحرم وهي: 1 - بيع العينة والتورق. 2 - بيع دين السلم.

3 - بيع بيعتين في بيعة. 4 - بيع المضطر. 5 - بيع الإنسان ما ليس عنده، وبيعه ما اشتراه قبل قبضه. بيان ما يمكن القضاء به على جشع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين. وفيما يلي الكلام على كل منها: والله الموفق. . . أولا: الأصل في المعاملات: الإباحة حتى يثبت من أدلة الشرع ما يخرجها عن هذا الأصل. ثانيا: من القواعد الفقهية العامة المتفق عليها: أن الأمور تعتبر بمقاصدها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات (¬1) » . . . الحديث، وعلى هذا يجب سد ذرائع الشر والفساد، وإبطال الحيل التي يتوسل بها إلى تحليل المحرمات، وإباحة المنكرات. ثالثا: الأصل في المعاوضات المالية التقابض ويجب ذلك فيما إذا كان العوضان ربويين ولو اختلفا صنفا؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد (¬2) » رواه أحمد ومسلم، غير أن الدليل من القرآن والسنة القولية والعملية قد دل على جواز تأجيل أحد العوضين في الجملة إذا كان الثمن ذهبا أو فضة وكان الآخر طعاما أو عقارا أو عروضا أخرى أو كان كل من العوضين أو أحدهما غير ربوي، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬3) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) . (¬3) سورة البقرة الآية 282

الآيتين، وروى ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم (¬1) » رواه الجماعة. وعن أنس رضي الله عنه قال: «رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله (¬2) » رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه. وعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد (¬3) » وفي لفظ: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير (¬4) » رواهما البخاري ومسلم. لكن من ضعف في نفسه الوازع الديني، وأصيب بداء الجشع من التجار ومن في حكمهم قد يتبايعون بيوعا صورية يحاولون بها إحلال ما حرم الله من الربا، وقد ينتهزون فرص الحاجة أو الضرورة فيبيعون بأسعار باهظة إلى أجل أو يشترون بضاعة مؤجلة بثمن بخس منقود إلى غير ذلك مما فيه تحكم الموسر بالمعسر، واستغلال ظروف حاجة الضعفاء والمضطرين، فاقتضى ذلك بحث أنواع من عقود البيع لبيان ما يجوز منها وما يمتنع أو تحوم حوله الريبة، وتبصير الناس بذلك وبعث الوعي فيهم والنصح لهم ثم إيجاد الحلول الناجحة لكف عبث العابثين والقضاء على حيل المحتالين للتلاعب بالشريعة والإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل. ومن البيوع التي قد يدخلها انتهاز الفرص والاستغلال ويتأتى فيها التمويه والاحتيال: بيوع الآجال والعينة والتورق وبيع المسلم فيه وبيع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) ، سنن الدارمي البيوع (2583) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2069) ، سنن الترمذي البيوع (1215) ، سنن النسائي البيوع (4610) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2916) .

المضطر وبيع بيعتين في بيعة وبيع الإنسان ما ليس عنده وبيع ما اشتراه قبل قبضه، وفيما يلي تحديد معنى كل منها، وذكر آراء الفقهاء في حكمه مع التوجيه والمناقشة، وبيان ما قد يدخله من احتيال يغير حكمه.

بيع العينة والتورق

1 - بيع العينة والتورق: تعريف العينة والتورق لغة وشرعا: العينة: بكسر العين المهملة، ثم ياء تحتية ساكنة، ثم نون، قال الجوهري: العينة بالكسر: السلف، وقال في [القاموس] : وعين أخذ بالعينة بالكسر أي: السلف أو أعطى بها قال: والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن. اهـ. قال الرافعي: وبيع العينة: هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. اهـ. قال ابن رسلان [في شرح السنن] : وسميت هذه المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتري بها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل بها إلى مقصوده. اهـ. من [نيل الأوطار] . وأما التورق: فقال [صاحب القاموس] : وتورقت الناقة: أكلت الورق، وما زلت منك موارقا قريبا مدانيا، والتجارة مورقة للمال كمجلبة: مكثرة. ويأتي زيادة بيان لذلك فيما نقل من آراء الفقهاء في الفقرة الثانية إن شاء الله.

آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة

آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة: أ - قال صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] في الكلام على ما حرم احتياطا لما فيه من شبهة الربا؛ لحديث: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات (¬1) » . . .، وحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬2) » . قال: وعلى هذا يخرج ما إذا باع رجل شيئا نقدا أو نسيئة وقبضه المشتري ولم ينقد ثمنه أنه لا يجوز لبائعه أن يشتريه من مشتريه بأقل من ثمنه الذي باعه منه عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجوز. وجه قوله: أن هذا بيع استجمع شرائط جوازه وخلا عن الشروط المفسدة إياه فلا معنى للحكم بفساده كما إذا اشتراه بعد نقد الثمن. ولنا: ما روي أن امرأة جاءت إلى سيدتنا عائشة رضي الله عنه، وقالت: إني ابتعت خادما من زيد بن أرقم بثمانمائة ثم بعتها منه بستمائة، فقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: "بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا أن الله تعالى قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ". ووجه الاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنها ألحقت بزيد وعيدا لا يوقف عليه بالرأي وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة، فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يلتحق الوعيد إلا بمباشرة المعصية، فدل على فساد البيع؛ لأن البيع الفاسد معصية. والثاني: أنها رضي الله عنها سمت ذلك بيع سوء وشراء سوء، والفاسد هو الذي يوصف بذلك لا الصحيح، ولأن في هذا البيع شبهة الربا؛ لأن الثمن الثاني يصير قصاصا بالثمن الأول فبقي من الثمن الأول زيادة لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/269) ، سنن الدارمي البيوع (2531) . (¬2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .

يقابلها عوض في عقد المعاوضة. وهو تفسير الربا إلا أن الزيادة ثبتت بمجموع العقدين فكان الثابت بأحدهما شبهة الربا، والشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقية، بخلاف ما إذا نقد الثمن؛ لأن المقاصة لا تتحقق بعد الثمن فلا تتمكن الشبهة بالعقد. ولو نقد الثمن كله إلا شيئا قليلا فهو على الخلاف. ولو اشترى ما باع بمثل ما باع قبل نقد الثمن جاز بالإجماع لانعدام الشبهة، وكذا لو اشتراه بأكثر مما باع قبل نقد الثمن، ولأن فساد العقد معدول به عن القياس وإنما عرفناه بالأثر، والأثر جاء في الشراء بأقل من الثمن الأول فبقي ما وراءه على أصل القياس. هذا إذا اشتراه بجنس الثمن الأول فإن اشتراه بخلاف الجنس جاز؛ لأن الربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس إلا في الدراهم والدنانير خاصة استحسانا، والقياس أن لا يجوز (¬1) ؛ لأنهما جنسان مختلفان حقيقة فالتحقا بسائر الأجناس المختلفة. وجه الاستحسان: أنهما في الثمنية كجنس واحد فيتحقق الربا بمجموع العقدين فكان في العقد الثاني شبهة الربا وهي الربا من وجه. ولو تعيب المبيع في يد المشتري فباعه من بائعه بأقل مما باعه جاز؛ لأن نقصان الثمن يكون بمقابلة نقصان العيب فيلتحق النقصان بالعدم كأنه باعه بمثل ما اشتراه فلا تتحقق شبهة الربا. ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل. والصواب: والقياس أن يجوز.

قال صاحب [بداية المبتدي] علي بن أبي بكر:

ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني. وقال الشافعي رحمه الله: يجوز؛ لأن الملك قد تم فيها القبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء وصار كما لو باعه بمثل الثمن الأول أو بالزيادة أو بالعرض. ولنا قول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعدما اشترت بثمانمائة: " بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم: أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب "، ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه، فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض، بخلاف ما إذا باع بالعرض؛ لأن الفضل إنما يظهر عند المجانسة.

وقال ابن الهمام في [شرح فتح القدير] : قوله: ومن باع جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع قبل نقد الثمن بمثل الثمن أو أكثر جاز، وإن باعها من البائع بأقل لا يجوز عندنا، وكذا لو اشترى عبده أو مكاتبه، ولو اشترى ولده أو والده أو زوجته فكذلك عنده، وعندهما يجوز لتباين الأملاك وكان كما لو اشتراه آخر وهو يقول: كل منهم بمنزلة الآخر؛ ولذا لا تقبل شهادة أحدهما للآخر، ولو اشترى وكيل البائع بأقل من الثمن الأول جاز عنده خلافا لهما؛ لأن تصرف الوكيل عنده يقع لنفسه؛ فلذا يجوز للمسلم أن يوكل ذميا بشراء خمر وبيعها عنده، ولكن ينتقل الملك إلى الموكل حكما، فكان كما لو اشترى لنفسه فمات فورثه البائع، وعندهما عقد الوكيل كعقده. ولو اشتراه

وارثه يجوز في ظاهر الرواية عنهم. وعن أبي يوسف لا يجوز. ولو باعه المشتري من رجل أو وهبه ثم اشتراه البائع من ذلك الرجل يجوز لاختلاف الأسباب بلا شبهة، وبه تختلف المسببات، وبقولنا قال مالك وأحمد، وقيد بقوله: قبل نقد الثمن؛ لأن ما بعده يجوز بالإجماع بأقل من الثمن، وكذا لو باعه بعرض قيمته أقل من الثمن، وقال الشافعي رحمه الله: يجوز، كيفما كان كما لو باعه من غير البائع بأقل من الثمن أو منه بمثل الثمن الأول أو أكثر وبعرض قيمته أقل من الثمن بجامع قيام الملك فيه؛ لأنه هو المطلق في الأصول التي عينها وتقييده بالعرض دون أن يقول، كما لو باعه جنسه وقيمته أقل؛ لأنه لو باعه بذهب قيمته أقل من الدراهم، فالثمن لا يجوز عندنا استحسانا خلافا لزفر. وقياسه على العرض بجامع أنه خلاف جنسه، فإن الذهب جنس آخر بالنسبة إلى الدراهم. وجه الاستحسان: أنهما جنس واحد من حيث كونهما ثمنا، ومن حيث وجب ضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فبطل البيع احتياطا، وألزم أن اعتبارهما جنسا واحدا يوجب التفاضل بينهما احتياطا. والجواب: أنه مقتضى الوجه ذلك، ولكن في التفاضل عند بيع أحدهما بعين الآخر إجماع (ولنا قول عائشة) إلى آخر ما نقله المصنف عن عائشة يفيد: أن المرأة هي التي باعت زيدا بعد أن اشترت منه وحصل له الربح؛ لأن شريت معناه: بعت، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (¬1) أي: باعوه، وهو رواية أبي حنيفة، فإنه روى في مسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي السفر: (أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة درهم ثم اشتراها مني بستمائة، فقلت: أبلغيه عني ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 20

أن الله أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب) ففي هذا أن الذي باع زيد ثم استرد وحصل الربح له. ولكن رواية غير أبي حنيفة من أئمة الحديث عكسه. روى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم. فقالت أم ولد زيد لعائشة: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا، فقالت: أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب، بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، وهذا فيه أن الذي حصل له الربح هي المرأة، قال ابن عبد الهادي في [التنقيح] : هذا إسناد جيد، وإن كان الشافعي قال: لا يثبت مثله عن عائشة، وقول الدارقطني في العالية: - هي مجهولة لا يحتج بها - فيه نظر، فقد خالفه غير واحد، ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد. وقال غيره: هذا مما لا يدرك بالرأي. والمراد بالعالية: امرأة أبي إسحاق السبيعي التي ذكر أنها دخلت مع أم الولد على عائشة. قال ابن الجوزي: قالوا: إن العالية امرأة مجهولة لا يحتج بنقل خبرها. قلنا: هي امرأة جليلة القدر ذكرها ابن سعد في [الطبقات] فقال: العالية بنت أنفع بن شرحبيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة. وقولها: (بئس ما شريت) أي: بعت، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (¬1) أي: باعوه. وإنما ذمت العقد الأول؛ لأنه وسيلة، وذمت الثاني؛ لأن مقصوده الفساد. وروى هذا الحديث على هذا النحو عبد الرزاق قال: ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 20

أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته الستمائة وكتب لي عليه ثمانمائة، فقالت عائشة: إلى قولها: إلا أن تتوب، وزاد: فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه أفضل؟ فقالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (¬1) لا يقال إن قول عائشة وردها لجهالة الأجل وهو البيع إلى العطاء. فإن عائشة كانت ترى جواز الأجل وهو البيع إلى العطاء ذكره في الأسرار وغيره. والذي عقل من معنى النهي أنه استربح ما ليس في ضمانه. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن؟ وهذا لأن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القبض. فإذا عاد إليه الملك الذي زال عنه بعينه وبقي له بعض الثمن فهو ربح حصل لا على ضمانه من جهة من باعه، وهذا لا يوجد فيما إذا اشتراه بمثل الثمن أو أكثر فبطل إلحاق الشافعي بذلك. بخلاف ما لو باعه المشتري من غير البائع فاشتراه البائع منه؛ لأن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأعيان حكما وكذا لو دخل في البيع عيب فاشتراه البائع بأقل؛ لأن الملك لم يعد إليه بالصفة التي خرج بها فلا يتحقق ربح ما لم يضمن، بل يجعل النقصان بمقابلة الجزء الذي احتبس عند المشتري، سواء كان ذلك النقصان بقدر ذلك العيب أو دونه. حتى لو كان النقصان نقصان سعر فهو غير معتبر في العقود؛ لأنه فتور في رغبات الناس فيه ليس من فوات جزء من العين، ولذلك إذا اشتراه بجنس آخر غير الثمن جاز؛ لأن الربح لا يتحقق عينه مع اختلاف الجنس؛ لأن الفضل إنما يظهر بالتقويم والبيع لا يعقب ذلك بخلافه بجنس الثمن الأول لظهوره بلا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275

تقويم، وقد أورد عليه تجويز كون إنكار عائشة لوقوع البيع الثاني قبل قبض المبيع؛ إذ القبض لم يذكر في الحديث. قلنا: لا يصح هذا؛ لأنها ذمته لأجل الربا بقرينة تلاوة آية الربا وليس في بيع المبيع قبل القبض ربا. ولا يخفى ضعف هذا الواجب؛ لأن تلاوة الآية ظاهرة في كونها لاشتمالها على قبول التوبة جوابا لقول المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه أفضل. كان هذا مع التوبة فتلت آية ظاهرة في قبول التوبة، وإن كان سوقها في القرآن في الربا. وأورد عليه طلب الفرق بين النهي عن بيع الولد الكائن مع أمه مفردا لم يوجب الفساد فلم أوجبه هذا النهي، أجيب: بأن النهي إذا كان لأمر يرجع إلى نفس البيع أوجبه وإن كان لأمر خارج لا. والنهي فيما ذكر للتفريق لا لنفس البيع حتى لو فرق بينهما بغير البيع أثم فيكره البيع في نفسه كالبيع وقت النداء وهنا هو لشبهة الربا وهو مخصوص بالبيع، ولشبهة الربا حكم حقيقة.

صاحب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب

ب- قال صاحب [مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب] : (فصل) : (جاز لمطلوب من سلعة أن يشتريها ليبيعها بمال) لما فرغ رحمه الله من الكلام على بيوع الآجال التي لا تخص أحدا عقبها ببيع أهل العينة لاتهام بعض الناس فيها، وهذا الفصل يعرف عند أصحابنا ببيع أهل العينة، والعينة: بكسر العين وهو فعلة من العون؛ لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده، وقيل: من العناء، وهو تجشم المشقة، وقال عياض في [كتاب الصرف] ؛ سميت بذلك لحصول العين وهو النقد لبائعها وقد باعها لتأخير، وقال قبله: هو أن يبيع الرجل الرجل السلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن، أو يشتريها بحضرته من

أجنبي ليبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها به إلى أجل ثم يبيعها هذا المشتري الأخير من البائع الأول نقدا بأقل مما اشتراها به، وخفف هذا الوجه بعضهم ورآه أخف من الأول. وقال ابن عرفة: بيع أهل العينة هو البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها. اهـ. وقسم ابن رشد - في رسم حلف أن لا يبيع من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال، أو في سماع سحنون من كتاب البضائع والوكالات، وفي كتاب بيوع الآجال من المقدمات- العينة إلى ثلاثة أقسام: جائز، ومكروه، وممنوع، وجعلها صاحب [التنبيهات] في كتاب الصرف أربعة أقسام، وزاد وجها رابعا مختلفا فيه. وتبعهم المصنف، فأشار إلى الجائز بقوله: جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بمال وفي بعض النسخ بنماء أي: بزيادة وهو أحسن فإن هذا هو المقصود من العينة. قال في [المقدمات] : الجائز أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة، وقال في كتاب (السلم والآجال) : من البيان أن يأتي الرجل إلى رجل منهم يعني: من أهل العينة، فيقول: هل عندك سلعة كذا وكذا وكذا أبتاعها منك، وفي البيان تبيعها مني بدين فيقول: لا، فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة فيشتري المسئول تلك السلعة التي سأله عنها ثم يلقاه فيخبره أنه اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها منه، قال في [المقدمات] : بما شاء من نقد أو نسيئة، وقال في كتاب (البضائع والوكالات) : فيبيع ذلك منه بدين، وقال في [التنبيهات] : الجائز لمن لم يتواعد على شيء ولا يتراوض مع المشتري كالرجل يقول للرجل: أعندك سلعة كذا؟ فيقول: لا، فينقلب على غير مواعدة ويشتريها ثم يلقاه صاحبه فيقول: تلك السلعة

عندي، فهذا جائز أن يبيعها منه بما شاء من نقد وكالئ ونحوه قال ابن حبيب: ما لم يكن تعريض أو مواعدة أو عادة، قال: وكذلك ما اشتراه الرجل لنفسه يعده لمن يشتريه منه بنقد أو كالئ ولا يواعد في ذلك أحدا يشتريه منه ولا يبيعه له، وكذلك الرجل يشتري السلعة لحاجة له فيبيعها أو يبيع دار سكناه ثم تشق عليه النقلة منها فيشتريها أو الجارية ثم تتبعها نفسه، فهؤلاء إما استقالوا أو زادوا في الثمن فلا بأس به. وذكر ابن مزين: لو كان مشتري السلعة يريد بيعها ساعتئذ فلا خير فيه ولا ينظر إلى البائع كان من أهل العينة أم لا. قال: فيلحق هذا الوجه بهذه الصورة على قوله بالمكروه. اهـ، فيكون على ما ذكره عياض هذا الوجه مختلفا فيه، والمشهور: أنه جائز، وقول ابن مزين: أنه مكروه، ولم يحك ابن رشد في جوازه خلافا وأشار المصنف إلى الوجه الرابع المختلف الذي زاده عياض بقوله: ولو بمؤجل بعضه، قال في [التنبيهات] : والرابع المختلف فيه: ما اشتري ليباع بثمن بعضه مؤجل وبعضه معجل فظاهر مسائل الكتاب والأمهات جوازه، وفي العتبية كراهته لأهل العينة لكن قال ابن غازي: ظاهر كلام المصنف أن هذا مفرع على مسألة المطلوب منه سلعة، كما يوهمه لفظ عياض، ثم ذكره، ثم قال: فقد يسبق للوهم أن قوله: بثمن يتعلق بقوله: ليباع، وليس ذلك بمراد، بل هو متعلق باشتر وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: ما اشتري بثمن مؤجل وبعضه معجل ليباع فهي إذا مسألة أخرى غير مفرعة على مسألة المطلوب منه وذكر من كلام صاحب [التنبيهات] ما يدل على ذلك، ثم ذكر عن البيان نحو ذلك، ثم قال: فإن قلت: لعل المصنف إنما فرعها على مسألة

المطلوب منه سلعة تنبيها على أن المختار عنده من الخلاف الجواز وإن تركبت المسألة من الوصفين فتكون غير المركبة أحرى بالجواز، قلت: هذا أبعد ما يكون من التأويل، ولكن يقربه الظن الجميل، ويتقى العهدة في التزام جواز المركبة. اهـ. (قلت) : وقد يتلمح الجواز من قول ابن رشد فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة ونحوه لعياض، كما تقدم.

النووي في روضة الطالبين

ج- قال النووي في [روضة الطالبين] : ليس من المناهي بيع العينة بكسر العين المهملة وبعد الياء نون وهو أن يبيع غيره شيئا بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد، أم لا، هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب، وأفتى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والشيخ أبو محمد: بأنه إذا صار عادة له، صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فيبطلان جميعا. اهـ. قال إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي في المختصر المطبوع مع [الأم] : (باب الرجل يبيع الرجل السلعة إلى أجل ويشتريها بأقل من الثمن) قال الشافعي: ولا بأس بأن يبيع الرجل السلعة إلى أجل ويشتريها من المشتري بأقل بنقد وعرض وإلى أجل، قال بعض الناس: إن امرأة أتت عائشة فسألتها عن بيع باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء ثم اشترته منه بأقل، فقالت عائشة: بئسما اشتريت وبئسما ابتعت أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. (قال الشافعي) : وهو

مجمل، ولو كان هذا ثابتا فقد تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء؛ لأنه أجل غير معلوم ونحن لا نثبت مثل هذا على عائشة وإذا كانت هذه السلعة كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري؟

ابن قدامة في المغني

د- قال ابن قدامة في [المغني] : (¬1) مسألة: قال: (ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به) وجملة ذلك: أن من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدا لم يجز في قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي. وبه قال أبو الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي وأجازه الشافعي؛ لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها. كما لو باعها بمثل ثمنها. ولنا: ما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع بن شرحبيل أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم امرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور. والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرى مجرى روايتها ذلك عنه، ولأن ذلك ذريعة إلى الربا ¬

_ (¬1) [المغني] (4 \174- 178) .

فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم، وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة، يعني: خرقة حرير جعلاها في بيعهما. والذرائع معتبرة لما قدمناه. فأما بيعها بمثل الثمن أو أكثر فيجوز؛ لأنه لا يكون ذريعة، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع. فإن نقصت مثل إن هزل العبد أو نسي صناعة أو تخرق الثوب أو بلي- جاز له شراؤها بما شاء؛ لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا، وإن نقص سعرها أو زاد لذلك أو لمعنى حدث فيها لم يجز بيعها بأقل من ثمنها كما لو كانت بحالها، نص أحمد على هذا كله. (فصل) وإن اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض فاشتراها بنقد- جاز. وبه قال أبو حنيفة، ولا نعلم فيه خلافا؛ لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا. ولا ربا بين الأثمان والعروض، فأما إن باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر مثل أن يبيعها بمائتي درهم ثم اشتراها بعشرة دنانير فقال أصحابنا: يجوز؛ لأنهما جنسان لا يحرم التفاضل بينهما. فجاز كما لو اشتراها بعرض أو بمثل الثمن. وقال أبو حنيفة: لا يجوز استحسانا؛ لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية، ولأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا. فأشبه ما لو باعها بجنس الثمن الأول وهذا أصح إن شاء الله تعالى. (فصل) وهذه المسألة تسمى: مسألة العينة. قال الشاعر: أندان أم نعتان أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه؟ فقوله: نعتان، أي نشتري عينة مثل ما وصفنا. وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم

بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (¬1) » . وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه قال: العينة: أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس. وقال: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد. وقال ابن عقيل: إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا، فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل، ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة وللبيع بنسيئة جميعا. لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا، ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره. (فصل) وإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة. فقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز ذلك، إلا أن يغير السلعة؛ لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا. فأشبه مسألة العينة. فإن اشتراها بنقد آخر أو بسلعة أخرى أو بأقل من ثمنها نسيئة جاز. لما ذكرناه في مسألة العينة. ويحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن أو بأكثر منه. إلا أن يكون ذلك عن مواطأة أو حيلة فلا يجوز. وإن وقع ذلك اتفاقا من غير قصد جاز؛ لأن الأصل حل البيع. وإنما حرم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيه، وليس هذا في معناه، ولأن التوسل بذلك أكثر. فلا يلتحق به ما دونه. والله أعلم. (فصل) وفي كل موضع قلنا: لا يجوز له أن يشتري لا يجوز ذلك لوكيله؛ لأنه قائم مقامه ويجوز لغيره من الناس. سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما؛ لأنه غير البائع ويشتري لنفسه فأشبه الأجنبي. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .

محمد بن مفلح في الفروع

قال محمد بن مفلح في [الفروع] (¬1) : ولو باع شيئا نسيئة أو بثمن لم يقبضه، في ظاهر كلامه، وذكره القاضي وأصحابه والأكثر، ثم اشتراه بأقل مما باعه، قال أبو الخطاب والشيخ: نقدا، ولم يقله أحمد والأكثر، ولو بعد حل أجله، نقله ابن القاسم وسندي - بطل الثاني (نص عليه وذكره الأكثر، لم يجز استحسانا، وكذا في كلام القاضي وأصحابه القياس صحة البيع، ومرادهم أن القياس خولف لدليل) إلا أن يتغير في نفسه، أو يقبض ثمنه، أو بغير جنس ثمنه، وفي الانتصار وجه: بعرض، اختاره الشيخ، أو يشتريه بمثل ثمنه، أو من غير مشتريه، لا من وكيله. وسأله المروذي: إن وجده مع آخر يبيعه بالسوق أيشتريه بأقل؟ قال: لا، لعله دفعه ذلك إليه يبيعه، وتوقف في رواية مهنا فيما إذا نقص في نفسه، وحمله في الخلاف على أن نقصه أقل من النقص الذي اشتراه به، فتكون علة المنع باقية، وهذه مسألة العينة، وعند أبي الخطاب يجوز قياسا، وكذا في الترغيب: لم يجز استحسانا، وكذا في كلام القاضي وأصحابه: القياس صحة البيع، ومرادهم: أن القياس خولف لدليل راجح، فلا خلاف إذا في المسألة، وذكر شيخنا: أنه يصح الأول إذا كان بتاتا ولا مواطأة، وإلا بطلا، وأنه قول أحمد (و. م) ويتوجه أن مراد من أطلق هذا، إلا أنه قال (في الانتصار) : إذا قصدا بالأول الثاني يحرم. وربما قلنا ببطلانه، وقال أيضا: يحرم. إذا قصدا أن لا يصحا، وإن سلم فالبيع ¬

_ (¬1) [الفروع] (4 \169- 171)

الأول خلا عن ذريعة الربا. وأجاب عن قول عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت: أنه للتأكيد، قال أحمد رضي الله عنه فيمن فعلها: لا يعجبني أن يكتب عنه الحديث، وحمله القاضي وغيره على الورع؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أنه ذكر عن قول عائشة رضي الله عنها: أن زيد بن أرقم أبطل جهاده، أنها أوعدت عليه. ومسائل الخلاف لا يلحق فيها الوعيد، وعكس العينة مثلها، نقله حرب، ونقل أبو داود: يجوز بلا حيلة، ونقل المروذي فيمن يبيع الشيء ثم يجده يباع أيشتريه بأقل مما باعه بالنقد؟ قال: لا، ولكن بأكثر لا بأس، ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائتين فلا بأس، نص عليه، وهي التورق. وعنه: يكره، وحرمه شيخنا. نقل أبو داود: إن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتريه منك هو أهون، فإن كان يريد بيعه فهو العينة، وإن باعه منه لم يجز، وهي العينة نص عليه.

شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى

قال شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى] (¬1) : * وسئل عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا. هل يجوز أم لا؟ فأجاب: أما إذا باع السلعة إلى أجل واشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا فهذه تسمى (مسألة العينة) وهي غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، وهو المأثور عن الصحابة؛ كعائشة وابن ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (29 \446- 448)

عباس وأنس بن مالك. فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل فقال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة. وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال: إذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم، فبين أنه إذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم بدراهم والأعمال بالنيات وهذه تسمى: (التورق) . فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها، وتارة يشتريها ليتجر بها، فهذان جائزان باتفاق المسلمين. وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ دراهم. فينظر كم تساوي نقدا، فيشتريها إلى أجل ثم يبيعها في السوق بنقد. فمقصوده الورق فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء. كما نقل ذلك عن عمر بن عبد العزيز وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وأما عائشة فإنها قالت لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها: إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة وبعته منه بستمائة. فقالت عائشة: بئس ما بعت، وبئس ما اشتريت. أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل، إلا أن يتوب: قالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، فقالت لها عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬1) وفي السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬2) » ، وهذا إن تواطآ على أن يبيع ثم يبتاع. فما له إلا الأوكس. وهو ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275 (¬2) سنن أبو داود البيوع (3461) .

الثمن الأقل أو الربا. وأصل هذا الباب: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (¬1) » فإن كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس، وإن نوى ما حرم الله وتوصل إليه بحيله فإن له ما نوى، والشرط بين الناس ما عدوه شرطا كما أن البيع بينهم ما عدوه بيعا. والإجارة بينهم ما عدوه إجارة. وكذلك النكاح بينهم ما عدوه نكاحا، فإن الله ذكر البيع والنكاح وغيرهما في كتابه، ولم يرد لذلك حد في الشرع ولا له حد في الفقه. والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع؛ كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة باللغة؛ كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارة بالعرف كالقبض والتفريق، وكذلك العقود؛ كالبيع والإجارة والنكاح والهبة وذلك، فما تواطأ الناس على شرطه وتعاقدوا فهذا شرط عند أهل العرف. وقال رحمه الله في الاختيارات: وتحرم مسألة التورق. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

ابن القيم في إعلام الموقعين

وقال- ابن القيم في [إعلام الموقعين] (¬1) : (فصل) ومن الحيل المحرمة الباطلة: التحيل على جواز مسألة العينة، مع أنها حيلة في إبطال حيل لتجويز العينة نفسها على الربا وجمهور الأئمة على تحريمها. وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل: منها: أن يحدث المشتري في السلعة حدثا ما تنقص به أو تتعيب، فحينئذ يجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها، ومنها: أن تكون السلعة قابلة للتجزئة فيمسك، منها جزءا ما ويبيعه بقيتها، ومنها: أن يضم البائع إلى السلعة سكينا ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3 \335، 336)

أو منديلا أو حلقة حديد أو نحو ذلك فيملكه المشتري ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن، ومنها: أن يهبها المشتري لولده أو زوجته أو من يثق به فيبيعها الموهوب له من بائعها فإذا قبض الثمن أعطاه للواهب، ومنها: أن يبيعه إياها نفسه من غير إحداث شيء ولا هبة لغيره لكن يضم إلى ثمنها خاتما من حديد أو منديلا أو سكينا ونحو ذلك. ولا ريب أن العينة على وجهها أسهل من هذا التكلف وأقل مفسدة وإن كان الشارع قد حرم مسألة العينة لمفسدة فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة، بل هي بحالها وانضم إليها مفسدة أخرى أعظم منها، وهي: مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام الله هزوا، وهي أعظم المفسدتين، وكذلك سائر الحيل لا تزيل المفسدة التي حرم لأجلها وإنما يضم إليها مفسدة الخداع والمكر وإن كانت العينة لا مفسدة فيها فلا حاجة إلى الاحتيال عليها، ثم إن العينة في نفسها من أدنى الحيل إلى الربا، فإذا تحيل عليها المحتال صارت حيلا متضاعفة ومفاسد متنوعة والحقيقة والقصد معلومان لله وللملائكة وللمتعاقدين ولمن حضرهما من الناس فليصنع أرباب الحيل ما شاءوا وليسلكوا أية طريق سلكوا فإنهم لا يخرجون بذلك عن بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة فليدخلوا محلل الربا أو يخرجوه فليس هو المقصود. والمقصود معلوم والله لا يخادع ولا تروج عليه الحيل ولا تلتبس عليه الأمور.

ابن القيم في تهذيب السنن

قال ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن] على حديث: «إذا تبايعتم بالعينة (¬1) » ... وفي الباب حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم. فقالت: (يا ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .

أم المؤمنين، إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئسما اشتريت، وبئسما شريت، أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب) . هذا الحديث رواه البيهقي والدارقطني، وذكره الشافعي، وأعله بالجهالة بحال امرأة أبي إسحاق، وقال: لو ثبت فإنما عابت عليها بيعا إلى العطاء؛ لأنه أجل غير معلوم. ثم قال: ولا يثبت مثل هذا عن عائشة، وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالا. قال البيهقي: ورواه يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع (أنها دخلت على عائشة مع أم أحمد) . وقال غيره: هذا الحديث حسن، ويحتج بمثله؛ لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها، ويونس ابنها، ولم يعلم فيها جرح. والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك. ثم إن هذا مما ضبطت فيه القصة، ومن دخل معها على عائشة، وقد صدقها زوجها وابنها وهما من هما، فالحديث محفوظ. وقوله في الحديث المتقدم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬1) » هو منزل على العينة بعينها. قاله شيخنا؛ لأنه بيعان في بيع واحد فأوكسهما: الثمن الحال. وإن أخذ بالأكثر وهو المؤجل أخذ بالربا. فالمعينان لا ينفكان من أحد الأمرين: أما الأخذ بأوكس الثمنين أو الربا، وهذا لا يتنزل إلا على العينة. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3461) .

(فصل) قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه:

أحدها: أن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إلى الربا، بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام. فهنا مقامان: أحدهما: بيان كونها وسيلة. والثاني: بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام. فأما الأول: فيشهد له به النقل والعرف والنية والقصد، وحال المتعاقدين: فأما النقل: فبما ثبت عن ابن عباس أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة. وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين عن ابن عباس: أنه قال: (اتقوا هذه العينة لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة) . وفي كتاب أبي محمد النجشي الحافظ عن ابن عباس «أنه سئل عن العينة، يعني: بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله» . وفي كتاب الحافظ مطين عن أنس «أنه سئل عن العينة- يعني: بيع الحريرة- فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله» . وقول الصحابي (حرم رسول الله كذا أو أمر بكذا وقضى بكذا وأوجب كذا) في حكم المرفوع اتفاقا عند أهل العلم إلا خلافا شاذا لا يعتد به ولا يؤبه له. وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى فظن ما ليس بأمر، ولا تحريم كذلك، وهذا فاسد جدا. فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص وقد تلقوها

من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظن بأحد منهم أن يقدم على قوله: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حرم أو فرض) إلا بعد سماع ذلك ودلالة اللفظ عليه، واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية، بل دونه، فإن رد قوله: (أمر) ونحوه بهذا الاحتمال، وجب رد روايته لاحتمال السهو والغلط وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر. وأما شهادة العرف بذلك: فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعباده من المتبايعين ذلك: قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها ولا غرض لهما فيها بحال. وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول: مائة بمائة وعشرين. وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره. حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن. أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد؛ لأنهم لا غرض لهم فيها. وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا. وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنه لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين، فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما؛ ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله ورسوله. وأما المقام الثاني: - وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام- فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول، فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون مثل ذلك: مخادعة، كما تقدم.

وقال أيوب السختياني: (يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل، والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية أو شرعية، والخداع حرام) . وأيضا فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو من أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا وإنما قصده حقيقة الربا. وأيضا: فإن الطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلا؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعا فيتعين الأول. وأيضا فإن الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله لما فيه من أعظم الفساد والضرر فكيف يتصور- مع هذا- أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل. فيا لله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة وقلبتها مصلحة بعد أن كانت مفسدة؟ وأيضا: فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين وكان مقصودهم منع حق الفقراء من الثمر المتساقط وقت الحصاد فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة. ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت على رد (¬1) . الاستثناء وحده لوجهين: ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل: ولعله: ترك

أحدهما: أن العقوبة من جنس العمل، وترك الاستثناء عقوبته: أن يعوق وينسى لا إهلاك ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحرمان فإنها حرمان كالذنب. الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} (¬1) ورتب العقوبة على ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة فإن لم يكن هو العلة التامة كان جزءا من العلة. وعلى التقديرين: يحصل المقصود. وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال بالنيات (¬2) » والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم، ونيته أولى به من ظاهر عمله. وأيضا: فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وإسناده مما يصححه الترمذي. وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها (¬3) » ، و"جملوها" يعني: أذابوها وخلطوها. وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم ويحدث لها اسم آخر، وهو الودك وذلك لا يفيد الحل فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدل بتبدل الاسم. وهذا الربا تحريمه تابع لمعناه وحقيقته فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا ¬

_ (¬1) سورة القلم الآية 24 (¬2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2223) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .

واضح بحمد الله. وأيضا: فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم وإنما انتفعوا بثمنه، فيلزم من وقف مع تنظر العقود والألفاظ دون مقاصدها وحقائقها: أن لا يحرم ذلك؛ لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم، ولما لعنهم على استحلالهم الثمن. وإن لم ينص على تحريمه - دل على أن الواجب النظر إلى المقصود، وإن اختلفت الوسائل إليه وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها. ونظير هذا: أن يقال: لا تقرب مال اليتيم فتبيعه وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر فتغير اسمه وتشربه، وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة فتعقد عليها عقد إجارة وتقول إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك. قالوا: ولهذا الأصل- وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه- أكثر من مائة دليل، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح لما كان مقصوده التحليل لا حقيقة النكاح. وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد. الدليل الثاني على تحريم العينة: ما رواه أحمد في مسنده: حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم (¬1) » رواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني، أن ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .

عطاء الخراساني حدثه: أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكره، وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر. فأما رجال الأول فأئمة مشاهير، وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر. والإسناد الثاني: يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر، فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة كذلك. وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم. وله طريق ثالث: رواه السري بن سهل حدثنا عبد الله بن رشيد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، (¬1) » حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم وهذا يبين أن للحديث أصلا وأنه محفوظ. الدليل الثالث: ما تقدم من حديث أنس «أنه سئل عن العينة؟ فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله» وتقدم أن هذا اللفظ في حكم المرفوع. الدليل الرابع: ما تقدم من حديث ابن عباس وقوله: «هذا مما حرم الله ورسوله» . الدليل الخامس: ما رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن أبي إسحاق عن العالية، ورواه حرب من حديث إسرائيل حدثني ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .

أبو إسحاق عن جدته العالية، يعني: جدة إسرائيل: فإنها امرأة أبي إسحاق قالت: (دخلت على عائشة في نسوة فقالت: مما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة، فقالت: يا أم المؤمنين، هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء. وأنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدا. فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلا، ثم إنه سهل عنها، فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (¬1) فلولا أن عند أم المؤمنين علما لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد، ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة، وأن استحلال الربا أكفر، وهذا منه ولكن زيدا معذور؛ لأنه لم يعلم أن هذا محرم؛ ولهذا قالت: (أبلغيه) . ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا. وعلى التقديرين: فجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد، ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد. فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد. ولا يقال: فزيد من الصحابة وقد خالفها؛ لأن زيدا لم يقل: هذا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275

حلال، بل فعله وفعل المجتهد لا يدل قوله على الصحيح لاحتمال سهو، أو غفلة، أو تأويل، أو رجوع ونحوه، وكثيرا ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته، فإذا نبه له انتبه، ولا سيما أم ولده، فإنها دخلت على الرجوع إلى رأس مالها، وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك. فإن قيل: لا نسلم ثبوت الحديث فإن أم ولد زيد مجهولة. قلنا: أم ولده لم ترو الحديث وإنما كانت هي صاحبة القصة، وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي وهي من التابعيات، وقد دخلت على عائشة وروى عنها أبو إسحاق وهو أعلم بها، وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها، بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظهما لها؛ ولهذا رواها عنها زوجها ميمون ولم ينهها ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكذب لم يكن فاشيا في التابعين فشوه فيمن بعدهم، وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج به. فهذه أربعة أحاديث تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم العينة: حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة: وحديث أنس وابن عباس: أنها مما حرم الله ورسوله. وحديث عائشة هذا والمرسل منها له ما يوافقه، وقد عمل به بعض الصحابة والسلف وهذه حجة باتفاق الفقهاء. الدليل السادس: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬1) » . ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3461) .

وللعلماء في تفسيره قولان: أحدهما: أن يقول: بعتك بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك ففسره في حديث ابن مسعود قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (¬1) » قال سماك: الرجل يبيع البيع فيقول هو علي نساء بكذا وبنقد بكذا. وهذا التفسير ضعيف فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة ولا (صفقتين) هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين. والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره وهو مطابق لقوله: «فله أوكسهما أو الربا (¬2) » فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما وهو مطابق لصفقتين في صفقة، فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا. فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم، وانطباقه عليها. ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيعتين في بيعة (¬3) » و «عن سلف وبيع (¬4) » فجمعه بين هذين العقدين في النهي؛ لأن كلا منهما يئول إلى الربا؛ لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا. ومما يدل على تحريم العينة: حديث ابن مسعود يرفعه: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له (¬5) » . ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/398) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3461) . (¬3) سنن الترمذي البيوع (1309) ، مسند أحمد بن حنبل (2/71) . (¬4) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/205) ، سنن الدارمي البيوع (2560) . (¬5) صحيح مسلم المساقاة (1597) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .

ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد على عقد صورته جائزة الكتابة والشهادة لا يشهد بمجرد الربا ولا يكتبه، ولهذا أقرنه بالمحلل والمحلل له حيث أظهر صورة النكاح، ولا نكاح كما أظهر الكاتب والشاهد أنه صورة البيع ولا بيع. وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل، فلعن المعقود له والمعين له على ذلك العقد ولعن المحلل والمحلل له، فالمحلل له: هو الذي يعقد التحليل لأجله، والمحلل: هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي: هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به. فصلوات الله على من أوتي جوامع الكلم. الدليل السابع: ما صح عن ابن عباس أنه قال: (إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه تلك ورق بورق) رواه سعيد وغيره. ومعنى كلامه: أنك إذا قومت السلعة بنقد ثم بعتها بنسيئة كان مقصود المشتري شراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة وإذا قومتها بنقد ثم بعتها به فلا بأس؛ فإن ذلك بيع المقصود منها السلعة لا الربا. الدليل الثامن: ما رواه ابن بطة عن الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» (يعني: العينة) . وهذا- وإن كان مرسلا- فهو صالح للاعتضاد به ولا سيما وقد تقدم من المرفوع ما يؤكده. ويشهد له أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير

اسمها (¬1) » . وقوله أيضا فيما رواه إبراهيم الحربي من حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والحرير (¬2) » ، والحر: بكسر الحاء وتخفيف الراء: هو: الفرج، فهذا إخبار عن استحلال المحارم ولكنه بتغيير أسمائها وإظهارها في صورة تجعل وسيلة إلى استباحتها وهي الربا والخمر والزنا فيسمى كل منها بغير اسمها، ويستباح بالاسم الذي سمي به، وقد وقعت الثلاثة. وفي قول عائشة: (بئسما شريت، وبئسما اشتريت) دليل على بطلان العقدين معا، وهذا هو الصحيح من المذهب؛ لأن الثاني عقد ربا والأول وسيلة إليه. وفيه قول آخر في المذهب: أن العقد الأول صحيح؛ لأنه تم بأركانه وشروطه، فطريان الثاني عليه لا يبطله، وهذا ضعيف، فإنه لم يكن مقصودا لذاته وإنما جعله وسيلة إلى الربا، فهو طريق إلى المحرم فكيف يحكم بصحته؟ وهذا القول لا يليق بقواعد المذهب. فإن قيل: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟ قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة؛ لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا، فهو كمسألة العينة سواء، وهي عكسها صورة، وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا، لكن في إحدى الصورتين: البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الأشربة (3688) ، سنن ابن ماجه الفتن (4020) ، مسند أحمد بن حنبل (5/342) . (¬2) سنن الدارمي الأشربة (2101) .

وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن تجوز الصورة الثانية إذا لم يكن ذلك حيلة ولا مواطأة، بل وقع اتفاقا. وفرق بينها وبين الصورة الأولى بفرقين: أحدهما: أن النص ورد فيها فيبقى ما عداها على أصل الجواز. والثاني: أن التوسل إلى الربا بتلك الصورة أكثر من التوسل بهذه. والفرقان ضعيفان: أما الأول: فليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة. والعينة فعلة من العين النقد قال الشاعر: أندان, أم نعتان, أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه؟ قال الجوزجاني: أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق فيشتري السلعة ويبيعها بالعين التي احتاج إليها وليست به إلى السلعة حاجة. وأما الفرق الثاني: فكذلك؛ لأن المعتبر في هذا الباب هو الذريعة، ولو اعتبر فيه الفرق من الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى وأنتم لا تعتبرونه. فإن قيل: فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه، بل رجعت إلى ثالث هل تسمون ذلك عينة؟ قيل: هذه مسألة التورق؛ لأن المقصود منها الورق، وقد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة، وأطلق عليها اسمها. وقد اختلف السلف في كراهيتها، فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها، وكان يقول: (التورق أخية الربا) ورخص فيها إياس بن معاوية.

وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان، وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر، وقد روى أبو داود عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع المضطر، (¬1) » وفي [المسند] عن علي قال: (سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬2) ويبايع المضطرون، وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر (¬3) » وذكر الحديث. فـ أحمد رحمه الله تعالى أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد؛ لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها، فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة، وإن باعها من غيره فهي التورق، ومقصوده في الموضعين: الثمن، فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه ولا معنى للربا إلا هذا لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة ولو لم يقصده كان ربا بسهولة. وللعينة صورة رابعة- وهي أخت صورها- وهي: أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة، ونص أحمد على كراهة ذلك فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس. وقال أيضا: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة فلا يبيع بنقد. قال ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبا. وعلله شيخنا ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يدخل في بيع المضطر فإن ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) . (¬2) سورة البقرة الآية 237 (¬3) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .

غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرا من التجار. وللعينة صورة خامسة: - وهي أقبح صورها وأشدها تحريما- وهي: أن المترابيين يتوطآن على الربا، ثم يعمدان إلى الرجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه ثم يبيعه إياه المربي بثمن مؤجل وهو ما اتفقنا عليه ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا، وهذه تسمى: الثلاثية؛ لأنها بين ثلاثة، وإذا كانت السلعة بينهما خاصة فهي الثنائية، وفي الثلاثية: قد أدخلا بينهما محللا يزعمان أنه يحلل لهما ما حرم الله من الربا، وهو كمحلل النكاح فهذا محلل الربا، وذلك محلل الفروج، والله تعالى لا تخفى عليه خافية، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. سئل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله عن رجل عليه دين لرجل يحتاج إلى بضاعة أو حيوان ينتفع به أو يتاجر فيه، فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه ثم يبيعه له بثمن إلى أجل؟ وهل له أن يوكله في شرائه ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟ فأجاب: من كان له عليه دين فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه، وإن كان معسرا وجب إنظاره، ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها، وأما البيع إلى أجل ابتداء فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة فهذا مذموم منهي عنه في أظهر

قولي العلماء، وهذا يسمى: التورق، قال أبو عمر ابن عبد البر: (التورق أخية الربا) (¬1) . ¬

_ (¬1) [الدرر السنية] (4\ 17، 18)

قول الشيخ محمد بن إبراهيم في حكم التورق

وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن حكم التورق. فأجاب فيما يلي: من محمد بن إبراهيم إلى المكرم أحمد علي الروضان سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: وصل كتابك الذي تستفتي فيه عما يتعامل به بعض الناس إذا احتاج إلى نقود، وذهب إلى التاجر ليستدين منه وباع عليه أكياس سكر وغيرها نسيئة بثمن يزيد على ثمنها نقدا فيأخذ المحتاج السكر ويبيعه بالنقص عما اشتراه به من التاجر ليقضي حاجته، وتسأل هل هذا التعامل حرام أم حلال وهل يعتبر من الربا في شيء؟ والجواب: هذه المسألة تسمى مسألة التورق والمشهور من المذهب جوازها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم يكن للمشتري حاجة إلى السلعة، بل حاجته إلى الذهب والورق فيشتري السلعة ليبيعها بالعين التي احتاج إليها، فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه: التورق، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ويقول: (التورق أخية الربا) ، وإياس بن معاوية يرخص فيه، وعن الإمام أحمد روايتان.

والمشهور: الجواز، وهو الصواب، قال في [مطالب أولي النهى] : ولو احتاج إنسان لنقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر كمائة وخمسين مثلا ليتوسع بثمنه- فلا بأس بذلك نص عليه، وهي مسألة التورق، وقال في [الاختيارات] : قال أبو طالب: قيل للإمام أحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك؟ قال: إذا كان أجله إلى سنة أو بقدر الربح فلا بأس، وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله- يعني: أحمد بن حنبل - يقول: بيع النسيئة إذا كان مقاربا فلا بأس به، وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه يشبه بيع المضطر وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة، والله أعلم. مفتي البلاد السعودية في 12\ 5\ 1386 هـ.

قول الشيخ عبد العزيز بن باز في حكم البيع إلى أجل والتورق والعينة

وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن حكم البيع إلى أجل وبيع التورق والعينة والقرض بالفائدة؟ فأجاب وفقه الله: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، أما بعد: فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدا؟ والجواب عن ذلك: أن هذه المعاملة لا بأس بها؛ لأن بيع النقد غير بيع التأجيل، ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم، فمنع الزيادة

لأجل الأجل، وظن ذلك من الربا، وهو قول لا وجه له، وليس من الربا في شيء؛ لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقدا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشا فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1) الآية، وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع فإن البائع في السلم يبيع من ذمته حبوبا أو غيرها مما يصلح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به المسلم فيه وقت السلم؛ لكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا فهو عكس المسألة المسئول عنها. وهو جائز بالإجماع وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى، والحاجة إليه ماسة؛ كالحاجة إلى المسلم، والزيادة في السلم مثل: الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبلغ في مسألة السلم وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع إلى أجل، لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها، فهذه المعاملة تسمى: مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة: (الوعدة) . وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 282

أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة؛ لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة. والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها؛ لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬2) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة. وأما تعليل من منعها أو كرهها لكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة. فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا، وصورة ذلك: أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه فهذا ممنوع شرعا؛ لما فيه من الحيلة على الربا، وتسمى هذه المسألة: مسألة العينة، وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على منعها. أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس: (الوعدة) فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275 (¬2) سورة البقرة الآية 282

شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا؛ لأن المشتري غير البائع، ولكن كثيرا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة، فبعضهم يبيع ما لا يملك، ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي، وكلا الأمرين غير جائز؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (¬1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (¬2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (¬3) » ، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا (¬4) » ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا: «أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬5) » . ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها، بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه، ويتضح أيضا أن ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري أو إلى السوق- أمر لا يجوز؛ لما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولما فيه من التلاعب بالمعاملات وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه. أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تبذل ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/179) ، سنن الدارمي البيوع (2560) . (¬3) صحيح مسلم البيوع (1526) ، مسند أحمد بن حنبل (2/111) ، سنن الدارمي البيوع (2559) . (¬4) صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) . (¬5) سنن أبو داود البيوع (3499) .

لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين وينظره، فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية. ويقولون للمدين قولهم المشهور: إما أن تقضي وإما أن تربي، فمنع الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1) وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة وعلى تحريم كل معاملة يتوسل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل: أن يقول الدائن للمدين: اشتر مني سلعة من سكر أو غيره إلى أجل ثم بعها بالنقد وأوفني حقي الأول، فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي تعاطاها أهل الجاهلية لكن بطريق آخر غير طريقهم. فالواجب تركها، والحذر منها وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له القضاء، كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين ويبرئ به ذمته من حق ومن الدائنين. وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق غير مؤد للأمانة فهو في حكم الغني المماطل، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم (¬2) » ، وقال عليه والسلام: «لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته (¬3) » ، والله المستعان. ومن المعاملات الربوية أيضا ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة في القرض إما مطلقا وإما في كل سنة شيئا معلوما. فالأول: مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد إليه ألفا ومائة أو يسكنه داره أو دكانه أو يعيره سيارته أو دابته مدة معلومة أو ما أشبه ذلك من الزيادات. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 280 (¬2) صحيح البخاري الحوالات (2287) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبو داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد بن حنبل (2/380) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) . (¬3) سنن النسائي البيوع (4689) ، سنن أبو داود الأقضية (3628) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2427) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .

وأما الثاني: فهو أن يجعل له كل سنة أوكل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة، فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضا مضمونا، ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر، وهذا العقد يسمى أيضا: القراض، وهو جائز بالإجماع؛ لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل إذا تلف من غير تعد ولا تفريط لم يضمنه، وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد. وبهذا تتضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق

مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق 1 - تطلق العينة ويراد بها بيع إنسان من آخر سلعة لأجل بمائة ريال مثلا، ثم شراؤه إياها منه نقدا بأقل من ذلك، وهي بهذا المعنى من أبرز أنواع البيوع في التحايل على الربا وأظهرها في استغلال حاجة المضطرين. وسميت عينة؛ لأن المقصد منها الحصول على العين، وهو النقد، دون قصد حقيقة البيع وتملك السلعة، وقيل: هي فعلة من العون؛ لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده، وقيل: من العناء، وهو تجشم المشقة.

2 - قال بتحريم العينة بهذا المعنى جمهور العلماء لأدلة: أ- منها: أنها ذريعة قريبة إلى الربا، فكانت حراما، وقد أوضح هذا ابن القيم بوجوه نقلت في الأعداد. ب- ومنها: ما رواه الإمام أحمد في [المسند] من طريق عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعين (¬1) » . . . الحديث، ورواه أبو داود في سننه من طريق عطاء الخراساني أن نافعا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما فذكره. ج- ومنها: ما ذكرته عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم وأم ولده، ورجوع أم ولده عن أخذ الزيادة من زيد، ولم ينقل أن زيدا رد على عائشة قولها رضي الله عنهم، ومثل هذا الإنكار من عائشة لا يكون إلا عن توقيف. د- ومنها: قول أنس رضي الله عنه حينما سئل عن العينة: (إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله) ، وقول ابن عباس لما سئل عن حريرة بيعت بدراهم، ثم اشتراها من باعها بأقل: (دراهم بدراهم بينهما حريرة، هذا مما حرم الله ورسوله) ، ومثل هذا القول من أنس وابن عباس رضي الله عنهم له حكم المرفوع. هـ- ومنها: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬2) » ، فإنه ينطبق على العينة بالمعنى المتقدم، كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمة الله عليهما. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3461) .

وقال الشافعي: يجوز بيع العينة بالمعنى المتقدم، ولم يثبت الأحاديث الواردة في النهي عنها، وتأول حديث عائشة رضي الله عنها بحمله على البيع إلى العطاء وهو أجل مجهول، وقال: إن هذه السلعة كسائر مالي، فلم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري؟ وقال: إن قول عائشة عارضه عمل زيد. ورد طعنه في حديث عائشة رضي الله عنها بأن العالية بنت سبيع معروفة برواية ابنها يونس وزوجها أبي إسحاق عنها وتوثيق العجلي لها، ورد تأويله حديثها بأنها ترى جواز البيع إلى العطاء، وردت معارضته قولها بعمل زيد رضي الله عنهما بأنه لم يعرف عنه إنكار قولها أو الإصرار على بقائه على العمل بالعينة، ورد قياسه بأنه قياس مع الفارق، ومنقوض بمعارضته لقاعدة سد الذرائع، ولأحاديث النهي عن العينة. 3 - وتطلق العينة أيضا على ما إذا تواطأ المترابيان على الربا ثم عمدا إلى رجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج، ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه، ثم يبيعه إياه المربي بثمن أكثر مؤجل وهو ما اتفقا عليه ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا وهذه تسمى الثلاثية؛ لأنها بين ثلاثة، وذكر ابن القيم رحمه الله: أن هذه الصورة أقبح صور العينة وأشدها تحريما وأنها في البيع شبيهة بصورة المحلل في النكاح. 4 - قال ابن القيم رحمه الله فيما إذا باع إنسان سلعة بنقد ثم اشتراها ممن باعها له أولا بأكثر منه إلى أجل: إن هذه الصورة شبيهة بالعينة في المقصد؛ لأنه قد ترتب في ذمة كل منهما دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما في الحكم،

وذكر أن الإمام أحمد رحمه الله نص في رواية حرب أن هذه الصورة لا تجوز، وذكر عن بعض الأصحاب احتمال جواز الصورة الثانية، ونقل عنهم الفرق بين الصورتين ثم رده، وقال: ليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة. 5 - ذكر ابن القيم أن من صور العينة ما إذا اضطر الإنسان إلى مال فاشترى سلعة؛ ليبيعها حتى يحصل على المال الذي يسد به حاجته، وقال: قد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة، وأطلق عليها اسمها، وذكر أيضا أن هذه الصورة تسمى التورق؛ لأن المقصود منها الورق لسد حاجته، وسبقه إلى ذلك ابن تيمية وتبعهما فيه الشيخ عبد الله بن محمد ابن عبد الوهاب، ورجحوا تحريمها، سواء سميت تورقا أم عينة. 6 - من صور العينة عند بعضهم أن يكون عند الرجل أمتعة لا يبيعها إلا نسيئة قصدا للزيادة في الربح، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على كراهة ذلك، أما إذا كان يبيع بنقد ونسيئة فلا بأس. 7 - أطلق التورق على ما ذكر في الفقرة الخامسة، ومقتضى تعليل تسميته تورقا: بأنه بيع يقصد منه الورق لا تملك السلعة ولا الحاجة إلى استهلاكها، أنه يطلق على كل صور العينة. 8 - الغالب في العينة والتورق أن يكون عقدهما بين موسر ومحتاج أو مضطر، وقد ورد النهي عن استغلال المضطر في البيع، وقد يكون عقدهما أحيانا بين موسرين حرصا من المغبون فيهما على زيادة رأس ماله؛ ليتسع نطاق تصرفه في التجارة ونحوها مثلا.

بيع دين السلم وآراء الفقهاء فيه مع التوجيه والمناقشة

2 - بيع دين السلم: آراء الفقهاء في حكم بيع دين السلم مع التوجيه والمناقشة: أ- قال صاحب [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع] رحمه الله (¬1) : (فصل) وأما بيان ما يجوز من التصرف في المسلم فيه وما لا يجوز، فنقول وبالله التوفيق: لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه، بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه؛ لما ذكرنا أن المسلم فيه وإن كان دينا فهو مبيع، ولا يجوز بيع المبيع المنقول قبل القبض، ويجوز الإبراء عنه؛ لأن قبضه ليس بمستحق على رب السلم، وكان هو بالإبراء متصرفا في خالص حقه بالإسقاط فله ذلك بخلاف الإبراء عن رأس المال؛ لأنه مستحق القبض حقا للشرع فلا يملك إسقاطه بنفسه بالإبراء على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (7\3178) .

ابن رشد رحمه الله في بداية المجتهد ونهاية المقتصد

ب- قال ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (¬1) : مسألة اختلاف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه، فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون: بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (¬2) » . ¬

_ (¬1) [بدائع المجتهد] (2\155) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .

وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو: الطعام، على ما جاء عليه النص في الحديث. والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله قبل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف أو زيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل، وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز؛ لأنه يحمله على العوض وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة؛ لأنه عنده من باب البدل في الدنانير والإحسان: مثل: أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض؛ لأنه يدخله الدين بالدين، وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم. وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما؛ لأنه يدخله ببيع الطعام قبل قبضه، وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا

يدخلها زيادة ولا نقصان فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني: أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال، مثل: أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى وضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه، مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على إن أخذ البعض وأقال من البعض، فإنه لا يجوز عنده، فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة؛ لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.

صاحب المجموع شرح المهذب

ج- قال صاحب [المجموع شرح المهذب] (¬1) قال المصنف رحمه الله: (فصل) يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة، لأن الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه، فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال، فإن كان باقيا وجب رده، وإن كان تالفا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشتري به عينا نظرت، فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين، وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا؛ كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يتفرقا من غير قبض، كما يجوز إذا باع أحدهما ¬

_ (¬1) [المجموع] (12\119- 161) .

بالآخر عينا بعين أن يتفرقا من غير قبض. والثاني: لا يجوز؛ لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه، والله تعالى أعلم. الشرح: الأحكام: الإقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب، سواء كان قبل القبض أو بعده، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، لأنه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فثبتت بها الشفعة، قال أبو يوسف رحمه الله: إن كان قبل القبض فهي فسخ، وإن كان بعد القبض فهي بيع، وقال مالك رحمه الله: هي بيع بكل حال. وحكى القاضي أبو الطيب: أنه قول قديم للشافعي رحمه الله، وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا. دليلنا: أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب، إذا ثبت هذا فإن سلم رجل إلى غيره شيئا في شيء ثم تقابلا في عقد السلم صح، وقد وافقنا مالك رحمه الله على ذلك، وهذا من أوضح دليل على أن الإقالة فسخ، لأنها لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه، وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذي أقاله، وقال ابن أبي ليلى: يكون إقالة في الجميع، وقال ربيعة ومالك: لا يصح، دليلنا: أن الإقالة مندوب إليها، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة (¬1) » ، وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالإبراء والإنظار، وإن أقاله بأكثر من الثمن أو أقل منه إلى جنس آخر لم تصح الإقالة، وقال أبو حنيفة: تصح الإقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه التجارات (2199) .

دليلنا: أن المسلم والمشتري لم يسقط حقه من المبيع إلا بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف. (فرع) وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه ثم إن الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال المسلم- لم يصح الصلح؛ لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس: صح الصلح وكان إقالة؛ لأن الإقالة هي أن يشتري ما دفع ويعطي ما أخذ، وهذا مثله. (فرع) وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وإن أراد أن يسلم في شيء آخر لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبضه كما قلنا في البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا؛ كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا. وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد. والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الأجل أو في قدره تحالفا، وإن اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الأجل وادعى المسلم إليه بقاءه- فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه، والله أعلم.

صاحب المغني

د- قال صاحب [المغني] رحمه الله (¬1) : مسألة- قال: (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد، وكذلك الشركة فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره) أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن؛ ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه. وأما الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا؛ لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل، وبهذا قال أكثر أهل العلم، وحكي عن مالك جواز الشركة والتولية؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية» . ولنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض، فلم تجز كما لو كانت ¬

_ (¬1) [المغني] (4\301- 303) .

بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في المسلم قبل قبضه كالنوع الآخر، والخبر لا نعرفه، وهو حجة لنا، لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع، فيدخلان في النهي، ويحمل قوله: «وأرخص في الشركة والتولية) » على أنه أرخص فيهما في الجملة لا في هذا الموضع. وأما الإقالة: فإنها فسخ وليست بيعا. وأما الحوالة به فغير جائزة؛ لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر، ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا؛ لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع. وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما سواء كان العرض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر- جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه. وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام.

قال ابن المنذر: وقد ثبت أن ابن عباس قال: (إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين) رواه سعيد في سننه. ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (¬1) » رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دونه في الصفات- جاز، لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .

قال ابن القيم رحمه الله في [تهذيب السنن] على حديث «من أسلف في شيء فلا يصرفه في غيره (¬1) » (¬2) : اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه وللمسألة صورتان: إحداهما: أن يعاوض عن المسلم فيه مع بقاء عقد السلم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه. والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟ فأما المسألة الأولى: فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه- أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه لا لمن هو في ذمته ولا لغيره. وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعا، وليس بإجماع فمذهب مالك جوازه، وقد نص عليه أحمد في غير موضع، وجوز أن يأخذ عوضه عرضا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض ولا يربح فيه. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) . (¬2) (3\111- 118) .

وطائفة من أصحابنا خصت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط، كما قال في المستوعب: ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين، والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب؛ كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه في رواية أبي طالب: إذا أسلفت في كر حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك، ولا يأخذ مكان الشعير حنطة. وطائفة ثالثة من أصحابنا: جعلت المسألة رواية واحدة، وأن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير أنهما جنس واحدة، وهي طريقة صاحب المغني. وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره، ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة، وهي طريقة أبي حفص الطبري وغيره. قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: فإن كان ما أسلم فيما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة- جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء. ونقل أبو القاسم عن أحمد، قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له، كما لو أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال: آخذ مكانه شلبيا. أو قفيز شعير فكيلته واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ، وذكر حديث ابن عباس الذي رواه طاوس عنه (إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين) .

ونقل أحمد بن أصرم: سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يشتري منه عقارا أو دارا؟ فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن. وقال حرب: سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر فلما حل الأجل لم يكن عنده بر؟ فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص، قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال: نعم. إذا عرف هذا فاحتج المانعون بوجوه: أحدها: الحديث. والثاني: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه. والثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن وهذا غير مضمون عليه؛ لأنه في ذمة المسلم إليه. والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه، فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتولى في المبيع ضمانان. الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم. هذا جملة ما احتجوا به. قال المجوزون بالصواب: جواز هذا العقد والكلام معكم في مقامين: أحدهما: في الاستدلال على جوازه. والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع. فأما الأول: فنقول: قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت وإلا فخذ عوضا أنقص منه

ولا تربح مرتين) رواه شعبة. فهذا قول صحابي، وهو حجة، ما لم يخالف. قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم واخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء (¬1) » ، فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه. فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟ قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله- عنه. والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا: لأنه دين، فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه. والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، ومالك يجوز بيعه من غير المستلف. والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر والقياس التسوية بينهما. وأما المقام الثاني: فقالوا: أما الحديث: فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: ضعفه كما تقدم. والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر أو يبيعه ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .

بمعين مؤجل؛ لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين، وهو منهي عنه، وأما بيعه بعوض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه، كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر. فالذي نهي عنه من ذلك: هو من جنس ما نهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ، والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح. وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء، وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة. فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عوضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفى دينه؛ لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال. والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لم يملك شيئا، بل سقط الدين من ذمته؛ ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل: إنه باعه دراهم بدراهم، بل يقال: وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها فإنه بيع. ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا، وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة ولو حلف ليقضينه حقه غدا فأعطاه عنه عوضا بر في أصح الوجهين. وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير

بائعه، وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان. وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره، وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم تنقطع علقه عن المبيع، بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه- لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه، وهذه العلة أظهر، وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تتنافى بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين، وأي محذور في هذا كمنافع الإجارة؟ فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، له أن يبيعها على الشجر وإن أصابتها جائحة رجع على البائع فهي مضمونة له وعليه، ونظائره كثيرة. وأيضا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة، وأيضا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين. فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان، فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا بخلاف الإقالة في الأعيان. ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وقال: أحسب كل شيء بمنزلة الطعام، ومع هذا فقد ثبت عنه: أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون

وغيرهما؛ لأن البيع هنا من البائع للبائع الذي هو في ذمته، فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته، فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع؛ لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد ولم تنقطع علق بائعه عنه؟ وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه؟ وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟ ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم. قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه، وأنه لا يربح فيه، كما قال ابن عباس: خذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين. فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: «لا بأس إذا أخذتم بسعر يومها (¬1) » ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن. وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن. وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثني الطعام خاصة؛ لأن من أصله: أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، بخلاف غيره. وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعوض أو حيوان أو نحوه دون ¬

_ (¬1) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .

أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعوض ونحوه جوزه بسعر يومه، كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه كالشعير عن الحنطة نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة كما لا يستوفى الجيد عن الرديء، ففي العوض جوز المعاوضة إذ لا يشترط هناك تقابض، وفي المكيل والموزون منع المعاوضة لأجل التقابض وجوز أخذ قدر حقه أو دونه؛ لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه. قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له، فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين: أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع، بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ يتوالى ضمانان. الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها، وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له. وقد قدمنا ذكر الضرر التي فيها توالي الضمانين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين السلم.

قالوا: وأيضا فالمبيع إذا أتلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر، فلا محذور في ذلك. وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت في السنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه. قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس وعالم المدينة مالك بن أنس؟ فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(فصل) وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: يجوز أخذ العوض عنه، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الشافعي، وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره. وأيضا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن

في المبيع. وأيضا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز. واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرف إلى غيره (¬1) » . قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه. قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه، ولو صح لم يتناول محل النزاع؛ لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره فأين المسلم فيه من رأس مال السلم؟ وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه: فالكلام فيه أيضا، وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه ولا إجماع ولا قياس. ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع ولا إجماع ولا قياس. فإذا عرف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر لوجهين: أحدهما: أنه بيع دين بدين. والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه فإذا جعله سلما في شيء آخر ربح فيه وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا قسمت فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .

العوض في المجلس؛ لأنه صرف بسعر يومه، لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض وإن بيع بغير مكيل أو موزون؛ كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد. والثاني: يشترط. ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين فيمنع منه، ومأخذ الجواز- وهو الصحيح- أن النسائين ما لا يجمعهما علة الربا كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم. ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النساء بينهما فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق. والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر، وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب [المغني] وشيخنا. والأول: اختيار عامة الأصحاب. والصحيح: الجواز؛ لما تقدم.

قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين، فقلت له: إني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيقدمون بالحنطة وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأقاصهم؟ قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي، يعني: إذا لم يكن حيلة مقصودة. فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح؛ لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل. والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم ويسلمها إليه ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته ثم يقاصه بها، ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم. قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في [سبل السلام] : وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» يعني: الدين بالدين، رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف، ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير، لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، قال أحمد: لا تحل الرواية عندي عنه، ولا أعرف هذا الحديث لغيره، وصحفه الحاكم فقال: موسى بن عتبة، فصححه على شرط مسلم، وتعجب البيهقي من تصحيفه على الحاكم، قال أحمد: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين، وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلاء الدين كلوا فهو كالئ إذا تأخر، وكلأته إذا أنسأته، وقد لا يهمز تخفيفا، قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول:

بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا.

البيعتان في بيعة وآراء الفقهاء فيها مع التوجيه والمناقشة

3 - بيعتان في بيعة: آراء الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة مع التوجيه والمناقشة: قال النووي رحمه الله في [المجموع شرح المهذب] (¬1) : قال المصنف رحمه الله: فإن قال: بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة، فالبيع باطل؛ لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلا، وإن قال: بعتك بألف نقدا أو بألفين نسيئة: فالبيع باطل، لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، فهو كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين. (الشرح) هاتان المسألتان كما قالهما باتفاق الأصحاب، وهما داخلتان في النهي عن بيع الغرر، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (¬2) » رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس، وفسر الشافعي وغيره من العلماء البيعتين في بيعة تفسيرين: أحدهما: أن يقول: بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة. والثاني: أن يقول: بعتك بمائة مثلا على أن تبيعني دارك بكذا وكذا. وقد ذكر المصنف التفسيرين في الفصل الذي بعد هذا، وذكرهما أيضا في التنبيه وذكرهما الأصحاب وغيرهم، والأول أشهر وعلى التقديرين البيع ¬

_ (¬1) [المجموع] (9\372) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .

باطل بالإجماع. (وأما) الحديث الذي في [سنن أبي داود] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬1) » ، فقال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها، كأن أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم. (فرع) في مذاهب العلماء فيمن باع بألف مثقال ذهب وفضة، مذهبنا أنه بيع باطل، وقال أبو حنيفة: يصح ويكون الثمن نصفين، واحتج أصحابنا بالقياس على ما لو باعه بألف بعضه ذهب وبعضه فضة فإنه لا يصح. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3461) .

عبد الله بن قدامة في المغني

ب- قال عبد الله بن قدامة رحمه الله في [المغني] (¬1) : مسألة: قال: وإذا قال: بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا، لم ينعقد البيع، وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه، وجملته: أن البيع بهذه الصفة باطل؛ لأنه شرط في العقد أن يصارفه بالثمن الذي وقع العقد به، والمصارفة عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة، قال أحمد هذا معناه، وقد روى أبو هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (¬2) » أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن ¬

_ (¬1) [المغني] (4\233- 235) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .

يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا، أو على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا، فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود: الصفقتان في صفقة ربا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد، إذا كان معلوما حلالا، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير. ولنا: الخبر، وأن النهي يقتضى الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط؛ لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط فيفسد العقد؛ لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات فات الرضا به، ولأنه شرط عقدا في عقد فلم يصح كنكاح الشغار، وقوله: لا ألتفت إلى اللفظ، لا يصح؛ لأن البيع هو اللفظ، فإذا كان فاسدا فكيف يكون صحيحا، ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط بناء على ما لو شرط ما ينافي مقتضى العقد كما سبق، والله أعلم. (فصل) وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر: وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدا أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا، هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهو أيضا باطل، وهو قول الجمهور؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال: بعتك هذا أو هذا؛ ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول؛ ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد عبيدي، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب على أحدهما، وهذا محمول على أنه

جرى بينهما بعد ما يجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال خذه، أو قد رضيت ونحو ذلك، فيكون هذا عقدا كافيا وإن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدل عليه لم يصح؛ لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا؛ لما ذكرنا، وقد روي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم: أنه يصح، فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد ثم يمكن أن يصح؛ لكونه جعالة يحتمل فيه الجهالة بخلاف البيع، ولأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له، فلا يفضي إلى التنازع، وههنا بخلافه. (فصل) لو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف صح البيع. ولنا: ما روى عبد الله بن عمرو «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف (¬1) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ: «لا يحل بيع وسلف (¬2) » ، ولأنه اشترط عقدا في عقد، ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له، وذلك ربا محرم ففسد، كما لو صرح به، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) . (¬2) سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) .

محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار

(فصل) ج- قال محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في [نيل الأوطار] . (باب بيعتين في بيعة) (¬1) : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬2) » رواه أبو داود، وفي لفظ: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (¬3) » رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة (¬4) » قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا) رواه أحمد. حديث أبي هريرة باللفظ الأول في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد، قال المنذري: والمشهور عنه من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، انتهى. وهو باللفظ الثاني عند من ذكره المصنف، وأخرجه أيضا الشافعي ومالك في بلاغاته، وحديث ابن مسعود أورده الحافظ في [التلخيص] وسكت عنه، وقال في [مجمع الزوائد] : رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضا البزار والطبراني في [الكبير] و [الأوسط] ، وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني وابن عبد البر قوله: من باع بيعتين فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه، وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال: بأن يقول: بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا، ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإيهام ¬

_ (¬1) [نيل الأوطار] (5\248، 249) (¬2) سنن أبو داود البيوع (3461) . (¬3) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .

أما لو قال: قبلت بألف نقدا أو بألفين بالنسيئة صح ذلك، وقد فسر الشافعي في تفسير آخر فقال: هو أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أي: إذا وجب لك عندي وجب لي عندك، وهذا يصلح تفسيرا للرواية الأخرى من حديث أبي هريرة لا للأولى فإن قوله: فله أوكسهما يدل على أنه باع الشيء الواحد بيعتين ببيعة بأقل وبيعة بأكثر. وقيل في تفسير ذلك: هو أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول كذا في شرح السنن لابن رسلان، قوله: «فله أوكسهما (¬1) » أي: أنقصها، قال الخطابي: لا أعلم أحدا قال بظاهر الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا ما حكي عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد، انتهى. ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث؛ لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به: قوله: «أو الربا (¬2) » يعني: أو يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ الأوكس، بل أخذ الأكثر وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان، وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك، من قال: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء، وقد ذهب إلى ذلك زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى. وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز؛ لعموم الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر؛ لأن ذلك المتمسك هو ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3461) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3461) .

الرواية الأولى من حديث أبي هريرة، وقد عرفت ما في راويها من المقال ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي عن بيعتين في بيعة، ولا نتيجة فيه على المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج- لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان قادحا في الاستدلال بها على التنازع فيه، على أن غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول: نقدا بكذا ونسيئة بكذا إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى، وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها: شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل، وحققناها تحقيقا لم نسبق إليه، والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة القفيز الحنطة: قوله: (أو صفقتين في صفقة) أي: بيعتين في بيعة.

صاحب نصب الراية في أحاديث الهداية

د- قال صاحب [نصب الراية- رحمه الله في- أحاديث الهداية] : الحديث الثالث عشر: روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة (¬1) » ، قلت: رواه أحمد في [مسنده] حدثنا حسن، وأبو النضر، وأسود بن عامر، قالوا: ثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، (¬2) » قال أسود: قال شريك: قال سماك: هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول: هو نقدا بكذا، ونسيئة بكذا، انتهى. ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/398) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .

ورواه البزار في [مسنده] ، عن أسود بن عامر به ورواه الطبراني في [معجمه الأوسط] ، حدثنا أحمد بن القاسم حدثنا عبد الملك بن عبد ربه الطائي حدثنا ابن السماك بن حرب عن أبيه مرفوعا: «لا تحل صفقتان في صفقة،» انتهى. ورواه العقيلي في [ضعفائه] ، من حديث عمرو بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي حدثنا سفيان عن سماك به مرفوعا: «الصفقة في الصفتين ربا،» انتهى، وأعله بعمرو بن عثمان هذا، وقال: لا يتابع على رفعه، والموقوف أولى، ثم أخرجه من طريق أبي نعيم: حدثنا سفيان به موقوفا، وهكذا رواه الطبراني في [معجمه الكبير] من طريق أبي نعيم به موقوفا، وكذلك رواه أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا، قال أبو عبيد: ومعنى (صفقتان في صفقة) : أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدا بكذا ونسيئة بكذا، ويفترقان عليه، انتهى. وكذلك رواه ابن حبان في [صحيحه] ، في النوع الثامن والعشرين من القسم الأول من حدثنا شعبة عن سماك به موقوفا، الصفقة في الصفقتين ربا، وأعاده في النوع التاسع والمائة من القسم الثاني كذلك، بلفظ: لا تحل صفقتان في صفقة. اهـ. حديث آخر: أخرجه الترمذي والنسائي عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيعتين في بيعة (¬1) » . انتهى، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال: وفسره بعض أهل العلم: أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .

كانت العقدة على أحدهما، وقال الشافعي: معناه أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا، على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، انتهى، والمصنف فسره بأن يقول: أبيعك عبدي هذا على أن تخدمني شهرا، أو داري هذه على أن أسكنها شهرا، قال: فإن الخدمة والسكنى إن كان يقابلها شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، وإلا فهو إعارة في بيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع صفقتين.. الحديث، والحديث في [الموطأ] ، بلاغ، قال أبو مصعب: أخبرنا مالك أنه بلغه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (¬1) » ) ا. هـ. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .

بيع المضطر وآراء الفقهاء فيه

4 - بيع المضطر: أ- جاء في [سنن أبي داود] (¬1) : عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب - أو قال: قال علي سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬2) ويبايع المضطرون، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك، في إسناده رجل مجهول. قال الشيخ: بيع المضطر يكون من وجهين: أحدهما: أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد، والوجه الآخر أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤونة ترهقه فيبيع ¬

_ (¬1) [سنن أبي داود] (3\74) (¬2) سورة البقرة الآية 237

ما في يده بالوكس من أجل الضرورة، لهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه، وأن لا يفتات عليه بماله، ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ، فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ. وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو إلا أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه. قال الشيخ: أصل الغرر: هو ما طوي عنك علمه وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك: طويت الثوب على غره، أي على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر وذلك: مثل أن يبيعه سمكا في الماء، أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أم لا؛ فإن البيع مفسوخ فيها. وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع، وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.

ابن مفلح في الفروع

ب- قال ابن مفلح في البيع: وله شروط (¬1) : أحدها: الرضا، فإن أكره بحق صح، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء، ويصح على الأصح، وهو مع المضطر، ونقل حرب تحريمه ¬

_ (¬1) [الفروع] (4\5)

وكراهته وفسره في روايته فقال: يجيئك محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، ولأبي داود عن محمد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر، كذا قال محمد، قال: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي، أو قال: قال علي: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك (¬1) » . صالح لا يعرف، تفرد عنه هشيم، والشيخ لا يعرف أيضا، ولأبي يعلى الموصلي في [مسنده] : حدثنا روح بن حاتم، حدثنا هشيم، عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه: «إلا أن بيع المضطرين حرام (¬2) » . الكوثر ضعيف بإجماع، قال أحمد: أحاديثه بواطيل، ليس بشيء، وقال ابن هبيرة: رأيت بخط ابن عقيل: حكي عن كسرى أن بعض عماله أراد أن يجري نهرا فكتب إليه أنه لا يجري إلا في بيت لعجوز فأمر أن يشتري منها فضوعف لها الثمن فلم تقبل، فكتب كسرى أن خذوا بيتها فإن المصالح الكليات تغفر فيها المفاسد الجزئيات، قال ابن عقيل: وجدت هذا صحيحا، فإن الله وهو الغاية في العدل يبعث المطر والشمس، فإن كان الحكيم القادر لم يراع نوادر المضار؛ لعموم المصالح فغيره أولى. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .

ابن القيم في إعلام الموقعين

ج- قال ابن القيم رحمه الله بصدد حديثه عن اعتبار القصود في العقود (¬1) : الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح، وإن كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وإرادته فدل على أن القصد روح ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (4\106)

العقد ومصححه ومبطله فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها، فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه؟ بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر، بل قد يتيقن أنه المراد، تقدم بعض الكلام في بيع المضطر في الحديث عن العينة والتورق.

بيع الإنسان ما لم يقبض وبيعه ما ليس عنده وآراء الفقهاء في ذلك

5 - بيع الإنسان ما لم يقبض وبيعه ما ليس عنده وذكر آراء الفقهاء في ذلك: أ- قال صاحب [بدائع الصنائع وترتيب الشرائع] رحمه الله بصدد كلامه عن شروط صحة البيع: ومنها: القبض في بيع المشترى المنقول فلا يصح بيعه قبل القبض لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (1672) والنهي يوجب فساد المنهي؛ ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه؛ لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول فينفسخ الثاني؛ لأنه بناه على الأول، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (1673) وسواء باعه من غير بائعه؛ لأن النهي مطلق لا يوجب الفصل بين البيع من غير بائعه وبيع البيع من بائعه، وكذا معنى الغرر لا يفصل بينهما فلا يصح الثاني والأول على حاله، ولا يجوز إشراكه وتوليته؛ لأن كل ذلك بيع. ا. هـ المقصود منه (¬1) . ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (7\3097، 3098)

ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد

ب- قال ابن رشد رحمه الله في [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (¬1) : وأما بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي، وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (¬2) » واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات. والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط. والثالثة: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا، ففيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات. وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته، وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه، وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: المنع وهي الأشهر، وبها قال أحمد وأبو ثور إلا أنهما اشترطا مع الطعام الكيل والوزن. والرواية الأخرى: الجواز. وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل مبيع ماعدا المبيعات التي لا ¬

_ (¬1) (2\108 - 111) (¬2) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .

تنقل ولا تحول من الدور والعقار، وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس وقال أبو عبيد وإسحاق، وكل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشتراط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود. فيحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط. الثاني: في الطعام بإطلاق. الثالث: في الطعام المكيل والموزون. الرابع: في كل شيء ينقل. الخامس: في كل شيء. السادس: في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون المعدود. أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم، وأما عمدة الشافعي في تعميم كل بيع فعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك (¬1) » ، وهذا من باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال: «قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها ما يحرم؟. فقال: يا ابن أخي، إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه (¬2) » ، وقال أبو عمر: حديث حكيم بن جزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن ¬

_ (¬1) سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) . (¬2) سنن النسائي البيوع (4603) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .

عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين، ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما حول وينقل صده مما لا ينقل؛ لأن ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية، وأما من اعتبر الكيل والوزن فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهي عن بيع ما لم يضمن. الفصل الثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط. وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتبر، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: وقسم يكون بغير معاوضة، كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض. والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا، أعني: على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق، كالشركة والإقالة والتولية، وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام، أما ما كان بيعا وبعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشيء الذي يشترط فيه القبض واحد من

العلماء. وأما ما كان خالصا للرفق، أعني: القرض، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه. أعني: أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه، واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع فقال: يجوز بيعهما قبل القبض، وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة، وهي التولية والشركة والإقالة، فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان، فلا خلاف أعلمه في هذا المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض، وتجوز الإقالة عندهما؛ لأنها قبل القبض فسخ بيع لا بيع، فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة، للأثر والمعنى. وأما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من «ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة» ، وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة ولا نقصان، وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل؛ لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا. الفصل الثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا: وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا، فإن مالكا رخص فيه وأجازه، وبه قال الأوزاعي، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي، وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه؛ لأن الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف، ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال: «كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام جزافا، فبعث

إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (¬1) » قال أبو عمر: وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف فقد روته جماعة، وجوده عبيد الله بن عمر وغيره، وهو مقدم في حفظ حديث نافع، وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع بيع الرجل شيئا لا يملكه، وهو المسمى: عينة عند من يرى نقله (¬2) من باب الذريعة إلى الربا، وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر، وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل: أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفا، فيقول له: هذا لا يصلح، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما، وتلك السلعة قيمتها قريب مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها، وفي المذهب: في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب، أعني: إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها، وأما الدين بالدين، فأجمع المسلمون على منعه، واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه، ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع، ويراه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) . (¬2) لعله: فصله

من باب الدين بالدين، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه، وهو القياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، ومما أجازه مالك في هذا الباب خالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما، قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل شيء ما يبتاع في الأسواق، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه، أما القمح وشبهه فلا، فهذا هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم.

صاحب المجموع شرح المهذب

ج ـ قال صاحب [المجموع شرح المهذب] (¬1) (فرع) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض، وقد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا سواء كان الطعام أو غيره، وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن، قال ابن المنذر، أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه، قال: واختلفوا في غير الطعام على أربعة مذاهب: أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه، سواء جميع المبيعات، كما في الطعام، قاله الشافعي ومحمد بن الحسن. والثاني: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه، إلا المكيل والموزون، قاله ¬

_ (¬1) [المجموع] (9 \295 ـ 303)

عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق. والثالث: لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف. والرابع: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب، قاله مالك وأبو ثور، قال ابن المنذر: وهو أصح المذاهب، لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى. واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (¬1) » رواه البخاري ومسلم، وعنه قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا، يعني: الطعام، فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (¬2) » رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عباس قال: (أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) قال ابن عباس ثبت ذلك عنه قال ابن عباس: (وأحسب كل شيء مثله) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (¬3) » ، قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (¬4) » رواه مسلم، وفي رواية قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى (¬5) » ، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (¬6) » رواه مسلم، قالوا: فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل أن غيره بخلافه، قالوا: وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية. وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه، وعلى بيع الثمر قبل قبضه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) . (¬2) صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) . (¬4) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/337) . (¬5) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) . (¬6) صحيح مسلم البيوع (1529) ، مسند أحمد بن حنبل (3/327) .

واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبع ما لم تقبضه» وهو حديث حسن، كما سبق بيانه في أول هذا الفصل. وبحديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬1) » رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس، وقد قال: عن أبي الزناد، والمدلس إذا قال: "عن" لا يحتج به. لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث، وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده فلعله اعتضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد وبالقياس على الطعام. والجواب عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين: أحدهما أن هذا استدلال بداخل الخطاب والتنبيه مقدم عليه، فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره أولى. والثاني: أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد. وأما قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق، فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية، ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض. والجواب عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين، فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه، ونظير المبيع إنما هو الثمن والمعين ولا يجوز بيعه قبل القبض، وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع. والله أعلم. واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص، ولأنه لا يتصور تلف العقار بخلاف غيره. واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك. وأجابوا ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3499) .

عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه. وأما قولهم: لا يتصور تلفه. فينتقض بالجديد الكثير. والله سبحانه وتعالى أعلم. قال المصنف رحمه الله: وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليها مستقرا كغرامة المتلف وبدل القرض، جاز بيعه ممن عليه قبل القبض؛ لأن ملكه مستقر عليه. فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على تسليمه إليه؛ لأنه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز، والأول أظهر؛ لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود. وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه، لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس، وقال: خذ برأس المال علفا أو غنما، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر؛ لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالبيع قبل القبض. وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان، قال في الصرف: يجوز بيعه قبل القبض، لما روى ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، فآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس ما لم

تتفرقا وبينكما شيء (¬1) » ، ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض. وروى المزني في [جامعه الكبير] ، أنه لا يجوز؛ لأن ملكه غير مستقر عليه؛ لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب، فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان: أحدهما: أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته. والثاني: أنه لا يصح ذلك قولا واحدا، وهو المنصوص في المختصر؛ لأنه لا يملكه ملكا مستقرا فلم يصح بيعه كالمسلم فيه. الشرح: حديث ابن عمر صحيح، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد بن عمر بلفظه هذا، قال الترمذي وغيره: لم يرفعه غير سماك، وذكره البيهقي في معرفة السنن والآثار إن أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر (قلت) : وهذا لا يقدح في رفعه وقد قدمنا مرات أن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلا وبعضهم متصلا وبعضهم موقوفا مرفوعا كان محكوما بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين. بالبقيع هو بالباء الموحدة وإنما قيدته؛ لأني رأيت من يصحفه. قوله: السلم في حلل: هو جمع حلة بضم الحاء وهي ثوبان، ولا يكون إلا ثوبان كذا قاله أهل اللغة. والمدق بكسر الدال، والجل بكسر الجيم وهو الغليظ. وقوله: من غير حاجة إليه يحترز من أساس الدار فإنه يصح بيعه وهو ¬

_ (¬1) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .

غرر للحاجة، وهذا الاحتراز يكرره المصنف في كتاب البيوع كثيرا. أما الأحكام فقد لخصها الرافعي أحسن تلخيص، وهذا مختصر كلامه قال: الدين في الذمة ثلاثة أضرب: مثمن وثمن وغيرهما، وفي حقيقة الثمن ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ما ألصق به الباء كقولك: بعت كذا بكذا والأول مثمن. والثاني ثمن، وهذا قول القفال. والثاني: أنه النقد مطلقا والمثمن ما يقابله على الوجهين. أصحهما: أن الثمن النقد والمثمن ما يقابله، فإن لم يكن في العقد نقد أو كان العوضان نقدين فالثمن ما ألصقت به الباء. والمثمن ما يقابله، فلو باع أحد النقدين بالآخر فلا مثمن فيه على الوجه الثاني، ولو باع عرضا بعرض فعلى الوجه الثاني لا ثمن فيه، وإنما هو مبادلة، ولو قال: بعتك هذه الدراهم بهذا العبد، فعلى الوجه الأول العبد ثمن والدراهم مثمن، وعلى الوجه الثاني والثالث في صحة هذا العقد وجهان كالسلم في الدراهم والدنانير (الأصح) الصحة في الموضعين. فإن صححناه فالعبد مثمن. ولو قال: بعتك هذا الثوب بهذا العبد ووصفه صح العقد. (فإن قلنا) : الثمن ما ألصق به الباء فالعبد ثمن، ولا يجب تسليم الثوب في المجلس وإلا ففي وجوب تسليم الثوب وجهان؛ لأنه ليس فيه لفظ السلم لكن فيه معناه. فإذا عرف عدنا إلى بيان الأضرب الثلاثة. الضرب الأول: المثمن، وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به؟ بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض، أو إتلاف، أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من له عليه

دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه. فيه ثلاثة أوجه: أصحهما: لا. والثاني: نعم. والثالث: لا يجوز عليه ويجوز به. هكذا حكوا الثالث، وعكسه الغزالي في الوسيط فقال: يجوز عليه لا به ولا أظن نقله ثابتا. الضرب الثاني: الثمن فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان: أحدهما: القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن القطان. وأشهرهما: على قولين: أصحهما: وهو الجديد جوازه. والقديم: منعه، ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير، فإن قلنا الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا؛ لأن ما نثبت في الذمة فثمنا لم يجز الاستبدال عنه، وأما الأجرة فكالثمن، وأما الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا إنهما مضمونان ضمان العقد وإلا فهما كبدل الإتلاف. التفريع: إن منعنا الاستبدال عن الدراهم فذلك إذا استبدل عنها عرضا فلو استبدل نوعا منها بنوع أو استبدل الدراهم عن الدنانير فوجهان لاستوائهما في الجواز، وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس. وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرا إن جوزنا ذلك.

وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان:

أحدهما: يشترط وإلا فهو بيع دين بدين. وأصحهما: لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة ثم عينا وتقابضا في المجلس، وإن استبدل ما ليس موافقا لها في علة الربا؟ كالطعام والثياب عن الدراهم نظر إن عين البدل في الاستبدال جاز، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان، صحح الغزالي وجماعة الاشتراط وهو ظاهر نصه في المختصر، وصحح الإمام والبغوي عدمه. قلت: هذا الثاني أصح وصححه الرافعي في المحرر، وإن لم يعين، بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان. الضرب الثالث: ما ليس ثمنا ولا مثمنا كدين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية، فإنه يجوز بيعه له. ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض على ما سبق. وذكر صاحب الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف، فإن بقي في يده فلا، ولم يفرق الجمهور بينهما، ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال - ويجوز عكسه - وهذا الذي ذكرنا كله في الاستبدال وهو بيع الدين ممن هو عليه. فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران: أصحهما: لا يصح، لعدم القدرة على التسليم. والثاني: يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن هو عليه، وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد. ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع

أحدهما ما له عليه بما لصاحبه له لم يصح سواء اتفق الجنس، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ. هذا آخر كلام الرافعي. قلت: قد صحح المصنف هنا، وفي التنبيه جواز بيع الدين لغير من هو عليه وصحح الرافعي في الشرح والمحرر أنه لا يجوز. فرع: قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في آخر باب بيع الطعام قبل أن يستوفى: إذا باع طعاما بثمن مؤجل فحل الأجل فأخذ بالثمن طعاما جاز عندنا، قال الشافعي: وقال مالك: لا يجوز؛ لأنه يصير في معنى بيع طعام بطعام مؤجل، دليلنا: أنه إنما يأخذ منه الطعام بالثمن الذي له عليه لا بالطعام وهذا الذي جزم به أبو حامد تفريعا على الصحيح وهو الاستبدال عن الثمن، وقد صرح بهذا جماعة منهم القاضي أبو الطيب في تعليقه، قال صاحب البيان: قال الصيمري والصيدلاني: فلو أراد أن يأخذ ثمن الدين المؤجل عوضا من نقد وعرض قبل حلوله لم يصح. أما تقديم الدين نفسه فيجوز؛ لأنه لا يملك المطالبة به قبل الحلول فكأنه أخذ العوض عما لا يستحقه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال المصنف رحمه الله: (والقبض فيما ينقل النقل، لما روى زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬1) » ، وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية؛ لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف، والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية) . الشرح: أما حديث زيد فسبق بيانه قريبا في فرع مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض وفي التجار لغتان - كسر التاء مع تخفيف الجيم، وضمها ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3499) .

مع التشديد - والجذاذ - بفتح الجيم وكسرها -. أما الأحكام: فقال أصحابنا: الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة أقسام: أحدها: العقار والثمر على الشجرة فقبضه بالتخلية. والثاني: ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان ونحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره. وفيه قول حكاه الخراسانيون: أنه يكفي فيه التخلية وهو مذهب أبي حنيفة. والثالث: ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف، صرح بذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه والقاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي والمصنف في التنبيه والبغوي وخلائق لا يحصون، وينكر على المصنف كونه أهمله هنا مع شهرته ومع ذكره له في التنبيه. والله تعالى أعلم. وقد فحص الرافعي - رحمه الله - كلام الأصحاب وجمع متصرفه مختصرا وأنا أنقل مختصره وأضم إليه ما أهمله إن شاء الله تعالى، قال رحمه الله: القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال. وأما تفصيله فنقول: المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه، وإما مع اعتبار فيه فهما نوعان: الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه وإما مع إمكانه، فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل، كالأرض والدار فقبضه بالتخلية بينه وبين

المشتري، ويمكنه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه، ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش. وحكى الرافعي بعد هذا وجها شاذا ضعيفا عند ذكر بيع الدار المذروعة أنه لا يصح بيع الدار المشحونة بالأقمشة، وادعى إمام الحرمين أنه ظاهر المذهب. ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار وخلى بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت، كذا قاله الأصحاب، وكذا نقله المتولي عن الأصحاب. وفي اشتراط حضور البائع عند المبيع في حال الإقباض ثلاثة أوجه: أحدها: يشترط. فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري: دونك هذا ولا مانع، حصل القبض وإلا فلا. والثاني: يشترط حضور المشتري دون البائع. وأصحها لا يشترط حضور واحد منهما؛ لأن ذلك يشق، فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وبه قطع المتولي وغيره، وفي معنى الأرض الشجر الثابت والثمرة المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ، والله سبحانه أعلم. وأما إذا كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا تكفي التخلية، بل يشترط النقل والتحويل، وفي قول رواه حرملة تكفي التخلية لنقل الضمان إلى المشتري، ولا تكفي لجواز تصرفه، فعلى المذهب إن كان المبيع عبدا يأمره بالانتقال من موضعه، وإن كان دابة ساقها أو قادها

(قلت) : قال صاحب البيان: لو أمر العبد بعمل لم ينتقل فيه عن موضعه، أو ركب البهيمة ولم تنقل عن موضعها فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يكون قبضا كما لا يكون غصبا، قال: ولو وطئ الجارية فليس قبضا على الصحيح من الوجهين، وبهذا قطع الجمهور، وهذا الذي ذكره في الغصب فيه خلاف نذكره في الغصب إن شاء الله تعالى. قال الرافعي: إذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد وشارع أو في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كاف في حصول القبض، وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ويكفي لدخوله في ضمانه، وإن نقل بإذنه حصل القبض وكأنه استعار ما نقل إليه. ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة، فخلى البائع بينهما وبينه حصل القبض في الدار، وفي الأمتعة وجهان: أصحهما: يشترط نقلهما؛ لأنها منقولة كما لو أفردت. والثاني: يحصل فيها القبض تبعا، وبه قطع الماوردي وزاد فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة. قلت: قال الماوردي: ولو استأجر الأرض من البائع فوجهان: أصحهما: أنه ليس قبضا للأمتعة، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الرافعي: ولو لم يتفقا على القبض فجاء البائع بالمبيع فامتنع المشتري من قبضه أجبره الحاكم عليه فإن أصر أمر الحاكم من يقبضه كما

لو كان غائبا، قال: ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه فوضعه بين يديه حصل القبض فإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا أو قال: لا أريده فوجهان: أحدهما: لا يحصل القبض كما لا يحصل الإيداع. وأصحهما: يحصل لوجوب التسليم، كما لو وضع المغصوب بين يدي المالك فإنه يبرأ من الضمان، فعلى هذا للمشتري التصرف فيه، ولو تلف فمن ضمانه لكن لو خرج مستحقا ولم يجر إلا وضعه فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان؛ لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب. قال ابن قدامة رحمه الله في [المغني] (¬1) : فصل: وقبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو وزنا فقبضه بكيله ووزنه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: التخلية في ذلك قبض. وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز؛ لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار. ولنا: ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل» رواه البخاري، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان (¬2) » ، صاع البائع وصاع المشتري، رواه ابن ماجه، وهذا فيما بيع كيلا، وإن بيع جزافا فقبضه نقله؛ لأن ابن عمر قال: «كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى ¬

_ (¬1) [المغني] (4 \100- 105) . (¬2) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .

يحولوه (¬1) » ، وفي لفظ: «كنا نبتاع الطعام جزافا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (¬2) » ، وفي لفظ: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله (¬3) » ، رواهن مسلم. وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سميت الكيل فكل (¬4) » رواه الأثرم. وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد، وإن كان ثيابا فقبضها نقلها، وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه، وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال: إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه، ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق، والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. إلى أن قال: مسألة قال: (ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه) . قد ذكرنا الذي يحتاج إلى قبض والخلاف فيه، وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» متفق عليه، ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم، ولم أعلم بين أهل العلم خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه، وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه هذا الحديث، ومثل هذا لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحدود (6852) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك البيوع (1337) . (¬2) صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) . (¬3) صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) . (¬4) سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/75) .

يلتفت إليه، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين، ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شيء قبل قبضه اختارها ابن عقيل، وروي ذلك عن ابن عباس، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه، واحتجوا بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه، وبما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬1) » ، وروى ابن ماجه (أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض (¬2) » ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم «لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال: انههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه» ، ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون. ولنا: ما روى ابن عمر قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء (¬3) » . وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر أنه «كان على بعير صعب - يعني لعمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "بعنيه " فقال: هو لك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد الله بن عمر، فاصنع به ما شئت (¬4) » ، وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جمله، ونقده ثمنه، ثم وهبه إياه قبل قبضه، ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه، كالمنافع في الإجارة، فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع، ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفية، فصح ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3499) . (¬2) سنن ابن ماجه التجارات (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (3/42) . (¬3) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) . (¬4) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2611) .

بيعه، كالمال في يد مودعه أو مضاربه. فأما أحاديثهم فقد قيل: لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه. وقولهم: لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض، واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع المحال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة. (فصل) وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه، لعموم الخبر فيه، قال القاضي: لو ابتاع شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له مطالبته ولا أخذ بدله وإن تراضيا؛ لأنه مبيع لم يقبض، فإن كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذ البدل عنه؛ لأنه أيضا لا يجوز بيعه. فصل: وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا، والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف؛ لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه، وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة؛ لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه. وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين؛ لأنه يخشى رجوعه بانتقاص سببه

بالردة قبل الدخول، أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها، وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول، وأما ما ملك بإرث أو وصية أو غنيمة، وتعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه؟ لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم. وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه - جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره؛ لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده، وإن كان غصبا جاز بيعه ممن هو في يده؛ لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده، وأما بيعه لغيره فإن كان عاجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له؛ لأنه معجوز عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد، وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لإمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء؛ لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها، أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه. قال ابن حجر في [فتح الباري] رحمه الله (¬1) : باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك، حدثنا علي بن عبد الله ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (4\ 349 - 351) .

حدثنا سفيان قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» ، زاد إسماعيل: فلا يبعه حتى يقبضه. (قوله: باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك) لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك، وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض، ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى. وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ: قلت: «يا رسول الله، يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك (¬1) » ، وأخرجه الترمذي مختصرا ولفظه: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي (¬2) » ، قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: أحدهما: أن يقول أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة، فيشبه بيع الغرر، لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها. ثانيهما: أن يقول هذه الدار بكذا، على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها. اهـ. وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني. قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة، وقوله: (الذي حفظناه من عمرو) كأن سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، مسند أحمد بن حنبل (3/434) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1233) .

كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي، وجوابه وغير ذلك. قوله: عن ابن عباس: (أما الذي نهى عنه إلخ. . .) أي: وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك. قوله: (فهو الطعام أن يباع حتى يقبض) في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه، قال مسعر: وأظنه قال: أو علفا وهو بفتح المهملة واللام والفاء. (قوله: قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله) ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام، وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك، وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق، وقول طاوس في الباب قبله قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ، معناه: أنه استفهم عن سبب هذا النهي، فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم قال طاوس: قلت لابن عباس: لم؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ، أي: فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله، ويؤيده حديث زيد بن ثابت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث

تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (¬1) » ، أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه، وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه، وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفية، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشترى، إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل، واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر، وقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن (¬2) » أخرجه الترمذي. (قلت) : وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة، وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية. قوله عقب حديث ابن عمر: زاد إسماعيل فلا يبعه حتى يقبضه يعني: أن إسماعيل بن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ: حتى يقبضه بدل قوله: حتى يستوفيه، وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك، وقال الإسماعيلي: وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي والشافعي وقتيبة. (قلت) : وقول البخاري: زاد إسماعيل، يريد الزيادة في المعنى؛ لأن في قوله: حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله: حتى يستوفيه؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري، بل يحبسه عنده ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3499) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

لينقده الثمن مثلا، وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال: ليس في هذه الرواية زيادة، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال: معناه: زاد لفظا آخر، وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه، ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به، كما تقدم نقله عن الشافعي، وهذا هو النكتة في تعقيب المصنف له بالترجمة الآتية: باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك. حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافا - يعني: الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤوه إلى رحالهم (¬1) » . . . (قوله: باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك) . أي: تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه إلى رحله ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور، لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال. أما الأول: فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، فدخل فيه المكيل، وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود، وأما الثاني: فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب، وفي بعض طرق مسلم عن ابن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4608) ، سنن أبو داود البيوع (3498) ، مسند أحمد بن حنبل (2/40) .

عمر: «كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (¬1) » ، وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل: فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتج لهم بأن الجزاف مرئي فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون. وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (¬2) » ، ورواه أبو داود والنسائي بلفظ: «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (¬3) » ، والدارقطني من حديث جابر: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع والمشتري (¬4) » ، ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد، وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور، وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا، وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول، والأحاديث المذكورة ترد عليه، وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة، وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك. والله أعلم. وقوله: "جزافا" مثلثة الجيم والكسر أفصح، وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا، سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (2/113) ، موطأ مالك البيوع (1337) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (2/111) . (¬3) سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) . (¬4) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .

فلو علم لم يصح، وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها، فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد، ونقلها: قبضها (¬1) . ¬

_ (¬1) [المغني] (4 \ 277 - 279) .

وسائل للقضاء على بيع التجار الذين يحتالون بأنواع البيوع المحرمة

يمكن القضاء على بيع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور التالية: أولا: التوعية الشاملة: يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة، ويحذرون الناس من التعامل بها، لما فيها من غضب الله وسخطه، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين، وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية، من توليد الضغائن والأحقاد، وتقطيع أواصر المحبة والإخاء، وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء، وشغل القضاة وسائر ولاة الأمور بالخصومات. ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات، فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة، وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل. ثانيا: ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعون في وسائل الترف وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو

معاملات محرمة؛ ليوسع بها في رأس ماله وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه، شكرا لنعمة الله عليه، عسى أن يزيده سبحانه وتعالى من فضله. ثالثا: الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات: يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية، لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبؤوا بالتحذير ولم يبالوا بالوعيد وصارم الجزاء. وهذا مما يقضي على جشعهم أو يقلله إن شاء الله ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم. رابعا: توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي، ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف. خامسا: توجيه من يريد بناء مسكن له أو يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن ولينتفع بذلك - إلى بنك التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذ أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها مواعيدها دون أن يتقاضى البنك على ذلك منه ربا. سادسا: إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن

يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته، ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته. هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء حول المعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات

قرار رقم (3 \ 11) في 16 \ 10 \ 1397هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء على ما جاء في الأمر السامي رقم (30891) في 20 \ 12 \ 1396 هـ من الرغبة في دراسة مجلس هيئة كبار العلماء المعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات لحصولهم على مكاسب مالية بطريق ملتوية لا تتفق ومبدأ المعاملات الشرعية في البيع والاقتراض، والنظر فيما إذا كان بالإمكان إيجاد بديل للحد من جشع هؤلاء واستغلالهم للمحتاجين من الناس، واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة في أنواع من البيوع التي يستغلها بعض الناس استغلالا سيئا يخرج بها عما شرعه الله، وبعد الدراسة وتداول الرأي قرر المجلس ما يلي: أولا: العينة: ومعناها: أن يبيع إنسان لآخر شيئا بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه منه بائعه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا، وقد اتفق المجلس على تحريمها بهذا المعنى، لما رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع أنها قالت: (دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة رضي الله عنها فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) ، فإن الظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف

سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرى ذلك مجرى روايتها عنه، ولأنه ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع خمسمائة بألف إلى أجل معلوم، ولما رواه الإمام أحمد في [مسنده] من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم ذلا فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم (¬1) » ، ورواه أبو داود في [سننه] ، من طريق عطاء الخراساني أن نافعا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر الحديث. ورواه السري بن سهل من طريق ثالث عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولأن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة، ولأن أنس بن مالك رضي الله عنه لما سئل عن العينة قال: (إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله) ، ولأن العينة بالمعنى المتقدم بيعتان في بيعة فكانت محرمة، لما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (¬2) » ، ويلتحق بذلك بيع المشتري ما اشتراه لمن باعه إياه حالا أو مؤجلا قبل أن يقبضه منه بأكثر من ثمنه، لما تقدم، ولما فيه من ربح ما لم يضمن، ولما فيه من بيع الدين بالدين إذا كان مؤجلا. ثانيا: التورق: وله صور: منها أن يطلب إنسان من آخر ألف ريال مثلا إلى أجل فيقول له: المطلوب منه: العشرة باثني عشرة، أو بخمسة عشر ريالا، ويتواطآن على ذلك ثم يجريان بيعا صوريا يحقق بيع النقود بالسعر المتواطأ عليه، وهذا محرم؛ لأن المقصود منه بيع ريالات نقدا بأكثر منها ¬

_ (¬1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) . (¬2) سنن أبو داود البيوع (3461) .

إلى أجل، والعقود تعتبر بمقاصدها، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (¬1) » ، فكان هذا عين الربا مع زيادة المخادعة والاحتيال. ومنها: أن يحتاج إنسان إلى نقود للاستهلاك أو للتوسع بها في تجارته مثلا، فيشتري من آخر سلعة إلى أجل بأكثر من سعر مثلها حالا، ليبيعها بعد قبضها على غير من اشتراها منه فهذه لا ربا فيها، ولا يصدق فيها أنها بيعتان في بيعة فهي جائزة، لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬2) ولما صح من الأحاديث في جواز البيع لأجل وبيع السلم، لكن إذا انتهز البائع فرصة حاجة المشتري فشق عليه في زيادة الثمن كثيرا كان ذلك مخالفا لسماحة الإسلام ومنافيا لواجب الأخوة والتراحم بين المسلمين ولمكارم الأخلاق، وكان مدعاة إلى التقاطع والتدابر وتوليد الأحقاد، ولهذا خطره وأثره السيئ في فساد المجتمع، وقد ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله امرءا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى (¬3) » رواه البخاري وابن ماجه. ثالثا: يمكن القضاء على جشع من يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور الآتية: 1 - التوعية الشاملة: يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة ويحذرون الناس من التعامل بها، لما فيها من التعرض لغضب الله ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) . (¬2) سورة البقرة الآية 282 (¬3) صحيح البخاري البيوع (2076) ، سنن ابن ماجه التجارات (2203) .

وسخطه، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية من توليد الضغائن والأحقاد وتقطيع أواصر المحبة والإخاء وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات، والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء وشغل القضاة وولاة الأمور بالخصومات، ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات، فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة، وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل. 2 - ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعوا في وسائل الترف، وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو معاملات محرمة ليتوسع بها في رأس ماله، وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه، شكرا لنعمة الله عليه، عسى أن يزيده الله سبحانه وتعالى من فضله. 3 - الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات: يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة. . ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد، ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبؤوا بالتحذير، ولم يبالوا بالوعيد والجزاء، وهذا مما يقضي على جشعهم أو

يقلله إن شاء الله، ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم. 4 - توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي، ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف. 5 - توجيه من يريد بناء مسكن له أو من يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن، ولينتفع بذلك - إلى صندوق التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذه أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها في مواعيدها دون أن يتقاضى الصندوق على ذلك منه ربا. 6 - إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . . رئيس الدورة الحادية عشرة عبد الله خياط عبد المجيد حسن ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن صالح سليمان بن عبيد ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ راشد بن خنين ... عبد العزيز بن باز ... عبد الله بن غديان عبد الله بن منيع ... محمد الحركان ... صالح بن لحيدان عبد الله بن قعود ... صالح بن غصون ... محمد بن جبير

كيفية الإمساك والإفطار في رمضان وضبط أوقات الصلاة في بعض البلدان

(4) كيفية الإمساك والإفطار في رمضان وضبط أوقات الصلاة في بعض البلدان هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم كيفية الإمساك والإفطار في رمضان وضبط أوقات الصلاة في بعض البلدان إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الرسالة الواردة من معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بالمملكة بتاريخ 16 / 1 / 1398 هـ إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والتي يذكر فيها أنه تلقى كتابا من رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالمو) بالسويد يفيد بأن الدول الإسكندنافية يطول نهارها صيفا ويقصر شتاء، نظرا لوضعها الجغرافي، كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقا في الصيف وعكسه في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإمساك والإفطار في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلاة في هذه البلدان ويرجو إصدار فتوى في ذلك؟ وبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام من عرض هذا الموضوع على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة، لما له من صفة العموم

وما رآه من إعداد اللجنة الدائمة بحثا في ذلك - ذكرت اللجنة نقولا عن الفقهاء تتضمن آراءهم في الموضوع، مع استدلال كل منهم لما ذهب إليه، لينظره المجلس، ويتخذ ما يراه حول هذا الموضوع.

ذكر النقول مع الأدلة

وفيما يلي ذكر النقول مع الأدلة، والله الموفق: قال الكمال بن الهمام في [فتح القدير] (¬1) : (ومن لا يوجد عندهم وقت العشاء، كما قيل يطلع الفجر قبل غيبوبة الشفق عندهم أفتى البقالي بعدم الوجوب عليهم لعدم السبب، وهو مختار صاحب [الكنز] ، كما يسقط غسل اليدين من الوضوء عن مقطوعهما من المرفقين، وأنكره الحلواني ثم وافقه، وأفتى الإمام البرهاني الكبير بوجوبها. ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض وبين عدم سببه الجعلي الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر وجواز تعدد المعرفات للشيء، فانتفاء الوقت انتفاء للمعرف وانتفاء الدليل على الشيء لا يستلزم انتفاءه، لجواز دليل آخر. وقد وجد وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء من فرض الله الصلاة خمسا بعد ما أمروا أولا بخمسين ثم استقر الأمر على الخمس شرعا عاما لأهل الآفاق، لا تفصيل فيه بين أهل قطر وقطر، وما روي: «ذكر الدجال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلنا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم " فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم، ¬

_ (¬1) [فتح القدير] (1 \ 156) .

قال: لا، اقدروا له (¬1) » رواه مسلم (¬2) ، فقد أوجب فيه ثلاثمائة عصر قبل صيرورة الظل مثلا أو مثلين وقس عليه، فاستفدنا أن الواجب في نفس الأمر خمس على العموم، غير أن توزيعها على تلك الأوقات عند وجودها فلا يسقط بعدمها الوجوب- وكذا قال صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد (¬3) » ، ومن أفتى بوجوب العشاء يجب على قوله الوتر) اهـ. كلام الكمال بن الهمام. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) . (¬2) رواه مسلم برقم 2937. (¬3) سنن النسائي كتاب الصلاة (461) ، سنن أبو داود الصلاة (1420) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) ، مسند أحمد بن حنبل (5/322) ، موطأ مالك كتاب النداء للصلاة (270) ، سنن الدارمي الصلاة (1577) .

الزيلعي في شرحه على الكنز

وقال الزيلعي في شرحه على [الكنز] (¬1) : (من لم يجد وقت العشاء والوتر بأن كان في بلد يطلع الفجر فيه، كما تغرب الشمس أو قبل أن تغيب الشفق لم يجبا عليه، لعدم السبب وهو الوقت، وذكر المرغيناني: أن الشيخ برهان الدين الكبير أفتى بأن عليه صلاة العشاء، ثم إنه لا ينوي القضاء في الصحيح، لفقد وقت الأداء، وفيه نظر؛ لأن الوجوب بدون السبب لا يعقل، وكذا إذا لم ينو القضاء يكون أداء ضرورة، وهو فرض الوقت، ولم يقل به أحد، إذ لا يبقى وقت العشاء بعد طلوع الفجر إجماعا) اهـ. وكتب الشلبي في حواشيه على [شرح الزيلعي] قوله. (بأن كان في بلد يطلع الفجر فيه. . إلخ) ، قال العيني: (ويذكر أن بعض أهل بلغار لا يجدون في كل سنة وقت العشاء أربعين ليلة، فإن الشمس كما تغرب من ناحية المغرب يظهر الفجر من المشرق) اهـ. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1 ظ \81) .

قوله: (أفتى بأن عليه صلاة العشاء. . إلخ) وردت هذه الفتوى من بلغار على شمس الأئمة الحلواني، فأفتى بقضاء العشاء، ثم وردت بخوارزم على الشيخ الكبير سيف السنة البقالي، فأفتى بعدم الوجوب، فبلغ جوابه الحلواني فأرسل من يسأله في عامته بجامع خوارزم: ما تقول فيمن أسقط من الصلوات الخمس واحدة يكفر؟ فأحس به الشيخ فقال: ما تقول فيمن قطع يداه من المرفقين أو رجلاه من الكعبين كم فرائض وضوئه؟ قال: ثلاث لفوات محل الرابع، قال: وكذلك الصلاة الخامسة، فبلغ الحلواني جوابه فاستحسنه ووافقه فيه (اهـ) . من [المجتبى] . قال العلامة كمال الدين بن الهمام رحمه الله تعالى: ولا يرتاب متأمل في ثبوت الفرق بين عدم محل الفرض وبين عدم سببه الجعلي الذي جعل علامة على الوجوب الخفي الثابت في نفس الأمر. . إلخ.

ابن عابدين في حواشيه على الدر المختار

وقال العلامة ابن عابدين في حواشيه على [الدر المختار] (¬1) : لم أر من تعرض عندنا دع صومهم فيما إذا كان يطلع الفجر عندهم كما تغيب الشمس أو بعده بزمان لا يقدر فيه الصائم على أكل ما يقيم بنيته، ولا يمكن أن يقال لوجوب موالاة الصوم عليهم؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك، فإن قلنا: بوجوب الصوم يلزم القول بالتقدير، وهل يقدر ليلهم بأقرب البلاد إليهم كما قال الشافعية " أم يقدر لهم بما يسع الأكل والشرب، أم يجب عليهم القضاء فقط دون الأداء؟ كل محتمل فليتأمل، ولا يمكن القول هنا بعدم الوجوب أصلا كالعشاء عند القائل به فيها؛ لأن علة عدم الوجوب فيها عند ¬

_ (¬1) (1 \339) .

القائل به عدم السبب، وفي الصوم قد وجد السبب، وهو شهود جزء من الشهر، وطلوع فجر كل يوم، هذا ما ظهر لي، والله أعلم. وقال في [إمداد الفتاح] : وكذلك يقدر لجميع الآجال، كالصوم والزكاة والحج والعدة وآجال البيع والسلم والإجارة، وينظر ابتداء اليوم فيقدر كل فصل من الفصول الأربعة بحسب ما يكون كل يوم من الزيادة والنقص كذا في كتب الشافعية، ونحن نقول بمثله إذ أصل التقدير مقول، إجماعا في الصلوات اهـ. نقله عنه ابن عابدين في (¬1) . ¬

_ (¬1) (1 \ 338)

محمد عرفة الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير

قال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في أوقات الصلاة (¬1) : ما ذكره المصنف من أن مبدأ المختار للظهر من زوال الشمس إلى هنا كله بالنسبة لغير زمن الدجال، وأما في زمنه فيقدر للظهر وغيرها بالنسبة لغير زمانه، ثم إن بعض البلاد السنة فيها يوم وليلة، وحينئذ فيقدرون لكل صلاة كزمن الدجال، وفي بعض البلاد الليل من المغرب للعشاء، فيخرج الفجر وقت العشاء، فعند الحنفية تسقط عنهم العشاء، وعند الشافعية يقدرون بأقرب البلاد إليهم، ولا نص عندنا، ولكن استظهر بعضهم الرجوع في ذلك لمذهب الشافعي، كذا قرر شيخنا. ¬

_ (¬1) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] (1 \ 156) .

أحمد الدردير في الشرح الكبير على مختصر خليل

وقال الشيخ أحمد الدردير في [شرحه الكبير على مختصر خليل] : وإن التبست عليه الشهور فلم يعرف رمضان من غيره. عرف الأهلة أم لا (وظن شهرا، أنه رمضان (صامه وإلا) يظهر، بل تساوت عنده الاحتمالات (تخير) شهرا وصامه، فإن فعل ما طلب منه فله أحوال أربعة، أشار لأولها

بقوله: (وأجزأ ما بعده) أي: إن تبين أن ما صامه في صورتي الظن والتخيير هو ما بعد رمضان أجزأ ويكون قضاء عنه، وثابت نية الأداء عن القضاء ويعتبر في الإجزاء مساواتهما (بالعدد) ، فإن تبين أن ما صامه شوال وكان هو ورمضان كاملين أو ناقصين قضى يوما عن يوم العيد، وإن كان الكامل رمضان فقط قضى يومين وبالعكس لا قضاء، وإن تبين أن ما صامه ذو الحجة فإنه لا يعتد بالعيد وأيام التشريق، ولثانيها وثالثها بقوله: (لا) إن تبين أن ما صامه (قبله) ولو تعددت السنون (أو بقي على شكله) في صومه لظن أو تخيير فلا يجزئ فيهما، وقال ابن الماجشون وأشهب وسحنون: يجزئه في البقاء على الشك؛ لأن فرضه الاجتهاد، وقد فعل ما يجب عليه فهو على الجواز حتى ينكشف خلافه، ورجحه ابن يونس، ولرابعها بقوله: (وفي) الإجزاء عند (مصادفته) في صومه تخييرا، وهو المعتمد وعدمه (تردد) فإن صادفه في صومه ظنا فجزم اللخمي بالإجزاء من غير تردد) (¬1) . ¬

_ (¬1) (1\476) .

الحطاب في مواهب الجليل على مختصر خليل

وقال الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل] (¬1) : الخامس: ورد في [صحيح مسلم] «أن مدة الدجال أربعون يوما، وإن فيها يوما كسنة، ويوما كشهر، ويوما كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره (¬2) » ، قال القاضي عياض: في هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع، قال: ولو وكلنا إلى ¬

_ (¬1) (1 \388) . (¬2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .

اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام، ونقله عنه النووي وقبله، وقال بعده: ومعنى: " اقدروا له قدره " أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر فإذا مضى بعدها قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب، وكذا العشاء والصبح، وهكذا إلى أن ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة كلها فرائض مؤداة في وقتها. وأما اليوم الثاني الذي كشهر والثالث الذي كجمعة، فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرنا، والله تعالى أعلم، انتهى. ومثل ذلك الأيام الذي تحجب الشمس فيها عن الطلوع عند إرادة الله سبحانه وتعالى طلوعها من مغربها، ذكره ابن فرحون في الألغاز، وقال: هذا الحكم نص عليه الشارع قلت: ومثله ما ذكره القرافي في [كتاب اليواقيت] عن الشافعية في قطر يطلع فيه الفجر قبل غروب الشفق قال: فكيف يصنع بالعشاء، وهل تصلى الصبح قبل مغيب الشفق، وهل يحكم على العشاء بالقضاء، فذكر عن إمام الحرمين أنه قال: لا تصلى العشاء حتى يغيب الشفق ولا تكون قضاء لبقاء وقتها ويتحرى بصلاة الصبح فجر من يليهم من البلاد ولا يعتبر الفجر الذي لهم، انتهى باختصار، وكأنه ارتضاه) . السادس: قال القرافي في [كتاب اليواقيت] : مسألة من نوادر أحكام الأوقات إذا زالت الشمس ببلد من بلاد المشرق وفيها ولي فطار إلى بلد من بلاد المغرب فوجد الشمس كما طلعت، فقال بعض العلماء: إنه مخاطب بزوال البلد الذي يوقع فيها الصلاة؛ لأنه صار من أهلها. انتهى.

(قلت) : وانظر على هذا لو صلى الظهر في البلد الذي زالت عليه فيه الشمس ثم جاء إلى البلد الآخر، والظاهر أنه لا يطالب بإعادة الصلاة؛ لأنه كان مخاطبا بزوال البلد الذي أوقع فيها الصلاة وسقط عنه الوجوب بإيقاعها فيه ولم يكلف الله بصلاة في يوم واحد مرتين فانظره. وقال أيضا: (ومن لا تمكنه رؤية ولا غيرها - كأسير - كمل الشهور) ابن بشير. لا شك أن الأسير إذا كان مطلقا أنه يبني على الرؤية أو العدد وإن كان في مهواة لا يمكنه التوصل إلى الرؤية بنى على العدد فأكمل كل شهر ثلاثين يوما (وإن التبست وظن شهرا صامه) ابن بشير، إن التبست عليه الشهور اجتهد وبنى على ظنه (وإلا تحرى) ابن عبدون وابن القاسم وعبد الملك وأشهب. إن أشكل رمضان على أسير أو تاجر ببلد حرب تحراه، اللخمي صام أي شهر أحب (وأجزأ ما بعده) من المدونة إن التبست الشهور على أسير أو تاجر أو غيره في أرض العدو فصام شهرا ينوي به رمضان، فإن كان قبله لم يجزه، وإن كان بعده أجزأه، وإن لم يدر أصام قبله أو بعده فكذلك يجزئه حتى ينكشف أنه صام قبله قاله أشهب وعبد الملك وسحنون، وقال ابن القاسم: يعيد إذ لا يزول فرض بغير يقين (ابن يونس، وقول أشهب أبين؛ لأنه صار فرضه إلى الاجتهاد، وهو قد اجتهد وصام، فهو على الجواز حتى ينكشف خلافه أصله من اجتهد في يوم غيم وصلى فلم يدر أصلى قبل الوقت أو بعده (بالعدد) من النكت من كتاب [أحكام القران] لابن عبد الحكم إذا صام شوالا فليقض يوم الفطر إن كان رمضان الذي أفطره مثل

عدد شوال الذي صامه من الأيام، وإن كان شوال الذي صامه ثلاثين يوما ورمضان تسعة وعشرين يوما فلا شيء عليه، وليس عليه قضاء يوم الفطر؛ لأنه قد صام تسعة وعشرين يوما وليس عليه إلا عدة الأيام (التي أفطر) (لا قبله) تقدم نص المدونة إن كان قبله لم يجزئه (أو بقي على شكه) تقدم قول ابن القاسم قبل قوله بالعدد (وفي مصادفته تردد) ابن رشد إذا صام على التحري ثم خرج وعلم أنه أصابه بتحريه فلا يجزئه على مذهب ابن القاسم، ويجزئه على مذهب أشهب وسحنون (ابن عرفة) ولم أجد ما ذكره عن ابن القاسم وأخذه من سماع عيسى بعيد، وما ذكر اللخمي إلا الإجزاء خاصة، وساقه كأنه المذهب ولم يعزه.

الشيرازي في المهذب والنووي في المجموع

قال الشيرازي في [المهذب] (¬1) : وإن اشتبهت الشهور على أسير لزمه أن يتحرى ويصوم، كما يلزمه أن يتحرى في وقت الصلاة وفي القبلة. فإن تحرى وصام فوافق الشهر أو ما بعده أجزأه، فإن وافق شهرا بالهلال ناقصا وشهر رمضان الذي صامه الناس تاها ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه. وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني رحمه الله تعالى؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، ولهذا لو نذر صوم شهر فصام شهرا ناقصا بالأهلة أجزأه. والثاني: أنه يجب عليه صوم يوم، وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب، وهو الصحيح عندي؛ لأنه فاته صوم ثلاثين وقد صام تسعة ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (6 \ 239- 242)

وعشرين يوما فلزمه صوم يوم. وإن وافق صومه شهرا قبل رمضان. قال الشافعي: لا يجزئه. ولو قال قائل: يجزئه كان مذهبنا. قال أبو إسحاق المروزي: لا يجزئه، قولا واحدا. وقال سائر أصحابنا فيه قولان: أحدهما: يجزئه؛ لأنه عبادة تفعل في السنة مرة. فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ، كالوقوف بعرفة إذا أخطأ الناس ووقفوا قبل يوم عرفة. والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء. فلم يعتد له بما فعله. كما لو تحرى في وقت الصلاة قبل الوقت. قال النووي: قوله: (عبادة تفعل في السنة مرة) احتراز من الخطأ في الصلاة قبل الوقت، والاحتراز في قوله تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء سبق بيانه في استقبال القبلة. وهذا الذي قاسه على الوقوف بعرفة قبل يوم عرفة تفريع على الضعيف من الوجهين، وهو أنه يجزئهم وبه قطع المصنف، والأصح: أنه لا يجزئهم، كما سنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى. أما أحكام هذا الفصل: فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى: إذا اشتبه رمضان على أسير أو محبوس في مطمورة أو غيرهما وجب عليه الاجتهاد، لما ذكره المصنف، فإن صام بغير اجتهاد ووافق رمضان لم يجزئه بلا خلاف. كما قلنا فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلى إلى جهة بغير اجتهاد ووافق، أو اشتبه عليه وقت الصلاة فصلى بلا اجتهاد ووافق فإنه لا

يجزئه بلا خلاف، ويلزمه الإعادة في الصوم وغيره بلا خلاف، وإن اجتهد وصام فله أربعة أحوال: (أحدها) : أن يستمر الإشكال ولا يعلم أنه صادف رمضان أو تقدم أو تأخر، فهذا يجزئه بلا خلاف، ولا إعادة عليه، وعلله الماوردي وغيره بأن الظاهر من الاجتهاد الإصابة. (الحال الثاني) : أن يوافق صومه رمضان فيجزئه بلا خلاف عندنا. قال الماوردي: وبه قال العلماء كافة إلا الحسن بن صالح فقال: عليه الإعادة؛ لأنه صام شاكا في الشهر، قال: ودليلنا إجماع السلف قبله، وقياسا على من اجتهد في القبلة ووافقها، وأما الشك فإنما يضر إذا لم يعتضد باجتهاد بدليل القبلة. (الحال الثالث) : أن يوافق صومه ما بعد رمضان، فيجزئه بلا خلاف، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، واتفق عليه الأصحاب رحمهم الله تعالى؛ لأنه صام بنية رمضان بعد وجوبه، ولا يجيء فيه الخلاف في اشتراط نية القضاء المذكور في الصلاة، وفرق الأصحاب بأن هذا موضع ضرورة، ولكن هل يكون هذا الصوم قضاء أم أداء؟ فيه وجهان مشهوران عند الخراسانيين وغيرهم. وحكاهما جماعة منهم قولين: (أصحهما) : قضاء؛ لأنه خارج وقته، وهذا شأن القضاء. (والثاني) : أداء للضرورة، قال أصحابنا: ويتفرع على الوجهين ما إذا كان ذلك الشهر ناقصا وكان رمضان تاما. وقد ذكر المصنف فيه الوجهين. قال أصحابنا: إن قلنا: قضاء لزمه صوم يوم آخر، وإن قلنا: أداء فلا يلزمه،

كما لو كان رمضان ناقصا (والأصح) : أنه يلزمه، وهذا هو مقتضى التفريع على القضاء والأداء. وصرح بتصحيحه القاضي أبو الطيب والمصنف، والأكثرون، وقطع به الماوردي. ولو كان بالعكس فصام شهرا تاما وكان رمضان ناقصا، فإن قلنا: قضاء فله إفطار اليوم الأخير وهو الأصح وإلا فلا. ولو كان الشهر الذي صامه ورمضان تامين أو ناقصين أجزأه بلا خلاف. هذا كله إذا وافق غير شوال وذي الحجة. فإن وافق شوالا حصل منه تسعة وعشرون يوما إن كمل، وثمانية وعشرون يوما إن نقص؛ لأن صوم العيد لا يصح. فإن جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا فلا شيء عليه إن تم شوال. ويقضي يوما إن نقص بدل العيد. وإن كان رمضان تاما قضى يوما إن تم شوال وإلا فيومين، وإن جعلناه أداء لزمه قضاء يوم على كل تقدير بدل يوم العيد وإن وافق ذا الحجة حصل منه ستة وعشرون يوما إن تم، وخمسة وعشرون يوما إن نقص؛ لأن فيه أربعة أيام لا يصح صومها: العيد، وأيام التشريق، فإن جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا قضى ثلاثة أيام إن تم ذو الحجة وإلا فأربعة أيام، وإن كان رمضان تاما قضى أربعة إن تم ذو الحجة فخمسة، وإن جعلناه أداء قضى أربعة أيام بكل حال. هكذا ذكر الأصحاب وهو تفريع على المذهب أن أيام التشريق لا يصح صومها. فإن صححناها لغير المتمتع فذو الحجة كشوال كما سبق. (الحال الرابع) : أن يصادف صومه ما قبل رمضان، فينظر إن أدرك رمضان بعد بيان الحال لزمه صومه بلا خلاف، لتمكنه منه في وقته. وإن لم يبن الحال إلا بعد مضي رمضان فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف

بدليلهما: (أحدهما) : القطع بوجوب القضاء، وأصحهما وأشهرهما فيه قولان: (أصحهما) : وجوب القضاء (والثاني) : لا قضاء، قال الخراسانيون: هذا الخلاف مبني على أنه إذا صادف ما بعد رمضان هل هو أداء أم قضاء؟ إن قلنا: أداء للضرورة أجزأه هنا ولا قضاء؛ لأنه كما جعل أداء بعد وقته للضرورة كذا قبله. وإن قلنا: قضاء لم يجزئه؛ لأن القضاء لا يكون قبل دخول الوقت. والصحيح: أنه قضاء، فالصحيح وجوب القضاء هنا. وهذا البناء إنما يصح على طريقة من جعل الخلاف في القضاء والأداء قولين. وأما من حكاه وجهين فلا يصح بناء قولين على وجهين، ولو صام شهرا ثم بان له الحال! في بعض رمضان لزمه صيام ما أدركه من رمضان بلا خلاف. وفي قضاء الماضي منه طريقان: (أحدهما) : القطع بوجوبه. وأصحهما وأشهرهما أنه على الطريقين فيما إذا بان له بعد مضي جميع رمضان. والله أعلم. (فرع) إذا صام الأسير ونحوه بالاجتهاد فصادف صومه الليل دون النهار لزمه القضاء بلا خلاف؛ لأنه ليس وقتا للصوم، فوجب القضاء كيوم العيد، وممن نقل الاتفاق عليه البندنيجي. (فرع) ذكر المصنف في قياسه أنه لو تحرى في وقت الصلاة فصلى قبل الوقت أنه يلزمه الإعادة - يعني: قولا واحدا - ولا يكون فيه الخلاف الذي في الصوم إذا صادف ما قبل رمضان. وهذا على طريقته وطريقة من وافقه من العراقيين. وإلا فالصحيح: أن الخلاف جار في الصلاة أيضا وقد سبق بيانه في باب مواقيت الصلاة، وفي باب الشك في نجاسة الماء. وذكرنا

هناك أن منهم من طرد الخلاف في المجتهد في الأواني إذا تيقن أنه توضأ بالماء النجس وصلى، هل تلزمه إعادة الصلاة؟ ويقرب منه الخلاف في تيقن الخطأ في القبلة. وفي الصلاة بنجاسة جاهلا أو ناسيا، أو نسي الماء في رحله وتيمم، أو نسي ترتيب الوضوء، أو نسي الفاتحة في الصلاة، أو صلوا صلاة شدة الخوف لسواد رأوه فبان أنه ليس عدوا أو بان بينهم خندق، أو دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر من سهم الفقراء فبان غنيا، أو أحج عن نفسه لكونه معضوبا فبرأ، أو غلطوا ووقفوا بعرفات في اليوم الثامن. وفي كل هذه الصور خلاف بعضه كبعض، وبعضه مرتب على بعض، أو أقوى من بعض. والصحيح في الجميع: أنه لا يجزئه، وكل هذه المسائل مقررة في مواضعها مبسوطة، وقد سبقت مجموعة أيضا في باب طهارة البدن، والله أعلم. (فرع) قد ذكرنا أن الأسير ونحوه إذا اشتبهت عليه الشهور يتحرى ويصوم بما يظهر بالعلامة أنه رمضان. فلو تحرى فلم يظهر له شيء قال ابن الصباغ: قال الشيخ أبو حامد: يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين. ويلزمه القضاء كالمصلي إذا لم تظهر له القبلة بالاجتهاد فإنه يصلي ويقضي. قال ابن الصباغ: هذا عندي غير صحيح؛ لأن من لم يعلم دخول رمضان بيقين ولا ظن لا يلزمه الصيام، كمن شك في وقت الصلاة، فإنه لا يلزمه أن يصلي، هذا كلام ابن الصباغ. وذكر المتولي في المسألة وجهين: (أحدهما) : قول الشيخ أبي حامد.

(والثاني) : قال وهو الصحيح: لا يؤمر بالصوم؛ لأنه لم يعلم دخول الوقت، ولا ظنه فلم يؤمر به. كمن شك في دخول وقت الصلاة بخلاف القبلة. فإنه تحقق دخول وقت الصلاة، وإنما عجز عن شرطها فأمر بالصلاة بحسب الإمكان لحرمة الوقت، وهذا الذي قاله ابن الصباغ والمتولي هو الصواب، وهو متعين، ولعل الشيخ أبا حامد أراد إذا علم أو ظن أن رمضان قد جاء أو مضى ولم يعلم ولا ظن عينه، لكنه لو كان هذا لكان يصوم ولا يقضي؛ لأنه يقع صومه في رمضان أو بعده. والله أعلم. اهـ. وقال النووي في [روضة الطالبين] (¬1) : أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم ولا يغيب عنهم الشفق فيصلون العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب في أقرب البلاد إليهم. اهـ. ¬

_ (¬1) (1 \ 182)

ابن قدامة في المغني

وفي [المغني] لابن قدامة (¬1) : (مسألة) : قال: وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير، فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه، وإن وافق ما قبله لم يجزئه. وجملته: أن من كان محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر فاشتبهت، عليه الأشهر، فإنه يتحرى ويجتهد، فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه ولا يخلو من أربعة أحوال: أ - ¬

_ (¬1) (3 \ 96)

أحدها: أن لا يتكشف له الحال، فإن صومه صحيح ويجزئه؛ لأنه أدى فرضه باجتهاد، فأجزأه، كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد. الثاني: أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء، وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين؛ لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان وليس بصحيح؛ لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله، فإذا أصاب أو لم يعلم الحال أجزأه كالقبلة إذا اشتبهت، أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد، فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها فما لم توجد لم يجز الصوم. الحال الثالث: وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء، وقال بعض الشافعية: يجزئه في أحد الوجهين، كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله. ولنا: أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم، وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم لعظم المشقة عليهم، وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم؛ ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم. الحال الرابع: أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده أجزأه، وما وافق قبله لم يجزئه. (فصل) وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته، سواء وافق ما بين هلالين أو لم يوافق، وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين، ولا يجزئه أقل من ذلك. وقال القاضي: ظاهر

كلام الخرقي أنه إذا وافق شهرا بين هلالين أجزأه، سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا. وليس بصحيح فإن الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1) ولأنه فاته شهر رمضان فوجب أن يكون صيامه بعدة ما فاته؛ كالمريض والمسافر، وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل، فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب، فإن قيل: أليس إذا نذر صوم شهر يجزئه ما بين هلالين، قلنا: الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم. والاسم يتناول ما بين الهلالين، وهاهنا يجب قضاء ما ترك، فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك، كما أن من نذر صلاة أجزأه ركعتان، ولو ترك صلاة وجب قضاؤها بعدة ركعاتها، كذلك هنا الواجب بعدة ما فاته من الأيام، سواء كان ما صامه بين هلالين أو من شهرين، فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به، وإن وافق أيام التشريق، فهل يعتد بها؟ على روايتين بناء على صحة صومها عن الفرض. (فصل) وإن لم يغلب على ظن الأسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وإن وافق الشهر؛ لأنه صامه على الشك فلم يجزئه، كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي، وإن غلب على ظنه من غير أمارة فقال القاضي: عليه الصيام، ويقضي إذا عرف الشهر، كالذي خفيت عليه دلائل القبلة، ويصلي على حسب حاله ويعيد، وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد؟ على وجهين كذلك يخرج على قوله هاهنا. وظاهر ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 184

كلام الخرقي أنه يتحرى، فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه، وإن لم يبن على دليل؛ لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة. قال ابن حزم في [المحلى] (¬1) : (مسألة) والأسير في دار الحرب إن عرف رمضان لزمه صيامه إن كان مقيما؛ لأنه مخاطب بصومه في القرآن، فإن سوفر به أفطر ولا بد؛ لأنه على سفر، وعليه قضاؤه؛ لما ذكرنا قبل، فإن لم يعرف الشهر وأشكل عليه سقط عنه صيامه ولزمته أيام أخر إن كان مسافرا وإلا فلا، وقال قوم: يتحرى شهرا يجزئه، وقال آخرون: إن وافق شهرا قبل رمضان لم يجزئه، وإن وافق شهرا بعد رمضان أجزأه؛ لأنه يكون قضاء عن رمضان. قال علي: أما تحري شهر فيجزئه أو يجعله قضاء فحكم لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة ولا رواية سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب، وما كان هكذا فهو دعوى فاسدة لا برهان على صحتها، فإن قالوا: قسناه على من جهل القبلة، قلنا: هذا باطل؛ لأن الله تعالى لم يوجب التحري على من جهل القبلة، بل من جهلها فقط سقط عنه فرضها فيصلي كيف شاء، فإن قالوا: قسناه على من خفي عليه وقت الصلاة، قلنا: وهذا باطل أيضا؛ لأنه لا تجزئه صلاة إلا حتى يوقن بدخول وقتها. قال أبو محمد: وبرهان صحة قولنا قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬2) ¬

_ (¬1) [المحلى] (6\261، 262) (¬2) سورة البقرة الآية 185

فلم يوجب الله تعالى صيامه إلا على من شهده، وبالضرورة ندري أن من جهل وقته فلم يشهده، قال الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1) وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2) فمن لم يكن في وسعه معرفة دخول رمضان فلم يكلفه الله تعالى صيامه بنص القرآن، ومن سقط عنه صوم الشهر فلا قضاء عليه؛ لأنه صوم غير ما أمر الله تعالى به. فإن صح عنده بعد ذلك أنه كان فيه مريضا أو مسافرا فعليه ما افترض الله تعالى على المريض فيه، والمسافر فيه، وهو عدة من أيام أخر فيقضي الأيام التي سافر والتي مرض فقط ولا بد، وإن لم يوقن بأنه مرض فيه أو سافر فلا شيء عليه، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 286 (¬2) سورة الحج الآية 78

حسنين مخلوف في الفتاوى

قال الشيخ حسنين مخلوف في [الفتاوى] : صيام رمضان في شمال أوروبا: (السؤال والجواب) تلقى فضيلة المفتي استفتاء من أعضاء البعثات المصرية عن حكم الشريعة الغراء في صيام رمضان للمسلمين المقيمين في شمال أوروبا حيث تبلغ مدة الصوم فيه 19 ساعة، وقد تزيد إلى 22 ساعة أو أكثر. فأرسل فضيلته إليهم بالطائرة الفتوى الآتي نصها ومهد فيها بما يحبب إليهم الصلاة والصوم خوفا عليهم من الافتتان في هذه البلاد: إن التشريع الإسلامي في العبادات قد بني على توثيق الصلات بين العبد

وربه وحسن قيام العباد بحق الله تعالى الذي أفاض عليهم نعمة الوجود ومن عليهم بالفضل والجود والخير والإحسان: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (¬1) فهي تربية وتهذيب ونظام وإصلاح يرقى بالفرد والمجتمع إلى مراقي السعادة والفلاح، ورأسها وعمادها الصلاة، وهي مناجاة بالقلب واللسان بين العبد ومولاه يشهد فيها العبد افتقاره لخالقه وإحسان الخالق إليه واستغناءه عنه، ويعلم عن يقين أن الأمر كله لله، وأن لا معبود بحق سواه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. من أهمها الصيام، وهو رياضة روحية تعد النفوس البشرية للسمو إلى معارج الكمال والتحليق في أجواء العلم والعرفان، وتعودها الصبر والثبات والقوة والعزة، وتصفيها من الشوائب المادية والعوائق الجسمية، وتبغض إليها المآثم والمنكرات، وتحبب إليها الفضائل والمكرمات. وقد بني تشريع الصوم كما بني التشريع الإسلامي عامة على السماحة والتيسير، والطاقة والرفق بالناس، فلم يكن فيه إعنات ولا إرهاق، ولم يكن فيه حرج لا عسر، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2) وقال في الصوم: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬3) ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم الآية 34 (¬2) سورة الحج الآية 78 (¬3) سورة البقرة الآية 185

وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (¬1) » ، وفي الحديث الصحيح: «سددوا وقاربوا (¬2) » . هذه السماحة وهذا اليسر قد ظهرا جليا في فريضة الصوم في الترخيص بالفطر للمسافر، ولو كان صحيحا؛ لما يلازم السفر غالبا من المشقات والمتاعب، وللمريض لضعف احتماله وحاجته إلى الغذاء والدواء حتى لا تتفاقم علته أو يبطئ برؤه، ولمن ماثلهما في الضرورة والاحتياج إلى الفطر؛ كالحامل التي تخاف على نفسها أو جنينها المرض أو الضعف، والمرضع التي تخشى ذلك على نفسها أو رضيعها والطاعن في السن الذي لا يقدر على الصوم. فأباح الإسلام لهؤلاء فطر رمضان، على أن يقضي كل من المسافر والمريض والحامل والمرضع ما أفطره في أيام أخر خالية من هذه الأعذار، وعلى أن يخرج الشيخ الفاني فدية الصوم عن كل يوم أفطره حسبما بين في الفقه. والصوم الشرعي يبتدئ من طلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس كل يوم، فتختلف مدته باختلاف عروض البلاد، وكيفما كانت المدة، فإن مجرد طولها لا يعد عذرا شرعيا يبيح الفطر، وإنما يباح الفطر إذا غلب على ظن الإنسان بأمارة ظهرت أو تجربة وقعت، أو بإخبار طبيب حاذق أن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) . (¬2) صحيح البخاري الرقاق (6464) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2818) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .

صومه هذه المدة يفضي إلى مرضه أو إلى إعياء شديد يضره، كما صرح به أئمة الحنفية فيكون حكم المريض الذي يخشى التلف، أو أن يزيد مرضه أو يبطئ شفاؤه إذا صام. هذا هو المبدأ العام في رخصة الفطر، وفي التيسير على المكلفين، وكل امرئ بصير بنفسه عليم بحقيقة أمره يعرف مكانها من حل الفطر وحرمته. فإذا كان صومه المدة الطويلة يؤدي إلى إصابته بمرض أو ضعف أو إعياء يقينا أو في غالب الظن بإحدى الوسائل العلمية التي أومأنا إليها حل له الترخص بالفطر، وإذا كان لا يؤدي إلى ذلك حرم عليه الفطر، والناس في ذلك مختلفون ولكل حالة حكمها، والله يعلم السر وأخفى. وقال أيضا: صوم رمضان في الأقطار التي لا تطلع فيها الشمس أشهرا أو يطول النهار فيها كثيرا. السؤال: تقيم كريمتي وزوجها الآن في ألمانيا، وقد كتبت إلي تستفهم عن الواجب عليها وعلى المسلمين هناك في شهر رمضان بالنسبة إلى الصيام حيث تقول: إن الشمس تستمر طالعة 20 ساعة، وتختفي أربع ساعات، فهل يلزمهم الصيام قبل طلوع الشمس بساعة ونصف وهو وقت طلوع الفجر وعلى ذلك فيصومون إحدى وعشرين ساعة ونصفا ويفطرون ساعتين ونصفا أم ماذا؟ وما حكم الصلاة أيضا في هذه البلاد وكذلك في البلاد التي تستمر فيها الشمس طالعة نحو ستة أشهر وتغيب نحو ستة أشهر. هذا ما نريد الاستفهام عنه فلعلنا نظفر في وقت قريب بما يزيل العقبات

عن المقيمين في تلك البلاد ببيان حكم الله تعالى؛ تيسيرا عليهم وتبيانا لسماحة الدين؟ الجواب: اطلعنا على هذا السؤال ونفيد بأنه فيما يختص بالبلاد التي تغيب فيها الشمس ستة أشهر أو نحو ذلك. اختلف الفقهاء في وجوب الصلاة على المقيمين بها وعدم وجوبها: فقال بعضهم: لا تجب عليهم الصلاة؛ لعدم وجود السبب وهو الوقت. وقال بعضهم: تجب عليهم الصلاة، وعليهم أن يقدروا لها أوقاتها بالقياس على أقرب البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم، والقول الأخير: قول الشافعية، وهو قول مصحح عند الحنفية، وهو الذي اخترناه للفتوى؛ مراعاة لحكمة تشريع الصلاة. وفيما يختص بصوم أهل هذه البلاد فإنه واجب عليهم، وعليهم أن يتحروا عن دخول شهر رمضان وعن مدة الصيام فيه بالقياس على أقرب البلاد التي شهد أهلها الشهر، وعرفوا وقت الإمساك والإفطار فيه، وهو كذلك مذهب الشافعية الذي اخترناه للفتوى. وأما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصلاة يجب عليهم أداؤها في أوقاتها؛ لتميزها تميزا ظاهرا. وبالنسبة للصوم يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هناك، إلا إذا أدى الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصوم الهلاك أو المرض الشديد فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال، وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات أو التجربة أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم

يفضي إلى الهلاك أو المرض الشديد أو زيادة المرض أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة. وعلى من أفطر في كل هذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطر. والله تعالى أعلم. والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء بشأن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان وضبط أوقات الصلوات في بعض البلدان

القرار رقم (61) وتاريخ 12\4\1398هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد: فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام 1398 هـ كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم (555) وتاريخ 16\1\1398هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالمو) بالسويد الذي يفيد فيه بأن الدول الإسكندنافية يطول فيها النهار في الصيف ويقصر في الشتاء؛ نظرا لوضعها الجغرافي، كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقا في الصيف، وعكسه في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان. ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك؛ ليزودهم بها (اهـ) . وعرض على المجلس أيضا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ونقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الاطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي: أولا: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف ويقصر في الشتاء - وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا؛ لعموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 78

وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬1) ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: صل معنا هذين يعني: اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمر فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: "أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم (¬2) » رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان (¬3) » أخرجه مسلم في [صحيحه] . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 103 (¬2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (613) ، سنن النسائي المواقيت (519) ، سنن ابن ماجه الصلاة (667) ، مسند أحمد بن حنبل (5/349) . (¬3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولا وفعلا، ولم تفرق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان، فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم، ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعا وعشرين ساعة، ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط، وإن كان قصيرا، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضا شديدا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬2) وقال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬3) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 187 (¬2) سورة البقرة الآية 185 (¬3) سورة البقرة الآية 286

وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) ثانيا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا ولا تطلع فيها الشمس شتاء أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلا - وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض؛ لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من «أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى قال: (يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة. .) (¬2) » إلى آخره. ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع (¬3) » .." الحديث. ولما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق، إلى أن قال: ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 78 (¬2) صحيح البخاري بدء الخلق (3207) ، صحيح مسلم الإيمان (162) ، مسند أحمد بن حنبل (3/149) . (¬3) صحيح البخاري الإيمان (46) ، صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5028) ، سنن أبو داود الصلاة (391) ، مسند أحمد بن حنبل (1/162) ، موطأ مالك النداء للصلاة (425) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .

وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا، قال: نعم (¬1) » . . . الحديث. وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن المسيح الدجال فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له (¬2) » ، فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوما واحدا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم. فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة. وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب بلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة؛ لما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه، إذ لا فارق في ذلك بين الصوم الصلاة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري العلم (63) ، صحيح مسلم الإيمان (12) ، سنن الترمذي الزكاة (619) ، سنن النسائي الصيام (2091) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1402) ، مسند أحمد بن حنبل (3/168) ، سنن الدارمي الطهارة (650) . (¬2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .

والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة عبد العزيز بن صالح عبد الله خياط ... عبد الله بن حميد ... عبد العزيز بن باز عبد المجيد حسن ... محمد الحركان ... عبد الرزاق عفيفي محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... راشد بن خنين عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

المجلد الخامس - إصدار: سنة 1422 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين. . . أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد امتن على عباده في كتابه الكريم حيث يقول عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1) والمعنى: أن الله سبحانه يذكر عباده بأول خلقهم وبدايته حين ولدوا وهم لا يعلمون شيئا، ولا يدركون بحواسهم لا المرئي ولا المسموع، ولا تعقل قلوبهم شيئا، ثم إنه سبحانه يمن على عباده بهذه الآلات السمع والبصر والفؤاد، التي هي أصول آلات الإدراك، فبالسمع يدرك المسموعات، وبالبصر يدرك المرئيات وبالقلب يعقل ما رأى وما سمع، بل وما لم يسمع مما يحس به، ثم إنه سبحانه لما بين لعباده عظيم منته ونعمته عليهم ختم الآية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2) أي: أن الله سبحانه إنما خلق هذه الآلات لكم لتقوموا بحق الله فيها من الشكر، وهذا كقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (¬3) وشكر الله على هذه النعم وغيرها من النعم إنما يكون باستعمالها في طاعته سبحانه، وما يقرب إلى مرضاته، وإن أعظم ما استعملت فيه هذه ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 78 (¬2) سورة النحل الآية 78 (¬3) سورة الملك الآية 23

الآلات هو طلب العلم، وقد أشار الله عز وجل إلى ذلك في الآية الكريمة حيث قال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (¬1) إذن فاستعمال تلك الحواس في طلب العلم الشرعي هو من أعظم الأمور التي بها يكون شكر الله على إنعامه علينا بهذه النعم؛ ذلك أنا لا نستطيع عبادة الله حق العبادة ولا القيام بحقه علينا إلا بالعلم بما أراده منا مما أخبرنا به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد نوه الله سبحانه وتعالى بمكانة هذا العلم الشرعي ومكانة أهله في كثير من آي الكتاب العزيز، حتى إن أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬2) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (¬3) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (¬4) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (¬5) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬6) فأخبر سبحانه عن نفسه بأنه علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم؛ امتنانا منه على عباده. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: (وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان: ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمها من غير عكس، فلهذا قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (¬7) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (¬8) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬9)) اهـ. (¬10) . ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 78 (¬2) سورة العلق الآية 1 (¬3) سورة العلق الآية 2 (¬4) سورة العلق الآية 3 (¬5) سورة العلق الآية 4 (¬6) سورة العلق الآية 5 (¬7) سورة العلق الآية 3 (¬8) سورة العلق الآية 4 (¬9) سورة العلق الآية 5 (¬10) [تفسير ابن كثير] (4\ 529) ط: مكتبة الرياض الحديثة.

من هنا تبين أن الكتابة من أهم وسائل العلم، تحصيلا، وتعليما، بل الكتابة هي الجامعة لوسائل العلم من كونه ذهنيا ولفظيا ويجمعهما كونه رسميا، أي مكتوبا. وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فاتخذ للوحي كتبة من الصحابة عرفوا بأنهم كتاب الوحي، وقال مرة: «اكتبوا لأبي شاه، وقال: وقد أشار إلى فيه صلى الله عليه وسلم: اكتب، فوالذي نفسي بيده لا يخرج منه إلا حق (¬1) » . ولم يزل العلماء يكتبون العلم والحديث، ويتدارسونه بينهم، حتى أضحت الكتابة من سيما أهل العلم، وحتى صار ضبط الكتاب عندهم أقوى وأوثق من ضبط الصدر، وهكذا دون العلم بدءا بالقرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وحتى آخر العلوم تدوينا، فدون الفقه وأصوله والنحو والإعراب واللغة والتأريخ والسير والملاحم، وغيرهم ذلك كثير من العلوم الشرعية أو العلوم المساندة التي يستفيد منها طالب العلم الشرعي، حتى وصل إلينا في هذا العصر ثروة عظيمة من كتب أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في دراسة العلم وتحقيق مسائله. ولما حبا الله هذه البلاد المباركة بجميع من العلماء الأجلاء الأفاضل الذين نحسبهم ولا نزكيهم على الله من خيرة علماء السنة في هذا العصر- قام ولاة الأمر وفقهم الله لرضاه بوضع هيئة لكبار العلماء في هذا البلد يجتمع فيه مجموعة من العلماء الكبار -علماء وديانة- يبحثون فيما يردهم من المسائل، وما يستجد من النوازل، ويتدارسونه من خلال جلساتهم، ويتداولون الرأي فيه؛ ليخرجوا بقرار يرون أنه الحق الموافق لشرع الله عز وجل. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود العلم (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (484) .

وقد كانت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، هي المكلفة بإعداد البحوث العلمية الخاصة بالمسائل التي ستدرس في كل جلسة، وقد قامت بواجبها، فجمعت على مر السنين بحوثا متنوعة في العقيدة والفقه والنوازل، قيدت فيها كلام كثير من أهل العلم المعتبرين في فنونهم، وجمعتها على أحسن نظام، فتكون لديها عبر السنين مجموعة من البحوث النافعة المفيدة. وقد رأينا أن من المصلحة نشر هذه البحوث، والحال أنها كما سبق بحوث مفيدة مليئة بالعلم الشرعي، فتوجهت النية لطبعها، وها نحن الآن نضع بين يدي طلاب العلم الجزءين: الخامس والسادس من أبحاث هيئة كبار العلماء. نسأل الله الكريم أن ينفع بها قارئها وكاتبها ودارسها، وأن يجزي من ساهم في إعدادها وطبعها ونشرها خير الجزاء. كما أسأله سبحانه وتعالى: أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا يوم لقاه، وأن يبلغنا به عنده الرضوان، إنه سبحانه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين. مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

بحث في حكم اقتطاع جزء من المقبرة لمصلحة عامة كتوسعة طريق ونحوه

(1) بحث في حكم اقتطاع جزء من المقبرة لمصلحة عامة كتوسعة طريق ونحوه هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم بحث في حكم اقتطاع جزء من المقبرة لمصلحة عامة كتوسعة طريق ونحوه إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فقد تقرر لدى أهل العلم النهي عن نبش قبر المسلم الذي لا يعلم أنه بلي وصار رميما إلا لحاجة، واستندوا في ذلك إلى أمرين: أحدهما: أن الميت إذا وضع في قبره فقد تبوأه وسبق إليه، فهو حبس عليه ليس لأحد التعرض له ولا التصرف فيه. قال في [المنتهى] وشرحه: (ولا يباح نبش قبر مسلم مع بقاء رمته إلا لضرورة، كأنه دفن في ملك غيره بلا إذنه أو كفن بغصب، أو بلغ مال غيره بلا إذنه، ويبقى كالذهب ونحوه وطلبه ربه وتعذر غرمه. اهـ) . وقال في [الإقناع] وشرحه: (ولا ينبش قبر ميت باق لميت آخر، أي: يحرم ذلك؛ لما فيه من هتك حرمته) .

وقال النووي في [المجموع] : (وأما نبش القبر فلا يجوز لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز للأسباب الشرعية كنحو ما سبق. ومختصره: أنه يجوز نبش القبر إذا بلي الميت وصار ترابا، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم أو غيره. اهـ) . وقال السرخسي في [المبسوط] : (وإن دفن قبل الصلاة عليه صلي على القبر، وأنه لا يخرج من القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى وخرج من أيديهم، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القبر أول منازل الآخرة (¬1) » اهـ) . وجاء في [شرح أقرب المسالك] للشيخ أحمد الدردير ما نصه: (والقبر حبس على الميت لا ينبش، أي: يحرم نبشه مادام الميت فيه إلا لضرورة شرعية. اهـ) . وجاء في [التاج والإكليل على مختصر خليل] للمواق ما نصه: (سئل الإمام مالك بن أنس عن الرجل يشتري الدار فيجد فيها قبرا قد كان البائع دفنه. أجاب بقوله: أرى أن يرد المبيع؛ لأن موضع القبر لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به كأنه حبس، وأفتى بعض شيوخ ابن عرفة كما في المصدر المذكور بعض أهل الخير بنى دارا له فوجد في بقعة منها عظام آدمي أفتاه بأن موضع تلك العظام حبس لا ينتفع به ولا بهواه فتركه برحة. اهـ) . الثاني: ما يؤدي إليه النبش من كسر عظام الميت وقد جاء النهي عن ذلك من حديث: «كسر عظم الميت ككسره حيا (¬2) » ، وهو حديث ثابت جاء مرفوعا وموقوفا. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الزهد (2308) ، سنن ابن ماجه الزهد (4267) . (¬2) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .

أما الرواية المرفوعة فهي عند عبد الرزاق في [مصنفه] ، وأبي داود وابن ماجه في [سننهما] وابن حبان في [صحيحه] بأسانيدهم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حيا (¬1) » ، وقد ترجم له عبد الرزاق بقوله: (باب كسر عظم الميت) ، ثم أورد الحديث بإسناده. وترجم له أبو داود بقوله: (باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان) ، ثم أورد الحديث بإسناده. وترجم له ابن ماجه بقوله: (باب في النهي عن كسر عظام الميت) ، ثم أورد الحديث بإسناده. وترجم له الحافظ الهيثمي في [موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان] بقوله: (باب فيمن آذى ميتا) وساق الحديث بإسناده. وقد استدل الإمام البغوي بهذه الرواية المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم نبش قبر المسلم لغير حاجة، فقال في [شرح السنة] : ولا يجوز نبش قبور المسلمين لغير حاجة، روت عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حيا (¬2) » اهـ. وأما الرواية الموقوفة فذكرها الإمام مالك في [الموطأ] في (ما جاء في الاختفاء) بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: (كسر عظم المسلم ميتا ككسره وهو حي) تعني: في الإثم. وذكرها الإمام الشافعي في [الأم] في باب (ما يكون بعد الدفن) عن الإمام مالك: أنه بلغه أن عائشة رضي الله عنها قالت: (كسر عظم المسلم ميتا ككسره وهو حي) . أما إذا كان ثم غرض شرعي لنبش الميت من قبره فقد أجاز ذلك بعض أهل العلم، واستدلوا على جوازه: بوقائع عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقضي بجواز إخراج الميت من قبره لمصلحة ومن ذلك تحويل قبر ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) . (¬2) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .

طلحة بن عبيد الله، وقضية معاوية لما أجرى العين التي مرت بقبور شهداء أحد، وقضية تحويل جابر قبر أبيه عبد الله. ففي [مصنف عبد الرزاق] ، و [مصنف ابن أبي شيبة] ، و [طبقات ابن سعد] ، وفي [الاستيعاب] لابن عبد البر: أن بعض أهل طلحة بن عبيد الله رآه في المنام يقول: ألا تريحونني من هذا الماء، فإني قد غرقت ثلاث مرات يقولها، فنبشوه من قبره أخضر كأنه السلق، فنزفوا عنه الماء، ثم استخرجوه، فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا دارا من دور أبي بكرة فدفنوه فيها. وفي [مسند الإمام أحمد] رحمه الله قال: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، حدثنا الأسود بن قيس عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين ليقاتلهم، وقال أبي عبد الله: يا جابر، لا عليك أن تكون في نظاري أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي، قال: فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي وعادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة؛ لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعنا بهما، فدفناهما حيث قتلا، فبينما أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبد الله، والله لقد أثار أباك عمال معاوية، فبدأ فخرج طائفة منه فأثبته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل فواريته (¬1) » . . . إلى آخر الحديث، ورجاله رجال الصحيح إلا نبيحا العنزي وهو ثقة، كما في [وفاء الوفا بأخبار دار ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (3/398) ، سنن الدارمي كتاب المقدمة (45) .

المصطفى] . وقال ابن إسحاق في [المغازي] : حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار قال: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء انفجرت العين عليهم فجئنا فأخرجناهما يعني- عمرا وعبد الله - وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنهما دفنا بالأمس. قال الحافظ ابن حجر في [فتح الباري] : له شاهد بإسناد صحيح عند ابن سعد من طريق أبي الزبير عن جابر. اهـ. ويعني ابن حجر رحمه الله بالشاهد: ما رواه ابن سعد في طبقاته قال: أخبرنا عمرو بن الهيثم أبو قطن، قال: أخبرنا هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر قال: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين فأخرجناهم بعد أربعين سنة لينة أجسادهم تتثنى أطرافهم. اهـ. وقال عبد الرزاق في [مصنفه] في كتاب الجنائز وفي كتاب الجهاد: عن ابن عيينة عن أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما أراد معاوية أن يجري الكظامة (¬1) قال: من كان له قتيل فليأت قتيله، يعني: قتلى أحد، قال: فأخرجهم رطابا يتثنون. قال: فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانفطرت دما، قال أبو سعيد: لا ينكر بعد هذا منكر أبدا. اهـ. وعند ابن الجوزي في [صفوة الصفوة] عن جابر قال: لما أراد معاوية أن يجري عينه التي بأحد كتبوا إليه أنا لا نستطيع أن نجريها إلا على قبور الشهداء، فكتب: انبشوهم، قال: فرأيتهم يحملون كأنهم قوم نيام، وأصابت ¬

_ (¬1) قناة الماء في باطن الأرض.

المسحاة رجل حمزة فانبعثت دما. وعنه قال: لما كتب معاوية إلى عامله بالمدينة أن يجري عينا إلى أحد، فكتب إليه عامله: إنها لا تجري إلا على قبور الشهداء، قال: فكتب إليه: أن أنفذها، قال الراوي عن جابر: فسمعت جابر بن عبد الله يقول: فرأيتهم يخرجون على رقاب الرجال كأنهم رجال نوم حتى أصابت المسحاة قدم حمزة فانبعثت دما. وفي] موطأ الإمام مالك [، رضي الله عنه في (الدفن في قبر واحد من ضرورة) عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه: أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة، قال ابن عبد البر: لم يختلف الرواة في قطعه وحصل معناه من وجوه صحاح. وقال ابن سعد في [طبقاته] (¬1) : أخبرنا الوليد بن مسلم قال: حدثني الأوزاعي عن الزهري عن جابر بن عبد الله: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج لدفن شهداء أحد قال: زملوهم بجراحهم، فإني أنا الشهيد عليهم، ما من مسلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دما، اللون لون الزعفران والريح ريح المسك، قال جابر: وكفن أبي في نمرة واحدة، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: أي هؤلاء كان أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى الرجل، قال: ¬

_ (¬1) [الطبقات] لابن سعد (3\ 562) .

"قدموه في اللحد قبل صاحبه " قالوا: وكان عبد الله بن عمرو بن حرام أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلمي، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفنوا عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد؛ لما كان بينهما من الصفاء، وقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد، قال: وكان عبد الله بن عمرو رجلا أحمر، أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح رجلا طويلا مفرقا، فدفنا في قبر واحد، وكان قبرهما مما يلي السيل، فدخله السيل فحفر عنهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على جرحه فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن الدم، قال جابر: فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم وما تغير من حاله قليل ولا كثير، فقيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: إنما كفن في نمرة، خمر بها وجهه وجعل على رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك ست وأربعون سنة، فشاورهم جابر في أن يطيب بمسك فأبى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا تحدثوا فيهم شيئا، وحول من ذلك المكان إلى مكان آخر، وذلك أن القناة كانت تمر عليهما وأخرجوا رطبا يتثنون» . اهـ. وفي [صحيح البخاري] في (باب: هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟) بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما حضر أحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن علي دينا فاقض واستوص بأخواتك خيرا. فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر

في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه. وذكره أبو داود في [سننه] في (باب تحويل الميت من موضعه للأمر يحدث) ، والنسائي في [المجتبى] في (باب إخراج الميت من القبر بعد أن يدفن فيه) ، وابن سعد في [طبقاته] ، وأورده المجد ابن تيمية في [المنتقى] في (باب ما جاء في الميت ينقل أو ينبش لغرض صحيح) .

أقوال أهل العلم في حكم تحويل الميت من قبره إلى آخر لغرض صحيح

ذكر بعض من أقوال أهل العلم في حكم تحويل الميت من قبره إلى آخر لغرض صحيح: ذكر أبو يعلى في [الأحكام السلطانية] عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب في الميت يخرج من قبره إلى غيره (إن كان من شيء يؤذيه، قد حول طلحة) وفي رواية المروذي في قوم دفنوا في بساتين، ومواضع ردية فقال: قد نبش معاذ امرأته، وكانت قد كفنت في خلقان، فكفنها ولم ير بأسا أن يحولها. وجاء في الجزء الرابع والعشرين (ص 303) من [فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] : لا ينبش الميت من قبره إلا لحاجة، مثل: أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت فينقل إلى غيره، كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك. وقال الحطاب في [مواهب الجليل على مختصر خليل] ، على قول خليل: (والقبر حبس، لا يمشى عليه، ولا ينبش إلا أن يشح رب كفن غصبه) . قال الحطاب: وكذلك إذا احتيج للمقبرة لمصالح المسلمين كما فعل سيدنا معاوية رضي الله عنه في شهداء أحد، عن جابر رضي الله عنه

وذكر الأثر، وقال المواق في كتابه [التاج والإكليل على مختصر خليل] : انظر في حديث لمالك عن أبي الرجال من التمهيد أنه يجوز النبش لعذر وأن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخرج أباه من قبره ودفنه بغير ذلك الموضع وكذلك فعل معاوية بمحضر الصحابة ولم ينكروه عليه. اهـ. . ثم نقل المواق عن ابن عرفة أن معاوية رضي الله عنه إنما فعل ذلك لمصلحة عامة حاجية، كبيع الحبس لتوسيع جامع الخطبة. اهـ. وقال الباجي في [المنتقى على الموطأ]- في معرض كلامه على رواية مالك: حفر السيل قبر عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح: ولا بأس بحفر القبر وإخراج الميت منه، إن كان ذلك لوجه مصلحة، ولم يكن في ذلك إضرار، وليس من هذا الباب نبش القبور، فإن ذلك لوجه الضرر أو لغير منفعة. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في [الفتح] : في حديث جابر دلالة على جواز الإخراج لأمر يتعلق بالحي، لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين ذلك جابر بقوله: فلم تطب نفسي، وذكر الحافظ أن ترجمة البخاري لأحاديث جابر التي ذكرها بقوله: (باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟) إشارة منه إلى الرد على من منع إخراج الميت من قبره مطلقا، أو لسبب دون سبب، كمن خص الجواز بما لو دفن بغير غسل أو بغير صلاة. اهـ.

وقال العيني في [عمدة القاري] على ترجمة البخاري المشار إليها: وفي الحديث الثاني والثالث- يعني: الروايتين اللتين ذكرهما عن جابر - إخراجه أيضا لعلة، وهي: تطييب قلب جابر. ثم قرر العيني: أن الإخراج لذلك إخراج لمصلحة الحي. وقال صاحب [عون المعبود] في شرحه لحديث جابر عند أبي داود: فيه دلالة على جواز الإخراج لأمر متعلق بالحي؛ لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين ذلك جابر بقوله: (فكان في نفسي من ذلك حاجة) . وقال البغوي في [شرح السنة] بعد تحريمه نبش قبور المسلمين لغير حاجة قال: فإن وقعت الحاجة فقد روي عن جابر قال: دفن مع أبي رجل وكان في نفسي من ذلك حاجة فأخرجته بعد ستة أشهر. وقال في موضع آخر: ويكره نقل الميت من بلد إلى بلد آخر وأن ينقل عن مكانه بعدما دفن لغير حاجة ثم أورد قصة تحويل جابر أباه من قبره إلى مكان آخر دليلا على جواز التحويل إذا كان ثم حاجة. ومما تقدم يتضح: أن القائلين بالمنع من نبش قبور الموتى قد عللوا ذلك: بأن قبر الميت حبس عليه ومنزل له وأن في نبشه إهانة وامتهانا له واعتداء عليه وعلى حقه، إذ يبعد نبشه قبل بلاه دون كسر عظم أو أكثر من عظامه، وقد ورد النهي عن كسر عظم الميت، وإنه ككسر عظمه حيا، كما يظهر تقدم من أهم مبررات القول ينبش قبر الميت لحاجة تتلخص فيما تعود مصلحته على الميت، كما هو الحال في تحويل قبر طلحة ونبش معاذ زوجته من قبرها، أو على الحي، كتحويل جابر لأبيه من قبره إلى مكان

آخر، أو على المصلحة العامة، كنبش قبور شهداء أحد ممن مر بهم مجرى العين التي أمر بها معاوية. وبعد فيبقى النظر فيما يأتي: 1 - هل أمر معاوية- على فرض ثبوته- بإجراء العين على قبور شهداء أحد وتنفيذ ذلك بمحضر من الصحابة يصلح أن يكون سندا في جواز نبش القبور للمصلحة العامة مع قول أبي سعيد في رواية عبد الرزاق حينما أصابت المسحاة رجل رجل من الشهداء: لا ينكر بعد هذا منكرا أبدا. ومع ما تشعر به كتابة عامل معاوية إليه من أنه لا يتمكن من إجراء العين إلا على قبور الشهداء من أن المعهود لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استنكار نبش القبور. 2 - هل تحويل جابر لوالده عن قبره إلى مكان آخر؛ ليطيب خاطره يصلح أن يكون مستندا في نقل الميت من قبره لمصلحة الحي، لا سيما أن فعله معارض بأن والده دفن مع عمرو بن الجموح في قبر واحد بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مرأى منه؟ 3 - هل من المتعين توسعة شارع الملك فيصل بنبش جزء من هذه المقبرة أم يمكن الاستغناء عن التوسعة بأمر آخر؟ 4 - النظر في تطبيق ما صح لدى أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء من ذلك على مسألتنا هذه. وقبل أن تختم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثها هذا توصي بتزويد كل عضو من أعضاء هيئة كبار العلماء بما يأتي: 1) صورة من فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الصادرة

عنه بتاريخ 10\ 2\ 1376 هـ. 2) صورة من فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عدد (1022\ ط) في 10\ 5\ 1388 هـ، بخصوص: منع وزارة المواصلات من أن تمر خط المدينة تبوك بمقبرتين من مقابر تلك الجهات. 3) صورة فتوى من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله بعدد (2881\ 1) في 20\9\ 1388 هـ، بخصوص: القبور التي تعرض لها مشروع الري والصرف في الأحساء. 4) صورة من قرار اللجنة التي كلفت من قبل سمو نائب وزير الداخلية للكشف على الجزء الذي يستفتى في اقتطاعه من المقبرة الواقعة شرق شارع الملك فيصل؛ توسعة للشارع المذكور. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها أو الفائض من غلاتها على مصارفها

(2) غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها أو الفائض من غلاتها على مصارفها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها أو الفائض من غلاتها على مصارفها إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر من بحث مسألة غلة الأوقاف المنقطعة جهاتها أو الفائض من غلالها على مصارفها في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء، وبناء على المادة (7) من لائحة سير العمل لدى الهيئة- فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشتمل على بيان مصرف غلة الوقف المنقطع حقيقة أو حكما، ومصرف الفائض من ريع الأوقاف. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

مذهب الحنفية

أ- مذهب الحنفية: 1 - قال إبراهيم الحلبي وعبد الرحمن بن شيخ محمد بن سليمان، المعروف بداماه (¬1) : (وشرط لتمامه) أي: لتمام الوقف بعدما لزم بأحد الأمور المذكورة عنده (ذكر مصرف مؤبد) مثل أن يقول: علي كذا وكذا، ¬

_ (¬1) [ملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر] (1\742، 743) .

ثم على فقراء المسلمين، (وعند أبي يوسف يصح بدونه) أي بدون ذكر مصرف مؤبد؛ لأن الوقف إزالة الملك لله تعالى، وذا يقضي التأبيد، ولمحمد أن الوقف تصدق بالمنفعة، وذا يحتمل أن يكون مؤقتا ومؤبدا، فلا بد من التنصيص (وإذا انقطع) المصرف (صرف إلى الفقراء) ولا يعود إلى ملكه إن كان حيا، وإلى ورثته إن كان ميتا، فعلم من هذا أن التأبيد شرط البتة إلا عند أبي يوسف لا يشترط ذكره، وعند محمد يشترط، لكن صاحب الهداية نقله بصيغة التمريض، فقال: قيل: التأبيد شرط بالإجماع إلا عند أبي يوسف، فإنه لا يشترط ذكر التأبيد. وفي [البحر] : والحاصل: أن عند أبي يوسف في التأبيد روايتين: في رواية: لا بد منه، وذكره ليس بشرط، وفي رواية: ليس بشرط ويفرع على روايتين ما لو وقف على إنسان بعينه، أو عليه وعلى أولاده، أو على قرابته وهم يحصون، أو على أمهات أولاده فمات الموقوف عليه، فعلى الأول: يعود إلى ورثة الواقف، وعليه الفتوى، كما في [الفتح] وغيره، وعلى الثاني: يصرف إلى الفقراء وإن لم يسمهم، وهذا الصحيح عنده. واختلفوا في حد ما لا يحصى: روي عن محمد عشرة، وعن أبي يوسف مائة، وهو المأخوذ عند البعض، وقيل: أربعون، وقيل: ثمانون. والفتوى: أنه يفوض إلى رأي الحاكم. 2 - قال إبراهيم الحلبي ومحمد علاء الدين الحصكفي (¬1) : (و) اعلم أنه (شرط لتمامه ذكر مصرف مؤبد) عندهما (وعند أبي يوسف يصح ¬

_ (¬1) [ملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر] (1\ 742) .

بدونه، وإذا ا! نقطع صرف إلى الفقراء) وهذا بيان لشرائطه الخاصة فجعلاه كالصدقة، وجعله أبو يوسف كالإعتاق، واختلف الترجيح. والإفتاء والأخذ بقول أبي يوسف أحوط وأسهل، كما في [المنح عن البحر] ، وبه يفتى، كما في [الدرر] ، وصدر الشريعة، وفي [فتح القدير] : أنه أوجه عند المحققين، والخلاف في ذكر التأبيد، وأما في نفس التأبيد فشرط بالإجماع حتى لو وقته بشهر مثلا بطل بالاتفاق، كما في [الدرر] ، و [الغرر] ، و [التنوير] ، وغيرها، وعليه فلو وقف على رجل بعينه جاز، وعاد بعد موته لورثة الواقف، وعليه الفتوى، وقيل: للفقراء، وهي رواية البرامكة، فليحفظ. 3 - قال عمر حلمي أفندي (¬1) : المسألة (78) : لا يشترط ذكر الموقوف عليه ولا تعيينه، فلو وقف شيئا ولم يبين الموقوف عليه يصح وقفه وتصرف غلته إلى الفقراء. المسألة (80) : لا يشترط وجود الموقوف عليه حال الوقف، مثلا: لو وقف داره وشرط غلتها على ما سيحدث له من الأولاد صح وقفه، ويستحق غلته بالشرط المذكور أولاده الذين يولدون له بعد الوقف، وكذا لو هيأ موضعا ليبني فيه مكانا خيريا، كمعبد، ومكتب، وقبل أن يبني المكان الخيري في موضعه وقف بعض أملاكه وشرط غلتها للمكان المذكور- يصح وقفه، وتعود غلته إلى المكان المذكور حينما يبنى بعد. وتصرف غلة الوقف للفقراء إلى أن يولد للواقف أولاد في الصورة ¬

_ (¬1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (43) .

الأولى، وإلى أن يبنى المكان المذكور في الصورة الثانية.. وهذا الوقف الذي لا يوجد فيه المشروط له ابتداء يقال له ولأمثاله: منقطع الأول. المسألة (81) : الوقف الذي يوجد فيه المشروط له ابتداء ثم ينقطع وينقرض يقال له: منقطع الآخر.. مثلا: شرط غلة وقفه لذريته فتصرف بعده ذريته بغلة الوقف مدة ثم انقرضت ولم تعقب أولادا فذلك الوقف يقال له: منقطع الآخر. المسألة (82) : الوقف الذي يوجد فيه المشروط له ابتداء ثم ينقطع ثم يظهر يقال له: منقطع الوسط.. مثلا: شرط الواقف غلة وقفه لذكور ذريته فتصرفوا بعده بغلة الوقف ثم ماتوا ولم يعقبوا غير الإناث فانقطع المشروط له، ثم بعد مدة تولد من الإناث أولاد ذكور، فيطلق على الوقف منقطع الوسط. وغلة الوقف المنقطع بجميع أنواعه تصرف إلى المشروط لهم حين وجودهم وإلى الفقراء حين فقدهم وانقطاعهم. المسألة (172) : وقف قديم لم يعلم في جهة صرف غلته شرط واقف ولا تعامل قديم فتصرف الغلة برأي الحاكم إلى الفقراء والمحتاجين (¬1) . 4 - وقال ابن عابدين (¬2) : قال في [الخانية] : ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد وليس له ولد يصح، فإذا أدركت الغلة تقسم على الفقراء، وإن حدث له ولد بعد القسمة تصرف الغلة التي توجد ¬

_ (¬1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (113) . (¬2) [حاشية ابن عابدين] (4\ 430، 431) .

بعد ذلك إلى هذا الولد؛ لأن قوله: صدقة موقوفة، وقف على الفقراء، وذكر الولد الحادث للاستثناء، كأنه قال: إلا إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي. اهـ. ومنه ما في [الخانية] : وقف على ولديه ثم على أولادهما أبدا ما تناسلوا. قال ابن الفضل: إذا مات أحدهما عن ولد يصرف نصف الغلة إلى الباقي والنصف إلى الفقراء، فإذا مات الآخر يصرف الجميع إلى أولاد الواقف؛ لأن مراعاة شرط الواقف لازم، والواقف إنما جعل أولاد الأولاد بعد انقراض البطن الأول، فإذا مات أحدهما يصرف النصف إلى الفقراء. اهـ. تنبيه: علم من هذا أن منقطع الأول ومنقطع الوسط يصرف إلى الفقراء، ووقع في الخيرية خلافه؛ حيث قال في تعليل جواب ما نصه: للانقطاع الذي صرحوا به بأنه يصرف إلى الأقرب للواقف؛ لأنه أقرب لفرضه على الأصح. اهـ. وهذا سبق قلم فإن ما ذكره مذهب الشافعي، فقد قال نفسه في محل آخر من الخيرية: والمنقطع الوسط فيه خلاف، قيل: يصرف إلى المساكين، وهو المشهور عندنا، والمتظافر على ألسنة علمائنا، ثم قال بعد أسطر في جواب سؤال آخر: وفي منقطع الوسط الأصح صرفه إلى الفقراء، وأما مذهب الشافعي: فالمشهور أنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. اهـ. 5 - وقال الكاساني في معرض ذكره شروط صحة الوقف (¬1) : ومنها: ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (6\220)

أن يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا عند أبي حنيفة ومحمد، فإن لم يذكر ذلك لم يصح عندهما، وعند أبي يوسف ذكر هذا ليس بشرط، بل يصح وإن سمى جهة تنقطع، ويكون بعدها للفقراء وإن لم يسمهم. وجه قول أبي يوسف: أنه ثبت الوقف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، ولم يثبت عنهم هذا الشرط ذكرا وتسمية، ولأن قصد الواقف أن يكون آخره للفقراء وإن لم يسمهم، وهو الظاهر من حاله، فكان تسمية هذا الشرط ثابتا دلالة، والثابت دلالة كالثابت نصا. اهـ. 6 - وقال ابن نجيم في [الأشباه والنظائر] : لا يشترط لصحة الوقف على شيء وجود ذلك الشيء وقته، فلو وقف على أولاد زيد ولا ولد له صح وتصرف الغلة إلى الفقراء إلى أن يوجد له ولد. اهـ. 7 - وقال ابن أبي بكر الطرابلسي الحنفي (¬1) : ولو جعل أرضه صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا على زيد وعمرو ولدي بكر ومن مات منهما عن ولد انتقل نصيبه إليه، وإن مات من غير وارث كان نصيبه مردودا إلى الباقي منهما جاز الوقف، فلو مات أحدهما ولم يترك سوى أخيه لا يرد إليه نصيبه، بل يكون للمساكين؛ لموته عن وارث. ولو لم يكن أحدهما ممن يرث الآخر ومات أحدهما عن غير وارث انتقل نصيبه إلى الآخر. اهـ. ¬

_ (¬1) كتاب [الإسعاف في أحكام الأوقاف] ص (126) .

8 - وقال هلال الرأي (¬1) : قلت: أرأيت رجلا قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبدا على عبد الله وزيد؟ قال: فالغلة بينهما نصفان، قلت: ¬

_ (¬1) [أحكام الأوقاف] ص (273) .

أرأيت إن مات أحدهما؟ قال: فللباقي منهما نصف الغلة، وما بقي فللفقراء والمساكين، قلت: وكذلك لو سمى جماعة فمات بعضهم، قال: نعم، قلت: أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة، لعبد الله من غلاتها مائة درهم، ولعمرو مائتان فزادت الغلة؟ قال: يعطى كل واحد منهما ما سمي له، وما فضل بعد ذلك فهو للفقراء والمساكين، قلت: ولم قلت ذلك؟ قال: لأنه لما قال: صدقة موقوفة، لعبد الله من غلاتها مائة درهم في كل سنة، ولزيد مائتان، قائمة لهما ما سمي لهما خاصة، وليس لهما مما بقي شيء، ولا يشبه هذا الباب الأول إذا قال: صدقة موقوفة لزيد وعمرو ولزيد مائة درهم وعمرو مائتا درهم، هذا يكون ما بقي من الغلة بينهما؛ لأنه قال في أول كلامه: صدقة موقوفة لعبد الله وزيد، فجعل الغلة لهما جميعا، ثم قال: لزيد منها كذا ولعبد الله منها كذا، فما بقي بعد ذلك يكون نصفين؛ لقوله في أول كلامه: صدقة موقوفة لعبد الله وزيد، وأما إذا قال: صدقة موقوفة لعبد الله منها مائة درهم ولزيد منها مائتا درهم فلم يجعلها لهما جميعا ثم يفصل ما لكل واحد منهما فلذلك كان ما بقي للفقراء. وأما في الباب الأول فقد جعلها لهما جميعا في أول الكلام ثم فصل ما لكل واحد منهما فصار ما بقي منها بينهما نصفين. ألا ترى أن رجلا لو قال: قد أوصيت بثلث مالي لعبد الله وزيد، لعبد الله منه مائة درهم ولزيد مائتا درهم، وكان الثلث خمسمائة أعطينا زيدا مائتين وأعطينا عبد الله مائة وما بقي بينهما نصفان، وهذا قول أصحابنا في الوصية، والوقف على قياسه. ولو قال: أوصيت لزيد بمائة درهم من ثلث مالي ولعمرو بمائتي

درهم، فكان الثلث خمسمائة درهم أعطيت كل واحد منهما ما سمي له وما بقي بعد ذلك من الثلث فهو للورثة، وكذلك الوقف وهما سواء، وإنما يختلف الوصية الوقف في باب واحد، كل ما كان في الثلث لا وجه له فمرجعه إلى الورثة، وكل ما كان لا وجه له في الوقف فمرجعه إلى الفقراء والمساكين؛ لقوله في أول كلامه: صدقة موقوفة. اهـ. 9 - وقال في موضع آخر (¬1) : أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة، لعبد الله منها كذا ولزيد كذا ولعمرو كذا، حتى سمى جماعة كثيرة، فقصرت الغلة عن هذه الأرزاق؟ قال: تقسط الغلة بينهم على ذلك، قلت: أرأيت إن زادت الغلة على ذلك؟ قال: تكون الزيادة للفقراء، ثم قال بعد ذلك (¬2) : قلت: أرأيت إذا قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله من غلاتها أعطي منه ما كان فقيرا من قرابتي في كل سنة ما يكفيه في طعامه وشرابه وكسوته بالمعروف فقصرت الغلة لفقراء القرابة كيف تقسم بينهم؟ قال: يضرب لكل واحد منهم ما سمي له من غلات هذه الصدقة، ويقسط بينهم على ذلك. قلت: أرأيت إن كان في غلاتها فضل عما سمي لهم؟ قال: يكون ذلك الفضل للفقراء والمساكين. قلت: ولم قلت ذلك؟ قال: لأنه لم يجعل للقرابة من الغلة إلا النفقات، فما فضل عنهم كان ذلك الفضل للفقراء. اهـ. وقال الخصاف (¬3) : (باب) الرجل يجعل أرضه وقفا على رجل بعينه ¬

_ (¬1) انظر [أحكام الأوقاف] ص (281) . (¬2) انظر [أحكام الأوقاف] ص (281) . (¬3) انظر [أحكام الأوقاف] ، ص (90، 91) .

وعلى ولده وولد ولده، ثم على المساكين من بعدهم، أو يقفها على قوم بأعيانهم ويجعل آخرها للمساكين وما يدخل في ذلك. قلت: أرأيت رجلا جعل أرضه صدقة موقوفة لله أبدا على فلان وفلان وفلانة وفلانة أبدا ما عاشوا، فمن مات منهم وله ولد لصلبه فنصيبه بينهم على قدر مواريثهم عنه، ومن مات منهم ولا ولد له لصلبه فإن كان له ولد ولد، أو ولد ولد ولد، أو نسل كان له نصيبه ثم من بعدهم على المساكين، قال: هذا وقف جائز على ما شرطه الواقف، قلت: فإن مات واحد منهم ولم يترك ولدا لصلبه كان نصيبه لولد ولده وولد ولد ولده ومن سفل منهم، قال: تقسم الغلة بين أولئك الذين سماهم في كتاب وقفه على عددهم، فما أصاب الميت قسم بين جميع ولد ولده من سفل منهم، ومن كان فوق ذلك على عددهم، قلت: وكذلك إن كان قال: وعلى أن من مات من أولادهم ونسلهم كان نصيبه من غلة هذه الصدقة وسبيله سبيل ما اشترطه في ولده لصلبه وولد ولده وأولادهم على ما سمى ووصف في هذا الكتاب، قال: نعم، قلت: وكذلك إن قال: وكل من مات من أهل هذه الصدقة وترك وارثا من ولد أو ولد ولد أو إخوة أو أخوات كان نصيبه من غلة هذه الصدقة لمن كان يرثه من هؤلاء على قدر مواريثهم عنه، وقال أيضا: ومن مات منهم ولم يترك وارثا من ولد ولا ولد ولد ولا إخوة ولا أخوات ولا غيرهم كان نصيبه من ذلك لفقراء قرابته- يعني: الواقف- وللمساكين أبدا. قال: الوقف جائز على ما سمى وشرط من ذلك. قلت: فإن مات بعضهم وترك ابنة وإخوة وأخوات، قال: يكون نصيبه من غلة هذه الصدقة، لابنته النصف من ذلك، وما بقي فهو لإخوته وأخواته على قدر

مواريثهم منه. قلت: فإن مات بعضهم، ولم يترك وارثا من ولد ولا ولد ولد ولا إخوة ولا أخوات، وترك عصبة يرثونه، ما حال نصيبه؟ قال: يرجع ذلك إلى المساكين، ولا يكون ذلك لفقراء قرابته. قلت: ولم كان هذا هكذا؟ قال: من قبل أنه شرط أن يرد نصيب من مات منهم ولم يدع وارثا من ولد، ولا ولد ولد، ولا إخوة، ولا أخوات، ولا غيرهم، إلى فقراء قرابته والمساكين، فلما مات هذا وترك عصبة لم يكن لفقراء قرابته والمساكين من نصيبه شيء؛ لأن نصيبه إنما يكون لفقراء قرابته إذا لم يدع وارثا من ولد، ولا ولد ولد، ولا إخوة، ولا أخوات، ولا غيرهم، وقد وجدنا هذا الميت ترك وارثا وهو عصبة؛ فلذلك لم يكن لفقراء قرابته شيء من نصيبه. قلت: فلم جعلت ذلك للمساكين؟ قال: من قبل أن أصل الوقف إنما يطلب به ما عند الله تعالى، وأصله للمساكين، فإن كان الواقف شرط أن يقدم من قد سماه في أول الوقف قد قال: هذا ما تصدق به فلان بن فلان تصدق بجميع ضيعته الكذا صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا، فهذا إنما هو للمساكين، ولكن اشتراطه أن تجري الغلة على فلان وفلان وفلانة وفلانة على ما سمى بعد هؤلاء، ثم جعل آخر ذلك للمساكين، فقد جعل أول الوقف وآخره للمساكين، وكلما بطل منهم واحد رجع نصيبه من ذلك إلى المساكين، ألا ترى أن رجلا لو قال: قد جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله عز وجل أبدا على فلان بن فلان وفلان بن فلان ومن بعدهما على المساكين، فمن مات منهما ولم يترك ولدا كان نصيبه من ذلك للباقي منهما، فمات أحدهما وترك ولدا، قال: يرجع نصيبه إلى المساكين ولا

يكون ذلك للباقي منهما من قبل أن الواقف إنما اشترط أن يرجع نصيب الذي يموت منهما إلى الباقي إذا لم يترك الميت وارثا فهذا قد ترك وارثا وهو ولده، قلت: فلم لا تجعل نصيب الميت منهما لولده؟ قال: من قبل أن الواقف لم يجعل ذلك لولد الميت، إنما قال: من مات منهما ولم يترك وارثا كان ذلك للباقي منهما فلهذه العلة لم يكن للباقي ولا لولد الميت من ذلك شيء. اهـ. 10 - قال عمر حلمي أفندي (¬1) : الفصل الرابع: في جواز صرف مال وقف على وقف آخر أو عدم جوازه. المسألة (343) : لا يجوز صرف غلة وقف مشروطة لجهة على نفقات وقف آخر مشروط لجهة أخرى وإن كان الواقف واحدا، فلو فعل المتولي ذلك يضمن ما صرفه. مثلا: بنى مكتبين ووقفهما، ووقف لكل واحد منهما عقارا على حدته، فلا تصرف غلة عقار أحدهما على حاجات الآخر. المسألة (344) : وقفان اتحد واقفهما وجهاتهما، طرأ على غلة أحدهما ضعف جاز أن يصرف على حاجته من فضل غلة الوقف الآخر. مثلا: وقف عقارا شرط غلته على تعمير مكتب بناه ووقفه ووقف عقارا آخر شرط غلته لوظائف معلمي مكتبه، ثم بعد زمان طرأ على غلة العقار المشروطة لوظائف المعلمين ضعف فصارت لا تقوم بكفايتها، فيجوز أن يصرف على الوظائف من فضلة غلة العقار المشروطة لنفقات التعمير. ¬

_ (¬1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (269) .

المسألة (345) : يجوز صرف واردات وقف خرب واستغني عنه على وقف آخر برأي الحاكم على حاجات أقرب وقف إليه من نوعه قليل الدخل. مثلا: بنى في محلة مكتبا ووقفه وقفا لازما، ثم بمرور الأيام خرب المكتب كله واستغنى عنه أهل المحلة لتشتتهم فتصرف وارداته برأي الحاكم على حاجات أقرب مكتب إليه موقوف قليل الواردات، ولا يجوز صرف واردات الوقف المستغنى عنه على وقف ليس من نوعه. مثلا: لا تصرف واردات مستشفى وقف وخرب واستغني عنه على مكتب، ولا واردات مكتب خرب واستغني عنه على مستشفى. المسألة (347) : قرية تفرق أهلها وتشتت شملهم فبقي مسجدها معطلا مستغنى عنه، وفي قربها قرية ليس فيها مسجد، فلأهل القرية الثانية أن ينقضوا ذلك المسجد وينقلوا أنقاضه ويعمروها معبدا في قريتهم، وتصرف واردات المسجد المنهدم برأي الحاكم على حاجات المسجد الثاني، وليس لورثة واقف المسجد المنهدم أن يطلبوا وارداته لأنفسهم ويمنعوا صرفها على المسجد الجديد. وكذا لو وقف مبلغا من النقود على حاجات مسجد وقفه في قرية، ثم تشتت شمل أهل القرية، وخرب المسجد وتعطل، فأراد متوليه أن يصرف ربح النقود برأي الحاكم على حاجات مسجد آخر قليل الواردات في أقرب قرية من موضع المسجد المذكور، فليمس للورثة أن يمنعوه عن ذلك ويجعلوا النقود ميراثا بينهم لخراب المسجد الموقوفة عليه واستغنائه عنها. المسألة (369) : فضلة الوقف المشروطة لبعض الأشخاص يدخر منها نقود احتياطية لتعمير الوقف. مثلا: وقف فيه مصارف معينة شرطت

فضلتها لأولاد الواقف فللمتولي أن يدخر منها مقدارا كافيا من النقود الاحتياطية؛ ليصرفها على تعمير الوقف حينما تمس الحاجة إلى التعمير، وإن كانت العقارات غير محتاجة للتعمير في الحالة الحاضرة (¬1) . مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي: 1 - يشترط لتمام الوقف بعد لزومه ذكر مصرف مؤبد عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الوقف تصدق بالمنفعة، وهو محتمل للتوقيت والتأبيد فاشترط له ذكر التأبيد، وقال أبو يوسف: لا يشترط ذلك؛ لأن الوقف إزالة ملك الواقف لله تعالى، وهو يقتضي التأبيد، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه ذكر التأبيد وتسميته، ولأن القصد بالوقف القربة والإحسان، والفقراء أهل ذلك وإن لم يكن ثم تسمية، وعلى الأول إذا عين مصرفا غير مؤبد يعود الوقف بعد الانقراض إلى الورثة؛ لعدم صحته وقفا عندهما، وعلى الثاني يعود الوقف إلى المساكين، وهو الأوجه، وبه الفتوى. 2 - الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط أو الآخر صحيح على المفتى به، وغلته بجميع أنواعه تصرف إلى المشروط لهم حين وجودهم، وعند انقراضهم إلى الفقراء. 3 - كل وقف لم يعلم من واقفه جهة صرف غلته، ولا يعلم تعامل قديم عن جهة صرفها تصرف برأي الحاكم إلى الفقراء والمحتاجين. 4 - لا يجوز صرف غلة مشروطة لوقف على وظائف وقف آخر ¬

_ (¬1) [إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف] ص (287) .

يختلف عنه في الجهة، وإن كان الواقف واحدا، ومن فعل ذلك ضمن ما صرف، ويجوز صرف غلة مشروطة لوقف على حاجة وقف آخر إن اتحدت جهتهما واتحد الواقف عليهما. 5 - يجوز صرف واردات وقف خرب واستغني عنه على حاجات أقرب وقف إليه من نوعه لا يكفيه وقفه، ويكون هذا برأي الحاكم، وليس للواقف أو ورثته المنع من ذلك، ولا يجوز ذلك إذا اختلف النوع، كمستشفى ومسجد. 6 - يدخر من يتولى الوقف نقودا احتياطية من فضل غلة الوقف المشروطة لبعض الأشخاص؛ ليعمر بها الوقف عند الحاجة، وإن لم يكن ثم حاجة في الحال. 7 - من وقف على ولديه ثم على أولادهما أبدا ما تناسلوا، ثم مات أحدهما عن ولد صرف نصف الغلة إلى الباقي منهما، والنصف الآخر إلى الفقراء، فإذا مات الآخر صرف الجميع إلى أولاد أولاد الواقف؛ عملا بشرطه، حيث جعل أولاد الأولاد بعد انقراض البطن الأول. 8 - من جعل أرضه صدقة موقوفة على زيد وعمرو ولدي بكر، ومن مات منهما عن ولد انتقل نصيبه إليه، وان مات عن غير وارث كان نصيبه لمن بقي منهما جاز الوقف، فإذا مات أحدهما ولم يترك سوى أخيه كان نصيبه للمساكين دون أخيه لموته عن وارث، وإن مات أحدهما عن غير وارث ولم يكن أحدهما ممن يرث الآخر انتقل نصيبه إلى الآخر. 9 - من قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبدا على عبد الله وزيد أو جماعة معينين فهي بينهم بالسوية، فإن مات أحدهم فنصيبه للمساكين،

ومن قال: أرضي صدقة موقوفة، لفلان من غلتها مائة ولفلان من غلتها مائة مثلا، فلكل ما سمى له وما بقي فللفقراء والمساكين، حيث لم يجعلها جميعا لهما، بل سمى لكل منهما شيئا فيها بخلاف التي قبلها فقد جعلها جميعا لهما فافترقتا، وكذا الحال في الوصية غير أنهما تختلفان في أمر هو أن كل ما كان في الثلث لا وجه له فمرجعه إلى الورثة، وكل ما كان في الوقف لا وجه له فمرجعه للفقراء. 10 -ومن قال: أرضي صدقة موقوفة، وسمى لكل من الموقوف عليهم منها شيئا معينا، أو قال: يعطى كل منهم من غلتها ما يكفيه بالمعروف صح الوقف، وأعطي كل منهم ما جعل له إن وسعتهم وصرف الزائد عنهم للفقراء. وإن قصرت عنهم الغلة قسمت بينهم بنسبة ما سمي لكل منهم، وإنما ردت الزيادة للفقراء؛ لأنه لم يجعل لهم إلا ما سمى لهم، أو قدر كفايتهم بالمعروف.

مذهب المالكية

ب- مذهب المالكية: أ- قال ابن القاسم: (¬1) . وقد سئل مالك عن رجل أوصى بوصية فأوصى فيها بأمور، وكان فيما أوصى به أن قال: داري حبس، ولم يجعل لها مخرجا، ولم يدر أكان ذلك منه نسيانا أو جهل الشهود أن يذكروه ذلك؟ فقال مالك: أراها حبسا في الفقراء والمساكين. فقيل له: فإنها بالإسكندرية، وجل ما يحبس الناس بها في سبيل الله. قال: ينظر ذلك ويجتهد فيه فيما يرى الوالي، وأرجو أن يكو به سعة في ¬

_ (¬1) [المدونة] (4\341\342) .

ذلك إن شاء الله. اهـ. 2 - وقال خليل (¬1) : ولا يشترط تنجيز ... ولا تعيين مصرف، وصرف في غالب، وإلا فالفقراء، قال ابن المواق: قال عياض: أما لفظة الحبس المبهم، كقوله: داري حبس، فلا خلاف أنها وقف مؤبد ولا ترجع ملكا، وتصرف عند مالك في الفقراء والمساكين، وإن كان في الموضع عرف للوجوه التي توضع فيها الأحباس وتجعل لها حملت عليه. اهـ. 3 - روى ابن وهب (¬2) : عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد أنه قال: من حبس دارا أو تصدق بها قال: الحبس والصدقة عندنا بمنزلة واحدة، قال: فإن كان صاحب ذلك الذي حبس تلك الدار لم يسم شيئا فإنها لا تباع ولا توهب وليسكنها الأقرب فالأقرب منه. قال سحنون: وقال بعض رجال مالك: كل حبس أو صدقة كانت عن مجهول من يأتي فهو الحبس الموقوف، مثل أن يقول: على ولدي ولم يسمهم، فهذا مجهول، ألا ترى أنه من حدث من ولده بعد هذا القول يدخل فيه، وكذلك لو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي بعدهم فهذه أيضا على مجهول من يأتي، وإذا سمى فإنما هم قوم بأعيانهم، وقد فسرنا ذلك. وقال ربيعة: والصدقة الموقوفة التي تباع إن شاء صاحبها إذا تصدق الرجل على الرجلين أو الثلاثة أو أكثر من ذلك إذا سماهم بأسمائهم. قال سحنون: ومعناه: ما عاشوا، ولم يذكر عقبا، فهذه الموقوفة التي ¬

_ (¬1) التاج والإكليل على مختصر خليل، (6\ 32) . (¬2) [لمدونة] (4\ 343) .

يبيعها صاحبها إن شاء إذا رجعت إليه. قلت لابن القاسم: أرأيت الرجل يقول: داري هذه حبس على فلان وعلى عقبه من بعده، ولم يقل: صدقة، أتكون حبسا كما يقول: صدقة؟ قال: أصل قوله الذي رأيته يذهب إليه أنه إذا قال: حبس، ولم يقل: صدقة، فهي حبس إذا كانت على غير قوم بأعيانهم. قال سحنون: وإذا كانت على قوم بأعيانهم فقد اختلف قوله فيها، وقد كان يقول: إذا قال: حبسا على قوم بأعيانهم، ولم يقل: صدقة، أو قال: حبسا، ولم يقل: لا تباع ولا توهب، فهذه ترجع إلى الذي حبسها إن كان حيا، أو إلى ورثته الذين يرثونه، فتكون مالا لهم. وقد قال!: لا ترجع إليه، ولكنها تكون محبسة بمنزلة الذي يقول: لا تباع. وأما إن قال: حبسا لا تباع، أو قال: حبسا، أو قال: حبسا صدقة، وإن كانوا قوما بأعيانهم، فهذه الموقوفة التي ترجع بعد موت المحبسة عليه إلى أقرب الناس بالمحبس، ولا ترجع إلى المحبس وإن كان حيا. قال سحنون: وهو الذي يقوله أكثر الرواة عن مالك، وعليه يعتمدون، ولم يختلف قوله في هذا قط أنه إذا قال: حبس صدقة، أو قال: حبس لا تباع، وإن كانوا قوما بأعيانهم، إنما الموقوفة التي ترجع إلى أقرب الناس بالمحبس إن كان ميتا أو كان حيا، ولا ترجع إلى المحبس على حال (ابن وهب) عن مخرمة بن بكير، عن أبيه قال: يقال: لو أن رجلا حبس حبسا على أحد، ثم لم يقل: لك ولعقبك من بعدك، فإنها ترجع إليه، فإن مات قبل الذي حبس عليهم الحبس ثم ماتوا كلهم أهل الحبس فإنها ترجع ميراثا بين ورثة الرجل الذي حبس على كتاب الله.

عن ابن وهب عن يونس عن ربيعة أنه قال: من حبس داره على ولده وولد غيره فجعلها حبسا فهي حبس عليهم يسكنونها على قدر مرافقهم، وإن انقرضوا أخذها ولاته دون ولاة من كان منهم مع ولده إذا كانوا ولدا أو ولد ولد أو غيرهم. قال سحنون: وأخبرني ابن وهب، عن يونس بن يزيد أنه سأل أبا الزناد عن رجل حبس على رجل وولده حبسا ما عاشوا، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، قال أبو الزناد: فهي على ما وضعها عليه ما بقي منهم أحد، فإن انقرضوا صارت إلى ولاة الذي حبس وتصدق. قال ربيعة ويحيى وابن شهاب: إن الحبس إذا رجع إنما يرجع إلى ولاة الذي حبس وتصدق. 4 - قال (¬1) ابن المواق على قول خليل: (إلا كعلى عشرة حياتهم فيملكه بعدهم) : اللخمي إن قال: حبس على هؤلاء النفر وضرب أجلا أو قال: حياتهم رجع ملكا اتفاقا. واختلف إن لم يسم أجلا ولا حياة. وقال أبو عمر: من حبس على رجل بعينه، ولم يقل: على ولده، ولا جعل له مرجعا، فاختلف فيه، قول مالك، قال أصحابه المدنيون: يصرف لربه، وقال المصريون: يرجع لأقرب الناس حبسا. 5 - قال محمد بن جزي الغرناطي المالكي (¬2) : الفصل الرابع في مصرف الحبس بعد انقراض المحبس عليهم وذلك على ثلاثة أقسام: الأول: حبس على قوم معينين، فإن ذكر لفظ الصدقة والتحريم لم ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل، (6\ 30) . (¬2) [قوانين الأحكام الشرعية] ص (402) .

ترجع إليه أبدا، وإن لم يذكرهما، فإذا انقرضوا فاختلف قول مالك، فقال أولا: ترجع إلى المحبس أو إلى ورثته، ثم قال: لا ترجع إليه، ولكن لأقرب الناس إليه. الثاني: حبس على محصورين غير معينين، كأولاد فلان وأعقابهم. الثالث: حبس على غير محصورين ولا معينين، كالمساكين، فلا يرجع إليه باتفاق، ويرجع إلى أقرب الناس إليه إن كان لم يعين له مصرفا، فإن عين مصرفا لم تعد إلى غيره. 6 - قال ابن المواق على قول خليل (¬1) : (وصدقة لفلان فله) : قال عياض: إن قال: مكان هو حبس أو وقف هي صدقة، فإن عينها لشخص معين فهي ملك له، وإن قال: داري حبس على فلان وعين شخصا فاختلف فيه قول مالك، هل يكون مؤبدا لا يرجع ملكا، فإن مات فلان رجعت حبسا لأقرب الناس بالمحبس على سنة مراجع الأحباس، فإن لم يكن له قرابة رجعت للفقراء والمساكين. والقول الآخر: أنها ترجع بعد موت المحبس عليه ملكا للمحبس أو ورثته إن مات كالعمرى. اهـ. 7 - وقال عبد الله بن عبد الله بن سلمون الكناني: وروى ابن المواز عن أشهب فيمن وهب هبة لرجل على أن لا يهب ولا يبيع، أن ذلك حبس عليه وعلى عقبه، فإن انقرض عقبه رجع حبسا على أقرب الناس للمحبس يوم يرجع إليه. ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل] (6\32) .

8 - وقال أيضا (¬1) : ويجوز التحبيس على الحمل وعلى من يولد من الولد، وفي جواز بيعه قبل يأسه قولان. وقال ابن الماجشون: يحكم بتحبيسه، ويخرج إلى يد ثقة، فيصح الحوز وتوقف غلته، فإن ولد له كان لهم، وإلا فلأقرب الناس إليه. ومن حبس على قوم بأعيانهم ولم يذكر المرجع إلا أنه حبس عليهم فانقرض المحبس عليهم، فروى أن ذلك يرجع إلى المحبس ملكا أو إلى ورثته إن لم يكن حيا، وروى غيره أنه يرجع إليه أو إلى أقرب الناس إليه حبسا، فإن لم يكن له قرابة فإلى المساكين. فإن أتى بما يقتضي التأبيد، مثل أن يقول: حبسا مؤبدا على فلان، وإن لم يذكر عقبه، أو ذكر العقب، فهو حبس مؤبد لا يرجع ملكا أبدا باتفاق. وإذا رجع الحبس إليه بانقراض المحبس عليه فهو يجعله في الذي يراه من سبل الخير، والقرابة الذين يرجع إليهم الحبس هم عصبته من الرجال ومن النساء من لو كان رجلا كان عصبته، ولا يرجع إلى زوجته، ولا إلى جدة لأم باتفاق. وقيل: لا مدخل للنساء كلهن أصلا. اهـ. 9 - قال ابن القاسم (¬2) : وقال مالك في الرجل يحبس الحبس على رجل وعقبه أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو يقول رجل: هذه الدار حبس على ولدي ولم يجعل له مرجعا بعدهم فانقرضوا- أن هذا الحبس موقوف لا يباع ولا يوهب، ويرجع إلى أولى الناس بالمحبس يكون حبسا عليه. ¬

_ (¬1) [كتاب العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام] (2\103) . (¬2) [المدونة] (4\ 343) .

قال ابن القاسم: قال مالك: إذا تصدق الرجل بداره على رجل وولده ما عاشوا ولا يذكر لهم مرجعا إلا صدقة هكذا لا شرط فيها، فيهلك الرجل وولده؟ قال: أرى أن ترجح حبسا على أقاربه في المساكين ولا تورث. 10 - قال الحطاب نقلا عن ابن رشد (¬1) : قال في [المقدمات] : وللتحبيس ثلاثة ألفاظ ... وإن تصدق بذلك على غير معين إلا أنهم محصورون، مثل أن يقول: داري صدقة على فلان وعقبه، هل ترجع بعد انقراض العقب مرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس أو تكون لآخر العقب ملكا مطلقا؟ على قولين: روى أشهب عن مالك: أنها تكون لآخر العقب ملكا مطلقا، وحكى ابن عبدوس: أنها ترجع مرجع الأحباس، وهو قول مالك وبعض رجاله في [المدونة] ، وقد قيل في المسألة قول ثالث: أن ذلك إعمار، وترجع بعد انقراض العقب إلى المصدق ملكا. اهـ. ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (6\28) .

11 - قال محمد بن يوسف العبدري - الشهير بابن المواق - على قول خليل: ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس وامرأة لو رجلت عصبت، قال ابن الحاجب (¬1) : إذا لم يتأبد رجع بعد انقطاع جهته ملكا لمالكه أو وارثه، وإذا تأبد رجع إلى عصبة المحبس من الفقراء، ثم للفقراء. ابن عرفة: في الهبات منها لو قال: حبس عليك وعلى عقبك، قال مع ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل لمختصر خليل] وهو على هامش [مواهب الجليل] للحطاب (6\ 29) .

ذلك: صدقة، أولا، فإنها ترجع بعد انقراضهم لأولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولده أو عصبته ذكورهم وإناثهم سواء يدخلون في ذلك حبسا، ولو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت لها حبسا لا يرجع إلى المحبس ولو كان حيا، وهي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء، فإن كانوا كلهم أغنياء فهي لأقرب الناس بهم من الفقراء. ونصها عند ابن يونس: قال مالك: من قال: هذه الدار حبس على فلان وعقبه، أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو قال: حبس على ولدي ولم يجعل لها مرجعا فهي موقوفة لا تباع ولا توهب، وترجع بعد انقراضهم حبسا على أولى الناس بالمحبس يوم الرجع وإن كان المحبس. فقيل لابن المواز: من أقرب الناس بالمحبس الذي يرجع إليهم الحبس بعد انقراض من حبس عليهم؟ فقال: قال مالك: على الأقرب من العصبة، ومن النساء من لو كانت رجلا كانت عصبة للمحبس، فيكون ذلك عليهم حبسا، قال مالك: ولا يدخل في ذلك ولد البنات ذكرا أو أنثى ولا بنو الأخوات ولا زوج ولا زوجة. قال ابن القاسم: وإنما يدخل من النساء مثل العمات، والجدات وبنات الأخ والأخوات أنفسهن شقائق كن أم لأب، ولا يدخل في ذلك الإخوة والأخوات لأم. محمد: واختلف في الأم فقال ابن القاسم: تدخل في مرجع الحبس، قلت: فإن كان ثم من سميت من النساء، وثم عصبة معهن والنساء أقرب؟ قال ابن القاسم: قال مالك: يدخلون كلهم إلا أن لا يكون سعة فليبدأ بإناث ذكور ولده على العصبة ثم الأقرب فالأقرب ممن سميت، وكذلك العصبة الرجال يبدأ بالأقرب فالأقرب ... إلخ، وإذا لم يكن إلا النساء كان لهن

على قدر الحاجة إلا أن يفضل عنهن. محمد: أحسن ما سمعت أن ينظر إلى حبسه أول ما حبس فإن كان إنما أراد المسكنة وأهل الحاجة جعل مرجعه كذلك على من يرجع، فإن كانوا أغنياء لم يعطوا منها، وإن كان إنما أراد مع ذلك القرابة وأثرتهم رجع عليهم وأوثر أهل الحاجة إن كان فيهم أغنياء. قاله مالك. اهـ. محمد: فإن لم يكن فيهم فقير ردت إليهم إذا استووا في الغنى وكان أولاهم فيها الأقرب فالأقرب والذكر والأنثى فيه سواء في المرجع، فإن اشترط أن للذكر مثل حظ الأنثيين فلا شرط له؛ لأنه لم يتصدق عليهم، ألا ترى أنه لو لم يكن أقعد به يوم المرجع إلا أخت أو بنت الابن ذلك لها وحدها، وكذلك إذا كان معها ذكر كان بينهما شطران. اهـ. 12 - وقال الحطاب على قول خليل: (ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبس) (¬1) قال: فإن كان أهل المرجع أغنياء، فقيل: يرجع إلى أولى الناس بهم، وقيل: يرجع إلى الفقراء والمساكين. انتهى من وشائق الجزيري. وقال في التوضيح ما يقتضي أن المشهور أنه يرجع إلى الفقراء. 13 - قال خليل (¬2) : ولا قبول مستحقة إلا المعين الأهل، فإن رد فكالمنقطع، قال ابن المواق على قول خليل: (فإن رد فكالمنقطع) ، ابن الحاجب لا يشترط قبول الموقوف عليه إلا إن كان معينا وأهلا، فإذا رد بذلك فقيل: يرجع ملكا، وقيل: يكون لغيره، وذلك من نص ابن رشد إن ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل] (6\29، 30) . (¬2) [التاج والإكليل] (6\32، 33) .

حبسه عليه بعينه فأبى أن ينفي ورجع إلى صاحبه وإلا دفع لغيره، وللشيخ من أمر بشيء لسائل فلم يقبله دفع لغيره، وقال مالك: من جمع له ثمن كفن ثم كفنه رجل من عنده رد ما جمع لأهله. قال ابن رشد: هذا موافق للمدونة إن فضلت للمكاتب فضلة ردت على الذين أعانوه. انظر نحو هذا في أول نوازل ابن سهل فيمن طاع بمال لأسير فهرب ذلك الأسير وأتى قومه بلا فداء، قال بعضهم: ذلك كالذي أخرج كسرة لمسكين فلم يجده، وقال ابن زرب: بل يرد إلى صاحبه، كما في سماع أصبغ في الجنائز: أن مالكا قال في قوم جمعوا دراهم يكفنون بها ميتا فكفنه رجل من عنده: إن الدراهم ترد إلى أهلها. وقال ابن القاسم: وفي سماع عبد الملك فيمن أوصى بدنانير لتنفق في بناء دار محبسة فاستحقت: أن الدنانير ترد إلى الورثة. اهـ. 14 - وقال ابن المواق أيضا على قول خليل: (وعلى اثنين وبعدهما على الفقراء نصيب من مات لهم) (¬1) ، قال ابن الحاجب: لو حبس على زيد وعمرو ثم على الفقراء فمات أحدهما- فحصته للفقراء، وإن كانت غلة، وإن كانت كركوب دابة وشبهه فروايتان. ابن عرفة: يؤخذان من قول مالك فيها: من حبس حائطا على قوم معينين فكانوا يلونه ويسقونه فمات أحدهم قبل طيب الثمرة فجميعها لبقية أصحابه وإن لم يلوا عملها، وإنما تقسم عليهم الغلة فنصيب الميت لرب النخل، ثم رجع مالك إلى رد ذلك لمن بقي، وبهذا أخذ ابن القاسم. ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل لمختصر خليل] (6\30) .

ابن عرفة: ففي نقل حظ معين من طبقة بموته لمن بقي فيها أو لمن بعدها قولان: بالأول أفتى ابن الحاج، وبالثاني أفتى ابن رشد، وألف كل منهما على صاحبه. اهـ. 15 - قال عبد الله بن عبد الله بن سلمون الكناني (¬1) : ولا تصرف غلات الأحباس بعضها إلى بعض فيما يحتاج إليه عند ابن القاسم، وقال غيره: يجوز صرف ذلك إلى المساجد التي لا أحباس لها، وذلك فيما فضل عما يحتاج إليه، وعلى القول الأول أكثر الرواة، وقال أصبغ وابن الماجشون في العتبية: إن الأحباس كلها إذا كانت لله تعالى جاز أن ينفق بعضها في بعض، والسلف كذلك، فمن أجاز صرف ذلك أجاز السلف، ومن لم يجزه منعه. وكتب شجرة إلى سحنون في مسجدين أو ثغرين متقاربين من المرابطات: وضع في هذا سلاح وفي هذا سلاح ينتفع به المرابطون فيحتاج أهل أحد الموضعين إلى ما في الآخر؛ لينتفعوا به، ويصرفوه: - أن كل موضع أولى بما فيه. وسئل ابن رشد في مسجد جامع تهدمت بلاطة داره وليس في مستقلات أملاكه ما يبنى منه بعد نفقات وقيده وأجرة أئمته وخدمته، وعندنا مساجد قد فضل من غلاتها كثير فهل ترى أن تبنى البلاطات من فضلات هذه المساجد أو أن تؤخذ على السلف إلى أن ترد من غلات المسجد الجامع، فقال: ما كان من المساجد لا يفضل من غلات أحباسها إلا يسير فلا يجوز أن يؤخذ منه شيء لبنيان الجامع؛ مخافة أن تقل ¬

_ (¬1) [العقد المنظم للحكام] (2\106) وما بعدها.

الغلة فيما يستقبل فلا تقوم بما يحتاج إليه، وما كان منها يفضل من غلاتها كثير حتى يؤمن احتياج المسجد إليها فيما يستقبل فجائز أن يبنى ما انهدم من الجامع بما إذا لم يكن في غلات أحباسه ما يبنى به ما انهدم منه على ما أجازه من تقدم من العلماء. وسئل أيضا في مسجد له غلة واسعة هل تستنفذ غلته في أجرة إمامه وحصره وزيت وقيده، ولا يوفر منها شيء، أو يوفر من غلته وتوقف؟ وهل يبتاع بها أصل ملك يكون حبيسا؟ فقال: لا يجوز أن تستنفذ غلة أحباس الجامع في أجرة إمامه وقومته وحصره وزيت وقيده، والواجب فيما فضل من غلته بعد أجرة إمامه المفروضة له بالاجتهاد، وبعد أجرة قومته وما يحتاج إليه من حصر وزيت بالسداد في ذلك دون سرف- أن توقف لما يحتاج إليه من نوابيه، ولما خشي من انتقاص غلته، وإن كان في الفاضل منها ما يبتاع به أصل ملك يكون كسبيل سائر أحباسه فذلك صوابه، ووجه من وجوه النظر. 16 - قال ابن المواق على قول خليل: (وفي كقنطرة لم يرج عودها في مثلها ولا وقف لها) (¬1) ابن عرفة شبه المصرف مثله إن تعذر، قال ابن المكوى: من حبس أرضا على مسجد فخرب وذهب أهله يجتهد القاضي في حبسه بما يراه ... ولأصبغ عن ابن القاسم في مقبرة عفت لا بأس ببنيانها مسجدا، وكلما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض. ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل] (6\31، 32) .

ومن نوازل البرزلي: بل الفتيلة من قنديل المسجد وأخذ زينته لا يجوز، ولو كان ذلك لمسجد آخر لجرى على الخلاف بين الأندلسيين والقرويين في صرف الأحباس بعضها في بعض، وعلى الجواز العمل اليوم، مثل صرف أحباس جامع الزيتونة لجامع الموحدين، وأخذ حصره السنة بعد السنة وزيته كذلك. وسئل ابن علاق عن حبس على طلاب العلم للغرباء أنه إن لم يوجد غرباء دفع لغير الغرباء، قال: ويشهد لهذا فتيا سحنون في فضل الزيت على المسجد أنه يؤخذ منه في مسجد آخر، وفتيا ابن دحون في حبس على حصن تغلب عليه يدفع في حصن آخر، قال: وما كان لله واستغني عنه فجائز أن يستعمل في غير ذلك الوجه ما هو لله، ومنها فتيا ابن رشد في فضل غلات مسجد زائدة على حاجته أن يبنى بها مسجد تهدم. وقال عياض: إن جعل حبسه على وجه معين غير محصور، كقوله حبس في السبيل أو في وقيد مسجد كذا، أو إصلاح قنطرة كذا، فحكمه حكم الحبس المبهم يوقف على التأبيد ولا يرجع ملكا، فإن تعذر ذلك الوجه بجلاء البلد أو فساد موضع القنطرة حتى يعلم أنه لا يمكن أن يبنى وقف إن طمع بعود إلى حاله أو صرف في مثله. اهـ. مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي: 1 - لا يشترط في صحة الوقف التأبيد ولا تعيين المصرف ولا الموقوف عليه، فيصح الوقف المنقطع أولا ووسطا وآخرا. والوقف الذي لم يذكر له مصرف أو ذكر ونسي أو جهل، فمن قال: حبست كذا من العقار أو المنقول، أو قال: وقفته، صح وقفه، وكان مؤبدا، ثم إن كان ببلد

الوقف عرف بوضع الأوقاف في مصرف معروف عمل به، وإلا فمصرفه الفقراء والمساكين، ومن حبس على غير معين مثل: حبست أو وقفت داري مثلا على ولدي أو على ولدي وولد ولدي ولم يسم أحدا أو على زيد وعقبه ولم يذكر مرجعا فهي حبس مؤبد، وترجع بعد انقراضهم وقفا على أقرب فقراء عصبة المحبس يوم رجوع الوقف إليهم من الرجال، ومن النساء من لو قدرت ذكرا لكانت عاصبا، ويستوي الذكر والأنثى في الاستحقاق، ولو قال الواقف: للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنهم استحقوه وقفا عند الانقراض بحكم الشرع لا بسبب إنشاء الواقف، وعلى ذلك لا تدخل الجدة من الأم ولا الإخوة والأخوات من الأم ولا الخالة ... إلخ. وتدخل العمة والأم وبنت الأخ وبنت الابن ... إلخ. وقيل: لا يدخل النساء في هذا أصلا، فإن كانوا كلهم أغنياء أو لم يوجدوا رجع إلى أقرب فقراء عصبتهم، فإن لم يوجدوا رجع إلى الفقراء. وقيل: ترد إليهم إذا استووا في الغنى وكان أولاهم فيها الأقرب فالأقرب، وإن لم يستووا في الغنى فلأدناهم غنى. ولا يدخل الواقف في ذلك ولو كان فقيرا، ولا يدخل أيضا مواليه ولو فقراء. أما إن حبس شيئا على معين أو قوم بأعيانهم وسماهم بأسمائهم، فإن قال: حبس صدقة، أو قال: حبس لا يباع ولا يوهب، أو قال: وعقبهم، فهو وقف مؤبد مرجعه عند الانقراض مرجع الوقف على غير المعين، وإن لم يقل: صدقة، ولا قال: لا تباع ولا توهب، ولا ذكر عقبا ولا مرجعا، فمعناه: أنه لهم مدة حياتهم فيكون إعمارا. وعلى ذلك يرجع بعد انقراضهم إلى المحبس إن كان حيا، وإلا فلورثته ملكا لا وقفا. وقيل:

يرجع إلى أقرب فقراء عصبة المحبس كالذي قبله. 2 - من وقف على زيد وعمرو مثلا وبعدهما على الفقراء فنصيب من مات منهما للفقراء لا للحي منهما، سواء قال حياتهما أم لا، احتياطا لجانب الفقراء. ومن وقف على قوم محصورين حياتهم أو حياة الواقف أو حياة زيد مثلا أو ذكر أجلا انتقل نصيب من مات منهم للحي من أصحابه ولو واحدا، احتياطا لجانب الموقوف عليهم؛ ليستمر الوقف عليهم حياتهم. فإذا انقرضوا جميعا رجع الحبس ملكا لواقفه، أو لوارثه إن كان قد مات، فإن لم يقل حياتهم، ولم يذكر أجلا رجع مراجع الأحباس على الأصح. 3 - من وقف حائطا على معينين فمات أحدهم قبل طيب الثمرة فنصيبه لأصحابه على كل حال، وهو الذي رجع إليه مالك. 4 - من وقف على أولاده ثم أولاد أولاده حجب كل فرد في الطبقة العليا فرعه فقط دون فرع غيره إلا إن جرى عرف بخلافه. 5 - من وقف على من سيولد صح الوقف، وتوقف الغلة إلى أن يوجد فيعطاها، فإن حصل مانع من وجوده كموت أو يأس رجعت الغلة للمالك إن كان حيا، وإلا فلورثته، وفي جواز بيع الواقف ذلك قبل اليأس قولان. 6 - يجب على من تولى الوقف أن يدخر من فاضل غلته ما ينفقه على الموقوف عليه عند الحاجة، وإن كان في فاضل الغلة ما يمكن أن يشترى به شيء للوقف اشتراه وضمه للأصل. 7 - لا تصرف غلات الأحباس بعضها إلى بعض، وقيل: يجوز صرف

فضل غلات حبس إلى حبس آخر لا أحباس له، أو له أحباس لا تكفيه. 8 - ما حبس على منفعة عامة كقنطرة ومدرسة ومسجد فخرب الموقوف عليه - فإن رجي عوده ادخرت غلة الوقف، لتصرف في ترميمه وإصلاحه أو في إعادته وإنشائه من جديد، وإن لم يرج عود الموقوف عليه صرفت في مثله حقيقة، كغلة مسجد في مسجد آخر، وإن لم يمكن صرفت في مثله نوعا بأن تصرف في قرية أخرى.

مذهب الشافعية

ج- مذهب الشافعية: 1 - قال الشيرازي (¬1) : وإن وقف وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه، أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان: أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأن القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام، وهذا لا يوجد في هذا؛ لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه. والثاني: أنه يصح، ويصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، ويقدم المسمى على غيره، فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب، والدليل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صدقة وذو رحم محتاج (¬2) » ، وروى سليمان بن عامر عن ¬

_ (¬1) [المهذب، (1\441، 442) . (¬2) قال الهيثمي في [مجمع الزوائد] : وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالمتروك، أما بقية رجاله فثقات.

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة (¬1) » ، - هذا الحديث أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وحسنه الترمذي - وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء فيه قولان: أحدهما: يختص به الفقراء؛ لأن مصرف الصدقات إلى الفقراء. والثاني: يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن في الوقف الغني والفقير سواء، وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء أو على رجل غير معين ثم على الفقراء - ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: يبطل قولا واحدا؛ لأن الأول باطل. والثاني فرع لأصل باطل فكان باطلا، ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: أنه باطل؛ لما ذكرناه والثاني: أنه يصح؛ لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن وصار الثاني أصلا، فإذا قلنا: إنه يصح فإن كان الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه. وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: ينقل في الحال إلى من بعده؛ لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يسمح الوقف عليه، فصار كالمعدوم. والثاني: وهو المنصوص أنه للواقف، ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده، لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء على حكمه. والثالث: أن يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزكاة (2582) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1844) ، مسند أحمد بن حنبل (4/214) ، سنن الدارمي الزكاة (1680) .

يجعل للفقراء؛ لأنه لا يمكن تركه على الواقف؛ لأنه أزال الملك فيه، ولا يمكن أن يجعل للفقراء؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق. وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ على ما ذكرنا من القولين. وقال أيضا: فصل: وإن وقف وقفا مطلقا ولم يذكر سبيله ففيه قولان: أحدهما: أن الوقف باطل؛ لأنه تمليك فلا يصح مطلقا، كما لو قال: بعت داري ووهبت مالي. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقا كالأضحية، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء وقد بيناه. اهـ. 2 - وقال محمد بن محمد أبو حامد الغزالي في أثناء الكلام على الركن الرابع (¬1) : وفي الوقف المنقطع آخره قولان. كما لو وقف على أولاده ولم يذكر من يصرف إليه بعدهم. فإن قلنا بالصحة فقولان في أنه هل يعود ملكا إلى الواقف أو إلى تركته بعد انقراضهم. فإن قلنا: لا يعود، فيصرف إلى أهم الخيرات. وقيل: إنه لأقرب الناس إليه، وقيل: إنه للمساكين، (و) وقيل: إنه للمصالح إذ أهم الخيرات أعمها. ولو قال: وقفت على من سيولد من أولادي فهو منقطع الأول فقولان كمنقطع الآخر. وقيل: يبطل قطعا؛ لأنه لا مقر له في الحال. وإن صححنا، فإذا وقف على عبده أو على وارثه وهو مريض ثم بعده على المساكين فهو منقطع الأول. ولو اقتصر ¬

_ (¬1) [الوجيز] (1\148) .

على قوله: وقفت، لم يصح (م) على الأظهر. وقيل يصح ثم يصرف إلى أهم الخيرات كما ذكرنا في منقطع الآخر. ولو وقف على شخصين وبعدهما على المساكين فمات أحدهما فنصيبه لصاحبه أو للمساكين فيه وجهان، فلو رد البطن الثاني وقلنا: يرتد برده فقد صار منقطع الوسط ففي مصرفه ما ذكرناه، وقيل: إنه يصرف إلى الجهة العامة المذكورة بعد انقراضهم في شرط الوقف. وقيل: يصرف إلى البطن الثالث ويجعل الذين ردوا كالمعدومين. 3 - قال النووي (¬1) : الشرط الرابع: بيان المصرف، فلو قال: وقفت هذا واقتصر عليه، فقولان، وقيل: وجهان، أظهرهما عند الأكثرين: بطلان الوقف، كقوله: بعت داري بعشرة أو وهبتها، ولم يقل لمن، ولأنه لو قال: وقفت على جماعة، لم يصح لجهاله المصرف. فإذا لم يذكر المصرف فأولى أن لا يصح. والثاني: يصح، وإليه ميل الشيخ أبي حامد، واختاره صاحب [المهذب] ، والروياني، كما لو نذر هديا أو صدقة ولم يبين المصرف، وكما لو قال: أوصيت بثلثي فإنه يصح ويصرف إلى المساكين، وهذا إن كان متفقا عليه فالفرق مشكل. قلت: الفرق: أن غالب الوصايا للمساكين، فحمل المطلق عليه، بخلاف الوقف، ولأن الوصية مبنية على المساهلة، فتصح بالمجهول والنجس وغير ذلك بخلاف الوقف. والله أعلم. فإن صححنا ففي مصرفه ¬

_ (¬1) [روضة الطالبين] (5\331، 332) .

الخلاف في منقطع الآخر إذا صححناه، وعن ابن سريج، يصرفه الناظر فيما يراه من البر، كعمارة المساجد والقناطر، وسد الثغور وتجهيز الموتى وغيرها. 4 - وقال النووي (¬1) : إذا وقف وقفا منقطع الآخر، بأن قال: وقفت على أولادي، أو قال: وقفت على زيد ثم على عقبه ولم يزد، ففي صحته ثلاثة أقوال: أظهرها عند الأكثرين: الصحة، منهم القضاة: أبو حامد، والطبري، والروياني، وهو نصه في [المختصر] . والثاني: البطلان وصححه المسعودي والإمام. والثالث: إن كان الموقوف عقارا فباطل، وإن كان حيوانا صح؛ لأن مصيره إلى الهلاك، وربما هلك قبل الموقوف عليه، فإن صححنا فإذا انقرض المذكور فقولان: أحدهما: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف، أو إلى ورثته إن كان مات، وأظهرهما: يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه: أصحها: وهو نصه في [المختصر] يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور، والثاني: إلى المساكين، والثالث: إلى المصالح العامة مصارف خمس الخمس، والرابع: إلى مستحقي الزكاة. فإن قلنا: إلى أقرب الناس إلى الواقف، فيعتبر قرب الرحم، أم استحقاق الإرث؟ وجهان: أصحهما الأول، فيقدم ابن البنت على ابن العم؛ لأن المعتبر صلة الرحم. وإذا اجتمع جماعة، فالقول في الأقرب كما سيأتي في الوصية للأقرب، وهل يختص بفقراء الأقارب، أم يشاركهم أغنياؤهم؟ قولان: ¬

_ (¬1) [روضة الطالبين] (5\326) .

أظهرهما الاختصاص، وهل هو على سبيل الوجوب أم الاستحباب؟ وجهان. وإن قلنا: يصرف إلى المساكين ففي تقديم جيران الواقف وجهان: أصحهما: المنع؛ لأنا لو قدمنا بالجوار، لقدمنا بالقرابة بطريق الأولى. 5 - وقال أيضا (¬1) : فرع: قال: وقفت هذا على زيد شهرا، على أن يعود إلى ملكي بعد الشهر فباطل على المشهور. وفي قول يصح، فعلى هذا، هل يعود ملكا بعد الشهر، أم يكون كالمنقطع حتى يصرف بعد الشهر إلى أقرب الناس إلى الواقف، قولان حكاهما البغوي. 6 - وقال أيضا (¬2) : الشرط الثاني: التنجيز، فلو قال: وقفت على من سيولد لي أو على مسجد سيبنى، ثم على الفقراء، أو قال: على ولدي ثم على الفقراء، ولا ولد له، فهذا وقف منقطع الأول، وفيه طريقان: أحدهما: القطع بالبطلان، والثاني: على القولين في منقطع الآخر، والمذهب هنا: البطلان، وهو نصه في [المختصر] فإن صححنا نظر، إن لم يمكن انتظار من ذكره كقوله: وقفت على ولدي ولا ولد له، أو على مجهول، أو ميت، ثم على الفقراء فهو في الحال مصروف إلى الفقراء، وذكر الأول لغو، وإن أمكن إما بانقراضه كالوقف على عبد، ثم على الفقراء، وإما بحصوله كولد سيولد له فوجهان: أحدهما: تصرف الغلة إلى الواقف حتى ينقرض الأول، وعلى هذا ¬

_ (¬1) [روضة الطالبين] (5\327) . (¬2) [روضة الطالبين] (5\327) .

ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان، والثاني: وهو الأصح تنقطع الغلة عن الواقف، وعلى هذا أوجه: أصحها: تصرف في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف، فإذا انقرض المذكور أولا صرف إلى المذكور بعده، وعلى هذا فالقول في اشتراط الفقر وسائر التفاريع على ما سبق، والثاني: يصرف إلى المذكورين بعده في الحال، والثالث: أنه للمصالح العامة. اهـ. 7 - وقال في أثناء الكلام على صور الانقطاع- قال (¬1) : الثالثة: متصل الطرفين منقطع الوسط، بأن وقف على أولاده ثم رجل مجهول، ثم الفقراء، فإن صححنا منقطع الآخر فهذا أولى، وإلا فوجهان: أصحهما: الصحة، ويصرف عند توسط الانقطاع إلى أقرب الناس إلى الواقف وإلى المساكين أو المصالح أو الجهة العامة المذكورة آخرا، فيه الخلاف السابق. الرابعة: أن ينقطع الطرفان دون الوسط، بأن وقف على رجل مجهول ثم على أولاده فقط، فإن أبطلنا منقطع الأول فهذا أولى، وإلا فالأصح بطلانه أيضا، فإن صححنا ففي من يصرف إليه الخلاف السابق. 8 - وقال في الكلام على اتباع شروط الواقف - قال (¬2) : ثم الوجهان فيما إذا قال: على أصحاب الحديث، فإذا انقرضوا فعلى عامة المسلمين، أما إذا لم يتعرض للانقراض ففيه خلاف، قلت: يعني: اختلفوا في صحة الوقف لاحتمال انقراض هذه الطائفة، والأصح أو الصحيح: الصحة. اهـ. 9 - وقال أيضا في الكلام على مسائل تتعلق بالباب الأول (¬3) - قال: ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (5\328) . (¬2) روضة الطالبين (5\330) . (¬3) روضة الطالبين (5\332- 333) .

الأولى: وقف على رجلين، ثم على المساكين، فمات أحدهما، ففي نصيبه وجهان: أصحهما وهو نصه في حرملة: يصرف إلى صاحبه. والثاني: إلى المساكين، والقياس: أن لا يصرف إلى صاحبه ولا إلى المساكين، بل صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط. قلت: معناه: يكون صرفه مصرف منقطع الوسط؛ لأنه يجيء خلاف في صحة الوقف. والله أعلم. 10 - وقال أيضا: الثانية: وقف على شخصين ولم يذكر من يصرف إليه بعدهما وصححنا الوقف فمات أحدهما فنصيبه للآخر، أم حكمه حكم نصيبهما إذا ماتا؟ فيه وجهان: الثالثة: وقف على بطون، فرد البطن الثاني، وقلنا: يرتد بردهم فهذا وقف منقطع الوسط، وسبق بيانه، وفيه قول أو وجه: أنه يصرف إلى البطن الثالث. 11 - وقال أيضا: السادسة: قال: جعلت داري هذه خانقاه للغزاة، لم تصر وقفا بذلك، ولو قال: تصدقت بها صدقة محرمة ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ولم يزد عليه، ففي صحة هذا الوقف وجهان. فإن صح، ففي الفاضل عن المقدار أوجه: أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، والثاني: إلى المساكين، والثالث: تكون ملكا للواقف.

12 - قال النووي والرملي في الكلام على شروط الواقف: ولا أثر

لتأقيت الاستحقاق، كعلى زيد سنة، ثم على الفقراء، أو إلا أن يولد لي ولد، كما نقله البلقيني عن الخوارزمي وجزم به ابن الصباغ، وجرى عليه في الأنوار، ولا للتأقيت الضمني في منقطع الآخر المذكور في قوله: (ولو قال: وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله) أو نحوهما مما لا يدوم ولم يزد على ذلك (فالأظهر: صحة الوقف) ؛ لأن مقصوده القربة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على سبيل الخير (فإذا انقرض المذكور) أو لم تعرف أرباب الوقف (فالأظهر أنه يبقى وقفا) ؛ لأن وضع الوقف الدوام، كالعتق، ولأنه صرفه عنه فلا يعود، كما لو نذر هديا إلى مكة فرده فقراؤها. والثاني: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف أو إلى ورثته إن كان مات؛ لأن بقاء الوقف بلا مصرف متعذر وإثبات مصرف لم يذكره الواقف بعيد فتعين ارتفاعه (و) الأظهر: (أن مصرفه أقرب الناس) رحما، لا إرثا؛ فيقدم وجوبا ابن بنت على ابن عم. ويؤخذ منه صحة ما أفتى به العراقي: أن المراد بما في كتب الأوقاف ثم الأقرب إلى الواقف أو المتوفى قرب الدرجة والرحم لا قرب الإرث والعصوبة فلا ترجيح بهما في مستويين في القرب من حيث الرحم والدرجة، ومن ثم قال: لم يرجح عم على خالة، بل هما مستويان، ويعتبر فيهم الفقر، ولا يفضل الذكر على غيره فيما يظهر (إلى الواقف) بنفسه (يوم انقراض المذكور) لأن الصدقة على الأقارب أفضل القربات، فإذا تعذر الرد للواقف تعين أقربهم إليه؛ لأن الأقارب مما حث الشرع عليهم في جنس الوقف لخبر طلحة: (أرى أن تجعلها في الأقربين) وبه فارق عدم

تعيينهم في نحو الزكاة على أن لهذه مصرفا عينه الشارع بخلاف الوقف، ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الريع لمصالح المسلمين، كما نص عليه البويطي في الأولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم الرازي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، أو قال: ليصرف من غلته لفلان كذا وسكت عن باقيها فكذلك، وصرح في الأنوار بعدم اختصاصه بفقراء بلد الوقف بخلاف الزكاة. أما الإمام إذا وقف منقطع الآخر فيصرف للمصالح لا لأقاربه، كما أفاده الزركشي وهو ظاهر (ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي) أو على مسجد سيبنى ثم على الفقراء مثلا (فالمذهب بطلانه) لتعذر الصرف إليه حالا ومن بعده فرعه. والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما: الصحة، وصححه المصنف في [تصحيح التنبيه] ولو لم يذكر بعد الأول مصرفا بطل قطعا؛ لأنه منقطع الأول والآخر، ولو قال: وقفت على أولادي ومن سيولد لي على ما أفصله، ففصله على الموجودين وجعل نصيب من مات منهم بلا عقب لمن سيولد له صح، ولا يؤثر فيه قوله: وقفت على أولادي ومن سيولد لي؛ لأن التفصيل بعده بيان له (أو) كان الوقف (منقطع الوسط) بالتحريك كوقفته على أولادي ثم) على (رجل) مبهم، وبه يعلم أنه لا يضر تردد في صفة أو شرط أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعينه، إذ لا يتحقق الانقطاع إلا مع الإبهام من كل وجه، (ثم الفقراء، فالمذهب صحته) ؛ لوجود المصرف حالا ومالا، ومصرفه عند الانقطاع كمصرف منقطع الآخر، لكن محله إن عرف أمد انقطاعه، فإن لم يعرف كرجل صرف بعد

موت الأول لمن بعد المتوسط كالفقراء، كما أفاده ابن المقري، وإطلاق الشارح ككثير محمول على ذلك (ولو اقتصر على) قوله: (وقفت) كذا ولم يذكر مصرفا أو ذكر مصرفا متعذرا كوقفت كذا على جماعة (فالأظهر بطلانه) وإن قال لله؛ لأن الوقف يقتضي تمليك المنافع، فإذا لم يعين متملكا بطل كالبيع، ولأن جهالة المصرف كعلى من شئت ولم يعينه عند الوقف أو من شاء الله يبطله فعدمه بالأولى، وإنما صح أوصيت بثلثي ولم يذكر مصرفا حيث يصرف للمساكين؛ لأن الغالب الوصايا لهم، فحمل الإطلاق عليه، ولأنها أوسع لصحتها بالمجهول والنجس، وما بحثه الأذرعي من أنه لو نوى المصرف وأعترف به صح، مردود. كما قاله الغزي بأنه لو قال: طالق ونوى زوجته لم يصح، لأن النية إنما تؤثر مع لفظ يحتملها، ولا لفظ هنا يدل على المصرف أصلا، ويؤخذ منه أنه لو قال في جماعة أو واحد: نويت معينا لا يصح، قيل: وهو متجه. 13 - قال النووي والمحلى (¬1) : (ولو قال: وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله ولم يزد فالأظهر: صحة الوقف) ويسمى: منقطع الآخر، والثاني: بطلانه لانقطاعه، والثالث: إن كان الموقوف حيوانا صح الوقف؟ إذ مصير الحيوان إلى الهلاك فقد يهلك قبل الموقوف عليه بخلاف العقار (فإذا انقرض المذكور) بناء على الصحة (فالأظهر: أنه يبقى وقفا) والثاني: يعود ملكا للواقف أو ورثته إن مات، (و) الأظهر على الأول (أن مصرفه أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور) لما فيه من صلة ¬

_ (¬1) قليوبي وعميرة ومعهما [المحلى على المنهاج] (3\102)

الرحم ويختص بفقراء قرابة الرحم فيقدم ابن البنت على ابن العم، والثاني: مصرفه للمساكين، والثالث: المصالح العامة مصارف خمس الخمس (ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي) ثم الفقراء (فالمذهب بطلانه) لانقطاع أوله، والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما: الصحة، ويصرف في الصورة المذكورة في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف على ما تقدم بيانه، وقيل: إلى المذكورين بعد الأول. ومن صوره وقفت على ولدي، ثم على الفقراء، ولا ولد له فيصرف على القول بالصحة في الحال إلى الفقراء، وذكر الأول لغو، (أو) كان الوقف (منقطع الوسط، كوقفت على أولادي، ثم رجل، ثم الفقراء، فالمذهب صحته) وقيل: لا يصح بناء على عدم الصحة في منقطع الآخر، وعلى الصحة يصرف بعد الأول فيه مصرف منقطع الآخر على الخلاف المتقدم فيه (ولو اقتصر على وقفت) كذا (فالأظهر بطلانه) لعدم ذكر مصرفه، والثاني: يصح، ويصرف مصرف منقطع الآخر على الخلاف المتقدم فيه. 14 - وقال قليوبي على قول النووي: (أقرب الناس) قال (¬1) : (قوله: أقرب الناس ... إلخ) إلا إن كان الواقف الإمام فيصرف لمصالح المسلمين وجوبا إن كانت أهم وإلا خير بينهما ومثل ذلك وقف جهلت أربابه. 15 - وقال أيضا على قول المحلى: (فيقدم) قال (¬2) : (قوله: فيقدم) ¬

_ (¬1) قليوبي وعميرة ومعهما [المحلى على المنهاج] (3\102) . (¬2) قليوبي وعميرة ومعهما [المحلى على المنهاج] (3\102) .

أي: وجوبا ولا يفضل ذكر على أنثى، ويستوي خال وعمة لاستوائهما قربا. 16 - وقال قليوبي أيضا (¬1) : (قوله: والثاني مصرفه المساكين.. إلخ) حمل على ما إذا فقد الأقارب أو كانوا كلهم أغنياء. 17 - وقال أيضا (¬2) : (قوله: المصالح العامة) حمل على كونه الأهم، أو فقد من قبله ولا يختص بفقراء بلد الواقف أو الوقف بخلاف الزكاة. (فرع) لو قال الواقف: يصرف من ريعه لفلان كذا وسكت عن باقيه فحكم ذلك الباقي ما ذكر، قال عميرة (¬3) : (قول الشارح: المساكين) هل المراد مساكين بلد الواقف أو الوقف؛ الظاهر: الثاني نظرا إلى اعتبارهم في الزكاة فقراء بلد المال. تنبيه: منقطع الأول فيه تعليق ضمني، كما أن منقطع الآخر فيه تأقيت ضمني. 18 - وقال الرملي على قول النووي: (ولو وقف على شخصين) كهذين (ثم الفقراء) مثلا (فمات أحدهما، فالأصح المنصوص: أن نصيبه يصرف إلى الآخر) ؛ لأن شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا ولم يوجدوا إذا امتنع الصرف إليهم، فالصرف لمن ذكره الواقف أولى، والثاني: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا، ومحل الخلاف ما لم يفصل وإلا بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا، فهما وقفان كما ¬

_ (¬1) قليوبي وعميرة (3\102) . (¬2) قليوبي وعميرة (3\102) (¬3) قليوبي وعميرة (3\102)

ذكره السبكي، فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر، بل الأقرب انتقاله للفقراء إن قال: ثم على الفقراء، فإن قال: ثم من بعدهما على الفقراء فالأقرب انتقاله للأقرب إلى الواقف، ولو وقف عليهما وسكت عمن يصرف له بعدهما فهل نصيبه للآخر منهما أو لأقرباء الواقف؟ وجهان: أوجههما كما أفاده الشيخ: الأول، وصححه الأذرعي، ولو رد أحدهما أو بان ميتا فالقياس على الأصح صرفه للآخر، ولو وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم الفقراء، فمات عمرو قبل زيد، ثم مات زيد، قال الماوردي والروياني: لا شيء لبكر، وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء؛ لأنه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا، فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئا، وقال القاضي في فتاويه: الأظهر: أن يصرف إلى بكر؛ لأن استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، كما لو وقف على ولده ثم ولد ولده ثم الفقراء، فمات ولد الولد ثم الولد، يرجع للفقراء، ويوافقه فتوى البغوي في مسألة حاصلها: أنه إذا مات واحد من ذرية الواقف في وقف الترتيب قبل استحقاقه للوقف لحجبه بمن فوقه يشارك ولده من بعده عند استحقاقه. قال الزركشي: وهذا هو الأقرب. ولو وقف على أولاده فإذا انقرض أولادهم فعلى الفقراء، فالأوجه - كما صححه الشيخ أبو حامد - أنه منقطع الوسط؛ لأن أولاد الأولاد لم يشرط لهم شيئا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم، واختار ابن أبي عصرون دخولهم وجعل ذكرهم قرينة على استحقاقهم، واختاره الأذرعي.

19 - قال النووي والمحلى (¬1) : (ولو وقف على شخصين) معينين (ثم الفقراء فمات أحدهما فالأصح المنصوص: أن نصيبه يصرف إلى الآخر) لأنه أقرب إلى غرض الواقف، والثاني: يصرف إلى الفقراء كنصيبهما إذا ماتا، قال في المحرر: كالشرح والقياس أن يجعل الوقف في نصيبه منقطع الوسط، قال في الروضة: معناه يكون مصرفه مصرف منقطع الوسط لا أنه يجيء خلاف في صحة الوقف. انتهى، ويوافق البحث حكاية وجه بعده بالصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. 20 - قال قليوبي (¬2) : (قوله: على شخصين) أي: ولم يفصل وإلا كأن قال: لهذا نصفه ولذاك نصفه فهما وقفان، ثم إن كان قال: ثم الفقراء، صرف نصيب الميت لهم، وإن كان قال: ثم من بعدهما للفقراء كان للآخر. 21 - وقال النووي والمحلى (¬3) (ولو انهدم مسجد وتعذرت إعادته لم يبع بحال) لإمكان الصلاة فيه في الحال. 22 - قال قليوبي: قوله: ولو انهدم مسجد، أي: وتعذرت الصلاة فيه لخراب ما حوله مثلا. 23 - وقال قليوبي أيضا: (قوله: وتعذرت إعادته) أي: بنقضه، ثم إن رجي عوده حفظ نقضه وجوبا، ولو بنقله إلى محل آخر إن خيف عليه لو بقي، وللحاكم هدمه ونقل نقضه إلى محل أمين إن خيف على أخذه لو لم ¬

_ (¬1) [المنهاج] وشرحه [للمحلى] ، ومعهما قليوبي وعميرة (3\103) (¬2) قليوبي وعميرة (3\103) . (¬3) [المنهاج] وشرح [المحلى] عليه، ومعهما قليوبي وعميرة: (3\108)

يهدم، فإن لم يرج عوده بني به مسجد آخر، لا نحو مدرسة، وكونه بقربه أولى فإن تعذر المسجد بني به غيره، وأما غلته التي ليست لأرباب الوظائف وحصره وقناديله فكنقضه، وإلا فهي لأربابها، وإن تعذرت لعدم تقصيرهم كمدرس لم تحضر طلبته. 24 - ومن هامش كتاب [طبقات الشافعية الكبرى] ، قوله (¬1) : قال الأزهري في كتابه [الزاهر في شرح غريب ألفاظ المختصر] ، في أواخر باب قسم الصدقات ما نصه: ومما يدل على تقديم الأقارب أيضا أن الأصحاب قالوا: إذا صححنا الوقف المنقطع الآخر وانقرض الموقوف عليه فالأظهر: أنه يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه: أصحها: إلى أقرب الناس إلى الواقف، والثاني: إلى المساكين، والثالث: إلى المصارف العامة، مصارف خمس الخمس، والرابع: إلى مستحقي الزكاة. قالوا: وإن قلنا بالثاني، وهو الصرف إلى المساكين، ففي تقديم جيران الواقف وجهان: أصحهما: المنع، قالوا: لأنا لو قدمنا بالجوار لقدمنا بالقرابة بطريق أولى، فهذا يرشد إلى أن تقديم القرابة على الجوار أمر مفروغ منه. بخلاف إمام لم يحضر من يصلي معه فلا يستحق إلا إن صلى في البقعة وحده؛ لأن عليه فعل الصلاة فيه وكونه إماما، فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر، وهذا في مسجد تمكن فيه تلك الوظائف، وإلا كمسجد محاه ¬

_ (¬1) [طبقات الشافعية الكبرى] لعبد الوهاب السبكي (3\65، 68)

البحر مثلا وصار داخل اللجة فينبغي نقل وظائفه، أي: مع بقائها مع أربابها لما ينقل إليه نقضه. تنبيه: علم مما ذكر أنه يقدم حفظ غلته لرجاء عوده، فإن تعذر صرفت إلى أقرب المساجد إن احتيج إليها، وإلا صرفت لأقرب الناس إلى الواقف إن وجدوا وإلا فللفقراء، وعلى ذلك يحمل ما في كلامهم من التناقض. تنبيه: لو زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقا ادخر لعمارته، وله شراء شيء به مما فيه زيادة غلته، ولو زاد ريع ما وقف لعمارته لم يشتر منه شيء، ويقدم عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقين، وإن لم يشترطه الواقف كذا في العباب. ويجب على ناظر الوقف ادخار شيء مما زاد من غلته لعمارته وشراء عقار بباقيه، وأفتى بعض المتأخرين بجواز الاتجار فيه إن كان من وقف مسجد وإلا فلا. مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي: 1 - قيل: يشترط في صحة الوقف اتصاله ودوامه، لأن المقصود منه اتصال الثواب على الدوام، وعليه يكون الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط أو الآخر باطلا، فيرجع إلى الواقف إن كان حيا وإلى ورثته إن كان قد مات، وقيل: لا يشترط ذلك، فيصح الوقف المنقطع بجميع أنواعه، واختلف في مرجعه حين الانقطاع. أما منقطع الآخر فقيل: يعود بعد انقراض الموقوف عليهم إلى الواقف إن كان حيا، لا فلورثته، وقيل: لأهم أبواب الخيرات وأعمها، وقيل: للمساكين، وقيل: لمستحقي الزكاة، وقيل: لأقرب الناس إلى الواقف رحما لا إرثا ولا عصوبة؛ لأن صلتهم أعظم جهات البر ثوابا، للآثار

الواردة في ذلك؛ فيقدم وجوبا ابن بنت على عم، وتستوي الخالة والعم، ويستوي الذكر والأنثى، وهل يختص به فقراؤهم؟ قال النووي: وهو الأظهر؛ لأنهم موضع الصدقات، وأولى بالمعروف والإحسان أو يشترك معهم الأغنياء؛ لأنه عاد إليهم وقفا، والوقف يصلح أن يكون على الأغنياء كما يصلح أن يكون على الفقراء. وإن كان منقطع الابتداء، كوقفت كذا على رجل، أو من سيولد لي، ثم على الفقراء صرف إلى من بعد المجهول؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه، فسقط حكمه، أما إن أمكن اعتبار انقراضه، مثل: وقفت على عبدي، ثم الفقراء ففي مصرفه خلاف، قيل: يصرف إلى من بعده حيث لم يصح الوقف عليه فكان لغوا، وقيل: يرجع إلى الواقف إن كان حيا وإلا فلورثته إلى أن ينقرض الموقوف عليه؛ لأنه لم يوجد شرط انتقاله إلى من بعده، وقيل: يرجع إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه؛ لأنه قد زال ملك الواقف عنه بالوقف، ولم يوجد شرط انتقاله إلى من بعده، فكان أقرباء الواقف أحق به؛ لما ورد في ذلك من الآثار، وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك معهم الأغنياء؟ فيه الخلاف السابق، وقيل: يصرف في المصالح العامة حتى ينقرض الموقوف عليه، وإن كان منقطع الوسط ففي مصرفه زمن الانقطاع على تقدير صحته الخلاف السابق. 2 - يشترط في الوقف بيان المصرف؛ لأنه تمليك المنافع فأشبه البيع والهبة، وقيل: لا يشترط بيانه، لأنه تبرع وإحسان، فأشبه الصدقة والهدي والضحية والوصية، وعلى الأول يكون الوقف باطلا إن لم يبين المصرف ويعود إلى الواقف أو ورثته، وعلى الثاني يكون في مصرفه الخلاف السابق

في الوقف المنقطع الآخر، وقيل: يصرفه ناظر الوقف فيما يراه من وجوه البر. 3 - من وقف على رجلين مثلا وعينهما ثم على المساكين فمات أحدهما ففي مرجع نصيبه وجهان: أصحهما: أنه يصرف إلى الباقي منهما، حيث لم يوجد شرط نقله إلى المساكين، والثاني: أنه يصرف للمساكين. والقياس أنه لا يصرف للباقي منهما ولا للمساكين، بل حكمه حكم الوقف المنقطع الوسط، وقد تقدم بيانه، هذا ما لم يفصل، بأن يقول: وقفت على كل منهما، وإلا انتقل نصيب من مات للفقراء؛ لأن الوقف على كل مستقل، أو يقول: ثم من بعدهما إلى الفقراء، وإلا عاد نصيب من مات للباقي منهما، فإن لم يذكر مصرفا بعد من عينهما أو عينهم، فهل نصيب من مات منهم لمن بقي أو حكمه حكم نصيبهما إذا ماتا؟ فيه وجهان: أوجههما الأول. 4 - من وقف على بطون فرد البطن الثاني فعلى تقدير صحة الرد يكون منقطع الوسط، وقد تقدم بيان لخلاف في مصرفه، وقيل: ينتقل إلى البطن الثالث؛ لأن المراد في حكم المعدوم. 5 - من قال: تصدقت بداري -مثلا- صدقة محرمة ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ففي صحة هذا الوقف وجهان، وعلى تقدير الصحة ففي مصرف الفاضل أوجه: الأول: أن يصرف لأقرب الناس إلى الواقف؛ لما تقدم، الثاني: يصرف للمساكين، الثالث: يكون ملكا للواقف. 6 - إذا زاد ريع ما وقف على المسجد لمصالحه أو مطلقا وجب على

ناظر الوقف ادخار ما زاد من الغلة ليعمر بها، وله شراء شيء بما زاد مما فيه زيادة غلته، وله الاتجار فيه لمصلحة المسجد، ولو زاد ريع ما وقف لعمارته لم يشتر منه شيء، وقدمت عمارة عقاره على عمارته وعلى المستحقين، وإن لم يشترط ذلك الواقف. 7 - إذا انهدم مسجد أو تداعى وأمكن إعادته أو إصلاحه بنقضه في الحال وجب ذلك، وإلا وجب حفظ نقضه إن رجي عوده بعد، فإن تعذر عوده بني أو رمم به مسجد آخر، والأولى أن يكون قريبا منه قدر الإمكان، وإن تعذر ذلك جعل في مرفق آخر كمدرسة أو مساكن لطلبة العلم. وكذا الحكم في حصره وقناديله وغلته التي ليست لأرباب الوظائف فيه. أما ما كان من الغلة لأرباب وظائفه فهو لهم، كمدرس لم تحضر طلبته، ونقلوا في مسجد آخر مثلا في مثل وظائفهم، ولا يستحق الإمام ما جعل له من الغلة إلا إذا صلى في بقعة المسجد ولو منفردا إن أمكن، وإلا نقل أيضا في مثل عمله إلى مسجد آخر. والله الموفق.

مذهب الحنابلة

د- مذهب الحنابلة: 1 - قال ابن قدامة (¬1) : إذا ثبت هذا- أي: صحة المنقطع الانتهاء- فإنه ينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، وبه قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى: أنه ينصرف إلى المساكين، واختاره القاضي، والشريف أبو جعفر؛ لأنه مصرف الصدقات وحقوق الله تعالى من الكفارات ونحوها، فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف انصرفت ¬

_ (¬1) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\215) .

إليهم، كما لو نذر صدقة مطلقة، وعن أحمد رواية ثالثة: أنه يجعل في بيت مال المسلمين؛ لأنه مال لا مستحق له، فأشبه مال من لا وارث له. وقال أبو يوسف: يرجع إلى الواقف وإلى ورثته، إلا أن يقول: صدقة موقوفة، ينفق منها على فلان وعلى فلان، فإذا انقرض المسمى كانت للفقراء والمساكين؛ لأنه جعلها صدقة على مسمى، فلا تكون على غيره، ويفارق ما إذا قال: ينفق منها على فلان وفلان، فإنه جعل الصدقة مطلقة. ولنا: أنه أزال ملكه لله تعالى، فلم يجز أن يرجع إليه كما لو أعتق عبدا. والدليل على صرفه إلى أقارب الواقف: أنهم أولى الناس بصدقته، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة» ، وقال: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (¬1) » ، ولأن فيه إغناءهم وصلة أرحامهم؛ لأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل والمفروضات، كذلك صدقته المنقولة. إذا ثبت هذا فإنه في ظاهر كلام الخرقي، وظاهر كلام أحمد: يكون للفقراء منهم والأغنياء؛ لأن الوقف لا يختص الفقراء، ولو وقف على أولاده تناول الفقراء والأغنياء، كذا هاهنا. وفيه وجه آخر: أنه يختص الفقراء منهم؛ لأنهم أهل الصدقات دون الأغنياء، ولأننا خصصناهم بالوقف لكونهم أولى الناس بالصدقة، وأولى الناس بالصدقة الفقراء دون الأغنياء. واختلفت الرواية في من يستحق الوقف من أقرباء الواقف، ففي إحدى الروايتين: يرجع إلى الورثة منهم؛ لأنهم الذين صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه، فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3936) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2708) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .

مصرفا. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (¬1) » . فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم، ويكون وقفا عليهم، نص عليه أحمد، وذكره القاضي؛ لأن الوقف يقتضي التأبيد وإنما صرفناه إلى هؤلاء؛ لأنهم أحق الناس بصدقته، فصرف إليهم مع بقائه صدقة. ويحتمل كلام الخرقي أنه يصرف إليهم على سبيل الإرث، ويبطل الوقف فيه. فعلى هذا يكون كقول أبي يوسف. والرواية الثانية: يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف، دون بقية الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات، فيقدم الأقرب فالأقرب على حسب استحقاقهم لولاء الموالي، لأنهم خصوا بالعقل عنه، وبميراث مواليه، فخصوا بهذا أيضا، وهذا لا يقوى عندي، فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع أو قياس، ولا نعلم فيه نصا، ولا إجماعا، ولا يصح قياسه على ميراث ولاء الموالي؛ لأن غلته لا تتحقق هاهنا. وأقرب الأقوال فيه: صرفه إلى المساكين؛ لأنهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه، فإن كان في أقارب الواقف مساكين كانوا أولى به، لا على سبيل الوجوب، كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم، ولأننا إذا صرفناه إلى أقاربه على سبيل التعيين، فهي أيضا جهة منقطعة، فلا يتحقق اتصاله إلا بصرفه إلى المساكين. وقال الشافعي: يكون وقفا على أقرب الناس إلى الواقف، الذكر والأنثى فيه سواء. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3936) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3626) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2708) ، مسند أحمد بن حنبل (1/179) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .

2 - وقال ابن قدامة أيضا (¬1) : فصل: فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء والمساكين وقفا عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وإنما قدمنا الأقارب على المساكين لكونهم أولى، فإذا لم يكونوا فالمساكين أهل لذلك، فصرف إليهم إلا على قول من قال: إنه يصرف إلى ورثة الواقف ملكا لهم فإنه يصرف عند عدمهم إلى بيت المال؛ لأنه بطل الوقف فيه بانقطاعه، وصار ميراثا لا وارث له، فكان بيت المال به أولى. 3 - وقال أيضا (¬2) : فصل: فإن قال: وقفت هذا، وسكت، أو قال: صدقة موقوفة، ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه. وقال ابن حامد: يصح الوقف. قال القاضي: هو قياس قول أحمد، فإنه قال في النذر المطلق: ينعقد موجبا لكفارة يمين. وهذا قول مالك، والشافعي في أحد قوليه؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فوجب أن يصح مطلقه؛ كالأضحية والوصية، ولو قال: وصيت بثلث مالي صح، وإذا صح صرف إلى مصارف الوقف المنقطع بعد انقراض الموقوف عليه. 4 - وقال أيضا (¬3) : وإن وقف على من يجوز الوقف عليه، ثم على من لا يجوز الوقف عليه، مثل: أن يقف على أولاده ثم على البيع، صح الوقف أيضا، ويرجع بعد انقراض من جاز الوقف عليه إلى من يصرف إليه ¬

_ (¬1) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\217) . (¬2) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\217) . (¬3) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\218) .

الوقف المنقطع؛ لأن ذكره لمن لا يجوز الوقف عليه وعدمه واحد، ويحتمل أن لا يصح الوقف؛ لأنه جمع بين ما يجوز وما لا يجوز فأشبه تفريق الصفقة. 5 - وقال أيضا (¬1) : فصل: وإن كان الوقف منقطع الابتداء، مثل أن يقفه على من لا يجوز الوقف عليه كنفسه، أو أم ولده، أو عبده، أو كنيسة، أو مجهول، فإن لم يذكر له مآلا يجوز الوقف عليه فالوقف باطل، وكذلك إن جعل مآله مما لا يجوز الوقف عليه؛ لأنه أخل بأحد شرطي الوقف فبطل، كما لو وقف ما لا يجوز وقفه، وإن جعل له مآلا يجوز الوقف عليه، مثل: أن يقفه على عبده، ثم على المساكين ففي صحته وجهان، بناء على تفريق الصفقة، وللشافعي فيه قولان، كالوجهين، فإذا قلنا: يصح، وهو قول القاضي، وكان من لا يجوز الوقف عليه ممن لا يمكن اعتبار انقراضه؛ كالميت والمجهول والكنائس- صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأننا لما صححنا الوقف مع ذكر ما لا يجوز الوقف عليه فقد ألغيناه؛ فإنه يتعذر التصحيح مع اعتباره. وإن كان من لا يجوز الوقف عليه يمكن اعتبار انقراضه، كأم ولده، وعبد معين، ففيه وجهان: أحدهما: أنه ينصرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه، كالتي قبلها، ذكره أبو الخطاب. والثاني: أنه ينصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع، إلى أن ¬

_ (¬1) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\218) .

ينقرض من لا يجوز الوقف عليه، فإذا انقرض صرف إلى من يجوز. وهذا الوجه الذي ذكره القاضي، وابن عقيل؛ لأن الواقف إنما جعله وقفا على من يجوز بشرط انقراض هذا، فلا يثبت بدونه، وفارق ما لا يمكن اعتبار انقراضه، فإنه تعذر اعتباره، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين. اهـ. 6 - وقال (¬1) أيضا: فصل: وإن كان الوقف صحيح الطرفين، منقطع الوسط، مثل: أن يقف على ولده ثم على عبيده ثم على المساكين خرج في صحة الوقف وجهان، كمنقطع الانتهاء، ثم ينظر فيما لا يجوز الوقف عليه، فإن لم يمكن اعتبار انقراضه ألغيناه إذا قلنا بالصحة، وإن أمكن اعتبار انقراضه فهل يعتبر أو يلغى؟ على وجهين، كما تقدم، وإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط، كرجل وقف على عبيده، ثم على أولاده، ثم على الكنيسة خرج في صحته أيضا وجهان، ومصرفه بعد من يجوز إلى مصرف الوقف المنقطع. اهـ. 7 - وذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (¬2) قوله: وأما الوقف الذي لم يذكر له مصرف إذا انقرض الموقوف عليهم فمشهور المذهب أنه يكون لورثة الواقف وقفا عليهم نسبا بقدر إرثهم، ويقع الحجب بينهم، فللبنت مع الابن الثلث والباقي له، وإن كان الوارث أخا شقيقا وأخا لأب انفرد به الشقيق. ¬

_ (¬1) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\219) . (¬2) [الدرر السنية] ، المجلد الثاني، الجزء الخامس (246) .

وقال ابن أبي موسى: يكون ملكا للورثة، قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد، وقال الشافعي: يكون وقفا على أقرب الناس للواقف، الذكر والأنثى فيه سواء، واختار الموفق: أنه يصرف إلى المساكين، وهو رواية عن أحمد، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أحق به من غيرهم لا على سبيل الوجوب. اهـ. 8 - قال ابن قدامة (¬1) : فصل: ولا يشترط القبول إلا أن يكون على آدمي معين، ففيه وجهان: أحدهما: يشترط ذلك، فإن لم يقبله أو رده بطل في حقه دون من بعده، وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز، يصرف في الحال إلى من بعده، وفيه وجه آخر: أنه إن كان من لا يجوز يعرف انقراضه، كرجل معين، صرف إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض، ثم يصرف إلى من بعده، وإن وقف على جهة تنقطع، ولم يذكر له مآلا، وكذا على من يجوز ثم على من لا يجوز، أو قال: وقفت، وسكت، انصرف بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى ورثة الواقف وقفا عليهم في إحدى الروايتين، والأخرى إلى أقرب عصبته، وهل يختص به فقراؤهم؟ على وجهين: وقال القاضي في موضع: يكون وقفا على المساكين. وإن قال: وقفته سنة لم يصح. ويحتمل أن يصح، ويصرف بعدها مصرف المنقطع. 9 - وفي حاشية المقنع (¬2) قوله: (وكان كما لو وقف على من لا ¬

_ (¬1) [المقنع] (2\314) وما بعدها. (¬2) [حاشية المقنع] (2\314) .

يجوز. . .) إلخ هذا الوقف المنقطع الابتداء، وهو صحيح على الصحيح من المذهب؛ لأن الواقف قصد صيرورة الوقف إليه في الجملة، ولا حالة يمكن انتظارها، فوجب الصرف إليه لئلا يفوت غرض الواقف، ولئلا تبطل فائدة الصحة. 10 - وفيها أيضا (¬1) قوله: (وإن وقف على جهة تنقطع) وجملة ذلك ... وإن كان غير معلوم الانتهاء، وهي مسألة الكتاب، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين ولا لجهة غير منقطعة، فالمذهب: الصحة، وبه قال مالك، وأبو يوسف، والشافعي في أحد قولين؛ لأنه معلوم المصرف فصح، كما لو صرح بمصرفه؛ إذ المطلق يحمل على العرف، كنقد البلد، وحينئذ يصرف إلى ورثة الواقف وقفا عليهم، وهذا المذهب؛ لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «صدقتك على غير ذي رحمك صدقة، وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (¬2) » ، ولأنهم أولى الناس بصدقاته النوافل، فعليها يقسم على قدر إرثهم، جزم به في [الفروع] وغيره، قال القاضي: فللبنت مع الابن الثلث، وله الباقي، وللأخ من الأم مع الأخ للأب السدس، وله ما بقي، وإن كان أخ وجد قاسمه، وإن كان أخ وعم انفرد به الأخ، وإن كان عم وابن عم انفرد به العم. ¬

_ (¬1) [حاشية المقنع] (2\315) وما بعدها. (¬2) صحيح البخاري المناقب (3936) ، صحيح مسلم الوصية (1628) ، سنن الترمذي الوصايا (2116) ، سنن النسائي الوصايا (3628) ، سنن أبو داود الوصايا (2864) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2708) ، موطأ مالك الأقضية (1495) ، سنن الدارمي الوصايا (3196) .

وقال الحارثي: وهذا تخصيص بمن يرث من الأقارب في حال دون حال، وتفضيل لبعض على بعض، ولو وقف على أقاربه لما قالوا فيه بهذا. التخصيص والتفضيل، وكذا لو وقف على أولاده أو أولاد زيد لا يفضل فيه الذكر على الأنثى، وقد قالوا هنا: إنما ينتقل إلى الأقارب وقفا. انتهى. فظاهر كلامه أنه مال إلى عدم المفاضلة وما هو ببعيد، قاله صاحب [الإنصاف] ، قال في [الفائق] : وعنه في أقاربه ذكرهم وأنثاهم بالسوية، ويختص به الوارث. انتهى. 11 - ومنها أيضا (¬1) قوله: (وكذا إذا وقف على من يجوز) الوقف عليه كأولاده (ثم على من لا يجوز، أو وقفه وسكت) فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسبا حين الانقراض. 12 - وفيها أيضا (¬2) فائدتان: إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها في حياة الواقف، بأن وقف على أولاده، أو أولاد زيد فقط فانقرضوا في حياته رجع الوقف إلى الواقف وقفا عليه، ولو وقف على أولاده وأنسالهم، على أنه من توفي منهم من غير ولد رجع نصيبه إلى أقرب الناس إليه، فتوفي أحد أولاد الواقف من غير ولد، والأب الواقف حي فهل يعود نصيبه إليه؛ لكونه أقرب الناس إليه أم لا؟ تخرج على ما قبلها. والتي قبلها هي ما ذكرها بقوله: قوله: (وكذا إذا وقف على من يجوز الوقف عليه كأولاده، ثم على من لا يجوز، أو وقفه وسكت؛ فإنه يصرف إلى ورثة الواقف نسبا حين ¬

_ (¬1) [حاشية المقنع] (2\316) . (¬2) [حاشية المقنع] (2\316) .

الانقراض) . 13 - ومنها أيضا (¬1) : الثانية: للوقف صفات: إحداهما: متصل الابتداء والوسط والانتهاء. الثانية: منقطع الابتداء متصل الانتهاء. الثالثة: متصل الابتداء منقطع الانتهاء، عكس الذي قبله. الرابعة: متصل الابتداء والانتهاء منقطع الوسط. الخامسة: عكس الذي قبله: منقطع الطرفين صحيح الوسط، وأمثلتها واضحة، وكلها صحيحة على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب. السادسة: منقطع الأول والوسط والآخر، مثل: أن يقف على من لا يصح الوقف عليه ويسكت، أو يذكر ما لا يصح الوقف عليه أيضا، فهذا باطل بلا نزاع بين الأصحاب، فالصفة الأولى: هي الأصل في كلام المصنف وغيره، والصفة الثانية: تؤخذ من كلام المصنف حيث قال: وكان كما لو وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز. والصفة الثالثة: تؤخذ من كلامه أيضا حيث قال: وإن وقف على جهة تنقطع ولم يذكر له مآلا، أو على من يجوز ثم على من لا يجوز، والرابعة والخامسة لم يذكرهما المصنف، لكن الحكم واحد. 14 - ومنها أيضا (¬2) : قوله: (والأخرى إلى أقرب عصبته) أي: لأنهم أقاربه وأولى الناس ببره؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «ابدأ بمن تعول، ¬

_ (¬1) [المقنع] وعليه الحاشية (2\316) . (¬2) [حاشية المقنع] (2\316) .

أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك (¬1) » رواه النسائي، فعلى الروايتين يكون وقفا على الصحيح من المذهب؛ لأن الملك زال بالوقف فلا يعود ملكا، نص عليه، وعنه يكون ملكا، قال في [الفائق] : وقيل: يكون ملكا، اختاره الخرقي، قال في [المغني] : ويحتمله كلام الخرقي، قال في [الفائق] : وقال ابن أبي موسى: إن رجع إلى الورثة كان ملكا بخلاف العصبة، قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد، قال في الشرح: وقال شيخنا: ولا يقوى عندي رجوعه إليهم، فإن استحقاقهم لهذا دون غيرهم من الناس لا يكون إلا بدليل من نص أو إجماع، ولا نعلم فيه نصا ولا إجماعا. ولا يصح قياسه على ميراث، ولا الوالي؛ لأن علته لا تحقق هاهنا، وأقرب الأقوال فيه صرفه إلى المساكين، وهو رواية ثالثة عن أحمد، واختارها جماعة من الأصحاب؛ لأنهم مصارف مال الله تعالى وحقوقه، فإن كان في أقارب الواقف مساكين كانوا أولى به لا على سبيل الوجوب، كما أنهم أولى بزكاته وصلاته مع جواز الصرف إلى غيرهم، فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب فانقرضوا صرف إلى الفقراء والمساكين وقفا عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري عليه على وجه الدوام، وهذا الصحيح من المذهب. اهـ. 15 - وقال في المقنع (¬2) : وإذا وقف على ثلاثة ثم على المساكين فمن مات منهم رجع نصيبه إلى الآخرين. ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزكاة (2532) . (¬2) [المقنع] (2\319) وما بعدها.

قال في الحاشية (¬1) قوله: (وإن وقف على ثلاثة. .) إلخ أي: كزيد وعمرو وبكر، وهذا المذهب وعليه الأصحاب، لأنه الموقوف عليه أولا، وعوده إلى المساكين مشروط بانقراضهم، إذ استحقاق المساكين مرتب بثم، ولو وقف على ثلاثة ولم يذكر له مآلا، فمن مات منهم فحكم نصيبه حكم المنقطع، كما لو ماتوا جميعا. قاله الحارثي، قال: وعلى ما في الكتاب -أي: المقنع- يصرف إلى من بقي، وقطع به في القواعد، قال في [المبدع] : وهو أظهر، قال في [التنقيح] : وهو أقوى، وجزم به في [المنتهى] ، وإن قال: وقفته على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على الفقراء، فالصحيح من المذهب: أن هذا ترتيب جملة على مثلها لا يستحق البطن الثاني شيئا قبل انقراض الأول، وقيل: ترتيب أفراد، فيستحق الولد نصيب أبيه بعد موته، فهو من ترتيب الأفراد بين كل شخص وأبيه، اختاره الشيخ تقي الدين، وصاحب [الفائق] . قال الشيخ تقي الدين: فعلى هذا الأظهر استحقاق الولد، وإن لم يستحق أبوه شيئا، وقال أيضا - في من وقف على ولديه نصفين ثم أولادهما وأولاد أولادهما، وعقبهما بعدهما بطنا بعد بطن -: أنه ينتقل نصيب كل واحد إلى ولده، ثم ولد ولده، وقال: من ظن أن الوقف كالإرث، فإن لم يكن أبوه أخذ شيئا لم يأخذ هو، فلم يقله أحد من الأئمة، ولم يدر ما يقول؛ ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم لم تحرم الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعا ولا فرق. اهـ. ¬

_ (¬1) [حاشية المقنع] (2\320) .

16 - قال ابن قدامة (¬1) : فصل: وما فضل من حصر المسجد وزيته ولم يحتج إليه جاز أن يجعل في مسجد آخر، أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه وغيرهم، وكذلك إن فضل من قصبه أو شيء من نقضه. قال أحمد في مسجد بني فبقي من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه - قال: يعان به في مسجد آخر، أو كما قال. وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن بواري المسجد (¬2) إذا فضل منه الشيء أو الخشبة، قال: يتصدق به، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا تخرقت تصدق بها، وقال في موضع آخر: قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة. وروى الخلال بإسناده عن علقمة، عن أمه، أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة رضي الله عنها فقال: (يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تكثر عليها فننزعها، فنحفر لها آبارا فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب) قالت عائشة: (بئس ما صنعت، ولم تصب، إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من حائض أو جنب، ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين) فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة، وهذه قصة مثلها ينتشر، ولم ينكر فكان إجماعا؛ ولأنه مال الله تعالى لم يبق له مصرف، فصرف إلى المساكين، كالوقف المنقطع. 17 - وقال ابن قدامة أيضا (¬3) : وما فضل من حصره وزيته جاز صرفه ¬

_ (¬1) [المغني] وعليه [الشرح الكبير] (6\229، 230) . (¬2) بواري المسجد: حصره. (¬3) المقنع، (2\331)

إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين. قال في الحاشية (¬1) : قوله: (وما فضل من حصره. .إلخ) وعبارة الوجيز (وما فضل عن حاجته) وهي أولى، جاز صرفه إلى مسجد آخر، وقال أحمد رحمه الله: لأنه انتفاع في جنس ما وقف له والصدقة به على فقراء المسلمين، ونص عليه، وهذا المذهب، وعنه: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى، وقال: يجوز أيضا صرفه في سائر المصالح. 18 - وقال ابن قدامة (¬2) : وإن عين رجلا أن يحج فأبى أن يحج بطل التعيين، ويحج عنه بأقل ما يمكن إنسان ثقة سواه ويصرف الباقي إلى الورثة. 19 - قال في [الإقناع] وشرحه (¬3) : (وما فضل عن حاجة المسجد من حصره وزيته ومغله وأنقاضه وآلته وثمنها) إذا بيعت (جاز صرفه إلى مسجد آخر محتاج) إليه؛ لأنه صرف في نوع المعين (و) جازت (الصدقة بها) أي: بالمذكورات (على فقراء المسلمين) ؛ لأنه في معنى المنقطع، قال الحارثي: وإنما لم يرصد؛ لما فيه من التعطل فيخالف المقصود، ولو توقعت الحاجة في زمن آخر ولا ريع يسد مسدها لم يصرف في غيرها؛ لأن الأصل الصرف في الجهة المعينة، وإنما سومح بغيرها حيث لا حاجة، حذرا من التعطل، وخص أبو الخطاب والمجد الفقراء بفقراء جيرانه لاختصاصهم بمزيد ملازمته، والعناية بمصلحته. قال الحارثي: والأول ¬

_ (¬1) [حاشية المقنع] (2\331) . (¬2) [المغني] (6\131) . (¬3) [الإقناع] وشرحه (4\249) ، [الفروع] (4\630) .

أشبه (قال الشيخ) يجوز صرف الفاضل في مثله (وفي سائر المصالح و) في (بناء مساكن لمستحق ريعه القائم بمصلحته وفضل غلة موقوف على معين استحقاقه مقدر) من الوقف (يتعين إرصاده. ذكره) القاضي محمد (أبو الحسين واقتصر عليه الحارثي) قال: وأما فضل غلة الموقوف على معين أو معينين، أو طائفة معينة فتعين إرصاده. ذكره القاضي أبو الحسين في فضل غلة الموقوف على نفقة إنسان، وإنما يتأتى إذا كان الصرف مقدرا، أما عند عدم التقدير فلا فضل إذ الغلة مستغرقة. اهـ. وقال في [المنتهى] وشرحه (¬1) : (وفضل غلة موقوف على معين) كزيد أو ولده (استحقاقه مقدر) بأن قال: يعطى من ريعه كل شهر عشرة دراهم مثلا وريعه أكثر (يتعين إرصاده) أي: الفضل؛ لأنه ربما احتيج إليه بعد. اهـ. 20 - وسئل شيخ الإسلام رحمه الله السؤال (¬2) : رجل وقف وقفا على مسجد، وأكفان الموتى، وشرط فيه الأرشد فالأرشد من ورثته، ثم للحاكم، وشرط لإمام المسجد ستة دراهم، والمؤذن والقيم بالتربة ستة دراهم، وشرط لهما دارين لسكناهما، ثم إن ريع الوقف زاد خمسة أمثاله، بحيث لا يحتاج الأكفان إلى زيادة، فجعل لهما الحاكم كل شهر ثلاثين درهما، ثم اطلع بعد ذلك على شرط الواقف فتوقف أن يصرف عليهم ما زاد على شرط الواقف، فهل يجوز له ذلك؟ وهل يجوز لهما تناوله؟ ¬

_ (¬1) [المنتهى] وشرحه (2\516) . (¬2) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (31\17، 19) .

فأجاب: نعم، يجوز أن يعطى الإمام والمؤذن من مثل هذا الوقف الفائض رزق مثلهما، وإن كان زائدا على ثلثين، بل إذا كانا فقيرين، وليس لما زاد مصرف معروف جاز أن يصرف إليهما منه تمام كفايتهما. وذلك لوجهين: أحدهما: أن تقدير الواقف دراهم مقدرة في وقف مقدار ريع قد يراد به النسبة، مثل أن يشرط له عشرة، والمغل مائة، ويراد به العشر، فإن كان هناك قرينة تدل على إرادة هذا عمل به. ومن المعلوم في العرف أن الوقف إذا كان مغله مائة درهم، وشرط له ستة، ثم صار خمسمائة، فإن العادة في مثل هذا أن يشرط له أضعاف ذلك، مثل خمسة أمثاله، ولم تجر عادة من شرط ستة من مائة أن يشترط ستة من خمسمائة، فجعل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم. الثاني: أن الواقف لو لم يشترط هذا فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه، وما يشبهها، مثل صرفه في مساجد أخر، وفي فقراء الجيران، ونحو ذلك؛ لأن الأمر دائر بين أن يصرف في مثل ذلك، أو يرصد لما يحدث من عمارة، ونحوه، ورصده دائما مع زيادة الريع لا فائدة فيه، بل فيه مضرة، وهو حبسه لمن يتولى عليهم من الظالمين المباشرين والمتولين الذين يأخذونه بغير حق. وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له، ففضلت فضلة؛ فأمر بصرفها في المكاتبين والسبب فيه: أنه إذا تعذر المعين، صار الصرف إلى نوعه؛ ولهذا كان الصحيح في الوقف هو هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته، كما كان عمر بن الخطاب

يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج. وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن صرف الفاضل إلى إمامه ومؤذنه مع الاستحقاق أولى من الصرف إلى غيرهما، وتقدير الواقف لا يمنع استحقاق الزيادة بسبب آخر كما لا يمنع استحقاق غير مسجده. وإذا كان كذلك وقدر الأكفان التي هي المصروفة ببعض الريع صرف ما يفضل إلى الإمام والمؤذن ما ذكر. اهـ. 21 - وقال أيضا (¬1) : وما فضل من ريع وقف عن مصلحته صرف في نظيره أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته، ولم يحبس المال بلا فائدة. وقد كان عمر بن الخطاب كل عام يقسم كسوة الكعبة بين الحجيج، ونظير كسوة الكعبة المسجد المستغنى عنه من الحصر ونحوها، وأمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان حتى صار موضع الأول سوقا. 22 - وسئل عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغني عنه (¬2) . فأجاب: يصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف في مسجد آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنس، والجنس واحد، فلو قدر أن المسجد الأول خرب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر، فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه، ولا إلى تعطيله، فصرفه في جنس المقصود أولى، وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف، وقد روى أحمد عن علي رضي الله عنه أنه ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (31\93) . (¬2) مجموع الفتاوى (31\206، 207) .

حض الناس على إعطاء مكاتب ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين. 23 - وقال أيضا (¬1) جوابا عن وقف على تكفين الموتى يفيض كل سنة على الشرط، هل يتصدق به؟ وهل يعطى منه أقارب الواقف الفقراء؟ قال: إذا فاض الوقف عن الأكفان صرف الفاضل في مصالح المسلمين، وإذا كان أقاربه محاويج فهم أحق من غيرهم. 24 - وقال أيضا (¬2) : وأما ما فضل من الريع عن المصارف المشروطة ومصارف المساجد فيصرف في جنس ذلك، مثل عمارة مسجد آخر، ومصالحها، أو إلى جنس المصالح، ولا يحبس المال أبدا لغير علة محدودة، لا سيما في مساجد قد علم أن ريعها يفضل عن كفايتها دائما، فإن حبس مثل هذا المال من الفساد {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬3)) . 25 - وقال أيضا (¬4) : وأما الفاضل عن مصلحة المسجد فيجوز صرفه في مسجد آخر، وفي المستحقين للصدقة من أقارب الواقف وجيران المسجد. 26 - قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (¬5) : وأجاب الشيخ عبد الله أبابطين الذي وقف على عمارة مواعين سبل، وذكر أن المواعين ما تحتمل غلة ذلك الوقف، فالذي أرى أن يصرف فيما يناسب ذلك، مثل: أن ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (31\203) . (¬2) مجموع الفتاوى (31\210) . (¬3) سورة البقرة الآية 205 (¬4) مجموع الفتاوى (31\258) . (¬5) مجموع ابن قاسم [الدرر السنية] المجلد الثاني، الجزء الخامس (248) .

يشترى به قدر ونحوه من نظيره من الوجه المذكور، فإن كان ذلك وصية لا وقفا فيعمر منها الماعون وما فضل للورثة. اهـ. مما تقدم من النقول يتلخص ما يأتي: 1 - اختلف في الوقف المنقطع ابتداؤه أو وسطه أو نهايته. فقيل: لا يصح، لأن القصد بالوقف التأبيد ودوام الإحسان والثواب، وعليه يرجع إلى الواقف أو ورثته ملكا، وقيل: يصح المنقطع بأنواعه الثلاثة، وعليه فمنقطع الانتهاء يصرف بعد انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف وقفا عليهم أو ملكا لهم؛ لأنهم أولى الناس بإحسانه وصلته للآثار الواردة في ذلك، وهل يرجع إلى أقرب عصبته، لأنهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه أو إلى ورثته، لأنهم أحق بماله بعد وفاته فكانوا أحق بصلاته في حياته، خلاف، وهل يختص به فقراؤهم؛ لأنهم مصارف الإحسان والتبرعات، أو يشترك معهم أغنياؤهم لصلاحية الوقف عليهم كالفقراء، خلاف، وهل يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم أو تقسم غلته بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، خلاف. وفي رواية ثانية عن الإمام أحمد أنه يرجع بعد انقراض الموقوف عليهم للمساكين؛ لأنهم مصرف الصدقات، وحقوق الله تعالى التي لم يعين لها مصرف. وفي رواية ثالثة عنه: أنه يوضع في بيت المال؛ لأنه لا مستحق له، فأشبه مال من لا وارث له، واختار ابن قدامة صرفه للمساكين، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أولى به لا على سبيل الوجوب، ولا يرجع هذا الوقف بحال إلى الواقف، لأنه أزاله عن ملكه لله تعالى كالإعتاق. وأما منقطع الابتداء فإن لم يذكر له مآلا، أو ذكر مآلا لا يجوز الوقف

عليه كان باطلا، وإن ذكر مآلا لا يجوز الوقف عليه ففي صحته وجهان، بناء على تفريق الصفقة، وعلى تقدير صحته يصرف إلى من بعد الانقطاع إن كان الموقوف عليه مما لا يمكن اعتبار انقراضه، كالميت والمجهول والكنائس؛ لأن الموقوف عليه لغو؛ لتعذر التصحيح مع اعتباره، وإن كان الموقوف عليه يمكن اعتبار انقراضه كعبده ففي مصرفه وجهان: الأول: يصرف إلى من بعده في الحال. الثاني: يصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع الآخر إلى أن ينقرض من وقف عليه وقفا غير جائز ثم ينتقل لمن بعده؛ لأن شرط الانتقال -وهو الانقراض- لم يوجد. وإن كان منقطع الوسط ففي صحة الوقف وجهان، كمنقطع الانتهاء، وعلى تقدير الصحة فإن لم يمكن اعتبار انقراض الوسط الموقوف عليه كالمجهول ألغي وانتقل إلى ما بعده، وإن أمكن اعتبار إلغائه، كالوقف على معين ثم أم ولده ثم المساكين ففيه الوجهان السابقان في منقطع الابتداء. 2 - إذا قال: وقفت، وسكت فلم يبين مصرفا فلا نص فيه، وقياس قول أحمد: أنه يصح قياسا على الصدقة والهدي والضحية والوصية، والنذر، ولأنه أزاله الواقف عن ملكه لله تعالى على وجه القربة فوجب أن يصح، وعليه فمصرفه مصرف الوقف المنقطع الآخر بعد انقراض الموقوف عليهم، ومشهور المذهب: أنه يكون لورثة الواقف وقفا عليهم تصرف غلته إليهم نسبا بقدر إرثهم، ويقع فيها الحجب كالإرث. ومال الحارثي إلى عدم المفاضلة، وقيل: يرجع إلى الورثة ملكا، قال الشيخ تقي الدين: وهذا أصح وأشبه بقول أحمد، واختار الموفق صرفه إلى

المساكين، وهو رواية عن أحمد، فإن كان في أقارب الواقف فقراء فهم أحق به لا على سبيل الوجوب. 3 - لا يشترط لصحة الوقف قبول الموقوف عليه إلا إن كان آدميا معينا ففيه وجهان: أحدهما: لا يشترط فيصرف إليه، والثاني: يشترط فإن قبل صرف إليه، وإن لم يقبل أو رد بطل في حقه دون من بعده وصرف إلى من بعده في الحال، أو يصرف مصرف الوقف المنقطع الابتداء أو الوسط. 4 - إذا قال: وقفت داري سنة مثلا لم يصح؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، ويحتمل أن يصح ويصرف بعدها مصرف المنقطع. 5 - إن وقف على زيد وعمرو وبكر مثلا، ثم على المساكين، فمات أحدهم عاد نصيبه إلى الآخرين؛ لأن مصرفه إليهم أولا، وصرفه للمساكين مرتب بثم، فلا ينقل إليهم منه شيء إلا بعد انقراضهم، ولو عين الموقوف عليهم ولم يذكر مآلا فمصرفه مصرف المنقطع الآخر، وقيل: يرجع لمن بقي منهم، قال في المبدع: وهو أظهر، قال في التنقيح: وهو أقوى. 6 - لو قال: وقفت على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على الفقراء. فهل هو ترتيب جملة أو ترتيب إفراد؟ الصحيح من المذهب، الأول، واختار الثاني ابن تيمية، وصاحب الفائق، وعلى الأول: لا يستحق البطن الثاني شيئا إلا بعد انقراض البطن الأول كله، وعلى الثاني: يستحق الولد نصيب أبيه بعد موته، بل يستحق ذلك ولو حرم منه أبوه، وكذلك الحكم لو وقف على أولاده بطنا بعد بطن. 7 - ما فضل عن حاجة المسجد من حصره ونقضه وآلته وزيته وخشبه

وعن ثمنها إن بيعت جاز صرفه إلى مسجد آخر دون التصدق به على الفقراء أو إنفاقه في المصالح العامة، واختاره الشيخ تقي الدين؛ لأنه انتفاع به في جنس ما وقف عليه، وقيل: يجوز ذلك، ويجوز التصدق به، وصرفه في المصالح العامة، وهل يؤثر بذلك جيرانه الفقراء لمزيد اختصاصهم به أو يعم؟ خلاف. واستدل لذلك: بأن عمر كان يقسم كسوة الكعبة كل عام بين الحجاج، وبأن عليا حض الناس على جمع مال إعانة لمكاتب ففضلت فضلة فأمر بصرفها في المكاتبين، وكل هذا ما لم تتوقع حاجة المسجد إلى الفاضل من وقفه، وإلا رصد له؛ لأن الأصل الصرف في الجهة المعينة. وأما فضل غلة موقوف على معين، أو معينين مع تقدير استحقاق المعين، مثل أن يقال: يعطى من ريعه كل شهر عشرة دراهم مثلا، فيتعين إرصاد الفضل؛ لأنه ربما احتيج إليه بعد، وإن كان الاستحقاق غير معين فلا فضل؛ لأن الغلة مستغرقة. 8 - إذا عين الواقف لكل من إمام المسجد ومؤذنه والقيم عليه مقدارا من غلة الوقف فزادت الغلة أضعافا مضاعفة جاز أن يعطى كل من أولئك زيادة على ما عين بقدر نسبة الزيادة في الريع؛ لجواز أن يكون الواقف أراد بما عينه لكل منهم نسبة من الريع وقت الوقف، وجاز أن يعطى كل منهم قدر كفايته من فائض الريع الذي لا تتوقع الحاجة إليه بعد لإفراد الزيادة؛ لأن فائض الوقف يصرف في جنس ما وقف عليه، أو يتصدق به على الفقراء، وصرفه في ذلك خير من حبسه وتعطيله. وجملة القول: أن ما حكم فيه من الأوقاف بالبطلان لفقد شرط من

شروطها عاد للواقف إن كان حيا، ولورثته إن كان ميتا، وما خرج منها مخرج العمرى من أجل صيغته، كما في بعض النقول عن المالكية فيما سبق فمرجعه بعد انتهاء أمد العمرى إلى المعمر، أو ورثته إن كان ميتا عند مالك رضي الله عنه، وما حكم بصحته من الأوقاف فمرجع غلته زمن الانقطاع، أو بعد الانقراض، ومرجع فاضل غلته من المسائل الاجتهادية التي للنظر فيها مجال؛ لعدم ورود نص صريح فيها عن المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ فلذا اختلف الفقهاء في مرجع ذلك، ولكل وجهته. والله الموفق. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الرهن

(3) الرهن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم الرهن إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابقة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في شعبان عام 1395 هـ بالمحضر رقم9 وتاريخ 11\8\1395هـ من إدراج اشتراط قبض الرهن في لزومه وعدم اشتراطه - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا مشتملا على العناصر الآتية: 1 - تعريف الرهن لغة واصطلاحا والمناسبة بين المعنيين. 2 - حكم الرهن مع الأدلة والمناقشة. 3 - حكمته. 4 - الخلاف في اشتراط استدامة قبض الرهن في لزومه وعدم اشتراطه مع الأدلة والمناقشة. 5 - الخلاف في اشتراط استدامة القبض وعدم اشتراطها مع الأدلة والمناقشة. 6 - ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة.

7 - حكم الرهن بعد القبض مع الأدلة والمناقشة. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

أولا تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين

أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين: أ- تعريفه لغة: 1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا في مادة (الرهن) : (الراء والهاء والنون أصل يدل على ثبات شيء يمسك بحق أو غيره من ذلك الرهن: الشيء يرهن، تقول: رهنت الشيء رهنا ولا يقال: أرهنت، والشيء الراهن الثابت الدائم ورهن لك الشيء أقام، وأرهنته لك أقمته، وقال أبو زيد: أرهنت في السلعة إرهانا: غاليت فيها وهو من الغلاء خاصة قال: عبدية أرهنت فيها الدنانير : وعبارة أبي عبيد في هذا شاذة، لكن ابن السكيت وغيره قالوا: أرهنت أسلفت وهذا هو الصحيح. قالوا كلهم: أرهنت ولدي إرهانا أخطرتهم، فأما تسميتهم المهزول من الناس والإبل راهنا فهو من الباب؛ لأنهم جعلوه كأنه من هزاله يثبت مكانه لا يتحرك، قال: أما تري جسمي خلا قد رهن ... هزلا وما مجد الرجال في السمن يقال: منه رهن رهونا (¬1) . 2 - قال محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مادة (رهن) : الرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، والجمع: رهان ورهون ورهن ورهين. رهنه الشيء ورهن عنده وأرهنه جعله رهنا، وارتهن منه: أخذه ¬

_ (¬1) [معجم مقاييس اللغة] ، (2\452، 453) .

رهنا. ورهنته لساني، ولا تقل أرهنته، وكل ما احتبس به شيء فرهينه ومرتهنه. والرهان والمراهنة: المخاطرة والمسابقة على الخيل. وقرئ {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) (ورهن) وقيل في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬2) أنها بمعنى الفاعل، أي: ثابتة مقيمة، وقيل: بمعنى المفعول، أي: كل نفس مقامة في جزاء ما قدم من عمله، ولما كان الرهن يتصور منه حبسه استعير ذلك للمحتبس أي شيء كان، قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬3) . 3 - وقال محمد بن مكرم المعروف بابن منظور بعد كلام يتفق مع ما سبق قال: وفي الحديث «كل غلام رهينة بعقيقته (¬4) » الرهينة: الرهن والهاء للمبالغة كالشتيمة والشتم ثم استعملا في معنى المرهون قيل: هو رهن بكذا ورهينة بكذا، ومعنى قوله: «رهينة بعقيقته (¬5) » : أن العقيقة لازمة له لا بد منها، فشبهه في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن. انتهى المقصود. وقال أيضا: قال ابن عرفة: الرهن في كلام العرب هو الشيء الملزم يقال: هذا راهن لك، أي: دائم محبوس عليك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) سورة المدثر الآية 38 (¬3) سورة الطور الآية 21 (¬4) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي: في كتاب العقيقة. (¬5) سنن الترمذي الأضاحي (1522) ، سنن النسائي العقيقة (4220) ، سنن أبو داود الضحايا (2837) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3165) ، مسند أحمد بن حنبل (5/8) ، سنن الدارمي الأضاحي (1969) .

تعريفه شرعا

ب- تعريفه شرعا: 1 - تعريفه عند الحنفية: هو جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من

الرهن كالديون. ونوقش: بأنه تعريف للرهن التام واللازم وإلا فعلى انعقاد الرهن لا يلزم الحبس، بل ذلك بالقبض، ورد: بأنه يتحقق بانعقاد الرهن معنى جعل الشيء محبوسا بحق إلا أن للعاقد الرجوع عنه ما لم يقبض المرتهن الرهن فقبل القبض يوجد معنى الحبس لا بلزومه فيصدق هذا التعريف على الرهن قبل تمامه ولزومه. ونوقش أيضا: بأن قوله: (كالدين) إشارة إلى أن الرهن لا يجوز إلا بالدين؛ لأنه هو الحق الممكن استيفاؤه من الرهن لعدم تعينه. ورد: بأن الظاهر المتبادر من الكاف في قوله: (كالدين) أنه يجوز الرهن بغير الدين أيضا، وأن الكاف ليست للاستقصاء. فإن لم يكن في قوله كالدين إشارة إلى جواز الرهن بغير الدين أيضا فلا أقل من أن لا يكون فيه إشارة إلى انحصار ما يجوز الرهن به في الدين. 2 - تعريفه عند المالكية: الرهن إعطاء امرئ وثيقة بحق. واعترض عليه بأنه غير مانع لدخول اليمين ليقضيه إلى أجل كذا ودفع الوثيقة المشهودة بالدين ونحو ذلك. وأجيب عن ذلك: بمنع قبول دخول شيء منها تحته؛ لأن لفظة إعطاء تقتضي حقيقة دفع شيء، ولفظ وثيقة يقتضي صحة رجوع ذلك

الشيء لدافعه إذا استوفى ذلك، وذلك لا يصح في الحميل واليمين والأخذ والرد حقيقة، وأما الوثيقة بذكر الحق فهو وإن صح دفعها فلا يلزم ردها بعد استيفاء الحق. وأجيب عن ذلك: بأن لفظة إعطاء يقتضي دفع الشيء إلى آخذه، وإن أراد دفعه حسب المحسوس منع؛ لأنه يصح أن يقول: أعطاه عهد الله. والأصل الحقيقة، وإن أراد الأعم منه، ومن المعنى دخل ما وقع النقص به، وإن سلم كونه حسيا بطل بإخراج رهن الدين، وقوله: لفظة (وثيقة) تقتضي صحة رجوع ذلك الشيء إلى آخذه، المراد به: أنه لا يلزم من نفي لزوم ردها نفي صحته، واللازم عنده إنما هو الصحة. واعترض عليه أيضا: بأنه لا يتناول الرهن بحال؛ لأنه اسم والإعطاء مصدر وهما متباينان، أي: أن الرهن وإن كان في الأصل مصدرا، ولكن الأغلب في عرف الفقهاء إطلاقه على الشيء المرهون، فكان الأولى أن يقول: معطى أو ما أشبهه. وأجيب عن ذلك: بأن الرهن كما يطلق في عرف الفقهاء على الشيء المرهون، فكذلك أيضا يطلق على الرهن الذي هو المصدر، كما إذا قالوا: يصح الرهن ويبطل الرهن، ويصح رهن كذا ولا يصح رهن كذا، فاستعمال الرهن بمعنى: المصدر شائع في عرف الفقهاء؛ فلذلك عرف بالتعريف السابق.

3 - تعريفه عند الشافعية: جعل عين مال متمولة وثيقة بدين ليستوفى منها عند تعذر وفائه. 4 - تعريفه عند الحنابلة: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه (¬1) . ¬

_ (¬1) [المغني والشرح] (4\417) ، و [مطالب أولي النهى] (3\ 248) ، و [الإنصاف] (5\ 137) .

المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي

ج - المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: وأما المناسبة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الاصطلاحي فهي أن المعنى اللغوي في الثبات والدوام واللزوم والحبس، وهذا موجود في المعنى الاصطلاحي، وذلك أن المرهون محبوس عن التصرف فيه حتى يستوفي المرتهن حقه، والحبس في الثبات واللزوم، ولكن المعنى الشرعي قيد بقيود تجعله أخص من المعنى اللغوي، كما سبق في التعريف الشرعي.

ثانيا حكم الرهن

ثانيا: حكمه: اتفق أهل العلم على مشروعيته في السفر، واختلفوا في مشروعيته في الحضر، فنذكر الخلاف في ذلك مع الأدلة والمناقشة: القول الأول: أنه مشروع في الحضر كالسفر، وهو مذهب: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى:

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬1) وجه الدلالة: أن الله تعالى لما ذكر الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال - عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن، ونص على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت؛ لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك المعنى: كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر؛ كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن. وأما السنة: فما ثبت في [الصحيحين] وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد (¬2) » ، وعن أنس قال: «رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله (¬3) » رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه. وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم رهن في الحضر ولم يكتب. وأما المعنى: فإنه عقد وثيقة لجانب الاستيفاء، فيعتبر بالوثيقة في طرف الوجوب وهي الكفالة. القول الثاني: أنه لا يصح في الحضر، قال القرطبي: ولم يرد عن أحد منعه في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود، وقال ابن حزم: لا يجوز اشتراط الرهن إلا في البيع إلى أجل مسمى في السفر خاصة وفي السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2069) ، سنن الترمذي البيوع (1215) ، سنن النسائي البيوع (4610) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2437) .

خاصة مع عدم الكاتب في كلا الوجهين. واستدلوا بالكتاب والسنة والاستصحاب: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬1) إلى قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2) وجه الدلالة: ذكر اشتراط السفر في الرهن في حال عدم وجود كاتب، فدل ذلك بمفهومه أنه لا يشرع في الحضر. ونوقش: بأنه لا مفهوم مخالفة للشرط؛ لأنه منزل على غالب الأحوال، والدليل عليه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى في الحضر ورهن ولم يكتب؛ وذلك لأن الكاتب إنما يعدم في السفر غالبا فأما في الحضر فلا يكون ذلك بحال، ومن القواعد المقررة للأخذ بدليل الخطاب أن من شروطه أن لا يجري على الغالب، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (¬3) الآية. وأما السنة: فما ثبت عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه (¬4) » . وجه الدلالة: أن الحديث ليس فيه اشتراط الرهن، وهم لا يمنعون من الرهن بغير أن يشترط في العقد؛ لأنه تطوع من الراهن حينئذ بما لم ينه عنه حينئذ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 282 (¬2) سورة البقرة الآية 283 (¬3) سورة النساء الآية 23 (¬4) صحيح البخاري الرهن (2509) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4609) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .

ونوقش: بأنه جاء في حديث أبي رافع في بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إياه إلى اليهودي يسلفه طعاما لضيف نزل به، فأبى إلا برهن، فرهانه درعه. وأجيب عنه: بأنه خبر انفرد به موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، ضعفه ابن القطان وابن معين والبخاري وابن المديني، وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه. وأما الاستصحاب: فهو أن الأصل عدم مشروعيته في الحضر، ولم يرد ما يخرج عن هذا الأصل، فيبقى عدم المشروعية على ما هو عليه. ويمكن أن يناقش: بأن الاستصحاب إنما يعمل به مع عدم الدليل المعارض له، وقد ورد ما يدل على رفعه، وهو ما سبق من الدليل الدال على أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر من يهودي في طعام أخذه لأهله، وما روى البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (¬1) » . إذا علم ما سبق من مشروعية الرهن في السفر، فهل ذلك على سبيل الوجوب في السفر والحضر معا أو أنه ليس بواجب فيهما، أو أنه واجب في السفر دون الحضر؟ وفيما يلي ما تيسر من أقوال أهل العلم في ذلك مع الأدلة والمناقشة: القول الأول: أنه ليس بواجب لا في السفر ولا في الحضر، وممن قال بذلك: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، قال ابن قدامة: والرهن غير واجب لا نعلم فيه مخالفا. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) . (¬2) سورة البقرة الآية 282

إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) وجه الدلالة: قال الشافعي - رحمه الله -: فكان بينا في الآية الأمر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر الله تعالى الرهن إذا كانوا مسافرين ولم يجدوا كاتبا فكان معقولا - والله أعلم - فيها أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطا لمالك الحق بالوثيقة والمملوك عليه بأن لا ينسى ويذكر؛ لأنه فرض عليهم أن يكتبوا ولا أن يأخذوا رهنا لقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬2) فكان معقولا أن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة - والله أعلم - في الحضر وغير الإعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحال والدين في الحضر والسفر، وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافا. ونوقش: بأن الجملة خبرية ولكنها جارية مجرى الأمر فإن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬3) أي: فارهنوا واقبضوا؛ لأنه مصدر، أي: مفرده جعل جزاء للشرط بالفاء، فجرى مجرى الأمر، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬4) ، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (¬5) وأجيب عن ذلك: بأن الأمر في الآية يراد به الإرشاد لا الإيجاب، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬6) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) سورة البقرة الآية 283 (¬3) سورة البقرة الآية 283 (¬4) سورة النساء الآية 92 (¬5) سورة محمد الآية 4 (¬6) سورة البقرة الآية 283

وأما السنة: فما سبق من الأدلة الدالة على مشروعية الرهن في الحضر وليس فيها الأمر به فدل على أنه ليس بواجب. وأما المعنى: فإن الرهن وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان والكتابة، ولأنه أمر به عند إعواز الكتابة، والكتابة غير واجبة فكذلك بدلها. القول الثاني: وجوب الرهن في السفر، وبه قال ابن حزم ومن وافقه واستدل لذلك بالكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1) إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2) ويمكن أن يقال: إن وجه الاستدلال من الآية أن جملة {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬3) خبر معناه: الأمر، كما سبق في مناقشة الاستدلال بالآية للقول الأول، ويناقش الاستدلال بها على الوجوب بما سبق. وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط (¬4) » . وجه الدلالة: أن اشتراط الرهن في السفر ورد في كتاب الله مأمورا به فوجب الأخذ به ولم يرد اشتراطه في الحضر فكان مردودا. وأجيب بما تقدم من جعل الأمر بالرهن في السفر على الإرشاد وأن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 282 (¬2) سورة البقرة الآية 283 (¬3) سورة البقرة الآية 283 (¬4) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .

الأصل في عقود المعاملات الإباحة حتى يرد المنع منها ولم يرد.

ثالثا الحكمة من الرهن

ثالثا: حكمته: من قواعد شريعة الإسلام اليسر والسهولة ورفع المشقة ودفعها وهذا باب واسع في الشريعة، فإن من تدبرها بتوسع ودقة وإنصاف يجد ذلك واضحا في العبادات والمعاملات وبيانه فيما نحن فيه: - أن الشخص تختلف أحواله غنى وفقرا والمال حبيب إلى النفوس، فقد يأتي على الإنسان وقت يكون في أمس الحاجة إلى النقود ليقضي بها حوائجه الضرورية ولا يجد من يتصدق عليه ولا من يقرضه ولا يجد ضمينا ولا كفيلا، فيأتي إلى شخص يطلب منه مالا بثمن في الذمة يتفقان عليه، أو يطلب منه قرضا على أن يجعل عنده مقابل ذلك رهنا يحفظه عنده حتى يرد عليه حقه - فشرع الله الرهن لمصالح الراهن والمرتهن والمجتمع. أما الراهن فيقضي حاجته، وفي ذلك تنفيس لكربته، وإزالة ما في نفسه من الغم، وقد يبيع فيه ويشتري ويكون سببا لغناه. وأما المرتهن فيطمئن على حقه ويحصل له ربح مشروع، وإذا حسنت نيته حصل له الأجر عند الله. وأما المصالح العائدة إلى المجتمع فتوسيع التعامل التجاري وتبادل المحبة والمودة بين الناس، فهو تعاون على البر والتقوى، وفيه تنفيس للكروب، وتقليل للخصومات، وراحة لولاة الأمور من القضاة والأمراء.

رابعا الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط

رابعا: الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط، بل يلزم بمجرد العقد مع الأدلة والمناقشة: اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من قال: إن قبض الرهن شرط في لزومه. ومنهم من قال: إنه ليس بشرط، بل يلزم بمجرد العقد. وفيما يلي ذكر القولين وما بني عليه كل قول وما أورد على مدارك كل منهما في المناقشة: القول الأول: أن قبض الرهن شرط في لزومه وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه وهو المقدم عند الحنابلة ومذهب الظاهرية، قال المرغيناتي: والقبض شرط اللزوم. وقال الكرخي: قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والحسن: لا يجوز إلا مقبوضا. وقال المزني نقلا عن الشافعي: ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضا من جائز الأمر حين رهن وحين أقبض. . . ولو مات المرتهن قبل القبض فللراهن تسليم الرهن إلى وارثه ومنعه. وقال ابن قدامة: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض. واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) وتقرير الاستدلال بالآية من وجهين: الوجه الأول: ما ذكره الشافعي - رحمه الله - بعد الاستدلال بهذه الآية قال: فلما كان معقولا أن الرهن غير مملوك الرقبة للمرتهن ملك البيع، ولا ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283

مملوك المنفعة ملك الإجارة، لم يجز أن يكون رهنا إلا بما أجازه الله عز وجل به من أن يكون مقبوضا، ولما لم يجز فللراهن ما لم يقبضه المرتهن منعه منه، وكذلك لو أذن في قبضه فلم يقبض المرتهن حتى رجع الراهن في الرهن كان له ذلك لما وصفت من أنه لا يكون رهنا إلا بأن يكون مقبوضا. وكذلك كل ما لم يقع إلا بأمرين، فليس يتم بأحدهما دون الآخر، مثل: الهبات التي لا تجوز إلا مقبوضة وما في معناها. الوجه الثاني: ما ذكره الجصاص بقوله: قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) عطف على ما تقدم من قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬2) فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط من الصفة، فلا يصح إلا عليها، كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة، إذا كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب. ويمكن أن يناقش ما ذكره الإمام الشافعي في بيان الاستدلال بالآية: بأنا وإن سلمنا أنه لا يكون رهنا بالفعل إلا بما ذكر الله من القبض، لكن ليس هذا موضوع النزاع بيننا وبين المستدل، إنما موضوعه: أنه يلزم المدين بمقتضى العقد أن يسلم ما اتفق عليه أن يكون رهنا إلى الدائن ليكون وثيقة بالدين، وهذا هو المفهوم من كون الآية خبرا بمعنى الأمر، إذ ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) سورة البقرة الآية 282

التقدير: إذا اتفق المستدين مع الدائن على رهن في الدين لزمه أن يقبضه إياه. وقولكم: كل ما لا يقع إلا بأمرين لا يتم بأحدهما صحيح، ولكن عقد البيع لأجل مثلا بشرط الرهن يتضمن أمرين: الأول: إلزام المدين بدفع الرهن، وهذا مبني على الشرط. والثاني: صحة الرهن وهي متوقفة على قبض الدائن، فتبين بهذا أن ليس معنا أمر واحد متوقف وقوعه على أمرين، بل أمران: الأول: ويتعلق بالمدين، وهو إلزامه بالدفع بناء على الشرط. الثاني: الصحة، وهي متوقفة على أمر يتعلق بالدائن وهو القبض. وأما القياس على الهبة ونحوها: فغير صحيح؛ لأن الهبة محض تبرع؛ والرهن حق لازم لا تبرع؛ لكونه تابعا لعقد مفاوضة مشروطا فيه فكان قياسا مع الفارق. ويمكن أن يناقش ما ذكره الجصاص: بتسليم عطف الآية على الأمر باستشهاد شاهدين، ووجوب تنفيذ الرهن على الصفة المذكورة في الآية وهي القبض، لكن هذا يقتضي إلزام المدين بإقباضه للدائن وفاء بالشرط وهذا محل النزاع، ولا يلزم الدائن قبضه بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬1) ولأنه حق له شرع للإرفاق به فمن حقه أن يتنازل عنه، بل من حقه أن يتنازل عن أصل الدين، لكن إن قبضه صح واستوفى منه وإن لم يقبضه بعد عرضه عليه أو تمكينه منه لم يصح واعتبر متنازلا عن حقه في الإرفاق. وأما المعنى فمن وجهين: الأول: أن الرهن عقد تبرع فيتم بالتبرع؛ كالهبة والصدقة والقبض شرط اللزوم، الثاني: أنه رهن لم يقبض فلا يلزم ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283

إقباضه كما لو مات الراهن. ويجاب عن الاستدلال بالمعنى: أولا: بمنع كون الرهن تبرعا أو كالتبرع فلا يصح قياسه على عقود التبرع من الهبة ونحوها. وثانيا: بأنه إن كان عدم القبض بالفعل لتفريط من الدائن أو تنازل عن الرهن - بطل، ولم يلزم الراهن بإقباضه سواء كان الدائن حيا أو ميتا، وإن كان بغير تفريط من الدائن وإنما كان لمماطلة المدين مثلا - ألزمه بإقباضه إن كان حيا، وألزم ورثته إن كان ميتا. ثم إن الدليل فيه مصادرة لما فيه من الاستدلال بالدعوى على نفسها. القول الثاني: أن الرهن يلزم بمجرد العقد ولو لم يقبض المرهون وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - في الرهن إذا كان متعينا. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) وجه الدلالة: ما ذكره الباجي بقوله: فلنا من الآية دليلان: أحدهما: أنه قال عز من قائل: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2) فأثبتها رهنا قبل القبض. والآخر: قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬3) أمر؛ لأنه لو كان خبرا لم يصح أن يوجد رهن غير مقبوض. ومن قولهم: إن الراهن لو جن أو أغمي عليه ثم أفاق فسلم فيصح فيثبت أنه أمر. ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول: بأن إثباتها رهانا قبل القبض لا يلزم منه أن يكون الرهن لازما بالعقد إذ يمكن أن يضاف إليها هذا الوصف مع ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) سورة البقرة الآية 283 (¬3) سورة البقرة الآية 283

القول بالصحة. وعن الوجه الثاني: بالتسليم: أن الخبر بمعنى: الأمر، لكن لم يعمل بموجب الأمر الذي هو الوجوب واللزوم في حق نفس الرهن حيث لم يجب الرهن على المديون بالإجماع - فوجب أن يعمل به في شرطه وهو: القبض ونظير ذلك قوله عليه السلام: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل (¬1) » . بالنصب. أي: بيعوا، فلم يعمل الأمر في نفس البيع؛ لأن البيع مباح غير واجب فصرف إلى شرطه وهو المماثلة فيما يجري فيه الربا. ونوقش هذا الجواب بأوجه: أحدها: يجوز أن يكون الأمر للإباحة بقرينة الإجماع فينصرف إلى الرهن لا إلى القبض. وأجيب عنه: أن الأمر في الوجوب حقيقة، كما هو معروف والإجماع لا يصلح قرينة للمجاز؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، والإجماع لم يكن حال استعمل هذا اللفظ وإعمال الحقيقة في الرهن غير ممكن فصرف إلى القبض. الثاني: أن القبض إن كان شرطا للجواز واللزوم وسلم ذلك فقد ارتفع النزاع ولا حاجة إلى الدليل. وأجيب عنه: بأن الدليل لإلزام مالك - رحمه الله -، حيث لا يجعله شرط اللزوم ولا الجواز، وذلك أن الله تعالى وصف الرهن بالقبض كما وصف التجارة بالتراضي، والتراضي وصف لازم في التجارة فكذا القبض في ¬

_ (¬1) رواه مسلم في المساقاة، والترمذي والنسائي في البيوع وغيرهم.

الرهن ولا يقال: هذا استدلال بمفهوم الصفة، وهو ليس بصحيح عند من يقول به؛ إما لأنه مذهب الجمهور من الحنفية ومن وافقهم، وإما لأن عدم الصحة إنما يكون إذا لم تكن الصفة مقصودة، وقد سبق أن الوجوب منصرف إليها. الثالث: أن الآية متروكة الظاهر؛ لأن ظاهرها يدل على أن الرهن إنما يكون في السفر، كما قال به مجاهد والضحاك وداود وقد ترك، ومتروك الظاهر لا يصلح حجة. وأجيب عنه: بعدم التسليم أن متروك الظاهر بدليل ليس بحجة؛ لأن النصوص المؤولة متروكة الظاهر، وهي عامة الدلائل. الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) وجه الدلالة: أن هذا عقد مأمور بالوفاء به، والأمر يقتضي الوجوب. الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (¬2) وجه الدلالة: أن هذا عهد أمر بالوفاء به والأمر يقتضي الوجوب. ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيتين: بأنهما من الأدلة العامة في وجوب الوفاء بالعقود والعهود وأدلة اشتراط القبض في اللزوم خاص والأصل يقتضي حمل العام على الخاص واستثنائه منه. ويرد الجواب: بأن أدلة اشتراط القبض في اللزوم لا تصلح لتخصيص ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 1 (¬2) سورة الإسراء الآية 34

هذه الأدلة، كما تقدم من المناقشة التي لا ينهض معها الاحتجاج. وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون عند شروطهم (¬1) » . وجه الدلالة: أن هذا شرط فيجب الوفاء به. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بما تقدم من الإجابة عن الاستدلال بالآيتين. وأما المعنى: فإنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع. ونوقش: بأنه قياس مع الفارق ذلك أن عقد البيع للتجارة وعقد الرهن للإرفاق. ¬

_ (¬1) رواه البخاري وأبو داود.

خامسا الخلاف في اشتراط استدامة القبض

خامسا: الخلاف في اشتراط استدامة القبض، مع الأدلة والمناقشة: اختلف أهل العلم في اشتراط استدامة القبض: فمنهم من قال: إن استدامة القبض شرط، ومنهم من قال: إنها ليست بشرط. وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة. القول الأول: أن استدامة القبض شرط.

وممن قال بهذا: أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد وابن حزم ومن وافقهم من أهل العلم، قال السمرقندي: ومنها - أي: شروط جواز الرهن - دوام القبض بما به يكون محوزا في يده. ونقل القرطبي عن أبي حنيفة: أنه إذا رجع بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال ابن حزم: يشترط دوام القبض. وقال القرطبي بعد سياقه لرأي ابن حزم أنه شرط قال: هذا هو المعتمد عندنا. وقال ابن رشد: وعند مالك: أن من شرط صحة الرهن استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم. وقال ابن قدامة: استدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره زال لزوم الرهن وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك، فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق. قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن دارا ثم أكراها صاحبها خرجت من الرهن، فإذا رجعت إليه صارت رهنا. انتهى المقصود. وقال المرداوي على قول ابن قدامة، واستدامته شرط في اللزوم، قال: هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب. يعني: حيثما قلنا: لا يلزم إلا بالقبض، وممن قال به من أئمة الدعوة - رحمهم الله -: الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد الرحمن بن حسن. واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) وتقرير الاستدلال بالآية من وجهين: ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283

الأول: أنه إذا خرج عن يد القابض لم يصدق عليه ذلك اللفظ لغة فلا يصدق عليه حكما. الثاني: أنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيها شرطا كالابتداء. وأما المعنى: فإن مقصود الرهن هو الاستحقاق وذلك لا يحصل إلا بهذا. القول الثاني: أن استدامة القبض ليست بشرط، وممن قال بهذا: الإمام الشافعي ومن وافقه من أصحابه وغيرهم، وهو رواية عن أحمد في المتعين. قال الربيع بن سليمان نقلا عن الشافعي: إذا قبض الرهن مرة واحدة فقد تم وصار المرتهن أولى به من غرماء الراهن، ولم يكن للراهن إخراجه من الرهن حتى يبرأ مما في الرهن من الحق. . . ومضى إلى أن قال: وسواء إذا قبض المرتهن الرهن مرة ورده، وعنه: أن استدامته في المتعين ليست بشرط، واختاره في [الفائق] . واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) وجه الدلالة: أن الرهن إذا وجد مرة فقد صح ولزم فلا يحل ذلك إعارته وغير ذلك من التصرف فيه. وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «لبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (¬2) » أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم. وجه الدلالة: أن الراهن لا يركبها إلا وهي خارجة عن قبض المرتهن. ونوقش: بأن قوله صلى الله عليه وسلم: «وعلى الذي يحلب ويركب النفقة (¬3) » كلام مبهم ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) . (¬3) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) .

ليس في نفس اللفظ منه بيان من يركب ويحلب من الراهن والمرتهن والعدل الموضوع على يده الرهن، فصرفه إلى الراهن يحتاج إلى دليل. وأجيب عن ذلك: بأنه ورد ما يدل على أن المقصود به: الراهن، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه (¬1) » رواه الإمام الشافعي في [الأم] مرسلا ثم وصله عن الثقة عن يحيى بن أبي أنيسة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وقال الحافظ ابن حجر في [البلوغ] : رواه الدارقطني والحاكم ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله. وأما المعنى: فقياسه على البيع والهبة، فكما يكون البيع مضمونا من البائع، فإذا قبضه المشتري مرة صار في ضمانه، فإن رده إلى البائع بإجارة أو وديعة فهو من مال المبتاع ولا ينفسخ ضمانه بما ذكر، فكذلك الرهن، وكما تكون الهبات وما في معناها غير تامة فإذا قبضها الموهوب له مرة ثم أعارها إلى الواهب أو أكراها منه أو من غيره لم يخرجها عن الهبة. وقد يناقش قياسه على البيع: بأنه قياس مع الفارق فإن عقد البيع المستوفي للأمور المشروعة لتحقيقه وانتفاء موانعه ينفك الملك من البائع إلى المشتري نقلا مطلقا، فتكون ذمة البائع مفرغة من تملك هذا البيع وتكون ذمة المشتري مشغولة بتملكه، فإذا أعاده إلى البائع أو غيره بعارية أو إجارة ونحو ذلك فهذه الإعارة عقد جديد لا صلة له بالعقد الأول، وهذا بخلاف الرهن، فإن ملكية الراهن لم تزل عنه، وإنما انتقل إلى المرتهن على جهة الرقابة؛ لأجل حفظ حقه، فإذا رجع إليه اختيارا من المرتهن فقد رجع إلى من يملكه. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .

وأما قياسه على الهبة: فهو قياس مع الفارق، وبيانه أن القبض في ابتدائها بتثبيت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا، والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه ولم تحصل وثيقة.

سادسا ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة

سادسا: ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة: المرهون إما أن يكون مما لا يمكن نقله أو لا، فالأول: كالدور والأرضين اتفق الفقهاء على أن قبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه. وإن كان مما يمكن نقله فإما أن يكون مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مزروعا أو لا. فالأول: قد اتفق الفقهاء على أن قبضه بكيله في المكيل إذا رهن كيلا، ووزنه إذا رهن وزنا، وعده إذا رهن عدا، وذرعه إذا رهن ذرعا، والثاني: كصبرة من طعام بيعت جزافا ونحوها من المنقولات، فهل قبضه لا يتم إلا بثقله أو أن التخلية تكون قبضا؟ قولان: القول الأول: أنه لا يتم قبض إلا بالفعل، وممن قال بهذا أبو يوسف من الحنفية، وهو المذهب عند الحنابلة، وبه قال ابن حزم، قال الزيلعي عن أبي يوسف: إن القبض في المنقول لا يثبت إلا بالنقل، وقال الخرقي: فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه له إياه من راهنه منقولا، وقال ابن

حزم: وصفة القبض في الرهن وغيره هو: أن يطلق يده عليه فإن كان مما ينقل نقله إلى نفسه. . . إلخ. واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) وجه الدلالة: ما ذكره صاحب [مجمع الأنهر] : أنه أمر بالرهن؛ لأن المصدر متى قرن بإلغاء محل الجزاء يراد به الأمر كما وقع في كثير من القرآن. والأصل أن المنصوص يراعى وجوده على أكمل الجهات. وناقش ذلك: بأن المنصوص إنما يراعى وجوده على أكمل الجهات إذا نص عليه بالاستقلال، وأما ما ذكر تبعا للمنصوص فلا يجب أن يراعى وجوده كما ذكر، فإن التراضي في البيع منصوص عليه بقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬2) فلو صح ما قال المعترض لبطل بيع المكره ولم يفسد وليس كذلك. وأجاب عن ذلك: بعدم تسليم هذه الملازمة، بل الملازم من صحة ما قال المعترض هو ثبوت صحة البيع بالرضا في الجملة على قياس التخلية في الرهن؛ فإنها قبض في الجملة كما في البيع. وأما السنة: فمن ذلك ما ثبت في [الصحيحين] عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (¬3) » . وأما المعنى: فما ذكره أبو يوسف من الحنفية من أن قبض الرهن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) سورة النساء الآية 29 (¬3) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) .

موجب للضمان ابتداء إذ لم يكن الرهن مضمونا على أحد قبل ذلك فلا يثبت إلا بالقبض حقيقة كالغصب. وناقشه الزيلعي من الحنفية بأن هذا القياس باطل؛ لأن قبض الرهن مشروع فأشبه البيع، والغصب ليس بمشروع فلا حاجة لثبوته بدون قبض حقيقة وهو النقل. القول الثاني: أن تخلية الراهن بين الرهن وبين المرتهن برفع الموانع والتمكين من القبض - قبض حكمي، وبهذا قال جمهور الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم. واستدل لهذا القول بالمعنى: أولا: قال الزيلعي: إن التخلية عبارة عن رفع الموانع من القبض وهو فعل المسلم دون المتسلم والقبض فعل المتسلم وإنما يكتفى فيه بالتخلية؛ لأنه في غاية ما يقدر عليه، والقبض فعل غيره فلا يكلف به. ثانيا: قال صاحب [مجمع الأنهر] : إن التخلية في البيع قبض فكذلك في الرهن. وأجاب ابن الهمام عن ذلك بما نقله عن بعض الحنفية بأنه منقوض بصورة الصرف، فإنه لا بد فيها من القبض بالبراجم ولا يكتفى بالتخلية مع جريان الدليل. ورد على ذلك: بأن لزوم النقض بالصرف إنما يثبت بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم: يدا بيد كما هو مقرر في موضعه، والقياس يترك بالنص على ما عرف بخلاف ما نحن فيه، فإنه لم يرد فيه نص يقتضي حقيقة القبض وعدم كفاية التخلية، فعملنا بموجب القياس.

سابعا حكم الرهن بعد القبض

سابعا: حكم الرهن بعد القبض: للمرهون أحكام بعد قبضه تتعلق بمؤنته والانتفاع به ونمائه والتصرف فيه واستيفاء الحق منه وضمانه إذا هلك بنفسه. وفيما يلي ذكر ما تيسر من الكلام على ذلك: أ - مؤنة الرهن: اختلف أهل العلم فيمن تكون عليه مؤنة الرهن هل تكون على الراهن أو على المرتهن؟ ! وفيما يلي ذكر الخلاف مع الأدلة والمناقشة: المذهب الأول: أن مؤنة الرهن من طعام وكسوة ومسكن وحافظ وحرز ومخزن وغير ذلك على الراهن، وبهذا قال مالك والشافعي والإمام أحمد والعنبري وإسحاق ومن وافقهم من أهل العلم. واستدلوا بالسنة والمعنى: أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (¬1) » . وجه الدلالة: ما ذكره عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي بعد كلامه على أن النفقة على الراهن، وذكره لهذا الحديث قال: وهذا - أي: الإنفاق - من غرمه؛ لأنه ملكه فكانت عليه نفقته كالذي في يده، ويلزمه كفنه إن مات، كما يلزمه في الذي في يده. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .

وأما المعنى: فما ذكره الشيرازي بقوله: إن الرقبة والمنفعة على ملكه فكانت النفقة عليه. المذهب الثاني: أن أجرة بيت حفظه وحافظه على المرتهن، وأجرة راعيه ونفقة الرهن والخراج على الراهن، وهذا هو المقدم عند الحنفية. قال الزيلعي: والأصل فيه أن ما يحتاج إليه لمصلحة الرهن بنفسه وتبقيته فهو على الراهن سواء كان في الرهن فضل أو لم يكن؛ لأن العين باقية على ملكه وكذا منافعه مملوكة فيكون إصلاحه ومؤنته عليه، كما أن عليه مؤنة ملكه كما في الوديعة، وذلك مثل النفقة من مأكله ومشربه وأجرة الراعي مثله؛ لأنه علف البهائم، ومن هذا الجنس، كسوة الرقيق، وأجرة ظئر ولد الراهن، وكري النهر، وسقي البستان، وتلقيح نخيله وجذاذه، والقيام بمصالحه، وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن أو لرد جزء منه كمداواة الجرح فهو على المرتهن مثل أجرة الحافظ؛ لأن الإمساك حق له والحفظ واجب عليه، فتكون مؤنته عليه، وكذلك أجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن. انتهى.

الانتفاع بالمرهون

ب - الانتفاع بالمرهون: هل ينتفع الراهن بالمرهون أو لا، وكذلك المرتهن؟ وفيما يلي كلام أهل العلم في انتفاع الراهن أو لا، ثم كلامهم في انتفاع المرتهن مع الأدلة والمناقشة: أولا: انتفاع الراهن بالمرهون: اختلف أهل العلم في ذلك على قولين: القول الأول: أنه ينتفع به، وممن قال بذلك: الشافعي وابن حزم ومن

وافقهما من أهل العلم. واستدلوا بالسنة والمعنى: أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «الرهن مركوب ومحلوب» ، قال الشافعي: ومعنى هذا القول: أن من رهن ذات در وظهر لم يمنع من درها وظهرها، وأصل المعرفة في هذا الباب: أن للمرتهن حقا في رقبة الرهن دون غيره، ومما يحدث مما يتميز منه غيره، وكذلك سكنى الدار وزرع الأرضين وغيرها فللراهن أن يستخدم في الرهن عبده، ويركب دوابه، ويؤجرها ويحلب درها ويجز صوفها وتأوي بالليل إلى مرتهنها أو إلى يد الموضوعة على يده. انتهى. وقد قيد الغزالي والشيرازي والنووي كلام الشافعي - رحمه الله -: بأن انتفاع الراهن بالرهن مشروط بأن لا يضر على المرتهن في رهنه. انتهى. أما المعنى: فما ذكره الشيرازي بقوله: إنه لم يدخل في العقد ولا يضر بالمعقود له فبقي على ملكه وتصرفه كخدمة الأمة المتزوجة ووطء الأمة المستأجرة. انتهى. القول الثاني: أن الراهن لا ينتفع بالمرهون، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري ومن وافقهما من أهل العلم، قال ابن رشد: وعمدة هذا المذهب إذا انتفع بالرهن كما إذا أجره بإذن المرتهن كان إخراجا من الرهن؛ لأن الرهن يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام، فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن. ويمكن أن يناقش ذلك أولا: بأنا لا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس، وإنما مقتضاه تعلق الحق به على وجه تحصل به الوثيقة وذلك غير مناف

للانتفاع به. وثانيا: سلمنا أن مقتضاه الحبس؛ لكن ذلك لا يمنع من أن يكون المستأجر نائبا عنه في إمساكه وحبسه ومستوفيا لمنفعته لنفسه. ثانيا: انتفاع المرتهن بالرهن: الرهن: إما أن يكون مما لا يحتاج إلى مؤنته كالدور، أو يكون مما يحتاج إلى مؤنته، وإذا كان مما لا يحتاج إلى مؤنته فقد يكون دين الرهن قرضا وقد يكون غير قرض، وإذا كان دين الرهن غير قرض فقد يأذن الراهن للمرتهن وقد لا يأذن وفي كل ذلك قد يكون بعوض، وقد يكون بغير عوض، وإذا كان بعوض فقد يكون فيه محاباة، وقد لا يكون فيه محاباة، وإذا استأجر المرتهن الرهن - مثلا - فهل يؤثر على عقد الرهن أو لا؟ وإذا اشترط الانتفاع عند عقد الرهن فما حكم الشرط؟ وإن كان المرهون مما يحتاج إلى مؤنة فقد ينتفع به بعوض أو بغير عوض بإذن الراهن أو بغير إذنه، وإذا أذن له فقد يكون الرهن مركوبا ومحلوبا أو غيرهما، وإذا كان غير محلوب ولا مركوب فقد يكون حيوانا أو غير حيوان وإذا كان حيوانا فأنفق عليه بغير نية الرجوع أو بنية الرجوع. وأذن المالك أو لم يأذن أمكنه أن يستأذنه أولا، وإذا انتفع المرتهن فهل يحسب من دينه. هذه المسائل التي سبقت تكلم عليها ابن قدامة - رحمه الله - كلاما مفصلا أحببنا ذكر كلامه بدون تصرف. قال - رحمه الله - على قول الخرقي: (ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فيركب ويحلب بقدر العلف) . قال: الكلام في هذه المسألة في حالين:

أحدهما: ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال، لا نعلم في هذا خلافا؛ لأن الرهن ملك الراهن فكذلك منافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه. فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز؛ لأنه يحصل قرضا يجر منفعة وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض، يعني: إذا كانت الدار رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن. وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك، روي ذلك عن الحسن وابن سيرين، وبه قال إسحاق. فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل أن يستأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره؛ لكونه ما انتفع بالقرض، بل بالإجارة. وإن حاباه في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنا فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب عن أحمد: إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن: اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي ينتقل فيصير دينا ويتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن دارا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا، والأولى: أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها؛ لأن القبض مستدام ولا تنافي بين العقدين. وكلام أحمد في

رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها، كما في رواية ابن منصور؛ لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه، ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة وعنده غير مضمونة. فصل: فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وعن أحمد: أنه يجوز في المبيع، قال القاضي: معناه: أن يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرا، فيكون بيعا وإجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل؛ لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض، ولنا: أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرط في القرض. فصل: الحال الثاني: ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به بعوض أو بغير عوض بإذن الراهن كالقسم الذي قبله، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع بقدره جاز؛ لأنه نوع معاوضة وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين: محلوبا ومركوبا وغيرهما، فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته، متحريا للعدل في ذلك، نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق وسواء أنفق مع تعذر النفقة من الراهن؛ لغيبته أو امتناعه من الإنفاق أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه، وعن أحمد رواية أخرى: لا يحتسب له بما أنفق وهو

متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (¬1) » ، ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن. ولنا: ما روى البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (¬2) » فجعل منفعته بنفقته، وهذا محل النزاع، فإن قيل: المراد به: أن الراهن ينفق وينتفع قلنا: لا يصح؛ لوجهين: أحدهما: أنه قد روي في بعض الألفاظ «إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب ويركب النفقة (¬3) » فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع. والثاني: أن قوله (بنفقته) يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة، وإنما ذلك حق المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة لأحدهما بالآخر، ولأن نفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه، واستيفاء ذلك من منافعه، فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عنه في الإنفاق عليها والحديث نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته؛ لثبوت يده عليه وولايته، وهذا فيمن أنفق محتسبا بالرجوع، فأما إن أنفق متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة. فصل: وأما غير المحلوب والمركوب فيتنوع إلى نوعين: حيوان ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) . (¬2) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) . (¬3) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) .

وغيره. أما الحيوان كالعبد والأمة ونحوهما فهل للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته؟ ظاهر المذهب: أنه لا يجوز، ذكره الخرقي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه، فقال: الرهن لا ينتفع منه بشيء إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف. قلت له: فإن كان اللبن والركوب أكثر قال: لا، إلا بقدر، ونقل حنبل عن أحمد: أن له استخدام العبد أيضا، وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه، قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة، والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرع به، فإن القياس يقتضي أن لا ينتفع بشيء منه تركناه في المركوب والمحلوب؛ للأثر، ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس. النوع الثاني: غير الحيوان كدار استهدمت فعمرها المرتهن لم يرجع بشيء رواية واحدة وليس له الانتفاع بها بقدر نفقته، فإن عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه، فإن فعل كان متبرعا بخلاف الحيوان فإنه يجب على مالكه الإنفاق عليه؛ لحرمته في نفسه. فصل: فأما الحيوان إذا أنفق عليه متبرعا لم يرجع بشيء؛ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كما لو تصدق على مسكين. وإن نوى الرجوع على مالكه وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه؛ لأنه ناب عنه في الإنفاق بإذنه فكانت النفقة على المالك، كما لو وكله في ذلك.

وإن كان بغير إذنه فهل يرجع عليه؟ يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه؛ لأنه ناب عنه فيما يلزمه. وقال أبو الخطاب: إن قدر على استئذانه فلم يستأذنه فهو متبرع لا يرجع بشيء، وإن عجز عن استئذانه فعلى روايتين، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون فكفنه. والأول أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الدين العجز عن استئذان الغريم. فصل: وإذا انتفع المرتهن بالرهن باستخدام أو ركوب أو لبس أو استرضاع أو استغلال أو سكنى أو غيره - حسب من دينه بقدر ذلك. قال أحمد: يوضع عن الراهن بقدر ذلك؛ لأن المنافع ملك الراهن، فإذا استوفاها فعليه قيمتها في ذمته للراهن فيتقاص القيمة وقدرها من الدين ويتساقطان.

نماء الرهن

ج - نماء الرهن: نماء الرهن بعد ما كان رهنا إما أن يكون متصلا أو منفصلا: فإن كان متصلا كالسمن فإنه يدخل في الرهن بلا خلاف بين العلماء، وإن كان منفصلا فمن أهل العلم من قال: إنه يكون تابعا للرهن، ومنهم من قال: إنه لا يتبعه، ومنهم من فصل. وفيما يلي ذكر المذاهب مع الأدلة والمناقشة: المذهب الأول: أن نماء الرهن المنفصل الحادث بعد ما كان الرهن بيد المرتهن يكون تابعا للرهن، وممن قال بهذا: أبو حنيفة والإمام أحمد ومن وافقهما من أهل العلم، وعمدتهم: أن الفروع تابعة للأصول، فوجب لها حكم الأصل، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة. المذهب الثاني: أنه ليس بتابع للرهن، بل هو للراهن، وبهذا قال الإمام

الشافعي وابن حزم ومن وافقهما من أهل العلم، إلا أن ابن حزم لم يوافق الشافعي على التعميم في المركوب والمحلوب فهو يرى: أن الركوب والحلب لمن ينفق. واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) وجاء في معنى هذه الآية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (¬2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (¬3) » . وجه الدلالة: أن ملك الشيء المرتهن باق لراهنه بيقين وحق الرهن الذي حدث فيه للمرتهن لم ينقل ملك الراهن عن الشيء المرهون فلا يوجب حدوث حكم في منعه ما للمرء أن ينتفع به من ماله بغير نص بذلك. وأما السنة: فقد استدلوا بأدلة: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «الرهن مركوب ومحلوب» رواه الدارقطني والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي بقوله: ومعلوم أنه لم يرد أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فدل على أنه أراد به محلوب ومركوب للراهن. ونوقش هذا الدليل من جهتين: من جهة سنده ومن جهة دلالته. أما سنده: فإنه موقوف والموقوف لا تقوم به حجة، وأما دلالته: فليس في ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 188 (¬2) رواه البخاري ومسلم (¬3) ذكره صاحب [المغني] لابن قدامة (5\ 278) .

الحديث ما يدل على الذي يحلب ويركب فهو دائر بين الراهن والمرتهن والعدل الذي يكون بيده الرهن وحمله على واحد منها بدون دليل تحكم. وأجيب عن الأول: بما قاله ابن أبي حاتم قال: قال أبي: (رفعه مرة ثم ترك الرفع) انتهى كلامه. ومن المقرر في علم المصطلح: أن الحديث إذا دار بين الرفع والوقف فالرفع فيه زيادة علم إذا كان الرافع ثقة فيكون الحديث حجة. ورد ذلك: بأن الدارقطني والبيهقي رجحا رواية من وقفه على من رفعه، وهي رواية الشافعي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وأما الجواب عن الحديث من جهة دلالته: فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق إباحة الركوب وشرب اللبن على الإنفاق فمن تولى الإنفاق فله الركوب وشرب اللبن، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (¬1) » . ورد على ذلك: بأن إباحته للمرتهن على خلاف القياس. وأجاب عن ذلك شيخ الإسلام بقوله: ليس كذلك، فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه ولمالكه فيه حق وللمرتهن فيه حق، وإذا كان بيد المرتهن فلم يركب ولم يحلب ذهبت منفعته باطلة، وقد قدمنا: أن اللبن يجري مجرى المنفعة، فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض عنها نفقته كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين، فإن نفقته واجبة على صاحبه، والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا وله فيه حق، فله أن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الرهن (2512) ، سنن الترمذي البيوع (1254) ، سنن أبو داود البيوع (3526) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (2/472) .

يرجع ببدله، والمنفعة تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تذهب على صاحبها وتذهب باطلا. وقد تنازع الفقهاء فيمن أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كالدين: فمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه: له أن يرجع به عليه، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: ليس له ذلك. وإذا أنفق نفقة تجب عليه مثل أن ينفق على ولده الصغير أو عبده: فبعض أصحاب أحمد قال: لا يرجع، وفرقوا بين النفقة والدين والمحققون من أصحابه سووا بينهما، وقالوا: الجميع واجب، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليست دينا، والقرآن يدل على هذا القول، فإن الله تعالى قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬1) فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب وكذلك قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا إذنا، ونفقة الحيوان واجبة على ربه، والمرتهن والمستأجر له فيه حق، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده فإذا قدر أن الراهن قال: لم آذن لك في النفقة، قال: هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها؛ لحفظ المرهون والمستأجر، وإذا كان المنفق قد رضي بأن يعتاض بمنفعة الرهن ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 6 (¬2) سورة البقرة الآية 233

التي لا يطالبه بنظير النفقة (¬1) كان قد أحسن إلى صاحبه فهذا خير محض مع الراهن، وكذلك لو قدر أن المؤتمن على حيوان الغير كالمودع والشريك والوكيل أنفق من مال نفسه واعتاض بمنفعة المال؛ لأن هذا إحسان إلى صاحبه إذا لم ينفق عليه صاحبه. الدليل الثاني: حديث: «لا يغلق الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه (¬2) » أخرجه ابن حبان في [صحيحه] والدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا: «لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه (¬3) » ، وأخرجه ابن ماجه من طريق إسحاق ابن راشد عن الزهري، وأخرجه الحاكم من طرق عن الزهري عن سعيد مرسلا، ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك، وابن أبي شيبة عن وكيع وعبد الرزاق عن الثوري - كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك ولفظه: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه (¬4) » . قال الشافعي: " غنمه ": زيادته، و " غرمه ": هلاكه. وصحح أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان إرساله، وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة، وصحح ابن عبد البر وعبد الحق وصله. ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: بأن قوله: «له غنمه وعليه غرمه (¬5) » مدرجة من كلام سعيد بن المسيب. قال ابن عبد البر: هذه اللفظة اختلف الرواة في رفعها ووقفها فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن ¬

_ (¬1) في [إعلام الموقعين] (1\ 370) بمنفعة الرهن وكان نظير النفقة. (¬2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) . (¬3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) . (¬4) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) . (¬5) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .

أبي ذئب، ووقفها غيرهم، وروى ابن وهب هذا الحديث فجوده، وقال: إن هذه اللفظة من كلام سعيد بن المسيب نقله عنه الزهري، وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن ممن رهنه (¬1) » قلت للزهري: أرأيت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن (¬2) » أهو الرجل يقول إن لم آتك بمالك فالرهن لك؟ قال: نعم، قال: معمر ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا، إنما هلك من رب الرهن، له غنمه وعليه غرمه. وأجيب عن ذلك: بأنه رواه ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ، حدثني محمد بن إبراهيم حدثني يحيى بن أبي طالب الأنطاكي وغيره من أهل الثقة حدثني نصر بن عاصم الأنطاكي، نا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه (¬3) » ، قال ابن حزم: هذا سند حسن. وأجيب عن ذلك: بأنه أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي عن شبابة به وصححها عبد الحق، وعبد الله بن نصر له أحاديث منكرة ذكرها ابن عدي، وظهر أن قوله في رواية ابن حزم: نصر بن عاصم. تصحيف وإنما هو عبد الله بن نصر الأصم وسقط عبد الله وحرف الأصم بعاصم. وأما المعنى: فإن النماء زائد على ما رضيه رهنا، فوجب أن لا يكون للمرتهن إلا بشرط زائد. المذهب الثالث: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) . (¬2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) . (¬3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .

فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته وصورته فإنه لا يدخل في الرهن ما كان متولدا عنه كثمر النخل، أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام، وبهذا القول قال مالك ومن وافقه من أهل العلم. وعمدة هذا المذهب: أن الولد حكمه حكم أمه في البيع، أي: هو تابع له، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط.

التصرف في الرهن قبل حلول أجل الدين

د - التصرف في الرهن قبل حلول أجل الدين: التصرف إما أن يكون من الراهن أو من المرتهن بإذن كل منهما لصاحبه أولا: فإذا تصرف كل منهم بإذن الآخر صح التصرف؛ لأنه أسقط حقه، وهذا لا خلاف فيه، أما تصرف الراهن، فقد قال فيه ابن قدامة: إذا تصرف الراهن في الرهن بغير رضا المرتهن بغير العتق؛ كالبيع والهبة والوقف والرهن ونحوه - فتصرفه باطل؛ لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية، فلم يصح بغير إذن المرتهن؛ كفسخ الرهن، وفي الوقف وجه آخر أنه يصح؛ لأنه يلزم لحق الله أشبه العتق، والصحيح الأول؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة، فإن أذن فيه صح وبطل الرهن إلا أن يأذن في البيع ففيه تفصيل، انتهى المقصود. وقال الغزالي: هو ممنوع من كل تصرف قولي يزيل الملك، كالبيع والهبة، أو يزاحم حقه كالرهن من غيره، أو ينقص كالتزويج أو يقلل الرغبة كالإجارة التي لا تنقضي مدتها قبل حلول الدين، وبهذا قال الشيرازي

والنووي، وأما تصرف المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن فهو غير صحيح، وهذا لا خلاف فيه؛ لأنه تصرف في ملك غيره.

استيفاء المرتهن حقه من الرهن

هـ - استيفاء المرتهن حقه من الرهن: الرهن وثيقة لحق المرتهن بمقتضاه يطمئن المرتهن على رجوع حقه إليه، وقد سبق الكلام على اشتراط استدامة القبض هل هو شرط في لزومه أو ليس بشرط؟ ولكن خلافهم هناك لا أثر له بالنسبة لكون المرتهن يبيع الرهن بعد تمام الأجل ويستوفي حقه. وفيما يلي تفصيل كلام أهل العلم في ذلك مع بيان أدلتهم: قال السمرقندي: فعندنا ملك العين في حق الحبس حتى يكون المرتهن أحق بإمساكه إلى وقت إيفاء الدين، وإذا مات الراهن فهو أحق به من سائر الغرماء، فيستوفي منه دينه، فما فضل يكون لسائر الغرماء والورثة. وقال ابن رشد: أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه، فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع، وكذلك إن كان غائبا. وقال الشافعي: المرتهن أحق ببيع المرهون وأخذ حقه من ثمنه، والحبس ليس بلازم. وقال النووي: المرتهن مستحق لليد بعد لزوم الرهن ولا تزال يده إلا للانتفاع. وقال أيضا: المرتهن يستحق بيع المرهون عند الحاجة ويتقدم بثمنه على سائر الغرماء. وذكر أيضا أن الراهن إذا أصر على عدم البيع باعه الحاكم. وقال الخرقي: والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه حيا كان الراهن أو ميتا.

ويدل لذلك الكتاب والسنة والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) استدل بهذا الحنفية والمالكية والحنابلة، وتقرير الاستدلال من ثلاثة أوجه: الأول: أن الله تعالى أخبر بكون الرهن مقبوضا، وإخباره سبحانه وتعالى لا يحتمل الخلل فاقتضى أن يكون المرهون مقبوضا مادام مرهونا. الثاني: أن الرهن في اللغة عبارة عن الحبس، قال الله عز وجل: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬2) أي: حبيس، فيقتضي أن يكون المرهون محبوسا مادام مرهونا، ولو لم يثبت ملك الحبس لم يكن محبوسا على الدوام فلم يكن مرهونا. الثالث: أن الله تعالى لما سمى العين التي ورد العقد عليها رهنا وأنه نهى عن الحبس لغة - كان ما دل عليه اللفظ لغة حكما لا شرعا؛ لأن للأسماء الشرعية دلالات على أحكامها؛ كلفظ الطلاق والعتاق والحوالة والكفالة ونحوها. وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه (¬3) » الحديث. وجه الدلالة: أن قوله: " لا يغلق " معناه: لا يملك بالدين، كذا قال أهل اللغة: غلق الرهن، أي: ملك بالدين، وهذا كان حكما جاهليا فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما المعنى: فإن الرهن شرع وثيقة بالدين، فيلزم أن يكون حكمه ما ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 283 (¬2) سورة الطور الآية 21 (¬3) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .

يقع به التوثيق للدين كالكفالة، وإنما يحصل التوثيق إذا كان يملك حبسه على الدوام؛ لأنه يمنعه عن الانتفاع فيحمله ذلك على قضاء الدين في أسرع الأوقات.

ضمان الرهن إذا هلك بنفسه

و - ضمان الرهن إذا هلك بنفسه: إذا هلك الرهن بنفسه بيد المرتهن فعليه الضمان عند قوم وعدمه عند آخرين، والتفرقة بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه. وفيما يلي تفصيل الكلام على ذلك مع الأدلة والمناقشة: المذهب الأول: أن الرهن إذا هلك بنفسه فلا يضمنه المرتهن. وبهذا قال الشافعي والإمام أحمد ومن وافقهما من أهل العلم. واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى: أما السنة: فحديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه (¬1) » . وجه الدلالة: أن المراد بقوله: «له غنمه» أي: له غلته وخراجه " وعليه غرمه " أي: فكاكه ومصيبته منه، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم غرم الرهن على الراهن، وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة؛ لأن عليه قضاء دين المرتهن، فإذا هلك مضمونا كان غرمه على المرتهن وسقط حقه لا على الراهن، وهذا خلاف النص. نوقش الاستدلال بهذا الحديث بأمور: الأول: أنه أخرجه أبو داود في [المراسيل] ، وقال: قوله: «له غنمه وعليه غرمه» من كلام سعيد نقله عنه الزهري، وقد سبق الكلام في ذلك. الثاني: يحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام: «لا يغلق الرهن (¬2) » أي: ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) . (¬2) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .

لا يهلك، إذ الغلق يستعمل في الهلاك، كذا قال بعض أهل اللغة وعلى هذا كان الحديث حجة على أهل هذا القول؛ لأنه يذهب بالدين، فلا يكون هالكا معنى. الثالث: وقيل: معناه: أي: لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين، وهذا كان حكما جاهليا جاء الإسلام فأبطله. وأما المعنى: فإن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين، ولو سقط الدين بهلاك المرهون لكان توهينا لا توثيقا؛ لأنه يقع تعريض الحق للتلف على تقدير هلاك الرهن فكان توهينا للحق لا توثيقا له. ونوقش: بالتسليم بأن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين، لكن معنى التوثيق في الرهن هو التوصل إليه في أقرب الأوقات؛ لأنه كان للمرتهن ولاية مطالبة الراهن بقضاء الدين من مطلق ماله وبعد الرهن حدثت له ولاية المطالبة بالقضاء ومن ماله المعين وهو الرهن بواسطة البيع فازداد طريق الوصول إلى حقه فحصل معنى التوثيق.

المذهب الثاني أن الرهن إذا هلك بنفسه فهو من ضمان المرتهن

المذهب الثاني: أن الرهن إذا هلك بنفسه فهو من ضمان المرتهن. والذين قالوا بهذا القول انقسموا إلى قسمين: القسم الأول: ومنهم أبو حنيفة: أنه مضمون بالأقل من قيمته وقيمة الدين. والقسم الثاني: أنه مضمون بقيمته قلت أو كثرت، وممن قال به: علي ابن أبي طالب وعطاء وإسحاق. أما القسم الأول: فمعناه: أن الرهن لو هلك وقيمته مثل دينه صار مستوفيا دينه، وإن كانت أكثر من دينه فالفضل أمانة، وإن كانت أقل صار

مستوفيا بقدره ورجع المرتهن بالفضل. واستدل الأحناف لمذهبهم بالسنة والإجماع والأثر والمعنى: أما السنة: فإنهم استدلوا بدليلين: الأول: «قوله عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعدما نفق الفرس الرهن عنده: " ذهب حقك» ، وهذا نص في الدلالة على المطلوب. ونوقش: بأنه أخرجه أبو داود في [المراسيل] من طريق عطاء: «أن رجلا رهن رجلا فرسا فنفق في يده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرتهن: " ذهب حقك» وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا مرسلا، وفي الاحتجاج بالمرسل خلاف. ونوقش أيضا: بأن المراد به ذهاب الحق في الحبس. وأجيب عنه: بمنع ذلك؛ لأنه لا يتصور حبسه فلا يحتاج فيه إلى البيان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الأحكام لا لبيان الحقائق، ولأن الرهن ذكر معرفا بالإضافة فيعود إلى المذكور. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا عمي الرهن فهو بما فيه» . وهذا نص أيضا في محل الخلاف. ونوقش: بأن الدارقطني رواه عن أنس، وقال: لا يثبت ومن بينه وبين شيخنا ضعفاء. وأخرجه من وجه آخر وقال: إنه باطل. وأجيب عنه: بأنه أخرجه أبو داود في [المراسيل] عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ورجاله ثقات، قاله ابن حجر، وأخرجه أيضا عن طاوس مرفوعا نحوه. ونوقش أيضا: بما أخرجه أبو داود في [المراسيل] عن أبي الزناد وقال:

إن ناسا يوهمون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرهن بما فيه» إذا كان هلك، وإنما قال ذلك فيما أخبرنا الثقة من الفقهاء: إذا هلك وعميت قيمته. وأخرجه الطحاوي عن أبي الزناد نحوه، وأسند ذلك إلى الفقهاء السبعة وغيرهم أنهم قالوا: الرهن بما فيه، ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرهن بما فيه» . وأما الإجماع: فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على أن الرهن مضمون مع اختلافهم في كيفية الضمان على ثلاثة أقوال: فإحداث قول رابع خروج عن الإجماع فلا يجوز. ويمكن أن يناقش: بالمطالبة بثبوت الإجماع. قال ابن حجر: لم أجد ذلك. وأما الأثر: فما أخرجه البيهقي عن عمر في الرجل يرتهن الرهن فيضيع قال: (إن كان أقل مما فيه رد عليه تمام حقه، وإن كان أكثر فهو أمين) وأخرجه ابن أبي شيبة والطحاوي نحوه. وأما المعنى فمن وجوه: أحدها: أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد والحبس؛ لأن لفظه ينبئ عن الحبس، والأحكام الشرعية تثبت على وفق معانيها اللغوية. الثاني: أن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء وهو أن يكون موصلا إليه، ويثبت ذلك بملك اليد والحبس؛ ليقع الأمن من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن، وليكون عاجزا عن الانتفاع فيتسارع إلى قضاء الدين أو الضجرة، فإذا ثبت هذا المعنى ثبت الاستيفاء من وجه وقد تقرر بالهلاك

فلو استوفى الدين بعده يؤدي إلى الربا؛ لأنه يكون استيفاء ثانيا ولا يلزم ذلك حال قيام الرهن؛ لأن الاستيفاء الأول ينقضي بالرد على الراهن فلا يتكرر. ونوقش هذان الدليلان: بأن المرتهن إنما صار مستوفيا بملك اليد لا بملك الرقبة، وقد بقي حقه في ملك الرقبة فكان له أن يستوفيه ليأخذ حقه كاملا وصار مستوفيا بالمالية دون العين فيكون له الاستيفاء ثانيا ليأخذ حقه في العين كاملا. وأجيب عن ذلك: بأنه لا وجه إلى استيفاء الباقي، وهو ملك الرقبة بدون ملك اليد أو ملك العين بدون ملك المالية، إذ لا يتصور ذلك فيسقط للضرورة كما إذا استوفى زيوفا مكان الجياد، فإن حقه في الجودة يبطل؛ لعدم استيفاء الجودة وحدها بدون العين، فإذا لم يملك العين بقي ملك الراهن أمانة في يده فتكون نفقته حيا وكفنه ميتا عليه؛ لأنهما مؤونة الملك، ولو اشتراه المرتهن لا ينوب قبض الرهن عن قبض الشراء؛ لأن عينه أمانة، فلا ينوب قبضه عن قبض المضمون. وأما القسم الثاني، فمعناه: أن الرهن إن كانت قيمته أقل من الدين رجع المرتهن إلى الراهن فيأخذ منه ما بقي من دينه، وإن كانت قيمة الرهن تساوي الدين لم يرجع المرتهن على الراهن بشيء، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين فإن الزائد يسلمه المرتهن إلى الراهن. واستدل لهذا بالسنة والأثر والمعنى: أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه (¬1) » . وجه الدلالة أن معنى قوله: «له غنمه» أي: ما زاد من قيمة الرهن على قيمة ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441) ، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437) .

الدين، «وعليه غرمه» أي: ما نقص من قيمة الدين عن قيمة الرهن. وأجيب عنها بجوابين: الأول: وقد سبق: أنها مدرجة من كلام سعيد بن المسيب. الثاني: أن المقصود بالغنم: الغلة والخراج، والمراد بالغرم: الفكاك والمصيبة. وأما الأثر: فما روي عن علي رضي الله عنه: أنهما يترادان الفضل، أخرجه عبد الرزاق في [المصنف] ، وابن أبي شيبة في [المصنف] من طريق الحكم، وفسر التراد هنا بأنه يكون من الجانبين، فيرجع واحد منهما على صاحبه بالفضل عند الهلاك. ونوقش بأمرين: الأول: أن المقصود بالتراد حالة البيع فإنه روي عنه أنه قال: المرتهن أمين في الفضل. الثاني: ما أخرجه البيهقي من رواية خلاس عن علي: (إذا كان في الرهن فضل فإن أصابته جائحة فالرهن بما فيه، وإن لم تصبه جائحة فإنه يرد الفضل) . ونوقش هذان الأمران: بأننا لا نسلم أنه في حالة البيع ولا أنه في حالة السلامة؛ لما أخرجه البيهقي من رواية الحارث عن علي رضي الله عنه إذا كان الرهن أفضل من القرض، والقرض أفضل من الرهن - فإنهما يترادان الفضل. وأما المعنى: فإن الزيادة على الدين مرهونة بكونها محبوسة به، فتكون مضمونة كما في قدر الدين.

ونوقش: بأن يد المرتهن يد استيفاء فلا توجب الضمان إلا بقدر المستوفى، كما في حقيقة الاستيفاء بأن أوفاه دراهم في كيس أكثر من حقه يكون مضمونا عليه بقدر الدين، والفضل أمانة، والزيادة مرهونة ضرورة امتناع حبس الأصل بدونها، ولا ضرورة في حق الضمان.

المذهب الثالث التفرقة بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه

المذهب الثالث: التفرقة بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه: فإن كان مما يغاب عليه من العروض فهو ضامن، وإن كان مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار فليس بضامن، وممن قال بهذا مالك والأوزاعي وعثمان البتي، بل يضمن على كل حال قامت البينة أو لم تقم، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول عثمان والأوزاعي قال أشهب، ومستند هذا المذهب الاستحسان، ومعناه: أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه. ونوقش: بأن الاستحسان الذي يذهب إليه مالك استحسان بغير دليل فلا حجة فيه. وأجيب عنه: بأن معنى الاستحسان عند مالك: هو جمع بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بلا دليل. هذا ما تيسر، وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

المراجع في المذهب الحنفي: المصادر: [تحفة الفقهاء] 3\ 56، و [بدائع الصنائع] 6\ 145 - 370، و [كنز الدقائق] وشرحه [تبيين الحقائق] 6\ 63 - 68، [وفتح القدير] 8\ 194 - 202، و [حاشية ابن عابدين] 5\ 318 - 325، و [ملتقى الأبحر] وشرحه [مجمع الأنهر] 2\ 586 - 591، و [الدراية] 2\ 257، 258، و [نصب الراية] 4\ 319، و [شرح معاني الآثار] 4\ 98. وفي المذهب المالكي: [المنتقى] 5\ 253 - 255، و [بداية المجتهد] 2\ 228 - 230، و [شرح الرسالة] 2\ 205 - 210. وفي المذهب الشافعي: [مختصر المزني على هامش الأم] 3\ 126 - 128، و [المهذب] 1\310 - 316، و [الوجيز] 1\ 18 - 101، و [روضة الطالبين] 4\ 74 - 111. وفي المذهب الحنبلي: [الشرح الكبير] 4\ 409 وما بعدها، و [المغني] ، 4\ 490، 494، 499، 503، 513، و [المقنع] وحاشيته 2\ 104 - 106، و [عمدة الفقه] وشرحها 247 - 250، و [المجد] 1\ 336، و [التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح] و [القياس في الشرع الإسلامي] 33، وكتاب الرهن من [المحلى] 8\ 87 وما بعدها.

إيجاد مواقف للسيارات تحت المساجد

(4) إيجاد مواقف للسيارات تحت المساجد هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم إيجاد مواقف للسيارات تحت المساجد إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة السابعة لهيئة كبار العلماء المنعقدة بالطائف في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395 هـ من إدراج موضوع إيجاد مواقف للسيارات تحت المساجد والجوامع عند إنشائها داخل مدينة الرياض في جدول أعمال الهيئة للدورة المتقرر انعقادها في النصف الأول من شهر ربيع الثاني لعام 1396 هـ وإعداد بحث في حكم ذلك - فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا يشتمل على بعض أقوال أهل العلم في سطوح المواضع المنهي عن الصلاة فيها، وعن حكم جعل أسفل المسجد سقاية أو حوانيت أو بيوت أو نحو ذلك، مع إثارة بعض الاعتراضات التي يمكن أن يعترض بها على ذلك ومناقشتها. والله الموفق.

بناء المساجد على قوائم يكون ما بينها مرفق يرتفق به - كمواقف للسيارات مثلا - قد يفضي ذلك إلى محاذير شرعية، فقد يكون لهذا المرفق حكم الطريق باعتبار أن السيارات تستطرقه داخلة وخارجة، وكذا المارة من أصحابها وغيرهم، فإنهم سيرتفقون به في الاستطراق وغيره من أنواع الارتفاق. وقد وردت أحاديث تدل على النهي عن الصلاة في مجموعة أماكن منها الطريق، فعن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي أعطان الإبل، وفوق ظهر بيت الله (¬1) » رواه عبد بن حميد في [مسنده] ، وابن ماجه والترمذي، وقال: إن إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه، وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال: وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد، والعمري ضعفه بعض أهل الحديث من قبل حفظه (¬2) . ونظرا إلى أن الأحكام الخاصة بالمسجد قد تشمل هواءه وقراره فقد تكلم بعض أهل العلم في حكم الصلاة في سطوح الأماكن المنهي عن الصلاة فيها ومن ذلك الطريق، وفيما يلي بعض من أقوالهم: قال أبو الفرج بن قدامة - رحمه الله - بعد كلامه على حكم الصلاة في ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الصلاة (346) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (746) . (¬2) [منتقى الأخبار مع شرحه النيل] (2\ 142، 143) .

الأماكن المنهي عن الصلاة فيها، ومنها: قارعة الطريق- قال: فأما أسطحة هذه المواضع فقال القاضي وابن عقيل: حكمها حكم السفل؛ لأن الهواء تابع للقرار، ولذلك لو حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث. والصحيح إن شاء الله: قصر النهي على ما تناوله النص، وأن الحكم لا يعدى إلى غيره. اهـ (¬1) . وقال أبو محمد بن قدامة رحمه الله: وإن صلى على سطح الحش أو الحمام أو عطن الإبل أو غيرها، فذكر القاضي أن حكمه حكم المصلى فيها؛ لأن الهواء تابع للقرار فثبت فيه حكمه؛ ولذلك لو حلف لا يدخل دارا فدخل سطحها حنث، ولو خرج المعتكف إلى سطح المسجد كان له ذلك؛ لأن حكمه حكم المسجد، والصحيح إن شاء الله: قصر النهي على ما تناوله النص، وأن لا يعدى إلى غيره؛ لأن الحكم إن كان تعبديا فالقياس فيه ممتنع، وإن علل فإنما يعلل؛ لكونه للنجاسة ولا تخيل هذا في سطحها، فأما إن بنى على الطريق ساباطا أو أخرج عليه خروجا فعلى قول القاضي حكمه حكم الطريق لما ذكره فيما تقدم. وعلى قولنا: إن كان الساباط مباحا له، مثل: أن يكون في درب غير نافذ بإذن أهله أو مستحقا له أو حدث الطريق بعده فلا بأس بالصلاة عليه ... إلى أن قال: فإن كان المسجد سابقا وجعل تحته طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو كان في غير مقبرة فحدثت المقبرة حوله لم تمتنع الصلاة فيه بغير خلاف؛ لأنه لم يتبع ما حدث بعده، والله أعلم. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير] ، (1\ 485) . (¬2) [المغني] ، (1\ 724، 725) ، ومعه الشرح.

وقال الرحيباني بعد ذكره النهي عن الصلاة في مجموعة مواضع منها قارعة الطريق: وأسطحة ما مر من هذه المواضع التي لا تصح الصلاة فيها كهي؛ لأن الهواء تابع للقرار لمنع الجنب من اللبث بسطح المسجد، وحنث من حلف لا يدخل دارا بدخول سطحها، فلا تصح الصلاة بساباط حدث على طريق لتبعية الهواء للقرار بخلاف طريق أو غيره من مواضع النهي حدث تحت مسجد بعد بنائه، فتصح الصلاة في ذلك المسجد؛ لأنه لم يتبع ما حدث بعده. اهـ (¬1) . وقال المرداوي على قول الخرقي: وقال بعض أصحابنا: حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وأسطحتها كذلك. ما نصه: يعني: كالمقبرة ونحوها، وهذا هو المذهب، قال الشارح: أكثر أصحابنا على هذا. قال في [الفروع] : اختاره الأكثر. قال الزركشي: وألحق عامة الأصحاب بهذه المواضع المجزرة ومحجة الطريق، وجزم به في [الوجيز والإفادات والمنور والمنتخب] ، وقدمه في [الفروع والنظم والفائق] ، وهو من المفردات. وعنه تصح الصلاة في هذه الأمكنة، وإن لم يصححها في غيرها ويحتمله كلام الخرقي واختاره المصنف، وعنه تصح في أسطحتها وإن لم يصححها في داخلها، واختاره المصنف والشارح- إلى أن قال-: وعنه: لا تصح الصلاة على أسطحتها، وكرهها في رواية عبد الله وجعفر، على نهر وساباط، وقال القاضي فيما تجري فيه سفينة كالطريق، وعلله بأن الهواء تابع للقرار، واختار أبو المعالي وغيره الصحة كالسفينة. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) [مطالب أولي النهى] ، (1\ 368) . (¬2) [الإنصاف] (1\ 492) .

وقد يمنع من أجازه جعل ما تحت المسجد مرفقا يرتفق به كون المسجد وقفا مؤبدا.

كلام أهل العلم في حكم عمل مرفق تحت المسجد

ولأهل العلم في حكم ذلك كلام يحسن إيراد ما يتيسر منه: 1 - قال ابن الهمام: قوله: ومن جعل مسجدا تحته سرداب وهو بيت يتخذ تحت الأرض لتبريد الماء وغيره أو فوقه بيت ليس للمسجد واحد منهما، فليس بمسجد، وله بيعه، ويورث عنه إذا مات، ولو عزل بابه إلى الطريق لبقاء حق العبد متعلقا به، والمسجد خالص لله سبحانه ليس لأحد فيه حق، قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} (¬1) إلى أن قال: بخلاف مما إذا كان السرداب أو العلو موقوفا لصاحب المسجد فإنه يجوز، إذ لا ملك فيه لأحد، بل هو من تتميم مصالح المسجد فهو كسرداب مسجد بيت القدس هذا هو ظاهر المذهب. وروي عن أبي حنيفة أنه إذا جعل السفل مسجدا دون العلو جاز؛ لأنه يتأبد بخلاف العلو، وهذا تعليل للحكم بوجود الشرط فإن التأبيد شرط وهو مع المقتضى. وعن محمد عكسه، وعن أبي يوسف أنه جوز ذلك في الأولين لما دخل بغداد ورأى ضيق الأماكن وكذا عن محمد لما دخل الرين، وهذا تعليل صحيح؛ لأنه تعليل بالضرورة. - إلى أن قال-: وفي كتاب الكراهية من [الخلاصة] عن الفقيه أبي جعفر عن هشام عن محمد، أنه يجوز أن يجعل شيء من الطريق مسجدا أو يجعل شيء من المسجد طريقا للعامة. اهـ. يعني: إذا احتاجوا إلى ذلك، ولأهل المسجد أن يجعلوا الرحبة مسجدا وكذا على القلب -إلى أن قال-: إلا أن قوله: وعلى القلب يقتضي جعل المسجد رحبة وفيه نظر. وقد ذكر المصنف في علامة النون من كتاب [التنجيس] : قيم المسجد إذا أراد أن ¬

_ (¬1) سورة الجن الآية 18

يبني حوانيت في المسجد أو في فنائه لا يجوز له أن يفعل؛ لأنه إذا جعل المسجد سكنا تسقط حرمة المسجد، وأما الفناء فلأنه تبع للمسجد. اهـ (¬1) 2 - وقال في [المدونة] : قال: وسألنا مالكا عن المسجد يبنيه الرجل ويبني فوقه بيتا يرتفق به قال: ما يعجبني ذلك. قال: وقد كان عمر بن عبد العزيز إمام هدى وقد كان يبيت فوق ظهر المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلا تقربه فيه امرأة، وهذا إذا بنى فوقه صار مسكنا يجامع فيه ويأكل فيه -إلى أن قال-: قلت لابن القاسم: أرأيت ما كان من المساجد بناها رجل للناس على ظهر بيته أو بناها وبنى تحتها بنيانا هل يورث ذلك؟ قال: أما البنيان على ظهر المسجد فقد أخبرتك أن مالكا كره ذلك، وأما ما كان تحت المسجد من البنيان فإنه لا يكرهه، والمسجد عند مالك لا يورث إذا كان قد أباحه صاحبه للناس، ويورث البنيان الذي بني تحت المسجد. اهـ (¬2) 3 - وقال الزركشي الشافعي: كره مالك أن يبني مسجدا ويتخذ فوقه مسكنا يسكن فيه بأهله. قلت: وفي فتاوى البغوي ما يقتضي منع الجنب فيه؛ لأنه جعل ذلك هواء المسجد، وهواء المسجد حكمه المسجد. اهـ (¬3) 4 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على حكم إبدال المسجد بغيره للمصلحة ما نصه: وقال القاضي أبو يعلى: وقال في ¬

_ (¬1) [فتح القدير] ، (5\ 63، 64) (¬2) [المدونة الكبرى] ، (1\ 104) (¬3) [إعلام الساجد بأحكام المساجد] ، ص (407)

رواية صالح: يحول المسجد خوفا من لصوص، وإذا كان موضعه قذرا، وبالثاني قال القاضي أبو يعلى، وقال في رواية أبي داود في مسجد أراد أهله أن يرفعوه من الأرض ويجعل تحته سقاية وحوانيت، وامتنع بعضهم من ذلك؟ ينظر إلى قول أكثرهم ولا بأس به. قال: فظاهر هذا أنه أجاز أن يجعل سفل المسجد حوانيت وسقاية. قال: ويجب أن يحمل هذا على أن الحاجة دعت إلى ذلك لمصلحة تعود بالمسجد. قال: وكان شيخنا أبو عبد الله -هو: ابن حامد - يمنع من ذلك ويتأول المسألة على أنهم اختلفوا في ذلك عند ابتداء بناء المسجد قبل وقفه ... إلى أن قال: وهذا تكلف ظاهر لمخالفة نصه، فإن نصه صريح في أن المسجد إذا أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية وحوانيت، وأن بعضهم امتنع من ذلك، وقد أجاب: بأنه ينظر إلى قول أكثرهم. ولو كان هذا عند ابتدائه لم يكن لأحد أن ينازع في بنيه إذا كان جائزا، ولم ينظر في ذلك إلى قول أكثرهم ... إلى أن قال: ولأن قوله: أرادوا رفعه من الأرض، وأن يجعل تحته سقاية: بين في أنه ملصق بالأرض، فأرادوا رفعه وجعل سقاية تحته، وأحمد اعتبر اختيار الأكثر من المصلين في المسجد، لأن الواجب ترجيح أصلح الأمرين، وما اختاره أكثرهم كان أنفع للأكثرين؛ فيكون أرجح. وأيضا فلفظ المسألة على ما ذكره أبو بكر عبد العزيز قال: قال في رواية سليمان بن الأشعث: إذا بنى رجل مسجدا فأراد غيره أن يهدمه ويبنيه بناء أجود من الأول فأبى عليه الباني الأول، فإنه يصير إلى قول الجيران ورضاهم: إذا أحبوا هدمه وبناءه، وإذا أرادوا أن يرفعوا المسجد من الأرض ويعمل في أسفله سقاية فمنعهم من ذلك مشائخ ضعفاء وقالوا: لا

نقدر أن نصعد؛ فإنه يرفع ويجعل سقاية، ولا أعلم بذلك بأسا، وينظر إلى قول أكثرهم، فقد نص على هذا، وتبديل بنائه بأجود، وان كره الواقف الأولى، وعلى جواز رفعه وعمل سقاية تحته، وإن منعه مشائخ ضعفاء، إذا اختار ذلك الجيران، واعتبر أكثرهم. اهـ[مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] ، (31\ 217- 220) . (¬1) . وقد يمنع من جواز إقامة مواقف للسيارات تحت المساجد ما يترتب على ذلك من رفع المسجد بضع درجات توجب المشقة على المسنين والضعفاء، وقد تصل المشقة إلى اضطرار ترك الصلاة في المسجد للعجز عن الصعود إليه. وفيما مر ذكره من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية إجابة على ذلك حيث إن المعتبر في ذلك رجحان المصلحة فإذا كانت المصلحة في رفع المسجد بحيث يكون أسفله مرفقا يرتفق به المسلمون أرجح من المصلحة في منع ذلك؛ ليتمكن كبار السن والضعفاء من الصلاة في المسجد صار الأمر حيث تكون المصلحة راجحة. كما أنه يمكن أن يقال: بأن بضع درجات لا توجب مشقة في الغالب إلا لمن هو في نفس الأمر مريض أو عاجز، ومتى كان كذلك فإن خروجه من بيته إلى المسجد قد يوجد له نفس المشقة فيعذر بها، وعلى فرض أن مشقة الطلوع إلى المسجد تزيد على مشقة الخروج إليه من بيته فإن المصلحة العامة التي ستحصل من ذلك راجحة على المصلحة الفردية التي ينالها العاجز عن الصعود بضع درجات في حال تركها. ذلك أن إيجاد مرفق عام يرتفق به المسلمون يعتبر ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (31\ 217 - 220) .

مصلحة كبرى تهدف الشريعة الإسلامية إلى تحصيلها وتكميلها، فضلا عما في ارتفاع مبنى المسجد عن الشوارع من أسباب نظافته وبعده عن الغبار والأتربة وما يتطاير في الشوارع من النفايات. ويمكن أن يقال: بأن جعل المسجد فوق موقف للسيارات ينشأ عنه مزيد ضجة وضوضاء وإزعاج للمصلين بأبواق السيارات مع تعريض المسجد لأخطار صدم قوائمه مما يكون سببا في انهيار المسجد أو تصدعه فضلا عما في ذلك من انتهاك لحرمة المسجد حينما يكون قراره محلا للابتذال والمهانة وفحش القول بحكم اعتباره موقفا للسيارات الغالب على أهلها الابتذال في الأقوال والأعمال. وقد يجاب عن ذلك: بأن الصخب والضوضاء والانزعاج بأبواق السيارات حاصل ولو لم يكن أسفل المسجد موقفا للسيارات؛ لأن المسجد الصالح لإقامته فوق موقف للسيارات يفترض فيه أن يكون على شوارع عامة، وما كان على شارع عام فله نصيبه الوافر من الضوضاء والصخب والانزعاج. والقول باحتمال تصدع قوائمه من صدم السيارات لها يواجه بضرورة تحصين هذه القوائم، وضمان صد هذا الاحتمال بإحكام البناء وإيجاد عوامل الصد والوقاية. وأما القول: بأن قراره سيكون محلا للابتذال والمهانة وفحش القول والعمل كالطرق العامة والميادين. فحصول شيء من ذلك لا يعتبر مانعا على القول: بأن ما تحت المسجد مما ليس مسجدا كسقاية وحوانيت ونحوها كمواقف السيارات- ليس له حكم المسجد.

هذا ما تيسر ذكره. وصلى الله على نبيا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 8\3\1396هـ. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... رئيس اللجنة عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

بحث في المعاملات المصرفية والتحويلات المصرفية

(5) بحث في المعاملات المصرفية والتحويلات المصرفية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم المعاملات المصرفية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، وبعد: فبناء على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في دورته المنعقدة في النصف الأول من شهر صفر لعام 1395 هـ من بحث المعاملات المصرفية في الدورة القادمة للمجلس في شهر شعبان أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك، ونظرا إلى أن مواضيع المعاملات المصرفية كثيرة ومتشعبة - رأت اللجنة الاكتفاء ببحث المواضع الآتية، وإرجاء الباقي إلى دورة أخرى: 1 - عمليات الإيداع وتشمل ما يلي: أولا: الودائع النقدية. ثانيا: ودائع الوثائق والمستندات. ثالثا: استئجار الخزائن الحديدية للإيداع فيها.

2 - عمليات الائتمان وبحث منها ما يلي: أولا: الإقراض. ثانيا: الاعتماد البسيط. ثالثا: الضمان ويشمل خطابات الضمان، الكفالة، الاعتماد بالقبول. رابعا: الاعتماد المستندي. وقد ختمت اللجنة كلا من عمليات الإيداع وعمليات الائتمان بخلاصة للإعداد في ذلك، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

عمليات الإيداع

1 -عمليات الإيداع الإيداع: تعريفه، الغرض منه، أهم أنواعه: يقصد بالإيداع: إيداع المرء غيره ما يود حفظه من نقد أو عين أو وثائق. وإذا كان المودع في الغالب يقصد من الإيداع حفظ ما يودعه فقد يكون له أهداف أخرى للإيداع غير الحفظ؛ كإيداعه البنك نقوده أو بعضها للاستثمار أو وثائقه لإدارتها وتحصيل أرباحها، وقد يكون لديه من التكتم والحفاظ على سرية أعماله التجارية أو المدنية ما يدعوه إلى استئجار خزائن حديدية في البنك، تكون تحت تصرفه وحده، يودع فيها وثائقه ومستنداته ومجوهراته، ونحو ذلك مما يود حفظه والتكتم على سرية تملكه. وعمليات الإيداع لا تنحصر في عمليات محدودة إلا أن أهمها إيداع النقود وإيداع الوثائق والمستندات واستئجار الخزائن الحديدية للإيداع فيها. وفيما يلي بحوث في عمليات الإيداع الثلاثة:

أولا الودائع النقدية

أولا: الودائع النقدية: لا شك أن النقود هي أهم الودائع التي تتلقاها البنوك، إذ هي القوة التي يستطيع بها البنك أن يقوم بجميع عملياته المصرفية، كما أنها الوسيلة الطبيعية لائتمان التاجر البنك، حينما يأتمنه في إيداع نقوده لديه لأجل قصير أو تحت الطلب، ريثما يجد الفرصة سانحة لعقد صفقة تجارية ما، لما في ذلك من سهولة استعماله لهذه النقود المودعة في البنك دون الاضطرار إلى حملها أو عدها أو التأمين عليها، وقد يقصد المودع في البنك تخصيص وديعته النقدية لعملية تجارية يرى أن البنك خير وسيلة لإتمامها. تعريف الوديعة النقدية: يذهب الأستاذ الدكتور أدوار عيد في تعريفه الوديعة النقدية: إلى القول بأن الوديعة النقدية: عقد بمقتضاه يسلم شخص مبلغا من النقود إلى المصرف الذي يتعهد بأن يرد إليه قيمة مماثلة دفعة واحدة أو عدة دفعات لدى أول طلب منه أو ضمن المهل والشروط المتفق عليها في العقد (م 307 فقرة تجارة) ، وما دامت الوديعة تتناول مبلغا من النقود فيتلقى الوديع - أي: المصرف- حق استعمال هذه النقود، ويصبح مالكا لها على أن يلتزم برد مبلغ مماثل إلى المودع (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ص (510) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف] ، طبعة النجوي.

مزايا الإيداع النقدي

مزايا الإيداع النقدي: يذكر الأستاذ الدكتور أدوار عيد: أن لعملية إيداع النقود مزايا عديدة

تجاه الطرفين سيما إذا اقترنت بأجل ما، فإنها بالنسبة للمودع تشكل نوعا من الادخار، وتدر عليه في ذات الوقت فائدة يختلف معدلها باختلاف المدة التي تبقى فيها الأموال بيد المصرف؛ وبالنسبة للمصرف فإنها تؤمن من المبالغ اللازمة للقيام بعمليات الخصم والائتمان التي تضمن له عائدات هامة من فوائد أو عمولات (¬1) ، وفضلا عما ذكره الدكتور أدوار فإن الودائع النقدية تعتبر للبنك مصدر ثقة في نفوس المودعين تعطيهم الاطمئنان على سلامة ودائعهم وقدرتهم على سحبها أو سحب ما يريدون منها متى شاءوا، كما أنها القوة التي يستطيع بها البنك ممارسة نشاطه المصرفي. ¬

_ (¬1) انظر ص (511) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف] ، طبعة النجوي.

أنواع الودائع النقدية

أنواع الودائع النقدية: تتخذ الودائع النقدية عدة أشكال تبعا لطبيعة إيداعها، ويذكر الأستاذ أدوار عيد أن أهم الودائع النقدية ما يلي: ا- الودائع لدى الاطلاع أو لدى الطلب، وهي تشكل أهم صور الودائع النقدية ويكون لمودعها حق استردادها أو جزء منها متى شاء مباشرة أو بطريق إصدار شيكات أو التحويل؛ ونظرا لما يقتضيه هذا النوع من الودائع من ضرورة احتفاظ المصرف في خزانته بأموال كافية لدفع قيمتها، فإن المصرف لا يدفع عنها سوى فائدة قليلة جدا، وقد لا يدفع عنها شيئا. 2 - الودائع لأجل أو لاستحقاق معين، وهذا النوع من الودائع لا يسترد قبل أجل معين يجري الاتفاق على تحديده، وهو أقل شيوعا من

الودائع تحت الطلب، ولكنه أكثر فائدة للمصارف؛ لأنها تستطيع استعمال هذه المبالغ المؤجل دفعها طيلة مدة التأجيل، وتكون الفائدة عليها مرتفعة نسبيا، تبعا للمدة التي يتفق على بقائها لدى المصرف. 3 - الودائع بشرط الإخطار: وهي ودائع يكون لصاحبها حق استردادها دون انتظار أجل معين، لكن بشرط إشعار المصرف بذلك قبل استردادها بمدة ما، ويعطى هذا النوع من الفوائد مثلما تعطى الودائع تحت الطلب؛ لأن البنوك لا تستطيع الاعتماد عليها في تمويل نشاطها المصرفي. 4 - الودائع المخصصة لغرض معين؛ لمصلحة المودع كالمبالغ المودعة لدى المصرف لشراء أسهم، أو للاكتتاب بأسهم في شركة تحت التأسيس، أو لدفع ديون معينة، وقد يكون الإيداع لمصلحة المصرف، كأن تكون الوديعة ضمانا لمصلحة حساب آخر أو لمصلحة شخص ثالث، كما هو الحال في تجميد مؤونة شيك مؤشر عليه لمصلحة الحامل بصورة مؤقتة، وهاتان الحالتان لا يجوز فيهما للمودع استرداد وديعته حتى انقضاء المودع لأجلها، اهـ باختصار (¬1) وقد اختلف علماء الاقتصاد في التكييف القانوني للوديعة النقدية: فذهب بعضهم: إلى أنها وديعة بالمعنى الحقيقي للوديعة بالمقاصة بها، كما يبرأ البنك منها لو هلكت بقوة قاهرة، ويتعين عليه أن يرد المبلغ المودع بذاته، ويقوم بحفظه حتى طلبه. ¬

_ (¬1) انظر ص (511- 513) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف] ، مطبعة النجوي

وينتقد الأستاذ الدكتور محمد عوض هذا الرأي فيقول: ولكن هذه المبادئ الخاصة بعقد الوديعة لا تنطبق على الوديعة المصرفية؛ لأنه فيما عدا الحالة الاستثنائية لإيداع نقود بذاتها، فإن البنك لا يقصد أبدا المحافظة على النقود التي تلقاها بذاتها، بل يقصد استخدامها على أن يرد مثلها، كما أن القضاء يجيز له أن يرد طلب الاسترداد بالمقاصة، ويقضي بمسئوليته عن رد الوديعة ولو هلكت بقوة قاهرة فيلزمه أن يرد مثلها. هذه الأحكام تباعد بين الوديعة العادية والوديعة المصرفية، ففي كلتيهما يلتزم الوديع بالرد لكن هناك في الأولى التزام بالحفظ، بينما في الثانية لا يلتزم البنك بالمحافظة على ذات الوديعة، وكل ما هناك أنه يحفظ للمودع حقه في استرداد مثل ما أودعه اهـ. وذهب آخرون: إلى أنها وديعة شاذة أو ناقصة، ويذكر الأستاذ محمد عوض: أن الوديعة الناقصة أو الشاذة وديعة يتملكها المودع عنده، ويلتزم برد مثلها بخلاف الوديعة الكاملة التي لا يجوز للوديع أن يتملكها مطلقا، ويناقش هذا الرأي بقوله: والواقع أن طبيعة الوديعة الشاذة محل خلاف في فرنسا، حتى لقد أنكر البعض تسميتها بالوديعة على أساس أنه ما دام الوديع مأذونا في استعمال الوديعة فقد سقط عنه التزام الحفظ؛ لأن الوديعة تهلك بالاستعمال؛ ولذلك وجب حتما استبعاد فكرة الوديعة والقول بفكرة القرض، ولم يدع القانون المصري مجالا لفكرة الوديعة الشاذة، بل

قضى في المادة (726) منه أنه: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا. اهـ (¬1) وذهب فريق ثالث إلى: أن الوديعة النقدية تعتبر قرضا يلتزم المقترض برد شيء مماثل للوديعة عند الطلب، فيجوز له دفع طلب استردادها بالمقاصة ولا يتعين عليه حفظها، بل يعتبر مالكا لها ضامنا لهلاكها ملزما برد مثلها عند طلبها. ويذكر الدكتور محمد عوض: بأنه مراعاة للوضع الغالب في العمل فإن مجموعة من الشراح وعلماء الاقتصاد يميلون إلى هذا الرأي، فالوديع وهو البنك مثلا يعتبر تاجرا يعطي ائتمانا للغير وهو بذلك يضطر للحصول على ما يقرضه للغير من طريق الاقتراض والاستيداع، وليس من طريق الاستعانة برأس ماله، وكذلك المودع فإن له مصلحة في الإيداع تتجسم في الفائدة التي يستحصلها من البنك، فإذا لم تقرر له فائدة فحسبه حفظ ماله (¬2) ويرى الدكتور محمد عوض: أن تكييف عقد الوديعة النقدية من الناحية القانونية يكمن في إرادة الطرفين، ويستقل بالكشف عنها قاضي الاختصاص، فإذا كان البنك مأذونا له في استعمال المال المودع، كانت الوديعة النقدية قرضا تسري عليها أحكام القرض، وهذا هو الغالب على ¬

_ (¬1) انظر ص (21، 22) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ، طباعة النهضة العربية (¬2) انظر ص (22) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] طبعة النهضة العربية.

معظم الودائع النقدية المصرفية. . أما إذا كان البنك غير مأذون له في الاستعمال، فإن المال المودع يعتبر وديعة بما تعنيه الوديعة من معنى وتسري عليه أحكام الوديعة، ويمثل لذلك بالوديعة المصرفية المصحوبة بتخصصها لغرض معين أو لمجرد حفظها بذاتها لدى البنك (¬1) والغالب على عمليات الإيداع النقدي أن تكون الوديعة تحت الطلب بحيث يسهل على المودع سحبها متى شاء أو تجزئة السحب منها، ومن هنا ترتبط فكرة الإيداع بفكرة فتح الحساب. وفي هذا يقول الأستاذ علي البارودي: ويكون العقد الذي يتم بين البنك والعميل ليس مجرد عقد وديعة نقود، وإنما عقد فتح حساب ودائع يلقي فيها العميل بالمبلغ الأول الذي يحتمل الزيادة بواسطة العمليات التي قد يكلف البنك بها، وتؤدي إلى دخل نقدي للعميل، ويحتمل النقصان بعمليات السحب أو غيرها من العمليات التي تقتضي الإنفاق من النقود المودعة على ألا تتجاوز هذه العمليات قيمة النقود المودعة فعلا. اهـ (¬2) ونظرا إلى أن الغالب على عمليات الإيداع النقدي أن تكون الوديعة تحت الطلب بمعنى: أن يدخل العميل مع البنك في فتح حساب ودائع، فمن المتعين أن يتناول مبحث الودائع النقدية أنواع الحسابات المصرفية والتفرقة بينها ومعرفة طبيعة كل نوع من هذه الحسابات. لا شك أن لدى المصارف أنواعا من الحسابات لكل حساب منها أصوله ¬

_ (¬1) انظر ص (24، 25) من [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] للدكتور محمد جمال عوض (¬2) انظر ص (274) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية] الطبعة الثانية.

وقواعده، هذه الحسابات يختلف بعضها عن بعض تبعا لاختلاف الأغراض التي فتحت لأجلها، فإن كان الغرض من فتح الحساب مجرد إثبات عمليات الأخذ والعطاء مع احتفاظ كل عملية بذاتها وطابعها، فهذا ما يسمى بالحساب البسيط أو العادي أو حساب الودائع، أما إن كان القصد من فتحه أن تفقد عمليات التبادل ذاتيتها وتتحول إلى مفردات حسابية لا تسوى إلا عند قفل الحساب- فهذا ما يسمى بالحساب الجاري، ويتضح نوع الحساب المفتوح بمعرفة مقصد أطرافه. وفي ذلك يقول الدكتور محمد عوض: إن فيصل التفرقة بين الحساب العادي والحساب الجاري هو قصد الطرفين وهدفهما من قيد حاصل العملية في حساب، فإن قصدا تسويتها فورا واتخذا الحساب كمجرد إثبات لهذه التسوية أو لإثبات وقوع العملية فهو حساب عادي، أما إذا كان القصد هو تحويل العملية إلى مفرد في الحساب وإرجاء تسوية هذا المفرد إلى وقت نهاية الحساب فهو حساب جار. اهـ (¬1) ¬

_ (¬1) انظر كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ص (130) .

الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع

الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع عقد فتح الحساب: الواقع أنه لا توجد هناك نصوص خاصة تحكم عقود فتح الحسابات وإنما يرجع في إبرامها إلى القواعد العامة وما كان جرى عليه العمل وتعارفه الناس وما تمليه إرادة الطرفين؛ ولذلك فإن عقد فتح الحساب بين العميل والبنك يتم على وضع خاضع للاعتبارات السابقة.

ونظرا إلى أن العقد يعني إيجاد نوع من المعاملة المتبادلة بين البنك وعميله، فإن البنك لا يدخل مع عميله في مثل هذه المعاملة حتى يطمئن إلى عميله بما يجريه نحوه من التحريات عن شخصه ومدى أهليته لتلك العلاقة؛ سواء كان شخصا طبيعيا أو شخصا معنويا؛ ذلك لأن الإيداع يتبعه حق السحب إما مباشرة أو عن طريق إصدار شيكات أو سندات تجارية، فلا بد من توفر الأهلية الموجبة لصحة تلك التصرفات من ذلك العميل، وقد يكتفي البنك من تحرياته في الأحوال العادية بما يقدمه العميل من بطاقة شخصية أو أي ورقة رسمية تثبت هويته، وبما يقدمه من نماذج لتواقيعه لتجري مقابلتها على تواقيع سحبه. وقد يتفق اثنان فأكثر على فتح حساب واحد على وجه التضامن فيسمى بالحساب المشترك، ويكون لكل منهم حق إيداع مبلغ ما، كما يكون له حق السحب. وأكثر ما يكون بين الشركاء والإخوة والأزواج، وبعض البلاد تشترط لفتح الحساب المشترك واستمراره كون الشركاء على قيد الحياة، فإذا توفي أحدهم أوقف الحساب خشية تلاعب بقية الشركاء بحقوق ورثة شريكهم المتوفى. والغالب على الإيداع المفتوح به حساب أن تكون الوديعة فيه تحت الطلب، فإذا كانت الوديعة تحت الطلب فقد جرى بعض البنوك على عدم إعطاء فوائد على بقائها عندها؛ لأن البنك يفترض من العميل طلبها أو السحب عليها أو على بعضها فلا يعتمد عليها في تمويل عملياته المصرفية، وبالتالي فهو لا يستفيد من بقائها لديه إلا أن تجارب البنوك لعمليات الإيداع تحت الطلب قد أعطتهم نتائج تقضي بأن نسبة كبيرة من

الودائع تحت الطلب تبقى في البنك دون طلبها مما ييسر لهم أمر الانتفاع بهذه النسبة المتجمدة لديهم، ولهذا عمدت بعض البنوك إلى إعطاء فوائد قليلة على الودائع تحت الطلب. أما إن كانت الودائع لأجل معين فإن البنك يعطي عميله فائدة على بقائها عنده يتم الاتفاق بينهما على تحديد مقدارها ووقت سريانها وإضافتها لأصل الوديعة، ليكون لها حقها في الفائدة. وإذا تم فتح الحساب بين طرفيه تخللته عمليات مختلفة بين أخذ وعطاء، سواء كان ذلك مباشرة أو نقلا مصرفيا أو مبالغ يقبضها البنك لحساب عميله كقيمة أسناد أو تحصيل شيكات أو عائدات أسهم مالية يفوض العميل البنك في استحصالها، وهذه العمليات المختلفة والمتبادلة بين طرفي الحساب تسمى في اصطلاح المصارف بتشغيل الحساب. وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي: تتخلل عمليات الحساب منذ فتحه إلى قفله عمليات مختلفة بين العميل والبنك تحتفظ كل عملية منها باستقلالها ولا يطرأ عليها أي تحول (على خلاف ما سنرى فيما يتعلق بالعمليات التي تدخل الحساب الجاري) ، كل ما هنالك أنها تترجم في حساب الودائع إلى قيود تذكر في الجانب الدائن للعميل أو في الجانب المدين حتى يأتي اليوم الذي يصفى فيه الحساب فيظهر الرصيد النهائي. اهـ (¬1) ويعتبر النقل أو التحويل المصرفي رافدا من روافد الإيداع، وله قواعد وأصول سارت البنوك في معاملاتها على رعايتها والتقيد بمقتضاها، وعليه ¬

_ (¬1) انظر ص (277، 278) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية] ، الطبعة الثانية

فإن من إيفاء البحث حقه التعرض له بذكر بعض مما أورده بعضهم بخصوصه. يقول الدكتور علي البارودي: عملية التحويل المصرفي تتم بواسطة قيود يجريها البنك، مضمونها أنه يجعل حساب عميل معين مدينا بمبلغ معين لكي يجعل حساب عميل آخر دائنا بذات المبلغ، أو هي نقل مبلغ من حساب لحساب آخر بمجرد قيود في الحسابين وتبدأ هذه العملية عندما تنشأ علاقة مديونية بين شخصين لكل منها حساب في البنك، فبدلا من أن يقوم المدين منها بسحب مبلغ من حسابه فيوفي به للآخر الذي يلجأ إلى البنك مرة أخرى ليودعه، يصدر العميل المدين أمرا إلى البنك بأن ينقل من حسابه إلى حساب دائنه مبلغا يعادل قيمة الدين فيجري البنك القيود اللازمة، ثم يخطر العميل الدائن بأنه أضاف إلى حسابه هذا المبلغ نقلا عن حساب مدينه، فيوافق الدائن أو على الأقل لا يعترض، وتمام العملية على هذا الوجه يغني عن استعمال النقود؛ لذلك سميت بأنها نقود قيدية. اهـ. ويقول: والغالب أن يتم النقل أو التحويل المصرفي من حساب عميل معين إلى حساب عميل آخر، ولكن لا يوجد ما يمنع من أن يصدر العميل إلى البنك أمرا بإجراء عملية التحويل المصرفي بين حسابين له في ذات البنك إذا كان يخصص كلا منهما لغرض معين، كما إذا كان له حساب لعملياته الشخصية وحساب آخر للعمليات التي يقوم بها في ممارسة حرفة معينة، وكما إذا كان شخصا معنويا- شركة أو جمعية مثلا- وله حساب خاص لكل فرع من فروعه المختلفة تسهيلا لعمليات السحب والإيداع، وقد يتم التحويل المصرفي بين عميلين لكل منهما حساب في ذات البنك،

ولكنه قد يتم أيضا بين عميلين في بنكين مختلفين، فيصدر الأمر من العميل المدين إلى البنك الذي يتعامل معه بأن يضع تحت تصرف بنك العميل الدائن مبلغا يقيده هذا البنك الآخر في حساب العميل الدائن، فكأن البنك الثاني يتولى عن البنك الأول القيام بعملية النقل بين العميلين دون استعمال النقود، ولا يقتضي الأمر عادة أن يعطي البنك الأول إلى البنك الثاني مبلغ ما قيده البنك الثاني لحساب عميله الثاني الدائن، إذ أنه غالبا ما يكون بين البنكين حسابات متصلة تتم تصفيتها عن طريق المقاصة. اهـ (¬1) ويشترط لصحة النقل المصرفي أن يكون الأمر بالنقل مؤرخا ليكون ذلك مانعا العميل الآمر من الرجوع عن أمره بالتحويل المصرفي، وليعطي تاريخ الأمر العلم بوقته في حال إفلاس أحد الطرفين البنك أو العميل، ليجري ترتيب المجريات القضائية على حكم التصرف في ذلك التاريخ. ويذهب الدكتور علي البارودي إلى القول: بأن النقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة تشبه عملية تسليم النقود، وفي هذا يقول: والنقل أو التحويل المصرفي عملية مجردة، فهو أشبه بعملية تسليم النقود ماديا من العميل الآمر إلى دائنه العميل المستفيد عن طريق مناولة يدوية من جانب البنك المتوسط، وعلى ذلك: فإن حق المستفيد في مواجهة البنك بعد القيد بات مستقلا تماما عن العلاقة بين البنك وبين العميل الآمر (¬2) ويقول في موضع آخر في معرض الحديث عن التكييف القانوني للنقل ¬

_ (¬1) انظر ص (278-280) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية] ، الطبعة الثانية. (¬2) انظر ص (281) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية] ، الطبعة الثانية

المصرفي ما نصه: لذلك اتجه أغلب الفقه والقضاء إلى تكييف النقل المصرفي بأنه عملية مادية شكلية، تساوي في نظر القانون عملية تسليم مادية من النقود، بل لقد أطلقوا عليها- والتعبير موفق إلى أبعد حد- أنها نقود قيدية، فالعميل المستفيد قد تسلم نقودا بالفعل من العميل الآمر، وكل ما هناك أن طريقة التسليم طريقة مصرفية حديثة (¬1) هذا العقد يثبت عادة بتسليم المدخر دفتر التوفير الموقع عليه بإمضائين من إمضاءات البنك المعتمدة والمقيد به المبلغ الذي فتح بمقتضاه حساب التوفير، وتنظم البنوك عادة بنود هذا العقد على النحو الذي يضمن جدية العقد من ناحية وتشجيع المدخرين من ناحية أخرى؛ فعقد حساب التوفير له طابع شخصي بحت والدفتر اسمي غير قابل للتحويل ولا للتداول، ولا يمكن لغير صاحب الدفتر أو ورثته أو وكلائه- متى أثبتوا صفتهم- السحب من المبالغ المودعة، وبديهي أنه لا يجوز السحب عن طريق إصدار الشيكات، وفيما يتعلق بالمبالغ المودعة في حساب التوفير يضع البنك عادة حدا أدنى للمبلغ الذي يجوز فتح حساب التوفير بمقتضاه (5 جنيهات مثلا) ، ويضع كذلك حدا أقصى (5000 جنيه) ، كما أنه يضع حدا أدنى للمبالغ التي تودع أو تسحب بعد ذلك من الدفتر (مبلغ جنيه واحد) ، كذلك يضع البنك حدا أدنى للمبلغ الذي يمكن أن يرتب فوائد لصالح المدخر (10 جنيه) بحيث إذا نقص المبلغ المودع في الدفتر عنه فإنه لا تحسب له فوائد أصلا، وبديهي أن هذه الحدود الدنيا الضئيلة تمثل أقل ما يمكن أن ¬

_ (¬1) انظر ص (284) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية] ، الطبعة الثانية.

يتطلبه البنك لجدية العقد، أما الحد الأقصى فالغرض منه استبعاد كبار المودعين الذين يريدون الاستفادة من فوائد حساب التوفير مع الاحتفاظ بودائعهم الكبيرة تحت الطلب. اهـ (¬1) قفل الحساب: قفل الحساب، يعني: إيقاف عمليات تبادل المدفوعات وتصفيتها وإخراج الرصيد النهائي لها دينا محررا واجب الأداء، والغالب أن يكون ذلك في صالح العميل. ولقفل الحساب أسباب وآثار: أ- أسباب قفل الحساب: لقفل الحساب أسباب كثيرة: أهمها أن يكون بين البنك وعميله اتفاق على فتحه لمدة معينة، أو أن فتحه كان لعملية مصرفية معينة، فبمجرد انقضاء المدة أو الانتهاء من العملية المصرفية يصبح الحساب مقفولا ما لم يحددا اتفاقا على تمديد فتحه، أما إذا لم يكن هناك اتفاق على تحديد مدة فتحه فيقفل الحساب بناء على طلب أحد طرفيه في وقت لاحق. ويقول الأستاذ الدكتور علي البارودي: بأن للحساب طابعا شخصيا، لذلك يجب قفله إذا طرأ على أهلية أحد الطرفين طارئ، كما إذا توفي العميل أو حجر عليه أو أفلس أو إذا كان العميل شخصا معنويا فانقضى، كذلك يجب قفل الحساب بمجرد إفلاس البنك أو تصفيته. اهـ (¬2) . ¬

_ (¬1) انظر كتابه [العقود وعمليات البنوك] ص (293) . (¬2) انظر ص (285) من كتابه [العقود وعمليات البنوك] ، الطبعة الثانية

ب- آثار قفل الحساب: يقول الدكتور علي البارودي ما نصه: عند قفل الحساب يجب تصفيته وبيان الرصيد النهائي وهو عادة لصالح العميل في حساب الودائع، وتصبح نتيجة الحساب نهائية بالاتفاق عليها أو بالحكم القضائي فلا يجوز إعادة النظر فيها بعد ذلك إلا لإصلاح خطأ مادي أو خطأ في عملية الحساب أو ترك أو تكرار لأحد القيود، ولا تقبل دعوى تصحيح الحساب حينئذ إلا إذا حدد المدعي المفردات التي وقع فيها الخطأ وعزز ادعاءه بالأدلة (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر ص (286) من كتابه [العقود وعمليات البنوك] الطبعة الثانية

حساب الادخار والتوفير

حساب الادخار والتوفير: يعتبر حساب الادخار والتوفير ضربا من ضروب حساب الودائع إلا أن له بعض سمات تجعل له لونا خاصا في التعامل، وإلى ذلك يشير الدكتور علي البارودي بقوله: عقد حساب التوفير كسائر عقود البنك عقد رضائي يتم باتفاق العميل المدخر مع البنك.

الحساب الجاري

الحساب الجاري تعريفه ومزاياه: للحساب الجاري أصول وقواعد وأحكام يختلف بها عن بقية الحسابات الآخرى، إذ أن كل دفعة من الدفعات تفقد ذاتيتها، وتشكل جزءا من كل لا يتجزأ في الحساب الجاري، وكثيرا ما يركن إليه إذا ما تعددت العمليات التبادلية وتكررت وأريد تصفيتها وإنهاؤها. ولقد درج بعضهم إلى تعريفه بما نصت عليه بعض المواد القانونية

التجارية، ومن ذلك المادة (106) من قانون التجارة الأردني، والمادة (393) من قانون التجارة السوري، والمادة (298) من قانون التجارة اللبناني من أنه يراد بعقد الحساب الجاري: الاتفاق الحاصل بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للأخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية قابلة للتمليك يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع ودينا على القابض دون أن يكون لأي منهما حق مطالبة الآخر بما سلمه له بكل دفعة على حدة، بحيث يصبح الرصيد النهائي وحده عند إقفال هذا الحساب دينا مستحقا ومهيأ للأداء. اهـ. ويذكر الدكتور أدوار عيد: بأن الحساب الجاري لا يعتبر مجرد قائمة بالعمليات المتبادلة بين الطرفين بقصد ضبط هذه العمليات وإقصاء عامل النسيان عنها وقت التصفية، وإنما هو صيغة حسابية خاصة تترتب عليها آثار هامة بين الطرفين، أهم خصائصها أن تندمج العمليات الجارية بين الطرفين اندماجا تاما داخل الحساب، بحيث تفقد كل منها كيانها الذاتي واستقلالها بمجرد قيدها فيه، فلا يعتبر أحد الطرفين دائنا أو مدينا للآخر، طالما أن الحساب مفتوح بينهما حتى إقفال الحساب وتسويته، حيث يظهر عندئذ رصيد دائن لأحد الطرفين على الطرف الآخر يكون مستحقا وقابلا للأداء في الحال. . . . إلى أن قال: وللحساب الجاري مزايا عديدة؛ فإنه يسهل تصفية العمليات بين طرفيه، ويفادي استعمال النقود بصدد كل منهما مكتفيا بمجرد قيدها في الحساب وما ينتج عنه من مقاصة فيما بينهما، بحيث إن الرصيد النهائي فقط يستلزم دفع النقود وبحكم هذه المقاصة بين الطرفين فإنه يلاقي كل منهما خطر إعسار الآخر، وتنجلي هذه الفائدة على

الأخص في حالة إفلاس أحد الطرفين، حيث إن الديون المستحقة والمقيدة في الحساب تكون قد سقطت فيما بينهما بالمقاصة، كما أن الديون لأجل المقيدة في الحساب على الطرف الذي أعلن إفلاسه تدخل تحت حكم المقاصة أيضا؛ لمجرد قيدها فيه قبل إعلان الإفلاس وسقوط أجلها بمجرد هذا الإفلاس. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر كتابه: [العقود التجارية وعمليات المصارف] ، ص (607، 608) ، مطبعة النجوي.

أركان الحساب الجاري

أركان الحساب الجاري: للحساب الجاري ثلاثة أركان: أحدها: الركن الإداري، وهو اتفاق الطرفين على فتحه، سواء كان الاتفاق منهما صراحة أو ضمنا مع اشتراط أن يكون كل منهما أهلا لصحة التصرفات الصادرة منه، ويعتبر الاتفاق ضمنيا في حال ما إذا جرى بين الطرفين مجموعة من المدفوعات المتبادلة، يقيدها كل منهما في حساب فتحه لديه دينا للدافع على القابض دون المطالبة بتسديد كل عملية على انفراد مع نية تسديد الرصيد عند إنهاء علاقتهما المتبادلة، وقد يعتبر حسابا جاريا في حال ما إذا أشعر البنك عميله بفتح اعتماد له في حساب جار ثم قام العميل بعد ذلك بسحب شيء من ذلك الاعتماد دون الاعتراض على فتح حساب جار بينهما، ويعود تقدير وجود حساب جار بينهما من عدمه في حال الخصومة في ذلك إلى محكمة الاختصاص. الركن الثاني: المدفوعات بين الطرفين، وهي الركن المادي ويشترط لقيد أي مدفوع في الحساب الجاري أن يكون مثليا؛ لتمكن المقاصة بينهما

سواء كان ذلك نقدا أو عينا، كالأرز والسكر ونحوهما، وأن يكون المدفوع حقا واجب الأداء، أما إن كان منازعا فيه أو معلقا على شرط محتمل الوقوع، فلا يصح قيده في الحساب الجاري، ولا يعني هذا استبعاد الديون المؤجلة عن قيدها في الحسابات الجارية، وإنما المقصود من ذلك استبعاد الديون المشكوك في وجوبها. وفي هذا يقول الدكتور أدوار عيد: وإذا كان الدين لأجل فيمكن قيده في الحساب الجاري إذ يعتبر نهائيا رغم تأجيل استحقاقه، وقد رأينا أن من مزايا الحساب الجاري أنه يتيح قيد الديون المؤجلة فيه حتى إذا أفلس العميل استحقت هذه الديون فور إعلان إفلاسه، وجرت المقاصة بينهما وبين الديون القابلة لها في الحساب (¬1) كما يشترط في المدفوع أن يكون معين المقدار، وأن يكون الدافع قد سلمها للقابض على سبيل التمليك. الركن الثالث: أن تكون المدفوعات المدرجة في الحساب الجاري متبادلة ومتشابكة، متبادلة بمعنى أن يقوم كل من الطرفين بدور القابض حينا ودور الدافع حينا آخر، فإن كان أحد الطرفين دافعا طيلة مدة الحساب دون أن يتلقى مدفوعات من الطرف الآخر لم يكن الحساب بينهما جاريا. ومتشابكة، بمعنى: أن يتخلل بعضها بعضا، فإن قام أحد الطرفين بمدفوعاته في الحساب ثم تلاه الآخر بمدفوعاته الأخرى لم يكن الحساب جاريا لفقد شرط التشابك في المدفوع. . ¬

_ (¬1) انظر ص (619) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف] . .

الفرق بين الحساب الجاري وبين الحسابات الأخرى

الفرق بينه وبين الحسابات الأخرى: فرق شراح القانون وعلماء الاقتصاد بين الحساب الجاري وحسابات الودائع والادخار ونحوها من حيث إن المدفوعات المتبادلة في الحساب الجاري تندمج بعضها في بعض، بحيث تشكل كلا لا يتجزأ حيث لا يمكن فصل بند من بنوده بمطالبة أو دعوى أو طلب مقاصة، بخلاف الحسابات الأخرى، فإن كل بند من بنودها يحتفظ باستقلاله وذاتيته وصلاحه للمطالبة والدعوى وضماناته الخاصة. وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي: لذلك لا بد- والأمر غاية في الأهمية- من تحديد نوع الحساب ومعرفة العلامات التي نعرف بها كلا منهما ونميزه بها على الآخر، والتفرقة من الناحية القانونية تظهر من الاتفاق، إذ من الطبيعي أن يبين طرفا الحساب ما إذا كانا يريدان الدخول في حساب جار أو مجرد حساب ودائع، ولا بد أن تتضح نية الطرفين بوجه خاص عند الاتفاق على الدخول في حساب جار- إلى أن قال-: ومن الناحية العملية يغلب أن يكون الحساب الجاري بين تجار أو بين البنك وتاجر أو صانع أو صاحب حرفة، لمقتضيات الائتمان الخاصة بحرفته. أما حساب الودائع فيغلب أن يكون بين البنك وبين المدخرين من الأفراد الذين يحفظون أموالهم في البنك، ويتعاملون بالشيكات التي يسحبونها عليه - إلى أن قال-: على أنه يجب أن لا ننسى أن هذه العلامات المميزة ليست هي الفيصل القاطع بين الحسابين، ونكرر مرة أخرى أن

المرجع في معرفة نوع الحساب هو إرادة طرفيه، ثم الشروط الخاصة التي يجب أن تتوافر في الحساب حتى يمكن اعتباره حسابا جاريا. اهـ (¬1) ¬

_ (¬1) انظر (304، 305) من كتابه [العقود وعمليات البنوك] الطبعة الثانية

الفوائد المتعلقة بالحساب الجاري

الفوائد المتعلقة بالحساب الجاري: يقول الأستاذ الدكتور محمد عوض: إن العادة قد استقرت بين البنوك وغيرها من البيوت التجارية أن كل مدفوع في الحساب الجاري يرتب فائدة بقوة القانون دون حاجة إلى الاتفاق على ذلك أو إنذار أو مطالبة قضائية بخلاف الحسابات الأخرى، فيجب فيها الاتفاق على ترتيب هذه الفوائد. ويعلل الأستاذ محمد عوض ترتب الفائدة على المدفوعات المتبادلة بأن ذلك تفسير لإرادة الطرفين حينما يتنازل كل منهما عن استحقاقه الفوري لما دفعه، فلا أقل من أن يتقاضى فائدة على بقائه. ويقول: وعلى كل حال فقد استقر هذا العرف ولم يعد محلا لمنازعته- ويضيف إلى ذلك قوله- وقد جرى العرف المصرفي على أن الأصل هو سريان فوائد المفردات من وقت دخولها الحساب، إلا أنه يغلب أن يحدد الطرفان موعدا آخر لبدء سريان الفائدة، ويكون تاليا لتاريخ دخول المفرد في الحساب، ويسمى هذا الموعد- اصطلاحا- القيمة، فيقال: إن المبلغ دخل الحساب في أول يناير والقيمة في (15) منه، أي: أن فائدته لا تسري إلا من (15) يناير (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ص (258-260) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] طبع دار النهضة

العمولة على فتح الحساب الجاري: كما أن البنك يجري فائدة على المدفوعات المتبادلة بينه وبين عملائه في الحسابات الجارية فإنه في الغالب لا يكتفي بما يأخذه فائدة لمدفوعاته؛ لكونها في رأيه غير كافية لتغطية نفقاته لفتح الحساب وتشغيله وتعريضه للمخاطر؛ ولهذا فقد استقر العرف المصرفي على أن للبنك الحق في أن يتقاضى أجرا عن هذه الخدمات يسمى عمولة. ويقول الأستاذ محمد عوض: بأن البنك لا يقتضي هذه العمولة إلا إذا كانت بينه وبين عميله سلسلة عمليات تؤدي إلى عدة قيود في الحساب، كما لو فتح الحساب بقصد منح العميل قروضا وبقصد وفاء ما يسحبه من أوراق تجارية، وتنفيذ أوامر النقل المصرفي التي يصدرها، أما إذا كان المقصود من فتح الحساب هو تسوية عمليات سبق أن تقاضى البنك عن كل منها عمولة خاصة وقت إبرامها- فإن البنك لا يطلب عمولة عن الحساب المفتوح لقيد مثل هذه العمليات، كذلك لا محل لاقتضاء مثل هذه العمولة إذا كان الحساب عاديا لا جاريا (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ص (268، 269) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] طبع دار النهضة

وقف الحساب الجاري

وقف الحساب الجاري: قد يعرض لأحد طرفي الحساب الجاري ما يتوقف به الحساب فترة من الزمن كإيقاف حركته فترة ما لعمل ميزان مؤقت يكشف عن مركز طرفيه من حيث الدائنية والمديونية، وقد يحلو لبعضهم التعبير عن ذلك الوقف بقطع الحساب.

ويرتب وقف الحساب أو قطعه آثارا أشار إليها الأستاذ الدكتور محمد عوض بقوله: ويرتب هذا القطع آثارا متعددة، فهو شرط لإمكان ترحيل الفوائد إلى الأصل وتجميدها ويتقاضى البنك عمولة، كما أن القضاء أعطاه دورا هاما في حالات عدة عندما سمح للعميل أن يستخدم صفته كدائن أثناء سير الحساب، معتمدا على ناتج هذا القطع (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ص (271) من كتابه [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] طباعة دار النهضة العربية.

تعليل قاعدة عدم التجزئة

تعليل قاعدة عدم التجزئة: إذا انعقد الحساب الجاري بين طرفيه فإن كل دفعة فيه بأي طريق من طرق الإيداع تتحول إلى بند من بنوده فتفقد كيانها الذاتي واستقلالها، وفي ذلك تقول المادة (303) من القانون التجاري اللبناني، والمادة (398) من القانون التجاري السوري، والمادة (111) من القانون التجاري الأردني ما مضمونه: إن الديون المترتبة لأحد الطرفين إذا أدخلت في الحساب الجاري فقدت صفاتها الخاصة وكيانها الذاتي، فلا تكون بعد ذلك قابلة على حدة للإيفاء ولا للمقاصة ولا للمداعاة ولا لإحدى طرق التنفيذ ولا للسقوط منفردة بمرور الزمن، وتزول التأمينات الشخصية أو العينية المتصلة بالديون التي أدخلت في الحساب الجاري ما لم يكن اتفاق مخالف بين الفريقين. وقد ذهب بعض فقهاء القانون وشراحه في تعليل تحول الإيداع الجديد في الحساب الجاري إلى بند من بنوده إلى أن في ذلك تجديدا للحساب بتغيير سببه، إذ أن المدين الذي كان ملتزما بدفع الدين الأصلي لا يكون

ملتزما بعد قيده في الحساب الجاري إلا بدفع رصيد هذا الحساب بعد قفله. وقد انتقد الأستاذ الدكتور أدوار عيد هذا التعليل بقوله: ولكن هذه النظرية كانت محل نقد شديد من جانب بعض الفقهاء، ذلك أن التجديد يؤدي إلى انقضاء الدين الأصلي وحلول دين جديد مكانه، الأمر الذي لا يتحقق في الدين الذي يدخل في الحساب الجاري؛ لأن هذا الدين لا يتحول بدخوله في الحساب إلى دين جديد مستقل، بل إلى مجرد بند في الحساب، أي: إلى جزء منه لا كيان له ولا استقلال. ولذا فقد ذهب الفقهاء الذين يؤيدون نظرية التجديد إلى القول: بأنه ليس ثمة تجديد بالمعنى الصحيح، بل شبه تجديد أو تجديد من نوع خاص، وهذا تعبير غير واضح من الناحية القانونية (¬1) وذهب بعضهم إلى تعليل ذلك بنظرية المقاصة، إذ كل دين يدخل في أحد جانبي الحساب الجاري ينقضي بالمقاصة مع ديون أخرى في الجانب الآخر من الحساب، بحيث يصبح الحساب الجاري عمليات مقاصة متتابعة. وقد انتقد الأستاذ أدوار عيد هذه النظرية بقوله: ولكن هذه النظرية قابلة للنقد أيضا، ذلك أن المقاصة تفترض وجود دينين متقابلين ينقضيان بمقدار الدين الأقل منهما، بينما قد يحصل أن يدخل دين أحد الطرفين في الحساب دون أن يكون هناك دين مقابل له للطرف الآخر. . . إلى أن قال: كما أن تطبيق نظرية المقاصة يؤدي في حال وجود اختلاف بين قيمة الدينين ¬

_ (¬1) انظر ص (633) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف] مطبعة النجوي

المتقابلين، أي: بين رصيد الحساب والدين المعاكس له الذي يفترض أعلى قيمة منه إلى استمرار تأمينات هذا الدين الأخير بالنسبة للفرق بين الدينين، في حين أن أحكام الحساب الجاري تقتضي زوال هذه التأمينات (¬1) واختار لذلك القول: بأن قاعدة تحول الدين إلى بند في الحساب الجاري تنطوي على ميزات وآثار خاصة بها، لا يمكن ردها إلى القواعد العامة المقررة في القانون المدني، وهذه الميزات والآثار تجعل من الحساب الجاري نظاما خاصا مستقلا بنفسه، تحكمه القواعد المقررة بشأنه في قانون التجارة وفي العرف والاجتهاد القضائي. وعلى أي حال فسواء وجد تعليل وجيه لقاعدة تحول الدين الجديد في الحساب الجاري إلى بند من بنوده أو لم يوجد فإن التقنين التجاري والعرف المصرفي قد أقرا هذه القاعدة، وأوجبا العمل بمقتضاها فصارت سمة لازمة للحساب الجاري. ¬

_ (¬1) انظر ص (634) من كتابه [العقود التجارية وعمليات المصارف] مطبعة النجوي

آثار قاعدة عدم التجزئة

آثار قاعدة عدم التجزئة: تترتب على قاعدة عدم التجزئة في الحساب الجاري آثار أهمها ما يلي: ا- لا يجوز رفع الدعوى بالمطالبة بدين أدخل في الحساب الجاري، لأنه بدخوله فيه أصبح غير مستحق حتى يظهر الرصيد النهائي. 2 - إذا دفع أحد طرفي الحساب الجاري مبلغا ما لإدخاله فيه فإن هذا المبلغ لا يعتبر وفاء لمديونيته فيه؛ لأن كل طرف فيه لا يعتبر دائنا أو

مديونا قبل قفل الحساب وظهور الرصيد النهائي فيه. 3 - إن أي دفعة فيه لا يجوز إجراء مقاصة عليها، لأن المقاصة تعتمد على اعتبار الدفعة الجديدة فيه دينا مستقلا، والقاعدة تقضي: بأن أي دين جديد في الحساب الجاري يعتبر بندا من بنوده ويفقد ذاته واستقلاله. 4 - إن الدين الذي يدخل في الحساب الجاري لا يخضع للتقادم المسقط؛ لأنه باعتباره بندا من بنوده الجاري عليها لحساب يعتبر متحركا حتى قفل الحساب وظهور رصيده النهائي (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر ص (635-637) من كتاب [العقود التجارية وعمليات المصارف] للدكتور أدوار عيد، مطبعة النجوي.

قفل الحساب الجاري

قفل الحساب الجاري: إن قفل الحساب الجاري يعني: إيقاف التعامل به نهائيا، والاتفاق على إنهاء جانبيه بعدم السماح بدخول مدفوعات جديدة، ومن ثم تصفيته واستخلاص الرصيد النهائي من مجموع مفرداته؛ ليمكن تحديد مركز طرفيه من ذلك الرصيد من دائن ومدين. ولقفل الحساب أسباب إرادية وأسباب خارجة عن الإرادة، ويمكن تلخيص الأسباب الإرادية فيما يلي: ا- اتفاق الطرفين صراحة على إنهاء الحساب ولو كان ذلك قبل مضي مدة اتفقا على تحديدها مدة لجريان حسابهما. 2 - اتفاق الطرفين ضمنا على إنهاء الحساب الجاري بينهما، كأن تتوقف عمليات المدفوعات المتبادلة بين طرفيه ويتوقف تبعا لتوقفها

إرسال ميزان الحساب مرة أخرى، أو أن يفقد الحساب قدرته على تلقي المدفوعات بين الطرفين. 3 - رغبة أحد الطرفين في قفله إذا لم يكن بينهما اتفاق على مدة معينة لجريانه إلا أنه يشترط لهذه الرغبة أن تكون في وقت مناسب ومتفق مع العادة المتبعة في المصارف. أما الأسباب الخارجة عن الإرادة فأهمها ما يلي: ا- الإفلاس: ذلك أن إفلاس أحد طرفي الحساب يؤدي إلى عجزه عن تتابع المدفوعات بين طرفيه للحجز على يد المفلس في إدارة أمواله. 2 - الوفاة: وقد خالف بعضهم في اعتبار الوفاة سببا موجبا لقفل الحساب إذا أبدى الورثة رغبتهم في استمرار الحساب مع أن مجموعة من القوانين التجارية في البلاد العربية قد نصت على أن الوفاة سبب لقفل الحساب، فقد ذكرت المادة (306) من قانون التجارة اللبناني، والمادة (401) من قانون التجارة السوري، والمادة (114) من قانون التجارة الأردني على أن عقد الحساب الجاري ينتهي بوفاة أحد طرفيه أو فقدانه الأهلية، أو بإفلاسه. وقد علل شراح القوانين اعتبار الوفاة سببا موجبا لقفل الحساب بأن الحساب الجاري يشبه بعض العقود الجائزة كالوكالة أو الشراكة. وقد انتقد الأستاذ الدكتور محمد عوض هذا الرأي وقال: وأولى أن يشبه عقد الحساب الجاري بالعقود المستمرة، فهو عقد مستمر وككل العقود المستمرة هو يقوم على الثقة؛ لأن استطالة مدة التنفيذ تتطلب من كل من طرفي العقد أن يركن إلى أمانة الطرف الآخر، ومن الثابت: أن موت أحد

طرفي العقود المستمرة لا يؤدي إلى إنهائها فورا، وبقوة القانون، فضلا على أن عقد الحساب الجاري هو عقد تابع مقصود به تسوية العمليات المترتبة على عقود أخرى بين طرفيه، فإذا كانت هذه العقود لم تنته بالوفاة فما معنى انتهاء عقد الحساب الجاري، وهو تابع خادم للعقود الأصلية؟! ولعل بعض القضاة قد راعى هذه الملاحظات فحكم أن في وسع ورثة المتوفى إطالة أجل الحساب الجاري الذي كان مورثهم طرفا فيه، وتستخلص رغبتهم في ذلك من عدم قيامهم بإخطار البنك بوفاة العميل ورغبتهم في قفل الحساب وتسويته، كما حكم أن الحساب الذي يفتحه البنك لورثة عميله وهم في حالة شيوع مع استمرارهم في ذات الاستغلال الذي كان مورثهم يباشره لا يعد حسابا مستقلا قانونا عن الحساب الأول. اهـ (¬1) وإذا تم قفل الحساب ترتبت عليه الآثار الآتية: أ- وقوع المقاصة بين مفردات الحساب. ب- استخراج الرصيد وتسويته. ج- الوفاء بالرصيد. بمعنى: أنه بمجرد تسويته واستخراجه يكون مستحق الأداء فورا ما لم يتفق الطرفان على تأجيل الوفاء أو إدراجه في حساب جديد. د- جواز الحجز عليه تحت يد المدين به باعتباره دينا واجبا مستحق الأداء. ¬

_ (¬1) انظر كتابه ص (278) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] .

عدم جواز إحياء الحساب بعد قفله، لكون رصيده أصبح دينا مستحقا واجب الأداء، فإذا أراد طرفاه استئناف التعامل بينهما بطريق الحساب الجاري فتحا حسابا جديدا (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر ص (238-240) من [العقود وعمليات البنوك التجارية] للدكتور علي البارودي، الطبعة الثانية.

أهم خصائص الودائع والحساب الجاري

ومما مضى نستطيع استعراض أهم خصائص الودائع والحساب الجاري فيما يلي: ا- إن الودائع بمختلف أنواعها يدخل صاحبها مع المصرف الوديع في حساب يسمى حساب الودائع، والغالب أن المصرف يعطي على بقائها فوائد ربوية، يختلف حجم بعضها عن بعض تبعا لطول بقاء هذه الودائع لديه وقصره. ولا شك أن البنك لا يقوم بحفظ ذات الودائع لديه، وإنما يأخذها على سبيل تملكها وضمان مثلها ولزوم دفعها حال الطلب، وإن وجد الخلاف في تكييفها من الناحية القانونية، هل هي قرض أو وديعة بالمعنى الصحيح أو وديعة شاذة أو ناقصة؟ تكييف الودائع المصرفية من الناحية الشرعية: إن الفقه الإسلامي قد يعتبرها في حكم القرض؛ لاتفاقها معه من حيث النتيجة في تملك عينها وتعلقها بذمة آخذها ورده مثلها في حالة مطالبة صاحبها بها. قال في [الروض المربع] : القرض: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله. . . ويصح بلفظه ولفظ السلف وكل ما أدى معناهما. . . . . . ويملك

القرض بقبضه كالهبة، ويتم القبول. . . . . فلا يلزم رد عينه للزومه بالقبض، بل يثبت بدله في ذمة المقترض حالا ولو أجله (¬1) وقال في [كشاف القناع عن متن الإقناع] : فإن استعارها، أي: الدراهم والدنانير لينفقها أو أطلق أو استعار مكيلا أو موزونا ليأكله أو أطلق، فقرض تغليبا للمعنى فملكه بالقبض (¬2) وقد يعتبرها ربا؛ لما فيها من المعاوضة بين نقدين، والحديث «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل (¬3) » . . .) إلخ، وأما الفوائد على بقاء الودائع لدى المودع فأمرها جلي واضح في أنها تجمع بين نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة، حيث يأخذ المودع زيادة على ما دفع مع التأخير، وبالرغم من تحقق معنى الربا فيما يعطيه المصرف للمودعين ووضوحه ووضوح تحريمه من نصوص الشريعة الإسلامية وقواعدها عرض لجماعة من المعاصرين شبهة في ذلك جعلتهم يعتقدون الجواز فيما يدفعه المصرف للمودعين زيادة على رءوس أموالهم، بناء على أن المصرف استقبل ما يدفع إليه من الأموال وأخذها للتنمية والإنتاج، لا لدفع كربة أو تفريج شدة من تسديد ديون أو استهلاك في كسوة أو قوت أو نحو ذلك من ضرورات الحياة حتى تكون محرمة، وبناء على زعمهم أن مقاصد الشريعة تقضي بتحريم الربا فيما أخذ للاستهلاك فقط، وأن هذا هو ربا الجاهلية الذي وردت النصوص بتحريمه دون ربا التنمية والإنتاج. ¬

_ (¬1) انظر الجزء الثاني ص (151-153) مطبعة السعادة بمصر (¬2) انظر ص (51) الجزء الرابع، مطبعة أنصار السنة المحمدية. (¬3) صحيح البخاري البيوع (2176، 2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، كتاب البيوع (4581) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) .

وقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد عبد الله العربي تلك الشبهة وأجاب عنها بما نصه: قال بعض المعاصرين- هنا وفي بلاد إسلامية أخرى-: إن الربا الذي حرمه الإسلام هو ما اتصل بقروض استهلاكية، يقترضها ذوو الحاجة الملحة ويؤدون عنها رأس مالها ثم الربا المضاف إليها، أما القروض الإنتاجية التي يقترضها الموسرون ويوظفونها في مشروعات إنتاجية تدر عليهم ربحا وفيرا، فإن الفائدة التي يؤدونها عن رأس المال الذي اقترضوه ليست بالربا المحرم. ونرد عليهم: بأن تسمية الربا بالفائدة لا يغير طبيعته، فالفائدة ليست إلا زيادة في رأس المال المقرض، وكل زيادة عنه هي ربا لغة وشرعا. وأكبر حجة ساقوها على هذا الرأي هو أن الربا الذي حرمه القرآن هو ما كان سائدا في الجاهلية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن العصر الجاهلي لم يكن أهله على علم بالقروض الإنتاجية وأثرها في النشاط الاقتصادي الحديث. ونسوا أن القرآن خاتم الهدايات الإلهية لم يكن ليشرع لعصر معين، بل تشريعه يمتد إلى أبد الدهر، ولم يكن ليغيب عن علم الله سبحانه وتعالى ما سوف يتمخض عنه اقتصاد هذا العصر- أو أي عصر- من اعتماد على القروض الإنتاجية، والزعم بضرورة ترتيب فائدة عليها حتى لا تنقطع، ونسوا قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬1) بغير تمييز بين ما إذا كانت رءوس الأموال هذه التي استخدمها مقترضوها قد استخدموها في أغراض إنتاجية أو استهلاكية، ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 279

ونسوا كذلك الحديث الذي يقرر أن: «كل قرض جر نفعا فهو ربا (¬1) » فلم يميز الرسول بين ما إذا كان القرض الذي عاد بزيادة على المقرض قد فرج كربة المقترض أو وظفه في تمويل مشروع إنتاجي، ولو شاء سبحانه هذا التمييز أو علم أن فيه خيرا للناس لما ترك النص عليه. وسنبين لهم- من واقع تجارب هذا العصر وشهادة كثير من علماء الاقتصاد في هذا العصر بالذات- أن الربا في هذه القروض الإنتاجية قد تسبب في أضرار فادحة في الاقتصاد العالمي المعاصر، ولكنا نريد في البداية أن نمحص الحجة التي يتوكئون عليها وهي أن العصر الجاهلي لم يكن يعرف ما نشأ في العصور الحديثة من القروض الإنتاجية. حسب الباحث أن يتأمل في الظروف المادية التي أحاطت بالاقتصاد الجاهلي وبالبيئة الجاهلية- بيئة مكة وما حولها من قرى الحجاز - ليوقن أن القروض الإنتاجية كانت ضرورة حيوية من ضرورات اقتصادهم، فمكة - مهد الإسلام- وما حولها من القرى التي كانت ترتبط معا بروابط اقتصادية وتجارية تجعل القرض الإنتاجي لازما من لوازم حياتهم. وينبئنا التاريخ بأن الطائف - مقر قبيلة ثقيف - وهي قرية تبعد إلى الجنوب الشرقي من مكة بنحو خمسة وسبعين ميلا، وكانت تمتاز بأرض خصبة في الوديان المحيطة بها، وكانت لذلك تصدر إلى مكة وقرى الحجاز الأخرى حاصلاتها من الزبيب والقمح والأخشاب وغيرها، ¬

_ (¬1) روي مرفوعا ولم يصح، وروي موقوفا على علي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام.

وكانت تستورد من مكة السلع التي تأتي بها قريش في كل من الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن وجنوب الجزيرة، وهذا التبادل التجاري كان يتم أكثره عن طريق القروض الربوية، لا سيما أن جالية كبيرة يهودية كانت تقيم بالطائف، هاجرت إليها بعد طردها من اليمن، ولم تكن لها صناعة إلا الإقراض بالربا لهذا النشاط التجاري لأهل الطائف وما حولها. أما مكة فكانت في أرض جدباء، لا زراعة فيها ولا غابات ولا معادن، ولذلك كانت لا تعتمد في رزقها إلا على التجارة، حتى أصبحت أعظم مركز تجاري في الجزيرة العربية. يقول المؤرخون: إنها كانت (المحطة) الوسطى بين مأرب وغزة في طريق القوافل الرئيسي بين متاجر الشرق ومتاجر الغرب، وقالوا: إن مكة صارت على هذا النحو أشبه بجمهورية تجارية تعيش اقتصاديا على الرحلتين، وكان يزيد في مكانتها التجارية أن قريشا كانوا سدنة الكعبة والبيت الحرام، وكانوا لذلك موضع الرعاية والتكريم في حلهم وترحالهم. وكان للتجارة بصفة عامة احترام كبير في نفوس قريش، ويتجلى ذلك على الأخص في أن المهاجرين من قريش إلى يثرب - بالرغم من كل ما قدم لهم الأنصار من مشاركة في أرزاقهم تغنيهم عن الكد والسعي- آثر أكثرهم أن يبدأوا في الحال ممارسة التجارة. قال أبو هريرة: (إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق) أي: الخروج إلى التجارة. وهكذا يروي التاريخ كيف كانت مكة مركز نشاط تجاري عظيم، ومحط القوافل في غدوها ورواحها، يترقبها أهل مكة رجالا ونساء،

وأكثر قد وظف بعض ماله في السلع، التي تحملها هذه القوافل، كما يروي التاريخ أن قافلة أبي سفيان التي أدى خوف الاستيلاء عليها إلى غزوة بدر، كانت قريش كلها مساهمة في تمويلها، والتمويل يحتاج إلى رأس مال، فإذا لم يكن رأس المال متوافرا لدى بعضهم لجأ هذا البعض إلى الاقتراض بربا يتعهد بأدائه إلى المقرض اعتمادا على أن الربح الذي سوف يجنيه من توظيف المال المقترض في التجارة سوف يدر عليه أكثر من الربا المفروض عليه، أي: أن هؤلاء كانوا يقومون بالدور الذي يسمى الآن دور (الشريك القائم) يعطي ما اقترضه من المال إلى القائمين فعلا بالاتجار، شراء السلع في إحدى الرحلتين ثم بيعها في الرحلة الأخرى، ثم يدفع في النهاية من النصيب الذي خصه رأس المال الذي اقترضه بالإضافة إلى مبلغ الربا المتفق عليه. لذلك عجبت قريش عندما جاء الإسلام يحرم الربا، وقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (¬1) هو تأجير لرأس المال، والربا الذي يستحقه المقرض هو أجرة رأس المال، فكان الربا على هذا النحو جزءا لا يتجزأ من حياتهم الاقتصادية، وكان أصحاب المال في مكة لا يقتصرون على إقراض مواطنيهم في مكة، بل يمتد إقراضهم إلى أهل القرى الأخرى في الحجاز، فكانوا يساهمون بصفة أصلية في تمويل القوافل، وفي الوقت ذاته يقرضون غيرهم ليشاركهم في تمويلها. فقد ثبت أن عباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وخالد بن الوليد وغيرهما كان إقراضهم يتجاوز حدود مكة إلى أهل الطائف، وثبت أن عثمان بن عفان كان من أغنياء التجار الذين يمولون التجارة على نطاق واسع. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275

وهكذا يتبين بما لا شك فيه: أن عرب الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا في حالتين: الحالة الأولى: عند تقديم قرض لأجل معين بربا يزيد على رأس مال القرض، وكانت هذه الزيادة تحدد بما يتفق عليه الطرفان، فطورا كان المقترض يدفع هذه الزيادة على أقساط شهرية، وطورا كان يدفعها جملة واحدة عند حلول أجل القرض، فإذا عجز المقترض عن السداد أعطى أجلا آخر بعد مضاعفة قيمة القرض، وفي حالة تقسيم الزيادة على أقساط شهرية كانت تضاعف هذه الأقساط مقابل تأجيل سدادها. الحالة الثانية: حالة البيع: أي يبيع البائع السلعة بثمن مؤجل فإذا حل الأجل أو عجز المشتري عن أداء الثمن زيد الثمن وامتد الأجل، كما ثبت أن البيع مع تأجيل الثمن لم يكن فقط لعجز المشتري عن تعجيل الثمن، بل كان لإمهاله حتى يبيع السلع التي اشتراها، وكانت الشركة المسماة (شركة الوجوه) شائعة في الجاهلية، وهي أن شخصين أو ثلاثة يعقدون عقد شركة فيما بينهم بغير تقديم أي مال من أحدهم، وكانوا اعتمادا على الثقة فيهم يشترون مع تأجيل الثمن، فإذا باعوا سلعهم المشتراة اقتسموا الربح بعد تسديد الثمن، وفي بيئة كالبيئة الجاهلية كان شراؤهم بغير تعجيل الثمن يقترن دائما بفائدة ربوية للبائعين مقابل الأجل. فلما جاء الإسلام أحدث ثورة في أساس حياتهم الاقتصادية: كان أساس القرض الإنتاجي في العصر الجاهلي أن لا يقترن الإقراض بأي مخاطرة من جانب رب المال، فهو يقدم مال القرض ويفرض عليه الفائدة الربوية ثم يسترد رأس المال ورباه، سواء ربح المشروع أو خسر،

ثم جاء الإسلام فحرم الربا مهما كان هدف القرض، ووجه بذلك ضربة قاضية إلى النظام الاقتصادي القائم. إن أهمية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) لم تقتصر على إحلال البيع وتحريم الربا، بل قلبت التفكير الاقتصادي عن دور رأس المال ودور التجارة رأسا على عقب، جاء الإسلام فشجع التجارة وبالتالي شجع عملية الإقراض ولكن بغير زيادة على رأس المال. عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن السلف- أي: القرض- يجري مجرى شطر الصدقة (¬2) » وجاء في [السنن] لابن ماجه أنه قال: «ما من مسلم يقرض قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة (¬3) » ، وعن ابن مسعود أنه قال: (كل قرض صدقة) (¬4) وهكذا استمرت بعد الإسلام القروض بنوعيها: - استهلاكية وإنتاجية- يقدمها أرباب المال بغير ربا، بدافع الإخاء الإسلامي والتعاون الإسلامي، وما يرتجيه رب المال من ثواب على هذا الصنيع، بل ثبت أن بيت المال كان يخرج بغير ربا قروضا لمشروعات إنتاجية. وروى الطبري: (أن هندا ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب فاستقرضته من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها وتضمنها فأقرضها، فخرجت بها إلى بلاد كلب فاشترت وباعت، فلما أتت المدينة شكت الوضيعة- أي: الخسارة- فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته، ولكنه مال ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275 (¬2) رواه الإمام أحمد في [المسند] . (¬3) سنن ابن ماجه الأحكام (2430) . (¬4) رواه الطبراني في [الأوسط] وأبو نعيم في [الحلية] .

المسلمين) اهـ. إلى أن قال. . . ونحسب أنه بعد هذا البيان لم يبق محل للجدل في أن الربا الذي حرمه الإسلام يشمل القروض الإنتاجية والقروض الاستهلاكية على السواء، وأن القروض الإنتاجية كانت شائعة في العصر الجاهلي، فجاء الإسلام يحرم الربا عليها كما حرمه على القروض الاستهلاكية. وقبل أن نختم هذه الكلمة الموجزة عن الربا يجب أن نكشف عن العلة في تحريمه كشفا نهتدي فيه بعقلنا البشري، أما التحريم في ذاته فهو قائم، لأنه أمر الله، الله الذي لا يريد لعباده إلا الخير، وقد تقصر عقولنا البشرية عن إدراك مدى حكمته. أما الربا على القرض الاستهلاكي فحكمة تحريمه ظاهرة لا تحتاج إلى بيان فهو يتنافى مع الأخلاق الإسلامية، وهو يهدم جميع الخصائص التي جعلها الله من مقومات المجتمع الإسلامي. . أما الربا على القرض الإنتاجي فلعل حكمة تحريمه لم تظهر على أوضح وجه كما ظهرت منذ أجازت التشريعات الأوروبية قرض (الفائدة) على القروض. ونكتفي هنا بما أثبتته المشاهدات الواقعية لآثار هذا الربا في عصرنا مرجئين التدليل عليها إلى سياق البحث. فمن جهة المرابي: ترتب على تحليل الربا على القرض الإنتاجي في القرون الثلاثة الأخيرة- كما سنوضح تفصيلا فيما بعد- أن نشأت البنوك الحديثة، فتركز في أيدي أصحابها الجانب الأكبر من المال المتداول في المجتمع، حتى صارت لهم السيطرة الكبرى على اقتصاديات المجتمع ثم امتدت هذه السيطرة إلى سياسة المجتمع الداخلية والخارجية، وإلى

تشريعات المجتمع، بل وإلى أخلاقياته وأسلوب تفكيره، بما أحرزوه من سيطرة على وسائل الإعلام، ودأبوا على توجيه كل هذه القوى في الاتجاه الذي يكفل لهم المزيد من القوة المالية، ويدعم المكانة الرفيعة التي اغتصبوها، وإن ضحوا في سبيل ذلك بالمصالح الحقيقية للشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. ثم يجب أن لا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن المال الذي آتى أصحاب البنوك هذه القوة وهذه السيطرة لم يكن في البداية مالهم الخاص، بل أكثره مال المودعين الذي أودعوه في خزائنهم لآجال معينة يحصلون في مقابلها على فائدة صغيرة، ثم يقرض أصحاب البنوك أصحاب المشروعات الإنتاجية بفائدة أكبر، ويستحلون هذا الفرق الكبير بين الفائدتين، وشيئا فشيئا تركز أكثر المال السائل في المجتمع في حوزتهم، وهكذا دانت لهم السيطرة المالية بغير أي كد أو جهد بذلوه، بل كانت عملية امتصاص دماء المجتمع وهم رابضون في بنوكهم. أما من جهة المنتج الذي يقترض بالربا فهذه بعض النتائج التي تترتب على رباه: أولا: غلاء أسعار السلع التي ينتجها المقترض، إذ المنتج يضيف فائدة القرض إلى تكاليف إنتاج السلع التي يشتريها المستهلكون، فكأن المجتمع - لا المنتج المقترض- هو الذي يدفع الفائدة الربوية. ثانيا: المجتمع يدفع الفائدة الربوية إذا ظلت دورة الرخاء التي اعتمد عليها المنتج قائمة، وإذا ظل مستوى الطلب على السلعة متفقا مع تقديره، أما إذا تقلصت دورة الرخاء أو إذا نقص الطلب على السلعة بسبب ارتفاع ثمنها

نتيجة لإضافة الفائدة الربوية، فإن الوضع يختلف، إذ يؤدي ارتفاع الثمن إلى انحسار الاستهلاك تدريجيا، فيبقى فائض من المنتجات بغير تصريف هذا الفائض له عواقبه. ثالثا: المنتج إذا أراد تخفيض تكاليف الإنتاج التي ارتفعت بسبب إضافة الفائدة إليها لا يجد أمامه إلا أجور العمال، فيسعى إلى تخفيضها أو إلى الاستغناء عن بعضهم، أما الاستغناء فيؤدي إلى خلق البطالة، وأما تخفيض أجور العمال فيؤدي إلى نقص القوة الشرائية في المجتمع، وفي الحالتين يزداد الاستهلاك انحسارا ويزداد فائض المنتجات، فتنشأ الأزمات الدورية التي صارت لازمة من لوازم الاقتصاد الغربي. رابعا: والسعي إلى تصريف فائض الإنتاج يؤدي إلى البحث عن أسواق خارجية، وطبعا لن يكون أكثرها إلا في البلاد المتخلفة غير الصناعية، ولا سبيل إلى استدامة هذه الأسواق إلا ببسط نفوذ الدول الصناعية عن طريق الاستعمار، وهكذا تنتقل بلية الربا من مجتمع إلى مجتمعات الإنسانية كلها، كما ثبت أن هذا التنافس الاستعماري كان من الأسباب التي أشعلت حربين عالميتين، وقد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. خامسا: إذا أخفق المنتجون المقترضون بالربا في تخفيض أجور العمال لجأوا إلى وسيلة أخرى هي تخفيض أثمان المواد الأولية التي تعتمد عليها صناعاتهم والتي يستوردون أكثرها من البلاد المتخلفة غير الصناعية، وهنا تتآمر الدول الصناعية بتكتلاتها الاحتكارية على تخفيض أثمان المواد الأولية، غير مكترثة بالأضرار الفادحة التي تصيب بها الجانب الأكبر من سكان الأرض، وغير حافلة بالجهود التي تبذلها منظمات هيئة الأمم

المتحدة في محاولة قمع هذا الاتجاه. وبعد: فهذه بعض الأضرار التي أصابت البشرية كلها من إجازة الفائدة الربوية على القروض الإنتاجية، حتى رأينا بعض علماء الاقتصاد -وفي الدول الرأسمالية بالذات- يندد بالفائدة في الاقتصاد الرأسمالي. وهذا تصديق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬2) اهـ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 278 (¬2) سورة البقرة الآية 279

2 - التفريق بين حساب الودائع والحساب الجاري من حيث احتفاظ كل دفعة من أي طرف في الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع بكيانها واستقلالها، وبالتالي خضوعها للآثار الحقوقية من حيث المطالبة بها والمقاصة عليها، بخلاف ذلك في الحساب الجاري فإن كل دفعة من أي طرفيه تفقد كيانها واستقلالها وتخضع للانصهار في كليته؛ لتكون بندا من بنوده لا تجوز المطالبة بها ولا المقاصة عليها ولا اعتبارها حقا قائما بذاته، وإنما هي جزء من كل لا يتجزأ هو جانبا الحساب الجاري الدائنية والمديونية. وقد مر بنا محاولة تعليل هذا التقعيد للحساب الجاري فمن قائل بأن انصهار المدفوعات في الحساب الجاري وعدم اعتبار أي دفعة منها دينا قائما بذاته يعني بذلك التجديد، ومن قائل بأن المقاصة بين المديونية والدائنية هي التي قضت على كل دفعة فيه، واتجه النقد إلى كلا التعليلين

ثم قيل: بأن العرف المصرفي وقواعد الحساب الجاري قضيا بذلك، سواء وجد تعليل يسنده المنطق أم لم يوجد. هذه المسألة تحتاج إلى كثير من النظر والتأمل، وعلى افتراض وجاهة التقعيد لها في الحساب الجاري فيمكن أن يقال بأن المصلحة تعتبر سندا لتلك القاعدة باعتبار: أن تجزئة الحساب وبقاء كل دفعة فيه متعلقة بما عليها وما لها من حقوق يعرقل سير الحساب ويحول دون أدائه وظائفه التي من أهمها تسوية المدفوعات المتشابكة والمتبادلة بين الطرفين.

3 - العمولة في نظر القانون: العمولة سبق ذكر أن العادة المصرفية قد جرت بين البنوك في أخذ عمولة على الحساب الجاري باعتبار أن أخذ البنك الفائدة على مدفوعاته لا يكفي لتغطية نفقاته وقيمة مسئولياته تجاهه، وقد أخذ باعتبار ذلك ومشروعيته بعض القوانين العربية وغيرها، وحكمت بوجاهته واعتباره بعض محاكم الاختصاص في فرنسا ومصر وغيرهما، ولكن بشيء من التحفظ والقيود، وفي ذلك تقول المادة (227) من القانون المدني المصري الجديد ما نصه: كل عمولة أو منفعة أيا كان نوعها اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة المتفق عليها على الحد الأقصى المتقدم ذكره وهو (7%) تعتبر فائدة مستمرة وتكون قابلة للتخفيض إذا ما ثبت أن هذه العمولة أو المنفعة لا تقابلها خدمة حقيقية يكون الدائن قد أداها ولا منفعة مشروعة (¬1) ¬

_ (¬1) انظر [الوسيط] ، للسنهوري، جـ 2 رقم 512 ص 908.

العمولة في حكم الشريعة الإسلامية: إن العمولة التي يأخذها البنك يمكن أن يقال عنها بأنها من قبيل الأجرة على تحمل متاعب تشغيل الحساب الجاري، كما يتعلل بذلك أصحاب المصارف، كما يمكن أن يقال بأنها جزء من الفائدة الربوية تشكل قدرا إضافيا إليها صار من البنوك الاحتيال عليها بتسميتها عمولة، وإذا ادعى أنها من قبيل الأجرة على قيد وتشغيل الحساب كنفقات قرطاسية، فإن النفقات القرطاسية في الغالب لا تخضع للزيادة والنقصان تبعا لزيادة حجم المدفوعات ونقصها؛ إذ إن نفقات قيد القليل والكثير واحدة. ولذلك يمكن أن يقال: بأن الأخذ بمبدأ النسبة المئوية في العمولة تبعا لحجم المدفوعات والحال أن قيود القليل والكثير واحدة في غير محله، وقد يعطي البرهان على إرادة الفائدة الإضافية، ويمكن أن يقال أيضا بأن لتحمل المسئولية مجالا في الاعتبار، فإن الاحتياطات التي تبذل في سبيل قيود المدفوعات الكثيرة ليست كالاحتياطات التي تبذل بخصوص المدفوعات القليلة، وعليه فيمكن التسليم بوجاهة توظيف الأجرة بطريق النسب المئوية على المدفوعات في الحسابات الجارية، وربما يرد على القول بأن لتحمل المسئولية مجالا في الاعتبار، بأن تحمل المسئولية ليس متقوما حتى يجعل له اعتبار في استحقاق العوض.

ثانيا إيداع الوثائق والمستندات

ثانيا: إيداع الوثائق والمستندات: تعتبر وديعة الوثائق والمستندات لدى المصارف وديعة بالمعنى الحقيقي تترتب عليها أحكام الوديعة من قيام الوديع بحفظ الوديعة في حرز مثلها وبرد عينها وبانتفاء الضمان في هلاكها بما لا قدرة له على دفعه من

الأسباب القاهرة. ويرى الأستاذ علي البارودي: بأنها تشبه الوديعة المدنية العادية، ثم ذكر أنها تختلف عنها من حيث إنها تتضمن معاوضة إذ يتقاضى البنك عنها دائما أجرا يتفق عليه، بينما الأصل في الوديعة المدنية أنها تبرعية ما لم يتفق صراحة على أجر، كذلك يتميز عقد وديعة الصكوك في البنك بأنه قد يستتبع عمليات ثانوية متعددة يقوم بها البنك وكيلا عن عملية المودع (¬1) والغالب: أن الاتفاق بين البنك وعميله على إيداع المستندات يكون بأجرة رمزية؛ لأن البنك يهدف من تلقي ودائع الوثائق والمستندات إلى تأكيد صلته بعملائه، ليعهدوا إليه بعمليات قد تستلزمها تلك الوثائق كتحصيل أرباحها أو التوسط في بيع محتوياتها لأخذ عمولات على ذلك، كما أن احتفاظ البنك بمحفظة مالية لأحد عملائه يعني علمه بحالته المالية، فيفيده إذا أقدم على ائتمانه في عمليات أخرى، والغالب أن الإيداع من العميل يكون اختياريا، وقد يجد العميل نفسه مضطرا للإيداع كأن يكون عضوا في مجلس إدارة مؤسسة مالية يفرض عليه النظام العام أو نظام المؤسسة نفسها إيداع أسهم الضمان في بنك معتمد من جهة الاختصاص. ونظرا إلى أن وديعة المستندات تتم بين العميل والمصرف بأجرة يجري الاتفاق على تحديدها وإلى أنه قد يعطى البنك توكيلا في البيع أو التحصيل أو نحو ذلك مما تستلزمه تلك المستندات، يشترط للدخول في عقدها الأهلية للالتزام بذلك، وقد استقر العرف القانوني على تسمية الاتفاق على ¬

_ (¬1) انظر ص (255) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية] الطبعة الثانية.

الإيداع عقدا بين المودع والوديع يتم به تسليم المستندات إلى البنك بعد تحرير بيانها بقائمة تجري مراجعتها من قبل الوديع، ومن ثم إعطاء المودع إيصالا بها تكون له قيمته في الإثبات وفي حق حضور اجتماع الجمعيات العمومية للشركات التي أصدرتها أو أصدرت بعضها، وتلزم بالاتفاق على الوديعة والدخول في إنفاذها أجرة يجري تعيين مقدارها بين الطرفين، ونظرا إلى أن العقد من حيث هو عقد يقضي بالتزامات كل طرف تجاه الآخر فإن لعقد ودائع الوثائق والمستندات التزامات من الطرفين المودع والوديع للآخر. أشار إليها الدكتور محمد عوض: فبين أن العقد يرتب على العميل التزامات أهمها ما يلي: أ - دفع الأجرة التي جرى عليها الاتفاق بينه وبين البنك، وإذا لم يكن بينهما اتفاق على تحديدها فيرجع إلى العرف في ذلك، والغالب أن يستقل البنك بتحديد هذه الأجرة، وإذا كانت السندات المودعة عنده لحامله فيبالغ في تحديد الأجرة؛ لأن مخاطر حفظها أكثر من مخاطر حفظ السندات الاسمية. ب - دفع عمولة على مجرد فتح ملف خاص بالوديعة ولو استردها المودع فورا. ج - دفع العمولات المستحقة عن العمليات التي يجريها البنك، بناء على طلب المودع، مما له تعلق بالوثائق والمستندات. وللبنك أن يحبس الأوراق المودعة حتى يستوفي حقه عليها من أجر وعمولة مما له تعلق بعملياتها التبعية.

وكما أن على العميل المودع التزامات للبنك تجاه وديعته فإن على البنك الوديع التزامات أصلية والتزامات تبعية. أما الالتزامات الأصلية فأهمها ما يلي: أ - على البنك أن يبذل طاقته وجهده للمحافظة على الأوراق الوثيقية المسلمة إليه من الناحية المادية مع مراعاة حكم العادات المصرفية، والأصل أن يحفظ الوديعة في مكان الإيداع فإن نقلها عن محل الإيداع بلا إذن الوديع اعتبر مفرطا، وسئل عما يترتب على النقل من مخاطره. ب - لا يجوز للبنك الوديع أن يستعمل وديعة الوثائق والمستندات لأغراض خاصة به، فلا يجوز للبنك أن يرهن السندات لدين عليه، كما لا يجوز له أن يمكن غيره من استعمالها. ج - يتعين على البنك أن يرد الوديعة في الموعد المتفق عليه إن كان ثم بينهما اتفاق على موعد معين وإلا ردها إليه متى طلبها، ذلك أن من مقتضيات الالتزام بالحفظ رد الوديعة في الموعد المتفق عليه إلا في حالات أشار إليها الأستاذ الدكتور محمد جمال الدين عوض بما ملخصه: أنه قد يكون العقد بين البنك والعميل وديعة ومع ذلك لا يكون البنك ملزما بتنفيذ الالتزام بالرد في حالات أهمها ما يلي: أ - إذا كان من حق البنك أن يحبس المستندات حتى يستوفي حقوقه ضد المودع. ب - متى كان له أن يتمسك بامتياز حفظ المنقول عليها. ج - إذا باشر عليها إجراءات الحجز تحت يد نفسه طبقا للمادة (573)

مرافعات (¬1) د - إذا حجر عليها تحت يده أو عارض شخص في تسليمها إلى المودع مستندا إلى حق له عليها. هـ - إذا تغير العقد الأصلي وحل محله عقد جديد، فقد يزول الالتزام بالرد ليحل محله الالتزامات الناشئة من هذا العقد الجديد كأن يتلقى البنك أمرا من المودع ببيع المستندات المودعة، فيصبح البنك من هذه اللحظة وكيلا بالبيع وينتهي التزامه برد المستندات، كما إذا أقرض البنك العميل أو فتح له اعتمادا برهن المستندات تغيرت صفة حيازة البنك فأصبح حائزا بصفته مرتهنا بعد أن كان حائزا بصفته وديعا. وأما التزامات البنك التبعية فيقول عنها الدكتور محمد عوض ما نصه: لا يقتصر التزام البنك على مجرد حفظ المستندات ماديا، بل إن عليه فوق ذلك القيام بعمليات قانونية ومادية معينة تهدف إلى تحقيق هذا الغرض وهو الحفظ وإلا لم تتحقق الفائدة من العقد، بل إنه يكون مصدر متاعب للمودع، إذ يضطر أن يسترد السندات في أوقات معينة، ليقوم هو بهذه العمليات ثم يردها إلى البنك وهكذا، ويكون عندئذ من الأوفر له أن يستأجر لها خزانة بأجر زهيد، ولذلك فالمقرر أن عقد إيداع السندات يلقي بذاته على البنك واجب القيام ببعض العمليات اللازمة لخدمتها دون حاجة إلى اتفاق خاص، ويظل العقد مع ذلك خاضعا لأحكام الوديعة وإن كان ¬

_ (¬1) من قانون المرافعات المصري.

البنك في خصوص العمليات التي يقوم بها لحساب العميل في مركز الوكيل، ثم ذكر أن مستلزمات البنك التبعية تستمد من العقد المبرم بينه وبين عميله ومن قصدهما في إبرامه، ويستنتج القصد من قيمة الأجرة، ومن النشرات التي يصدرها البنك لعملائه، إلى غير ذلك مما يلابس عملية الإيداع من القرائن والأحوال. ثم بدأ في استعراض تلك الالتزامات التبعية فذكرها بما ملخصه: يلزم البنك استحصال الكوبونات والسندات المستهلكة باعتبار أن ذلك نتيجة من نتائج الإيداع والالتزام بالحفظ ويضيف الدكتور علي البارودي إلى ذلك قوله: ففيما يتعلق بالأسهم مثلا: يقوم البنك بتحصيل الكوبونات ويتحقق من صحة القرعة عند الاستهلاك، ويقوم بتنبيه المودع إلى حقوقه في القيام بالعمليات التي تخولها له ملكية الأسهم، وعلى الأخص حقه في الاكتتاب عند زيادة رأس مال الشركة، ويخطره بمواعيد اجتماع الجمعية العمومية للشركات المختلفة التي أصدرت الصكوك المودعة. وينفذ فوق هذا أو ذاك التعليمات والأوامر التي يصدرها إليه عميله من بيع أو شراء أو تحويل أو تجميع لهذه الصكوك (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ص (261) من كتابه [العقود وعمليات البنوك التجارية] الطبعة الثانية.

ثالثا إيجار الخزائن الحديدية

ثالثا: إيجار الخزائن الحديدية: تعريفه - فوائده - طابعه - آثاره. يقول الدكتور علي البارودي: بأن ماهية إيجار الخزائن الحديدية عبارة

عن عقد يلتزم البنك بمقتضاه أن يضع في العقار الذي يشغله خزانة حديدية تحت تصرف العميل وحده مقابل أجر يختلف باختلاف حجم الخزانة ومدة انتفاع العميل بها (¬1) ويتميز عقد إيجار الخزائن الحديدية عن غيره من عقود المعاملات المصرفية بأنه عقد مستقل بالعميل نفسه. لا يعود للبنك منه أي فائدة تبعية سوى أنه عامل من عوامل اجتذاب العملاء، وإذا كان البنك يأخذ أجرة على تأجيره الخزائن فإن هذه الأجرة في الغالب لا تتناسب مع تكاليف إنشاء هذه الخزائن ولا مع المسئولية في الحفاظ عليها بعد استئجارها. أما العميل فله فوائد أهمها ضمان سلامة وحفظ الأشياء التي أودعها في الخزانة الحديدية، وضمان سريتها والقدرة على الاستمرار في السرية، بحكم أن مفتاحها بيده وحده، وأن البنك لا يمكن غيره من فتحها، بخلاف ما لو كان ذلك في بيته أو متجره، فإن المحافظة على سريتها والاستمرار على ذلك مما لا يستطيعه في الغالب. ولعقود إيجار الخزائن الحديدية طابع شخصي يبدو في حرص البنك على اختيار عملائه المستأجرين في أن يكونوا من ذوي المؤهلات الخلقية ممن يعرفون باستقامتهم وحسن معاملاتهم ونزاهة تصرفاتهم في مختلف شئون الحياة من تجارية ومدنية وسياسية، كل ذلك لتفادي البنك الأضرار التي تنجم ممن هم ليسوا في مستوى أخلاقي صالح للتعامل المدني أو التجاري عند دخولهم قاعة الخزائن ¬

_ (¬1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] ص (265) .

آثار العقد: لعقد إجارة الخزائن الحديدية آثار تتضح في الالتزامات المتبادلة بين طرفيه ذلك أن عقد إجارة الخزانة الحديدية يلزم البنك لعميله أمورا أهمها ما يلي: أ - محافظة البنك على الخزانة وحراستها عن الأسباب التي قد تؤدي إلى هلاك ما بها أو تلفه كالحريق والسرقة ونحو ذلك مما في مقدوره دفعه. ب - تمكين المستأجر من الانتفاع بالخزانة وبذل الجهد في سبيل تأمين رغبة المستأجر في أن يكون انتفاعه بها سريا، تحقيقا لغرضه من الاستئجار ومن ذلك إيجاد فواصل خاصة بين الخزائن حتى يضمن العميل سرية الاطلاع المنفرد على ما بداخل خزانته. ج - التحقق من شخصية عميله المستأجر قبل السماح له بدخول صالة الخزائن. د - احتفاظ البنك بمفتاح آخر يستعمله في حال الاضطرار إلى إنقاذ محتويات الخزانة من حريق أو فيضان أو نحو ذلك. كما أن العقد يلزم العميل للبنك أمورا أهمها ما يلي: أ - دفعه الأجرة المتفق عليها في عقد الإجارة واحتفاظه بمفتاح الخزانة ورده عند انقضاء العقد. ب - في حال فقده مفتاح الخزانة عليه إبلاغ البنك بذلك؛ ليمنع البنك أي محاولة ممن يجد المفتاح من الدخول إلى صالة الخزائن وفتحه

الخزانة. ج - احترامه للائحة صالة الخزائن وتقيده بمواعيد الزيارة، وألا يضع في الخزانة ما يهدد سلامة الخزانة أو البنك نفسه (¬1) ¬

_ (¬1) انظر [العقود وعمليات البنوك التجارية] للدكتور علي البارودي صفحة (267، 268) الطبعة الثانية.

التكييف القانوني لعقد إيجار الخزانة

التكييف القانوني لعقد إيجار الخزانة: اختلف فقهاء القانون وشراحه في تخريج عقد إيجار الخزائن الحديدية هل يخرج على أنه وديعة أم على أنه عقد إجارة؟ فمن نظر إلى أن الخزانة وما تحتويه من ممتلكات العميل تعتبر في عهدة البنك وحراسته اعتبر العقد وديعة وأجرى عليه أحكام الوديعة. ومن نظر إلى أن العميل قد استأجر بالفعل هذه الخزينة من البنك ومكنه من استخدامها استخداما يتمكن به من الحفاظ على سرية ما يضعه فيها وسلامته بأجرة معينة لمدة محدودة اعتبرها من عقود الإجارة. وفي ذلك يقول الدكتور علي البارودي: إن معرفة ما إذا كان إيجار الخزانة أقرب إلى الوديعة أو هو أقرب إلى الإيجار، ذلك أيضا موضوع خلاف بين الفقهاء وبين أحكام القضاء، ويذهب البعض إلى القول بأنه عقد ذو طبيعة خاصة يسميه عقد الحراسة، ولكن مثل هذا الرأي لا يحل الإشكال القائم، إذ يبقى بيان الآثار الخاصة التي يمكن أن تترتب على هذا العقد الجديد، والواقع أن في هذا العقد نوعا من الحيازة المشتركة لا تتوافر في عقد الوديعة، حيث تكون الحيازة للمودع لديه وحده ولا في عقد

الإيجار حيث تكون الحيازة للمستأجر وحده ففي عقد إيجار الخزانة يحوز البنك الخزانة ويحوز العميل ما بداخلها، فلو أن الخزانة ذاتها ملك للعميل لما كان هناك شك في أن العقد يكون وديعة تماما كمن يودع حقيبة مغلقة لدى شخص آخر لا يعلم ما بداخل الحقيبة، فملكية البنك للخزانة هي التي تمنع القول بأن العقد عقد وديعة (¬1) ¬

_ (¬1) انظر كتاب [العقود وعمليات البنوك التجارية] صفحة (269، 270) الطبعة الثانية.

التكييف الشرعي لعملية استئجار الخزانة

التكييف الشرعي لعملية استئجار الخزانة: يظهر والله أعلم أن للعقد جانبين، جانب استئجار يبدو في تأجير البنك عميله الخزانة الحديدية بأجرة معينة لمدة محدودة يتمكن فيها من استخدام الخزانة في غرضه الذي استأجرها لأجله، هذا الجانب يمكن اعتباره عقدا مستقلا تثبت له أحكام الإجارة، وجانب إيداع يبدو في التزام البنك بالحفاظ على الخزانة وبذل الأسباب العادية في حمايتها وسلامتها من أي ضرر يلحق بها مما يستطيع دفعه، ونظرا إلى أن البنك مسئول مسئولية ضمان عن هذه الخزينة المستأجرة وحماية محتوياتها من الأسباب الموجبة لهلاكها أو تلفها فيمكن أن تعتبر بيده وديعة مضمونة، ولا يؤثر على اعتبارها وديعة أن البنك يملكها، فإن العميل قد استأجرها منه، فانتفى حقه في الانتفاع بها مدة الإجارة، وأصبح الانتفاع بها من حق العميل وحده فكأنها ملكه، وعليه فيمكن أن يقال بجواز ذلك شرعا.

خلاصة عمليات الإيداع

خلاصة عمليات الإيداع الإيداع: أن يدفع شخص لغيره ما يريد حفظه من نقد أو عين أو وثائق،

أو ما يريد حفظ سريته، أو ينال ربحا من ورائه، أو ما يريد إدارته من الوثائق. ولعمليات الإيداع أنواع كثيرة، أهمها: إيداع النقود، وإيداع الوثائق والمستندات، والإيداع في خزائن حديدية يستأجرها العميل من المصرف. وفيما يلي بيان ذلك: أولا: الودائع النقدية: وهي ما يسلمه شخص من النقود لمصرف بناء على عقد بينهما يملك به المصرف ما تسلمه، ويتعهد للمودع أن يرد إليه مثله عند طلبه أو عند أجل محدد في العقد دفعة أو دفعات مع فائدة ثابتة أو دون فائدة، وتتخذ أشكالا عدة تبعا لطبيعة إيداعها، فقد تكون تحت الطلب، فللمودع أن يستردها متى شاء، وقد يتفق المصرف معه على فائدة ثابتة إذا كان ذلك في مصلحة المصرف، وقد تكون وديعة لأجل، فليس للمودع أن يستردها قبله، والغالب أن المصرف يعطي فائدة عليها، لأنه يستطيع أن يعتمد عليها في نشاطه، وقد تكون وديعة بشرط الإخطار، فللمودع أن يستردها متى شاء لكن بشرط إشعار المصرف قبل استردادها بمدة ما، ويعطي صاحبها فائدة مثل ما يعطي على الودائع التي تحت الطلب، وقد تكون ودائع مخصصة لغرض تعود مصلحته على المودع كرصد مبلغ لصفقة، أو تعود مصلحته للمصرف، كأن تكون ضمانا لحساب آخر، أو لمصلحة شخص ثالث، ولا يجوز استرداد الوديعة في هاتين الحالتين حتى ينتهي الغرض الذي أودعت من أجله.

وللودائع النقدية مزايا، فإنها تساعد المودع على الادخار، وتحفظ له ماله، ويكسب منها فائدة، وتؤمن للمصرف المبالغ التي تساعده على عمليات الخصم والائتمان اللذين يعودان عليه بالعمولة والفوائد وتكسبه ثقة في نفوس المودعين. تكييف عقد الإيداع: اختلف علماء الاقتصاد في تكييف الودائع النقدية، فقيل: تعتبر ودائع عادية (حقيقة) ، ونقد بأن خواص الودائع الحقيقية لا توجد فيها، فإن المصرف يملكها وتثبت في ذمته ويتصرف فيها ويضمنها للمودع ولو هلكت بأمر لا طاقة له برده، وقيل: تعتبر وديعة شاذة ناقصة، ونقد بما تقدم، بأنها محل خلاف فقد أنكرها بعض علماء الاقتصاد. وقيل: إنها قرض، وقيل: إنها من الناحية القانونية عقد يكمن في إرادة الطرفين، ويستقل قاضي الاختصاص بالكشف عنه، فإن كان المصرف مأذونا له في استعمالها فهي قرض تسري فيه أحكام القروض، وإن كان غير مأذون له في استعمالها فهي وديعة حقيقية تسري عليها أحكام الودائع، والذي يعنينا تشخيص عقدها عند علماء الفقه الإسلامي وسيأتي إن شاء الله. ويستتبع عقد إيداع النقود عقد فتح حساب بين المودع والمصرف من أجل ما يطرأ على الودائع من زيادة ونقص بدفع المودع مبالغ أخرى أو سحبه من ودائعه، وبقيد مبالغ في حسابه من حساب مدينه أو العكس. وبإضافة مبالغ لحسابه قد قبضها المصرف بتفويضه كقيمة أسناد أو تحصيل شيكات أو عائدات أسهم مالية، وتسمى هذه العمليات المتبادلة بين الطرفين: تشغيل الحساب، وتختلف الحسابات المفتوحة باختلاف

غرض الطرفين، فإن كان قصدها من قيد حاصل العملية في حساب تسويتها فورا، واتخاذ الحساب لمجرد إثبات لهذه التسوية أو لإثبات وقوع العملية فهو حساب عادي، وإن كان القصد تحويل العملية إلى مفرد في الحساب وإرجاء تسوية هذا المفرد إلى نهاية الحساب فهو حساب جار. وفيما يلي الكلام على كل منهما: أ - الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع: تعتبر كل عملية من عملياته أو دفعة من دفعاته مستقلة عن الأخرى تمكن الدعوى والمطالبة بها وسحبها والحوالة عليها اعتبار كل من الطرفين دائنا أو مدينا قبل نهاية الحساب، ويغلب أن يكون هذا الحساب بين المصارف والمدخرين الذين يحفظون أموالهم في البنك، ويتعاملون بالشيكات التي يسحبونها عليه. ينهى هذا الحساب بإيقاف عمليات تبادل المدفوعات وتصفيتها، وإخراج الرصيد النهائي لها دينا محددا أو واجب الوفاء، ولإنهائه أسباب، أهمها: انقضاء المدة المتفق عليها، وانتهاء العملية المصرفية التي فتح الحساب من أجلها، وطروء ما يسلب أهلية أحد الطرفين كوفاة العميل أو إفلاسه أو جنونه، أو إفلاس المصرف أو تصفيته، وينهى أيضا بطلب أحد الطرفين في وقت مناسب إذا لم يكن بينهما أجل محدد، وتصبح نتيجة الحساب نهائية بالاتفاق عليها أو بالحكم القضائي، فلا يجوز إعادة النظر فيها إلا لإصلاح خطأ مادي أو خطأ في عملية الحساب، ولا تقبل دعوى ذلك إلا بتحديد المدعي موقع الخطأ وتعزيز دعواه بالأدلة. ومن أنواع حساب الودائع: حساب الادخار والتوفير: وهو عقد رضائي

يتم باتفاق العميل المدخر مع المصرف، ويثبت بتسليم المدخر دفتر التوفير موقعا عليه بإمضاءين من إمضاءات البنك المعتمدة، ومشتملا على ما يضمن جدية العقد، ويرغب المدخرين، إلا أنه يفترق عن حساب الودائع بأمور، منها: أنه شخصي بحت والدفتر اسمي غير قابل للتحويل، ولا يجوز سحب شيء من المدخر عن طريق الشيك، ولا يجوز لغير صاحب الدفتر أو ورثته أو وكيله السحب ولو أثبت صفته. . إلخ. ب - الحساب الجاري ومزاياه: هو عقد بين شخصين على أن ما يسلمه كل منهما للآخر بدفعات مختلفة من نقود وأموال وأسناد تجارية يسجل في حساب واحد لمصلحة الدافع، بحيث تفقد كل دفعة استقلالها بمجرد قيدها فيه، فلا يعتبر أحد الطرفين مدينا ولا دائنا حتى يسوى الحساب ويقفل، فعندئذ إذا ظهر رصيد مدين بشيء وجب الأداء في الحال للطرف الدائن. وللحساب الجاري مزايا، منها: تسهيل تصفية العمليات بين الطرفين، وتفادي استعمال النقود اكتفاء بمجرد قيدها والمقاصة بينها. أركانه مع شروطها: أركانه ثلاثة: الأول: إرادي: وهو اتفاق الطرفين على فتحه صراحة أو ضمنا، ويشترط في كل منهما أن يكون أهلا لصحة التصرفات الصادرة منه، ويرجع عند الخصومة في وجود حساب جار إلى محكمة الاختصاص. والثاني: مادي: وهو المدفوعات بين الطرفين، ويشترط لقيد أي مدفوع في الحساب الجاري: أن يكون مثليا لتمكن المقاصة، وأن يكون

حقا ثابتا مؤجلا، لا متنازعا فيه ولا معلقا على أمر محتمل الوقوع، وأن يكون معلوم المقدار، وأن يسلمه الدافع للقابض على سبيل التمليك. والثالث: أن تكون المدفوعات متبادلة متشابكة، متبادلة بمعنى: أن يقوم كل من الطرفين بدور الدافع حينا ودور القابض حينا، ومتشابكة بمعنى أن يتخلل بعضها بعضا. الفوائد والعمولة في الحساب الجاري: استقر العرف المصرفي على أن كل مدفوع في الحساب الجاري يوجب فائدة دون اتفاق على ذلك أو إنذار أو مطالبة قضائية بخلاف حساب الودائع، فلا تثبت إلا بالاتفاق عليها، كما جرى العرف المصرفي بأن الأصل سريانها على كل دفعة من وقت قيدها في الحساب، إلا أن الغالب أن يحدد الطرفان موعدا لبدء سريانها بعد تاريخ قيد الدفعة في الحساب، ويسمى هذا الموعد: القيمة. ولا يكتفي البنك غالبا بما يأخذ من فائدة لمدفوعاته؛ لكونها في نظره غير كافية لتغطية نفقاته لفتح الحساب وتشغيله وتعريضه للمخاطر؛ ولذا استقر العرف المصرفي على أن للبنك الحق أن يتقاضى أجرا عن خدماته يسمى: عمولة، وذلك فيما إذا كان بينه وبين عميله سلسلة عمليات تؤدي إلى عدة قيود في الحساب. تعليل قاعدة عدم التجزئة في الحساب الجاري وبيان آثارها: تقدم أن دفعات الحساب الجاري يندمج بعضها في بعض بحيث تفقد كل واحدة منها استقلالها. وقد علل علماء الاقتصاد ذلك بعلل، لم تسلم منها واحدة مع ما يشوبها من خفاء وغموض، إلا أن التقنين التجاري

والعرف المصرفي قد أقرا هذه القاعدة وأوجبا العمل بمقتضاها، فصارت سمة لازمة للحساب الجاري، والذي يعنينا بيان الحكم الشرعي فيها وفيما يتبعها من عمولة وفوائد. أما آثارها: فأهمها ما يلي: 1 - لا يجوز رفع دعوى بالمطالبة بدين أدخل في الحساب الجاري حتى يظهر الرصيد النهائي. 2 - لا يعتبر ما أدخله أحد الطرفين في الحساب وفاء بدين عليه للطرف الآخر حتى يظهر الرصيد النهائي. 3 - لا يجوز إجراء مقاصة بين دفعاته حتى تتم التصفية ويظهر الرصيد النهائي. 4 - لا يخضع الدين الذي أدخل في الحساب الجاري لنظام التقادم فلا يسقط به. قفل الحساب الجاري وأسبابه وآثاره: قد يرى أحد طرفي الحساب الجاري وقفه فترة من الزمن، لينكشف بذلك الدائن والمدين من طرفيه، وقد يسمى هذا قطع الحساب، ويترتب عليه إمكان ترحيل الفوائد إلى الأصل وتجميدها وتقاضي البنك عمولة، واستخدام صفته كدائن أثناء سير الحساب اعتمادا على نتيجة هذا القطع. وقد يكون وقفه نهائيا بمنع دخول دفعات جديدة، ثم تصفيته واستخلاص الرصيد النهائي من مجموع دفعاته؛ ليتبين الدائن والمدين من طرفيه. أما أسباب قفله: فإرادية وغير إرادية: فمن الإرادية:

1 - اتفاق الطرفين صراحة على إنهائه ولو قبل المدة المحددة بينهما لجريان حسابهما. 2 - اتفاقهما ضمنا على إنهائه، كتوقف عمليات المدفوعات المتبادلة بينهما، أو فقد الحساب قدرته على تلقي المدفوعات بين الطرفين. 3 - رغبة أحد الطرفين في قفله عند عدم تحديدهما مدة لجريانه، ولكن يشترط أن يكون ذلك في وقت مناسب وأن يكون متفقا مع العادة المتبعة في المصارف. وغير الإرادية: إفلاس أحد طرفيه، أو فقده الأهلية، أو وفاته على خلاف فيها إذا استعد الورثة للاستمرار. وأما آثاره: فوقوع المقاصة بين مفردات الحساب وتصفيته الرصيد، ووجوب الوفاء على المدين من طرفيه فورا ما لم يتفقا على التأجيل أو إدراج الدين في حساب جديد، وجواز الحجر عليه تحت يد المدين به، وعدم إحياء الحساب بعد قفله، لكن لهما أن يفتحا حسابا جديدا.

تكييف عمليات حساب الودائع في الفقه الإسلامي وبيان حكمها. مما تقدم يتبين: أن ما يسمى بالودائع في حساب الودائع يملكه المصرف، ويضمن مثله لعميله، ويدفع عليه في الغالب فائدة، ويأخذ عمولة في بعض الأحوال. كما يتبين أن علماء القانون والاقتصاد اختلفوا في تكييف عقد هذه العمليات: فقيل: عقد ودائع حقيقية، وقيل: عقد ودائع شاذة. وقيل: عقد قرض. والذي يعنينا هنا تكييفه في الفقه الإسلامي، هل هو نوع من العقود التي

سماه بها علماء الاقتصاد أو عقد بيع؟ فقد يقال: لا يجوز أن يكون وديعة حقيقية ولا شاذة؛ لأن ما دفعه العميل يملكه المصرف ويتصرف فيه ويضمن مثله ويدفع عليه فائدة، وهذه الخواص ليست من سمات الودائع، بل هي على العكس من ذلك. وقد يقال أيضا: لا يجوز أن يكون عقد قرض؛ لأن أخص خواص القرض قصد الإرفاق المحض والمعروف الخالص ابتغاء الثواب؛ ولذا استثني من عموم النهي عن بيع الربوي بمثله نسيئة، وهذا المعنى ليس متحققا في حساب الودائع. ويمكن أن يقال: إنه عقد بيع؛ لتضمنه معاوضة نقد أو ما في حكمه بنقد أو ما في حكمه مع قصد الكسب المادي من فائدة ربوية يأخذها العميل بالإيداع، ويتمكن فيها المصرف من الإقراض أو غيره، ومن أجل ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم بيعا في قوله: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، يدا بيد (¬1) » . . . . إلى أن قال: «فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد (¬2) » . وعلى هذا تكون من العقود المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع؛ لما فيها من التفاضل بين ربويين، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬3) الآيات إلى قوله: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬4) وفسر ذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نهى فيها عن الربا، وعلى ذلك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2176، 2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، كتاب البيوع (4581) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) . (¬3) سورة البقرة الآية 275 (¬4) سورة البقرة الآية 279

أجمعت الأمة. ولكن هل يفسد العقد لعدم اشتراط الربا فيه، فيرد للعميل رأس ماله فقط وتلغى الفائدة والعمولة، أو يصح العقد ويبطل الشرط فللعميل رأس ماله فقط؟ ثم هل يجوز الإيداع في المصرف بلا فائدة للحاجة إلى الحفظ، وتيسير المعاملات أو يمتنع - نظرا لما فيه من إعانة المصارف على استعمالها في الربا - أو التمكين من استعمال غيرها بسبب وجودها في المصرف؟ أما عمولة المصرف على القيد في السجلات والإجراءات ونحوها فهي جائزة إن لم تتخذ ستارا يؤكل الربا باسمها. ومن زعم أن الربا المحرم هو ربا القروض الاستهلاكية؛ لأنه ربا الجاهلية الذي حرمته النصوص، ولأنه هو الذي يتجلى فيه الظلم، لا ربا القروض التي يستعان بها في الإنتاج؛ لما فيها من تيسير الإنتاج وتبادل المصالح وإنماء الثروة والنهوض بالأمة في شتى المرافق - من زعم ذلك فهو واهم، أو ملبس متكلف للباطل؛ وذلك لأمور: الأول: أن ربا الإنتاج كان موجودا أيضا زمن نزول آيات تحريم الربا كما يدل على ذلك تاريخ واقع الجزيرة أيام الوحي، فإن المسلمين في مكة كانوا تجارا، والمهاجرين بالمدينة كانوا تجارا، واليهود حول المدينة كانوا تجارا، والأنصار بالمدينة كانوا زراعا، وكل من التجارة والزراعة طريق من طرق التنمية والإنتاج، والشأن في ذلك الحاجة إلى الإقراض والاقتراض، وقد نزلت آيات الربا عامة، وفصلتها الأحاديث وأكدت عمومها، فشمل التحريم ربا الإنتاج

والاستهلاك. الثاني: أنه على تقدير أن قروض الإنتاج لم تكن في عهد النبوة فالشريعة المحمدية عامة لمن كان في عهد النبوة ومن سيجيء إلى يوم القيامة، مبينة لأحكام العبادات والمعاملات في كل عصر من العصور، والله عليم بما كان وما سيكون، فمن حكمته أن بين لهم أحكام ما كان من الأحداث والمعاملات، وما سيكون رحمة بالأمة وإسقاطا للأعذار. الثالث: أنه ليس كل ما فيه منفعة يكون مباحا أو مشروعا، بل لا بد من ذلك أن ترجح مصلحته على مضرته ويغلب خيره شره حتى يكون مشروعا أو مباحا، فإن الخمر والميسر فيهما منافع للناس وقد حرمهما الله سبحانه، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1) ولذا حرمهما سبحانه وتعالى، وقد رحم عباده بسعة ما أباحه لهم من المعاملات، فجعل الأصل فيها الإباحة حتى يثبت دليل المنع، وحرم علينا الربا في المعاملات، فكان فيما أحله غنى لنا عما حرمه مما تربو مضرته على منفعته. الرابع: أن المصارف الربوية من أقوى العوامل في تكدس الثروات في أيد قليلة ليسوا ملاكها، بل هي ودائع بمصارفهم تمكنهم من السيادة الاقتصادية، ثم الكفاح بذلك وبالمكر السيئ إلى الأخذ بمقاليد ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 219

السلطة السياسية وتوجيهها إلى ما يراد من استيلاء وقهر واستعمار وتحكم في العباد ودعاية إلى الشر والفساد والتمكين للقلق والاضطراب في الدول والإمارات. ويوضح هذا ما نقله الدكتور محمد عبد الله العربي عن كتاب [فرنسا اليهودية أمام الرأي العام] : قال: إن الذي يلفت النظر في عصرنا ليس هو فقط تكدس الثروات في أيد قليلة، وأحيانا بأساليب فاجرة، بل هو على الأخص تكدس قوة هائلة تتمثل في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها ولا قيد، وسيطرة تصول بها فئة قليلة ليسوا هم في الغالب ملاك المال، بل هم مجرد مستودعين له، ولكنهم يديرون ويتصرفون كما لو كانوا ملاكه بالفعل، إنها لقوة هائلة تلك التي يصول بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال وعلى الائتمان، أي: الإقراض الذي يوزعونه بمحض مشيئتهم المطلقة، فكأنهم بذلك إنما يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي بكل أوضاعه، فإذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس، وإذا شاءوا قدروا مدى انسيابه في جسم هذا الجهاز التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية. ثم إن تجمع هذه القوة وهذه الموارد المالية في أيديهم يؤدي إلى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية، وذلك يتحقق في خطوات ثلاث متدرجة مساندة: الأولى: الكفاح في سبيل إحراز السيادة الاقتصادية، ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم، ومتى تحققت لهم بادروا إلى استغلال طاقاتها وسلطاتها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية، وفي النهاية

ينقلون المعركة إلى المجال الدولي العالمي. اهـ. ويتبع ذلك مضار تعود على المستهلكين وغيرهم، مثل غلاء الأسعار نتيجة لإضافة المنتج فائدة القرض إلى تكاليف إنتاج السلع، وإذن فالذي يدفع الفائدة إنما هو الشعب المستهلك، ومثل تخفيض أجور العمال أو الاستغناء عن بعضهم إذا اضطر لتخفيض الأسعار، ومن ذلك تنشأ أزمات مختلفة. ثانيا: إيداع الوثائق والمستندات: هو عقد يتم بتسليم المودع الوثائق إلى المصرف لحفظها بأعيانها بعد تحرير بيانها بقائمة يراجعها المصرف ويعطيه بذلك إيصالا يثبت حقه، ثم يردها إليه عند طلبها أو الأجل المحدد بينهما، وذلك مقابل أجرة يتفقان عليها، وقد يكون الإيداع اختياريا، وقد يكون اضطراريا بفرض النظام، وقد يستتبع عمليات أخرى يقوم بها المصرف وكيلا عن مودع في تحصيل أرباحها أو بيع محتوياتها مقابل عمولة. ولعقد ودائع الوثائق التزامات يجب على كل من الطرفين الوفاء بها للآخر. فيجب على المودع دفع الأجرة المتفق عليها، فإن لم يكن اتفاق فالغالب أن المصرف هو الذي يحددها، ويجب عليه أيضا دفع عمولة على مجرد فتح ملف لوديعته ولو استردها فورا، ودفع عمولات على ما طلبه من إجراءات تتعلق بوثائقه إذا قام بها المصرف. ويجب على المصرف حفظ ما أودع من وثائق، ولا يجوز له أن يستعملها في أغراض خاصة به، ويلزمه ردها للمودع عند طلبها أو الأجل

المحدد منهما إلا في حالات خاصة كأن يتعلق بها حق له، أو يحجز عليها تحت يده. . . إلخ. تكييفها في الفقه الإسلامي وحكمه: لا يختلف تكييف عقد إيداع الوثائق والمستندات في الفقه الإسلامي عنه في نظر علماء الاقتصاد فهو عقد إجارة على حفظ ودائع حقيقية بأجرة معلومة للطرفين، فإذا فوض المودع المصرف في تحصيل أرباح الوثائق أو بيع محتوياتها كان هذا التفويض عقد وكالة يستحق المصرف على القيام بالواجب نحو ذلك عمولة أجرة لعمله، وكلاهما عقد صحيح في نفسه بقطع النظر عما كتب في المحتويات، وعن كيفية ما فوض البنك من البيع والتحصيل. ثالثا: الإيداع في خزائن حديدية بأجرة: هو عقد يلتزم البنك بمقتضاه أن يضع في العقار الذي يشغله خزانة حديدية تحت تصرف العميل وحده، لينتفع بها مقابل أجرة، ويترتب على عقد إيجار خزائن الودائع واجبات يلزم الوفاء بها. فيجب على البنك المحافظة على الخزائن مما يؤدي إلى تلفها أو ضياع ما فيها، وأن يمكن المودع من الانتفاع بالخزانة مع تحقيق غرضه في السرية، وأن يتحقق من شخصية عميله قبل الإذن له بدخول صالة الخزائن، وأن يحتفظ بمفتاح آخر ليستعمله عند الضرورة لإنقاذ محتويات الخزانة من حريق وفيضان ونحو ذلك. ويجب على العميل دفع أجرة الخزانة والاحتفاظ بمفتاحها ورده عند انقضاء العقد، وإبلاغ البنك عن ضياعه إذا فقده، ليحتاط لحفظ الخزانة

أكثر، وأن يحترم لائحة صالة الخزائن ويتقيد بمواعيد الزيارة ولا يضع في الخزانة ما يهدد سلامتها. تكييف عقد إيجار الخزائن في نظر القانون: قيل: إنه عقد وديعة حقيقية بناء على أن ما تحتويه الخزانة من ممتلكات العميل في عهدة البنك وحراسته، فتجري عليه أحكام الودائع، وقيل: إنه عقد إجارة، نظرا إلى استئجار العميل الخزانة من البنك لاستخدامها في المحافظة على ممتلكاته وعلى سريتها. ونوقش كل من القولين: بأنه لا تتوفر فيه خواص الوديعة وحدها ولا خواص الإجارة وحدها من أجل الاشتراك في الحيازة وجولان اليد في الجملة. تكييفه في الفقه الإسلامي: يمكن أن يعتبر عقد إجارة بالنسبة لاستئجار العميل الخزانة من البنك لحفظ ما يضعه فيها، ويعتبر عقد وديعة بالنسبة لوضع الخزانة التي ملك منافعها ووضع ما فيها من ممتلكاته تحت يد البنك لحفظها، فهما عقدان: عقد إجارة، وعقد وديعة. ويمكن أن يقال: إن كلا منهما عقد إجارة، فالأول: إجارة للخزانة، والثاني: إجارة على الحراسة وحفظ ما تحتويه الخزانة. حكمه في الفقه الإسلامي: يعتبر الاتفاق على الإيداع في خزائن خاصة عقد إجارة بالنسبة لاستئجارها، وعقد وديعة حقيقية أو عقد إجارة على الحراسة والحفظ، وعلى كل حال هي عقود صحيحة في نفسها بقطع النظر عن أحوال ما

احتوت عليه الخزانة المستأجرة.

عمليات الائتمان

2 - عمليات الائتمان لعمليات الائتمان أنواع كثيرة نتكلم في هذا البحث على الاعتمادات المصرفية منها: الاعتمادات المصرفية الاعتمادات التي تقدمها البنوك لعملائها كثيرة ولكن الغاية منها واحدة وهي إنشاء وتقديم الائتمان من البنوك للعملاء من أجل أن يتحصلوا بذلك على ثقة من يتعاملون معه، فالبنك يقدم للعميل أو للشخص الذي يحدده العميل فورا أو عند أجل معين أدوات للوفاء إما نقدا كما في القرض البات وإما تعهدا بالوفاء كما في اعتماد خطاب الضمان، والبنك يأخذ مقابل ذلك فوائد وعمولة يتفقان عليهما، والعميل يتعهد للبنك برد ما أخذه ورد فائدته والعمولة في الوقت الذي يحصل الاتفاق بينهما على تحديده. ويشمل الكلام عليها: الإقراض - فتح الاعتماد البسيط - الضمان - الكفالة، وخطاب الضمان، والقبول - الاعتماد المستندي - الخصم. وفيما يلي الكلام على كل منها: الأول: الإقراض: الإقراض النقدي أبسط صور الاعتمادات المصرفية ذلك أن البنك يقدم لعميله قرضا نقديا أو يقدم ذلك لشخص يعينه العميل، ويقصد بتقديم المبلغ أن البنك يضعه تحت أمر العميل الذي يملك التصرف فيه، وفيما يلي بيان واقعه ثم حكم الشرع فيه: أما الأول: فيشمل تعريفه وطبيعته وأنواعه، وضرورة الاتفاق على القرض وتجاريته وإبرام العقد وإثباته

وفائدته. وفيما يأتي تفصيل ذلك: أ - تعريفه: قال الدكتور علي البارودي: هو تسليم النقود مباشرة إلى العميل وتحديد أجل للرد، واتفاق على سعر الفائدة، وبيان الضمانات إن اشترطت، لذلك فهو يخضع فيما يتعلق بالآثار القانونية للقواعد العامة.

طبيعة القرض

ب - طبيعته: قال الدكتور محمد سلطان أبو علي: تعتبر عمليات الإقراض والاقتراض وجهين لذات الموضوع، فالاقتراض أو الدين إن هو إلا التزام بالدفع في تاريخ معين مستقبل، ولما كانت النقود هي معيار المدفوعات الآجلة فعادة ما تكون هذه الديون التزاما بدفع مبلغ معين من النقود، ويعتبر هذا المبلغ ائتمانا من وجهة نظر الشخص الذي سيدفع إليه، ومن الواضح أن إجمالي الديون القائمة في تاريخ معين يعادل إجمالي الائتمان الممنوح وينشأ القرض أو الائتمان عادة نتيجة للمبادلات الاقتصادية والمالية والتي يتنازل بموجبها الدائن عن قدر من (الأشياء) في نظير وعد من المدين بالدفع في تاريخ مستقبل، وقد تكون هذه الأشياء التي يتنازل عنها الدائن نقودا أو سلعا، أو خدمات، أو أصولا مالية كالأسهم والسندات، ولكن يقوم المدين عادة بالسداد عن طريق النقود، ويقال عموما عند منح الائتمان أو

الاقتراض: إن هناك تبادلا للسلع الحاضرة أو للقوة الشرائية الممثلة في النقود في مقابل سلع مستقبلة أو قوة شرائية مستقبلة، ويتحمل المقترض عادة فوائد في نظير الحصول على قرضه

أنواع القرض

ج - أنواعه: للقرض أنواع متعددة فقد يكون أساس التعدد طبيعة المقترض أو طبيعة القرض الذي من أجله اندفع المقترض أو مدة القرض. وقد بسط ذلك الدكتور محمد سلطان أبو علي فقال: أول هذه المعايير طبيعة المقترض فمن الممكن بناء على هذا المعيار التفرقة بين القروض لأفراد أو لشركات أو للحكومة، أما إذا كان معيار التفرقة هو طبيعة المقرض فإننا نجد أن مانحي القروض قد يتنوعون من أفراد إلى بنوك تجارية، والمؤسسات المالية الأخرى والشركات غير المالية أو الحكومة. والمعيار الثالث للتفرقة هو القرض الذي من أجله أنشئ الدين وفي هذه الحالة تنقسم الديون إلى ديون لأغراض الاستهلاك أو أغراض الإنتاج. . أما بالنسبة للقروض لأغراض الاستهلاك فيحصل الشخص على نقود أو سلع أو خدمات لهذا القرض، أما القروض لأغراض الإنتاج فتستخدم عادة في العملية الإنتاجية لدفع الأجور أو شراء مخزون، أو شراء الأراضي أو المعدات المستخدمة في الإنتاج. وأخيرا تنقسم الديون بحسب فترة الإقراض إلى قروض طويلة الأجل،

ومتوسطة الأجل، وقصيرة الأجل، ومستحقة عند الطلب، ولا شك أن طول الفترة الزمنية يعتمد على طبيعة المجال موضع الدراسة، والمقصود بالفترة الطويلة في مجال القروض مدة تزيد على خمس سنوات، والقروض متوسطة الأجل يتراوح أجلها بين سنة وخمس سنوات، أما القروض قصيرة الأجل فهي لفترة تقل عن سنة، ونستطيع التمييز بين أنواع أخرى من القروض على أساس التصنيف التبادلي للمعايير السابقة كأن يكون القرض إنتاجيا وقصير الأجل أو قرضا حكوميا قصير الأجل لأغراض الاستهلاك وهكذا (¬1) ¬

_ (¬1) [محاضرات في اقتصاديات النقود والبنوك] (31) .

ضرورة الاتفاق على القرض تجاريته إبرام العقد

د - ضرورة الاتفاق على القرض، تجاريته، إبرام العقد: الاتفاق على القرض بين البنك وعميله أمر ضروري، والقرض قد يكون تجاريا وقد يكون مدنيا، فإذا صار البنك فيه طرفا فهو تجاري بصرف النظر عن الطرف الآخر، وعقد القرض من جملة العقود يحتاج إلى قواعد يبرم على أساسها. وفيما يلي بيان ذلك: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: الأصل في القرض أن يكون متفقا عليه، وقد لا يكون هناك اتفاق على القرض ويكون الحساب مفتوحا، بين الطرفين ويكون مركز العميل فيه مدينا للبنك، ويسكت البنك على هذا المركز. . . . . ويعتبر سكوت البنك تسامحا، غير ملزم له قانونا، وله أن يطلب إلى عميله أن يدفع في الحساب ما يغطي مركزه، ولا

يسأل البنك إذا قفل الحساب رجوعا منه في هذه الرخصة إلا إذا كان سلوكه منطويا على قصد الإضرار أو سوء استعمال لحقه بأن كان فجائيا وبلا إخطار أو كان مخالفا للعادة التي جرى عليها مع العميل، وقد يكون هناك اتفاق ضمني على ترك الحساب مكشوفا وتمكين العميل من الإفادة من هذا الوضع فيعتبر ذلك اتفاقا على القرض. . . . وفي تجارية القرض الذي يعقده البنك مع عميله خلاف، ومع ذلك فالراجح في القضاء الفرنسي أن القرض الصادر من البنك يعتبر تجاريا دائما وبالنسبة للطرفين أيا كانت صفة المقترض وغرضه من القرض؛ لأن ذلك يدخل في عمل البنوك المعتبرة تجارية بحكم القانون م 631، 632 تجاري فرنسي، ويفترض هذا الرأي أن البنك إنما يباشر عملا داخلا حدود حرفته. ولذلك فإن القرض الذي يعقده البنك ويكون خارجا - بشروطه وظروفه - عن نشاطه المعتاد يخرج عن حدود هذا المعيار ويعتبر كأنه صادر من شخص غير بنك فلا يعتبر تجاريا إلا إذا كان معقودا لاستغلال تجاري. ويبرم العقد ويثبت طبقا للقواعد العامة مع ملاحظة أحكام الإثبات الخاصة بالأعمال التجارية، والغالب أن ينظم العقد كيفية تسليم المبلغ للعميل ورده إلى البنك. . . . (¬1) وكذلك سعر الفائدة، ولما كان المعتاد أن يلجأ إلى هذا الاقتراض غير ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (344) وما بعدها.

التجاري، فالغالب أن يصحبه تأمين لصاحب البنك.

فائدة القرض

هـ - فائدته: البنك يأخذ فائدة على ما يقرضه يتفقان عليها وتختلف باختلاف مقدار المدة، فقد يكون أجل القرض قصيرا أو متوسطا أو طويلا، وقد يكون المقترض له أهمية كبرى من جهة مركزه المالي، وكذلك ضخامة القرض وصغر حجمه، وهذه الفوائد لها حد أعلى، وقد يكون لهذه الفوائد إذا كانت متجمدة فوائد، وفيما يلي تفصيل ذلك: قال الدكتور محمد سلطان أبو علي: يدفع المقترضون عادة أصل القرض علاوة على مبلغ إضافي، وهذا المبلغ الإضافي يعرف على أنه فائدة على القرض، وعادة ما تحدد الفائدة المستحقة على قرض بناء على سعر فائدة معينة ويحسب سعر الفائدة على أساس سنوي. . . . (¬1) وقال الدكتور محمد جمال الدين عوض: ويغلب عملا أن يكون ثمة محل لتطبيق العادة التي تشير إليها المادة (232) من القانون المدني التي تقول: (لا يجوز تقاضي فوائد على متجمد الفوائد ولا يجوز في أية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال، وذلك كله دون إخلال بالقواعد والعادات التجارية، وهي تشترط للإفادة من الاستثناء الوارد بها والسماح بتجميد الفوائد أن تكون القواعد والعادات التجارية قد جرت بذلك في خصوص المعاملة ولا يكفي مجرد أن يكون القرض تجاريا) (¬2) ¬

_ (¬1) [محاضرات في اقتصاديات النقود والبنوك] (25، 26 - 1) . (¬2) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (348 - 1) .

تكييف الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي

تكييف الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي: إقراض المصرف لشخص مبلغا من المال حسب طلبه لمدة على أن يرد مثله إليه مع فائدة يتفقان عليها إما أن يكون قرضا كما تسميه المصارف وإما أن يكون بيعا ولا يجوز أن يكون قرضا في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية؟ لأن القرض عندهم أن يدفع شخص مبلغا من المال لآخر على وجه الإرفاق المحض والمعونة على أن يرد مثله إليه دون شرط زيادة أو جريان عرف بها وما يدفعه المصرف لا يقصد به الإرفاق المحض، بل يقصد به استثمار ماله أولا، وإن وجد إرفاق فهو تابع. وقد يكون ما يدفعه المصرف على ما تقدم بيعا؛ لأنه يتضمن معاوضة مالية بين نقدين - مثلا - أحدهما عاجل، والآخر آجل على وجه المغالبة وقصد التنمية والاستثمار، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا بيعا، فيما رواه البخاري في [صحيحه] عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء، والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (¬1) » ، وفي رواية لمسلم عن عثمان عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين (¬2) » ، وفي رواية لأحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (¬3) » . فسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبادلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة والفضة بالذهب والذهب بالفضة: بيعا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1585) . (¬3) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، مسند أحمد بن حنبل (3/53) ، موطأ مالك البيوع (1324) .

حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي

حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي: إذا ثبت أنه بيع فهو من البيوع المحرمة مادام في معاوضات ربوية؛ وذلك لتضمنه ربا الفضل وربا النسيئة. أما ربا الفضل: فالزيادة التي يدفعها المقترض بالإضافة إلى ما اقترضه بناء على الشرط المتفق عليه مع المصرف. وأما النساء: فلتأجيل ما يدفعه المقترض للمصرف وفاء للدين، وقد يعجز المقترض عن الوفاء في الميعاد فيمتد الأجل ويلزمه دفع فائدة عن الدين الأصلي وما أضيف إليه من الفوائد قبل امتداد الأجل - فيكون ربا مركبا. ومن الأدلة الدالة على تحريم ذلك ما رواه مسلم في [صحيحه] والإمام أحمد في [المسند] والنسائي في [السنن] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا (¬1) » ، وما رواه مسلم وأحمد والنسائي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي سواء (¬2) » ، وما رواه مسلم والإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .

بيد، فإذا اختلفت، هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد (¬1) » . فقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا حالا أو مؤجلا، ونهى عن بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب مؤجلا والنهي يقتضي التحريم. والقرض المصرفي قد يكون مبادلة ذهب بذهب أو فضة بفضة مع التأجيل والزيادة، فيحقق فيه ربا الفضل والنساء، وقد يكون مبادلة ذهب بفضة أو فضة بذهب مع التأجيل فيتحقق فيه ربا النساء، وعلى هذا فيكون داخلا في عموم ما دلت عليه الأدلة السابقة من النهي. وعلى تقدير أنه قرض فهو محرم أيضا؛ لأنه جر نفعا مشروطا، وقد ذكر الفقهاء أن كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا. وفيما يلي ذكر طائفة من أقوالهم وما استندوا إليه من أدلة الكتاب والسنة والأثر والمعنى: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) .

أولا: ذكر طائفة من أقوال الفقهاء في حكم القرض الذي جر نفعا: قال الكاساني: وأما الذي يرجع إلى نفس القرض فهو ألا يكون فيه جر منفعة فإن كان لم يجر، نحو ما إذا أقرض غلة على أن يرد عليه صحاحا أو أقرضه وشرط شرطا له فيه منفعة (¬1) وقال الدردير: أو جر منفعة. . كشرط قضاء عفن بسالم أو شرط دفع دقيق أو كعكعة ببلد غير بلد القرض، ولو لحاج؛ لما فيه من تخفيف مئونة حمله ومفهومه الجواز مع عدم الشرط وهو كذلك، ثم شبه في المنع قوله: ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (7 \ 395، 396) ، ويرجع أيضا إلى [الفتاوى الهندية] (3 \ 202، 203 - 1) .

كسفتجة - الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ليدفع للمقترض نظير ما أخذه منه ببلده - ويحتمل أنه مثال لما جر منفعة، إلا أن يعم الخوف، أي: يغلب سائر الطرق فلا حرمة، بل يندب للأمن على النفس أو المال، بل قد يجب (¬1) وقال الشيرازي: ولا يجوز قرض جر منفعة، مثل: أن يقرضه على أن يبيعه داره وعلى أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له سفتجة يربح بها خطر الطريق (¬2) . وقال ابن قدامة: كل قرض شرط فيه أن يزيد فهو حرام بلا خلاف (¬3) . ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير] ومعه [حاشية الدسوقي] (3 \ 225) وما بعدها. (¬2) [المهذب] (1 \ 304 - 1) . (¬3) [المغني] (4 \ 360 - 1) .

ثانيا: الأدلة: أما الأدلة من الكتاب والسنة: فما جاء في القرآن والسنة من النصوص الدالة على النهي عن الربا وهي كثيرة معلومة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: نص النهي عن الربا في القرآن يتناول كل ما نهى عنه من ربا النساء والفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول له كله (¬1) . ومن الأدلة الخاصة في ذلك: ما رواه ابن ماجه بسنده عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال ¬

_ (¬1) [الفتاوى المصرية الكبرى] (1 \ 412) .

فيهدى له؟ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على دابة فلا يركبها ولا يقبلها إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك (¬1) » ، حسنه السيوطي وأقره المناوي على ذلك. وممن استدل بهذا الحديث من العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية في إقامة الدليل على بطلان التحليل وتلميذه ابن القيم في [إعلام الموقعين] و [تهذيب سنن أبي داود] و [إغاثة اللهفان] . . ومنها حديث «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (نهى عن قرض جر منفعة) » وفي رواية: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» . قال ابن حجر في هذا الحديث: قال عمر بن بدر في [المغني] : لم يصح فيه شيء، وأما إمام الحرمين فقال: إنه صح، وتبعه الغزالي، وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في [مسنده] من حديث علي باللفظ الأول وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، ورواه البيهقي في [المعرفة] عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: «كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا» ، ورواه في [السنن الكبرى] عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم (¬2) . وأما الأثر: فمنه ما رواه مالك في [الموطأ] أنه بلغه: أن رجلا أتى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أسلفت رجلا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته؟ فقال عبد الله بن عمر: فذلك الربا. قال: فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ فقال عبد الله: السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلفه ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الأحكام (2432) . (¬2) [تلخيص الحبير] (3 \ 34) .

تريد به وجه الله فلك وجه الله، وسلف تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك، وسلف تسلفه لتأخذ خبيثا بطيب فذلك هو الربا. قال: فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أرى أن تشق الصحيفة، فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته، وإن أعطاك دون الذي أسلفته فأخذته أجرت، وإن أعطاك أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه فذلك شكر شكره لك، ولك أجر ما أنظرته. وفي الباب جملة آثار عن عمر بن الخطاب رواها عنه مالك في [المدونة] . وعن عبد الله بن مسعود في [الموطأ] وعبد الله بن سلام رواها عنه عبد الرزاق في [المصنف] ، وعبد الله بن عباس في [مصنف] عبد الرزاق وغيرهم. وأما المعنى: فإن القرض عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه.

الثاني فتح الاعتماد البسيط

الثاني: فتح الاعتماد البسيط: عندما يريد شخص القيام بمشروع من المشاريع بطريق المقاولة - مثلا - يحتاج إلى تمويل المشروع حتى يبرز إلى حيز الوجود على الصفة المرضية المتفق عليها بين المعنيين بها، ويحتاج إلى ثقة يعتمد عليها من أجل أن تكون مقنعة للطرف الآخر ليكل إليه تنفيذ العملية فيذهب إلى أحد المصارف ليتفق معه على أن يعتمد له مبلغا من المال يجعله تحت تصرفه خلال مدة معينة يتفقان عليها. وفيما يلي الكلام على واقعه وتكييفه وحكمه في الفقه الإسلامي:

أما الأول: فيشمل بيان تعريفه، وصوره، وخصائصه، وتكوين العقد وإثباته وطبيعته، وآثاره، وانتهاء العقد، وانتقال الاعتماد: أ - تعريفه وصوره: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: هو عقد يتعهد به البنك أن يضع تحت تصرف العميل - بطريق مباشر أو غير مباشر - أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين لمدة محدودة أو غير محدودة، وقد يكون هناك اعتماد مفتوح من قبل ويتفق فقط على إطالة مدته فيعتبر هذا الاتفاق فتحا لاعتماد جديد، وكذلك لو كان دين العميل قد حل أجله فمنحه البنك أجلا جديدا، إذ يعتبر ذلك فتحا لاعتماد جديد تماما، كما لو قدم البنك لعميله المبلغ نقدا أو بالقيد في الحساب. وقال أيضا: وقد يكون الاعتماد بمجرد خصم الأوراق التي يقدمها العميل للبنك، وقد لا يرغب البنك في التجرد من مبلغ نقدي لحساب العميل، بل يقتصر على تقديم ائتمانه: أي: توقيعه، فيكون للعميل أن يقدم إليه أوراقا للقبول، ثم يخصمها العميل لدى بنك آخر (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (312) وما بعدها.

خصائص الاعتماد البسيط

ب - خصائصه: عقد فتح الاعتماد البسيط له خصائص: فهو عقد رضائي ويخضع للقواعد العامة، وقد يكون تجاريا وقد يكون مدنيا، ويشترط فيه تقديم الضمانات وبيان ما يفعله البنك إذا حصل نقص هام في الضمانات العينية أو الشخصية المقدمة من العميل المعتمد له.

وقد شرح الدكتور أدوار عيد هذه الخصائص فقال: عقد فتح الاعتماد: هو عقد رضائي، يتم بمجرد اتفاق الطرفين، وقد يكون خطيا أو شفويا، وفي هذه الحالة الأخيرة يعمد المصرف غالبا إلى إرسال كتاب للعميل بتأكيد فتح الاعتماد، ويحدد العقد المبلغ الذي يضعه المصرف تحت تصرف العميل، والذي لا يمكنه تجاوزه ويسمى بحد الائتمان، كما يحدد المدة التي يحق للعميل استعمال المبلغ خلالها، وطريقة أو طرق هذا الاستعمال ومعدل الفائدة وقيمة العمولة التي تعود للمصرف عن هذه العملية. ويخضع العقد للقواعد العامة من حيث شروط الصحة والأهلية، وهو يعد من عقود الاعتبار الشخصي فلا يلتزم فيه المصرف إلا تجاه شخص العميل ذاته، فإذا توفي هذا الأخير اعتبر العقد فاسخا ولا يلتزم المصرف بإبقاء الاعتماد ساريا لمصلحة ورثته، كما أنه لا يلتزم بتوفير الاعتماد لوكيل التفليسة عند الإفلاس، ولا للعميل نفسه في حالة فقد أهليته، كما أنه لا يحق لدائني العميل استعمال الاعتماد بالاستناد إلى أحكام المادة (276) من قانون الموجبات والعقود. ويعتبر العقد تجاريا بالنسبة للمصرف، ويكون أيضا تجاريا بالنسبة للعميل إذا كان تاجرا وتم فتح الاعتماد لحاجات تجارية، وإلا اعتبر مدنيا بالنسبة له، وإذا كان العقد تجاريا جاز إثباته بجميع الطرق، وإن مجرد قيد المبلغ المعتمد في الحساب الجاري يعد دليلا كافيا على وجود هذا العقد. . ويشترط المصرف على العميل - في الغالب - تقديم ضمانات معينة مقابل فتح الاعتماد له، وقد تكون هذه الضمانات شخصية أو عينية،

وقد تكون من المستندات الممثلة للبضاعة المنقولة، كما هي الحال في فتح الاعتماد المستندي، ولا تتعلق الضمانات المقدمة إلا بالاعتماد المفتوح وفي حدود المبلغ والمدة المتفق عليها. فإذا حصل تجاوز على هذه الحدود وجب تقديم ضمانات جديدة بشأن الالتزامات الزائدة ما لم يتفق على خلاف ذلك، ويعود أثر الضمان المقدم إلى تاريخ الاتفاق على فتح الاعتماد. أما إذا جرى فتح الاعتماد في حساب جار فيتناول الضمان رصيد الحساب بتاريخ قفله، غير أنه يخشى في حال إدخال قيود جديدة في الحساب تتعلق بعمليات خارجة عن نطاق فتح الاعتماد أن يؤدي ذلك بحكم فقدان الدين لكيانه الذاتي وتحوله إلى مجرد بند في الحساب إلى زوال الضمانات المتعلقة بفتح الاعتماد (م: 303 \ فقرة: 2 تجارة) ، ولكن الاجتهاد الفرنسي يقرر في هذه الحال أن ضمانات فتح الاعتماد تظل قائمة، وتنتقل إلى رصيد الحساب الجاري، مستندا في ذلك إلى اتفاق ضمني بين الطرفين في هذا الصدد. وإذا وقع نقص هام في الضمانات العينية أو الشخصية المقدمة من العميل المعتمد له جاز للمصرف فاتح الاعتماد، وفقا لمقتضيات الحال، إما أن يطلب من العميل تقديم ضمانات إضافية، وإما أن يخفض مبلغ الاعتماد إلى الحد الذي يتناسب مع الضمانات الباقية، وإما أيضا أن يقفل الاعتماد (م: 311 فقرة: 2 تجارة) ، كما يحق للمصرف فاتح الاعتماد أن ينقض العقد أيضا إذا أصبح العميل المعتمد له معسرا أو كان في حالة الإعسار وقت التعاقد بدون علم من المصرف (م: 311 فقرة: 1 تجارة) ، ويجوز أن ينتهي العقد أيضا كما قدمنا بوفاة العميل أو بفقده الأهلية أو

بإفلاسه، وإذا كان شركة فبإبطالها أو حلها، كما ينتهي كذلك بانتهاء مدة العقد غير أنه يجوز الاتفاق على تجديد هذه المدة، وفي حال عدم تجديد مدة العقد، يجوز للمصرف فاتح الاعتماد أن ينقض هذا العقد متى يشاء شرط إخطار العميل مسبقا في المهلة المتفق عليها أو المقررة عرفا، كما يجوز للعميل نقض العقد أيضا.

تكوين العقد وإثباته

ج - تكوين عقد الاعتماد البسيط وإثباته: يتكون العقد من رضا الطرفين وأهليتهما وسلطة التصرف وكون سبب العقد مشروعا، وأنه يثبت طبقا للقواعد العامة، وفيما يلي تفصيل ذلك: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: الرضا والأهلية والسلطة: فتح الاعتماد عقد يلزم لصحته أن يصدر الرضا به من طرفيه صحيحا، وفي هذا تنطبق القواعد العامة، ولكن قيامه على الاعتبار الشخصي يجعل العقد قابلا للإبطال إذا وقع البنك في غلط في شخص المتعاقد أو صفة جوهرية فيه، مثلا: إذا كان يجهل سبق شهر إفلاسه أو أنه أصدر شيكات مزورة أو بلا رصيد، ولا يقبل القضاء إبطال العقد لهذا السبب إلا إذا كان وقوع البنك في الغلط له ما يبرره وليس نتيجة إهمال أو خطأ مهني من البنك مع مراعاة ظروف كل حالة، وما إذا كان البنك لم يقم بالتحريات اللازمة، وإنما فتح الاعتماد بتسرع ورعونة، أو أنه بالعكس اتخذ كل احتياط، ولكنه رضي به بناء على خداع من العميل. .

وإذا كان فتح الاعتماد ملزما لجانبين وجب أن يكون طرفاه كاملي الأهلية للالتزام، وهذه حالة العقد الذي يلزم العميل بدفع عمولة لفتح الاعتماد، وحالة ما إذا تعهد باستخدام الاعتماد. . أما إذا كان ملزما لجانب واحد هو البنك كانت الأهلية الكاملة واجبة في الملتزم دون الطرف الآخر، فيكفي أن يكون مميزا ولا تلزم له الأهلية الكاملة إلا عندما يبرم العقود المنفذة للاعتماد؛ وذلك لما تقدم من أن فتح الاعتماد مستقل تماما في شروطه وآثاره عن العقود التي يمهد لإبرامها. ونشير إلى أن العقود التي يمهد عقد الاعتماد لإبرامها تنعقد بمجرد أن يظهر العميل رغبته في الإفادة عن الاعتماد، وذلك إذا كانت عناصر هذه العقود محددة في عقد الاعتماد بشكل مفصل، أما إذا كانت بشكل عام لم تنعقد إلا برضا جديد من البنك، كما كان من حقه أن يناقش الأوراق المطلوب خصمها، وكذلك حكم الاعتماد الذي يطلب تدخلا منه كالقبول. أما من حيث السلطة المطلوبة في الطرفين فهي سلطة التصرف: ولذا فإن المفلس - بحكم رفع يده عن إدارة أمواله - لا يستطيع الالتزام بشكل صحيح ونافذ على جماعة الدائنين في عقد فتح الاعتماد لا كدائن ولا كمدين، ولكن لوكيل التفليسة إذا أذن بالاستمرار في تجارة المفلس أن يفتح اعتمادا لحساب المفلس، ويعتبر ذلك تعاقدا نيابة عن التفليسة ذاتها. وإذا وضعت أموال شخص تحت الحراسة (الإدارية) فإن ذلك لا يمس أهليته التي تظل كاملة له، وإنما تتأثر بذلك سلطاته ويغلب أن يحل محله الحارس في إدارة أمواله؛ ولذا يكون من الخطورة على مصالح البنك أن

يفتح لهذا الشخص - دون تدخل الحارس - اعتمادا، ولكن ما الحكم إذا كان هذا الشخص مستفيدا من اعتماد مفتوح قبل فرض الحراسة، هل للحارس أن يتمسك باستمرار هذا الاعتماد؟ نرى أن للبنك حق إنهاء الاعتماد تأسيسا على تأثر الاعتبار الشخصي، وإن على من ينفذ الاعتماد مع البنك ليس هو الشخص الذي رضي به البنك ابتداء؛ لأن فرض الحراسة يؤثر في اعتبار المفروض عليه الحراسة، ولأن الحارس وإن كان وكيلا عنه إلا أنه وكيل مفروض. المحل: محل العقد: هو إنشاء التزام على البنك بتقديم الائتمان أو الاعتماد المبين به، ويغلب أن يحدد العقد الوسائل التي يضعها البنك في خدمة العميل، فإذا لم يرد به هذا التحديد كان المرجع إلى العرف ونية الطرفين في تحديدها. وينشئ العقد التزاما على العميل بدفع العمولة، والغالب أن يبين الشروط والقيود التي يتحملها إذا أراد الانتفاع بالاعتماد المفتوح، والمدة التي يبقى خلالها التزام البنك قائما. وتوجب المادة (101) مدني لصحة الوعد بالتعاقد - وفتح الاعتماد صورة منه - أن يتفق فيه على المسائل الجوهرية للعقود المراد إبرامها، وعلى المدة التي تبرم فيها هذه العقود وإن جاز تحديدها ضمنا من الظروف. السبب: سبب التزام كل من الطرفين هو تنفيذ الطرف الآخر التزامه ولا جديد في ذلك، وأما سبب العقد فهو الغاية التي يستهدفها الطرفان من إبرامه وتنفيذه، والسبب يجب أن يكون مشروعا، ولذلك يبطل الاعتماد المفتوح لشخص بقصد تمكينه من إدارة محل للقمار، طبقا للقواعد العامة

في الالتزامات. إثبات العقد: يثبت العقد طبقا للقواعد العامة، فإذا كان مدنيا بالنسبة لطرفيه وجب اتباع القواعد المدنية، أما إذا كان مدنيا بالنسبة لطرف وتجاريا بالنسبة للطرف الآخر جاز إثباته ضد الأخير بكافة الطرق أيا كانت قيمته، مثلا: يقيده في الحساب الجاري بين الطرفين أو يتقاضى البنك العمولة التي يتقاضاها لفتح الاعتمادات أو حتى بمجرد الشهود أو عبارات واردة في عقد رهن أبرم ضمانا للاعتماد، وإثبات فتح الاعتماد مستقل عن إثبات عمليات تنفيذ الاعتماد ذاته (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (321 - 325) .

طبيعة فتح الاعتماد البسيط

د - طبيعته: ثار الخلاف في تحديد طبيعة عقد فتح الاعتماد البسيط هل يقال: إنه قرض، أو أنه قرض معلق على شرط واقف أو أنه عقد غير مسمى أو أنه وعد بالقرض أو أنه عقد مركب من القرض والوديعة؟ وفيما يلي ذكر هذه الآراء ومناقشتها وبيان الراجح منها في نظرهم: قال الدكتور أدوار عيد: يلاحظ أولا أن ثمة فرقا بين فتح الاعتماد والقرض البات إذ أن العميل المعتمد له لا يتسلم المبلغ فور التعاقد كما هي الحال في القرض، وقد لا يتسلم أي مبلغ إذا لم يجد حاجة له، ويظل مع ذلك عقد فتح الاعتماد قائما منتجا لجميع آثاره في حين أن استلام المبلغ في عقد القرض هو أمر أساسي يتوقف عليه نشوء آثار هذا العقد. ولا يمكن القول أيضا: إن فتح الاعتماد: هو قرض معلق على شرط واقف، وهو استفادة العميل فعليا من الاعتماد، ما دام أن عدم تحقق هذا

الشرط لا يؤثر في صحة العقد ولا في إنتاج آثاره. . ويذهب فريق إلى أن فتح الاعتماد هو عقد غير مسمى، وهو يشتمل على اتفاق من جانب واحد، إذ أن المصرف يلتزم بمنح الاعتماد بينما العميل لا يجبر على الاستفادة منه. أما غالبية الفقهاء فتعتبر أن العقد يشكل وعدا بالقرض، ويتحول إلى قرض بات عندما يطلب العميل تسلم الأموال تنفيذا لوعد المصرف. وأن هذا الرأي الأخير هو الراجح من الناحية القانونية، غير أنه يلاحظ مع ذلك أن هذا العقد لا يترتب عليه التزام أساسي إلا على عاتق طرف واحد هو المصرف الذي يتعهد بفتح الاعتماد، أما الطرف الآخر - أي: العميل - فلا يجبر على سحب المبلغ الموضوع بتصرفه، إنما يحق له أن يسحب منه بمقدار حاجته فقط، وقد لا يسحب شيئا عند انعدام الحاجة، كما يتغلب في هذا العقد الطابع الشخصي بحيث إن المصرف لا يلتزم إلا تجاه العميل شخصيا، ويعتبر العقد منتهيا عند وفاة هذا الأخير أو إفلاسه وفقد أهليته (¬1) . وقال الدكتور علي البارودي بعد كلام سابق يتفق مع ما قاله الدكتور أدوار عيد، قال: والواقع أن فكرة فتح الاعتماد تتميز بوجه عام عن فكرة القرض بأنها أشمل وأوسع حتى إذا تغاضينا عن الصعوبة الناشئة عن عدم استفادة العميل من فتح الاعتماد عقب العقد مباشرة، ذلك أن القرض الذي تعرفه العامة يواجه - في قصد المقترض حاجة عاجلة إلى مبلغ معين من ¬

_ (¬1) [العقود التجارية وعمليات المصارف] (569، 570) .

المال والوعد بالقرض يواجه هو الآخر - في قصد المستفيد من الوعد حاجة آجلة محتملة إلى مبلغ معين من المال، وفي الحالتين ينحصر العقد في حدود ضيقة معينة يبينها الطرفان ويرتكز عليها العقد. . أما في فتح الاعتماد فطالبه لا يعرف مدى حاجته ولا مواعيد هذه الحاجة، بل وقد لا يعرف أن ثمة حاجة مقبلة تلجئه إلى استعمال الاعتماد المفتوح، وإنما هو يقصد من عقد الاعتماد إلى الحصول على مجرد الاطمئنان إلى قوة مركزه الائتماني إزاء ديون تحل في المستقبل أو عمليات تجارية ينوي إبرامها. هذا المركز الائتماني الوحيد هو الهدف الأساسي للعقد وليس كما في القرض أو الوعد بالقرض مجرد الحصول على مبلغ معين من المال، لذلك قد تكون الاستفادة من الاعتماد المفتوح عن طريق سحب شيكات أو تحرير أوراق تجارية أو تكليف البنك بالقيام بعمليات معينة لصالح العميل، وإذا اقترن فتح الاعتماد بفتح الحساب الجاري - كما هو الغالب في العمل - فإن كل هذه العمليات بما فيها عملية فتح الاعتماد تصبح مدفوعات متبادلة متشابكة لا يمكن أن نصف أحدها بأنه قرض أو بأنه وفاء لهذا القرض. لذلك لا بد من الاعتداد بهذا الشمول والاتساع في فكرة فتح الاعتماد عند تكييف طبيعته القانونية، فلا نتبع الغرض الاقتصادي لعقد فتح الاعتماد باعتباره عملية مركبة تتميز عن العقود البسيطة التي يعرفها القانون المدني. وإذا أردنا أن نتتبع هذه العملية المركبة ونحلل أهداف العميل فيها، فإننا نراه يهدف إلى تحقيق غرضين متتاليين: أولا: أن يطمئن إلى الحصول على هذا المبلغ النقدي.

ثانيا: أن يطمئن إلى أن هذا المبلغ موجود في مكان أمين حتى يستفيد منه عندما يحتاج إليه في عملياته التجارية المختلفة. فلو أن العميل أراد أن يصل إلى هذين عن طريق العقود المدنية فإنه لا بد أن يلجأ إلى عقدين لا إلى عقد واحد. يلجأ أولا إلى اقتراض المبلغ الذي يكفيه، ثم يلجأ إلى إيداع هذا المبلغ عند أمين. إذا لا بد له من عقد قرض يتبعه عقد وديعة. ولما كان العميل يقترض من البنك ثم يقوم بالإيداع في ذات البنك فلا مناص من اندماج هذين العقدين في عملية واحدة هي بلا شك عملية فتح الاعتماد. ومن ذلك يتضح لماذا لا يتبع فتح تسليم المبلغ كما هو الأمر في القرض؟ ذلك أن اندماج القرض مع عقد الإيداع عند ذات المقرض يؤدي إلى امتناع التسليم والتسلم، بينما عقد القرض يقتضي تسليم المبلغ من البنك للعميل، فإن عقد الإيداع الذي يتبعه يقتضي تسليم ذات المبلغ من العميل إلى البنك، فإذا اندمج هذان العقدان لم يعد هناك موجب لأن يتبادل الطرفان تسليم وتسلم المبلغ المتفق عليه (¬1) . ¬

_ (¬1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (329) وما بعدها.

آثار عقد فتح الاعتماد

هـ - آثار عقد فتح الاعتماد: لعقد فتح الاعتماد آثار هي ما يقتضيه من التزامات كل من العميل والبنك، وفيما يلي ما يلزم به كل منهما: 1 - التزامات العميل:

قال الدكتور علي البارودي: يلتزم العميل برد المبالغ التي استعملها في الميعاد المتفق عليه مع الفوائد المتفق عليها، وبأن يدفع العمولة إذا نص عليها العقد. ولكنه لا يلتزم بأن يستعمل النقود التي يضعها البنك تحت تصرفه بمقتضى العقد حتى ولو كان البنك قد قام بما يكفل وجود هذه النقود مائة في المائة في خزانته، أو امتنع عن التصرف فيها لغيره من العملاء، ففتح الاعتماد يمنح العميل حق الخيار في الاستفادة أو عدم الاستفادة منه ما لم يتفق على تقييد هذا الحق صراحة، كأن يشترط البنك مثلا فسخ الاعتماد بغير إخطار إذا لم يستعمله العميل خلال أجل معين. على أن البنوك لا تلجأ عادة إلى وضع هذا القيد، ولكنها قد تشترط على العميل مثلا أن يقصر بعض عملياته التجارية عليها، وعلى الأخص خصم الأوراق التجارية. وقال الدكتور محمد جمال الدين عوض: استخدام الاعتماد شخصي للمستفيد منه: رأينا أن الاعتماد يفتح للعميل لاعتبارات شخصية فيه، ولذلك لا يجوز لهذا الأخير أن يحيل حقه إلى شخص آخر بدون رضا البنك، وإن كان يمكنه توكيل غيره في استخدامه، ويظل هو مرتبطا في مواجهة البنك. وكذلك لا يجوز للبنك أن يحول حقوقه والتزاماته إلى غيره، بل يظل مرتبطا أمام العميل، كما لا ينتقل حق العميل إلى الورثة.

كما أن المطالبة ذاتها بتنفيذ الاعتماد شخصية ترجع إلى تقدير شخص المستفيد فلا يجوز لدائنيه أن يحلوا محله في طلبها ولا أن يحجزوا على هذا الحق تحت يد البنك (¬1) . وقال الدكتور محمد جمال الدين عوض موضحا العمولة التي يأخذها البنك: ويلتزم العميل أن يدفع للبنك عمولة معينة تستحق - غالبا - بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد، سواء استخدمه أو لم يستخدمه، وتبرر العمولة بأنها مقابل ما يتحمله البنك؛ ليكون مستعدا لمواجهة احتياجات العميل، والغالب أن ينص على عمولة أخرى تستحق إذا طلب العميل الإفادة من الاعتماد، وإذا فتح للاعتماد حساب لدى البنك استحقت عمولة أخرى نظير فتح هذا الحساب وتشغيله (¬2) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (329، 330) . (¬2) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (330، 331) .

2 - التزامات البنك: يقول الدكتور علي البارودي: أهم هذه الالتزامات أن يضع النقود التي وعد بها تحت تصرف العميل طوال الأجل المعين، ويتأكد هذا الالتزام إذا كان العميل يقوم بدفع عمولة مقابل هذا الوعد. إلا أن البنوك لا تأخذ عادة عمولة على مجرد فتح الاعتماد اكتفاء بالفوائد وبالعمولات الأخرى المختلفة عن العمليات التي يكلف بها العميل. ومع ذلك فعدم الاتفاق على عمولة لا يعطي البنك حق فسخ العقد حتى ولو لم يستعمل العميل المبالغ الموضوعة تحت تصرفه.

ولا يجوز للبنك الرجوع في الوعد قبل الأجل المحدد، ولا يكون صحيحا الشرط الذي يعطي البنك حق الرجوع فيه متى شاء؛ لأنه يعتبر شرطا إراديا محضا، ولكن فتح الاعتماد يستند إلى ثقة البنك في العميل، وله لذلك طابع شخصي واضح، لذلك فالرأي مستقر على أنه يفسخ العقد أو ينهيه، ليس فقط عند وفاة العميل أو إفلاسه أو نقص أهليته (كما هو الأمر في سائر العقود التي تقوم على الاعتبار الشخصي) وإنما يكون له ذلك أيضا إذا حدث تغيرات هامة في سمعة العميل أو في إمكانيته، كما إذا أدين في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة، أو ثبت دخوله في عمليات خطرة لها طابع المقامرة. ولكي يتجنب البنك ما قد يثيره العميل من منازعات قضائية في هذه الظروف، فإنه يعمد عادة إلى وضع شرط صريح في العقد، يسمح لنفسه فيه بأن يطلب - في أي وقت يشاء - إنهاء العقد فورا، واسترداد ما يكون العميل قد أخذه من المبلغ المفتوح به الاعتماد دون تقيد بمدة محدودة، وبديهي أن البنك لا يقدم على استعمال هذا الشرط إلا في الحالات التي تختل فيها ثقته في العميل، إذ إنه يفضل في الظروف العادية أن يحصل على الفوائد المتفق عليها خلال مدة فتح الاعتماد. وفي رأينا أن هذا الشرط - في جميع الأحوال - يخضع لرقابة القضاء، ولا يمكن أن يكون مطلقا حتى إذا كانت صياغته تحمل معنى الإطلاق. ويقع على البنك عبء إثبات الأسباب الجدية التي تبرر سحب ثقته في العميل، وللقضاء في ذلك سلطة تقديرية واسعة.

انتهاء العقد

وانتهاء العقد: لانتهاء العقد أسباب متعددة: كوفاء البنك بالتزامه، وحلول الأجل، ومما يرجع إلى الاعتبار الشخصي، والوفاة، والإفلاس، وفسخ العقد، وفيما يلي شرح هذه الأسباب: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: الأصل أن ينتهي بحلول الأجل المحدد له بانتهاء العمل الذي فتح من أجله، ولكن هناك أسبابا أخرى كثيرة ينتهي بها، أهمها يرجع إلى تأثير الاعتبار الشخصي لأحد الطرفين؛ لأن فتح الاعتماد يقوم على هذا الاعتبار، ولكن يلاحظ أن انتهاء العقد لا تبدو أهميته إلا من ناحية التزام البنك، ولذلك نخصه بالدراسة: 1 - وفاء البنك بالتزامه: أي: وفاؤه بما تعهد به، أيا كانت وسيلة تنفيذ الاعتماد، فذلك ينهي التزامات البنك، وإذا كان تعهده بتقديم نقود في حساب جار لم ينته التزام البنك بمجرد سحب العميل المبلغ؛ لأن ذلك لا يعتبر وفاء من البنك، ولا ينتهي التزامه إلا بقفل الحساب، وإذا كان الاعتماد مفتوحا لتحويل عملية معينة واجهها العقد امتنع إنهاؤه قبل انتهاء هذه العملية. 2 - حلول الأجل: أي: انتهاء المدة المصرح للعميل بالإفادة خلالها من الاعتماد الذي وعده البنك إذا كان محددا في العقد مدة، ولا يكون للبنك في هذه الحالة أن ينهي العقد بإرادته إلا إذا وجد مبرر مما سنعرض له.

وبالرغم من كون الاعتماد قد فتح محددا بمدة معينة، فإن هذه المدة تعتبر أجلا لصالح البنك: له أن يتمسك بحلوله، وله أن ينزل عن ذلك ويطيل فيه.... أما إذا لم تحدد المدة فيجوز لكل من طرفي العقد إنهاؤه، وإن كان العميل لا يلجأ إلى ذلك؛ لأنه غير مجبر على استخدام الاعتماد كما تقدم. وأما البنك فليس له إنهاء العقد إلا بقيود تهدف إلى عدم الإضرار بالعميل ضررا لا تبرره حماية مصالح البنك، فيجب أن يكون إنهاء العقد بحسن النية وفي وقت مناسب، وأن يوجه البنك إخطارا إلى العميل قبل وقف الاعتماد بوقت كاف؛ ليمكنه من مواجهة المركز الجديد الناشئ عن وقف الاعتماد. 3 - أسباب ترجع إلى الاعتبار الشخصي: يقوم فتح الاعتمادات على اعتبارات معينة يراعيها البنك في شخص العميل، منها يساره وأمانته، وحسن تصرفه واستقامته، فإذا اهتز اعتبار منها كان للبنك أن يفسخ العقد أو ينهيه، ويحكم هذه المسألة اعتباران يراعيهما القضاء هما: ضرورة احترام القوة الملزمة للعقد من ناحية، وقيام العقد على الاعتبار الشخصي من ناحية أخرى. 4 - الوفاة والإفلاس: الراجح أن وفاة أحد الطرفين ينهي عقد الاعتماد فورا، ونرى أنه إذا توفي أحد الطرفين فمن الأنسب ألا نقضي على العقد، بل نترك ذلك للطرف الآخر إذا أراد؛ لأنه هو الذي يقدر ما إذا كانت مصالحه تتأثر بهذا الحادث، فضلا على أنه إذا توفي العميل فليس للبنك أن ينهي الاعتماد إذا كان مضمونا بتأمين عيني. أما إذا كان فاتح الاعتماد فردا وتوفي، انقضى التزامه إلا إذا استمر

وارثه في استغلال المؤسسة ومباشرة ذات المهنة، فيتحمل التزامات مورثه ويشبه بالموت -في هذا الأثر- انحلال الشركة أو تغيير شخصيتها. كذلك ينهي إفلاس أحد الطرفين العقد لانهيار الثقة ورفع يد المفلس عن إدارة أمواله. 5 - فسخ العقد: لكل من طرفي عقد الاعتماد أن يطلب فسخه إذا أخل الطرف الآخر بالتزامه، وفي ذلك تنطبق القواعد العامة (م 157 مدني وما بعدها) ولا يرتب الفسخ أثره إلا بالنسبة للمستقبل؛ لأن التزامات البنك مستمرة، ولذلك فهو في حقيقته إنهاء لها. فسخ الاعتماد لا يؤثر على ما نفذ منه: وإذا فسخ العقد فإن هذا الفسخ بالإنهاء إنما يرد على عقد الاعتماد ذاته المبرم بين البنك وعميله، أما العمليات والعقود التي تمت تنفيذا لعقد الاعتماد فهذه لا تتأثر بفسخ الاعتماد أو انتهائه، بل تظل مستقلة عنه من حيث شروطها وآثارها ومصيرها كما قدمنا، فإذا تحمل البنك -نتيجة الاعتماد أو عملية من هذه العمليات المشار إليها- التزاما أمام شخص من الغير ظل ملتزما ولو تحلل من التزامه الناشئ من الاعتماد المفتوح لصالح العميل، فإذا كان الاعتماد بالقبول مثلا وقدمت للبنك كمبيالة قبلها ثم فسخ الاعتماد ظل قبوله صحيحا والتزم به أمام الغير، وإذا كان الاعتماد بالضمان وأصدر خطاب الضمان بالفعل ثم فسخ عقد الاعتماد الذي صدر الخطاب تنفيذا له ظل مع ذلك ملزما بعبارات الخطاب أمام المستفيد منه وهكذا (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (331- 337- 1) .

انتقال الاعتماد

ز- انتقال الاعتماد: بيان المراد منه، المشكلة الناشئة عن ذلك، واختلاف النظر في الإجابة عنها: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: المقصود بانتقال الاعتماد -في هذا الخصوص- هو انتقال الحقوق أو الالتزامات الناشئة من العقد أثناء تنفيذه إلى شخص آخر غير طرفيه، وتثور المشكلة من الناحية العملية في كيفية الإبقاء على الاعتماد مع تأميناته رغم انتقاله إلى شخص آخر. ويمكن النظر إلى المسألة من ناحيتين: ناحية المستفيد، وناحية البنك فاتح الاعتماد. أما من ناحية المستفيد فلا يعتبر نقلا للاعتماد أن يوكل المستفيد غيره في استخدام الاعتماد لحسابه؛ لأنه يظل هو الموكل الأصيل، وكذلك لا يعتبر نقلا له أن ينقل المستفيد حقه المالي الناشئ من استخدامه الاعتماد بمعرفته؛ إذ المقصود دائما هو معرفة ما إذا كان يمكنه نقل الرخصة أو الحق في المطالبة بتنفيذ الاعتماد، أي: بإلزام البنك أن ينفذ تعهده الناشئ من العقد. إن الإجابة على هذا السؤال تحكمها قاعدتان: الأولى: أنه إذا جاز نقل الحقوق فلا يجوز نقل الديون دون رضا الدائن. الثانية: أن الاعتبار الشخصي يمنع -بحسب الأصل- أن ينقل الدائن حقه القائم على هذا الاعتبار إلى شخص آخر. ومقتضى ذلك أنه يلزم لينقل المستفيد حق الإفادة من الاعتماد إلى غيره

أن يكون ذلك باتفاق مع البنك على إحلال هذا الغير محله في الحقوق وفي الديون التي تنشأ من العقد، فمتى تم ذلك كانت العملية تجديدا، أي: إنشاء لعلاقة جديدة لا تحظى بالضرورة بالضمانات التي كانت مقررة للعلاقة الأولى ما لم تتخذ لذلك الإجراءات اللازمة. وهذا الرأي وسط بين رأيين متطرفين، يقول أحدهما: إن الحقوق الناشئة من الاعتماد لا تقبل الانتقال إطلاقا بسبب الاعتبار الشخصي لدى الطرفين أو أحدهما، وعيبه أنه يرقى بهذا الاعتبار إلى جوهر العقد في حين أننا قد رأينا أنه وإن كان من طبيعة فتح الاعتماد إلا أنه ليس من جوهره، وللطرفين أن يستبعداه باتفاقهما، والرأي الثاني: يجيز دائما نقل الاعتماد ولو بغير رضا البنك مستثنيا من ذلك حالة الاعتماد التي يكون فيها التزام البنك أو تدخله شخصيا بالدرجة الأولى كضمانه احتياطيا كمبيالات يسحبها العميل، وهو رأي يعيبه أنه يتجاهل الطبيعة الشخصية للاعتماد، ويقيم تفرقة تحكمية بين صوره. وإذا تمت حوالة الاعتماد من جانب المستفيد بشكل صحيح ونافذ كان من حق المحال إليه الإفادة من العقد في حدود الحوالة. ومتى تضمنت العملية إبراء البنك للمستفيد القديم كانت إنابة كاملة، يترتب عليها تجديد الدين بحيث تسقط الضمانات التي كانت مقررة لدين المستفيد القديم. هذا من جهة المستفيد، أما من جهة فاتح الاعتماد فالأصل أنه ليس له أن يحيل التزامه أمام المستفيد، وذلك لقيام هذا التعهد على الاعتبار الشخصي ما لم يكن متفقا على ذلك أو كان مفهوما ضمنا بين

الطرفين (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (337- 389) .

تكييف عقد فتح الاعتماد البسيط المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه

تكييف عقد فتح الاعتماد البسيط المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه: مما تقدم يتبين: أنه عقد يتعهد البنك بمقتضاه: أن يضع تحت تصرف العميل بطريق مباشر أو غير مباشر أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ نقدي معين ولمدة محدودة أو غير محدودة، وإن العميل بمقتضى هذا العقد يسحب من البنك بالتدريج كلما احتاج إلى مبلغ منها، وأنه يدفع للبنك ما أخذه في الوقت المحدد، ويدفع ما اتفقا عليه من عمولة وفائدة. فإما أن يقال: إنه عقد إقراض، وإما أن يقال: إنه عقد بيع. وقد يقال: لا يجوز أن يكون قرضا في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية؛ لأن القرض عندهم دفع مال إرفاقا محضا لمن ينتفع به ويرد بدله بدون زيادة مشروطة أو جريان عرف بها، وما يدفعه المصرف للعميل بمقتضى عقد فتح الاعتماد البسيط لا يقصد منه إلا الاستثمار وإن حصل إرفاق للعميل فعلى وجه المتبع. وقد يقال: إنه من باب البيع؛ لأنه يتضمن معاوضة مالية، فالمصرف يدفع للعميل مبلغا من المال حالا، ويرد العميل هذا المبلغ مع العمولة والفائدة بعد أجل، وقد سمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل هذا بيعا، فيما رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق

بالورق، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدا بيد كيف شئتم (¬1) » . فسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبادلة الذهب بالذهب، والورق بالورق، والورق بالذهب، والذهب بالورق، وما ذكر معها سماه بيعا. حكمه في الفقه الإسلامي: إذا ثبت أنه بيع فهو من البيوع المنهي عنها ما دام في معاملات ربوية؛ لأنه يتضمن ربا الفضل وربا النسيئة، فالعميل يدفع للمصرف ما أخذه منه وزيادة مشروطة متفقا عليها بينهما، ويتحقق ربا النساء من جهة أن العميل يدفع ما يستحقه عليه المصرف بعد مدة من استلامه المبلغ من المصرف، وهذه المدة يتفق عليها بينهما. وقد ينتهي الأجل المحدد لتسليم العميل المبلغ المستحق لديه مع العمولة والفائدة، ولكنه لا يتمكن من الوفاء فيمد الأجل في مقابل فائدة على أصل المبلغ وعلى العمولة والفائدة حسبما يقتضيه العقد الأول، فيكون هذا من الربا المركب. وهو في جميع هذه الحالات داخل في عموم أدلة الربا، وقد سبق ذكر طائفة منها في بيان حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي، فيستغنى بما ذكر هناك من الأدلة لتكون أدلة لبيان حكم فتح الاعتماد البسيط. ما سبق هو في حالة ما إذا تسلم العميل من المصرف المبلغ المتفق عليه كله أو بعضه.. أما إذا لم يستلم شيئا ودفع للبنك في مقابل رصده المبلغ ¬

_ (¬1) سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .

مدة من الزمن ما يسمونه عمولة ويدخلون فيها الفائدة، فهذا مع أنه عقد ربوي فهو أيضا من أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن البنك لم يدفع شيئا مطلقا، وقد قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) الآية. وعلى فرض أن يكون عقد فتح الاعتماد البسيط عقد قرض على اختلاف تعبيراتهم عنه، فهو عقد محرم؛ لأنه قرض جر نفعا، وكل قرض جر نفعا مشروطا فهو محرم، وسيبقى في الكلام على القرض البات ذكر طائفة من كلام أهل العلم في بيان حكم القرض الذي جر نفعا، وما استدلوا به من الكتاب والسنة والأثر، وأرى ترك ذكرها هنا اكتفاء بذكرها هناك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 188

الثالث الضمان

الثالث: الضمان: قد لا يحتاج العميل إلى أن يكون الاعتماد المصرفي على صورة القرض كما سبق بيانه في القسم الأول، ولكنه يكتفي بما يصدره البنك من تعهد له، إذ أنه يحصل به على الثقة من الشخص الذي يريد أن يتعامل معه أو يمنحه الأجل الذي يريده. وأهم صور ضمان البنك للعميل أمام الغير ثلاث صور: فالبنك قد يقوم بدور الكفيل لعميله أمام دائن هذا العميل طبقا لما يتفقان عليه من الشروط،، وقد يكون ضمان البنك بصفة خطاب الضمان، وقد يكون على صورة ورقة تجارية -كمبيالة- من جانب العميل. ويتعهد البنك بقبول هذه الكمبيالة تيسيرا لتداولها، فيمكن العميل عندئذ من خصمها بسهولة والحصول على ما يريده من نقود من البنك الذي يقوم بخصمها، فهذه ثلاث صور: الكفالة، وخطابات الضمان،

والاعتماد بالقبول. وفيما يلي الكلام على كل واحدة منها، وبيان واقعها، ثم بيان حكمها في الفقه الإسلامي: الصورة الأولى: الكفالة كثيرا ما تقوم البنوك بدور الكفلاء لعملائها أمام دائنيهم، وذلك على حسب ما تقتضيه طبيعة الكفالة وما يتفق عليه من شروط. وفيما يلي الكلام عليها من حيث واقعها وحكمها في الفقه الإسلامي: أما الأول فيشمل الكلام على: تعريفها، والفرق بينها وبين تأمين الضمان، وبيان الضمانات التي يطلبها البنك. أ- تعريفها: عرفها الدكتور محمد جمال الدين عوض بقوله: الكفالة عقد بمقتضاه يكفل شخص لتنفيذ التزام بأن يتعهد للدائن أن يفي بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين نفسه (م 772) ، وتجوز الكفالة في الدين المستقبل إذا حدد مقدما المبلغ المكفول، كما تجوز الكفالة في الدين الشرطي، على أنه إذا كان الكفيل في الدين المستقبل لم يعين مدة الكفالة كان له في أي وقت أن يرجع فيها ما دام الدين المكفول لم ينشأ (م 778) . (¬1) . ب- الفرق بين الكفالة وتأمين الضمان: عند المقارنة بين شيئين قد يكون الاتفاق بينهما تاما، وقد يتشابهان من بعض الوجوه ويختلفان من وجوه أخرى، وقد لا يكون بينهما تشابه مطلقا، وبالمقارنة بين الكفالة ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (351- 1) .

بالمعنى المتقدم وبين تأمين الضمان نجد أنهما يتشابهان من جهة أن عدم وفاء المدين الدين يحرك التزام كل من الكفيل والمؤمن، وهدف كل منهما هو تأمين أو ضمان وفاء الدين، لكن الكفيل يساعد المدين والمؤمن يساعد الدائن، ويفترقان من وجوه أخرى. وفيما يلي تفصيل ذلك: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: قد تشتبه الكفالة بالمعنى المتقدم مع عملية أخرى قريبة منها يقوم بها البنك أو شركات التأمين، وهي المسماة بتأمين الضمان. ووجه الشبه بينهما: أن عدم وفاء المدين الدين يحرك التزام كل من الكفيل والمؤمن، ولكن بين العمليتين فروقا كثيرة، فالهدف من كل منهما هو تأمين أو ضمان وفاء الدين، أو بعبارة أخرى تفادي نتائج التخلف عن وفائه، ولكن الكفيل إذ يتدخل فهو يساعد المدين ويقوي ائتمانه، ويمكنه من الحصول على ما يريد من نقود أو أجل وهو دور البنك، أما في تأمين الضمان فالمؤمن لا يهدف إلى مساعدة المدين، بل الدائن؛ لأنه هو الذي يبرم التأمين ويؤمن نفسه ضد مخاطر تخلف المدين. أما الفروق بين العمليتين فكثيرة أهمها: أنه في الكفالة يتعهد الكفيل -بعلم المدين أو بغير علمه- أن يدفع الدين إذا لم يدفعه المدين. وهذا التعهد قد يكون بطلب من المدين دون اقتراح الدائن أو بناء على اشتراطه تقديم كفيل، ويكون تعهد الكفيل بالوفاء الدائن أيا كان سبب عدم وفاء المدين، أي: ولو لم يكن معسرا، وأمام الدائن طريقان: إما أن يطلب إلى المدين أن يقدم له كفيلا، وإما أن يلجأ هو إلى التأمين لصالح نفسه من خطر تخلف

المدين عن الوفاء، بخلاف المدين فهو لا يستطيع التأمين لصالح نفسه من خطر عدم الوفاء؛ لأن هذا التخلف من جانبه لا يصلح أن يكون محلا للتأمين بوصفه فعلا إراديا من جانبه، وإنما له أن يبرم تأمينا لصالح نفسه من خطر إعساره. والكفيل يتدخل لضمان عملية هو غريب عنها وتتم دون تدخله، كما أنه لا يعتبر مؤمنا لا للدائن ولا للمدين، وتعهده غير مشروط بإعسار المدين ولا يقبض قسطا يحسب على أساس القسط الذي يتقاضاه المؤمن، بل يتقاضى من المدين ثمن الخدمة التي يقدمها له بتدخله. كما أن الكفالة في جوهرها عقد ملزم لجانب واحد هو الكفيل، وهو عقد تابع، أما التأمين فهو ملزم للجانبين ويقوم استقلالا؛ لأن التزام المؤمن مستقل عن التزام المدين الذي يعطي التأمين إعساره، وسببه هو اقتضاء القسط، وموضوعه ليس تنفيذ التزام المدين، بل تعويض الضرر الناشئ عن عدم تنفيذ هذا الالتزام (¬1) . ج- الضمانات التي يطلبها البنك: التعامل بين البنك والعميل الذي يريد أن يجعل البنك كفيلا عنه أمام الغير في مبلغ ما- مثلا- قد يكون مبنيا على ثقة متبادلة بينهما فلا يحتاج البنك إلى ضمانات يقدمها العميل، وقد يكون العميل غير معروف لدى البنك أو أن البنك يعرفه، ولكنه لا يثق به إلا مطلق ثقة أو لا يثق به مطلقا، فتختلف حال البنك في طلب الضمان، فقد لا يطلب شيئا أصلا، وقد ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (351، 352) .

يطلب نقدا، وقد يطلب رهنا من الدرجة الأولى أو رهنا حيازيا أو ضمانا شخصيا، وفيما يلي تفصيل ذلك: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: الضمانات التي يطلبها البنك قد تكون ضمانا نقديا يقدمه العميل إلى البنك، وقد تكون رهنا من الدرجة الأولى على مال يملكه، ولا يمكنه هو أن يقدمه إلى دائنه الذي يشترط كفالة مصرفية أو رهنا حيازيا على مستندات تكون في حيازة البنك، أو يقدمها العميل للبنك على سبيل الرهن، أو ضمانا شخصيا من مدير المؤسسة أو الشركة في صورة توقيع منه على ورقة تجارية، تتعهد بها المؤسسة أو الشركة طالبة الكفالة، ويلاحظ أن هذا الضمان الأخير يعتمد على شخصية المدير. (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ، ص (353) .

الصورة الثانية للضمان وهي خطاب الضمان

الصورة الثانية: خطاب الضمان خطاب الضمان صورة من صور إقراض التوقيع على أمل أن البنك يسلم المبلغ الذي ضمنه لعميله عندما تدعو الحاجة إليه على حسب ما يتفقان عليه من الشروط، ويشمل الكلام على واقعه وحكمه في الفقه الإسلامي. أما الكلام على واقعه: ففي بيان تعريفه، وأهميته، وأنواعه، وطبيعته ومدى التزام البنك، وشروطه، وغطائه، والعلاقات الناشئة بين أطراف الخطاب، وانقضاء التزام البنك، وما يأخذه البنك مقابل تقديمه خطاب الضمان. وفيما يلي تفصيل ذلك:

أ- تعريفه: قال الدكتور علي البارودي: هو أن يكفل البنك عميله في مواجهة الغير بخطاب يرسله إليه أو بعقد مستقل، أو بأن يوقع كضامن احتياطي له في ورقة تجارية أو بأي طريقة أخرى تتناسب مع العملية التي يضمنها البنك ويتقاضى عمولة في مقابل هذا الضمان (¬1) . وعرفه حسن محمد كمال بقوله: خطابات الضمان المصرفية عبارة عن صكوك تصدرها البنوك بناء على طلب عملائها، وتتعهد فيها بأن تدفع إلى طرف ثالث يسمى المستفيد (على علاقة عمل مع العميل) مبلغا لا يتجاوز حدا معينا في حالة توافر شروط معينة (¬2) . ب- أهميته: قال الدكتور حسن محمد كمال: إن الهيئات والمؤسسات العامة تتطلب ممن يرغب في الاشتراك فيما تطرحه من مناقصات ومزايدات تقديم مبلغ معين أو نسبة معينة من قيمة العمليات كضمان لجدية العطاءات التي يتقدمون بها، وهناك حالات أخرى تتطلب تقديم ضمان كما يحصل في حالات إرسال المنسوجات إلى الخارج بطبعها وإعادتها إلى البلاد، وحالة اصطحاب المسافر إلى الخارج لمجوهراته، وحالة إرسال الآلات إلى الخارج لإصلاحها وإعادتها، ففي مثل هذه الحالات تتطلب مصلحة الجمارك إيداع ضمان مالي لديها لضمان استعادة ما سبق تصديره، ولما ¬

_ (¬1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (393- 1) . (¬2) [البنوك التجارية] (221- 1) .

كان إيداع الضمان المالي يؤدي إلى حرمان المودع مدة طويلة من جزء كبير من رأس ماله إلى جانب ما يلاقيه من صعوبات لاسترداده؛ لذلك يفضل رجال الأعمال الالتجاء إلى البنوك ليحصلوا منها على خطابات ضمان يقدمونها إلى الجهات المختصة بدلا من الضمان المالي. وفي حالة الاشتراك في المناقصات الدولية تقوم خطابات الضمان بدورها، إذ أنها توفر على مقدم الضمان القيام بإجراءات تحويل العملة واستردادها وتحميه مما قد يتعرض له من خسائر؛ نتيجة لاحتمال هبوط أسعار العملة عند استرداد الضمان (¬1) . ¬

_ (¬1) [البنوك التجارية] (221) ، ويرجع إلى [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (357- 359- 1) .

ج- أنواع خطابات الضمان: تتنوع خطابات الضمان إلى ابتدائية ونهائية، وخطابات ضمان عن دفعات مقدمة، وخطابات ضمان أخرى، وفيما يلي بيان ذلك: قال الدكتور حسن محمد كمال: تختلف خطابات الضمان باختلاف القرض الذي تعد من أجله، وفيما يلي أهم أنواع خطابات الضمان الشائعة الاستخدام: (أ) خطابات ضمان ابتدائية: وهي عبارة عن خطابات الضمان التي تقدم إلى الجهات أو الهيئات الحكومية كتأمينات مؤقتة أو ابتدائية بواقع 1% من مجموع قيمة العطاء في مقاولات الأعمال، 2% بالنسبة للعطاءات الأخرى، والغرض الرئيسي لهذا النوع من خطابات الضمان هو التثبت من كفاية المركز المالي لمقدم العطاء

وضمان جديته. (ب) خطابات ضمان نهائية: ويقدم هذا النوع من الخطابات بعد أن يتم اختيار الجهة أو الهيئة الحكومية لأفضل المناقصين للقيام بتنفيذ العملية أو المقاولة، وذلك كتأمين نهائي لضمان تنفيذ العقد المبرم، وتصدر البنوك هذا النوع بما يعادل 5% من مجموع قيمة العطاء في مقاولات الأعمال و 10% فيما عدا ذلك. (ج) خطابات ضمان عن دفعات مقدمة: ويقدم هذا النوع في خطابات الضمان في حالة الدفعات المقدمة التي يحصل عليها الموردون أو المقاولون من قيمة أوامر التوريد التي تصدر إليهم أو عقود المقاولات التي تبرم معهم، بحيث لا تصرف هذه الدفعات إلا مقابل خطابات ضمان عنها. (د) خطابات ضمان أخرى: وإلى جانب ما تقدم، تصدر البنوك أنواعا أخرى من خطابات الضمان منها: خطابات ضمان ملاحية، ويقدمها المستوردون لربان السفن عن البضائع التي لم ترد بعد مستندات الشحن الخاصة بها؛ لإمكان استلام هذه البضائع، خطابات ضمان يقدمها الأفراد المسافرون للخارج إلى مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية لضمان نفقات العودة من الخارج، خطابات ضمان يقدمها الأفراد إلى مصلحة الجمارك عن خروج الأشياء الثمينة لضمان إعادتها مرة أخرى إلى البلاد (¬1) . ¬

_ (¬1) [البنوك التجارية] (222) وما بعدها.

د- طبيعة ومدى التزام البنك: إن خطاب الضمان الذي يقدمه البنك يقوم مقام النقود تماما، وفيما يلي تفصيل ذلك: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: لتحديد طبيعة ومدى التزام البنك يجب أن نشير إلى الوظيفة الاقتصادية المطلوبة من تدخله، فهو من هذه الناحية لا يضمن العميل في تنفيذ التزامه قبل الغير كما هو شأن الكفيل العادي، بل إن كفالة البنك هنا لها معنى أبعد ووظيفة أهم تبدو في أن خطاب الضمان يحل محل النقود تماما، والذي يطلب إلى من يتعاقد معه تقديم كفالة مصرفية يطلب أولا أن يعطيه تأمينا نقديا، ولا يقبل بدلا منه إلا كفالة مصرفية، وقد رأينا مثالا لذلك في لائحة المناقصات والمزايدات، فهي تشترط على المتعاقد معها إيداع تأمين نقدي أو كفالة مصرفية، فكأن من يطلب خطاب ضمان مصرفي إنما يريد أن يطمئن كما لو كانت لديه كفالة نقدية، ولذلك يجب أن تتوفر في التزام البنك على هذا النحو العناصر التي تمكن من أداء هذه الوظيفة، وهي حلول الخطاب محل النقود تماما كما يحل الشيك أو الورقة التجارية محل النقود والوفاء. وهذه الوظيفة الملحوظة في خطاب الضمان بصورته الغالبة هي ما استقر عليه العمل كما يستخلص من العرف المصرفي ومما ورد في أحكام القضاء (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (366، 367- 1) .

هـ- شروط خطابات الضمان: للضمان شروط من جهة تحديد المبلغ الذي يضمنه البنك ومقدار مدة الضمان، وأن قيمة خطاب الضمان لا تتعدى الحد المصرح به للبنك. وفيما يلي بيان ذلك: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: 1 - مبلغ الضمان: الأصل أن يحدد ضمان البنك بمبلغ معين: ومع ذلك فمن المتصور أن يصدر الخطاب بغير تحديد مبلغ، بل يتعهد فيه البنك أن يضمن عميله في كل ما يسببه تصرفه من ضرر للغير، أي: المستفيد، وتتبع هذه الصورة على الخصوص في كفالة المرسل إليه الذي يسحب بضاعة من الجمرك قبل أن تصله سندات الشحن، فيشترط عليه الجمرك تقديم كفالة من البنك تضمن له كل ما قد يتحمله الجمرك بسبب تسليمه البضاعة، وتعهد البنك على هذا النحو صحيح؛ لأن محله وإن لم يكن محددا فهو قابل للتحديد، ولا يدفع البنك إلا الضرر الذي يثبت المستفيد وهو الجمرك أنه أصابه بسبب الواقعة التي ضمن البنك نتائجها. 2 - مدة الضمان: الأصل أن يصدر الخطاب لمدة محددة يحرص على تأكيدها باعتبارها مدة سريان الخطاب، وعلى اشتراط وصول المطالبة قبل تاريخ معين، وبيان أن ضمان البنك يسقط تلقائيا إذا لم تصل البنك مطالبة حتى التاريخ المحدد. وإذا لم تحدد مدة اعتبر الضمان -كقاعدة- غير محددة المدة، فيجوز للبنك -وهو الملتزم- أن ينهيه في أي وقت بشرط إخطار العميل

قبله بوقت مناسب.. ومع ذلك إذا كانت العملية المضمونة مذكورة في الخطاب امتد الضمان إلى وقت انتهائها، وظل قائما مادامت قائمة متى كان هذا المعنى مفهوما من الخطاب، ويبدو ذلك -مثلا- إذا قدم الخطاب لضمان حسن سلوك شخص أجنبي دخل البلاد بضمان البنك، فيظل الضمان قائما ما دامت العملية قائمة أو ما دام الأجنبي حيا مقيما في المصر، ومعنى سريان الضمان خلال مدة معينة أو دون تحديد مدة أن البنك يلزم بالدفع فورا إذا طولب بالوفاء خلالها. ويعتبر الموعد المذكور في الخطاب حدا أقصى لنفاذه بحيث يسقط التزام البنك بحلوله حتما وبلا حاجة إلى إخطار منه إلى المستفيد ولا اتخاذ إجراء آخر، ويحرص الخطاب عادة على بيان التزامه بالدفع إذا وصلته المطالبة في الميعاد، فلا يلزم إذا لم تسلم له في المدة ولو أرسلت إليه خلالها، ويترتب على ذلك أن المستفيد هو الذي يتحمل نتائج تأخير البريد، وعليه إذن أن يكون حريصا فلا ينتظر إلى آخر لحظة. وهذا الحل يفرضه أن عميل البنك يسترد غطاء الخطاب من البنك في اليوم التالي فورا؛ لانتهاء الضمان، ومن العدل إبراء البنك من التزامه من هذه اللحظة؛ لأنه فقد ضمانه ضد العميل، فضلا على عدم إمكان القول بإلزامه بانتظار المطالبات التي لم تصل في آخر يوم، ولكنها قد تكون في طريقها إليه (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات المصارف من الوجهة القانونية] للدكتور محمد جمال الدين عوض (362- 364- 1) .

3 - الإقرار: قال عبد العزيز عامر: يجب النص في خطابات الضمان النهائية على أن قيمة خطاب الضمان لا تتعدى الحد المصرح به للبنك من وزارة الاقتصاد والتجارة، وذلك على صيغة إقرار من البنك، ويجوز للجهة المستفيدة رفض الخطاب إذا لم يحمل هذا الإقرار (¬1) . ¬

_ (¬1) [البنوك والائتمان]- عبد العزيز عامر (175) .

والغطاء: يختلف الغطاء في الحالة التي يطلب فيها البنك غطاء من العميل يبقيه لديه: فقد يكون نقدا، وقد يكون أوراقا مالية، وقد يكون ما يطلبه يساوي القيمة التي تعهد بها ليدفعها بمقتضى خطاب الضمان، وقد تكون أقل من ذلك، وقد لا يطلب من العميل غطاء أصلا إذا كان الذي طلب خطاب الضمان من البنك أهلا لذلك بموجب اعتبارات يعلمها البنك. وفيما يلي بيان أنواع الغطاء: قال الدكتور حسن محمد كمال: غطاء خطابات الضمان يتخذ صورا منها: أ- نقدية: وذلك بأن يقدم العميل مبلغا نقديا إلى البنك (غطاء) يعادل قيمة الضمان أو جزءا من القيمة، أو بأن يحجز البنك القيمة أو نسبة منها من الحساب الجاري للعميل، إذا كان من عملاء البنك، وترحل المبالغ المحجوزة إلى حساب خاص يسمى: احتياطي خطابات الضمان. ب- أوراق مالية: وذلك بأن يقدم العميل أوراقا مالية مملوكة له، وتكون

قيمتهما التسليفية معادلة على الأقل لقيمة الضمان المطلوب أو أن يحجز البنك على هذه الأوراق إذا كانت مودعة لديه بصفة أمانة بناء على طلب العميل، بمعنى أن يمنعها من التداول طوال الفترة المحددة للضمان. ج- مكشوفة: يقصد بخطابات الضمان المكشوفة، الخطابات التي يصدرها البنك بدون غطاء، وهذا الإجراء نادر، وتقتصر هذه الحالة عادة على العملاء في البنوك الكبرى، وعملاء البنك من الشركات الكبرى والأفراد ذوي المركز المالي المتين (¬1) . ¬

_ (¬1) [البنوك التجارية] (224) ، ويرجع إلى كتاب [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (273، 274- 1) .

ز- العلاقات الناشئة بين أطراف الخطاب: تنشأ علاقات ثلاث بين أطراف الخطاب كل واحدة منها متميزة عن الأخرى، وهي علاقة البنك بعميله، وعلاقة العميل بصاحب المشروع أو المتعامل معه وعلاقة البنك بالمستفيد وترتيبا على ذلك، ولا بد من التفرقة بين هذه العلاقات وبيان أن ضمان البنك لصالح المستفيد لا يعتبر عقدا بينه وبين المستفيد، وأن البنك يلتزم للمستفيد بصفته أصيلا، وأنه لا يجوز تداول خطاب الضمان، وأن البنك يدفع للمستفيد وليس لحامل الخطاب، والحكم في حالة ما إذا فقد الخطاب، وأن البنك لا يضمن تنفيذ التزام العميل قانونا، وأن ضمان البنك مرتبط اقتصاديا بالتزام العميل، وأن البنك ليس كفيلا والتزامه ليس تضامنيا.

وبيان النتائج المترتبة على استقلال التزام البنك الثابت في خطاب الضمان عن دين العميل قبل المستفيد، وأن البنك يرجع على العميل. وفيما يلي بيان ذلك مختصرا من كلام الدكتور محمد جمال الدين عوض: قال: تمكين نظام خطاب الضمان بصورته الغالبة من أداء هذه الوظيفة المقصودة منه يقتضي التفرقة بين علاقة البنك بعميله، ويحكمها عقد الاعتماد بالكفالة أو الضمان، وعلاقة العميل بصاحب المشروع أو المتعامل معه أيا كان، ويحكمها عقد التوريد أو المقاولة. وعلاقة البنك بصاحب المشروع وهو المستفيد الذي صدر لصالحه خطاب الضمان، ويحكمها خطاب الضمان وحده، فإذا كان متفقا على إصدار خطاب بشروط معينة وصدر الخطاب بشروط أخرى كان الأساس في إلزام البنك هي الشروط التي صدر بها لا الشروط المتفق عليها بين العميل والمستفيد أو بين العميل والبنك. فضمان البنك لصالح المستفيد لا يعتبر عقدا بينه وبين المستفيد؛ لأن الخطاب يصدر تنفيذا للعقد بين الآمر والبنك، وليس تنفيذا لعقد بين البنك والمستفيد من الخطاب، فلا يشترط لإلزام البنك أن يقبل المستفيد الخطاب، بل يلتزم البنك نهائيا بمجرد إصداره الخطاب ووصوله إلى علم المستفيد منه ما دام لم يرفضه، صحيح أن المستفيد في مطالبته البنك يلتزم الشروط الواردة بالخطاب، ولكن ليس لأنه طرف في عقد بينه وبين البنك، بل لأن هذه هي حدود التزام البنك المبينة في خطاب التزام البنك للمستفيد، فالبنك يلتزم بمجرد إصداره الخطاب، ولا يلتزم إذا لم يصدره ولو اتفق مع العميل على أن يضمنه قبل المستفيد؛ لأن هذا الاتفاق يظل

مقصورا على طرفيه دون أن يكون للمستفيد أن يتمسك به، ولكن يجب لالتزام البنك بالخطاب أن يصل إلى علم المستفيد، وإلا فللبنك حق الرجوع في إرادته قبل وصول الخطاب إلى علم المستفيد. ولا يعتبر البنك -في التزامه بخطاب الضمان- نائبا عن عميله، بل هو يلتزم بصفته أصيلا؛ لأن النيابة لا تقوم في الضمان، بل يكون العميل والبنك ملتزمين قبل المستفيد، ولكن دين كل منهما مستقل عن دين الآخر. والبنك إذ يصدر خطاب الضمان يتعهد بالوفاء لشخص معين هو المتعاقد مع عميل البنك، الذي صدر الخطاب بناء على طلبه، وهو ما يحرص الخطاب على إيضاحه بالنص على أن البنك يتعهد بالدفع إلى شخص آخر أو جهة معينة. ويترتب على أن الخطاب شخصي أنه لا يجوز للمستفيد تظهيره إلى غيره خاصة، ولا يتضمن شرط الإذن، ولا يعتبر لذلك ورقة تجارية، ولا يجوز له أن يتنازل عنه لأي شخص آخر بأي طريقة -حتى ولا بالتبعية- لتنازله عن عقد المقاولة الأصلي؛ لأن شخصية المستفيد من الخطاب وأمانته محل اعتبار لدى عميل البنك. ولا يجوز أن يدفع البنك قيمة خطاب الضمان إلا لشخص المستفيد أو وكيله. وإذا فقد وجب على البنك أن يعطي المستفيد بدل فاقد أو يدفع له، وليس له أن يرفض بحجة عدم تقديم الخطاب مادامت شروط الدفع متوافرة، وبالعكس عليه أن يمتنع عن الدفع إذا لم يكن المطالب هو المستفيد ولو كان حاملا لخطاب الضمان، وللمستفيد وحده حق طلب

تنفيذ الخطاب، ولا يجوز لدائنيه أن يحجزوا على قيمته تحت يد البنك؛ لأن المطالبة بتنفيذه حق شخصي تقديري له، لا يجوز لدائنيه أن يستعملوه بدلا عنه أو يجبروه على استعماله. ولا يضمن البنك حسن تنفيذ العميل؛ لالتزامه أمام دائنيه، بل هو يطلق تعهدا يمكن القول أنه تعهد مجرد عن ظروف التزام العميل أمام المستفيد، فهو يلتزم بدفع المبلغ المحدد في الخطاب أيا كان مقدار مديونية العميل ولو كان هذا المقدار أكبر أو أقل مما تعهد به البنك للمستفيد، وهو تعهد منقطع الصلة بكيفية تنفيذ العميل المدين التزامه، فلا يعتبر ما تعهد البنك بدفعه تعويضا للدائن المستفيد من عدم تنفيذ العميل التزامه أو إساءة هذا التنفيذ. ويرتبط خطاب الضمان بالتزام العميل اقتصاديا، فهو يصدر خدمة لعلاقة العميل بدائنه، إذ يستهدف به العميل الحصول على ثقة هذا الدائن الذي لا يرضى بأي ضمان آخر سوى هذه الصورة من صور الضمان، ومع ذلك فالبنك ليس كفيلا والتزامه ليس تضامنيا. ومما يترتب على نتائج استقلال البنك عن دين العميل قبل المستفيد أنه لا حاجة بالبنك إلى إخطار المدين (عميله) قبل أن يدفع للمستفيد، وليس للبنك التمسك على المستفيد بدفوع مستمدة من العلاقة بين المستفيد وعميل البنك، وليس للعميل أن يعارض في الوفاء للمستفيد بسبب مستمد من علاقته بهذا المستفيد. وللبنك أن يرجع بما دفعه للمستفيد إلى عميله إذا كان هذا الوفاء تنفيذ

خطاب ضمان، صدر صحيحا ومطابقا لتعليمات العميل الآمر (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (358) وما بعدها.

ح- انقضاء التزام البنك: ينقضي التزام البنك بانقضاء المدة المحددة بينهما أو مرور مدة التقادم أو إعادة الخطاب إليه دون انقضاء المدة المقررة فيه (¬1) . ط- العمولات: تعتبر عمولات خطابات الضمان دخلا لا بأس به بالنسبة للبنك، وهي محددة بموجب تعريفة اتحاد البنوك، وتستحق لفترات ربع سنوية، أي: كل ثلاثة شهور ومضاعفاتها، كما يجوز احتساب العمولة على الأرصدة الحالية من خطابات الضمان المتناقصة التي تكفل دفع أقساط دورية معينة (¬2) . ¬

_ (¬1) انظر [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ص (374) . (¬2) [البنوك والائتمان] (175) .

الصورة الثالثة للضمان وهي الاعتماد بالقبول

الصورة الثالثة: الاعتماد بالقبول الاعتماد بالقبول صورة من صور إقراض التوقيع، وفيما يلي بيان وصف العملية، والصور المختلفة للالتجاء إلى القبول المصرفي، وأن الاعتماد بالقبول غير متجدد ومدى صحة الأوراق المقبولة، وخصم البنك للأوراق التي عليها قبوله والتزامات الطرفين في الاعتماد بالقبول: 1 - التعريف بعملية القبول المصرفي: يقول الدكتور علي البارودي: مضمون هذه العملية: هو أن البنك يقبل كمبيالة يسحبها عليه العميل أو الطرف الآخر الذي يتعامل معه العميل، وبقبول البنك للكمبيالة تكتسب قوة ائتمانية كبيرة تجعل من

السهل تداولها أو خصمها لدى بنك آخر، فكأن البنك دون أن يخرج نقودا من خزانته، قد هيأ للعميل فرصة الحصول على المبالغ اللازمة له، كذلك يستطيع العميل أن يرسل هذه الكمبيالة إلى البائع فيطمئن إلى التعامل معه، إذ يلتزم البنك كأي مسحوب عليه قابل للورقة التجارية ويخضع لقانون الصرف (¬1) . 2 - الصور المختلفة للالتجاء إلى القبول المصرفي: الأسباب الداعية للالتجاء إلى القبول المصرفي متعددة، منها: تمويل العمليات التجارية في الداخل أو الخارج، ومنها: تحقيق اشتراك عدة بنوك في عملية ائتمان واحدة. وفيما يلي بيان ذلك باختصار من كلام الدكتور علي البارودي: أ- يكثر الالتجاء إلى القبول المصرفي لتمويل العمليات التجارية ذات الطابع الدولي، فالمستورد يلجأ إلى البنك، ليحصل على قبوله على كمبيالة يرسلها إلى البائع الأجنبي، كذلك إذا كان المصدر قد أمهل مدينه في الوفاء فإنه يستطيع أن يحصل على مبلغ فوري من البنك بأن يقدم له مستندات الصفقة ويحصل على قبوله في كمبيالة يخصمها في بنك آخر، وقد أخذ العمل في بعض البنوك الأوربية يشهد استعمال القبول في مجال التجارة الداخلية أيضا، ويتقاضى البنك عمولة مقابل إقراضه توقيعه، هذه العمولة غالبا ما تكون نسبة معينة من مبلغ الكمبيالة المقبولة، يراعي في تحديدها مقدار الخطر الذي يتعرض ¬

_ (¬1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (388- 1) .

له، على أن الأمر لا يقتصر بالنسبة للبنك على مجرد التوقيع، إذ لا شك أنه يجب أن يحسب حساب الحالات التي لا تنتهي فيها العملية نهاية طبيعية، فيضطر إلى الدفع باعتباره المسئول الأول عن الوفاء بقيمة الكمبيالة دون أن يكون قد استلم شيئا من العميل؛ لذلك فهو يهتم بالضمانات. ب- ويستخدم القبول أيضا لتحقيق اشتراك عدة بنوك في عملية ائتمان واحدة، يطلق عليها الائتمان الجماعي، وذلك عندما يرى البنك أن من الأنسب أن يشرك بنكا آخر في مخاطر العملية: إما لضخامة قيمتها، أو لازدياد احتمالات الخطر فيها، أو للأمرين معا (¬1) 3 - الاعتماد بالقبول لا يتجدد: ولا يتجدد الاعتماد بالقبول، كما بين ذلك الدكتور محمد جمال الدين عوض بقوله: الاعتماد بالقبول بطبيعته غير متجدد؛ لأن استعماله يكون مرتبطا بتنفيذ عملية تجارية معينة، فلا يجوز للعميل الذي حصل على قبول البنك للأوراق المتفق عليها أن يطلب قبوله مرة أخرى على أوراق غيرها، وذلك ما لم يتفق بينهما على تجديد هذا الاعتماد (¬2) . 4 - مدى صحة الأوراق المقبولة: قد يقبل البنك الكمبيالة المسحوبة عليه دون أن يكون لديه مقابل وفائها، ومع ذلك فالورقة صحيحة ولا تعتبر ¬

_ (¬1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (389) وما بعدها. (¬2) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (381- 1) .

من أوراق المجاملة التي يقضى في القضاء ببطلانها؛ لأن البنك المسحوب عليه لا يقبلها لمجرد مجاملة الساحب، بل هو يقبلها ويقصد أن يدفع قيمتها للمستفيد منها ولو لم يصله مقابل الوفاء من عميله الساحب قبل حلول الأجل (¬1) 5 - خصم البنك للأوراق التي عليها قبوله: ويقول: يمكن للبنك بمقتضى عقد جديد أن يخصم ورقة سبق له قبولها، وذلك متى قدمها للخصم عميله أو شخص آخر حامل لها (¬2) . 6 - التزامات الطرفين: أما التزامات الطرفين في الاعتماد بالقبول فقد قال عنها: يتعهد البنك في علاقته بالمستفيد وبمقتضى العقد أن يقبل الكمبيالة المسحوبة عليه من العميل أو من شخص آخر يعينه العميل، ومتى توافرت الشروط المتفق عليها من حيث حدود المدة والمبلغ، فإذا قبل الورقة فقد نفذ تعهده، ولكنه بذلك يلتزم -صرفيا- أمام الحاملين بقبوله، فيكون لهؤلاء التمسك عليه بكل ما يقره لهم قانون الصرف، ولو كانوا يعلمون أن الورقة مسحوبة بناء على اعتماد مفتوح، ويكون لهم أن يتمسكوا عليه بقاعدة عدم الاحتجاج بالمدفوع غير الظاهرة في الورقة، وحتى لو أنهى الاعتماد بعد إطلاق الورقة في التداول، فإن ذلك لا يؤثر التزام البنك أمام الغير حسني النية. ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (381- 1) . (¬2) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (381- 1)

أما العميل المستفيد فيلتزم بدفع العمولة المتفق عليها وبتقديم مقابل الوفاء للبنك قبل حلول الأجل؛ لأن الأصل أن العقد لا يلزم البنك بالوفاء بقيمة الورقة من خزينته، وهدفه الوحيد هو تسهيل تداول الورقة، فإن تأخر المستفيد واضطر البنك إلى الوفاء من ماله كان له دعوى باسترداد ما دفعه عن العميل وبتعويض عن تعطل المبلغ المدفوع. والتزام العميل تقديم مقابل الوفاء قبل الأجل يجب تنفيذه فعلا، أي: نقدا، فإن كان له رصيد دائن في الحساب الجاري بينه وبين العميل كان للبنك أن يجري قيدا عكسيا في هذا الحساب بالمبلغ المستحق له، ولكن هذه رخصة اختيارية له والرأي على أن له أن يطلب تقديم المقابل نقدا (¬1) ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] (382، 383- 1) .

تكييف الضمان المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه

تكييف الضمان المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه: مما تقدم يتبين: أن المصرف قد يضمن العميل في جزء من المبلغ المستحق عليه أو ما يستحق عليه لدى طرف آخر، وقد يضمنه في جميع المبلغ، وقد يدفع المصرف عن العميل للمستفيد ما ضمنه عنه كله أو بعضه في حالة عجزه عنه، ويأخذ المصرف فائدة وعمولة على المبلغ الذي ضمنه بموجب اتفاق بين المصرف والعميل، وإذا دفع المصرف عن العميل للمستفيد فقد يعجز العميل عن التسديد في الوقت الذي يتفقان عليه، فيجعل المصرف نسبة معينة من الفائدة والعمولة مقابل التأخير عن كل شهر أو يوم -مثلا-، وقد يجعل العميل لدى المصرف غطاء كاملا أو جزئيا يحتفظ به المصرف؛ ليسدد منه ما يستحقه على العميل إذا عجز عن

الدفع في الوقت المحدد للدفع، وقد يستغل المصرف هذا الغطاء وتكون أرباحه له. وعلى هذا فإنه يكون عقد ضمان من المصرف لعميله في مقابل فائدة وعمولة فلا يجوز لأمور: 1 - أخذ المصرف مالا في مقابلة الضمان، والضمان من باب المعروف الذي يبذل ابتغاء الثواب من الله. 2 - أخذ فائدة في مقابلة ما دفعه من المال عن عميله فإنه يعتبر قرضا جر نفعا. 3 - ما قد ينتفع به من استغلال للغطاء. والغطاء هنا من باب الرهن، فكان انتفاع الضامن به محرما حيث لم يكن ظهرا يركب بنفقته أو ذا در يحلب بنفقته.

الرابع الاعتمادات المستندية

الرابع: الاعتمادات المستندية الاعتمادات المستندية هي أصلح وسائل الدفع وأكثرها انتشارا في العمليات التجارية الخارجية ذلك أنه يتولد عنها ثقة لا حد لها، إذ هي مشتقة من الضمانات التي تنطوي عليها، والعلاقة في هذا النوع لا تقتصر على المصرف والعميل، كما في الاعتماد البسيط فهي تتناول شخصا ثالثا إذا كان الاعتماد المستندي غير مؤيد، ورابعا إذا كان الاعتماد المستندي مؤيدا. ويشمل الكلام عليها: أولا: بيان واقعها. وثانيا: بيان حكمها في الفقه الإسلامي. أولا: ويتضمن الكلام عليها من حيث واقعها: تعريفها، وأنواعها وطبيعتها، وأسباب أهميتها وتحليل العلاقات القانونية الناشئة عنها:

أ- تعريفها: عرف الدكتور حسن محمد كمال الاعتماد المستندي بقوله: هو عبارة عن تعهد كتابي يصدره البنك (وهو الذي يقوم بدور الوسيط والضامن في هذه العملية) بناء على طلب مستورد البضاعة، يتعهد بمقتضاه بقبول أو دفع قيمة الكمبيالة التي يسحبها مصدر البضاعة عند تقديمها مستوفاة للشروط المنصوص عليها في الاعتماد (¬1) . ¬

_ (¬1) [البنوك التجارية] ص (194) .

ب- أنواعها: الاعتمادات المستندية تتخذ صورا متعددة مختلفة نتيجة لاختلاف صفاتها والغرض منها، فقد يكون اعتمادا قابلا للإلغاء أو غير قابل، وقد يكون مبلغ الاعتماد ثابتا، وقد يكون متغيرا أو متجددا على حسب اتفاق ذوي الشأن. وفيما يلي بيان هذه الأنواع: قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: أولا: من حيث قوة تعهد البنك: ينقسم الاعتماد المستندي إلى اعتماد قابل للإلغاء واعتماد قطعي أو نهائي، ويقصد بالاعتماد القابل للإلغاء الاعتماد الذي يجوز للبنك أن يرجع فيه دون مسئولية عليه قبل الآمر أو المستفيد. فلا يترتب على هذا الاعتماد أي التزام على البنك ولا أي حق للمستفيد؛ ولذلك يخطر البنك المستفيد بأنه فتح لصالحه اعتمادا في حدود مبلغ كذا، ولكنه يصرح أنه قابل للإلغاء في كل وقت، فهو لا يعد

المستفيد بشيء، بل يخطره بالتفاهم الذي حصل بينه وبين العميل.. وكذلك لا يعتبر الاتفاق بين البنك وعميله على هذا الإخطار اعتمادا بالمعنى الفني؛ لأن الاعتماد يفترض ثقة البنك في عميله الآمر، وهي ثقة غير متوفرة بدليل احتفاظ البنك بحق الرجوع فيه في كل وقت، ولا يلزم البنك إذا سحب الاعتماد أن يخطر المستفيد بذلك ولو سبق أن أخطره بفتحه، ومتى طلب العميل الآمر من البنك إنهاء اعتماده وجب عليه سحبه فورا؛ لأنه وكيل عن الآمر فضلا على أنه لم يلتزم أمام الغير بشيء. ومع ذلك فكثيرا ما يلجأ إلى الاعتماد القابل للإلغاء؛ لأن مصاريفه أقل من مصاريف الاعتماد القطعي، ولأنه طالما كان مفتوحا، فالبنك ينفذه طبقا لما وعده في إخطاره، كما أن معظم البنوك وإن كان لا يلتزم قانونا بإخطار المستفيد بسحب الاعتماد إلا أنه يفعل ذلك دائما، ومتى نفذ البنك هذا الاعتماد ودفع للبائع نظير تلقيه المستندات استقرت أوضاع الأطراف، كما في حالة الاعتماد القطعي. أما الاعتماد القطعي أو النهائي: فهو الذي لا يجوز للبنك أن يرجع فيه أو يلغيه، وذلك لأنه متى أخطر به المستفيد ترتب في ذمة البنك التزاما شخصيا مباشرا أمام المستفيد بتنفيذ ما جاء في خطاب الإخطار. ثانيا: من حيث تدخل عدة بنوك في تنفيذه ينقسم إلى: 1 - الاعتماد المؤيد: والاعتماد غير المؤيد: قد يكون الاعتماد القطعي مؤيدا من بنك آخر غير البنك الذي فتح الاعتماد، إذ يغلب أن لا يقنع البائع باعتماد يفتحه المشتري لدى البنك في بلده، وبتولي بنك في بلد البائع إخطاره به بحيث يكون مجرد وسيط غير مسئول شخصيا، فيكون الاعتماد

قطعيا من البنك الذي فتحه، ولكنه غير مؤيد من البنك الوسيط الذي أخطر به المستفيد، بل يشترط أن يتعهد هذا البنك شخصيا أمامه بأن يؤيد فتح الاعتماد، فيكون الاعتماد هنا قطعيا ممن أصدره، ومؤيدا من بنك ثان، ويلاحظ أن الاعتماد غير النهائي لا يمكن أن يكون مؤيدا؛ لأن البنك الذي يفتحه لا يلتزم أمام المستفيد، فلا يتصور أن يلتزم البنك الوسيط شخصيا؛ لأنه مجرد وكيل عن الأول، وإذا التزم كان التزامه أصيلا، وليس تأييد الالتزام به وحده ولم يكن له رجوع على البنك الأول. ثالثا: من حيث كيفية تنفيذه ينقسم إلى: اعتماد الوفاء، واعتماد الخصم، واعتماد القبول: قد يتعهد البنك أن يدفع للبائع نقدا إذا قدم إليه المستندات المعنية، وقد يتعهد بخصم الكمبيالات التي يسحبها البائع على المشتري بشروط معينة، وقد تعهده على مجرد قبول هذه الكمبيالات دون خصمها، وقد ينفذ الاعتماد مرة واحدة، أي: دفعة واحدة، وقد ينفذ على دفعات، ولهذا الائتمان صورتان: الصورة الأولى: هي حالة الاتفاق على أن يدفع البنك إلى البائع مبلغا على المكشوف، ويدفع البنك إلى البائع دفعة على الحساب، أي: إلى أن يقدم المستندات، وذلك نظير إيصال منه، ويتحلل هذا الاعتماد إلى اعتماد مستندي مضاف إليه اعتماد نقدي بطريق الخزينة. الصورة الثانية: أن يتفق على أن ينفذ البنك تعهده جزئيا، متى قدم له البائع مستندات مؤقتة، أي: مستندات تدل على أنه بدأ في تنفيذ التزاماته،

ولكنها ليست هي المستندات النهائية المطلوبة للتنفيذ الكامل. وقد يعين مبلغ الاعتماد لمرة واحدة خلال المدة المحددة، وقد يتفق على تجديده، وينص على أن للمستفيد حق استخدامه بصفة دورية متجددة، فيتجدد مثلا لمدة ستة شهور بمبلغ ألف جنيه شهريا يكون للمستفيد أن يسحبه كل شهر مرة، ويسمى ذلك: الاعتماد المتجدد، والأصل أن يكون الاعتماد مفتوحا لشخص معين هو البائع، وعندئذ لا يقبل من هذا البائع أن يحول حقه في الإفادة من الاعتماد إلى شخص آخر، وقد ينص في الاعتماد المفتوح على حق المستفيد منه أن ينقله إلى غيره، فيكون للمنقول إليه حق مباشر ضد البنك

ج- طبيعتها: محل الصعوبة في عملية الاعتماد المستندي هو تفسير التزام البنك في مواجهة البائع، ثم هو لا يستند إلى أي عقد أو اتفاق سابق بين البنك وبين البائع المستفيد؛ لذلك اختلفت الآراء في تشخيص طبيعته وكثر الأخذ والرد في ذلك. وفيما يلي كلام للدكتور محمد جمال الدين عوض ذكر فيه جملة من الآراء ونقدها، وبين ما يختاره هو، ثم يليه نقد عام للدكتور علي

البارودي، وبيان الرأي الذي يختاره، ووجه اختياره. قال الدكتور محمد جمال الدين عوض: 1 - عقد غير مسمى: فقيل: أولا: إن علاقة المشتري بالبنك هي عقد من نوع خاص غريب عن العقود المدنية وله أحكام خاصة، ومنها أنه ينشئ التزاما لصالح البائع يصبح مستقلا عن مصدره ولا غرابة في ذلك؛ لأن هذا العقد نشأ تطورا لخدمة حاجات التجارة. وعيب هذه الفكرة أنها تقرر الواقع ولكنها لا تفسره. 2 - القبول المصرفي: ذهب البعض إلى أن البنك بإصداره خطاب الاعتماد إنما يقبل مقدما الكمبيالات التي يسحبها عليه البائع تنفيذا للاتفاق المبرم بينه وبين المشتري، ولكن يلاحظ أن هذا الوعد بالقبول لا يمكن أن يعتبر قبولا صرفيا، كما لا تصلح هذه النظرية لحالات تنفيذ الاعتماد بواسطة الدفع فورا، وحتى في الحالات التي يكون فيها تنفيذه بواسطة القبول يلاحظ أن القبول المصرفي يجب أن يكون غير معلق على شرط، في حين أن البنك في الاعتماد المستندي يتعهد بالقبول إذا قدم البائع المستندات المطلوبة، كما أن الحق في الاعتماد لا يقبل الانتقال ولا التداول، في حين أن التعهد الناشئ من القبول المصرفي ينتقل إلى كل حامل للكمبيالة. 3 - الكفالة: يأخذ رأي بفكرة اعتبار البنك كفيلا ضامنا للمشتري في التزامه أمام البائع، ويرتب على ذلك أنه لا يجوز للبنك أن يرجع في تعهده بحجة أن المشتري لم يدفع له أجره، وأن البنك لا يكون له بعد الوفاء للبائع، سوى الرجوع على المشتري، وأنه إذا تنازل المشتري

عن عقده إلى شخص آخر فإنه يصبح غريبا عن البنك، ويحل المشتري من الباطن محله، ولا يكون للبنك بعدئذ أن يرجع على المشتري الأصلي، وينحصر حقه في الرجوع على المشتري من الباطن. ويعيب هذا التحليل أن فكرة الاعتماد المستندي تقوم على إنشاء التزام في ذمة البنك مستقل تماما عن عقد البيع وتنفيذه، فلا يتوقف وفاء البنك للبائع على تنفيذ البائع التزاماته الناشئة من عقد البيع، في حين أن التزام الكفيل التزام تابع فلا يقوم ولا يبقى إلا إذا نشأ التزام المدين الأصلي وظل قائما، مع أن أنصار هذا الرأي يلزمون البنك بالدفع أيا كان مصير عقد البيع، كما أن للكفيل ولو كان متضامنا أن يتمسك على الدائن بالدفوع التي للمدين ضد الدائن، ومعنى ذلك أن يكون للبنك أن يرفض الوفاء للبائع كلما استطاع أن يدفع مطالبته بدفع للمشتري ضد البائع وهو ما ينكره الفقه والقضاء. 4 - الاشتراط لمصلحة الغير: قيل إن المشتري يشترط في الاعتماد لصالح البائع، فيكون للأخير حق مباشر ضد هذا البنك يتأكد بقبوله خطاب الاعتماد، وعندئذ لا يستطيع المشتري ولا البنك الرجوع فيه. ويعيب هذا التصوير أن التزام المتعهد في الاشتراط لمصلحة الغير مرتبط بعقد الاشتراط، فالمتعهد يلتزم التزاما جديدا لصالح المستفيد، ولكن هذا الالتزام ليس مستقلا عن علاقته بالمشترط، في حين أن البنك في الاعتماد القطعي يتعهد بالتزام جديد ومستقل عن التزامه قبل المشتري. 5 - الإنابة: اقتراح الأستاذ هامل: تفسير هذه العملية بفكرة الإنابة، فالمشتري دائن بمقتضى الاعتماد، ومدين بمقتضى عقد البيع وهو

المنيب، أما المناب فهو البنك وأما المناب لديه فهو البائع، والصعوبة هي في شخص المناب لديه؛ لأن الأصل أن المناب لا يلتزم إلا بقبول المناب لديه؛ لأن الإنابة عقد ثلاثي لأطرافه في حين أن الاعتماد يلزم البنك بمجرد وصول خطابه إلى البائع دون حاجة إلى قبوله. والحقيقة: أن هذا القبول في رأي هامل موجود، ومستخلص ضمنا من مجرد طلبه من المشتري فتح الاعتماد، ومن عدم اعتراضه على البنك الذي اختاره المشتري، وتفسر الإنابة كون البنك نهائيا ومستقلا، ولكن الإنابة تظل ناقصة في علاقة البائع بالمشتري، إذ تظل علاقتهما المستمدة من عقد البيع قائمة وبمجرد قبول البائع الخطاب يمتنع على المشتري الرجوع في أمره، ويكون التزام البنك مستقلا عن البيع، فعليه أن يدفع للبائع ولو كانت البضاعة معينة، وللمشتري بعد ذلك أن يرجع على البائع. ولا تلعب نهائية الالتزام دورها بين البنك والمشتري إلا متى نفذ البنك بدقة أوامر المشتري، ولا يكون للبنك الرجوع على المشتري إلا إذا كان قد نفذ التزاماته الناشئة عن عقد الاعتماد تنفيذا دقيقا، ولكن مع كل ذلك تقوم أمام هذه النظرية صعوبتان: الأولى: هي أنه في الإنابة تقوم وحدة الدين، بمعنى أنه بالرغم من استقلال التزام كل من المنيب والمناب فموضوعهما واحد وهو دين المنيب الذي يتعهد به المناب، في حين أنه في الاعتماد يكون التزام العميل هو دفع الثمن والتزام البنك دفع مبلغ نقدي ليس له هذا الوصف. ويرد أنصار نظرية الكفالة على ذلك بقولهم: إن هذه الملاحظة فيها تشدد واضح؛ لأن الحقيقة هي أن التزام البنك والتزام المشتري دفع مبلغ (نقدي) . والصعوبة الثانية هي: أن الإنابة لا تمنع المناب من التمسك على

المناب لديه بالدفوع التي للمنيب ضد المناب لديه. وقد رفض الأخذ بهذه النظرية القضاء المصري في حكم حدث سنة 1961 م. 6 - تقابل الإرادات بطريق التوسط: قال بهذه الفكرة الأستاذ خان مال، وهي تتلخص في أنه حيث لا يلزم تعاصر الإرادتين أمكن أن يتم التعاقد بين شخصين، كل منهما يطلق رغبته في التعاقد بشروط معينة، فالبائع والبنك يتعاقدان هنا بواسطة المشتري، ويتم التعاقد عندما يفتح البنك الاعتماد، إذ يشترط البائع على المشتري تسوية الثمن بواسطة فتح الاعتماد والبنك يقبل هذا الإيجاب الذي يعلنه به المشتري. وواضح ما في هذه النظرية من إرهاق لفكرة التعاقد، ومن تعرضها لكثير من الانتقادات الموجهة لغيرها من النظريات. 7 - الإرادة المنفردة: ويلاحظ الأستاذ أسكار: أن أيا من النظريات المقترحة لا يصلح لتغير الآثار المستقرة للاعتماد المستندي، وأنه وإن كان ولا بد من تقريب هذا النظام من شبيه له يعرفه القانون المدني فهو الإرادة المنفردة، ذلك أن مركز البنك كمركز الواعد بجائزة يتعهد كلاهما تعهدا مستقلا بأداء معين إذا نفذ شخص عملا معينا هو في الاعتماد تقديم المستندات، وهو في الوعد بجائزة العمل الذي تستحق به الجائزة. وفي نظرنا هذه الفكرة أقرب الأسس إلى تفسير النظام تفسيرا صحيحا. . . .

وقال الدكتور علي البارودي بعد أن ذكر ما قيل من أنه حوالة، أو كفالة أو الاشتراط لمصلحة الغير، أو الإنابة أو سند مصرفي ذو طبيعة خاصة، أو أن البنك يكون في مركز الوكيل بالعمالة الضامن، وبأن البنك يجمد مبلغا معينا لصالح البائع، فيصبح حائزا لحسابه وتحت تصرفه أيا كان مصير العملية. أو فكرة القبول المصرفي، أو الإرادة المنفردة، أو أنه عقد غير مسمى أنشأه العرف التجاري. قال بعد ذلك: وإنما يمكن القول بصفة عامة أن أغلب هذه النظريات يفسر جانبا من جوانب التزام البنك دون جانب، وأغلبها يعجز عن تفسير التزام البنك الذي يعتبر نهائيا مستقلا دون حاجة إلى قبول صريح من جانب البائع الأجنبي، أو عن تفسير استقلاله التام عن عقد البيع وما ينشأ عنه من دفوعات خاصة، أو استقلاله عن إرادة المشتري العميل الذي لا يستطيع بعد ذلك أن يطلب الامتناع عن دفع الثمن للبائع لسبب أو لآخر، أو استقلاله عن إرادة البنك نفسه الذي لا يستطيع الرجوع في هذا الالتزام حتى ولو أفلس العميل المشتري، أو قام بما يبرر فسخ الاعتماد المفتوح. ثم ذكر أن دور البنك المستقل هو دور الحكم أو المشرف على العملية بين الطرفين، وذكر في نهاية بحثه أنه يميل إلى القبول بأن التزام البنك يصدر عن إرادة منفردة، فهذا الرأي هو أقرب الآراء إلى الصحة (¬1) ¬

_ (¬1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] (386، 387) .

د- أسباب أهميتها:

للاعتمادات المستندية أهمية كبرى في التجارة الخارجية في مجال الاستيراد والتصدير، وفيما يلي ذكر أهم هذه الأسباب: قال الأستاذ أمين ميخائيل: 1 - سهولة حصول المصدر على قيمة بضاعته بمجرد تسليمه إلى البنك في بلده المستندات الخاصة بهذه البضاعة والمنصوص عليها في الاعتماد المستندي المفتوح لصالحه، ومن المعروف أنه في الأوقات المشكوك فيها -أي: في الأزمات والحروب وأوقات انخفاض الأسعار- يخشى التجار من تسليم بضائعهم أو التنازل عن ملكيتها إلا بعد تأكدهم من قبض أثمانها. فهم لذلك يجدون في الاعتمادات المستندية المفتوحة عن طريق البنوك التي لا تدعو سمعتها المالية إلى الشك خير ضمان لهم.. كما أن استبعاد خطر عدم الدفع لهم يجعلهم يبيعون بضاعتهم بأثمان مغرية. أضف إلى ذلك سرعة تداول رءوس الأموال المستثمرة في التجارة وعدم تجميدها لمدة طويلة. 2 - عادة لا يبذل المصدر للسلعة جهدا في الحصول على المعلومات والبيانات عن المركز المالي للمشتري لبضاعته، ما دام سيحصل على قيمة بضاعته بمجرد تسليمه للبنك المستندات المطلوبة. 3 - عندما يدفع المستورد ثمن البضاعة التي اشتراها فإنه يكون على ثقة تامة من أن البنك سيحصل له من البائع على كل المستندات التي يطلبها، والتي بمقتضاها تنتقل ملكية هذه البضاعة إليه بعد شحنها وتنازل البائع له عنها باستلامه قيمتها.

4 - أن أي نقص أو خطأ في مستندات الشحن يمكن تصحيحه أو استكماله في أقل وقت ممكن عندما يقوم البنك بفحص هذه المستندات بعد تسليمها إليه ليدفع قيمتها من الاعتماد المفتوح لديه. 5 - يقوم المستورد باستيفاء جميع الإجراءات التي تتطلبها الرقابة على الاستيراد والرقابة على النقد في بلده قبل أن يطلب من البنك الذي يتعامل معه في فتح الاعتماد المستندي، كما أن المصدر يتولى استيفاء جميع الإجراءات اللازمة، لتصدير بضاعته بمجرد أن يخطر بفتح الاعتماد المستندي اللازمة لصالحه.

تحليل العلاقات القانونية المتفرعة عن الاعتمادات المستندية

تحليل العلاقات القانونية المتفرعة عن الاعتمادات المستندية: تقدم أن فتح الاعتماد البسيط ينشأ بين علاقتين: المصرف والعميل، وأن فتح الاعتماد المستندي ينشأ بين علاقات ثلاث: معطي الأمر، والبنك الذي يفتح الاعتماد استجابة للآمر الصادر إليه، والمستفيد من الاعتماد. وإذا تدخل بنك وسيط في العملية ليؤيد الاعتماد للمستفيد أضيف بذلك طرف آخر، فأطرافه ثلاثة إذا كان غير مؤيد، وأربعة إذا كان مؤيدا. وفيما يلي كلام للدكتور أمين محمد بدر، حلل فيه العلاقات بين الأطراف إذا كان الاعتماد غير قطعي أو قابلا للإلغاء، ثم أتبع ذلك بتحليل العلاقات بالنسبة للاعتماد القطعي أو غير القابل للإلغاء، فبين العلاقة بين معطي الأمر والمستفيد، ثم العلاقة بين معطي الأمر والبنك الذي يفتح

الاعتماد ثم العلاقة بين البنك الذي فتح الاعتماد والمستفيد. قال الدكتور أمين محمد بدر: الاعتماد غير القطعي أو القابل للإلغاء: في هذه الصورة لا يوجد اعتماد بالمعنى الحقيقي إلا في أضيق الحدود، ذلك أن البنك الذي يفتح الاعتماد يحتفظ لنفسه في كل وقت بالحق في إلغائه دون حاجة إلى إخطار المستفيد بأنه فتح لمصلحته بناء على طلب معطي الأمر اعتمادا قابلا للإلغاء. وترتيبا على ذلك يستطيع البنك أن يرفض دفع ما يسحبه عليه المستفيد من كمبيالات تنفيذا للاعتماد ما لم يكن قد سبق لهذا البنك أن وقع على هذه الكمبيالات بالقبول، إذ يلتزم في هذه الحالة التزاما شخصيا مباشرا بدفع هذه الكمبيالات للحامل، وذلك تطبيقا لقواعد الأوراق التجارية، ومن ناحية أخرى يستطيع معطي الأمر إلغاء الاعتماد في كل وقت. ومتى أعطي البنك أمرا بالإلغاء تعين على البنك تنفيذه، إذ أنه وكيل عن معطي الأمر، ومن واجب الوكيل أن ينفذ تعليمات الموكل على أن البنك لا يسأل عن التنفيذ أو الإلغاء إلا اعتبارا من الوقت الذي يصل فيه إلى علمه تطبيقا للمادة (91) من القانون المدني، التي نصت على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك. وقد يحتاج البنك إلى الاتصال ببنك وسيط سبق له أن أنهى إليه فتح الاعتماد لمصلحة المستفيد حتى يكون هو الآخر على علم بواقعة الإلغاء، وفي هذه الحالة لا يحاسب البنك الذي فتح الاعتماد عن عدم تنفيذ أمر

الإلغاء إلا بعد مرور الوقت الكافي لإخطار البنك الجديد بالواقعة المذكورة، وإذا ألغى البنك الاعتماد بناء على طلب معطي الأمر فإنه لا يلزم البنك إخطار المستفيد، وأما إذا تم الإلغاء ابتداء من جانب البنك فقد ثار السؤال عن التزام البنك بإخطار المستفيد بإلغاء الاعتماد. ولكن الرأي الغالب استقر على عدم وجود مثل هذا الالتزام؛ لأن كون الاعتماد غير قطعي يفيد بذاته إمكان إلغائه من جانب البنك دون إخطار سابق، على أن الحاصل -عملا- هو أن البنوك تحرص على إخطار المستفيد بواقعة الإلغاء، وأنها لا تقدم على الإلغاء إلا إذا توافرت لديها أسباب جدية مستمدة من إعسار معطي الأمر، أو إفلاسه أو عدم أهليته الطارئ. وفضلا عن ذلك فقد استقر الرأي على أن البنك الذي يتلقى من معطي الأمر مقابل وفاء الكمبيالات التي يسحبها عليه المستفيد لا يجوز له أن يلغي الاعتماد غير القطعي وإلا كان متعسفا في استعمال حقه، ومسئولا عن تعويض الضرر الذي يصيب معطي الأمر أو المستفيد، نتيجة الإلغاء المذكور. والواقع أن هذا الغرض نادر، إذ تنعدم مصلحة البنك في الإلغاء في مثل هذه الصورة. وكما أن الاعتماد غير القطعي يمكن أن يلغى بناء على طلب معطي الأمر، فإنه يتأثر بكل ما يطرأ على هذا الشخص من أمور مؤثرة في حالته القانونية أو في مقدرته المالية، فينقضي بوفائه وبشهر إفلاسه وبما يطرأ عليه من عدم أهلية.

2 - الاعتماد القطعي أو غير القابل للإلغاء: ويأتي في العلاقات المتقدمة وهي: أ- العلاقة بين معطي الأمر والمستفيد: تخضع هذه العلاقة للشروط المتفق عليها بين الطرفين، فإذا أوجب العقد المذكور على المشتري مثلا فتح اعتماد قطعي لصالح البائع تعين على المشتري أن ينفذ هذا الالتزام وإلا كان مقصرا. ولا يشفع له في هذا التقصير أية صعوبة ترجع إلى الرقابة على التنفيذ التي قد تفرضها الدولة التي يتبعها، إذ كان يتعين عليه أن يقدر هذه الصعوبة مقدما، وأن يهيئ لها العلاج المناسب، أو أن يرفض ابتداء الالتزام قبل البائع بفتح الاعتماد المستندي قطعيا. ب- العلاقة بين معطي الأمر والبنك الذي يفتح الاعتماد: يلتزم معطي الأمر قبل البنك بأن يرد إليه المبالغ التي دفعها البنك؛ تنفيذا للاعتماد، وتتم تسوية هذا الالتزام عن طريق قيد المبالغ المذكورة في الجانب المدين من حساب معطي الأمر. وقد يحصل القيد المذكور على حسب الأحوال في الوقت الذي يتلقى فيه البنك الأمر بفتح الاعتماد القطعي، وقد يحصل في الوقت الذي يخطر فيه البنك المستفيد بوجود اعتماد قطعي لصالحه، وقد يحصل في الوقت الذي يقبل فيه البنك أن يدفع كمبيالة سحبها عليه المستفيد تنفيذا للاعتماد. فلا توجد قاعدة في هذا الخصوص، بل يتوقف الأمر على اتفاق الطرفين وعلى مدى الثقة التي يستشعرها البنك فيمن أعطاه الأمر بفتح الاعتماد.

ومن ناحية أخرى يلتزم البنك الذي فتح الاعتماد بأن ينفذ بدقة التعليمات الصادرة إليه من معطي الأمر، وأهم التزام يقع على البنك في هذا الخصوص هو أن يقوم بالتحقيق من مطابقة مستندات الشحن للتعليمات المذكورة، ويعنينا أن نوضح أن التزام البنك في هذه الناحية إنما يرد على التحقق من مطابقة أوصاف البضاعة المبينة في مستندات الشحن بتلك المحددة في التعليمات الصادرة من معطي الأمر، بمعنى: أن البنك لا يلتزم بفحص البضائع ذاتها فحصا ماديا؛ للتحقق من مطابقتها للتعليمات، وعلى ذلك فإذا تحقق البنك من مطابقة الوثائق للتعليمات- تعين عليه أن يدفع قيمة الكمبيالة للحامل، وإلا كان مقصرا في تنفيذ التزامه، ولا يشفع للبنك في هذا الخصوص أن يتحقق من أن البضاعة الموجودة على السفينة غير مطابقة لطلبات المشتري. والأصل أن البنك الذي فتح الاعتماد يجب أن يحتفظ بمستندات الشحن، ما دام لم يسترد من معطي الأمر ما دفعه نيابة عنه للمستفيد، ذلك أن البنك لا يستبقي حقه في رهن البضاعة رهنا حيازيا، إلا إذا ظل حائزا لمستندات الشحن التي تمثل البضاعة المذكورة، أو تمثل قيمتها في حالة الهلاك أو الضياع، على أن المشتري قد يكون في حاجة ملحة إلى إعادة بيع البضاعة وهي في طريقها إليه، حتى يستطيع من جانبه أن يوفي مطلوب البنك، وهو لا يستطيع إعادة بيع البضاعة على هذا الوجه، إلا إذا كانت مستندات شحنها بين يديه حتى يستطيع أن يتصرف فيها إلى المشتري الجديد. وقد سعت البنوك إلى تقدير هذا الوضع فابتدعت صكوكا تمكن

المشتري من التصرف في البضاعة المرهونة للبنك، وفي الوقت نفسه تستبقي فيها البنوك حقها في الرهن. وقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى ترك قانونية هذه الصكوك وأثرها في بقاء الرهن للبنوك أو في زواله، لتقدير المحاكم بحسب ظروف كل دعوى، على أن المسلم به في القانون الفرنسي، وكذلك الحال في القانون المصري هو أن تخلي البنك المرتهن عن مستندات الشحن -ولو تخليا مؤقتا- يستتبع زوال الرهن المقرر لصالحه، ذلك أن تنقل الحيازة من المدين الراهن إلى الدائن المرتهن، هو أمر يتصل بحماية الغير لحسن النية، ولا يتوقف على مجرد اتفاق الطرفين.....

وإذا استعان البنك الذي صدر إليه الأمر بفتح الاعتماد ببنك آخر في هذا الخصوص، وأخطأ البنك الوسيط في تنفيذ شروط الاعتماد فإن البنك الأصلي يبقى مسئولا عن هذا الخطأ قبل معطي الأمر ما لم يكن هذا الأخير قد رخص للبنك صراحة بالاستعانة بالبنك الوسيط، وهذا الحكم هو تطبيق للمادة (708) من القانون المدني في خصوص الوكالة، فقد نصت المادة المذكورة على أنه إذا أناب الوكيل عنه غيره في تنفيذ الوكالة دون أن يكون مرخصا له في ذلك كان مسئولا عن عمل النائب، كما لو كان هذا العمل قد صدر منه هو، ويكون الوكيل ونائبه في هذه الحالة متضامنين في المسئولية. أما إذا رخص للوكيل إقامة نائب عنه دون أن يعين شخص النائب، فإن الوكيل لا يكون مسئولا إلا عن خطئه في اختيار نائبه أو عن خطئه فيما أصدره له من تعليمات، ويجوز في الحالتين السابقتين للموكل ولنائب

الوكيل أن يرجع كل منهما مباشرة على الآخر. وعلى ذلك فإن من مصلحة البنك الذي يريد الاستعانة ببنك آخر في فتح الاعتماد أن يحصل من معطي الأمر على ترخيص له بإقامة غيره مقامه في فتح الاعتماد حتى لا يكون مسئولا عن أخطاء هذا الأخير. وأما إذا قنع بإنهاء واقعة الاستعانة ببنك آخر إلى معطي الأمر، فإن هذا العلم لا ينهض في نظر القضاء بديلا عن الإذن الصريح، ومن ثم لا يجدي البنك في التحلل من المسئولية عن أخطاء البنك الذي استعان به. (ج) العلاقة بين البنك الذي فتح الاعتماد وبين المستفيد: يرتب الاعتماد القطعي في ذمة البنك التزاما مباشرا لمصلحة المستفيد، بحيث يتعين على البنك أن يقبل أو أن يدفع ما يسحبه عليه المستفيد من كمبيالات، مادامت المستندات الموافقة لهذه الكمبيالات مطابقة لشروط فتح الاعتماد، وبعبارة أخرى: يرتب الاعتماد القطعي علاقة قانونية مباشرة بين البنك والمستفيد، بحيث يمتنع على البنك أن ينهي هذه العلاقة دون رضاء المستفيد، أيا كانت المبررات المستمدة من ظروف معاملاته مع معطي الأمر. وعلى ذلك لا يستطيع البنك أن يلغي الاعتماد المذكور، لا من تلقاء نفسه، ولا بناء على تعليمات معطي الأمر، ذلك أن علاقة البنك بالمستفيد هي في الأصل علاقة مستقلة عن العلاقات التي تربط بين البنك ومعطي الأمر. وثمة نتيجة أخرى تلزم عن قيام العلاقة المباشرة بين البنك والمستفيد وهي أنه يمتنع على البنك أن يحتج على المستفيد بالدفوع المستمدة من

العقد الأصلي الذي يربط بين معطي الأمر والمستفيد، وهو في الغالب عقد بيع كما بينا، إذ أن التمسك بهذه الدفوع يخص معطي الأمر وحده، ولكن لا شأن له بالتزام المباشر الذي ترتب للمستفيد في ذمة البنك الذي فتح الاعتماد. وهذا الاستقلال بين العملية المصرفية والعملية التجارية من الناحية القانونية هو أمر مسلم؛ إذ بدونه تنهار قيمة الاعتماد المستندي القطعي. وقد قدرت الغرفة التجارية الدولية أهمية هذه الحقيقة، فحرصت على تقريرها في المادة الأولى من مجموعة القواعد والعادات الموحدة في الاعتمادات المستندية، وتابعتها في هذا المسلك لجنة تعديل قانون التجارة الفرنسي في المشروع الذي أقرته في سنة 1951. . . . وقد لخص الأستاذ مصطفى الزرقاء الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، ثم ذكر بعده موقف الفقه الإسلامي من العملية، فقال: الوصف القانوني للعملية هو اعتماد (مالي) يفتحه المصرف بناء على طلب شخص يسمى الآمر، لمصلحة عميل لهذا الآمر، ومضمون بحيازة مستندات ممثلة لبضاعة مستحقة للآمر لدى عميله المذكور، ويستوي أن يكون طريق التنفيذ بالوفاء أو - بقبول يفتحه. يتضح من هذا التعريف أن فتح الاعتماد هو: عبارة عن عهدة مالية يلتزم

بها المصرف عن شخص لمصلحة آخر في صفقة تجارية، ولنضرب له مثالا يوضحه: تاجر في إنجلترا باع بضاعة لتاجر مصري، وقد لا تكون بينهما ثقة متبادلة أو تكون، ولكنهما يؤثران الحيطة، لا سيما والمستقبل غيب، وقد يحدث ما ليس في الحسبان، فيطلب البائع من المشتري توسيط مصرف يثق به، فيتعهد المصرف بتأدية الثمن المحدد للبضاعة إلى البائع تعهدا معلقا على تقديم البائع إلى المصرف الوثائق المستندية التالية: 1 - مستندات شحن البضاعة في الميعاد المتفق عليه. 2 - وثيقة تأمين تغطي جميع الأخطار المنصوص عليها في الاعتماد. 3 - القائمة والفاتورة، ولا بد أن يتطابق الوارد في الاعتماد مطابقة تامة دون اختصار أو اكتفاء بتعميم أو تخصيص. فهذا التعهد من المصرف يسمى فتح اعتماد، ويختبر به البائع لكي يشحن البضاعة اعتمادا عليه. والغالب أن يكلف المشتري بفتح الاعتماد مصرفيا في بلده (مصري في مثالنا) وهذا يرسل خطاب الاعتماد إلى مصرف في بلد البائع (إنجليزي في مثالنا) ليبلغ البائع باستعداده للتنفيذ نيابة عن المصرف المصري. وقد يكون هذا المصرف الإنجليزي مكلفا بتأييد الاعتماد -وفقا لرغبة أخرى للبائع- بحيث يصبح المصرف الثاني مدينا أصليا للبائع بمجرد تبليغه فتح الاعتماد لديه، لا مجرد وكيل بالقبض عرضة للعزل في أي وقت، ويسمى الاعتماد حينئذ: اعتمادا مؤيدا، ولا يكون الاعتماد المؤيد إلا من قبيل الاعتمادات النهائية، أي: التي بمجرد تبليغها إلى المستفيد تصير غير قابلة للرجوع، ولو أفلس الآمر أو أمر بإلغاء الاعتماد أو ثبت بطلان البيع

ما لم تحكم محكمة بصحة الرجوع في هذا الاعتماد بسبب ما رغم أن الأصل عدم جواز الرجوع فيه. أما الاعتمادات القابلة للإلغاء بحسب رغبة المصرف أو الآمر فهي -وإن كانت أقل تكاليف- قلما يعول عليها اليوم؛ لأنها لا تعطي البائع التأمين الكافي الذي يريده ولا تقبل التأييد. وإذا قدم البائع المستندات المطلوبة ودفع له المصرف الثاني الثمن، ضم المصرف المذكور هذه المستندات إلى الورقة التجارية المثبتة دفعة الثمن للبائع (الإيصال) ، وأرسل الوثائق كلها إلى المصرف الأول (المصري) ، ليقوم بتأدية مبلغها مع المصاريف (ومنها العمولة) إلى المصرف الثاني في بلد البائع. وللمصرف الأول (المصري) أيضا عمولته المتفق عليها، يستوفيها وسائر التوابع مع مبلغ الاعتماد من المشتري. فإن أبى المشتري الدفع كان للمصرف المصري حق بيع البضاعة؛ لأنها مرهونة بحقه، وقلما تكفي، وليس له حق الرجوع جبرا على البائع بحال، مهما تكن الأسباب؛ لأن العملية بطبيعتها تتضمن نزول المصرف فاتح الاعتماد عن حقوقه المصرفية تجاه البائع؛ ليطمئن هذا البائع إلى نهاية الوفاء، فإذا أخطأ المصرف فدفع المبلغ وكانت المستندات غير مطابقة فلا رجوع له على الآمر (المشتري) ، كما لا رجوع له على المستفيد (البائع) ؛ لأنه هو المقصر، وقد كانت لديه المهلة الكافية للتأكد من سلامة هذه الوثائق ومطابقتها، إلا إذا كان المصرف قد شرط الرجوع على المستفيد عند رفض الآمر المستندات

مثلا (¬1) ¬

_ (¬1) [الموسوعة الفقهية] نموذج (3) (الحوالة) ص (243، 244) ، ومحاضرة أمين بدر (16- 24) .

موقف الفقه الإسلامي من هذه العملية

ثانيا: أما موقف الفقه الإسلامي من هذه العملية: فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: هذه المعاملة صحيحة إجمالا فيما يبدو من وجهة نظر الفقه الإسلامي، على أحد الأسس الآتية: الأساس الأول: توكيل ورهن، فيمكن تخريج هذه المعاملة على أنها تتضمن عقد وكالة بعوض في أداء دين (هو حق المستفيد على الآمر) وفي تسلم مستندات البضاعة قبل الأداء، فالتوكيل بالأداء مقيد بكونه بعد تسلم المستندات الصحيحة، والوكالة المقيدة يلتزم فيها قيدها، وهذا التوكيل يتضمن رهنا ضمنيا للبضاعة لدى الوكيل إلى أن يستوفي الثمن الذي وكل بأدائه من ماله، وهو رهن ضمني مستنده العرف وتثبته نصوص القوانين، وهذا التخريج الفقهي يفسر لنا أمورا مهمة في هذه المعاملة، وهي: 1 - نهائية الالتزام وعدم قبوله الرجعة من جانب الوكيل (وهو هنا المصرف الوسيط فاتح الاعتماد) ؛ لأن الوكيل بأجر يجب عليه القيام بما وكل فيه ويجبر على ذلك، لا سيما أنه تعلق بالوكالة هنا حق الغير وهو البائع، كما أن عقد القرض -بمجرد انعقاده- لازم عند المالكية من جانب المقرض ليس له الرجوع فيه حتى ينتفع به المقترض على العادة في مثله. والمقرر عرفا وقانونا في هذا الشأن أنه إذا أصر الموكل (في مسألة فتح الاعتماد) على الامتناع من الدفع بغير حق وتعذر الاستيفاء منه، كان للمصرف حق التصرف في البضاعة، ليستوفي حقه بأن يبيع منها بقدر

الحاجة، وهذا سائغ عند فقهاء الشريعة دون رجوع إلى القاضي إذا كان عن شرط، بل له ذلك عند الشافعية من غير تعذر الاستيفاء، ما دام الخصم ممتنعا من دفع الحق الثابت عليه. 2 - عدم مسألة المصرف بعد قيامه بالدفع وفق شروط الاعتماد مهما تكن حال البيع نفسه، إذ لا شأن للمصرف بذلك، فإن الوكيل بالإقباض ليس وكيلا في عقد مالي، فلا عهدة عليه كالرسول. 3 - نهائية الالتزام من جانب الآمر (هو المشتري طالب فتح الاعتماد) فيكون الاعتماد من هذه الناحية غير قابل للإلغاء على أساس أنه توكيل تعلق به حق الغير فيمتنع على الآمر الموكل الرجوع عنه. ملاحظة: قد يرد على هذا الحل: أنه قاصر لا يفسر لنا كون المصرف يصبح مدينا أصليا للمستفيد حل محل الآمر، فبرئت بذلك ذمة الآمر تجاه المستفيد، كما هو الحكم المقرر قانونا. وحينئذ يمكن إحلال الحوالة محل الوكالة في هذا التخريج، فتعتبر معاملة الاعتماد المستندي حوالة على المصرف فاتح الاعتماد بأمر الآمر، فيكون له عليه حق الرجوع بعد الأداء، ويكون المستفيد البائع محالا قد قبل الحوالة بقبوله فتح الاعتماد لمصلحته، ويبرأ تجاهه الآمر، وهو هنا المشتري طالب فتح الاعتماد كما نوضحه في الأساس الثاني. الأساس الثاني: وقد يسعنا أن نقول استنادا إلى وجهة نظر أخرى: أول حين ينص على نهائية الالتزام من طرفيه -أو يكون ذلك كالمنصوص- يكون الآمر إذا محيلا بدين المستفيد على المصرف الوسيط فاتح الاعتماد

ورضا الأطراف الثلاثة قائم، وليست هذه حوالة معلقة على شرط (تسليم المستندات) ، بل حوالة مطلقة منجزة بدين مؤجل، يحل عند تقديم هذه المستندات، وقد قبلها المحال عليه (المصرف الوسيط) بأمر المحيل، فيحق له الرجوع عليه، وقد يدفع الآمر جانبا من مبلغ الاعتماد مقدما إلى المصرف، ففي هذه الحال يكون طلب فتح الاعتماد توكيلا بالأداء إلى الدائن فيما قدمه الآمر، وحوالة في الباقي. ولا بأس فيها بالعمولة المصرفية؛ لأنها منفصلة عن الحوالة فليست حوالة بأجر حتى يقال: إن ذلك يتنافى مع طبيعتها من كونها عقد إيفاء واستيفاء لا غير أو عقد إرفاق، إنما هي أجرة مستحقة لأجير (هو المصرف) على الأعمال الكثيرة التي يقوم بها، كما حررناه في بحث التحويل المصرفي (ر: ف \ 362) وقد يعترض على هذا الحل بأنه لا يطابق ما هو مقرر في التقنيات الحديثة من أنه لا علاقة للمصرف الذي أصدر الاعتماد بصحة البيع أو بطلانه؛ ذلك لأن الحوالة -من الوجهة الشرعية الإسلامية- تبطل إذا تبين بطلان البيع الذي بنيت عليه. وإذا كان المحال عليه قد دفع إلى المحال فإنه يتخير بين الرجوع على القابض، لفساد قبضه، والرجوع على المحيل، كما في الحوالة الصحيحة (ر: ف \ 257) . وللرد على هذا الاعتراض يلزم توضيح الفارق بين نظرة الفقه الإسلامي إلى الحوالة وبين موقف التقنينات الحديثة في الاعتماد المستندي. فالفقه الإسلامي يجعل بين الحوالة والبيع الذي أحيل فيه بالثمن أو عليه علاقة وثيقة، فإذا تبين بطلان البيع كان طبيعيا أن تبطل الحوالة المرتبطة به.

أما الاعتماد المستندي فينظر إليه القانونيون نظرة مستقلة تماما عن البيع الذي فتح الاعتماد تنفيذا له، لاختلاف أطرافه وأساسه القانوني، ولذلك كان طبيعيا عندهم ألا يتأثر الاعتماد ببطلان البيع. على أن هذا الفارق نظري؛ إذ النتائج من الناحية العملية واحدة، ففي الاعتماد المستندي يرجع المصرف على الآمر فاتح الاعتماد بالقيمة طالما أنه نفذ التزامه بتسليمه المستندات المطابقة لشروط فتح الاعتماد، بصرف النظر عما إذا كان عقد البيع صحيحا أو باطلا. وفي الفقه الإسلامي يرجع المحال عليه (المصرف هنا) بعد أداء القيمة إلى البائع (المحال) على الآمر فاتح الاعتماد (المعتبر محيلا) في كل الأحوال، أي: سواء أكان البيع صحيحا أم باطلا، كما أن للمصرف - بمقتضى مذهب الحنفية - الخيار في حالة تبين بطلان البيع بين الرجوع على المحيل وبين الرجوع على المحال القابض (البائع في مثالنا) ، فالنظر القانوني إنما قطع فقط طريق الرجوع على القابض، وبذا يتبين أن النتائج العملية واحدة وإن اختلف الأساس النظري. الأساس الثالث: إن البحث في الاعتبارين السابق شرحهما لتخريج الاعتماد المستندي على أساس من العقود التقليدية في كتب الفقه لا يعدو أن يكون محاولة لتصنيفه على أساس هذه العقود على أنه قد سبق أن بينا أن الأصل في المعاملات جواز استحداث ما يتلاءم مع الحاجات المتجددة المتنوعة طالما لم يصادم العقد المستحدث أصلا شرعيا. وهذه التخريجات الثلاثة نقدمها على أساس تجريد الاعتماد المستندي مما ليس لازما قانونا له مما قد يكون فيه شبهة أو خلاف في وجهة النظر

الشرعية بين فقهاء العصر: كالتأمين على البضاعة، إذ يجوز أن يفتح الاعتماد دون اشتراط وثيقة التأمين ضمن المستندات التي يلتزم المصرف بتسليمها، فيمكن اعتباره بعد ذلك عقدا جديدا تدعو إليه مصلحة التجارة المشروعة (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) [الموسوعة الفقهية] نموذج (3) (الحوالة) ص (244 - 246) .

الخلاصة

الخلاصة: يندرج تحت عمليات الائتمان أنواع كثيرة من المعاملات المصرفية منها: الاعتمادات المصرفية. والاعتمادات المصرفية: هي ما يقدمه البنك للعميل أو لشخص يعينه العميل من أدوات الوفاء إما نقدا أو تعهدا بالوفاء، على أن يأخذ البنك على ذلك فائدة أو عمولة يتفق عليها الطرفان وعلى ردها مع ما أخذه. ويشمل الاعتماد المصرفي: الإقراض، وفتح الاعتماد البسيط، والضمان، والاعتماد المستندي والخصم. . وفيما يأتي الكلام على ما ينبني عليه الحكم من واقع كل منها، ثم تكييفه في الفقه الإسلامي وبيان حكمه: أولا: الإقراض أو القرض: هو عقد اختياري تجاري يسلم البنك بمقتضاه للعميل أو من يعينه العميل نقودا مباشرة أو يضعها تحت تصرفه، ويتضمن تحديد سعر الفائدة وأجل الوفاء وبيان ما قد يشترط من ضمان. تكييفه في الفقه الإسلامي: مما تقدم يتبين أن عقد القرض يشتمل على معاوضة نقدية بين طرفين

لأجل مع زيادة في الوفاء، ومع ذلك اتفق علماء القانون والاقتصاد على تسميته إقراضا، ولا مشاحة في الاصطلاح ما دامت العبرة في تطبيق الأحكام بالحقائق. أما في نظر فقهاء الشريعة الإسلامية: فقد يقال: إنه يسمى قرضا أيضا، لكن يناقش بأن القرض عندهم أن يدفع شخص مبلغا لآخر على وجه الإرفاق المحض على أن يرد مثله إليه دون شرط زيادة أو جريان عرف بها؛ ولهذا استثني من تحريم المعاوضة بين الربويين مع التأخير لأحدهما، وما يدفعه البنك يقصد به استثمار ماله وتنميته أولا، بدليل اشتراط الزيادة في الوفاء، وأنه عقد تجاري يترتب عليه ما يترتب على عقود التجارة من الآثار، فإن ترتب عليه إرفاق بالمقترض فبالمتبع. وقد يقال: إنه عقد بيع؛ لأنه يتضمن معاوضة مالية بين نقدين، أحدهما عاجل، والآخر آجل على وجه المغالبة والتنمية والاستثمار بدليل ما تقدم من أنه تجاري وأن الزيادة في الوفاء مشترطة فيه. وقد سمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المبادلة بين النقدين بيعا، كان ذلك ناجزا أو لأجل، اتفق نوع العوضين أو اختلف، متساويا أو زاد أحدهما على الآخر، غير أنه نهى عن النساء أو الزيادة في المعاوضة بينهما، كما سيجيء ذلك في بيان الحكم. حكمه في الفقه الإسلامي إذا ثبت ما تقدم فهو بيع محرم؛ لما فيه من ربا الفضل وربا النسيئة، أما الأول فللزيادة التي يدفعها المقترض بناء على الشرط المتفق عليه مع المصرف، وأما النساء فلتأجيل الوفاء بدين القرض.

وقد دل على تحريم ذلك القرآن، وبينته السنة الصحيحة وأكدته. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬1) الآيات، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (¬2) » إلى غير ذلك من الأحاديث الثابتة. وقد أجمعت الأمة على تحريم مثل ذلك الربا بنوعيه، وما نقل عن ابن عباس من إباحة ربا الفضل فقد كان قبل أن يبلغه النص في تحريمه، فلما بلغه الصحابة النص رجع في التحريم، وثبت ذلك عنه بالنقل الصحيح. وعلى تقدير أن هذا العقد يسمى قرضا فهو محرم أيضا؛ لأنه جر نفعا مشروطا، قد أجمع فقهاء الإسلام على أن كل قرض جر نفعا مشروطا فهو ربا. ثانيا فتح الاعتماد البسيط: أ - تعريفه: هو عقد يلتزم المصرف بمقتضاه أن يضع تحت تصرف العميل أداة من أدوات الائتمان في حدود مبلغ معين لمدة يحق للعميل خلالها استخدامها، ويبين فيه طرق استخدامه، ويحدد فيه معدل الفائدة وقيمة العمولة التي يستحقها المصرف على ذلك. ب - شروطه: يشترط لصحته رضا الطرفين وأهليتهما للتصرف، وأن يكون ما فتح الاعتماد من أجله مشروعا، فلا يصح لتأسيس محل خمر وإدارته مثلا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275 (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) .

ج - خواصه: ومن خواصه: أنه عقد تجاري بالنسبة للبنك، فيثبت بجميع طرق الإثبات التي تثبت بها عقود التجارة أيا كانت قيمته، ولا يكون تجاريا بالنسبة للعميل إلا إذا كان تاجرا وفتح الاعتماد لحاجات التجارة وإلا كان مدنيا فسرى عليه أحكام العقود المدنية، ويعد عقد فتح الاعتماد من عقود الاعتبار الشخصي، فلا يجوز لكل من طرفيه نقل التزاماته إلى غيره أثناء مدة تنفيذ العقد إلا برضا الطرفين أو باتفاق سابق صريح أو مفهوم ضمنا بينهما، ويمكن أن يوكل كل منهما من يقوم بأداء التزاماته، ولا يعتبر ذلك نقلا لها، والغالب أن يكون فيه من الضمان ما يغطي المبلغ، وللمصرف أن يطلب حقه في الضمان كلما زاد مبلغ الاعتماد أو نقص الغطاء. د - طبيعته: قيل: إنه عقد قرض بات، وقيل: عقد قرض معلق على استفادة العميل من الاعتماد المفتوح، وقيل: عقد غير مسمى، وقيل: وعد بالقرض، ثم يصير قرضا باتا عند تسلم العميل المال تنفيذا للوعد المصرفي، وقيل: إنه مركب من عقدين، عقد قرض استحق به العميل التصرف في المبلغ، وعقد إيداع من العميل لهذا المبلغ في نفس المصرف، حيث لم يتسلمه العميل بالفعل، بل قيد لحسابه فقط، وهذا مبني على ما قصده العميل من فتح الاعتماد، وهو الحصول على مبلغ تحت تصرفه، وحفظه في مكان أمين لحين حاجته إليه، ولم تسلم هذه الآراء من مناقشة علماء الاقتصاد، ومهما يكن من اختلافهم في طبيعته فالعبرة بحقيقته في الفقه الإسلامي، فإنها هي التي يترتب عليها حكمه في الإسلام.

هـ - كيفيته في الفقه الإسلامي: قد يقول بعض فقهاء الإسلام: إنه قرض فقط أو وعد بقرض تبعه إيداع، كما تقدم في بيان طبيعته عند علماء الاقتصاد، لكن ما سبق في تعريفه يتنافى مع حقيقته في الفقه الإسلامي حيثما اشترط في العقد زيادة فائدة أو عمولة في الوفاء وقصد به المصرف تنمية رأس ماله واستثماره، والقرض في عرف فقهاء الإسلام يقصد به الإرفاق والثواب من الله، ويعطله اشتراط الزيادة في الوفاء، إلى آخر ما تقدم في بيان حقيقة الإقراض عند فقهاء الإسلام. وقد يرى بعضهم أنه عقد بيع؛ لتضمنه معنى المعاوضة بين نقدين على وجه المغالبة وقصد التنمية والاستثمار بدليل اشتراط الزيادة أو العمولة في الوفاء، ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سماه بيعا، كما في الأحاديث المتقدمة في تكييف الإقراض وبيان حكمه. حكمه في الفقه الإسلامي: إذا ثبت ذلك فهو من البيوع المحرمة ما دام في معاوضات ربوية؛ لتحقق ربا الفضل والنسيئة فيه، حيث كان الوفاء بالعرض مؤجلا مع اشتماله على زيادة الفائدة، وعلى تقدير أن المقترض لم يدفع فائدة لعدم تسلمه شيئا من مبلغ الاعتماد فهي مدخول عليها بالاشتراط، وهذا كاف في الحكم بتحريم العقد، وقد سبقت أدلة التحريم في مبحث الاقتراض وخلاصته، أما العمولة فإن اتخذت حيلة وستارا لأخذ الربا باسمها في الحالة التي لم يتسلم فيها العميل شيئا من مبلغ الاعتماد، أو لزيادة الفائدة تحت ستارها

في حالة الاستسلام فهي محرمة؛ لأن العبرة بحقائق الأشياء لا بأسمائها، وإن كانت أجرة محضة لإجراءات وخدمات فقد يقال: إنها جائزة إلا إن روعي بناؤها على عقد فاسد من أجل اشتراط الفائدة فيه، فربما قيل بسريان الفساد إليها، وعلى تقدير أن عقد فتح الاعتماد يعتبر قرضا فهو محرم أيضا؛ لكونه جر نفعا على فاتح الاعتماد، وهو الفائدة أو العمولة. ثالثا: الاعتماد بالضمان أو الائتمان الناشئ عن مجرد التوقيع أو إقراض المصرف توقيعه للعميل. هذه العناوين وإن اختلفت فالمقصود منها واحد، وهو ما يلتزم به البنك مثلا لمستفيد مما يبعث الثقة في نفسه بمن يريد أن يتعامل معه من كفالة أو خطاب ضمان أو اعتماد بالقبول للكمبيالة ليسهل خصمها والحصول على ما فيها من البنك بعد الخصم، فالصور ثلاث: الكفالة، وخطاب الضمان، والاعتماد بالقبول. وفيما يلي الكلام على واقع كل منها، ثم بيان الحكم: أ - الكفالة: وهي عقد يتعهد فيه شخص لآخر أن يفي له بما التزم به أمام ثالث إذا تخلف المكفول عن الوفاء على أن يقدم المكفول ضمانا نقديا أو رهنا للكفيل، ويلتزم له أيضا بعمالة على الكفالة وفائدة بنسبة مئوية من المبلغ إن دفعه عنه المستفيد. ب - الضمان البنكي أو خطاب الضمان: هو عقد يتعهد فيه مصرف لشخص أو جماعة بدفع مبلغ معين أو قابل للتعيين عن مقاول مثلا بمجرد طلب المستفيد من المصرف خلال مدة محددة، وذلك من أجل قيام العميل بعمل أو التزامه بأمر لذلك الشخص أو الجماعة،

على أن يدفع عمالة للمتعهد بالمبلغ ويضع تحت يده في الغالب ضمانا نقديا أو رهنا ليكون ذلك غطاء للمبلغ المتعهد بدفعه. هذا، ولا يضمن المصرف بهذا التعهد حسن تنفيذ العميل لالتزامه ولا مراقبة التنفيذ، ولا يلزمه القيام بدلا من العميل بتنفيذ الالتزام، ولا بسداد ما عليه من دين بخلاف الكفالة. ج - الاعتماد بالقبول: هو أن يتعهد مصرف دفع مبلغ عن طريق توقيع بالقبول على كمبيالة مسحوبة عليه مقابل عمالة على التوقيع يدفعها العميل، وبذلك تكسب الكمبيالة الثقة بها ويسهل تداولها وحصول العميل أو غيره على ما فيها بعد الخصم من المصرف الذي وقع عليها أو من غيره. وإذا تأخر العميل عن الدفع للمستفيد واضطر المصرف للوفاء كان له حق الرجوع على العميل بما دفعه عنه، وبتعويض عن تعطيل المبلغ المدفوع. الغرض من الاعتماد بالضمان بجميع صوره انتفاع المصرف أولا، وإعانة العميل وطمأنينة المستفيد وتنشيط حركة العمل وتيسير وسائلها. تكييفه في الفقه الإسلامي وحكمه مما تقدم نرى: أولا: أن هذه العملية اشتملت على ثلاثة أطراف، المصرف، وعميله، والمستفيد، وعلى عوضين: هما العمل، والمبلغ، وعلى غطاء في الغالب كاملا أو نسبة مئوية منه، وعلى عمالة مقابل الالتزام بالدفع يدفعها العميل للمصرف وعلى فائدة أو تعويض عن تعطيل المبلغ الذي يدفعه

المصرف عند تخلف العميل.

ثانيا: أن المصرف ضامن لعميله لدى المستفيد بعمالة، وقد يقال: إن ذلك محرم؛ لأن الضمان غير متقوم فلا يقابل بمال، بل يبذل على وجه المعروف والإرفاق، ابتغاء مرضاة الله. ثالثا: أن المصرف يأخذ فائدة من عميله إذا دفع المبلغ للمستفيد عند تخلف العميل عن الوفاء في الميعاد، وقد تسمى هذه الفائدة تعويضا عن تعطيل المبلغ المدفوع. وهذا محرم. رابعا: أن المصرف يستغل ما تحت يده في غطاء نقدي أو رهن عيني، وقد يقال: إنه محرم، لأنه إما أن يعتبر تتميما للعمالة على الضمان، وإما أن يعتبر فائدة لما قد يدفعه المصرف أو لما يدفعه بالفعل عن العميل، وذلك ما لم يكن ظهرا يركب بنفقته أو ذا در يحلب بنفقته. رابعا: الاعتمادات المستندية: 1 - هي عقد مالي يلتزم بمقتضاه مصرف بدفع مبلغ معين لمستورد - يسمى: الآمر - بناء على طلبه لمصدر - هو صاحب البضاعة - عند وصول الوثائق المتعلقة بالبضاعة، أو يلتزم بقبول أو بخصم الكمبيالة التي يسحبها البائع على المشتري، في نظير أن يدفع المستورد للمصرف نسبة مئوية من مبلغ الاعتماد مقدما، ويدفع له مؤخرا مع باقي الثمن مبلغا يكون عمالة مقابل خدمته وضمانه وفائدة لما دفعه المصرف عنه من الثمن، وقد لا يدفع المستورد شيئا من الثمن مقدما، فيكون الاعتماد مكشوفا. 2 - الغرض منه: سهولة حصول المصدر على ثمن بضاعته عند تسليمه

المستندات الخاصة بها إلى المصرف، وتفاديه خطر تنازل المشتري عن ملكيتها، واستفتاؤه عن الاستقصاء في الحصول على معلومات عن المشترى منه، وثقة المشتري بالحصول على البضاعة التي اشتراها بسهولة، واطمئنانه إلى صحة مستندات الشحن وغيرها أو استدراك ما قد يكون فيها من نقص أو خطأ بأسرع ما يمكن لقيام المصرف عنه بفحصها، وتيسير تبادل المنافع، وسرعة تداول رءوس الأموال المستثمرة في التجارة، وتنشيط الحركة التجارية، وتوفير السلع في الأسواق للمستهلكين، وغير ذلك من المصالح. 3 - قد يكون الاعتماد المستندي قابلا للإلغاء بمعنى: أنه يجوز لكل من المصرف والآمر الرجوع فيه فليس عقدا نهائيا ولا قابلا لتأييده من بنك آخر، وإنما هو عقد وكالة، وقد يكون قطعيا نهائيا فلا يجوز لأحد من أطرافه الرجوع فيه، وهذا قد يؤيد من بنك آخر، فيكسب زيادة ثقة وقوة ائتمانية، وتزيد أطرافه تبعا لعدد مرات التأييد، وقد يكون غير مؤيد من بنك آخر اكتفاء بالثقة بالمصرف الذي فتح الاعتماد، فتبقى أطرافه ثلاثة. 4 - يجب على المصرف دفع الثمن مع توابعه كاملا للمصدر عند وصول الفاتورة ووثائق الشحن والتأمين من المخاطر، أما المشتري فإن دفع الثمن وما يتبعه من عمالة وفائدة للمصرف فيها، وإن أبى تصرف المصرف في البضاعة؛ لأنها رهن في حقه يستوفى منه، فإن نقص عن حقه فليس له الرجوع على البائع - المستفيد - لتنازله عن حقوقه لدول حتى يطمئن على تمام الصفقة والوفاء إلا إذا كان قد شرط عليه ابتداء الرجوع عند رفض

المشتري تسليم البضاعة. 5 - ومن هذا يتبين أن فتح الاعتماد المستندي يشتمل على ما يلي: أ - طالب فتح الاعتماد وهو المستورد ويسمى: الآمر. ب - المصدر وهو البائع - المستفيد. ج - وسيط بينهما وهو المصرف. د - العوضين - الثمن والبضاعة. هـ - مبلغ يدفعه المستورد زيادة على الثمن يعتبر أجرة للمصرف على خدماته وضمانه وفائدة لما دفعه عنه. وما قد يدفعه المستورد من الثمن للمصرف مقدما. 6 - طبيعتها القانونية: اختلف علماء القانون والاقتصاد في تحديد طبيعتها: فقيل: إن علاقة البنك بالمشتري تعتبر عقدا بعيدا عن العقود المدنية؛ لما له من أحكام خاصة، منها: أنه ينشئ التزاما لصالح البائع مستقلا عن مصدره، فكان عقدا غير مسمى. وقيل: إنه عقد كفالة من المصرف للمشتري، لالتزامه بما عليه أمام البائع. وقيل: إنه عقد بين البنك والمشتري اشترط فيه المشتري أن يكون الاعتماد لصالح البائع فلا يجوز للمصرف ولا للمشتري الرجوع فيه؛ لأن الحق فيه صار للبائع. وقيل: إنه عقد إنابة؛ لأن المشتري أناب المدين له بمقتضى الاعتماد، ليقوم بسداد ما عليه للبائع من ثمن البضاعة.

وقيل: إنه تقابل إرادتين عن طريق وسيط فالبنك والبائع يتعاقدان هنا عن طريق المشتري، ويتم التعاقد عندما يفتح الاعتماد. وقيل: إنه وعد من البنك بأداء مبلغ معين للبائع إذا قدم المستندات اللازمة كالوعد بجائزة على عمل معين، فهو من باب الإرادة المنفردة. وقيل: إنه عقد وكالة من المستورد للمصرف، وقيل: عقد حوالة من المستورد للبائع على المصرف بثمن البضاعة وتوابعه. واختار الدكتور محمد جمال الدين عوض والدكتور علي البارودي القول: بأن التزام البنك يصدر عن إرادة منفردة. وهذه الآراء لم يسلم أي واحد منها من مناقشة علماء القانون والاقتصاد، ومهما يكن من اختلاف رأيهم في طبيعتها ومناقشة الأقوال في ذلك فالعبرة ببيان حقيقتها في الفقه الإسلامي، فإن ذلك هو الأصل الذي يبنى عليه حكم علماء الإسلام فيها. 7 - حقيقتها في الفقه الإسلامي وحكمها: خرجها بعض المعاصرين من علماء الفقه الإسلامي على أحد أسس ثلاثة: الأول: أنها عقد وكالة يتضمن رهنا ضمنيا لبضاعة المشتري لدى الوكيل، ليستوفي حقه منها إذا لم يسلمه الموكل. ثم نقده بأنه يتنافى مع كون المصرف بهذا العقد مدينا أصليا للمستفيد حل محل الآمر، فبرئت بذلك ذمة الآمر تجاه المستفيد، كما هو الحكم المقرر قانونا، وإذن فلا يصح أن يعتبر وكيلا (¬1) ويمكن أن يضاف إلى ذلك أن هذا يتنافى مع كون ¬

_ (¬1) ص (91، 92) من [الإعداد] .

العلاقة بين المصرف والمستفيد مستقلة عن العلاقة بين الآمر والمستفيد، حيث إن عقد الوكالة يقضي بالارتباط بين العلاقتين. الثاني: أنها عقد حوالة، فالآمر وهو المشتري - محيل - والمستفيد وهو البائع - محال - والمصرف محال عليه، ثم نفذ ذلك بأن ما تقرر في التقنيات الحديثة من أنه لا علاقة للمصرف الذي أصدر الاعتماد بصحة البيع أو بطلانه يتنافى مع الوجهة الإسلامية في الحكم ببطلان الحوالة ببطلان البيع الذي بنيت عليه. ثم أجاب: بأن هذا الفرق بين الوجهتين نظري، وأن النتيجة واحدة، حيث إن المصرف إذا نفذ التزامه رجع على الآمر بالقيمة قانونا صح البيع أو بطل، كما أن المحال عليه وهو المصرف يرجع بما دفعه للمحال وهو البائع على المحيل وهو المشتري في الفقه الإسلامي صح البيع أو بطل. لكن قد يقال: إن الحوالة: نقل دين من ذمة إلى أخرى، وليس هذا متحققا في مسألتنا، وإنما فيها إنشاء دين في ذمة المصرف يلتزم به لشخص من أجل دين سينشأ له في ذمة من هو بصدد الشراء منه؛ ولذا سمى بعض العلماء هذا وكالة على الاستيفاء لما سيجد من الدين، وقد رد صاحب هذا التخريج جعل الاعتماد المستندي حوالة. الثالث: أنها تعتبر عقدا مستحدثا في المعاملات دعت إليه الحاجة، وهو جائز ما لم يصادم أصلا شرعيا. اهـ بتصرف. وقد يقال: هذا تخريج سليم إذا لم يمكن تخريجها على عقد فقهي أو عقود فقهية باعتبارات مختلفة، وما لم تثبت مصادمته لأدلة الشريعة.

وفيما يلي محاولات لتخريجه على عقود الفقه الإسلامي المعروفة، ثم بيان حكمه: في الاعتمادات المستندية ثلاث علاقات: علاقة بين المصرف والآمر وهو طالب فتح الاعتماد، وعلاقة بين المصرف وبين المستفيد من فتح الاعتماد وهو البائع من أجل التزامه بدفع المبلغ له، وعلاقة بين المستفيد والآمر من أجل صفقة البيع، وبين هذه العلاقات في الحقيقة ارتباط وثيق من حيث منشؤها والداعي إلى وجودها، فإن التزام البنك بالدفع للبائع المستفيد إنما كان بناء على طلب المشتري من البنك فتح الاعتماد، وطلبه إنما كان لتحقيق رغبة البائع وإثبات جدية الصفقة واطمئنانه إلى وصول الثمن إليه بسهولة وسرعة، وهذا الارتباط لا يزال قائما حتى النهاية، بدليل أن الصفقة إذا تمت مستوفية للشروط ودفع المشتري الثمن وما يتبعه عند تسلم الوثائق للبائع عن طريق البنك أو بوجه آخر برئت ذمته وذمة البنك، وإن أبى مع استيفاء الشروط استوفى البنك حقه من البضاعة وما قد يكون دفعه مقدما للبنك، فإن نقص عن الوفاء بحقه رجع بالباقي له على المشتري في ذمته. وإن أثبت المصرف عدم استيفاء الوثائق للشروط حين وصولها إليه رجع البنك على البائع المستفيد، فالصلة قائمة بين العلاقات الثلاث على هذا الوجه إلى النهاية، وإنما وجد نوع خاص من انقطاع صلة البائع بالمشتري بخصوص الثمن وإلزام البنك وحده بالدفع للبائع محافظة على حقه، ولإثبات جدية الصفقة ومنع التلاعب في المعاملات، وهذا لم يقض على ما ذكر من العلاقات. وعلى هذا يمكن أن يقال: إن في الاعتمادات المستندية عدة عقود

مرتبط بعضها ببعض، عقد بيع بين البائع المستفيد والمشتري الذي طلب فتح الاعتماد تتوقف صحته على استيفاء شروط البيع، وعقد ضمان التزم فيه البنك التزاما خاصا للبائع المستفيد بدفع مبلغ معين من أجل الصفقة عند وصول الوثائق اللازمة مستوفية للشروط، وعقد وكالة من المشتري للمصرف بجعالة لقيامه عنه بإجراءات معينة تتعلق بالصفقة. وفي اعتبار هذه العقود رعاية للجوانب المختلفة في الاعتماد المستندي، وكل منها جائز في نفسه ولا مانع من تعددها لعدم التضارب بين خواصها وآثارها، بل بعضها يخدم بعضا، ويساعد على الإنجاز بسهولة في أقرب وقت ممكن، غير أنها اقترن بها أمور منها: أ - دفع المستورد فائدة للمصرف الوسيط، لما دفعه عنه للمصدر من الثمن، وهو ربا واضح. ب - دفع مقابل التأمين على البضاعة من المخاطر أو التزام ذلك وقد يقال بتحريمه لما فيه من المقامرة وأكل المال بالباطل. ج - دفع المستورد عمولة لضمان المصرف له وفي إباحتها نظر. د - بيع المصرف البضاعة المشتراة قبل قبضها، ليستوفي منها دينه على المشتري إذا امتنع من تسلمها، وهذا محرم مطلقا أو إذا كانت البضاعة طعاما؟ للأحاديث الواردة في ذلك. هـ - دفع المستورد أجرة للمصرف مقابل ما يقوم به من خدمات وإجراءات تتعلق بالبضاعة وهو جائز إن لم يتخذ ستارا للربا، وإلا امتنع. فإن ثبت تحريم ما ذكر أو بعضه فالاعتمادات المستندية محرمة؛ لما لابسها لا لذاتها، وهل يعود ذلك التحريم على العقد بالفساد، أو يبطل

الشرط الملابس للعقد، ويمضي العقد هذا محل نظر وموضع اجتهاد اختلفت في مثله آراء الفقهاء الأصول. هذا ما تيسر، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ

ثانيا التحويلات المصرفية

التحويلات المصرفية الحمد لله وحده. . وبعد: سبق بحث ما يتعلق بعمليات الودائع والحسابات المختلفة وإيجار الخزائن الحديدية وعمليات الائتمان - الإقراض، الاعتماد البسيط، الاعتماد المستندي، الضمان بأنواعه - وبقي البحث فيما يتعلق بعمليات (التحويلات المصرفية والبريدية وعمليات تظهير الأوراق التجارية وخصمها وتحصيلها) وقبل الدخول في البحث يحسن بنا التمهيد لذلك بتعداد أهم الأوراق التجارية وتعريف كل ورقة بذكر خصائصها وما يميزها عن غيرها. والله ولي التوفيق. الأوراق التجارية: نظرا للتوسع العالمي في نطاق التجارة الدولية، وحيث إن النقود القائمة أيا كان نوعها وكيفها وكمها عاجزة عن مسايرة التطور التجاري والحركات السريعة الضخمة في نطاق الصفق في الأسواق العالمية - فقد وجد رجال المال والأعمال أنفسهم في حاجة ملحة إلى ما يساير هذا التطور في نطاق التبادل المالي، وذلك بإيجاد عملات مساعدة تكون عونا للتاجر في استيفاء حقوقه وسداد ما عليه من التزامات ولو لم يتم له تسويق بضاعته التي باعها أو اشتراها، كما أنها تعفيه من الاحتفاظ بمبالغ نقدية يقابل بها حركاته التجارية الخالية من التوقيتات المعينة، حيث يتضرر بتجميدها، فكانت هذه المبررات مصدر ابتكار ما يسمى بالأوراق التجارية.

فالأوراق التجارية أوراق مالية لها صفة القبول والتداول في عالم التجارة، وفي ذلك يقول الدكتور علي سلمان العيدي بعد أن استعرض المعنى العام للورقة التجارية ما نصه: نخلص من ذلك أنه من أجل اعتبار السند ورقة تجارية لا بد أن يتجه الحق المالي فيه بذاته، وأن يكون هذا الحق منصبا على مبلغ من النقود، وأن يكون السند قابلا للتداول بسهولة، وأن يجري استعماله كأداة للوفاء بدل النقود، وأن يستحق الأداء بعد أجل قصير أو عند الاطلاع، أي: ألا يكون طويل الأجل. وعلى ضوء ما قدمناه يمكننا تعريف الورقة التجارية بأنها سند محرر وفقا للشكل الذي رسمه القانون يمثل بذاته التزاما بأداء مبلغ من النقود قابل للتداول عن طريق التظهير أو التسليم، ويستحق الأداء بعد أجل قصير أو عند الاطلاع، ويستعمل كأداة للوفاء بدل النقود. اهـ (¬1) . ونظرا إلى أن الأوراق التجارية تتفق مع الأوراق النقدية في تسهيل التعامل التجاري من حيث التداول والقبول، بل إن بعضهم كان يطلق عليها على سبيل التجوز صفة النقد، نظرا لذلك فإنه يتعين عقد مقارنة بين الورقة التجارية والورقة النقدية حتى تتضح حقيقة كل منهما، فلا يلتبس الأمر بينهما، وبالتالي يتجلى الأمر في صحة نسبة الأحكام الخاصة بالورقة النقدية إلى الورقة التجارية وعدم صحتها. لئن قيل بوجود شبه بين الورقتين فإن بينهما تفاوتا واختلافا جوهريا ¬

_ (¬1) [الأوراق التجارية في القانون العراقي] ، ص (11، 12) .

يتضح فيما يلي: 1 - لا يجوز رفض الأوراق النقدية في تسوية الديون لما لها من قوة إبراء مطلق، بينما يجوز للدائن رفض تسوية ديونه بأوراق تجارية، حيث إنها لا تعتبر في الجملة إلزامية. 2 - ليس للأوراق النقدية مجال في خصم شيء منها عند القيام بتسوية الديون بها، لكونها نقودا حقيقية تحمل الإبراء العام المطلق في حين أنه يجوز اشتراط خصم شيء من الورقة التجارية إذا كانت كمبيالة، لتعجيل وفاء قيمتها في عرف التعامل المصرفي. 3 - الأوراق التجارية محدود زمن التعامل بها بمدة معينة فيها في حين أنه لا حد للتعامل بالأوراق النقدية ما لم تر جهة الإصدار إبدال غيرها بها. 4 - تصدر الأوراق النقدية من قبل جهة معينة يغلب عليها أن تكون حكومية أو للحكومة حق الإشراف عليها في حين أن الأوراق التجارية تصدر من جهات مختلفة ومن أفراد إلا أنه يشترط لمصدرها أن يكون ذا أهلية تجارية. 5 - تصدر الأوراق النقدية بصورة سلسلة لها وحدات مختلفة المبالغ مثل فئات الريال والخمسة والعشرة والخمسين والمائة في حين أنه لا يوجد مثل ذلك في الأوراق التجارية، حيث تصدر بمبالغ مختلفة لا مجال لتوحيدها في فئات محددة ولا مجال لحصرها. 6 - الورقة النقدية نقد قائم بذاته تضيع قيمته بضياعها مهما كان لدى حاملها من طرق الإثبات في حين أن الورقة التجارية سند بدين تبقى

قيمته في حال ضياعه إذا أثبت محتواه مالكه. والأوراق التجارية ليست محصورة في أوراق معينة؛ لأن الفكر التجاري مرن مرونة الحركة التجارية العالمية، فهو مصنع يعطي للتجارة ما تحتاجه من أسباب القدرة على الحركة برا وبحرا وجوا وأثيرا، إلا أن المراقبين من خبراء المال والاقتصاد يكادون يجمعون على أنه حتى الآن لم يخرج الفكر التجاري من الأوراق التجارية أهم من أوراق الكمبيالة والشيك والسند الإذني بدليل أن علماء الاقتصاد ورجال التنظيمات المالية والتجارية يكادون يقتصرون في بحوثهم عن الأوراق التجارية على هذه الأنواع الثلاثة. وفيما يلي دراسة موجزة لها:

الأوراق المالية

الكمبيالة الكمبيالة: أمر مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها التنظيمات التجارية، يتوجه بها شخص يسمى: الساحب إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه، طالبا منه دفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين أو قابل

للتعيين لإذن شخص ثالث يسمى المستفيد أو لحامله. وصورتها: الرياض في - تاريخ تحرير الكمبيالة - المبلغ بالأرقام ريا لا سعوديا إلى السيد فلان بن فلان في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ادفعوا بمقتضى هذه الكمبيالة لأمر السيد فلان المبلغ المرقوم أعلاه وقدره. . . . . . والقيمة وصلتنا بضاعة. توقيع الساحب ومن ذلك يتضح أن للكمبيالة أركانا ثلاثة: ساحبا، ومسحوبا عليه، ومستفيدا، وقد تكون هذه الأطراف الثلاثة أشخاصا طبيعة، وقد تكون أشخاصا اعتبارية. ثم إن هناك ما يسمى بالكمبيالة المالية، وهذا النوع من الكمبيالات يسمح بالاقتصار فيها على ركنين هما: الساحب، والمسحوب عليه، ويكون الساحب في هذا النوع هو المستفيد. وإلى هذا يشير الدكتور علي البارودي فيقول: وقد ينشئ البنك بنفسه الكمبيالة في معاملاته مع عملائه، ويسمونها: الكمبيالة المالية تمييزا لها عن الكمبيالة العادية التي ينشئها التجار. فإذا أقرض البنك عميله مبلغا من النقود، فإنه يسحب على هذا العميل كمبيالة فيقبلها العميل. . . إلى أن قال: فإذا شاء البنك أن يستوفي دينه قبل ميعاد الاستحقاق، فإنه يستطيع أن يخصم هذه الكمبيالة بنك آخر أو في البنك

المركزي اهـ (¬1) . ويجب أن تشتمل الكمبيالة على بيانات معينة حددتها التنظيمات في كل دولة، ومن ذلك ما جاء في نظام الأوراق التجارية السعودي الصادر به المرسوم الملكي رقم (37) وتاريخ 11 \ 10 \ 1383 هـ فقد جاءت المادة (1) بالنص التالي: المادة (1) - تشتمل الكمبيالة على البيانات الآتية: أ - كلمة كمبيالة مكتوبة في متن الصك وباللغة التي كتبت بها. ب - أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود. ج - اسم من يلزمه الوفاء المسحوب عليه. د - ميعاد الاستحقاق. هـ - مكان الوفاء. واسم من يجب الوفاء له أو لأمره. ز - تاريخ ومكان إنشاء الكمبيالة. ح - توقيع من أنشأ الكمبيالة - الساحب -. وذكرت المادة الثانية أن الورقة لا تعتبر كمبيالة حتى تستوفي البيانات المذكورة في المادة الأولى، واستثنت من ذلك ما يلي: أ - إذا خلت الكمبيالة من بيان ميعاد الاستحقاق اعتبرت مستحقة الوفاء لدى الاطلاع عليها. ب - إذا خلت من بيان مكان الوفاء أو من بيان موطن المسحوب عليه اعتبر ¬

_ (¬1) [العقود وعمليات البنوك التجارية] ، ص (3) .

المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه مكان وفائها وموطنا للمسحوب عليه. ج - إذا خلت من بيان مكان إنشائها اعتبرت منشأة في المكان المبين بجانب اسم الساحب. اهـ. والغالب أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما يقابل قيمة الكمبيالة - مقابل الوفاء - وأن يكون الساحب مدينا للمستفيد بمثل ذلك، ويذكر الأستاذان أمين بدر وعلي حسن يونس أن ذلك لا يلزم. ومع ذلك فقد نص نظام الأوراق التجارية السعودي على ضرورة أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما يكفي للوفاء، فقد جاءت المادتان التاسعة والعشرون والثلاثون بالنص التالي: المادة (29) - على ساحب الكمبيالة أو من سحب الكمبيالة له لحسابه أن يوجد لدى المسحوب عليه مقابل وفائها، ولكن ذلك لا يعفي الساحب لحساب غيره من مسئوليته شخصيا قبل مظهريها وحامليها. المادة (30) - يعتبر مقابل الوفاء موجودا إذا كان المسحوب عليه مدينا للساحب أو للأمر بالسحب في ميعاد استحقاق الكمبيالة بمبلغ معين من النقود واجب الأداء ومساوي على الأقل لمبلغ الكمبيالة. اهـ. وساحب الكمبيالة بتوقيعه عليها ملتزما بدفع قيمتها لحاملها عند حلول أجل دفعها، كما أن كل من وقع عليها بالقبول يعتبر متضامنا مع ساحبها في

الالتزام بدفعها إذا امتنع من ذلك المسحوب عليه، ولا ينعقد التزام المسحوب عليه بدفعها إلا بتوقيعه عليها بالقبول وتسليمها لحاملها، ولا يلزم المسحوب عليه أن يوقع عليها بالقبول، بل يعتبر ذلك منه على سبيل الاختيار حتى لو كان مدينا للساحب. ومتى تم قبول المسحوب عليه الكمبيالة أصبحت أداة قابلة للتداول، يستطيع المستفيد أن يصرف قيمتها حالا من المسحوب عليه أو من أي بنك بعد خصم العمولة وسعر الفائدة عن مدة الاستحقاق. ولتصوير وجه اعتبارها شبه عملة قابلة للتداول. يقول الدكتور محمد عبد الله العربي ما نصه: متى تم قبول المسحوب عليه للكمبيالة، أي: أشر عليها بما يفيد قبوله للوفاء بها في ميعاد الاستحقاق أصبحت الكمبيالة أداة قابلة للتداول؛ فيستطيع المستفيد أن يصرف قيمتها فورا من البنك المسحوب عليه أو من أي بنك آخر بعد خصم العمولة والفائدة عن مدة الاستحقاق. المهم أن الكمبيالة المقبولة تصبح عملة قابلة للتداول، فهي تثبت مبلغا من عملة إحدى الدول قابلا للوفاء في تاريخ معين، فلكل ذي مصلحة في سداد دين تجاري بعملة هذه الدولة أن يشتريها ويسدد بها دينه. اهـ (¬1) . والقول بأن الكمبيالة عملة قابلة للتداول ليس على إطلاقه، فليس للكمبيالة كل صفات النقد، فهي ليست مبرئة إبراء تاما، وليست قيمتها في ¬

_ (¬1) [المعاملات المصرفية المعاصرة ورأي الإسلام فيها] ، ص (29) .

ذاتها بحيث لو فقدت ضاعت قيمتها، وإنما هي سند بدين متى ضاع ذلك السند صار لصاحبه حق إثباته بأي طريق من طرق الإثبات المعتبرة، وإلى هذا تشير المادة السادسة عشرة من نظام الأوراق التجارية السعودي بما نصه: وإذا فقد شخص حيازة كمبيالة نتيجة حادثة ما فلا يلزم حاملها بالتخلي عنها متى أثبت حقه فيها وفقا للأحكام السابقة، إلا إذا كان حصل عليها بسوء نية أو ارتكب في سبيل الحصول عليها خطأ جسيما. اهـ.

خصائص الكمبيالة

خصائص الكمبيالة: مما تقدم نستطيع استظهار الخصائص التالية: أ - الكمبيالة ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحها للتداول والقبول. ب - الغالب على الكمبيالة أن تشتمل على أطراف ثلاثة ساحب ومسحوب عليه ومستفيد، إلا أنه يجوز اقتصارها على طرفين هما ساحب وهو المستفيد ومسحوب عليه، كما هو الشأن في الكمبيالة المالية. ج - لا يشترط لصحة الكمبيالة أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب، وإنما يشترط لاعتبارها قبول المسحوب عليه وتوقيعه عليها بذلك. د - لا يلزم المسحوب عليه قبول الكمبيالة إلا أنه متى قبلها ووقع عليها بذلك وسلمها لحاملها لزمه سدادها في وقتها المحدد له. هـ - لا تعتبر الكمبيالة مبرئة إبراء تاما لذمة صاحبها، وإنما تبقى مسئوليته حتى يتم سدادها. ويعتبر الموقعون عليها بالقبول مسئولين عن سداد قيمتها مسئولية تضامنية.

ز - لا تعتبر الكمبيالة ورقة تسقط قيمتها بفقدها، وإنما هي سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة. ح - يشترط كثير من الأنظمة التجارية النص في سند الكمبيالة على وصول القيمة.

الوصف الشرعي للكمبيالة

الوصف الشرعي للكمبيالة: ذهبت الموسوعة الفقهية الكويتية إلى القول: بأن الكمبيالة يعتبرها الفقه الإسلامي حوالة إذا كانت مسحوبة على مدين بقيمتها أما إذا لم يكن المسحوب عليه مدينا للساحب بقيمتها فجمهور أهل العلم يعتبرونها وكالة؛ لأن من شروط الحوالة أن يكون المحال عليه مدينا بما يقابلها. أما الحنفية فحيث إنهم لا يشترطون مديونية المحال عليه للمحيل فإنهم يعتبرون الكمبيالة حوالة مطلقا، إلا أنهم يشترطون لنفاذها قبول المسحوب عليه (¬1) . ¬

_ (¬1) [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، (الحوالة) ص (236) .

الشيك

الشيك: الشيك: هو أمر مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها الأنظمة يطلب به شخص يسمى: الساحب من شخص آخر يسمى: المسحوب عليه أن يدفع بمقتضاه أو بمجرد الاطلاع عليه مبلغا معينا من النقود للساحب أو لشخص معين أو لإذن شخص معين أو لحامله. وصورته: يذكر في هامش الشيك رقم الحساب الجاري واسم صاحبه.

المبلغ بالرقم هـ ريال الرياض في \ \ 13 هـ مؤسسة النقد العربي السعودي ادفعوا بموجب هذا الشيك لأمر السيد \. . . . . . . . . . . أو لحامله مبلغ " يكتب بالحروف " نمرة. . . . . . . . . . إمضاء الساحب (¬1) ويجب أن يشتمل الشيك على بيانات معينة حددتها كل دولة في أنظمتها وقد جاء النص عليها في نظام الأوراق التجارية السعودي بما يأتي: المادة (91) يشتمل الشيك على البيانات الآتية: أ - كلمة شيك مكتوبة في متن الصك باللغة التي كتب بها. ب - أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود. ج - اسم من يلزمه الوفاء (المسحوب عليه) . د - مكان الوفاء. هـ - تاريخ ومكان إنشاء الشيك. وتوقيع من أنشأ الشيك - الساحب -. وقد نصت المادة الثانية والتسعون على سلب الصفة الشيكية من الشيك إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة السابقة إلا في حالتين هما: أ - إذا خلا الشيك من بيان مكان وفائه اعتبر مستحق الوفاء في المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه، فإذا تعددت الأماكن المبينة بجانب اسم المسحوب عليه اعتبر الشيك مستحق الوفاء في أول مكان ¬

_ (¬1) [الالتزام العرفي في قوانين البلاد العربية] ، للدكتور أمين بدر ص (39) .

منها. وإذا خلا الشيك من هذه البيانات أو من أي بيان آخر اعتبر مستحق الوفاء في المكان الذي يقع فيه المحل الرئيسي للمسحوب عليه. ب - إذا خلا الشيك من بيان مكان الإنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم الساحب. اهـ.

خصائص الشيك

خصائص الشيك: مما تقدم نستطيع استظهار الخصائص التالية للشيك: أ - الشيك ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحه للتداول والقبول. ب - الغالب على الشيك أن يشتمل على أطراف ثلاثة هي الساحب والمسحوب عليه والمستفيد. ويجوز اقتصاره على طرفين هما الساحب وهو المستفيد والمسحوب عليه، وإلى هذا تشير المادة السادسة والتسعون من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث تقول: يجوز سحب الشيك لأمر الساحب نفسه، ويجوز سحبه لحساب شخص آخر، ولا يجوز سحبه على الساحب نفسه ما لم يكن مسحوبا بين فروع بنك يسيطر عليه مركز رئيسي واحد، ويشترط ألا يكون الشيك مستحق الوفاء لحامله. ج - يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته، ومع ذلك فيعتبر الشيك صحيحا ولو لم يكن المسحوب عليه مدينا للساحب، إلا أنه يعتبر من ضمان الساحب نفسه، فضلا عما في سحبه على غير مدين به من الإجرام الموجب للعقوبة. اهـ. د - إذا كان المسحوب عليه غير مدين بمثل قيمته فلا يلزمه اعتماده.

هـ - لا يعتبر الشيك مبرئا صاحبه إبراء تاما من قيمته حتى يتم سداده. ولحامل الشيك الرجوع على الملتزمين مجتمعين أو منفردين إذا قدم في ميعاده النظامي ولم تدفع قيمته. ز - لا يعتبر الشيك ورقة نقدية تضيع قيمتها بفقدها، وإنما هو سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة في حال ضياعه. ح - لا يشترط لصحة الشيك النص على وصول قيمته للساحب كما هو الشأن في الكمبيالة. ط - لا يعتبر لصحة الشيك ووجوب دفعه لدى الاطلاع رضا المسحوب عليه إلا إذا كان غير مدين للساحب بمثل قيمته. ي - لا يعتبر لصحة الشيك انتفاء رصيده أو نقصانه لدى المسحوب عليه.

الفرق بين الشيك والكمبيالة

الفرق بين الشيك والكمبيالة: لا شك أن الشيك يشبه الكمبيالة في كثير من خصائصها، كما أنه يختلف عنها في بعض خصائصه. وفيما تقدم لنا يتضح: أن الشيك يشبه الكمبيالة فيما يلي: أ - افتراض وجود ثلاثة أطراف هي: الساحب والمسحوب عليه والمستفيد في الغالب. ب - وجود علاقتين حقوقيتين: إحداهما: بين الساحب والمسحوب عليه،

وهي الرصيد الدائن، وهو ما يسمى بمقابل الوفاء. الثانية: بين الساحب والمستفيد، وهي وصول قيمة الكمبيالة أو الشيك. ج - قدرتهما على القيام بتسوية ما يرتبانه من علاقات قانونية بين المتعاملين بهما بعملية وفاء واحدة. ويختلف الشيك عن الكمبيالة فيما يلي: أ - إن الشيك يسحب عادة على مصرف، ويندر أن يسحب على فرد عادي أو مؤسسة غير مصرفية، في حين أن الكمبيالة تسحب على أي جهة أو فرد أهل للالتزام بها. ب - إن الشيك واجب الدفع دائما لدى الاطلاع عليه، ولا يجوز تأجيل دفعه، بينما يغلب على الكمبيالة ألا تكون مستحقة الوفاء عند الاطلاع، وإنما يجب وفاؤها بعد وقت يجري تعيينه فيها. ج - يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته، فإن سحب شيك على غير مدين به اعتبر ذلك جريمة توجب العقوبة، وتبقى للشيك قيمته المالية في ذمة ساحبه. وعليه فإنه لا يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك بالقبول؛ لأنه طالما كان مستكملا لشروط اعتباره كان واجب الدفع على المسحوب عليه، رضي ذلك أم سخط، وإلى هذا تشير المادة (100) من نظام الأوراق التجارية السعودي، حيث تقول: لا يجوز للمسحوب عليه أن يوقع على شيك بالقبول، وكل قبول مكتوب عليه يعتبر كأن لم يكن، ومع ذلك يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك باعتماده، وتفيد هذه العبارة وجود مقابل وفاء في تاريخ

التأشير، ولا يجوز للمسحوب عليه رفض اعتماد الشيك إذا كان لديه مقابل وفاء يكفي لدفع قيمته، ويعتبر توقيع المسحوب عليه على صدر الشيك بمثابة اعتماد. اهـ. على أن كثيرا من علماء الاقتصاد يرون أن التفرقة بينهما عسيرة في حال ما إذا كان ساحب الكمبيالة دائنا للمسحوب عليه بقيمتها، وكان النص فيها على الدفع حال الاطلاع، وفي ذلك يقول الدكتور أمين بدر بعد أن استعرض الفروق بينهما وناقشها مناقشة أذابت كثيرا منها وقربت بعضها لمقابله، قال ما نصه: وبالاختصار فإن التمييز بين الشيك والكمبيالة قد يغدو في بعض الصور عسيرا. اهـ (¬1) . وبمزيد من التأمل يمكن القول: إن الكمبيالة قد تكون على حال من الإجراء بحيث يصعب التمييز بينها وبين الشيك، كأن يكون سحبها على مدين بها وأن تكون واجبة الدفع عند الاطلاع، وأن يكون سحبها على مصرف، وقد تختلف عن خصائص الشيك بالنسبة لنوع المسحوب عليه ووجود أجل معين لوجوب دفعها وانتفاء مديونية المسحوبة عليه بقيمتها، وحيئذ يبدو الفرق بينهما واضحا جليا. ونظرا إلى أن الشيك قد تعترضه بعض المخاطر من ضياع أو سرقة أو - نحوهما فقد ابتدع النظام المصرفي ما يسمى بالشيك المسطر وذلك بوضع ¬

_ (¬1) [الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية] ، ص (42) .

خطين متوازيين على وجهه إشارة إلى تعيين أن يكون الوفاء بهذا الشيك لأحد البنوك لا لفرد أو شخص آخر فيكون على المستفيد منه أن يظهره لأحد البنوك ليتولى تحصيله لحسابه. ويكون الشيك المسطر عاما إذا لم يرد بين الخطين إشارة أو وردت عبارة صاحب مصرف أو ما يعادلها. ويكون خاصا إذا كتب بين الخطين اسم صاحب مصرف بالذات، وفي ذلك تقول المادة (112) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه: لا يجوز للمسحوب عليه أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا عاما إلا إلى أحد عملائه أو إلى بنك، ولا يجوز أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا خاصا إلا إلى البنك المكتوب اسمه فيما بين الخطين وإلى عميل هذا البنك إذا كان هذا الأخير هو المسحوب عليه، ومع ذلك يجوز للبنك المكتوب اسمه بين الخطين أن يعهد إلى بنك آخر قبض قيمة الشيك. اهـ. وهناك وسيلة أخرى لاتقاء مخاطر ضياع الشيك أو سرقته أو تزويره وهي اشتراط قيد قيمته في الحساب الجاري بدلا من دفعها بالنقود، ويعترض لهذه الطريقة وجود حساب جاري لحامل الشيك لدى المسحوب عليه. وفي هذا تقول المادة (113) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه: يجوز لساحب الشيك أو لحامله أن يشترط عدم وفائه نقدا بأن يضع عبارة للقيد في الحساب أو أية عبارة أخرى تفيد نفس المعنى. وفي هذه الحالة لا يكون للمسحوب عليه إلا تسوية قيمة الشيك بطريق قيود كتابية كالقيد في الحساب أو النقل المصرفي أو المقاصة، وتقوم هذه القيود مقام

الوفاء ولا يعتد بشطب بيان (للقيد في الحساب) . وهناك ما يسمى بالشيك السياحي، ويذكر الأستاذ محمد جمال الدين عوض: أن أول نشأته كانت عام 1891 م بسبب رحلة قام بها رئيس شركة أمريكان اكسبريس للسياحة إلى أوربا، فصادفه فيها متاعب راجعة إلى كيفية حصوله على مال يقوم بشئون حياته في هذه الرحلة، فابتكر نظام الشيكات السياحية حتى ذاع استعمالها، فأصبحت البنوك تصدر شيكات سياحية قابلة للصرف لدى جميع البنوك الأخرى. ويذكر الأستاذ محمد جمال الدين عوض: أن الصورة الغالبة للشيك هي أن يصدر الشيك بفئات نقدية معينة وعلى الصك مكان يوقع فيه العميل عند استلام الشيك ومكان آخر يوقع فيه عند قبض قيمته أمام البنك الذي يدفع هذه القيمة ليتحقق من تطابق التوقيعين ومن أن الذي يستوفي القيمة هو ذات المستفيد الذي استلم الشيك ممن أصدره، وبعد الوفاء بقيمة الشيك السياحي تسوى العملية بين البنوك المشتركة في إصداره وتنفيذه بطريق المقاصة. ويذكر الأستاذ محمد عوض: أن كثيرا من الشراح يستبعد الشيك السياحي من تعريف الشيك إذا تخلف بيان من البيانات اللازمة للشيك وهو أمر غالب، حيث لا يتضمن تاريخ السحب ومكان الإصدار واسم المسحوب عليه، كما ينكر عليه وصف السند الإذني أو السند لحامله، كما

يعرفه القانون التجاري، إذ هو لا يتضمن تعهد البنك بالدفع حتى ولو تضمن أمرا للمسحوب عليه؛ لأن تعهد الساحب ضمنا بالوفاء عند تخلف المسحوب عليه لا يكفي لاعتبار الورقة سندا تجاريا صرفيا، كما أن وظيفة الشيك السياحي تختلف عن وظيفة السند الإذني أو السند للحامل؛ لأن الشيك السياحي يستهدف مجرد نقل النقود ولا يستخدم أداة للائتمان، وهي الوظيفة الأساسية للسندات التجارية، ومن هذا ندرك أن الشيك السياحي ورقة ابتكرها العرف وأقر حكمها بعيدا عن الأحكام التي وضعها التشريع للأوراق التي قد تشتبه بها. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ، ص (603، 604) .

الوصف الفقهي الإسلامي

الوصف الفقهي الإسلامي: مر بنا أن من خصائص الشيك: أنه ليس ورقة نقدية، وإنما هو وثيقة بدين تقضي بإحالته من ذمة ساحبه إلى ذمة المسحوب عليه مع بقاء مسئولية ساحبه حتى سداده. وأنه ينبغي ألا يسحب إلا على من لديه مقابل وفائه، وأنه لا يلزم لاعتباره شيكا قبول المسحوب عليه، وهذه الخصائص هي خصائص الحوالة، فإذا قيل: بأن الشيك حوالة كان لهذا القول وجاهته ولم يرد عليه إلا مسألة ضمان الساحب قيمة الشيك حتى يتم سداده؛ لأن الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة بمعنى براءة ذمة المحيل من المدين إذا كانت الإحالة على مليء، وقد أجابت الموسوعة الفقهية الكويتية عن هذا الاعتراض بأن الساحب يعتبر محيلا بمبلغ الشيك وضامنا سداده (¬1) . ¬

_ (¬1) [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، (الحوالة) ص (239، 240) .

وقد يقال: بأن الشيك يعتبر في حكم ورقة نقدية، وفي ذلك تقول الموسوعة الفقهية الكويتية في معرض توجيه القول بأن تسلم الشيك من المصرف بمثابة تسلم قيمته ما نصه: فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنه يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا، وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) انظر ص (232) من [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، (الحوالة) .

السند الإذني

السند الإذني: السند الإذني عبارة عن التزام مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها الأنظمة، يتضمن تعهد شخص معين يسمى: المحرر بدفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين أو قابل للتعيين لأمر أو لإذن شخصي يسمى: المستفيد. وصورته:

اسم المدين هـ ريال في يوم كذا شهر كذا سنة كذا ندفع بموجب هذا السند الإذني إلى وتحت إذن السيد. . . . . . . ابن. . . . . . . . . . . . . . . . . المبلغ المرقوم أعلاه وقدره. . . . . . . . . . . . . . . والقيمة وصلتنا والدفع والتقاضي في \ \ تحريرا في. . . \. . . \. . . المقر بما فيه (¬1) ويجب أن يشتمل السند الإذني على بيانات معينة جاء النص عليها في المادة السابعة والثمانين من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث نصت على ما يلي: يشتمل السند لأمر على البيانات الآتية: أ - شرط الأمر أو عبارة سند الأمر مكتوبة في متن السند وباللغة التي كتب بها. ب - تعهد غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود. ج - ميعاد الاستحقاق. د - مكان الوفاء. هـ - اسم من يجب الوفاء له أو لأمره. وتاريخ إنشاء السند ومكان إنشائه. ز - توقيع من أنشأ السند - المحرر -. ¬

_ (¬1) [الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية] ، ص (31، 32) للدكتور أمين بدر.

كما أن السند الإذني لا يعتبر صحيحا إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة (87) إلا في ثلاث حالات أبانتها المادة (88) من نظام الأوراق التجارية السعودي بما يلي: المادة (88) السند الخالي من أحد البيانات المذكورة في المادة السابقة لا يعتبر سندا لأمر إلا في الأحوال الآتية: أ - إذا خلا السند من ميعاد الاستحقاق اعتبر واجب الوفاء لدى الاطلاع عليه. ب - إذا خلا بيان مكان الوفاء أو موطن المحرر اعتبر مكان إنشاء السند مكانا للوفاء ومكانا للمحرر. ج - إذا خلا بيان مكان الإنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم المحرر. وقد ذكر الدكتور محمد أمين بدر: أن السند الإذني يفترق عن الكمبيالة في: أنه لا يتضمن عند إنشائه إلا شخصين: المحرر: وهو المدين، والمستفيد: وهو الدائن، ويتفرع عن هذا الفارق الجوهري سلسلة من فوارق أخرى، فلا محل في السند الإذني لمقابل الوفاء، ولا مجال فيه للقبول؛ لأن محرر السند ملتزم مقدما بدفع قيمته في ميعاد الاستحقاق (¬1) . ويخضع السند الإذني للأحكام المتعلقة بالكمبيالة مما لا يتعارض وطبيعة السند الإذني. وقد جاءت المادة السابعة والسبعون من قانون جنيف الموحد توضح ذلك حيث تقول: ¬

_ (¬1) [الالتزام المصرفي] ، ص (32) .

القواعد المتعلقة بالكمبيالة فيما يختص بتظهيرها واستحقاقها ووفائها والرجوع بسبب عدم الوفاء والبروتستو وكمبيالة الرجوع والوفاء بالواسطة والصور والتغييرات والتقادم وأيام الأعياد الشبيهة بها واحتساب المواعيد وحظر المهلة القضائية تتبع في السند الإذني ما دامت هذه القواعد لا تتعارض مع ماهيته. اهـ. وقد نقلت معظم البلاد العربية في قوانينها التجارية هذه المادة ضمن تقنينها أحكام السندات الإذنية (¬1) . وهناك ما يسمى بالسند لحامله والسند على بياض، ونظرا إلى أن قانون جنيف الموحد قد أهملهما من قائمة الأوراق التجارية، وقد حذت معظم الدول بما في ذلك غالب البلاد العربية ومنها حكومتنا السنية حذو مؤتمر جنيف فأهملتهما من تشريعاتها التجارية، ومن لم يهملهما فمشروعات تشريعه التجاري قد تجاهلتهما، وعليه فقد لا يكون هناك حاجة. لذكرهما (¬2) . ¬

_ (¬1) [الالتزام المصرفي] ، للدكتور أمين بدر ص (35) . (¬2) [الالتزام المصرفي] ، ص (35 - 39) .

خصائص السند الإذني

خصائص السند الإذني: يتضح مما تقدم: أن السند الإذني يتميز بالخصائص الآتية: أ - السند الإذني ورقة تجارية تشبه الورقة النقدية من حيث صلاحه للقبول والتداول. ب - السند الإذني يشكل علاقة حقوقية بين طرفين، هما: الساحب

والمستفيد. ج - لا يلزم لتحرير السند الإذني وجود مقابل وفاء. د - لا يلزم لاعتبار السند الإذني قبول المحرر، لأنه بتحريره إياه ملتزم بدفع قيمته في ميعاد الاستحقاق. هـ - لا يعبتر السند الإذني ورقة نقدية بمعنى: أن قيمته في حال ضياعه تثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة.

الوصف الإسلامي للسند الإذني

الوصف الإسلامي للسند الإذني: السند الإذني: عبارة عن وثيقة بدين مؤجل على مدين يغلب عليه أن يكون شخصا اعتباريا كدولة أو مصرف أو مؤسسة تجارية ذات سمعة حسنة. يحل أجله في وقت معين في الوثيقة نفسها، ولهذا الدين فائدة ربوية يجري تعيين نسبتها في الوثيقة، ويكون أجلها أجل أصلها، ويكون موضع تداول في أسواق الأوراق التجارية حتى يتم سداده من محرره كالحال بالنسبة للكمبيالات. وقد قام الأستاذ محمد باقر الصدر بوصف السند الإذني من الوجهة الإسلامية فقال: وأما من وجهة النظر الفقهية فيمكن تكييف تعاطي السندات على أساسين: الأول: أن نفسر العملية على أساس عقد القرض، فالجهة التي تصدر السند بقيمة اسمية نفرضها 1000 دينار، وتبيع السند ب 950 دينارا مؤجلة إلى سنة، هي في الواقع تمارس عملية اقتراض، أي: أنها تقترض 950 دينارا من الشخص الذي يتقدم لشراء السند، وتدفع إليه دينه في نهاية المدة

المقررة وتعتبر الزيادة المدفوعة وهي 50 دينارا في المثال الذي افترضناه فائدة ربوية على القرض. الثاني: أن نفسر العملية على أساس عقد البيع والشراء بأجل، فالجهة التي تصدر السند في المثال السابق لبيع 1000دينار مؤجلة الدفع إلى سنة ب 950 دينارا حاضرة - إلى أن قال -: والواقع أن تفسير العملية على أساس بيع ليس إلا مجرد تغطية لفظية للعملية التي لا يمكن إخفاء طبيعتها بوصفها قرضا مهما اتخذت من تعبير. . . إلى أن قال: فالعملية إذن عملية إقراض من البنك، ولا تختلف من الناحية الفقهية عن إقراض البنك لأي عميل من عملائه الذين يتقدمون إليه بطلب قروض. والزيادة التي يحصل عليها البنك نتيجة للفرق بين القيمة الاسمية للسند وقيمته المدفوعة فعلا من قبل البنك هي ربا، وحكمها حكم سائر الفوائد التي يتقاضاها البنك على قروضه اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) البنك اللاربوي في الإسلام] ، ص (162، 163) .

التحويلات المصرفية والبريدية

التحويلات المصرفية والبريدية: من المعاملات المصرفية التحويلات: وتتم بأحد طريقين: أحدهما: أن يدفع شخص إلى مصرف ما مبلغا من المال ليحوله إلى شخص بعينه في بلد آخر، فيحرر المصرف حوالة بذلك المبلغ إلى مصرف آخر أو فرع له في البلد المطلوب تحويل المبلغ إليه يأمره بدفع المبلغ إلى الشخص الذي عينه طالب التحويل، فيتسلم دافع المبلغ سند التحويل ليقوم بتسليمه محتواه أو يرسله إلى الشخص الذي يريد تسليمه المبلغ

ليقبض قيمته، وهذا ما يسمى بالتحويل المصرفي. الثاني: أن يقوم المصرف بناء على رغبة دافع المبلغ بالكتابة أو الإبراق إلى المصرف الآخر بتسليم المبلغ إلى الشخص المعين دون أن يتسلم العميل حوالة محررة بذلك، ويسمى هذا النوع بالتحويل البريدي. وكما جمح التحويل من بلد إلى بلد فقد يكون في البلد نفسه بين مصرف وفروعه وبين حساب شخص في مصرف وحسابه في مصرف آخر. والغالب أن التحويل المصرفي والبريدي لا يتم إلا بعمولة يأخذها البنك في مقابل قيامه بهذه المهمة (¬1) . ¬

_ (¬1) [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، [الحوالة) ص (228) .

الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية

الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية: حاولت [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، التعرف على الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية] ، فكتبت في ذلك بحثا مطولا، ناقشت فيه القول بتخريجها على السفتجة المعروفة لدى فقهاء الشريعة، فذكرت ما بينهما من تشابه وفروق] ، كما ناقشت القول بتخريجها على القرض أو الوكالة، ثم انتهت إلى القول: بأن التحويلات المصرفية عملية مركبة من معاملتين أو أكثر، وهو عقد حديث بمعنى: أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه، فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله. اهـ (¬1) . ونظرا لنفاسة البحث وما فيه من مناقشة لتخريج التحويلات المصرفية ¬

_ (¬1) [الموسوعة الفقهية] ، ص (235) .

على بعض العقود المشابهة لها في الفقه الإسلامي، فإن اللجنة ترى إيراده تحقيقا للفائدة. وفيما يلي نصه:

التكييف الفقهي الإسلامي للتحويلات المصرفية والبريدية

الوصف (التكييف) الفقهي الإسلامي: سبق أن أشرنا في بحث (السفتجة) إلى وجه الشبه إجمالا بين السفتجة القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة. ولبيان ذلك تفصيلا ينبغي التنبيه إلى أن السفتجة القديمة قد أجازها بعض الفقهاء (على الرغم من الشرط الذي يستفيد به المقرض الأمان من خطر الطريق، وهو شرط التوفية في بلد آخر) . فهي وسيلة أجيزت لشدة الحاجة إليها ولم يحل دون جوازها اشتراط الوفاء في بلد آخر. تلك وجوه الشبه أشرنا إليها إجمالا هناك، لكن الناظر إلى هذه التحويلات الحديثة وإلى السفتجة القديمة يرى بينهما فرقا من جهات أربع: الجهة الأولى: أن السفتجة القديمة لا بد أن تكون بين بلدين، والتحويل المصرفي تارة يكون كذلك وتارة يكون بين مصرفين في بلد واحد. الجهة الثانية: أن السفتجة القديمة قد يكون المقترض فيها مسافرا أو عازما على السفر، فيوفي هو نفسه أو نائبه إلى المقرض أو إلى مأذونه. والتحويل المصرفي ليس فيه ذلك، فالمصرف الأول وهو المقترض لا يوفي بنفسه إلا إذا كان المصرف الثاني الدافع فرعا للأول. الجهة الثالثة: أن المفروض في السفتجة القديمة اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد والمؤدى عند الوفاء. فالآخذ في السفتجة إذا أخذ دنانير من نوع مخصوص وفاها كذلك، وإذا أخذ دراهم من نوع مخصوص وفاها

كذلك، فإنهم عرفوا السفتجة بأنها قرض (وقد تتوافر معه فيها عناصر الحوالة) فلو كانت التأدية بنوع آخر لما كانت قرضا، لأن القرض لا بد فيه من رد المثل. والتحويل المصرفي لا يقتصر على هذه الحالة، فإن المصرف في أغلب الأحيان يأخذ نقودا من نوع، ويكتب للمصرف الآخر أن يوفي من نوع آخر. وهذه المعاملة ليست قرضا محضا، بل تشتمل أيضا على صرف أو شبهه على ما سيأتي: الجهة الرابعة: أن الآخذ في السفتجة القديمة لا يتقاضى أجرا عادة، اكتفاء بأنه سينتفع بالمال في سفره أو إقامته، فيربح ما يغنيه عن اشتراط أجر لعمله. أما المصرف في التحويل المصرفي فيتقاضى أجرا يسمى: عمولة. وفيما يلي سنتناول بالبحث والتمحيص كل جهة من جهات الفرق الأربع هذه بين السفتجة الفقهية القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة، لنرى مقتضاها في الأحكام بالنظر الفقهي الإسلامي: الفرق الأول: كون السفتجة لا تتم إلا بين بلدين، والتحويل قد يتم بين مصرفين في البلد الواحد. هذا الفرق لا تأثير له في الحكم الشرعي بالجواز، فإن الذين أجازوا السفتجة بين بلدين يجب أن يجيزوا ما يشبهها بين مكانين في بلد واحد. بل هذه أقرب إلى الجواز، لأن اشتراط الوفاء في بلد آخر كان هو العلة التي جعلت بعض الفقهاء يكرهون السفتجة أو يحرمونها. فإذا أجازها المحققون مع وجود هذه الشبهة فإجازتها مع قرب المكانين أولى؛ لأن المقرض حينئذ لا يستفيد سقوط خطر الطريق، فلا يتوهم أنه قرض جر

نفعا. الفرق الثاني: كون السفتجة القديمة تشمل صورا مغايرة للتحويل المصرفي. هذا الفرق أيضا لا تأثير له؛ لأن الذين أجازوا السفتجة لم يخصوا الجواز بهذه الصورة المغايرة، فيكفي أن يكون التحويل موافقا للصور الأخرى من السفتجة. فالقائلون بجواز هذه الصورة ينبغي أن يقولوا بجواز التحويل الموافق لها. الفرق الثالث: كون السفتجة تجري بنقد واحد، أما التحويل المصرفي فقد يجري بنقد واحد، وقد يكون بين جنسين من النقود. هذه جهة فرق جديرة بعناية الباحث؛ لأن لها تأثيرا، وتحتاج إلى شيء من التحليل والتفصيل: فالتحويل بين مصرفين في بلد واحد أو دولة واحدة إنما يكون بنقد الدولة غالبا فيكون كالسفتجة القديمة بعد اعتبار أن المصرف شخصية اعتبارية، فما قيل في تطبيق السفتجة على المعاملات الشرعية المعروفة يقال في تطبيق هذا النوع من التحويل فهو قرض وتوكيل أو قرض وحوالة. والتحويل بين مصرفين في دولتين لا يمكن أن يكون بنوع واحد من النقد غالبا. فالذي يريد تحويل دنانير عن طريق مصرف في الكويت إلى مصرف في لبنان مثلا لا بد أن يطلب التحويل إلى ليرات لبنانية بسعر الصرف وقت التحويل. وهذا يستدعي ثلاث خطوات ذات أحكام، وسنشرحها فيما يلي مبينين وصفها الفقهي خطوة خطوة. أولا: أن يتقدم إنسان للمصرف ويطلب تحويل النقود إلى مصرف آخر:

وهذا تمهيد لعقد التحويل، ويبين فيه عادة مقدار النقود، وهل يقصد تحويلها إلى نقود من جنسها أو من غير جنسها؟ وبيان المصرف الذي يراد التحويل إليه، وبيان الشخص الذي سيقبض البدل من المصرف الآخر أهو طالب التحويل أم غيره؟ ثانيا: قيام الطالب بدفع النقود إلى موظف المصرف: وهذا بعد سبق الطلب المبين يعتبر إيجاد للتحويل الذي يعد قرضا إن كان المقصود التوفية بمثلها من جنسه: فالدافع مقرض والآخذ مقترض من المصرف والدفع إيجاب، والأخذ مع ما بعده قبول، والمال المدفوع هو محل العقد، وكذلك المثل الذي يلتزم به المقترض معطي الصك فإنه العوض. فهذا القرض المستوفي لمقوماته عقد صحيح جائز شرعا حيث خلا من الموانع الشرعية. وما يتخيل مانعا وهو العمولة سيأتي الكلام عليه. وأما إن كان المقصود التوفية بنقد من جنس آخر فهو صرف، ومن شرائط صحة الصرف التقابض ولا تقابض في هذا الصرف، فيلتحق بالربا لعدم التقابض، هذا إذا اعتبرنا الأوراق النقدية نقودا وضعية. وأما إذا اعتبرت سندات على الجهة التي أصدرتها بالقيمة المذكورة فيها من الذهب، فإن معاملة التحويل المذكورة بين جنس منه وجنس آخر تعتبر بيع دين بدين دون قبض أصلا في مجلس العقد؛ لأن ما تم تسليمه من أحد الجانبين هو سند (صك) بمبلغه، وليس نقدا، فهل من حل؟ فنقول جوابا عن ذلك: 1 - إننا نعتبر الأوراق النقدية المذكورة من قبيل النقود الوضعية لا من قبيل

الأسناد المعترف فيها باستحقاق قيمتها على الجهة التي أصدرتها من دولة أو مصرف إصدار، وإن كانت هذه الصفة الأخيرة هي أصلها ومنطلق فكرة إحلال الأوراق النقدية المعروفة بين الناس باسم (بنكنوت) محل النقود الذهبية والفضية في التداول أخذا وعطاء ووفاء؛ ذلك لأن صفة السندية فيها قد تنوسيت بين الناس في عرفهم العام، وأصبحوا لا يرون في هذه الأوراق إلا نقودا مكفولة حلت محل الذهب في التداول تماما، وانقطع نظر الناس إلى صفة السندية في أصلها انقطاعا مطلقا، تلك الصفة التي كانت في الأصل حين ابتكار هذه الأوراق، لإحداث الثقة بها بين الناس؛ لينتقلوا في التعامل عن الذهب إليها حين يعلمون أن لها تغطية ذهبية في مركز الإصدار، وأنها سند على ذلك المركز بقيمتها مستحق لحامله يستطيع قبضه ذهبا متى شاء. هذا أصلها، أما بعد أن ألفها الناس وسالت في الأسواق تداولا ووفاء من الدولة وعليها بين الناس، ولمس المتعاملون بها مزيتها في الخفة وسهولة النقل، فقد تنوسي - كما ذكرنا - فيها هذا الأصل السندي واكتسبت في نظر الجميع واعتبارهم وعرفهم صفة النقد المعدني وسيولته بلا فرق. فوجب لذلك اعتبارها بمثابة الفلوس الرائجة من المعادن غير الذهب والفضة، تلك الفلوس التي اكتسبت صفة النقدية بالوضع والعرف والاصطلاح، حتى إنها وإن لم تكن ذهبا أو فضة، لتعتبر بحسب القيمة التي لها بمثابة أجزاء للوحدة النقدية الذهبية التي تسمى: دينارا، أو ليرة، أو جنيها ذهبيا، بحسب اختلاف التسمية العرفية بين البلاد للوحدة من النقود المسكوكة الذهبية. هذا حال الفلوس الرائجة من المعادن المختلفة

غير الذهب والفضة بالنظر الشرعي، وهو الصفة التي يجب إعطاؤها في نظرنا للأوراق النقدية (البنكنوت) . فتبديل جنس منها، كالدينار الكويتي الورقي أو الليرة السورية أو اللبنانية مثلا بجنس آخر الجنيه المصري أو الاسترليني أو الدولار الأمريكي مثلا، يعتبر مصارفة كالمصارفة بين الذهب والفضة والفلوس المعدنية الرائجة على سواء. والقاعدة الفقهية في هذه المصارفة: أنه عند اختلاف الجنس يجوز التفاضل في المقدار بين العوضين، ولكن يجب التقابض في المجلس من الجانبين، منعا للربا المنصوص عليه في الحديث النبوي. وبهذا التخريج يستبعد اعتبار عملية التحويل المصرفي بين جنسين من هذه الأوراق من قبيل بيع الدين بالدين، وإنما هي مبادلة بين نقود ونقود فيها تحويل وصرف في وقت واحد. 2 - بناء على ما سبق نقول: إن اعتبار الأوراق النقدية كما ذكر (نقودا وضعية اصطلاحية) يقتضي في التحويل من جنس إلى جنس آخر منها أن يتم تقابض العوضين في مجلس التحويل، نظرا لأن هذا التحويل بين جنسين من هذه النقود يتضمن مصارفة، والصرف يشترط لصحته التقابض، وهذا يقتضي أن يدفع طالب التحويل إلى المصرف الأوراق النقدية التي يحملها، وأن يصرفها بالأوراق النقدية من الجنس الآخر المطلوب، ويقبضها بالفعل من المصرف، ثم يسلمها إليه قرضا ليوفيه في البلد الآخر من هذا الجنس الثاني، أي: يجب حينئذ فك عملية التحويل بين جنسين مختلفين من هذه الأوراق إلى عمليتين: مصارفة أولا يقع فيها التقابض، وسفتجة ثانيا يدفع فيها مبلغ من جنس، ويستوفي نظيره من

الجنس نفسه في البلد الآخر. هذا ما يستوجبه في الأصل عنصر المصارفة في عملية التحويل المصرفي بين جنسين، ولكن هذه التجزئة العملية لا تقع فعلا بين طالب التحويل والمصرف الوسيط، وإنما يدفع طالب التحويل إلى المصرف المبلغ المطلوب تحويله من نقود البلد الذي هو فيه. فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا به مع صك (شيك) يتضمن حوالة على مصرف عميل في البلد الآخر بمبلغ يعادل هذا المبلغ من نقود البلد المطلوب التحويل إليه، فيرسل طالب التحويل هذا الشيك إلى الشخص المحول باسمه (والذي حرر الشيك لأمره) ليقبضه هناك من المصرف المحول عليه. فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا، وأنها محمية في قوانين جميع الدول - من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا - إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس، أي: إن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه، فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض.

ثالثا: إعطاء المصرف لطالب التحويل صكا (شيكا) بالمبلغ المطلوب: فهذا الإعطاء إما أن يكون مسبوقا بإعطاء النقود أو غير مسبوق كما تقدم في الخطوة الثانية. وأيا ما كان فهو من تتمة قبول التحويل الذي هو عملية مركبة، لكن لو لاحظناه على انفراد لكان له وصف شرعي يختلف بحسب سبقه بدفع النقود وعدم سبقه بذلك: أ- فإن كان مسبوقا بإعطاء النقود التي اعتبرت مقترضة احتمل كونه حوالة أو وكالة: وتصوير الحوالة أن يقال: إن المصرف الذي أصبح مدينا بدين القرض قد أحال دائنه- الذي أعطى النقود وأصبح مقرضا- على المصرف الآخر ليدفع الدين الذي هو بدل القرض إلى ذلك الدائن أو إلى الشخص الذي عينه وكتب اسمه في الصك. وتصوير الوكالة أن يقال: إن المصرف الآخذ قد وكل المصرف الثاني في دفع المبلغ المذكور في الصك إلى من ذكر اسمه فيه، سواء أكان هو الطالب أم الشخص الآخر الذي عينه. وهذا التوكيل مصرح في الصك بما يدل عليه، وإنما سلم هذا الصك لطالب التحويل تمكينا له من استيفاء حقه. وإن اعتبار ذلك وكالة بهذا التصوير الثاني هو الأقرب، وعليه يكون وكالة جائزة شرعا، وتكون عملية التحويل مركبة من قرض ووكالة إذا استوفى المحول بنفسه، أو من قرض ووكالتين إذا كان المستوفي هو

الشخص الآخر الذي عينه المحول فهو وكيله في الاستيفاء. وإنما قلنا: إن تقدير الوكالة هنا أقرب من تقدير الحوالة، لأن الحوالة الشرعية ثمرتها براءة ذمة المحيل من الدين، وليست للتحويل المصرفي هذه الثمرة؛ لأن المصرف الآخذ يبقى مدينا بدين القرض ولا يبرأ منه إلا بتوفية المصرف الآخر. يضاف إلى ذلك أن المصرف الثاني قد يكون غير مدين للمصرف الأول، فلا يصح أن يكون محالا عليه شرعا عند الجمهور (إلا على أساس الحوالة المطلقة عند الحنفية ومن معهم) وإن الوكالة خالية من هذين الإشكالين، فالتخريج عليها يكون أولى وأرجح غير أنه قد يقال: إن الوكالة يجوز فيها رجوع الموكل ورجوع الوكيل، وهذان الأمران ليسا من صفات التحويل المصرفي. وجوابا على هذا الإيراد نقول: إن الوكالة هنا ليست عقدا منفردا معقودا بصورة مقصودة مباشرة، وإنما حللنا إليها عقد التحويل الذي هو عقد مركب من إقراض وشرط، وهذا الشرط ينحل إلى وكالة فهي وكالة مشروطة من جانب طالب التحويل، فتكون وكالة تعلق بها حق الغير فلا يجوز رجوع الموكل فيها ولا الوكيل بعد القبول. ومن جهة أخرى يلحظ أيضا أن المصرف قد استوفى عمولة على هذه العملية فهي وكالة بأجر، فلا يجوز الرجوع فيها. ب- وإن لم يكن إعطاء الصك مسبوقا بدفع المبلغ المطلوب تحويله فلذلك حالتان: الحالة الأولى: أن يكون للطالب في المصرف حساب جار دائن.

1 - فإن كان المطلوب تحويل النقود إلى نقود من جنسها، كدنانير كويتية إلى دنانير كويتية. فحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا من المصرف للطالب بقبض المبلغ في الصك، ليستوفيه من الدين الذي له على المصرف وقد استغنى عن تقدير القرض؛ لأن الدين السابق قام مقامه. 2 - وإن كان المطلوب التحويل إلى نقود من غير جنسها، كدنانير كويتية إلى ليرات لبنانية أو غيرها كان طلب التحويل إيجاب مصارفة بين بعض النقود التي للطالب في حسابه الدائن لدى المصرف والمبلغ المطلوب من النقود الأخرى، وكان تسليم الصك (الشيك) للطالب قبولا للمصارفة وتوكيلا من المصرف بالقبض قام مقام التقابض الواجب شرعا في مجلس عقد الصرف؛ لأن هذا الصك (الشيك) عرفا في حكم النقد. الحالة الثانية: ألا يكون للطالب في المصرف حساب دائن: فإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من جنسها كان الطلب التماسا للتوكيل في القرض، كأنه يقول للمصرف: ألتمس منك أن توكل المصرف الثاني في دفع مبلغ كذا إلي أو إلى فلان ليحتسب قرضا لك علي. وحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا للمصرف الثاني أن يدفع للشخص المعين في الصك المبلغ المبين مقداره فيه، فإذا قام المصرف الثاني بالدفع إلى هذا الشخص صار هذا المصرف الثاني دائنا للمصرف الأول بالمبلغ ما لم يكن له- أي: للمصرف الأول- عنده حساب دائن، ويصير المصرف الأول دائنا لطالب التحويل ما لم يكن قد قام بدفع المبلغ إليه قبل قيام المصرف الآخر بدفع ما في الصك.

وإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من غير جنسها- والمفروض أن طالب التحويل ليس له في المصرف حساب دائن، ولم يدفع النقود في المجلس- فحينئذ يعد طلب التحويل التماسا للتوكيل بالقرض (كما سبق بيانه) أي: أن يقوم المصرف الأول بتوكيل المصرف الثاني في البلد الآخر بأن يدفع إلى الطالب (أو إلى من يعينه) المبلغ المطلوب من نقود ذلك البلد الآخر، ليحتسب دينا على الطالب، ويعتبر تسليم الصك إلى الطالب قبولا وتنفيذا للتوكيل بالإقراض، فيصبح طالب التحويل مدينا للمصرف الأول بمبلغ الصك من نقود ذلك البلد متى تم قبضه هناك، ثم حين يوفي للمصرف قيمته من نقود الجنس الآخر (النقود المحلية) يعتبر ذلك الوفاء مصارفة بين ما للمصرف في ذمته من النقود الأجنبية وما يوفيه الآن من النقود المحلية. ويتحقق بذلك شرط التقابض في بدلي الصرف؛ لأن أحدهما في الذمة مقبوض، والآخر يدفع الآن في مجلس الصرف. الفرق الرابع والأخير بين السفتجة القديمة والتحويل المصرفي اليوم: وهو أن المصرف يأخذ عمولة من طالب التحويل مع المبلغ المطلوب تحويله ولا يوجد هذا في عملية السفتجة القديمة التي تكلم عنها الفقهاء. فنقول في هذا الفرق: إن في هذه العمولة إشكالا بحسب الظاهر، لا سيما إذا قلنا: إن العملية من قبيل القرض، وقد نص بعض الفقهاء على أنه لا يجوز في القرض اشتراط يجر نفعا للمقترض، كما لا يجوز اشتراط يجر نفعا للمقرض. لكن شرط جر النفع للمقرض يعتبر ربا، وشرط جر النفع للمقترض يعتبر

زيادة إرفاق من المقرض للمقترض، فيكون وعدا حسنا " ولا يلزم تنفيذه اكتفاء بأصل الإرفاق. على أن بعض الحنابلة (¬1) أجازوا في القرض اشتراط دفع المقترض أقل مما أخذ كما لو قال: أقرضك مائة دينار على أن تردها إلي تسعة وتسعين، فيجوز ذلك؛ لأنه زيادة إرفاق بالمقترض، وقد التزمه المقرض فيلزمه، وليس للإرفاق حد يجب الوقوف عنده، ولا سيما أن هذا الشرط مضاد للربا، ففي التزامه تأكيد التبري من الربا. فهذا القول عند الحنابلة جيد جدا، ويسعف في تخريج العمولة عليه. ثم إن بين المعاملات التي يقوم بها الأفراد والمعاملات التي تقوم بها المصارف فرقا شاسعا، فالمقترض في السفتجة القديمة لا يقوم بعمل للمقرض ولا يتحمل مئونة؛ لأنه إن كان مسافرا فهو مسافر لحاجة نفسه، وغالبا ما يتجر في بلده أو في طريقه أو في البلد الذي يصل إليه، وقد أصبح المال الذي اقترضه ملكا له، فأرباحه كلها تخصه، وما صنع شيئا للمقرض سوى كتابته الصك، ثم توفية الدين له أو لصديقه مثلا. أما المصرف الذي اعتبر مقترضا في عملية التحويل فيختلف عن المقترض في السفتجة، فهو شخصية اعتبارية تجمع موظفين وعمالا يتقاضون رواتب شهرية غير مرتبطة بالعمل قلة وكثرة، ويتخذ مقرا مجهزا بأثاث وأدوات وآلات كثيرة لاستقبال العملاء وقضاء حاجاتهم. ثم إن العملية ليست كتابة ورقة فحسب وإنما هي إجراءات كثيرة، ذات كلفة ¬

_ (¬1) [الإنصاف] ، (5\ 133) .

مالية، فلو لم يأخذ عمولة لما استطاع تغطية النفقات الطائلة التي ينفقها، فاشتراط العمولة محقق للعدالة ومتفق مع أصل التشريع الإسلامي، وليس هناك نص أو إجماع على منع مثل ذلك.

النتيجة

النتيجة: والنتيجة التي تستخلص من كل ما سبق من كلام عن التحويلات المصرفية اليوم هي: أن التحويل المصرفي أو البريدي عملية مركبة من معاملتين أو أكثر، وهو عقد حديث، بمعنى: أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه، فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ودراستها للحكم فيها. اهـ (¬1) . ¬

_ (¬1) [الموسوعة الفقهية الكويتية] ، (الحوالة) ص (229- 235) .

عمليات التظهير

عمليات التظهير: الواقع أن للأوراق التجارية وظيفة أهلتها لأن تعطي التجارة الدولية قدرا ذا أثر محسوس في تيسير وتسهيل مشاكل التجارة وقدرتها على سرعة التحرك والمرونة وفق متطلبات الحياة، فهي أداة للتداول مدة ما بين إنشائها وموعد وفائها. ويقول الدكتور أمين بدر في معرض تعداده القيم الذاتية للأوراق التجارية وتفضيلها على الحوالات المدنية ما نصه: ونظرا لغلبة التداول على الورقة التجارية بدت الحوالة المدنية أسلوبا غير ملائم لانتقال الحق المصرفي، إذ إن الحوالة تتطلب لنفاذها في حق

المدين والغير أوضاعا تنوء بها الحياة التجارية السريعة، وهي بعد ذلك لا تقدم للحامل حماية كافية، إذ تحمله خطر إعسار المدين، إذ أن المحيل مسئول فقط عن وجود الحق لا عن الوفاء به، وتجعل الحامل عرضة لكل أنواع المفاجآت. إذ يستطيع المدين الاحتجاج عليه بكل الدفوع التي يملك توجيهها للمحيل، ولهذه الأسباب ابتدعت البيئة التجارية طرقا أخرى أبسط وأكمل لنقل الحقوق الثابتة في الأوراق التجارية، وهذه الطرق هي التظهير (التجيير أو التدوير) بالنسبة للورقة الإذنية، أي: الواجبة الدفع لإذن شخص معين والمناولة أو التسليم للورقة التي لحاملها. اهـ (¬1) وللتظهير أكثر من دافع فقد يكون من أجل نقل ملكية محتوى الورقة التجارية إلى المظهر إليه، وقد يكون الغرض منه توكيل المظهر إليه بقبضه قيمتها أو رهنه إياها. تعريف التظهير: التظهير: بيان يكتبه حامل الورقة التجارية على ظهرها أو على وصلة مرفقة بها لينقل بمقتضاه بعض أو كل الحقوق التي ترتبها له الورقة إلى شخص آخر يسمى المظهر له. وينقسم التظهير ثلاثة أقسام: تظهير تام، تظهير توكيلي، تظهير تأميني. أما التظهير التام: فهو أكثر التظهيرات شيوعا، ويسمى التظهير الناقل للملكية، وهو تظهير يرتب نقل ملكية حامل الورقة وكامل حقوقها الثابتة له ¬

_ (¬1) [لالتزام المصرفي] ، ص (55) .

إلى المظهر إليه. وله شروط أهمها: أن يكون المظهر ممن هو أهل للالتزام بالورقة التجارية، وأن يكون له صفة معتبرة فيها، وأن لا يكون التظهير معلقا على شرط، وأن يكون كتابة على ذات الورقة نفسها أو على وصلة مرفقة بها، وأن يذكر تاريخ التظهير وبيان وصول القيمة واسم المظهر إليه مصحوبا بعبارة؟ لأمره أو لإذنه، وتوقيع المظهر. وهناك شرط اشترطه بعضهم وهو أن يكون التظهير سابقا لميعاد الاستحقاق، ووجه أصحاب هذا الرأي شرطهم بأن الورقة التجارية أداة معدة للتداول لفترة محددة بما بين إنشائها وميعاد وفائها، أما بعد حلول أجل وفائها فقد انتهت حياتها كورقة تجارية قابلة للتداول، وأصبحت مجرد سند بدين واجب الوفاء، وقد كان هذا الشرط موضع نقاش في مؤتمر جنيف، انتهى الأمر به إلى النص في قانونه الموحد بعدم اشتراط ذلك الشرط، وقد أخذ بعدم اعتباره مجموعة من النظم العربية، منها سوريا، والعراق، ولبنان، وليبيا، ومشروع الجامعة العربية. وقد وجه الدكتور أمين بدر اشتراط أن يكون التظهير على ذات الورقة التجارية أو على وصلة منها بأن الورقة التجارية يجب أن تعلن عن نفسها مدى ما ترتبه من حقوق وما تفرضه من التزامات حتى يكون المتعاملون بها على بينة من أمرهم فلا يؤخذون بالمفاجأة.

آثار التظهير التام

آثار التظهير التام: يرتب التظهير التام آثارا حقوقية تتلخص فيما يلي: 1 - نقل ملكية الورقة التجارية إلى المظهر إليه. 2 - اعتبار المظهر ضامنا وفاء الورقة التجارية مع الساحب أو المحرر ومع سائر الموقعين فيها، وإن كانت الورقة التجارية موضوع التظهير كمبيالة ضمن المظهر قبولها من قبل المسحوب عليه، فضلا عن ضمانه سدادها في ميعاد الاستحقاق. 3 - إذا كان المظهر إليه حسن النية فلا يجوز الاحتجاج عليه بأي دفع يمكن للمدين توجيهه إلى كل متعامل بالورقة التجارية، وهذا ما يسمى بالتظهير من الدفوع، والمقصود بحسن النية من لم يكن متواطأ مع المظهر وعالما بالدفوع التي يملك المدين توجيهها للمظهر أو غيره لقصد الإضرار بالمدين. وقد وجه الدكتور أمين بدر فكرة تظهير المظهر إليه من الدفوع فقال: وبيان ذلك: أن هذه الأوراق معدة للتداول السريع بين أشخاص متعددين وأماكن مختلفة، فلو جاز للمدين والحال هذه أن يفاجئ الحامل بما يجهله من الدفوع أو أوجه الدفاع المستمدة من علاقة هذا المدين بأحد المتعاملين الآخرين لتعين على كل راغب في تملك الورقة التجارية أن يستقصي مقدما العلاقات القانونية التي تربط المدين بالمتعاملين السابقين، وهو بحث مضن يكلفه وقتا ويقتضيه جهدا تنوء بهما الحياة التجارية السريعة، وهو بعد ذلك بحث غير مأمون العاقبة، ومن شأنه ترغيب الغير

عن التعامل بالورقة التجارية وتعطيل وظائفها الاقتصادية. اهـ (¬1) . 4 - تملك الحامل مقابل الوفاء الموجود لدى المسحوب عليه بحيث ينفرد به دون سائر الغرماء إذا أفلس الساحب. والتظهير التوكيلي تظهير يقصد به المظهر أن يكون المظهر إليه وكيلا له في تحصيل قيمة الورقة المظهرة، ويشترط له النص صراحة على أن التظهير للتحصيل أو التوكيل أو للقبض أو ما يدل على ذلك، حيث نصت المادة (18) من قانون جنيف الموحد على أنه إذا اشتمل التظهير على عبارة (القيمة للتحصيل) أو (القيمة للقبض) أو (بالتوكيل) أو أي بيان آخر يفيد التوكيل، فللحامل مباشرة جميع الحقوق المترتبة على الكمبيالة، إنما لا يجوز له تظهيرها إلا على سبيل التوكيل. اهـ. أما إذا خلا التظهير مما يدل على أنه للتوكيل، فإن قانون جنيف الموحد وكذلك القوانين الناقلة عنه تعتبر تظهيرا تاما ناقلا لكامل الملكية. ¬

_ (¬1) [الالتزام المصرفي] ، ص (61) .

آثار التظهير التوكيلي

آثار التظهير التوكيلي: حيث إن التظهير التوكيلي تعتبر حقيقته وكالة فإن الآثار المترتبة على التظهير التام لا تثبت للتظهير التوكيلي، وإنما يثبت له جميع الحقوق والأحكام المتعلقة بالوكالة، فيلتزم المظهر إليه برعاية مصالح المظهر فيما يتعلق باستيفاء قيمة الورقة في ميعاد استحقاقها، فإن اقتنع المدين بها عن

الوفاء كان عليه واجب المطالبة بذلك، كما أن للمدين حق الاحتجاج على المظهر بالدفوع التي يملك توجيهها إلى المظهر إليه؟ لكونه وكيلا له في التحصيل، ولا يجوز للمظهر إليه تظهيرا توكيليا أن يظهر الورقة التجارية إلا بمثل ذلك.

التظهير التأميني

التظهير التأميني: قد لا يكون للمظهر بتظهيره الورقة التجارية قصد في نقل ملكيتها إلى المظهر إليه ولا توكيله في تحصيل قيمتها، وإنما يقصد بذلك رهنها للمظهر إليه ضمانا لحق عليه قبل المظهر إليه، ويسميه بعضهم الرهن التوثيقي. ويشترط للتظهير التأميني ما يشترط للتظهير التام، وأن يذكر في التظهير أن القيمة رهن أو ضمان أو أي عبارة أخرى تدل على ذلك، وإلى هذا تشير المادة التاسعة من قانون جنيف الموحد في أنه إذا اشتمل التظهير على عبارة (القيمة ضمان) أو (القيمة رهن) أو أي بيان آخر يفيد الرهن جاز لحامل الكمبيالة مباشرة جميع الحقوق المترتبة عليها. اهـ. وكذلك نصت المادة السادسة والثمانون من قانون التجارة المصري في فقرتها الثانية على أن (الأوراق المتداول بيعها يثبت رهنها أيضا بتحويلها تحويلا مستوفيا للشرائط المقررة قانونا ومذكورا فيه أن تلك الأوراق سلمت بصفة رهن) اهـ.

آثار التظهير التأميني

آثار التظهير التأميني: نظرا إلى أن التظهير التأميني يشترط له ما يشترط للتظهير الكامل - ويقصد به ضمان حق المظهر إليه قبل المظهر- فقد أخذ آثارا خليطة من أحكام الرهن والملك المطلق، فبالنسبة لآثار التظهير التأميني من حيث اعتباره رهنا فإن المظهر إليه ملتزم بحقوق ومستلزمات المطالبة بسدادها إذا حل ميعاد استحقاقها، فإن قبضها بعد ذلك وبعد حلول أجل حقه أخذ من قيمتها ما يستحقه ورد الباقي إلى المظهر، وإن قبضها قبل حلول أجل حقه استبقاها لديه حتى يحل أجل حقه، واستوفى حقه منها، وفي هذه الفترة يلتزم بالفوائد الربوية للمظهر مقابل حيازته قيمة الورقة. وقد اختلف رجال الاقتصاد والقانون: هل يحق للمظهر إليه نقل ملكية الورقة التجارية في سبيل تحصيل قيمتها؟ فذهب بعضهم إلى أن طبيعة التظهير التأميني تمنع ذلك، وذهب البعض الآخر إلى جوازه؛ لأن مصلحة الطرفين قد تقتضي ذلك على أن تظهيره لا يتجاوز سلطته في ذلك، بمعنى أن التظهير مهما تعدد فهو لا يعدو أن يكون تظهيرا توكيليا، وقد اختار قانون جنيف الموحد الرأي القائل بجواز ذلك، فقد نصت المادة 19: على أن للمظهر إليه تأمينا أن يباشر جميع الحقوق على الورقة- ثم أضافت: فإن ظهرها عد التظهير حاصلا على وجه التوكيل. اهـ. وأما بالنسبة لآثار التظهير الكامل الثابتة للمظهر إليه تظهيرا تأمينيا فتتضح من أنه يعتبر مالكا للورقة التجارية بحيث يستفيد من قاعدة التظهير من الدفوع، بحيث لا يجوز للمدين بالورقة أن يحتج عليه بأي دفع يملك

توجيهه للمظهر.

الوصف الإسلامي للتظهير

الوصف الإسلامي للتظهير: الواقع أن الموسوعة الفقهية الكويتية- قسم الحوالة- عالجت موضوع التظهير وقربت بينه وبين مواضيعه التي بحثها الفقهاء المسلمون في الحوالة والوكالة والرهن. ونظرا لقيمة البحث فقد استحسنت اللجنة نقله بكامله وفيما يلي نصه: الوصف الفقهي الإسلامي للتظهير: يلزم التفريق هنا بين حالتين: 1 - حالة الورقة التجارية المحررة للأمر أو الإذن إذا فقدت صفتها التجارية وصارت سندا عاديا، أي: مجرد وثيقة بدين لحاملها على ساحبها أو محررها، فأصبحت لا تقبل التظهير قانونا، ففي هذه الحالة يكون تظهيرها لشخص آخر حوالة عادية بالمعنى الشرعي، نظرا إلى

أن العبرة في العقود بما يدل على معانيها دون تقيد بعبارات خاصة، هذا إذا كان المظهر إليه دائنا للمظهر، فإن لم يكن دائنا فالتظهير توكيل له بتقاضي الدين على أن يتملكه قرضا. 2 - حالة الورقة التجارية المحتفظة بصفتها التجارية، فإن تظهيرها لشخص آخر يكون حوالة بالمعنى الشرعي، ولو شرط المظهر انتفاء ضمانه للدين المحال به أو لم تتوافر فيه شرائط التظهير قانونا. ذلك أن المحيل غير ضامن أصلا للوفاء بهذا الدين شرعا في معظم مذاهب الفقه الإسلامي، وأن ضمانه تلقائي لهذا الوفاء في مذاهب أخرى إنما هو عند التوي، أي: العجز عن وصول المحال إلى حقه، إما مطلقا، وإما بأسباب معينة، وليس هو بكل حال ضمانا على هذا النحو المطلق المقرر للتظهير القانوني في سند الأمر التجاري، بحيث يكون للحامل الرجوع على المظهر لمجرد عدم الوفاء في ميعاد الاستحقاق، دون أن يكلفه ذلك أكثر من إجراءات شكلية بسيطة، وقد ينص في الورقة التجارية نفسها على شرط الرجوع دون حاجة إلى تلك الإجراءات الشكلية فيعفى حينئذ منها (هذا كله إذا كان المظهر إليه دائنا، وإلا كان التظهير توكيلا كما مر قريبا. أما مع التصريح بالضمان فإن المعاملة تكون كفالة، وأن اشتراط تقديم الكفيل- المفهوم عرفا في هذا النوع من التعامل- مستقيم على أصول المالكية، لكن عندهم لا يكون الرجوع على الأصيل- مع هذا الشرط- إلا بعد تعذر الاستيفاء من الكفيل، لا بمجرد عدم الوفاء في ميعاد الاستحقاق إلا أن يعتبر ذلك أيضا كالمتشارط عليه، وهو مقتضى الأوضاع المعمول

بها في هذه المعاملة، فالعرف مغن حتى عن التصريح بالضمان. ومن الواضح - وفق أصول فقهائنا- أن التظهير حوالة صحيحة بالقيود التي أسلفناها، ولكن اشتراط قبول المحرر (الموقع) في سند الأمر، أو المسحوب عليه في السفتجة والشيك يبدو محل نظر واختلاف، فمن اشترط قبول المحال عليه- كالحنفية - يجعل رفض المحرر أو المسحوب عليه قبول الورقة التجارية حائلا دون صحة الحوالة نفسها لا دون مسئوليات الالتزام المصرفي فحسب، ومن لم يشترط قبوله- كالشافعية - يحكم دونه بصحة الحوالة ولزومها ولا مزيد. أما تتابع التظهيرات فمن قبيل تراكب الحوالات أو الوكالات أو الكفالات الذي هو من مسلمات الفقه الإسلامي، وفقهاؤنا يوافقون على تقديم الحامل للورقة المظهرة إليه (المحال) على سائر الغرماء إلا إذا كان الدين في ذمة المحال عليه قد سقط تعلق الحوالة به، فإن الحامل (المحال) حينئذ يكون أسوة الغرماء، وهذا منصوص عليه- من بعض وجهات النظر- في حال موت المحيل حوالة مقيدة قبل الوفاء (ر: ف\ 274) ، أما التضامن بين الموقعين على الورقة التجارية فما دام ذلك قد أصبح عرفا سائدا فإن كل تظهير يكون ضمانا للمظهر إليه، وفي الوقت نفسه توكيلا له من المظهر في أن يضمن الدين عنه للمظهر إليه التالي بحيث يكون كل مظهر ضامنا أصيلا ووكيلا في الضمان عن جميع الموقعين قبله على الورقة، وهكذا توقيع الساحب، هذا على رأي من لا يصححون الضمان قبل الوجوب وإلا فالمسألة أوضح من أن يتكلف لها مثل هذا. هذا وقد يلاحظ أن توقيت الرجوع على الضمان لا يتفق مع الأصول

الفقهية في الحوالة، لكن يجوز للحاكم التوقيت للمصلحة العامة. وأما التظهير من الدفوع فقد مثله بعضهم قائلا: وعلى ذلك إذا كان التزام الساحب تجاه المستفيد الأول قد نشأ باطلا أو قد انقضى ثم قام المستفيد بتظهير الشيك (أو الورقة التجارية أيا كانت) تظهيرا تاما إلى الحامل حسن النية وقام هذا بمطالبة الساحب فإنه يمتنع على الساحب أن يحاج الحامل ببطلان التزامه، ولا ينازع أكثر فقهائنا في عدم صحة الدفع بانقضاء الالتزام مع تعلق حق ثالث، ولكنهم يصححون الدفع بأن الالتزام قد نشأ باطلا؛ لأن الدين هنا لم يكن قائما فقط بخلافه في الحالة الأولى، ومع صحة هذا الدفع شرعا في وجه الحامل حسن النية يجوز للحاكم أن يمنع سماع الدفع في حق الحامل مطلقا إذا كان في هذا المنع مصلحة عامة، وقد قالوا: يجوز للحاكم أن يقيد القضاء ويعلقه بالشرط والإضافة والاستثناء، ولا غرو فإنهم في التشريع التجاري المصري جعلوا للمدين التمسك بعدة دفوع كالتزوير وكشرط عدم الضمان في نص الورقة وكعدم استيفاء البيانات اللازمة لاعتبارها ورقة تجارية، وكالمقاصة بين ديني المدين والحامل، وكلها دفوع معتبرة شرعا ولفقهاء المذاهب نصوص تدعمها عدا الدفع باستيفاء البيانات اللازمة لتجارية الورقة، وإن

كان لا ينوب عمن له الدفع إصالة غيره من سائر الموقعين إلا في حالة غيبة أو بطريق من طرق النيابة الشرعية. على أن استثناء الدفع باستيفاء هذه البيانات إنما هو بالنظر لأصل الشرع؛ لأن هذه البيانات اللازمة قانونا هي ترتيبات زمنية جديدة ليس لها ذكر في نصوص الشريعة أو الفقه، ولكن لا يخفى أنه يجوز للحاكم أن يشترط في سماع الدعوى بصحة العقود تقييد هذه العقود بالكتابة على شكل خاص، ويترتب عليه قبول الدفع بعدم استيفاء البيانات اللازمة لصحة الورقة. لكن هذا لا يجيز للإنسان فيما بينه وبين الله تعالى أن يأكل حق صاحبه الثابت، وإن لم يحكم في القضاء له به، وبالجملة فالحوالة بتظهير الورقة التجارية هي كأية حوالة أخرى، وهذه الدفوع فيها هي دفوع مقبولة في النظر الإسلامي: فمبدأ التظهير هنا غير وارد بالنظر لأصل الشرع، وإن كان مقبولا بالنظر إلى تقييد ولي الأمر. ثم إن المواضع التي قلنا فيها: إن التظهير يعتبر حوالة شرعية إنما يكون التظهير فيها كذلك حينما يكون- المسحوب عليه مدينا للساحب، فإن لم يكن مدينا له بالدين الذي تثبته الورقة التجارية (ويتصور هذا في السفتجة والشيك) فإن التظهير لا يمكن اعتباره عقد حوالة إلا عند من لا يشترط مديونية المحال عليه للمحيل من فقهائنا. وقد يكتفى بوجود عين للساحب لدى المسحوب عليه، كالوديعة، إن كان هذا هو الواقع، وكان الوفاء مقيدا بتلك العين (برغم اشتراط القانونيين على الراجح أن يكون دين الورقة التجارية دينا نقديا) - ولكن لا بد عند فقهائنا هؤلاء حينئذ من قبول المحال عليه.

أما عند من يشترطون من الفقهاء مديونية المحال عليه فليس التظهير دون هذه المديونية- إلا تمهيدا لعقد كفالة لا تنعقد إلا بقبول الكفيل وهو المسحوب عليه هنا. اهـ-[الموسوعة الفقهية] ، ص (239- 241) .

تحصيل الأوراق التجارية

تحصيل الأوراق التجارية: الواقع أن للأوراق التجارية أهمية كبرى في سبيل تيسير التجارة والقدرة بها على التحرك والضرب في الأسواق التجارية العالمية بصفقات كبيرة. وبالطبع فإن الافتراض قائم في أن غالب التجار يملكون مجموعة كبيرة من الأوراق التجارية ما بين شيك وسفتجة وسند. ونظرا إلى أن الورقة التجارية لها أحكام تقتضي الاهتمام بها والتقيد بأنظمتها وإلا ترتب على إهمالها ضياع حقوق تتعلق بها ويتضرر التاجر بضياعها. ونظرا إلى أن التاجر بحكم مشاغله في الأسواق التجارية وما يستلزم لذلك من قيود سجلات وخطابات ما بين إنشائية وجوابية واتصالات مباشرة وغير مباشرة فهو يجد نفسه في وقت يلح عليه بالبحث عمن يقوم بتحصيل قيم هذه الأوراق، وحيث إن المصارف محصور نشاطها في العمليات المصرفية لذلك عمد التجار إلى تكليف البنوك التي يتعاملون معها بتحصيل قيم هذه الأوراق لهم عند حلول أجلها بعمولة يجري الاتفاق على تحديدها، فيقوم التاجر بتظهير الورقة التجارية إلى البنك الذي يختاره تظهير توكيليا، ويختلف مقدار العمولة التي طلبها البنك لقاء قيامه بالتحصيل تبعا لاختلاف قيمة الورقة التجارية وأجل وفائها ومحله وغير ذلك من الاعتبارات. ويعتبر رجال المال والاقتصاد التكليف بالتحصيل وكالة ترتب على

طرفيها التزامات وحقوق لأحدهما قبل الآخر. فمتى انعقدت الوكالة بالتحصيل بتظهيرها للبنك تظهيرا توكيليا كان على البنك واجب المطالبة بقيمة الورقة في موعدها المحدد لتسديدها وإخبار عميلة بجميع ما يطرأ على عملية التسديد مما قد يؤثر على حصوله في موعده المحدد، فإن لم يفعل أو حصل منه تساهل في ذلك حتى أضاع حق صاحب الورقة التجارية في الرجوع على ضامني الورقة كان مسئولا عن ذلك بقدر ما يضيع على عميله صاحب الورقة، وما يتحمله من المصاريف في سبيل التداعي والمرافعة. فإذا استحصل البنك قيمة الورقة كان عليه أن يرسل المبلغ المستحصل إلى صاحبه. وعلى مالك الورقة أن يدفع للبنك عمولته التي جرى الاتفاق عليها بينهما مع المصاريف المتعلقة بالتحصيل، وإذا أفلس البنك والورقة التجارية لم تستحصل بعد حيث لا تزال في حوزة البنك، فإن لمالكها حق التقدم بالمطالبة بإعادتها إليه. أما إن كان قد تسلم قيمتها ثم أفلس فتعتبر دينا لمالكها عليه، ويكون صاحب الورقة أسوة الغرماء. وقد يتساهل البنك مع عميله فيسلفه قيمة الورقة قبل استحصاله قيمتها، فإذا أفلس العميل فإن على البنك أن يرد الورقة إلى هيئة التصفية، ويكون دينه أسوة الغرماء، وتفاديا لمثل ذلك فإن للبنك في حال طلب عميله إقراضه القيمة حتى حلول أجل استحقاق الورقة أن يطلب من عميله تظهيره الورقة تظهيرا كاملا، بحيث تنتقل كامل ملكيتها إليه أو أن يظهرها العميل إليه تظهيرا تأمينيا لتكون قيمتها رهنا له في حقه، وفي هذه الأحوال يعتبر حق البنك مقدما على غيره من الغرماء: إما باعتباره مالكا لقيمة الورقة

التجارية أو مرتهنا إياها.

التكييف الفقهي الإسلامي لعمليات التحصيل

التكييف الفقهي الإسلامي لعمليات التحصيل: مر بنا أن من لازم التحصيل أن يقوم مالك الورقة التجارية بتظهيرها للمصرف الذي يكلفه بتحصيلها إذا كانت واجبة الدفع كالشيك أو مؤجلا دفعها إلى وقت معين كالسند والكمبيالة تظهيرا توكيليا، وأنه في حال إفلاس المصرف والورقة التجارية لم تستحصل قيمتها بعد فإن على المصرف أن يعيد الورقة إلى صاحبها، وإذا تسلم البنك قيمتها ثم أفلس اعتبرت القيمة دينا عليه، ويكون مالكها الدائن أسوة الغرماء. كما مر بنا أن رجال المال والاقتصاد لا يختلفون على أنفسهم بأن عملية التحصيل تعتبر عقد وكالة يترتب عليه كل ما تستلزمه الوكالة من حقوق وواجبات. وحيث إن خصائص التحصيل تكاد تجتمع مع خصائص الوكالة، لذلك يمكن القول بأن التكليف بالتحصيل يعتبر وكالة، والعمولة عليه تعتبر أجرة على الوكالة، وفي حال ما إذا كان البنك قد أسلف عميله مالك الورقة التجارية على اعتبار سداد القرض من قيمة الورقة بعد تحصيلها وأن عميله ظهرها له تظهيرا كاملا، فيمكن القول بأن عملية التحصيل في هذه الحال ليست كعملية التحصيل في حال تظهير الورقة تظهيرا توكيليا، وإنما يعتبر التظهير عليها حوالة لها جميع الحقوق الثابتة للتظهيرات الكاملة، ويعتبر المظهر بحكم بقاء مسئوليته عن التسديد ضامنا للبنك تسديد قيمة الورقة من

المسحوبة عليه، وقد سبق إيراد ما ذكرته الموسوعة الفقهية الكويتية من الوصف الفقهي لعمليات التظهير الكامل. أما إن كان التظهير عليها تظهر تأمينيا فلا يختلف الأمر بالنسبة لاعتبار البنك وكيلا لعميله في تحصيل قيمة الورقة التجارية، وتعتبر الورقة رهنا للبنك فيما أسلفه للعميل له حق التقديم على الغرماء في حال الإفلاس بقدر قيمة الورقة، وما زاد عليها كان البنك فيه أسوة الغرماء.

عمليات الخصم

عمليات الخصم: الخصم عملية من العمليات المصرفية له طابع الائتمان من حيث البنك يعجل لعميله مالا حالا في نظير تملكه مالا أكثر منه غير حال ثقة باسترداد ذلك المال المؤجل في وقته المحدد. وللخصم مزايا كثيرة أهمها: تمكن حامل الورقة من قبض قيمتها قبل حلول أجلها، كما أنه يتمكن من استعمالها في تسوية معاملاته التجارية في حين أن البنك يستطيع عن طريق مزاولة عمليات الخصم أن يجتذب مجموعة كبيرة من العملاء يزاول معهم غالب عملياته المصرفية، وقد يجد البنك مصرفا آخر يخصم له ما يخصمه لغيره بأجرة أقل مما أخذها على الغير إلى غير ذلك من فوائد الخصم. وقد اختلف علماء الاقتصاد والتجارة في تعريف الخصم لاختلافهم في ترتيب الآثار المتعلقة به. ولعل أشمل تعريف له ما نقله الدكتور محمد جمال الدين عوض عن الأستاذ فان مال، حيث عرفه بأنه: عقد به يقدم شخص- هو غالبا بنك- نقدا لمالك حق نقدي لم يحل قيمة

هذا الحق بعد خصم مبلغ يعوضه عن حرمانه من نقوده عن المدة الباقية حتى حلول الأجل، على أنه إذا لم يدفع الحق كان على مقدم الورقة أن يرد للبنك المبلغ الذي عجله إليه مضافا إليه المبالغ التي اقتطعت، وأن على الخاصم أن يطالب بوفاء الحق عند حلول أجله. وإلا سقط حقه في الرجوع على مقدم الورقة للخصم إلا إذا أثبت أن عدم وفاء الحق ليس نتيجة تأخره في المطالبة أو أن هذا التأخير ليس منسوبا إليه. اهـ (¬1) . وغني عن البيان أن أهم ما يقصده البنك من عمليات الخصم هي الحصول على أجوره وفوائده. ويذكر الأستاذ علي البارودي: أن أجر البنك يتكون من ثلاثة عناصر: الأول: مقدار الفوائد المستحقة عن قيمة الورقة التجارية في الفترة من ميعاد عملية الخصم وميعاد الاستحقاق، وتسمى هذه الفائدة سعر الخصم ويتراوح بين الصعود والهبوط تبعا للظروف الاقتصادية المختلفة. ولا يجوز على أي حال أن يتجاوز سعر الخصم الحد الأقصى للفائدة الاتفاقية 7%. العنصر الثاني: هو العمولة التي يتقاضاها عن العملية ويقدرها حسب قيمة الكمبيالة المخصوصة والأجل الباقي حتى ميعاد الاستحقاق وقدر المخاطرة التي يتعرض لها البنك. أما العنصر الثالث: فهو مصاريف التحصيل، وتختلف باختلاف مكان الوفاء أو مكان المسحوب عليه. اهـ. (¬2) . ¬

_ (¬1) انظر [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ، ص (468، 469) . (¬2) انظر [العقود وعمليات البنوك التجارية] ، ص (397) .

وقد اختلف علماء الاقتصاد في التكييف القانوني لعملية الخصم: فذهب بعضهم إلى القول بأن الخصم عبارة عن قرض مضمون بقيمة الورقة التجارية. ورد هذا القول بأن التظهير الواجب لعملية الخصم ينبغي أن يكون تظهيرا كاملا ناقلا للملكية، ولو كان على سبيل الضمان لكان التظهير تظهيرا تأمينيا. وذهب البعض الآخر إلى أن عملية الخصم عبارة عن بيع العميل ورقته التجارية بأقل من قيمتها مقابل تعجيل البنك المشتري دفع قيمتها وتظهيرها له تظهيرا كاملا. ولعل هذا الرأي أقرب إلى واقع الأمر، وإلى نحو هذا يشير الأستاذ محمد جمال الدين عوض فيقول: فالخصم أساسا قريب جدا من فكرة الشراء. أي: تبادل قيمتين، فالعميل يتملك النقود والبنك يتملك الورقة، وليس في ذلك خلاف. اهـ (¬1) . وذهب الأستاذان علي البارودي وأدوار عيد إلى القول: بأن عملية الخصم لا تعدو أن تكون تظهيرا ناقلا للملكية بحكم شروطه وآثاره وقواعد قانون الصرف، وأنه لا حاجة إلى بيان سبب التظهير هل هو حوالة أو قرض؛ لأنه يكفي أن يكون السبب موجودا وهو أن القيمة وصلت، وأن تكون بيانات التظهير الناقل للملكية كاملة. ¬

_ (¬1) انظر [عمليات البنوك من الوجهة القانونية] ص (476) .

الوصف الفقهي الإسلامي لعمليات الخصم

الوصف الفقهي الإسلامي لعمليات الخصم: لئن وجد الخلاف في تكييف طبيعة عملية الخصم قانونيا: هل هو قرض أو حوالة بحق أو بيع؟ فإن الجميع متفقون على أن نتيجة الخصم هو تملك الخاصم لكامل قيمة الورقة التجارية بعد تظهيرها له تظهيرا كاملا.

وعلى أي الحال فإن المسحوب عليه لا يخلو إما أن يكون هو القائم بعملية الخصم أو لا، فإن كان هو القائم بعملية الخصم فيمكن القول بأن الخصم يعتبر من قبيل الصلح عن المؤجل ببعضه حالا. وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فذهب بعضهم إلى أن ذلك غير جائز، لأن الصلح في معنى البيع فكأنه باع عشرة بثمانية مثلا، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز (¬1) » متفق عليه. وقال ابن حجر على حديث ابن أبي حدرد في باب الصلح بالدين والعين: قال ابن بطال: اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئا قبل أن يقبضه مكانه. اهـ (¬2) . وذهب بعض أهل العلم: إلى جواز ذلك لما فيه من الإسراع ببراءة الذمة. قال في الاختيارات الفقهية: ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، وهو رواية عن أحمد، وحكي قولا للشافعي. اهـ (¬3) . وسئل الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن الصلح عن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2176، 2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، كتاب البيوع (4581) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) . (¬2) [فتح الباري] ، (5\ 311) . (¬3) [الاختيارات الفقهية] ، ص (134) .

المؤجل ببعضه حالا؟ فأجاب: وأما الصلح عن المؤجل ببعضه حالا فالذي يظهر لي الصحة. وأجاب أيضا: إذا كان لرجل على آخر عشرة أريل مثلا، وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي، ففيه خلاف مشهور بين العلماء، قال في الإنصاف: ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح، هذا هو المذهب، نقله الجماعة عن أحمد، وعليه جماهير الأصحاب، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصح، واختاره الشيخ تقي الدين لبراءة الذمة هنا، وكدين الكتابة جزم به الأصحاب في دين الكتابة، ونقله ابن منصور، انتهى. والذي يترجح عندي هو القول الأخير، وهو الذي اختاره الشيخ تقي الدين قدس الله روحه. اهـ. وسئل بعضهم: عمن له ريالان عند رجل نسيئة وأخذ ريالا ونصفا؟ فأجاب: الأئمة الأربعة لا يجوزونه، وأفتى لنا عيال الشيخ بالجواز، وهو الذي نعمل به الآن. اهـ (¬1) . وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إجابة على سؤال عن ذلك: الصحيح جواز الصلح عن الدين المؤجل ببعضه حالا؛ لأن فيه إسراع براءة الذمة ولا محذور فيه، وقصة بني النضير تدل عليه، وكثيرا ما تدعو الحاجة إليه. اهـ (¬2) . أما إذا كان الخاصم غير المسحوب عليه فلا نعلم خلافا بين أهل العلم ¬

_ (¬1) [الدرر السنية] ، (5\ 138) . (¬2) [الفتاوى السعدية] ، ص (336) .

في منع ذلك واعتباره من صريح الربا، لأنه من قبيل بيع دراهم بدراهم أقل منها، فضلا عن أنه لم يتم التقابض بين طرفي العقد في مجلسه. وللأستاذ محمد باقر الصدر رأي في وصف عملية الخصم نستحسن إيراده إكمالا للفائدة، فهو يقول: وواضح أن عملية خصم الورقة التجارية هي في الواقع تقديم قرض من البنك إلى المستفيد لتلك الكمبيالة مثلا مع تحويل المستفيد البنك الدائن على محرر الكمبيالة، وهذا التحويل من الحوالة على مدين. وهناك عنصر ثالث إلى جانب القرض والتحويل، وهو تعهد المستفيد الذي خصم الورقة لدى البنك بوفاء محرر الورقة عند حلول أجلها، فبحكم القرض يصبح المستفيد مالكا للمبلغ الذي خصم البنك به الكمبيالة، وبحكم الحوالة يصبح البنك دائنا لمحرر تلك الكمبيالة، وبحكم تعهد المستفيد بالوفاء يحق للبنك أن يطالب بتسديد قيمة الكمبيالة إذا تخلف محررها عن ذلك عند حلول موعدها، وبحكم كون المحرر مدينا للبنك نتيجة للتحويل يتقاضى البنك منه فوائد على تأخير الدفع عن موعده المحدد، وعلى هذا الأساس يصبح ما يقتطعه البنك الخاصم للكمبيالة من قيمة الكمبيالة لقاء الأجل الباقي لموعد حلول الدفع ممثلا للفائدة التي يتقاضاها على تقديم القرض إلى المستفيد الطالب للخصم وهو محرم؛ لأنه ربا. وأما ما يقتطعه كعمولة لقاء الخدمة أو لقاء تحصيل المبلغ إذا كان يدفع في مكان آخر فهو جائز؛ لأن العمولة لقاء الخدمة هي أجرة كتابة الدين التي تقدم أن بإمكان البنك أن يتقاضاها في كل قرض يقدمه، وأما العمولة لقاء تحصيل المبلغ في مكان آخر فهو من حق البنك أيضا. - إلى أن قال-: وهناك اتجاه فقهي

إلى تكييف عملية خصم الكمبيالة على أساس البيع، وذلك بافتراض أن المستفيد الذي تقدم إلى البنك طالبا خصم الورقة يبيع الدين الذي تمثله الورقة وهو مثلا مائة دينار- بخمسة وتسعين دينارا حاضرة، فيملك البنك بموجب هذا البيع الدين الذي كان المستفيد يملكه في ذمة محرر الكمبيالة لقاء الثمن الذي يدفعه فعلا إليه، فيكون من بيع الدين بأقل منه. . . إلى آخر ما ذكره (¬1) . وبعد فإن المسائل الجديرة من المجلس بإبداء رأيه الشرعي نحوها تتلخص فيما يلي: 1 - الإيداع بفائدة. 2 - الإيداع بلا فائدة. 3 - أخذ العمولة على الإيداع. 4 - أخذ العمولة على إيداع الوثائق والمستندات من حيث فتح الملف بذلك، ومن حيث حفظها، ومن حيث قيام البنك بلازم الوثائق من بيع وتحصيل أرباح ونحو ذلك. 5 - مسألة استئجار الخزائن الحديدية: هل يعتبر ذلك إجارة أو وديعة أو وديعة مضمونة؟ وبالنسبة لأخذ العمولة على ذلك هل تعتبر أجرة للخزانة أو للحفظ أو على كل منهما؟ 6 - أخذ الفائدة وإعطاؤها على القروض. 7 - أخذ العمولة على فتح الاعتماد البسيط. ¬

_ (¬1) [البنك اللاربوي في الإسلام] ص (156- 160) .

8 - أخذ العمولة والفائدة على الضمانات المصرفية- خطابات الضمان -. 9 - أخذ العمولة على الاعتماد المستندي. 10 - الأوراق التجارية، تظهيرها، تحصيلها، خصمها. وأخذ العمولات على ذلك. هذا ما تيسر إعداده، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. حرر في 16\ 7\ 1396 هـ. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الفوائد الربوية

(6) الفوائد الربوية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم الفوائد الربوية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . وبعد: بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء من الموافقة على بحث الفوائد الربوية، وأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تعد ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك، وأنه يعرض في دورة قادمة- فقد جمعت اللجنة جملة من النقول في حكم الفوائد الربوية بين المسلمين، وبين المسلم والحربي. وهذه النقول نقول عن بعض المفسرين على قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬1) وهم: ابن جرير والقرطبي وابن كثير، ثم كلام بعض شراح الحديث على حديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا (¬2) » . ثم نقول عن بعض الفقهاء في مصرف الأموال المحرمة، والتي جهل ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 279 (¬2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .

أربابها، ثم حكم الفوائد الربوية بين المسلم والحربي. وفيما يلي ذكر ذلك:

أولا من أقوال بعض المفسرين على قوله تعالى وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم

أولا: من أقوال بعض المفسرين على قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬1) الآية: 1 - قال ابن جرير في [تفسيره] : يعني جل ثناؤه بذلك: إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله عز وجل {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬2) من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم، كما حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬3) والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا. حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك قال: وضع الله الربا وجعل لهم رؤوس أموالهم. حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬4) قال: ما كان لهم من دين فجعل لهم أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزدادوا عليه شيئا. حدثني موسى بن هارون: قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط عن السدي {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬5) الذي أسلفتم وسقط الربا. حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: «ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب (¬6) » . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 279 (¬2) سورة البقرة الآية 279 (¬3) سورة البقرة الآية 279 (¬4) سورة البقرة الآية 279 (¬5) سورة البقرة الآية 279 (¬6) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .

حدثنا المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: «إن كل ربا موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس (¬1) » . القول في تأويل قوله: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬2) يعني بقوله: {لَا تُظْلَمُونَ} (¬3) بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه، أو لم يكن لكم قبل {وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬4) يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه؛ لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} (¬5) فتنقصون. وحدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬6) قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم (¬7) . 2 - وقال القرطبي في [تفسيره] : روى أبو داود عن سليمان بن عمرو ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) . (¬2) سورة البقرة الآية 279 (¬3) سورة البقرة الآية 272 (¬4) سورة البقرة الآية 279 (¬5) سورة البقرة الآية 279 (¬6) سورة البقرة الآية 279 (¬7) [تفسير الطبري] (3\ 72) ، المتوفى سنة 310 هـ.

عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون (¬1) » وذكر الحديث، فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم، وقال لهم: {لَا تُظْلَمُونَ} (¬2) في أخذ الربا، {وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬3) في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون {وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬4) في مطل؛ لأن مطل الغني ظلم، فالمعنى: أنه يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر: «قم فاقضه (¬5) » فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) . (¬2) سورة البقرة الآية 272 (¬3) سورة البقرة الآية 279 (¬4) سورة البقرة الآية 279 (¬5) صحيح البخاري الصلاة (457) ، صحيح مسلم المساقاة (1558) ، سنن النسائي آداب القضاة (5408) ، سنن أبو داود الأقضية (3595) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2429) ، سنن الدارمي البيوع (2587) .

قول القرطبي

وقال القرطبي أيضا في تفسير هذه الآية: تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه، وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد، كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع؛ لأنه طرأ عليه قبل القبض ما أوجب تحريم العقد، كما أبطل الله تعالى ما لم يقبض؛ لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر. هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي، ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد، خلافا لبعض السلف، ويروى هذا الخلاف عن أحمد، وهذا إنما يتمشى على قول من يقول: إن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا، وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل القبض.

وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان، والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين، وأن ما قبضوه منه كان بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب، فلا يتعرض له. فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل، واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى، كما حكي عن اليهود في قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (¬1) وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (¬2) فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به. نعم، يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 161 (¬2) سورة هود الآية 87 (¬3) [الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (3\ 365، 366) ، المتوفى سنة 671 هـ.

قول ابن كثير

3 - وقال ابن كثير في [تفسيره] : {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ (¬1) } أي: بأخذ الزيادة {وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬2) أي: بوضع رؤوس الأموال أيضا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب، حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 279 (¬2) سورة البقرة الآية 279

لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله (¬1) » ، كذا وجده سليمان بن الأحوص. وقد قال ابن مردويه: حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا أبو الأحوص، حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (¬2) » ، وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره (¬3) . ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) . (¬2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) . (¬3) [تفسير ابن كثير] (1\331) المتوفى سنة 774 هـ.

ثانيا من أقوال بعض شراح الحديث

ثانيا: من أقوال بعض شراح الحديث: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: الآية. وقال: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ (¬3) » رواه مسلم. ومما جاء في شرح هذا الحديث: وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة، كما في [صحيح مسلم] عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) . (¬2) سورة المؤمنون الآية 51 (¬1) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (¬3) سورة البقرة الآية 172 (¬2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

صدقة من غلول (¬1) » . وفي [الصحيحين] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه (¬2) » وذكر الحديث. وفي [مسند الإمام أحمد] رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث (¬3) » . ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه أجر، وكمان إصره عليه» خرجه ابن حبان في [صحيحه] ، ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة. وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه، أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع الله ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم» . وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حله فتصدق به، مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه؟ فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث. ¬

_ (¬1) سنن النسائي الطهارة (139) ، سنن أبو داود الطهارة (59) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (271) ، مسند أحمد بن حنبل (5/74) ، سنن الدارمي الطهارة (686) . (¬2) صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/538) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (1/387) .

وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث. وقال الحسن: أيها المتصدق على المسكين ترحمه، ارحم من قد ظلمت. واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين: أحدهما: أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما عن نفسه، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه: يعني: أنه لا يؤجر عليه، بل يأثم بتصرفه في مال غيره بغير إذنه، ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم قصده ونيته. كذا قاله جماعة من العلماء منهم ابن عقيل من أصحابنا. وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي: أنه سأل سعيد بن المسيب قال: وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال: لا تؤجر أنت ولا صاحبها. ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب، ولو أخذ السلطان أو بعض نوابه من بيت المال ما لا يستحقه فتصدق منه، أو أعتق، أو بنى به مسجدا أو غيره مما ينتفع به الناس- فالمنقول عن ابن عمر أنه كالغاصب إذا تصدق بما غصبه. كذلك قيل لعبد الله بن عامر أمير البصرة وكان الناس قد اجتمعوا عنده في حال موته وهم يثنون عليه ببره وإحسانه وابن عمر ساكت، فطلب منه أن يتكلم، فروى له حديثا «لا يقبل الله صدقة من غلول (¬1) » ثم قال له: وكنت على البصرة. وقال أسد بن موسى في كتاب الورع: حديث الفضيل بن عياض عن منصور عن تميم بن مسلمة قال: قال ابن عامر لعبد الله بن عمر: أرأيت هذا العقاب التي نسهلها والعيون التي نفجرها ألنا فيها أجر؟ فقال ابن عمر: أما ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطهارة (224) ، سنن الترمذي الطهارة (1) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) .

علمت أن خبيثا لا يكفر خبيثا قط؟ حدثنا عبد الرحمن بن زياد عن أبي مليح عن ميمون بن مهران قال: قال ابن عمر لابن عامر وقد سأله عن العتق، فقال: مثلك مثل رجل سرق إبل حاج ثم جاهد بها في سبيل الله فانظر هل يقبل منه؟ وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع كطاوس ووهيب بن الورد يتوقون الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك. وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه رخص فيما فعلوه من المنافع العامة؛ كالمساجد والقناطر والمصانع، فإن هذه ينفق عليها من مال الفيء، اللهم إلا أن يتيقن أنهم فعلوا شيئا من ذلك بمال حرام؛ كالمكوس والغصوب ونحوهما، فحينئذ يتوقى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام. ولعل ابن عمر رضي الله عنهما إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم، ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك فهو صدقة منهم، فإن هذا شبيه بالمغصوب. وعلى مثل هذا يحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: رأيت بعض المتقدمين سئل عمن كسب حلالا أو حراما من السلاطين والأمراء ثم بنى الأربطة والمساجد هل له ثواب؟ فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق وأن له في إنفاق مالا يملكه نوع سمسرة؛ لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيرد عليهم. قال: فقلت: واعجبا من متصدرين للفتوى لا يعرفون أصول الشريعة، ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولا، فإن كان سلطانا فما يخرج من بيت المال فقد عرفت وجوه مصارفه، فكيف يمنع مستحقيه ويشغله بما لا يفيد

من بناء مدرسة أو رباط؟ وإن كان من الأمراء أو نواب السلاطين فيجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال، وإن كان حراما أو غصبا فكل شيء يصرف فيه حرام، والواجب رده على من أخذ منه أو ورثته، فإن لم يعرف رده إلى بيت المال يصرف في المصالح وفي الصدقة ولم يحظ آخذه بغير الإثم. انتهى. وإنما كلامه في السلاطين الذين عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم، ويتصرفون فيه لأنفسهم تصرف الملاك ببناء ما ينسبونه إليهم من المدارس والأربطة ونحوهما مما قد لا يحتاج إليه ويخص به قوما دون قوم، فأما لو فرض إمام عادل يعطي الناس حقوقهم من الفيء ثم يبني لهم منه ما يحتاجون إليه من مسجد أو مدرسة أو مارستان ونحو ذلك كان ذلك جائزا، ولو كان بعض من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذ منه بناء محتاجا إليه في حال، فيجوز البناء فيه من بيت المال؛ لكنه ينسبه إلى نفسه، فقد يتخرج على الخلاف في الغاصب إذا رد المال إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم لا؟ وهذا كله إذا بنى على قدر الحاجة من غير سرف ولا زخرفة. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من بيت المال، ونهاهم أن يتجاوزوا ما تصدع منه، وقال: إني لم أجد للبنيان في مال الله حقا. وروي عنه أنه قال: لا حاجة للمسلمين فيما أضر بيت مالهم. واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفا على إجازة مالكه، فإن أجاز تصرفه فيه جاز، وقد حكى بعض

أصحابنا رواية عن أحمد أنه من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه المالك جاز وسقطت عنه الزكاة. وكذلك خرج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه، وهو خلاف نص أحمد. وحكى عن الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازها المالك أجزأت عنه. الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه أو إلى ورثته، فهذا جائز عند أكثر العلماء: منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم. قال ابن عبد البر: ذهب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، روي ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، قال: قد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب. انتهى. وروي عن مالك بن دينار قال: سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول: إن ذلك يجزئ عنه. قال مالك: كان هذا القول من عطاء أحب إلي من زنة ذهب.

وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا: يرده إليهم، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله، وكذا قال فيمن باع شيئا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال: يتصدق بالثمن، وخالفه ابن المبارك، وقال: يتصدق بالربح خاصة. وقال أحمد: يتصدق بالربح. وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه، وكان أبوه يبيع ممن تكره معاملته: أنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي. وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه. والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها. وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به، وقال: لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب، والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث، وإنما هي صدقة عن مالكه؟ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (¬1) . ¬

_ (¬1) [جامع العلوم والحكم] ص (85، 86- 90) .

ثالثا النقول عن الفقهاء

ثالثا: النقول عن الفقهاء: 1 - قال محمد بن أحمد بن رشد: (فصل) فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه،

فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس إلا رأس ماله وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه، فإن لم يعلمه تصدق به عنه، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬1) الآية، وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (¬2) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم على شيء فهو له» . وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه وهو موضوع عن الذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه؟ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬3) نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعضه فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه. وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان لهما من الربا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب (¬4) » ، (¬5) . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 279 (¬2) سورة البقرة الآية 275 (¬3) سورة البقرة الآية 278 (¬4) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) . (¬5) [المقدمات] ، لابن رشد (3\ 23) .

قول الغزالي

2 - قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه - فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة؛ كالقناطر والربط والمساجد، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فليتصدق به على فقير أو فقراء. وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا، فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه، فإن سلمه إليه صار المسلم ضامنا، بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد دينا عالما، فإن التحكيم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير، بل يكون حلالا طيبا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضا فقير. وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف، عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا جوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قول شيخ الإسلام ابن تيمية

3 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام سبق في بيان حكم الربا: وهذا المربي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل فإنه يعفى عنه، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط؛ لقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬1) . وقال أيضا: قول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام. وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه، باتفاق المسلمين، وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية. والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله، ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك، وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها، ورد الناس فيها إلى رءوس أموالهم دون الزيادات فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬3) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬4) . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 278 (¬2) سورة البقرة الآية 278 (¬3) سورة البقرة الآية 279 (¬4) سورة البقرة الآية 280

وسئل رحمه الله: عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث. أم لا؟ فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين. وسئل: عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟ فأجاب: يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه. وسئل رحمه الله: عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا، وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره، إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟ فأجاب: المال المكسوب إن كانت عين، أو منفعة مباحة في نفسها وإنما حرمت بالقصد، مثل: من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر، أو حملها- فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله. وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي، وثمن الخمر، فهنا لا يقضى له به قبل القبض، ولو أعطاه إياه لم يحكم برده، فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض. ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح

المسلمين، فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به، ولم يردوا (¬1) عوض القرض كان أحسن. وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به، فهذا يثاب على ذاك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله الله- إن الله لا يقبل إلا الطيب- فهذا خبيث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهر البغي خبيث (¬2) » (¬3) . وسئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما: فإن هذه عامة النفع، لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير؛ إما لكونها قبضت ظلما، كالغصب وأنواعه من الجنايات، والسرقة، والغلول. وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا، أو ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها، وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة، والعين التي يتداعاها اثنان فيقر بها ذو اليد لأحدهما. فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف: إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها. ¬

_ (¬1) قوله: (ولم يردوا) كذا في الأصل، ولعل (لم) زائدة. (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1568) ، سنن الترمذي البيوع (1275) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4294) ، سنن أبو داود البيوع (3421) ، مسند أحمد بن حنبل (3/464) ، سنن الدارمي البيوع (2621) . (¬3) [مجموع الفتاوى] (29\307- 309) .

ومذهب الشافعي: أنها تحفظ مطلقا، ولا تنفق بحال، فيقول فيما جهل مالكه من المغصوب، والعواري، والودائع: أنها تحفظ حتى يظهر أصحابها، كسائر الأموال الضائعة. ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا. ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه: أنه يصرف عن أصحابه في المصالح، كالصدقة على الفقراء، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد، والقسمة عند أبي حنيفة، ويتفرع على هذه القاعدة ألف من المسائل النافعة الواقعة. وبهذا يحصل الجواب عما فرضه أبو المعالي في كتابه [الغياثي] ، وتبعه من تبعه إذا طبق الحرام الأرض ولم يبق سبيل إلى الحلال، فإنه يباح للناس قدر الحاجة من المطاعم، والملابس، والمساكن، والحاجة أوسع من الضرورة، وذكر أن ذلك يتصور إذا استولت الظلمة من الملوك على الأموال بغير حق، وبثتها في الناس وإن زمانه قريب من هذا التقدير، فكيف بما بعده من الأزمان؟ ! وهذا الذي قاله فرض محال، لا يتصور لما ذكرته من هذه (القاعدة الشرعية) فإن المحرمات قسمان: محرم لعينه، كالنجاسات: من الدم والميتة. ومحرم لحق الغير، وهو ما جنسه مباح من المطاعم، والمساكن، والملابس، والمراكب، والنقود، وغير ذلك. وتحريم هذه جميعها يعود إلى الظلم، فإنها إنما تحرم لسببين:

(أحدهما) : قبضها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع. وهذا هو الظلم المحض، كالسرقة والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم. (الثاني) : قبضها بغير إذن الشارع، وإن أذن صاحبها، وهي العقود والقبوض المحرمة، كالربا، والميسر ونحو ذلك. والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم، وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة: «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (¬1) » . فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللقطة التي عرف أنها ملك لمعصوم، وقد خرجت عنه بلا رضاه، إذا لم يوجد فقد آتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي. وكذلك اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين، مع أنه لا بد في غالب الخلق أن يكون له عصبة بعيد، لكن جهلت عينه، ولم ترج معرفته. فجعل كالمعدوم وهذا ظاهر. وله دليلان قياسيان قطعيان، كما ذكرنا من السنة والإجماع، فإن ما لا يعلم بحال، أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا بمنزلة المعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه. وكما أنه لا فرق في حقنا بين فعل لم نؤمر به، وبين فعل أمرنا به جملة عند فوت العلم أو القدرة- كما في حق المجنون والعاجز- كذلك لا فرق في حقنا بين مال لا مالك له، أمرنا بإيصاله إليه، وبين ما أمرنا بإيصاله إلى ¬

_ (¬1) سنن أبو داود اللقطة (1709) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .

مالكه جملة إذا فات العلم به أو القدرة عليه. والأموال كالأعمال سواء. وهذا النوع إنما حرم، لتعلق حق الغير به، فإذا كان الغير معدوما أو مجهولا بالكلية أو معجوزا عنه بالكلية سقط حق تعلقه به مطلقا، كما يسقط تعلق حقه به إذا رجي العلم به، أو القدرة عليه، إلى حين العلم والقدرة كما في اللقطة سواء، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «فإن جاء صاحبها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (¬1) » . فإنه لو عدم المالك انتقل الملك عنه بالاتفاق، فكذلك إذا عدم العلم به إعداما مستقرا، وإذا عجز عن الإيصال إليه إعجازا مستقرا. فالإعدام ظاهر، والإعجاز مثل الأموال التي قبضها الملوك- كالمكوس وغيرها- من أصحابها، وقد تيقن أنه لا يمكننا إعادتها إلى أصحابها، فإنفاقها في مصالح أصحابها من الجهاد عنهم أولى من بقائها بأيدي الظلمة يأكلونها، وإذا أنفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة، كما أنها على من يأكلها بالباطل محرمة. والدليل الثاني: (القياس) - مع ما ذكرناه من السنة والإجماع- أن هذه الأموال لا تخلو؛ إما أن تحبس، وإما أن تتلف، وإما أن تنفق. فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬2) وهو إضاعة لها والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال، وإن كان في مذهب أحمد ومالك تجويز العقوبات المالية: تارة بالأخذ، وتارة بالإتلاف، كما يقوله أحمد في متاع الغال، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر، ومحل الخمار، وغير ذلك. فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا، كالعقوبة بإتلاف بعض ¬

_ (¬1) سنن أبو داود اللقطة (1709) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/267) . (¬2) سورة البقرة الآية 205

النفوس أحيانا. وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك، كما في إتلاف النفس والطرف، وكما أن قتل النفس يحرم إلا بنفس أو فساد، كما قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} (¬1) وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (¬2) فكذلك إتلاف المال، إنما يباح قصاصا، أو لإفساد مالكه، كما أبحنا من إتلاف البناء والغراس لأهل الحرب مثل ما يفعلون بنا بغير خلاف، وجوزنا لإفساد مالكه ما جوزنا. ولهذا لم أعلم أحدا من الناس قال: إن الأموال المحترمة المجهولة المالك تتلف، وإنما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة: أنه ألقى شيئا من ماله في البحر، أو أنه تركه في البر ونحو ذلك. فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع، لا صواب العمل. وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة، بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها، ولا القدرة على إيصالها إليه، فهذا مثل إتلافها، فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا، بل هو أشد منه من وجهين: (أحدهما) : أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به. (الثاني) : أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 32 (¬2) سورة البقرة الآية 30

أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق، فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة، فيكون منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا، فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما، وحبسها أشد من إتلافها- تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله. والله أعلم. وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -: عن رجل له حق في بيت المال، إما لمنفعة في الجهاد أو لولايته، فأحيل ببعض حقه على بعض المظالم؟ فأجاب: لا تستخرج أنت هذا، ولا تعن على استخراجه، فإن ذلك ظلم، لكن اطلب حقك من المال المحصل عندهم، وإن كان مجموعا من هذه الجهة وغيرها؛ لأن ما اجتمع في بيت المال ولم يرد إلى أصحابه فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين أولى من صرفه فيما لا ينفع أصحابه أو فيما يضره- وقد كتبت نظير هذه المسألة في غير هذا الموضع- وأيضا فإنه يصير مختلطا، فلا يبقى محكوما بتحريمه بعينه مع كون الصرف إلى مثل هذا واجبا على المسلمين. فإن الولاة يظلمون تارة في استخراج الأموال، وتارة في صرفها، فلا تحل إعانتهم على الظلم في الاستخراج، ولا أخذ الإنسان ما لا يستحقه. وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد من الاستخراج والصرف فلمسائل

الاجتهاد، وأما ما لا يسوغ فيه اجتهاد من الأخذ والإعطاء فلا يعاونون. لكن إذا كان المصروف إليه مستحقا بمقدار المأخوذ، جاز أخذه من كل مال يجوز صرفه كالمال المجهول مالكه إذا وجب صرفه، فإن امتنعوا من إعادته إلى مستحقه فهل الأولى إقراره بأيدي الظلمة، أو السعي في صرفه في مصالح أصحابه والمسلمين، إذا كان الساعي في ذلك ممن يكره أصل أخذه، ولم يعن على أخذه، بل سعى في منع أخذه؟ فهذه مسألة حسنة ينبغي التفطن لها، وإلا دخل الإنسان في فعل المحرمات، أو في ترك الواجبات، فإن الإعانة على الظلم من فعل المحرمات. وإذا لم تمكن الواجبات إلا بالصرف المذكور، كان تركه من ترك الواجبات، وإذا لم يمكن إلا إقراره بيد الظالم أو صرفه في المصالح، كان النهي عن صرفه في المصالح إعانة على زيادة الظلم التي هي إقراره بيد الظالم، فكما يجب إزالة الظلم يجب تقليله عند العجز عن إزالته بالكلية، فهذا أصل عظيم، والله أعلم. وأصل آخر وهو أن الشبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة فالأبعد، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسب الحجام بأن يطعمه الرقيق، والناضح، فالأقرب ما دخل في الطعام والشراب ونحوه، ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ثم ما ستر مع الانفصال من البناء ثم ما عرض من الركوب ونحوه. فهكذا ترتيب الانتفاع بالرزق، وكذلك أصحابنا يفعلون (¬1) ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى (28\ 592- 599) .

قول ابن القيم

4 - قال ابن القيم: فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت: هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تتصدق به؟ قلنا: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي: أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه، ولا استوفى عوضه: رد عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به دينا يعلمه عليه. فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته. فإن تعذر ذلك تصدق به عنه. فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له، وإن أبى إلا أن يأخذه من حسنات القابض استوفي منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها. كما ثبت عن الصحابة. وإن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر، أو خنزير، أو على زنى، أو فاحشة: فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم. فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض عنه: فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسيرا لأصحاب المعاصي، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم، والفاحشة، والغدر، ومن أقبح القبح: أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث،

كما حكم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة: بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه، عينا كان أو منفعة، ولا يلزم الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه. فإن قيل: فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك. وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده. قيل: هذا قياس فاسد؛ لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه؛ لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما فيما نحن فيه: فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة، فقد قبض عوضا محرما، وأقبض مالا محرما، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالا محرما والدافع استوفى عوضا محرما، وقضية العدل تراد العوضين لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه، نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها: وجب رد المال في الصورتين قطعا، كما في سائر العقود

الباطلة، إذا لم يتصل بها القبض. فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم، حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبض مالا يجوز قبضه بمنزلة عدمه، إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟ قيل: والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض؟ فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره. قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله. وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله والصدقة به، في كتاب [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم] ، وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث

يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني: من صرف القوة التي عمل بها. ثم أورد شيخنا على نفسه سؤالا، فقال: فيقال على هذا: فينبغي أن يقضى لهم بها إذا طالبوا بقبضها. وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقدا لتحريمها، بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم، فلا يقضى لك بالأجرة، فإذا قبضها وقال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده، فإنه اقتضاه عن منفعة محرمة، قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت، إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا محتمل، قال: وإن كان ظاهر القياس ردها؛ لأنها مقبوضة بعقد فاسد، انتهى. وقد نص أحمد في رواية أبي النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا، أو ميتة لنصراني: أكره أكل كرائه، ولكن يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة. فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق: إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤاجر المسلم نفسه لحمل ميتة، أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضى له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: أوجههما: أنه لا يطيب له ويتصدق به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي،

قال: إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره، نص عليه، وهذه كراهة تحريم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن حاملها. إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضي له بالكراء، وإن كان محرما، كإجارة الحجام. انتهى. فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح. الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة؛ وهي: أن هذه الإجارة لا تصح. وهذه طريقة القاضي في المجرد، وهي طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديما. الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة، يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية: لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة، وإن عمل. وهذا على قياس قوله في الخمر: (لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها) قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير: تصب الخمر، وتسرح الخنازير قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس، فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها؛ لأنه قد نص في رواية ابن منصور: أنه يكره أن يؤجر نفسه لنظارة كرم لنصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في تعليقه، وعليها أكثر أصحابه، والمنصور عندهم الرواية المخرجة، وهي عدم الصحة، وأنه لا يستحق له أجرة، ولا يقضى له بها، وهي

مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا إذا استأجره لحملها إلى بيته للشرب، أو لأكل الخنزير، أو مطلقا، فأما إذا استأجره لحملها ليريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء، لئلا يتأذى بها: فإن الإجارة تجوز حينئذ، لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة: لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه: رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك. والظاهر: أنه مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فمذهبه كالرواية الأولى: أنه تصح الإجارة، ويقضى له بالأجرة، ومأخذه في ذلك: أن الحمل إن كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر، فذكره وعدم ذكره سواء. وله أن يحمل شيئا آخر غيره. كخل وزيت، وهكذا قال فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة، أو ليبيع فيها الخمر. قال أبو بكر الرازي: لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط، وهو يحلم أنه يبيع فيه الخمر: أن الإجارة تصح؛ لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ذلك، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء. كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا: أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل بدله عصيرا استحق الأجرة. فهذا التقييد عندهم لغو، بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده

جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمول للقتال، لا يصلح لغيره. وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا: فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة، بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة، ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم، حرمت الإجارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن عاصر الخمر ومعتصرها (¬1) » والعاصر إنما يعصر عصيرا، لكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له: استحق اللعنة، قالوا: وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخط الله ويغضبه، ويلعن فاعله، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه، وبطلان العقد عليه، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الفتنة وما يترتب من العقوبة. قال شيخنا: والأشبه طريقة ابن أبي موسى، يعني: أنه يقضى له بالأجرة، وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن عاصر الخمر ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه (¬2) » فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .

حرمت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنبا عصيرا لمن يتخذه خمرا، وفات العصير والخمر في يدي المشتري: فإن مال الباع لا يذهب مجانا، بل يقضى له بعوضه. كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها - جاز. ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه، لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم، لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة. قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة: الجعالة، يعني: الإجارة على حمل الخمر، والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا، بل يقال: صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة؛ ولهذا في الشريعة نظائر، قال: ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضي له بكرائه، قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه، فإذا لم يعطوه شيئا، ووجب أن يرد عليهم ما أخذه منهم: كان ذلك أعظم

العون لهم وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك، بخلاف من أسلم إليهم عملا لا قيمة له بحال، يعني: كالزانية، والمغني، والنائحة، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمهم رده عليهم، أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك، وبينا أن الصواب: أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله. والله الموفق للصواب (¬1) ¬

_ (¬1) [زاد المعاد في هدي خير العباد] (4\ 251) وما بعدها.

فتاوى المنار

5 - وجاء في [فتاوى المنار] : أخذ الربا من المصارف الأجنبية. ج 1: إن الربا المحرم قطعا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارا كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير، فهل الربح المسئول عنه كله من الربا القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟. المشهور: أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح العام الذي تستغله منها. وهو أنواع: أقلها ما هو من الربا الذي عرفه الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف. وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه. فقال: هو أنه كأن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به زاده في المال وزاده صاحبه في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها ولا للمودعين لأموالهم فيها، وأما كونه بعض مالها

المحرم في الإسلام فمثله كثير من أموال الناس، وللعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر قلما يوجد فيه كسب يلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام، فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟ فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في الضرائب المحرمة من باب دفع الفاسد بالفاسد؛ لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له ذلك. ومن اعتقد أنه من غير الربا الشرعي القطعي لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون بنص قطعي، بل قال أبو يوسف: إنه لا يقال في شيء أنه حرام إلا إذا كان بينا في كتاب الله بغير تفسير، ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينا حكم الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل. وجاء أيضا أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء. ج 2: من المعلوم من الدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه لأجل التصدق به؛ لأنه من التقرب إلى الله بما حرمه الله، فإن هذا تناقض بديهي البطلان، ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالا ليست من الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل لها إن شاء الله تعالى. وجاء في [فتاوى المنار] ،: أكل الحرام كالربا والقمار وإرثه والعقاب عليه: ومنه رجل جمع مالا من طرق غير مشروعة كربا وقمار ولعب بالبورصة

(ما يسمونها بالكونتراتات) وغير ذلك هل يجوز الأكل عنده؟ وإذا مات وترك أولادا يعلمون بحال أشغاله فهل يكون المال حلالا للأولاد بالميراث أم لا؟ وإذا مات رجل وعليه ديون ومظالم لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا فما حكمه يوم القيامه؟ وهل يعذب في قبره بسبب ذلك أم عذابه في الأخرة؟ وإذا سامحه أرباب الديون والمظالم في الدنيا فهل يرفع عنه العذاب؟ وهل يجوز سامحته في ذلك يوم القيامة أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم من الله عظيم الأجر والثواب. ج: من علم أن مال زيد من الناس حرام كله لم يجز له أن يأكل من طعامه ولا أن يعامله بهذا المال، ولكن قلما يوجد أحد جميع ماله حرام. ومن ترك لأولاده مالا يعلمون أنه مغصوب أو مسروق مثلا ويعرفون أصحابه، فالواجب عليهم رده إليهم، وأما مالا يعرف له مالك والمأخوذ بالعقود الفاسدة شرعا كالربا والمضاربات فيملكونه، وإن كان في الفقهاء من يقول بأنها لا تفيد الملك للمتعاقدين بها، فهذا لا يسري إلى من تنتقل إليه منهم بسبب شرعي صحيح كالإرث، ولا سيما إذا كان مختلطا بغيره غير متميز، فعلى هذا لا يأثم ورثة هذا الميت بأخذ ما تركه لهم إذا لم يقتدوا به في أكل الحرام، والله تعالى يأخذ من حسنات من مات وعليه حقوق للناس أو يحمله من سيئاتهم يوم القيامة إلا أن يحلوه منها، وتقدم في تفسير هذا الجزء حديث صحيح في ذلك، وإذا عفا أصحاب الحقوق عنه فعفو الله تعالى عن حقه بمخالفة شرعه أرجى، فهو مرجو غير مقطوع به، ويجوز أن يعذبه عليها في الآخرة ولم ير أنها سبب لعذاب

القبر (¬1) وجاء في [فتاوى المنار] : رجل من تجار المسلمين القاطنين بكلكته تأتي له حوالات نقدية من الجهات على البنك، وأصحاب البنك المذكور قوم من النصارى الإرباويين فيبقيها في البنك ويأخذ منها بقدر الحاجة فقط بلا شرط بينه وبين أصحاب البنك، فإذا مضى على النقدية أو بعضها ستة أشهر يحسبون له زيادة عن الأصل روبيتين في المائة في السنة، فيكون في الستة أشهر روبية في المائة، وذلك لأنهم- أي: أصحاب البنك- ينتفعون ببقاء الدراهم عندهم نحو اثنتي عشرة روبية أو أكثر في المائة سنويا، وللعملة في البنك عادة على الرجل المذكور في السنة يأخذونها منه بقشيشا، فهل والحالة هذه يباح للرجل المذكور ما يأخذه من أرباب البنك باختيارهم من غير شرط معهم كما تقدم، أم لا؟ أفيدونا سيدي، فإن المسألة واقعة حال لازلتم (¬2) ج: من أعطى إنسانا باختياره مالا أو عرضا لا يستحقه عليه فأخذه كان حلالا بإجماع، ما لم يكن هناك غش أو نحوه من الأمور التي تنافي أن يكون المعطي قد أعطى برضاه واختياره، ومن هذه الأمور ما قد يكون معروفا للآخذ، ومنها ما يكون شبهة، ومن ذلك موضوع السؤال، فإنه لم يسأل عنه إلا وهو عند أصحاب الواقعة محل الشبهة، هل هو من الربا أم لا؟ ولو جزموا بأحد الوجهين لم يسألوا. ¬

_ (¬1) [فتاوي المنار] (4\591) (¬2) [فتاوي المنار] (2\594)

أما الربا فقد عرفه الحنفية الذين يقلدهم أكثر أهل الهند بأنه: الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، كما في حواشي [فتح القدير] وغيرها. فقولهم: (المشروط في البيع) يخرج منه واقعة الحال المسئول عنها، إذ لا شرط فيها. وفي [شرح المنهاج] ، للشمس الرملي الشافعي: أن الربا شرعا: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما، وقوله: (أو مع تأخير) معناه: أو عقد مع تأخير كما في [حاشية الشبراملسي] عليه، ولا عقد في الواقعة المسئول عنها، ويشبه مسألة الحوالة مسألة الوديعة التي تقع كثيرا، فإن بعض البنوك قد تزيد للمودع شيئا على ماله المودع فيها، وما قد يقع منه بلا شرط فهو يشبه الواقعة إلا أن يقال: إن الوديعة أشبه بالقرض أو الدين منها بالأمانة؛ لأن أهل البنك يتصرفون بالمال ويردون غيره والعرف يقوم مقام العقد في ذلك. وقد صرح غير واحد من الفقهاء بأن كل قرض جر نفعا للمقرض فهو ربا، ورووا في ذلك حديثا. وأقول: إن ما جرى عليه العرف في معاملة البنوك على ما نعلم أن ما يوضع فيها أمانة يجوز لصاحبه أن يسترده كله أو بعضه متى شاء، وما يؤخذ على أنه دين ليس لصاحبه أن يسترده إلا بعد انتهاء الأجل، أو يأخذ ما يطلب من المال بربا أكثر من الربا الذي يأخذه هو من البنك وإن كان ما طلبه جزءا من ماله. مثال ذلك: أن من أعطى البنك ألفا على أن له في المائة ثلاثا في السنة ثم

طلب قبل انقضاء السنة خمسمائة، فإن البنك يعطيه إياها على أن له ستا في المائة أو أكثر أو أقل قليلا، وكل ذلك يجري بعقود مكتوبة، أما الودائع فيعطى البنك بها وصلا للمودع ومنها ما لا يزيده على ما أودع شيئا فيبقى وجه الشبهة في الواقعة المسئول عنها وفيما يشبهها أنها من قبيل القرض الذي جر نفعا، وهي ضعيفة في الحوالة قوية في الوديعة. على أن الفقهاء لا سيما الحنفية قد شددوا في ذلك ويعدون كل ما يؤخذ بلا مقابل ربا، فمن اعتقد ذلك حرم عليه الأخذ. وإذا رجعنا إلى الدليل رأينا أن حديث: «كل دين جر نفعا» . . . إلخ ضعيف كما سيأتي عن [نيل الأوطار] ، بل قال الفيروزآبادي: إنه موضوع، ولكن في الباب أحاديث أخرى وآثارا تفيد في إنارة المسألة. قال في [منتقى الأخبار] ،: عن أبي هريرة قال: «كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاءه يتقاضاه فقال: "أعطوه "، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: "أعطوه " فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن خيركم أحسنكم قضاء (¬1) » . وعن جابر قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي عليه دين فقضاني وزادني (¬2) » متفق عليهما. وعن أنس، وسئل: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى له أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك (¬3) » رواه ابن ماجه. وعن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا أقرض فلا يأخذ هدية» رواه البخاري في [تاريخه] . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الوكالة (2305) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/393) . (¬2) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2394) . (¬3) سنن ابن ماجه الأحكام (2432) .

وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: (إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت- القت: بالفتح هو الجاف من النبات المعروف، وهو رطب بالفصفصة بكسر الفائين، وهي القضب- فلا تأخذه فإنه ربا) رواه البخاري في [صحيحه] . أقول: أثر عبد الله بن سلام لا يحتج بمثله الجمهور الذين يحصرون أدلة الشرع في الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ومن الغريب قوله بفشو الربا في المدينة، والظاهر: أنه قال بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراج اليهود منها. وقال الشوكاني في شرح هذه الأحاديث ما نصه: حديث أنس في إسناده يحيى بن أبي إسحاق الهنائي وهو مجهول، وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد، والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف. قوله: (سن) أي: جمل له سن معين. وفي حديث أبي هريرة دليل على جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله. وفيه أيضا دليل على حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه وإنصافه. وقد وقع في بعض ألفاظ الصحيح: أن الرجل أغلظ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم به أصحابه فقال: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا (¬1) » كما تقدم. وفيه دليل على جواز قرض الحيوان وقد تقدم الخلاف في ذلك. وفيه جواز رد ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، وبه قال الجمهور، وعن المالكية إن كانت الزيادة بالعدد لم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الوكالة (2306) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) .

يجز، وإن كانت بالوصف جازت، ويرد عليهم حديث جابر المذكور في الباب، فإنه صرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاده والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية للبخاري أن الزيادة كانت قيراطا. وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقا، ولا يلزم من جواز الزيادة في القضاء على مقدار الدين جواز الهدية ونحوها قبل القضاء؛ لأنها بمنزلة الرشوة فلا تحل، كما يدل على ذلك حديثا أنس المذكوران في الباب، وأثر عبد الله بن سلام (قد علمت أن حديث أنس ضعيف، وأثر ابن سلام لا يحتج به الجمهور، إلا أن يقال: إن له حكم المرفوع، وفيه نظر على أن النهي فيه قد يكون للورع) . والحاصل: أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين أو لأجل رشوة صاحب الدين أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه فذلك محرم؛ لأنه إما نوع من الربا أو رشوة، وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا: فالظاهر المنع؛ لإطلاق النهي عن ذلك. وأما الزيادة على مقدار الدين عند القضاء بغير شرط ولا إضمار: فالظاهر الجواز من غير فرق بين الزيادة في الصفة والمقدار والقليل والكثير؛ لحديث أبي هريرة وأبي رافع والعرباض وجابر، بل هو مستحب. قال المحاملي وغيره من الشافعية: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخذ للحديث الصحيح في ذلك؛ يعني: قوله: «إن خيركم أحسنكم قضاء (¬1) » . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الوكالة (2306) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .

ومما يدل على عدم حل القرض الذي يجر إلى المقرض نفعا ما أخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا، ورواه في [السنن الكبرى] عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي - رضي الله عنه - بلفظ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة) » ، وفي رواية: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» ، وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، قال عمر بن زيد في [المغني] : لم يصح فيه شيء، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن. اهـ. المراد منه ومعظمه منقول من [فتح الباري] . وأما الربا الذي نهى عنه الكتاب العزيز بالنص الصريح فهو ربا النسيئة المضاعف. وقد ذكرنا كيفيته وبينا حكمته بالتفصيل في تفسير آياته من أواخر سورة البقرة. وتحريمه ليس تعبديا كما يقول من يرى ذلك من الفقهاء، بل هو معلل بقوله عز وجل: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬1) وبقوله: واتقوا الله بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬2) فإن هذا من القسوة ومنع المعروف عند الحاجة المنافي للتقوى. والمراد بهذا الربا المعروف: ما كان عليه الناس في الجاهلية، وهو كما قال الإمامان مالك وأحمد وغيرهما: أن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل- من قرض أو ثمن- فيقول له عند الأجل: إما أن تقضي وإما أن تربي، فيزيد له لحاجته كلما طلب. وليس منه في شيء ما تقدم في السؤال ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 279 (¬2) سورة آل عمران الآية 130

وهو أن يستعمل إنسان مال آخر مودعا عنده برضاه ثم يعطيه برضاه عند القضاء أو في آخر السنة جزءا مما ربح برضاه واختياره من غير شرط ولا عقد. هذا ما عن لنا في هذه المسألة، مع صرف النظر عن حكم دار الحرب وما أحلوه فيها من العقود الفاسدة ونحوها، وأطالت الخوض فيه الجرائد الهندية من زمن ليس بعيد، ولا تنس في هذا المقام ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقود الفاسدة في المعاملات، وأن ما اشترط في صحتها إنما اشترط لأجل أن يكون العقد لازما ونافذا عند الحاكم لا لأجل التقرب إلى الله تعالى، فالعقد الذي لا يجيزه الشرع كعقد الربا لا ينفذه الحاكم الشرعي ولا يلزم الوفاء به، بل ولا يحل اشتراطه وجعله حقا يطالب به. وهذا لا يمنع الناس منعا دينيا أن يتصرفوا في أموالهم برضاهم في غير الفواحش والمنكرات المحرمة لذاتها، وعندي أن ما زاده النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب الدين على دينه من هذا القبيل، وقد سبق لنا في [المنار] ، كلام في هذا المبحث (¬1) . ¬

_ (¬1) [فتاوى المنار] (2\596)

رابعا أقوال الفقهاء في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي

رابعا: أقوال الفقهاء في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي: 1 - قال ابن عابدين: وأما شرائط جريان الربا: (فمنها) : أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم ولا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط ويتحقق الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا

درهما بدرهمين أو غير ذلك هن سائر البيوع الفاسدة في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف: المسلم الأسير في دار الحرب أو الحربي الذي أسلم هناك ولم يهاجر إلينا فبايع أحدا من أهل الحرب (وجه) قال أبو يوسف: إن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق الكفار؛ لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال، فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام. (ولهما) أن مال الحربي ليس بمعصوم، بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه؛ لما فيه من الغدر والخيانة فإذا بذله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وأنه مشروع مفيد للملك، كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه تبين أن العقد هنا ليس بتملك، بل هو تحصيل شرط التملك وهو الرضا؛ لأن ملك الحربي لا يزول بدونه، وما لم يزل يملكه لا يقع الأخذ تملكا لكنه إذا زال، فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد، فلا يتحقق الربا؛ لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد خلاف المسلم إذا باع حربيا دخل الإسلام بأمان؛ لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد، وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا الخلاف الذي ذكرناه؛ لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة، وما يبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم

إلا الخمر والخنزير. إلى أن قال: وأما إسلام المتبايعين فليس بشرط لجريان الربا فيجري الربا بين أهل الذمة وبين المسلم والذمي؛ لأن حرمة الربا ثابتة في حقهم، لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا، قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (¬1) وروي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مجوس هجر: «إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله» وهذا في نهاية الوعيد فيدل على نهاية الحرمة (¬2) . ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 161 (¬2) [بدائع الصنائع] (5\192، 193) .

قول محمد بن أحمد بن رشد

2 - قال محمد بن أحمد بن رشد: (فصل) وفي هذا يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف؛ لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما، إما من قبل بدر على ما ذكره أبو إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي - عليه السلام - لما أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالكم إلا كرها، فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: «أما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك (¬1) » أو من قبل فتح خيبر إن لم يصح ما ذكره أبو إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي - عليه الصلاة والسلام - بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به، وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما، على ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/353) .

وبيع وحده وقال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن (¬1) » ، فلما لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان من رباه بعد إسلامه، إما من قبل بدر، وإما من قبل فتح خيبر إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة وإنما وضع منه ما كان قائما بما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذا حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا، وبحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، وهو ما روى أنس بن مالك، أنه قال للنبي - عليه الصلاة والسلام - حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلا وقد أردت أن أتيمم فإن أذنت لي أن أقول: فعلت، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا، وأني جئت لآخذ مالي فابتاع من غنائمهم ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به فما وعد الله به رسوله خير مما جئت به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له: ليخل لي بيتا فإن الخبر على ما يسره، فلما أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلا به في بعض بيوته وأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتحت عليه خيبر وجرت فيه سهام المسلمين واصطفى رسول الله منها صفية لنفسه، وإن رسول الله أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج، ففعل، فلما أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من المقت على المشركين، والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث بالمعنى واختصرت منه الحديث لطوله. وبالله التوفيق. واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث ¬

_ (¬1) صحيح مسلم المساقاة (1588) .

النبي - عليه السلام -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية (¬1) » . . . الحديث، وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه. فقال أشهب المخزومي: هو له حلال، بمنزلة ما لو كان قبضه. وقال ابن دينار وابن أبي حازم: يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا وأكثر قول أصحابنا على قول أشهب المخزومي (¬2) . ¬

_ (¬1) موطأ مالك الأقضية (1465) . (¬2) [المقدمات] لابن رشد. (3\28) وما بعدها

ما جاء في المجموع شرح المهذب

3 - جاء في [المجموع شرح المهذب] : (فرع) الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين، فأما بين الحربيين وبين المسلمين لم يهاجرا أو أحدهما فلا ربا، وقال: إن الذميين إذا تعاقدا عقد الربا في دار الإسلام فسخ عليهما، فالاعتبار عنده بالدار وعندنا الاعتبار بالعاقد، فإذا أربى الذي في بلاد الإسلام مع الذمي لم يفسخ، كذا قال القفال في [شرح التلخيص] ، قال: وهكذا سائر البياعات الفاسدة، والله أعلم. واحتج أبو حنيفة - رضي الله عنه - بحديث مكحول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب» ، وبأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد، فالعقد أولى، ودليلنا: عموم الأدلة المحرمة للربا، فلأن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك، كسائر الفواحش والمعاصي؛ ولأنه عقد فاسد فلا تستباح به العقود عليه كالنكاح.

(قلت) : وهذا الاستدلال إن كان أبو حنيفة يوافق على فساده في دار الحرب فلا دليل عنده، وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى مكحول، ثم هو محتمل لأن يكون نهيا فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي كما بين المسلمين، واعتضد هذا الاحتمال بالعمومين، وأما استباحة أموالهم إذا دخل إليهم بأمان فممنوعة، فكذا بعقد فاسد، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد، ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي، ولا تستباح بالعقد الفاسد. ومما استدلوا به على أنه لا ربا في دار الحرب: أن العباس بن عبد المطلب كان مسلما قبل فتح مكة، فإن الحجاج بن علاط لما قدم مكة عند فتح خيبر واجتمع به في القصة الطويلة المشهورة دل كلام العباس على أنه مسلم حينئذ، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح: «وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب (¬1) » ، فدخل في ذلك الربا الذي من بعد إسلامه إلى فتح مكة، فلو كان الربا الذي بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم. (والجواب) أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه فيكفي حمل اللفظ عليه، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا ولو سلم استمراره عليه؛ لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ (¬2) . ¬

_ (¬1) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن أبو داود البيوع (3334) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) . (¬2) [شرح المهذب] (11\158)

قول ابن قدامة

4 - قال ابن قدامة: (فصل) : ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام. وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وإسحاق. وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما. لما روى مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب (¬1) » ، ولأن أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحا. ولنا قول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬3) وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬4) وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من زاد أو ازداد فقد أربى (¬5) » عام، وكذلك سائر الأحاديث؛ ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة. وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول، لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به وهو مع ذلك ¬

_ (¬1) الحديث مرسل غريب، وهو يحتج بمرسل الثقة. والأصل في هذا عنده أن مال الحربي مباح الأصل، فالوسيلة لأخذه برضاه لا تخرجه عن أصل، بخلاف مال المستأمن والذمي. قالوا: ولذلك أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للصديق أكل القادر من بعض مشركي مكة لما راهنه على غلب الروم للفرس. وصرح بعضهم بأن المباح: أن يأخذ المسلم مال الحربي دون العكس. (¬2) سورة البقرة الآية 275 (¬3) سورة البقرة الآية 275 (¬4) سورة البقرة الآية 275 (¬5) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .

مرسل محتمل. ويحتمل أن المراد بقوله: لا ربا النهي عن الربا (¬1) ، كقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬2) وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هيئة التفاضل، وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا (¬3) . ¬

_ (¬1) ممنوع خبر (لا) في الحديث (¬2) سورة البقرة الآية 197 (¬3) [المغني] (4\ 45، 46) . وقد ذكر ابن حزم كلاما مختصرا في ذلك [المحلى] (8\ 514)

فتاوى المنار

5 - جاء في [فتاوى المنار] : أموال أهل الحرب: من صاحب الإمضاء مدير جريدة الوفاق- بيتبزرغ- جاوا: محمد بن محمد سعيد الفتة. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده. ما قول السيد البار بالمسلمين والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين في فتوى بعض العلماء: بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟ أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله، والتعدي على الحدود، التي لم يستثن منها اضطرارا ولا عذرا لفاعل؟ كالشرك والكفر بغير إكراه والقتل العمد وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا

ونحو ذلك، لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر، وتأجيل بعض العبادات لعذر كما بينه الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان، عدا ما استثناه منهما كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله والمؤيد بالتواتر والحق المهيمن بالإجماع والتواطئ.. أفتونا بما أمر الله به أن يوصل. ج- أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها وأحرزها بأي صفة كان الإحراز، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة، فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنا في حال من الأحوال، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيا على مال وجب عليه حفظ الأمانة وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة أفلا يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟ إنه لم يظهر له أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام وكذا في دار الحرب بين المسلمين إن وجدوا فيها هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ المال من صاحبه برضاه واختياره: ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال بالربا لا يعطي الزيادة برضاه واختياره، والشرع لم يجعل له حقا بأخذها فكانت حراما؛ لأنها من قبيل

الغصب على كونها بدون مقابل. ولذلك عللت في نص القرآن بأنها ظلم إذ قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬1) وظلم الحربي غير محرم؛ لأنه جزاء على ظلمه، فإنه لا يكون إلا أشد ظلما من المسلم؛ لأنه يخون والمسلم لا يخون، ولأن المسلم يمنعه دينه من أعمال في الحرب ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها، كقتل غير المقاتلين والتمثيل بالقتلى وغير ذلك، مما هو معروف في الإسلام ونرى غير المسلمين يرتكبونه حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم لا المحاربة لهم فقط، والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذه منه، إذا كان بمحض اختياره، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان اقترض منه بعيرا بسن فوق سن بعيره، كما في [الصحيحين] ، ولو كان ذلك مشروطا لكان ربا. قال أبو هريرة كما في [البخاري] : إن رجلا تقاضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: «دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه (¬2) » فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه، فقال: «اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء (¬3) » . وما رواه الحارث عن علي: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» فسنده ضعيف، بل قالوا: إنه ساقط؛ فإن رواية سوار بن مصعب متروك، يروي المنكرات، بل اتهم برواية الموضوعات. لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله لما فهمنا قوله فيه أن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 279 (¬2) صحيح البخاري الوكالة (2306) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) . (¬3) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2390) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .

فقد كتب إلينا أن بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه قد استنكروا الفتوى المسئول عنها؛ لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي؛ كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقا. وهذا سوء فهم منهم، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقا كما تقدم. ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق، فهل يقيسون إذا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها: عدم إقامة الحدود فيها. ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام فهل يدعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع إلى أهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا وغيره، ولا مندوحة له عن ذلك، ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني: هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي: يوجب عليه أن يكون مظلوما مغبونا؟ إن تحريم الربا من الأحكام المعلولة المعنى لا من التعبديات، وما حرم الله تعالى شيئا إلا لضرورة على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في نص القرآن بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو ضرورته إلا بالاقتراض. والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودا بين الناس في الجاهلية، وهو الربا المضاعف كما تراه في [تفسير

ابن جرير] وغيره من كتب التفسير المأثور، ومنه قول ابن زيد (زيد أحد علماء الصحابة الأعلام وابنه من رواة التفسير المأثور) : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل على الرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني، فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي: في السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي: في السنة الثالثة) ثم حقة (أي: ابنة السنة الرابعة) ثم جذعة (في الخامسة) ثم رباعيا (وهو ما ألقى رباعيته ويكون في السنة السادسة) ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي: الذهب والفضة) يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه، اهـ من تفسير آية آل عمران. وضرر هذا عظيم، وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط. وذكر ابن حجر المكي في [الزواجر] : أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور، وهو الذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة، وفيه ورد حديث «لا ربا إلا في النسيئة (¬1) » رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ: «إنما الربا في النسيئة (¬2) » ، وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث فلسد الذريعة، كما نص عليه المحققون. وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل، فلا نعود إليها هنا، وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد ولا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري البيوع (2179) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) . (¬2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) .

تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها (¬1) . ¬

_ (¬1) [فتاوى محمد رشيد رضا] (6\ 1974- 1978) .

فتاوى محمد رشيد رضا

6 - وجاء في [فتاوى محمد رشيد رضا] : س (1) : إن الربا انتشر في أرض جاوا في هذه الأيام انتشارا لا عهد لنا به، حتى إن بعض الأساتذة الذين كانوا في مقدمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقاومين للربا خرجوا من المدارس وأصبحوا اليوم في مقدمة المرابين، فإذا سألناهم عن الدافع إلى هذا أجابوا بلسان واحد: بأن صاحب [المنار] أفتى بجواز الربا على الإفرنج، وإذا رأينا أحدا يرابي على الوطنيين، أجابنا: بأن موظفي الحكومة لا دينيين، وأننا في دار حرب. وقد أفتى صاحب [المنار] ، بجواز الربا في دار الحرب، فهل لما أشيع عن مناركم من صحة؟ إذا قلتم: نعم فستقفل الحوانيت ويقف دولاب تجارة العرب بجاوا ويتوجهون إلى الربا اعتمادا على فتواكم. فما رأي فضيلتكم؟ أرجو الجواب في أول عدد من مناركم ليحق الحق ويزهق الباطل وإن الباطل كان زهوقا أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب: ج: إن ما تعنونه من إفتائي بحل أخذ الربا على الإفرنج في دار الحرب ليس كما ذكرتم أو نقلتم، وإنما هو جواب عن سؤال ورد على [المنار] من مدير جريدة [الوفاق] ، (بيتبزرغ- جاوه) ونشر في ج 8 مجلد 28 الذي صدر في ربيع الآخر سنة 1346 هـ في فتوى بعض العلماء بحل أموال الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما، مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو

حل لنا مهما يكن أصله، حتى الربا الصريح؟. هذا موضوع الاستفتاء، والمستفتي فيه منكر له أشد الإنكار، كما هو مبين بنص كلامه في السؤال، إذ جعل هذه الفتوى خطرا على التوحيد ومقتضية لتحليل جميع المحرمات، وقد بينا في جوابه أصل الشريعة في إباحة أموال الحرب بإجماع المسلمين، وما قيد العلماء به عموما، ولم يخالفنا أحد في ذلك. فراجعوا فتوانا في (ص 575 من مجلد [المنار] 28) فإن بقي في أنفسكم شبهة فبينوه لنا. وقد كتبنا في آخره أن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد، ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات. ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها، اهـ. وجملة القول: أنني ما أفتيت في شيء انفردت به في هذا الموضوع، وأن الذين ذكرتم أنهم يستحلون أخذ الربا من المسلمين بدعوى أنهم لا دينيين، أي: كفار تعطيل وإباحة، لا يمكنهم أن يدعوا أن صاحب المنار أفتى بتكفيرهم ولا بأخذ الربا منهم، ولا جعله حرفة للمسلمين، وإنما يتبعون أهواءهم. على أننا سنصدر إن شاء الله تعالى في هذا العام كتابنا في مباحث الربا والمعاملات المالية العصرية التي نشرناها في مجلدات [المنار] بعد تلك الفتوى، فانتظروا، فالمسألة ليست من البداهة بحيث يحررها المرابون والتجار، وخطر الاستدانة من الإفرنج بالربا أضعاف ما تتصورون من عكسه، بل هو الذي جعل المسلمين أفقر الشعوب (¬1) . ¬

_ (¬1) [فتاوى محمد رضا] (6\2583 - 2585) .

الخلاصة

الخلاصة مما تقدم يتبين ما يلي: أولا: من المعلوم أن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقدم عليه وهو يعلم أنه ربا، وأن الربا المتحصل له وهو لا يعلم الحكم، بل أقدم على التعامل ظنا منه أنه يجوز ثم قبض الربا واستهلكه أنه لا إثم عليه ولا يجب عليه بذله. وأما الربا الذي قبضه وهو يعلم أنه ربا فهو آثم وعليه أن يرده لصاحبه إن عرفه، لعموم قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬1) وإن كان لا يعلم صاحبه، أو يعلمه ولكن تعذر عليه حصوله وحصول من يقوم مقامه شرعا- فإنه يتصدق به، أو يصرفه في المصالح العامة، ومن أخذه من المتصدق به فهو حلال له (¬2) . ثانيا: الفوائد الربوية التي لم تقبض، بل هي باقية في البنوك يتولى الإمام قبضها وصرفها في المصالح العامة؛ لأنه إما أن يقال بإبقائها لأصحاب البنوك أو بإحراقها أو بأخذها وصرفها في المصالح العامة والأول لا يصح؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وأن الثاني لا يصح؛ لأنه إفساد، والله لا يحب الفساد، وتعين الثالث (¬3) . ثالثا: اختلف في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي: فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى جوازه، لقصة العباس وحديث مكحول: «لا ربا بين مسلم وحربي» ، وحديث: «أي دار قسمت في ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 278 (¬2) انظر النقول (2- 9) وما بعدها (¬3) انظر النقول (13) وما بعدها

الجاهلية فهي على قسم الجاهلية (¬1) » ، ولأن مال الحربي مباح للمسلم بدون عقد فبالعقود أولى. ونوقشت قصة العباس: بأن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه بتحريمه، فأراد - صلى الله عليه وسلم - إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ. ونوقش حديث مكحول: بأنه مرسل. وحديث كهذا لا ينبغي أن يكون معارضا للقرآن والسنة والإجماع. ولو قدرت صحته فيحتمل أن المراد بقوله: «لا ربا (¬2) » النهي عن الربا، كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬3) ونوقش القياس بالمنع ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد. ثم ليس كل ما يستباح بغير عقد يستباح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي ولا تستباح بالعقد الفاسد. وذهب مالك والإمام أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والأوزاعي والشافعي وإسحاق ومن وافقهم من الفقهاء: إلى أن حكم الربا بين المسلم والحربي كحكمه بين المسلم والمسلم. ومن الحجة لذلك قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬4) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬5) إلى غير ذلك من الأدلة. ولعموم الأخبار المقتضية لتحريم التفاضل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من زاد أو ازداد فقد أربى (¬6) » ، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار ¬

_ (¬1) موطأ مالك الأقضية (1465) . (¬2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) . (¬3) سورة البقرة الآية 197 (¬4) سورة البقرة الآية 275 (¬5) سورة البقرة الآية 275 (¬6) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .

الحرب، كالربا بين المسلمين (¬1) . وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) انظر النقول من (27- 34) .

المواشي السائبة على الطرق العامة

(7) المواشي السائبة على الطرق العامة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم المواشي السائبة على الطرق العامة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، وبعد: فبالإشارة إلى ما جاء في المحضر رقم (1) وتاريخ 11\ 8\ 1396 هـ من محاضر جلسات هيئة كبار العلماء في دورتها التاسعة المنعقدة في شهر شعبان ابتداء من 11 \8 \1396 هـ بخصوص رغبة المجلس من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إعداد بحث مختصر لموضوع المواشي السائبة المهملة من قبل أهلها - بالإشارة إلى ذلك أعدت اللجنة الدائمة في ذلك البحث التالي مستمدة من الله العون والتوفيق.

صور المواشي السائبة

لعل موضوع المواشي السائبة لا يخرج عن الصور الآتية: الأولى: مواش ذات قيمة مالية ولها سوق نافقة، ويغلب على الظن أن لها ملاكا. الثانية: مواش لا قيمة لها ويغلب على الظن تخلي ملاكها عنها، وهذه إما أن تكون مما يباح أكله فالغالب أن أصحابها قد تخلوا عنها؛ لعدم

الاستفادة منها إما لمرضها أو لكبرها أو نحو ذلك. الثالثة: أن تكون مما لا يباح أكله كالحمير، وقد تخلى عنها ملاكها، ويمكن الانتفاع بها ركوبا ونقلا ونحو ذلك. الرابعة: أن تكون من الصورة الثالثة إلا أنه لا يمكن الانتفاع بها؛ لمرضها أو كبرها أو عرجها أو نحو ذلك. فهذه أربع صور: أما الصورة الأولى: فنظرا إلى أن تركها سائبة على جانبي الطرق العامة مهددة أمن الطريق يعتبر ضررا بالغا وخطرا على الأموال والأنفس، وحيث إن الشريعة الإسلامية تعنى بتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم وتتخذ في سبيل هذا الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، فترتكب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما، وتؤثر مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في حال التعارض، وتؤثر درء المفاسد على جلب المصالح، لذلك كله فإن لولي الأمر أن يأمر باحتجاز هذه المواشي وبيعها في المزاد العلني بعد التعرف على صفاتها، فإن جاء صاحبها أعطي ما يبقى من قيمتها بعد خصم مصاريف الاحتجاز والعلف والنقل والبيع إلا أن يرى ولي الأمر معاقبته على إهمالها وتركها مهددة أمن الطريق، فله أن يصادر قيمتها عليه عقوبة له. وإن لم يتقدم لها مالك أدخلت قيمتها في بيت المال، وهذا كله بعد إعلام المواطنين بضرورة حماية جوانب الطرق من مواشيهم وإخطارهم بعواقب المخالفة، وذلك في وسائل الإعلام المختلفة من إذاعة وصحافة وتلفزة. الصورة الثانية: حيث إن مثل هذه المواشي المباح ذبحها للآكل يغلب

على الظن الرغبة عن أكلها؛ لمرضها أو كبرها أو نحو ذلك من أسباب التخلي عنها، وبالتالي انتفاء قيمتها المالية أو تفاهتها، وحيث إن تركها سائبة على جوانب الطرق العامة فيه تعريض لأمن الطريق وخطر على الأنفس والأموال، فإن لولي الأمر أن يأمر بذبحها وإطعامها من يرغب في أكلها من الفقراء أو حيوانات أخرى. الصورة الثالثة: حيوانات لا تؤكل ويمكن الانتفاع بها ركوبا ونقلا ونحو ذلك. فهذا النوع من الحيوان إن وجد من يأخذه للتملك على شرط إبعادها عن جوانب الطرق بحيث يؤمن شرها ويتفادى خطرها أعطيها وبذلك ينتهي إشكالها. وإن أمكن نقلها إلى جهات، أهلها بحاجة إليها فكذلك، وإن لم يتيسر شيء من ذلك وبقي إشكالها على حالة مهددة أمن الطريق موفرة أسباب الدعس، والصدم والحوادث، وما يتبع ذلك في الغالب من إتلاف الأنفس والأموال، وبذل جهات الاختصاص جهودا مكثفة في الإسعاف والتحقيق وفصل الخصومات، فهذه الصورة قد يكون النظر في حكمها متفقا مع النظر في حكم الصورة الرابعة. ويتلخص النظر فيهما فيما يلي: أن النظر في مآل هذه الحيوانات السائبة على جوانب الطرق العامة قد لا يتجاوز أمرين: أحدهما: القول بذبحها وإطعامها حيوانات أخرى: ويعلل ذلك بما يلي:

الأول انتفاء ماليتها بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس. الثاني: ثبوت أذيتها والضرر اللاحق من توافرها في الطرق وعلى جوانبها بما تسببه من الصدم والدعس والحوادث وتلف ما يتلف من ذلك من الأموال والأنفس. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها وارتكاب أدنى المفسدتين لتفادي أشدهما، ولا شك أن مفسدة ذبحها إن وجدت فهي قليلة مغمورة في جنب مصالح الخلاص منها ودرء مفاسدها. الثالث: إن جمعها والإبقاء عليها فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها، وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة، ومما لا شك فيه أن بيت المال مرصود لمصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل، وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه. الرابع: جواز ذبح المأكول لحمه مما تعافه الأنفس في الغالب لمرضه أو كبره أو نحو ذلك لإراحته أو للخلاص من مشقة النفقة عليه ورعايته. فإذا جاز ذبح ذلك لغير الأكل فقد لا يكون فارق مؤثر بينه وبين ما لا يؤكل لحمه مما لا فائدة في بقائه إذا كان في ذبحه جلب مصلحة أو دفع مضرة. الخامس: ما جاءت به النصوص وقال به أهل العلم من جواز قتل ما منه الأذى كالخمس الفواسق والهر المؤذي وغير ذلك من الحيوانات والحشرات المؤذية، قال العلامة ابن مفلح - رحمه الله - ما نصه:

ويكره قتل النمل إلا من أذية شديدة، فإنه يجوز قتلهن وقتل القمل بغير النار ويكره قتلهما بالنار، ويكره قتل الضفادع، ذكر ذلك في [المستوعب] ، قال في [الغنية] كذلك، وأنه لا يجوز سقي حيوان مؤذ - إلى أن قال: ومال صاحب النظم إلى أنه يحرم إحراق كل ذي روح، وأنه يجوز إحراق ما يؤذي بلا كراهة إذا لم يزل ضرره دون مشقة غالبة إلا بالنار. وقال: إنه سئل عما ترجح عند الشيخ شمس الدين صاحب الشرح فقال: ما هو ببعيد واستدل صاحب الشرح بالخبر الذي في [الصحيحين] أو في [صحيح البخاري] «أن نبيا من الأنبياء نزل على قرية نمل فآذته نملة فأحرق القرية فأوحى الله تعالى إليه: فهلا نملة واحدة (¬1) » ... إلى أن قال: وقال في [المستوعب في محظورات الإحرام] : فأما النمل وكل ما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان والديدان والذباب والنمل غير التي تلسع. فقال أحمد - رحمه الله -: إذا آذته- يعني: هذه الأشياء- قتلها، ويكره قتلها من غير أذية فإن فعل فلا شيء عليه.. إلى أن قال: عن إبراهيم النخعي قال: إذا آذاك النمل فاقتله. ورأى أبو العالية نملا على بساط فقتلهن. وعن طاوس قال: إنا لنفرق النمل بالماء، يعني: إذا آذتنا. روى ذلك ابن أبي شيبة في [مصنفه] . وسئل الشيخ تقي الدين: هل يجوز إحراق بيوت النمل بالنار؟ فقال: يدفع ضرره بغير التحريق. وذكر في [المغني] في مسألة قتل الكلب أن ما لا مضرة فيه لا يباح قتله واستدل بالنهي عن قتل الكلاب فدل كلامه هذا على التسوية وأنه إن أبيح قتل ما لا مضرة فيه من غير الكلاب أبيح قتل الكلاب وهو ظاهر كلام ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الخلق (3319) ، صحيح مسلم السلام (2241) ، سنن النسائي كتاب الصيد والذبائح (4359) ، سنن أبو داود الأدب (5265) ، سنن ابن ماجه الصيد (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/449) .

جماعة وهو متجه. وعلى هذا يحمل تخصيص جواز قتل الكلب العقور والأسود البهيم؛ لأنه لم يبح قتل ما لا مضرة فيه ... إلى أن قال: وعلى قولنا يمنع قتلها، أنها إذا آذت بكثرة نجاستها وأكلها ما غفل عنه الناس جاز قتلها على ما يأتي: نص أحمد في النمل بقتله إذا آذاه مع أن الشارع نهى عن قتلها فما جاز في أحدهما جاز في الآخر ... إلى أن قال: فأما ما فيه منفعة من وجه ومضرة من وجه كالبازي والصقر والشاهين والباشق فإنه يخير في قتلها على ما ذكره في [المستوعب] ، وكذا في الفصول لما استوت حالتاه استوى الحال في قتله وتركه فمضرته في اصطياده لطيور الناس ومنفعته كونه يصطاد للناس قال: وكذا الفهد وكل كلب معلم للصيد ... إلى أن قال: ويحرم قتل الهر، وجزم بعضهم يكره. وإن ملكت حرم. وكذا جزم به صاحب [النظم] وإن كره فقط فقتل الكلب أولى ويجوز قتلها بأكلها لحما أو غيره نحوه قال صاحب [النظم] (بلا كراهة) وفي الفصول (حين أكله) ؛ لأنه لا يردعه إلا الدفع في حال صياله والقتل شرع في حق الآدمي وإن فارق الفعل ليرتدع الجنس. وفي [الترغيب] لا يجوز إلا إذا لم يندفع إلا به. وقال صاحب [النظم] : وكذا لو كان يتبول على الأمتعة أو يكسر الآنية ويخطف الأشياء غالبا لا قليلا لمضرته.. اهـ (¬1) ¬

_ (¬1) [الآداب الشرعية] ، (3\ 369 - 374)

الأمر الثاني: القول بعدم إباحة ذبحها على أي حال كانت ميؤوسا منها. واستدل لذلك بما يلي: روى مسلم في [صحيحه] : عن جابر بن عبد الله قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها لتقتله، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين، فإنه شيطان (¬1) » ، وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن المغفل قال: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، (¬2) » فإذا كان هذا في الكلاب التي لا ينتفع بها، بل قد يكون ضررها محققا كتنجيسها للشوارع ونحوها. فكيف بالحمر بحجة أنه لا ينتفع بها؟ وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل (¬3) » . متفق عليه. وعنه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (¬4) » . متفق عليه. وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (¬5) » رواه مسلم. وقال النووي: قال العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه- وهو معنى «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (¬6) » - أي: لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها، وهذا النهي للتحريم، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن عمر التي بعد هذه: «لعن الله من فعل هذا (¬7) » ، ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه وتضييع لماليته وتفويت لذكاته إن كان مذكى ولمنفعته إن لم يكن مذكى. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم المساقاة (1572) ، سنن أبو داود الصيد (2846) ، مسند أحمد بن حنبل (3/333) . (¬2) صحيح مسلم الطهارة (280) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1486) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4280) ، سنن أبو داود الطهارة (74) ، مسند أحمد بن حنبل (4/85) . (¬3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5514) ، مسند أحمد بن حنبل (2/94) ، سنن الدارمي الأضاحي (1973) . (¬4) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، مسند أحمد بن حنبل (2/86) . (¬5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) . (¬6) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) . (¬7) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، مسند أحمد بن حنبل (2/141) .

وعن جابر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر عليه حمار وقد وسم في وجهه قال: لعن الله الذي وسمه (¬1) » رواه مسلم. فهذه الأحاديث ونظائرها دالة على تحريم قتل كل ذي روح لاتخاذها غرضا. فكيف بقتل الحمر بدون غرض لذلك؟ ودعوى إيذائها وعدم الانتفاع بها ليس مبررا في قتلها كالكلاب حيث لا ينتفع بها والميؤوس منه؛ لمرضه وعجزه لا أذى فيه. عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه: أفي إن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح (¬2) » . وفي بعض الأحاديث: «فهلا نملة واحدة (¬3) » أخرجه مسلم. وأخرج أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (¬4) » . قال النووي: فيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه، وفي الحديث دليل لتحريم قتل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب. قال الشيخ أحمد بن محمد الصاوي المالكي في حاشيته على [الشرح الصغير] : ودخل في الدابة الواجبة نفقتها هرة عمياء فتجب نفقتها على من انقطعت عنده حيث لم تقدر على الانصراف فإن قدرت عليه لم تجب؛ لأن له طردها. وخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد اندلع لسانه من ¬

_ (¬1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2117) ، سنن أبو داود الجهاد (2564) . (¬2) صحيح البخاري بدء الخلق (3319) ، صحيح مسلم السلام (2241) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4358) ، سنن أبو داود الأدب (5266) ، سنن ابن ماجه الصيد (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/403) . (¬3) صحيح البخاري بدء الخلق (3319) ، صحيح مسلم السلام (2241) ، سنن النسائي كتاب الصيد والذبائح (4359) ، سنن أبو داود الأدب (5265) ، مسند أحمد بن حنبل (2/449) . (¬4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3482) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .

العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها (¬1) » . قال النووي في الكلام على هذا الحديث معناه: في الإحسان إلى كل حيوان حي يسقيه ونحوه أجر، وسمى الحي ذا كبد رطبة؛ لأن الميت يجف جسمه وكبده. ففي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى الحيوان المحترم وهو ما لا يؤمر بقتله، فأما المأمور بقتله فيتمثل أمر الشرع في قتله، والمأمور بقتله كالكافر والحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن. وأما المحترم: فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه أيضا بإطعامه وغيره، سواء كان مملوكا أولا، وسواء كان مملوكا له أو لغيره.. والله أعلم. قال في [كشاف القناع] : ولا يجوز قتلها- أي: البهيمة- ولا ذبحها للإراحة؛ لأنها مال مادامت حية وذبحها إتلاف لها، وقد نهي عن إتلاف المال كالآدمي المتألم بالأمراض الصعبة أو المصلوب بنحو حديد؛ لأنه معصوم مادام حيا. ومعنى هذا كثير في كتب الحنابلة ولا نطيل بذكره مما يدل على تحريم قتل ما لا يؤكل لحمه كالحمر ونحوها حتى لقصد راحتها أو كانت في النزع مثلا فيحرم قتلها. لذلك كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. فبهذا يتضح أن ما قيل من جواز قتل ما كان ميؤوسا منه من الحمر الأهلية غير مسلم. وقد صرح أيضا الإمام النووي بتحريم قتل الحمر والبغل لدبغ جلده أو لاصطياد النسور والعقبان على لحمه وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الخلق (3321) ، صحيح مسلم السلام (2245) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) .

وذكر الإمام النووي أيضا ما معناه: إذا كان مع الإنسان دابة من حمار وغيره لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها حتى لو لم يجد ماء إلا مع شخص آخر لا حاجة له به وامتنع من سقي الحمار أو الكلب جاز لصاحب الدابة أن يكابره عليه إذا امتنع من بيعه، فيأخذه منه قهرا لكلبه ودابته، كما يأخذه لنفسه، فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا، وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا. اهـ. ولم يفصل النووي في هذا بين ما إذا كان الحمار أو الكلب ميؤوسا منه أو غير ميؤوس أو يمكن الانتفاع بها أو لا، كما صرح به من قبل. اهـ. قال الشيخ الشبراملي الشافعي: (ويحرم ذبح الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلا) . قال في [مغني المحتاج] : وعليه علف دوابه وسقيها، فإن امتنع أجبر في الحيوان المأكول على بيع أو علف أو ذبح، وفي غيره على بيع أو علف، ويحرم ذبحه للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. اهـ. هذا ما تيسر إيراده، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار رقم 48 بخصوص المواشي السائبة على جانب الطرق العامة

قرار رقم (48) وتاريخ 20 \ 8 \ 1396هـ الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان 1396 هـ جرى من المجلس الاطلاع على خطاب سمو وزير الشئون البلدية والقروية رقم (987 \ 3 \ ق) وتاريخ 17 \ 2 \ 1396 هـ بخصوص المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة. كما جرى الاطلاع على الفتوى الصادرة في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برقم (1075) وتاريخ 2 \ 9 \ 1395 هـ، وعلى الفتوى الصادرة من عضو المجلس سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد بموجب خطابه رقم (305 \ 1) وتاريخ 12 \ 1 \ 1396 هـ الموجه إلى سمو وزير الشئون البلدية والقروية بخصوص ما ذكر، وعلى البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. وبعد دراسة ما ذكر وتداول الرأي والمناقشة قرر بالأكثرية ما يلي: إن سائبة المواشي لا تخلو: إما أن تكون مما يؤكل لحمها أو لا، فإن كانت مما يؤكل لحمها فإن لولي الأمر أن يأمر باحتجازها وبيع ما يمكن بيعه منها في المزاد العلني بعد التعرف على صفاتها، فإن جاء صاحبها أعطي ما يبقى من قيمتها بعد خصم مصاريف الاحتجاز والعلف والنقل والبيع، وإن كانت مما لا يمكن بيعه لمرضه أو كبره أو نحو ذلك فلولي الأمر

أن ينظر شأنها بما يراه محققا للمصلحة العامة ودافعا للضرر. وهذا كله بعد إعلام المواطنين بضرورة حماية جوانب الطرق العامة من مواشيهم وإخطارهم بعواقب المخالفة وذلك بوسائل الإعلام المختلفة من إذاعة وصحافة وتلفزة. وإن كانت مما لا يؤكل لحمه كالحمير فنظرا إلى ثبوت الضرر من توافرها على جوانب الطرق العامة وحيث تبين أنه ليس لها ملاك ولا سوق نافقة لبيعها، فإن إزالة ضررها متعينة بأي طريق يضمن ذلك، فإن وجد من يأخذها للتملك على شرط إبعادها عن جوانب الطرق العامة بحيث يؤمن شرها ويتفادى خطرها أعطيها، وبذلك ينتهي إشكالها، وإن أمكن نقلها إلى جهات أهلها بحاجة إليها فكذلك، وإن لم يتيسر شيء من ذلك وبقي إشكالها على حالة مهددة أمن الطريق موفرة أسباب الدهس والصدم والحوادث وما يتبع ذلك في الغالب من إتلاف الأنفس والأموال وبذل جهات الاختصاص جهودا كبيرة في الإسعاف والتحقيق وفصل الخصومات، فإن لولي الأمر أن يتخذ ما يراه مناسبا للقضاء على ما توافر وجوده في الطرق العامة وعلى جوانبها بذبحها والإحسان إليها في ذلك وإطعامها حيوانات أخرى، وذلك لأمور: الأول: انتفاء ماليتها بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس. الثاني: ثبوت أذيتها والضرر اللاحق من توفرها في الطرق وعلى جوانبها بما تسببه من الصدم والدهس، والحوادث وتلف ما يتلف من ذلك من الأموال والأنفس، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها وارتكاب أدنى المفسدتين لتفادي أشدهما، ولا شك أن مفسدة ذبحها إن وجدت فهي قليلة مغمورة في جنب

مصالح الخلاص منها ودرء مفاسدها. الثالث: أن جمعها والإبقاء عليها والحال ما ذكر، فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها وتوظيف عمال يقومون بذلك، وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة، ومما لا شك فيه أن بيت المال مرصود لمصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل، وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه. الرابع: جواز ذبح المأكول لحمه مما تعافه الأنفس في الغالب لمرضه أو كبره أو نحو ذلك لإراحته أو الخلاص من مشقة النفقة عليه ورعايته، فإذا جاز ذبح ذلك لغير الأكل فقد لا يكون فارق مؤثر بينه وبين ما لا يؤكل لحمه مما لا فائدة في بقائه إذا كان في ذبحه جلب مصلحة أو دفع مضرة. الخامس: ما جاءت به النصوص وقال به أهل العلم من جواز قتل ما منه الأذى؛ كالفواسق الخمس والهر المؤذي وغير ذلك من الحيوانات والحشرات المؤذية، ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن مفلح في كتابه [الآداب الشرعية] حول حكم قتل الكلاب المؤذية، حيث قال: على قولنا يمنع لها أنها إذا آذت بكثرة نجاستها وأكلها ما غفل عنه الناس جاز قتلها. اهـ. وما ورد من النهي عن قتل الكلاب والثناء على من يسقيها إذا عطشت وذم من يحبسها أو يؤذيها فذلك فيما لا يؤذي من الحيوانات. وما ورد أيضا من النهي عن اتخاذ الحيوانات غرضا، فذلك من أجل قتلها صبرا وهو في غير الحيوانات المؤذية بدليل الأمر بقتل ما يؤذي منها كالخمس الفواسق وغيرها.

وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أعضاء هيئة كبار العلماء رئيس الدورة التاسعة محمد بن علي بن حركان عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله خياط ... عبد الرزاق عفيفي عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد محمد بن جبير ... عبد الله بن غديان ... راشد بن خنين صالح بن لحيدان ... عبد الله بن منيع

وجهة نظر ورأي سماحة الشيخ عبد الله بن حميد بشأن المواشي السائبة الطرق العامة

وجهة نظر ورأي بشأن المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في الطائف اتخذ في دورته التاسعة بالأكثرية القرار رقم (48) في يوم 20 \ 8 \ 1396 هـ بشأن المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة. أجاز فيه في بعض الصور ذبح هذه المواشي بحجة أن هذا هو الطريق الوحيد للتخلص مما تسببه من أضرار من جراء تسييبها على جوانب هذه الطرق. . إلى آخر ما جاء في القرار المشار إليه. وحيث إنني عضو في هذا المجلس ولم أوافق على الحكم الذي أصدره- فإنني أسجل رأيي في الموضوع موضحا وجهة نظري في ذلك، فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون وأستلهم الصواب: جاءت النصوص الكثيرة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم تعذيب الحيوان أو قتله بغير وجه مشروع، كما في [صحيح مسلم] عن عبد الله بن المغفل قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال: «ما بالهم الكلاب (¬1) » ؟! "، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، ولا شك أن المنهي عن قتله في هذا الحديث جميع أنواع الكلاب، سواء كانت مما ينتفع به ككلب الصيد والماشية أو لا ينتفع به، وقد ورد النهي عن قتلها مع ورود النهي عن اقتنائها، وأنه ينتقص من أجر مقتنيها كل يوم قيراط، إضافة إلى أنها تسبب أضرارا محققة كتنجيسها للشوارع والإزعاج بأصواتها في الأوقات التي يسكن فيها الناس. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الطهارة (280) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1486) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4280) ، سنن أبو داود الطهارة (74) ، سنن ابن ماجه الصيد (3205) ، مسند أحمد بن حنبل (4/85) ، سنن الدارمي الصيد (2008) .

كما ورد النهي عن قتل الحيوان أو تعذيبه بصيغة اللعن. فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئا فيها الروح غرضا، ولعن صلى الله عليه وسلم من وسم الحمار في وجهه، والقتل أشد من الوسم. كما نهى عليه الصلاة والسلام: أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل. قال النووي: قال العلماء: صبر البهائم: أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (¬1) » . وقد صرح الشيخ تقي الدين بتحريم قتل ما لا يؤكل لحمه حتى لقصد راحتها أو كانت في النزع مثلا. ويقول الشيخ الشبراملي الشافعي: ويحرم ذبح الحيوان غير المأكول ولو لإراحته كالحمار الزمن مثلا. وأصرح من ذلك ما ذكره الإمام النووي من تحريم قتل الحمار والبغل لدبغ جلده أو لاصطياد النسور والعقبان على لحمه، وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر. فهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء كلها صريحة في النهي عن قتل الحيوان، ولم تفرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم، ولا بين المنتفع به وغير المنتفع به، إذا كان الأمر كذلك فإن ما وجهت به الأكثرية قرارها بجواز الذبح لانتفاء مالية تلك الحيوانات. . بانتفاء الانتفاع بها وحرمة أكلها على الناس غير ظاهر لما هو واضح من هذه النصوص وأقوال العلماء، وقد صرح العلماء كذلك بوجوب نفقة الحيوان على مالكه، سواء كان مأكولا أو غير مأكول، وسواء كان منتفعا به أو غير منتفع به. يقول الشيخ الصاوي المالكي على [حاشية الشرح الصغير] : ودخل في الدابة الواجبة نفقتها هرة عمياء فتجب نفقتها على من انقطعت عنده حيث ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) .

لم تقدر على الانصراف، فإن قدرت عليه لم تجب، لأن له طردها. وذكر الإمام النووي ما معناه: إذا كان مع الإنسان دابة من حمار وغيره لزمه أن يحصل لها الماء لعطشها حتى لو لم يجد ماء إلا مع شخص آخر لا حاجة له به وامتنع من سقي الحمار أو الكلب جاز لصاحب الدابة أن يكابره عليه إذا امتنع من بيعه، فيأخذه منه قهرا لكلبه ودابته، كما يأخذه لنفسه، فإن كابره فأتى الدفع على نفس صاحب الماء كان دمه هدرا، وإن أتى على صاحب الكلب كان مضمونا. ولم يفصل النووي في هذا بين ما إذا كان الحمار أو الكلب ميئوسا منه أو غير ميئوس أو يمكن الانتفاع به أو لا، كما صرح به من قبل. وجاء في [مغني المحتاج] : وعليه علف دوابه وسقيها فإن امتنع أجبر في الحيوان المأكول على بيع أو علف أو ذبح وفي غيره على بيع أو علف، ويحرم ذبحه للنهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. وأما ما قيل من أن جمع هذه الحيوانات والإبقاء عليها فيه تحميل لبيت المال للإنفاق عليها، وفي ذلك مضرة حيث إن النفقة عليها من بيت المال أو غيره خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق أي مصلحة حاضرة ولا منتظرة، وأن بيت المال مرصود لمصالح المسلمين في الحاضر والمستقبل، وأنه لا يجوز الصرف منه فيما لا فائدة للمسلمين منه إلى غير ذلك مما أوردوه من تعليلات، فهي غير مسلمة لأمور: الأول: إن الشريعة الإسلامية رتبت الأجر العظيم على رعاية تلك الحيوانات والقيام عليها حتى التي لا تدرك لها فائدة ولا منفعة في ظاهر الأمر، فامرأة بغي غفر لها بسبب سقيها لكلب كان يأكل الثرى من العطش.

فالكلب ليس مملوكا لها ولا هو مما يؤكل لحمه ولم ينتفع به بصيد أو ماشية، والحرمة ثابتة لكل حيوان حتى ولو كان زمنا كبيرا أو مكسرا إذا كان الأمر كذلك، فكيف يقال: إن سقيها والإنفاق عليها خسارة محضة وجهود ضائعة ليس لها مقابل في تحقيق مصلحة حاضرة ولا منتظرة؟! كيف وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في كل كبد رطبة أجر (¬1) » ؟ وإذا كانت هناك دول غير إسلامية تنشئ جمعيات للرفق بالحيوان استبشاعا لقتلها أو إيذائها، وينفقون في ذلك الأموال الطائلة لرعايتها وعلاجها من المرض والعجز، يستوي في ذلك لديهم المأكول وغير المأكول، والميئوس منها من عدمه- فما بال المسلمين ينزعون إلى تعمد مخالفة النصوص التي تحترم الحيوان وتؤكد الأجر العظيم لمن قام بذلك؟! . الثاني: بالإمكان التعرف على أصحاب هذه الحيوانات السائبة وإلزامهم شرعا بالإنفاق عليها وإبعادها عن جانبي الطريق، ومن لم يلتزم بذلك يعاقب بما يكون مناسبا. الثالث: في حالة تخلي أربابها عنها يمكن نقلها إلى قرى نائية كالتي تقع في شعوف الجبال وبطون الصحاري، التي لا تصل إليها السيارات، وأهل تلك المناطق بحاجة إليها. الرابع: ما يبقى من الحيوانات بعد ذلك مما لا يدخل فيما تقدم إذا وجد. ففي بيت المال متسع للإنفاق عليه ورعايته ولله الحمد، وقد قامت الدولة بالإنفاق على السباع الضارية والوحوش الكاسرة في (حدائق الحيوانات) وإذا عجز بيت المال وتزاحمت عليه الحقوق فقد يرد تعليلهم بأن في المسألة تحميلا لبيت المال للإنفاق عليهما. . إلخ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المساقاة (2363) ، صحيح مسلم السلام (2244) ، سنن أبو داود الجهاد (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك الجامع (1729) .

الخامس: يؤكد القرار على أن في ترك المواشي سائبة على جانبي الطرق أضرارا وتهديدا لأمن الطريق وخطرا على الأموال والأنفس. . إلخ. ولكن الواقع الملموس ليس على الصورة التي رسمها القرار للأمرين التاليين: الأولى: أن الحوادث في هذه الطرق ناتجة عن عوامل كثيرة منها: سرعة السائقين وتهورهم، ومنها: خلل في محركات السيارات وآلاتها، ومنها: وعورة الطريق وكثرة منحنياته ومنعطفاته وما شابه ذلك، ونسبة حدوث ذلك من المواشي بجانب ما ذكرنا قليل جدا. الثاني: السبب الحقيقي لاصطدام السيارة بالحيوان سرعة السائق وتهوره وعدم أخذ الحيطة الكافية أثناء سيره، إذ من المعلوم أن الذي يسير سيرا معتدلا يكون متمكنا من سيارته تمكنا يقيه بإذن الله مما يظهر على الطريق من مفاجآت كمنحنى خطر أو إصلاحات في الطريق أو سيارة أخرى تقابله أو حيوان وما شابه ذلك. السادس: القول بذبحها يؤدي إلى تجرؤ رجال الإمارات التي على الطرق في أخذها وبيعها بأي ثمن أو أكلها ولو كانت بعيدة عن الطريق؛ لأن ضبط مثل ذلك وتحديده أمر متعذر، والنفوس لا حدود لطمعها لا سيما إذا وجدت متنفسا من نظام أو حكم: ويؤدي ذلك بالتالي إلى حصول المشاغبات والمنازعات بين هؤلاء وأرباب البوادي والقرى بسبب التعرض لمواشيهم بحجة هذا الحكم. يتضح مما تقدم أنه من الممكن دفع الأضرار الناجمة من هذه المواشي-

على التسليم بوجودها- إما بالتزام أصحابها بحفظها وإبعادها عن الطريق أو نقلها إلى أمكنة بعيدة يتوفر فيها الماء والكلأ، كالصمان والدهناء وأمثالها، أو نقلها إلى بعض القرى النائية في شعوف الجبال مما لا تصل إليها السيارات فينتفعون بها ركوبا وحملا كالمناطق الجنوبية من المملكة، هذا ما ظهر لنا. وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن محمد بن حميد عضو هيئة كبار العلماء

قرار رقم 141 عن حكم النفقة على الضوال من المواشي

النفقة على الضوال من المواشي التي تتصل بالمواشي المملوكة قرار رقم (141) وتاريخ 9 \ 11 \ 1407هـ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا ورسولنا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته القويمة إلى يوم الدين. . وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف بتاريخ 1 \ 11 \ 1407هـ إلى 9 \ 11 \ 1407هـ اطلع على كتاب معالي وكيل وزارة الداخلية الموجه إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (17 \ 20629) وتاريخ 16 \ 3 \ 1407 هـ المشفوع به كتاب صاحب السمو الملكي أمير المنطقة الشرقية رقم (14 \ 1 \ 9737 \ 1) في 25 \ 2 \ 1407هـ المتضمن طلب الاستفتاء عن حكم النفقة على الضوال من المواشي التي قد تتصل ببعض المواشي المملوكة وما ينبغي اتخاذه نحو هذه الضوال. كما اطلع المجلس على البحث المعد في هذا الموضوع وعلى بعض أقوال العلماء فيه وعلى فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في ذلك: وبعد المناقشة والتأمل وتداول الرأي قرر المجلس ما يلي: أولا: أن يجتهد من لحقت هذه الضوال بمواشيه في طردها وإبعادها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل: «ما لك ولها؟ دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها (¬1) » . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري في اللقطة (2436) ، صحيح مسلم اللقطة (1722) ، موطأ مالك الأقضية (1482) .

ثانيا: إذا لم يتمكن من التخلص منها فعليه أن يبادر بالاتصال بأقرب قاضي إليه، ويخبره بالواقع، وعلى القاضي أن يجري ما يراه الأصلح في ذلك. ثالثا: تزود المحاكم بنسخة من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في حكم الضوال مع هذا القرار. وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة عبد الله خياط اعتذر لمرضه ... عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي . ... محمد بن جبير ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... عبد المجيد حسن ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ صالح بن غصون ... صالح اللحيدان ... راشد بن خنين عبد الله بن منيع ... عبد الله البسام ... عبد الله بن غديان حسن بن جعفر العتمي ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... محمد بن صالح العثيمين صالح الفوزان ... . ... .

حوادث السيارات وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده

(8) حوادث السيارات وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حوادث السيارات وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة التاسعة المنعقدة بمدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ من إدراج موضوع حوادث السيارات من صدم ودهس وانقلاب وبيان حكم ما يترتب على ذلك بالنسبة لحق الله وحق عباده في جدول أعمالها بالدورة العاشرة- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي: 1 - تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام. 2 - دهس سيارة ونحوها لشيء وانقلابها وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام. 3 - بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة نظام

المرور ونحوه مما يسبب وقوع الحوادث. 4 - توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع الحادث بنسبة اعتدائهم أو خطئهم. وفيما يلي الكلام على هذه الموضوعات إن شاء الله تعالى.

الموضوع الأول تصادم سيارتين مثلا وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام

الموضوع الأول: تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام تمهيد: يحسن بنا أن نمهد بين يدي النقل عن فقهاء الإسلام في الموضوع ببيان منشأ اختلاف الأحكام أو اختلاف الفقهاء فيها بذكر ما يأتي: إن ما يترتب على تصادم سيارتين مثلا أو صدم إحداهما الأخرى من الأحكام يختلف باختلاف عدة أمور: الأول: حال القائد أو السائق من كونه عامدا أو مخطئا أو مغلوبا على أمره في وقوع الحادث أو كونه لا يحسن القيادة. الثاني: اختلاف الفقهاء في ضابط العمد والخطأ وشبه العمد وما تحمله العاقلة وما لا تحمله. الثالث: اعتبار فعل كل من الجانبين في حق نفسه وحق صاحبه أو اعتباره في حق صاحبه فقط. الرابع: تعدي كل من الطرفين بالنسبة للحادث أو تعدي أحدهما دون الآخر. الخامس: اعتبار التسبب أو المباشرة منهما أو من أحدهما أو من غيرهما. السادس: الاختلاف في تحقيق المناط (التطبيق) .

وفيما يلي نقول من بعض كتب الفقهاء في حكم حوادث المواصلات وآلات النقل في زمنهم يتضح منها حكم وسائل النقل في زمننا: جاء في [تكملة فتح القدير على الهداية] (¬1) : (وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) . وقال زفر والشافعي: يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، لما روي في ذلك عن علي رضي الله عنه، ولأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه؛ لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه فيهدر نصفه ويعتبر نصفه، كما إذا كان الاصطدام عمدا أو جرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه جراحة، أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهار عليهما يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا. ولنا أن الموت يضاف إلى فعل صاحبه؛ لأن فعله في نفسه مباح وهو المشي في الطريق، فلا يصلح مستندا للإضافة في حق الضمان كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقع فيها لا يهدر شيء من دمه، وفعل صاحبه وإن كان مباحا لكن الفعل المباح في غيره سبب للضمان؛ كالنائم إذا انقلب على غيره. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية، فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا. وفيما ذكر من المسائل الفعلان محظوران فوضح الفرق. اهـ. وقال الكاساني (¬2) : إذا اصطدم فارسان فماتا فدية كل واحد منهما على ¬

_ (¬1) [تكملة فتح القدير] (8 \ 348) . (¬2) [بدائع الصنائع] (7 \ 273) .

عاقلة الآخر في قول أصحابنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر رحمه الله على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، وهو قول الشافعي رحمه الله (وجه) قول زفر أن كل واحد منهما مات بفعلين: فعل نفسه وفعل صاحبه، وهو صدمة صاحبه وصدمة نفسه، فيهدر ما حصل بفعل نفسه ويعتبر ما حصل بفعل صاحبه، فيلزم أن يكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، كما لو جرح نفسه وجرحه أجنبي فمات، أن على الأجنبي نصف الدية لما قلنا، كذا هذا. (ولنا) ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال مثل مذهبنا، ولأن كل واحد منهما مات من صدم صاحبه إياه فيضمن صاحبه، كمن بنى حائطا في الطريق فصدم رجلا فمات، أن الدية على صاحب الحائط كذا هذا. وبه تبين أن صدمه نفسه مع صدم صاحبه إياه فيه غير معتبر، إذ لو اعتبر لما لزم باني الحائط على الطريق جميع الدية؛ لأن الرجل قد مشى إليه وصدمه، وكذلك حافر البئر يلزمه جميع الدية وإن كان الماشي قد مشى إليها. رجلان مدا حبلا حتى انقطع فسقط كل واحد منهما، فإن سقطا على ظهريهما فماتا فلا ضمان فيه أصلا؛ لأن كل واحد منهما لم يمت من فعل صاحبه، إذ لو مات من فعل صاحبه لخر على وجهه، فلما سقط على قفاه علم أنه سقط بفعل نفسه، وهو مده فقد مات كل واحد منهما من فعل نفسه فلا ضمان على أحد، وإن سقطا على وجهيهما فماتا فدية كل واحد منهما على عاقلة الآخر؛ لأنه لما خر على وجهه علم أنه مات من جذبه، وإن سقط أحدهما على ظهره والآخر على وجهه فماتا جميعا فدية الذي سقط على وجهه على عاقلة الآخر؛ لأنه مات بفعله وهو جذبه، ودية الذي سقط

على ظهره هدر؛ لأنه مات من فعل نفسه ولو قطع قاطع الحبل فسقطا جميعا فماتا فالضمان على القاطع؛ لأنه تسبب في إتلافهما، والإتلاف تسببا يوجب الضمان كحفر البئر ونحو ذلك، صبي في يد أبيه جذبه رجل من يده والأب يمسكه حتى مات فديته على الذي جذبه، ويرثه أبوه، لأن الأب محق في الإمساك، والجاذب متعد في الجذب، فالضمان عليه، ولو تجاذب رجلان صبيا وأحدهما يدعي أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فمات من جذبهما فعلى الذي يدعي أنه عبده ديته، لأنه متعد في الجذب؛ لأن المتنازعين في الصبي إذا زعم أحدهما أنه أبوه فهو أولى به من الذي يدعي أنه عبده، فكان إمساكه بحق وجذب الآخر بغير حق فيضمن، رجل في يده ثوب تشبث به رجل فجذبه صاحب الثوب من يده، فخرق الثوب ضمن الممسك نصف الخرق؛ لأن حق صاحب الثوب في دفع الممسك وعليه دفعه بغير جذب، فإذا جذب فقد حصل التلف من فعلهما فانقسم الضمان بينهما، رجل عض ذراع رجل فجذب المعضوض ذراعه من فيه، فسقطت أسنان العاض وذهب لحم ذراع هذا تهدر دية الأسنان، ويضمن العاض أرش الذراع؛ لأن العاض متعد في العض والجاذب غير متعد في الجذب: لأن العض ضرر وله أن يدفع الضرر عن نفسه. رجل جلس إلى جنب رجل فجلس على ثوبه وهو لا يعلم فقام صاحب الثوب فانشق ثوبه من جلوس هذا عليه يضمن الجالس نصف ذلك؛ لأن التلف حصل من الجلوس والجذب والجالس متعد في الجلوس، إذ لم يكن له أن يجلس عليه فكان التلف حاصلا من فعليهما، فينقسم الضمان عليهما، رجل أخذ بيد إنسان فصافحه فجذب يده من يده فانقلب فمات فلا

شيء عليه؛ لأن الآخذ غير متعد في الأخذ للمصافحة، بل هو مقيم سنة وإنما الجاذب هو الذي تعدى على نفسه، حيث جذب يده لا لدفع ضرر لحقه من الآخذ وإن كان أخذ يده ليعصرها فآذاه فجر يده ضمن الآخذ ديته؛ لأنه هو المتعدي، وإنما صاحب اليد دفع الضرر عن نفسه بالجر، وله ذلك فكان الضمان على المتعدي، فإن انكسرت يد الممسك وهو الآخذ بالجذب لم يضمن الجاذب، لأن التعدي من الممسك فكان جانيا على نفسه فلا ضمان على غيره. والله سبحانه وتعالى أعلم. في [المدونة] (¬1) : (قلت) : أرأيت إذا اصطدم فارسان فقتل كل واحد منهما صاحبه؟ (قال) مالك: عقل كل واحد منهما على قبيل صاحبه، وقيمة كل فرس منهما في مال صاحبه. (قال) : أرأيت لو أن سفينة صدمت سفينة أخرى فكسرتها فغرق أهلها؟ (قال) : قال مالك: إن كان ذلك من الريح غلبتهم أو من شيء لا يستطيعون حبسها منه فلا شيء عليهم، وإن كانوا لو شاءوا أن يصرفوها صرفوها فهم ضامنون. وفي [بداية المجتهد] لابن رشد (¬2) : اختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما، فقال مالك ¬

_ (¬1) [المدونة] (4 \ 505) . (¬2) [بداية المجتهد] (2 \ 409) .

وأبو حنيفة وجماعة: على كل منهما دية الآخر، وذلك على العاقلة، وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه. قال أحمد الدردير في [الشرح الكبير لمختصر خليل] (¬1) : وإن تصادما أي: المكلفان أو غيرهما (أو تجاذبا) حبلا أو غيره، كأن جذب كل منهما يد صاحبه فسقطا (مطلقا) ، سواء كانا راكبين أو ماشيين أو مختلفين أو بسفينتين على الراجح (قصدا) ، منهما (فماتا) معا فلا قصاص لفوات محله (أو) مات (أحدهما فقط) (فالقود) جواب للمسألتين، وهو على حذف مضاف، أي: فأحكامه ثابتة بينهما وحكمه في موتهما نفيه وفي موت أحدهما ثبوته، ومن أحكامه أنه إذا كان أحدهما بالغا والآخر صبيا فلا قصاص على الصبي أو كان أحدهما حرا والآخر رقيقا فلا يقتص للرقيق من الحر ويحكم بحكم القود أيضا فيما لو قصد أحدهما التصادم أو التجاذب دون الآخر، وهو داخل في قوله قصدا (وحملا عليه) أي: على القصد عند جهل الحال لا على الخطأ، وإنما يظهر في موت أحدهما فقط للقصاص من الحي (عكس السفينتين) إذا تصادمتا فتلفتا أو إحداهما وجهل الحال، فيحملان على عدم القصد فلا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح وليس من عمل أربابهما، وهذه العلة تدل على أن المراد بعدم القصد هو العجز لا الخطأ وهو كذلك على الراجح، وأما الخطأ ففيه الضمان فظهر أن لقوله: عكس السفينتين فائدة حيث حمل على العجز. ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير لمختصر خليل] (4 \ 247) .

وأما المتصادمان ففي العمد القود كما قال، وفي الخطأ الضمان. ولو سفينتين فيهما ولا شيء في العجز، بل هدر ولو غير سفينتين كما أشار له بقوله (إلا لعجز حقيقي) أي: إلا أن يكون تصادمهما لعجز حقيقي، لا يستطيع كل منهما أن يصرف نفسه أو دابته عن الآخر فلا ضمان، بل هدر، ولا يحملان عند الجهل عليه، بل على العمد كما تقدم، لكن الراجح أن العجز الحقيقي في المتصادمين كالخطأ، فيه ضمان الدية في النفس والقيم في الأموال بخلاف السفينتين فهدر، وحملا عند الجهل عليه؛ لأن جريهما بالريح كما تقدم، (لا لخوف غرق أو ظلمة) . فخرج من قوله: عكس السفينتين، أي: فإنهما يحملان على العجز عند الجهل فلا قود ولا ضمان (إلا لخوف غرق أو ظلمة) فالضمان: أي: لا إن قدروا على الصرف فلم يصرفوا خوفا من غرق أو نهب أو أسر أو وقوع في ظلمة حتى تلفتا أو إحداهما أو ما فيهما من آدمي أو متاع فضمان الأموال في أموالهم، والدية على عواقلهم؛ لأن هذا ليس من العجز الحقيقي لقدرتهم على الصرف، وليس لهم أن يسلموا من الهلاك بهلاك غيرهم، (وإلا) يكن التصادم في غير السفينتين أو فيهما أو التجاذب قصدا، بل خطأ (فدية كل) من الآدميين (على عاقلة الآخر) للخطأ، وقيمة فرسه مثلا، وإنما خص الفرس؛ لأن التصادم غالبا يكون في ركوب الخيل (في مال الآخر) لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل غير الدية (كثمن العبد) أي: قيمته لا يكون على عاقلة؛ لأنه مال، بل في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد حالة، فإن تصادما فماتا فإن زادت دية الحر على قيمة العبد لم يضمن سيده الزائد، لأنها تعلقت برقبة العبد، ورقبته زالت ولو زادت قيمة العبد على دية الحر أخذ سيده الزائد من

مال الحر حالا. اهـ. قال محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق في شرحه [التاج والإكليل لمختصر خليل] (¬1) : (وإن تصادما أو تجاذبا مطلقا قصدا فماتا أو أحدهما فالقود) . قال مالك: إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان والراكبان فدية كل واحد على عاقلة الآخر وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر. قال مالك: ولو أن حرا وعبدا اصطدما فماتا جميعا فقيمة العبد في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد يتقاصان، فإن كان ثمن العبد أكثر من دية الحر كان الزائد لسيد العبد في مال الحر، وإن كانت دية الحر أكثر لم يكن على السيد من ذلك شيء. وقال في رجلين اصطدما وهما يحملان جرتين فانكسرتا غرم كل واحد ما كان على صاحبه، وإن انكسرت إحداهما غرم ذلك له صاحبه. قال مالك في السفينتين تصطدمان فتغرق إحداهما بما فيها فلا شيء في ذلك على أحد؛ لأن الريح تغلبهم إلا أن يعلم أن النواتية لو أرادوا صرفها قدروا فيضمنوا وإلا فلا شيء عليهم. ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل لمختصر خليل] (6 \ 243) .

قال ابن القاسم: ولو قدروا على حبسها إلا أن فيها هلاكهم وغرقهم فلم يفعلوا فليضمن عواقلهم دياتهم ويضمنوا الأموال في أموالهم، وليس لهم أن يطلبوا نجاتهم بغرق غيرهم، وكذلك لو لم يروهم في ظلمة الليل وهم لو رأوهم لقدروا على صرفها فهم ضامنون لما في السفينة ودية من مات على

عواقلهم، ولكن لو غلبتهم الريح أو غفلوا لم يكن عليهم شيء. انتهى. من ابن يونس بن عرفة. قال ابن شاس: وسواء كان المصطدمون راكبين أو ماشين أو بصيرين أو ضريرين أو أحدهما ضريرا وبيده عصا، وإن تعمد الاصطدام فهو عمد محض فيه حكم القصاص، ولو كانا صبيين ركبا بأنفسهما أو أركبهما أولياؤهما فالحكم فيهما كما في البالغين إلا في القصاص، ولو جذبا حبلا فانقطع فتلف فكاصطدامهما، وإن وقع أحدهما على شيء فأتلفه ضمناه. ابن عرفة يؤيد هذا ما في [المدونة] و [المجموعة] إن اصطدم فرسان فمر أحدهما على صبي فقطع إصبعه ضمناه. انظر هنا في ابن عرفة القصاص. من قتل خارجة ولم يتلفت لإثبات قوله: أردت عمرا وأراد الله خارجة، ومن قتل رجلا عمدا يظنه غيره ممن لو قتله لم يكن فيه قصاص، ومن رمى رجلا بحجر فاتقاها المرمي عليه فقتلت آخر كما لو هرب أمام القاتل فسقط على طفل فقتله كالأربعة الذين تعلق بعضهم ببعض وسقطوا على الأسد فقتلهم (وحملا عليه عكس السفينتين إلا لعجز حقيقي إلا كخوف غرق أو ظلمة) قد تقدم جميع ما نقل ابن يونس عن ابن القاسم في اصطدام السفينتين والراكبين. وقال ابن الحاجب: لو اصطدم فارسان عمدا فإحكام القصاص وإلا فعلى عاقلة كل واحد دية الآخر، ثم قال: فإن اصطدم سفينتان فلا ضمان بشرط العجز عن الصرف والمعتبر العجز حقيقة لا لخوف غرق أو ظلمة، ابن عبد السلام: قول ابن الحاجب يوهم أن حكم الفارسين مخالف لحكم السفينتين وليس كذلك؛ لأن الفارسين إذا جمح بهما فرساهما فكان تلف

لم يضمنا إلا أن الفرسين إذا جهل أمرهما حمل على أنهما قادران على إمساكهما وفي السفينتين على العجز. ابن عرفة قوله: إذا جمح الفرس ولم يقدر راكبه على صرفه أنه لا يضمن يرد بقولها إن جمحت دابة براكبها فوطئت إنسانا فهو ضامن وبقولها إن كان في رأس الفرس اعتزام فحمل بصاحبه فاصطدم فصاحبه ضامن؛ لأن سبب جمحه من راكبه وفعله به إلا أن يكون إنما نفر من شيء مر به في الطريق من غير سبب راكبه فلا ضمان عليه (وإلا فدية كل على عاقلة الآخر وفرسه في مال الآخر كثمن العبد) . وقال أبو إسحاق الشيرازي في [المهذب] (¬1) : (فصل) : وإن اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر. وقال المزني: إن استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المنكب دية المستلقي وهدر دمه؛ لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول، وهذا خطأ؛ لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه، فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه، كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه. ووجه قول المزني: لا يصح؛ لأنه يجوز أن يكون المستلقي صدم صدمة شديدة فوقع مستلقيا من شدة صدمته. وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين، وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما ¬

_ (¬1) [المهذب] (2 \ 195) .

فاصطدما ماتا وجب على الذي أركبهما دية كل واحد منهما النصف بسبب ما جنى كل واحد من الصبيين على نفسه والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه. وإن اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما حكم الرجلين، فأما الحمل فإنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما. (فصل) : وإن وقف رجل في ملكه أو في طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم؛ لأنه هالك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه، كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها. وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم؛ لأنه قتله بصدمة هو متعد فيها، وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر؛ لأن الصادم قتل الواقف بصدمة هو مفرط فيها والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه وهو وقوفه في الطريق الضيق. وإن قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم في الصادم، والمصدوم وقد بيناه. (فصل) فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما "؛ فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصرا في آلتهما أو قدرا على ضبطها فلم يضبطا أو سيرا في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف، وإن كانت لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها، لما بيناه في الفارسين، فإن كان في السفن رجال فهلكوا ضمن عاقلة كل واحد

منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه، فإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه، وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان: أحدهما: يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين. والثاني: لا يجب؛ لأنها تلفت من غير تفريط منهما فأشبه إذا تلفت بضاعة، واختلف أصحابنا في موضع القولين، فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها، فأما إذا سيرا ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا؛ لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين. وقال أبو إسحاق وأبو سعيد: القولان في الحالين، وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام، والقيم لا يمكنه ضبط السفينة، فإن قلنا: إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرط إلا في القصاص، فإنه لا يجب مع عدم التفريط، وإن قلنا: إنه لا يجب الضمان نظرت، فإن كانت السفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان، وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها أمانة كالوديعة ومال المضاربة لم يضمن، لأن الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط، وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها يحمله بأجرة لم يجب ضمان السفن؛ لأنها أمانة، وأما المال فهو مال في يد أجير مشترك، فإن كان مع صاحبه لم يضمن، وإن لم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الأجير

المشترك وإن كان أحدهما مفرطا والآخر غير مفرط كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين، والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين. وقال الشيخ محمد الشربيني الخطيب في [شرح المنهاج] : (فصل) فيما يوجب الشركة في الضمان وما يذكر معه، إذا (اصطدما) أي: حران كاملان راكبان أو ماشيان أو راكب وماش طويل، سواء أكانا مقبلين أو مدبرين أم أحدهما مقبلا والآخر مدبرا كما يشعر به إطلاقه، وإن قيد الرافعي بالمدبرين وقيد المصنف الاصطدام بقوله (بلا قصد) كاصطدام أعميين، أو غافلين، أو كانا في ظلمة ليشمل ما إذا غلبتهما الدابتان، وسيأتي محترزه في كلامه، واستفيد تقييد الاصطدام بالحرين من قوله (فعلى عاقلة كل) منهما (نصف دية مخففة) أما كونه نصف دية؛ فلأن كل واحد هلك بفعله وفعل صاحبه فيهدر النصف، كما لو جرحه مع جراحة نفسه، وأما كونها مخففة على العاقلة، فلأنه خطأ محض، ولا فرق في ذلك بين أن يقعا منكبين أو مستلقيين، أو أحدهما منكبا والآخر مستلقيا اتفق المركوبان كفرسين أو لا كفرس وبعير وبغل اتفق سيرهما أو اختلف كأن كان أحدهما يعدو والآخر يمشي على هينته (وإن قصدا) جميعا الاصطدام (فنصفها مغلظة) على عاقلة كل منهما لورثة الآخر، أما كونها نصف دية فلما مر. وأما كونها مغلظة على العاقلة؛ فلأن القتل حينئذ شبه عمد؛ لأن الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت فلا يتحقق فيه العمد المحض، ولذلك لا يتعلق به القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر (أو) قصد (أحدهما)

الاصطدام دون الآخر وماتا (فلكل) منهما (حكمه) من التخفيف والتغليظ. (تنبيه) : محل ذلك ما إذا لم تكن إحدى الدابتين ضعيفة بحيث قطع بأنه لا أثر لحركتها، فإن كانت كذلك لم يتعلق بحركتها حكم كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة نقله في [الروضة] ، عن الإمام وأقره: وجزم به ابن عبد السلام، ولا ينافيه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه، سواء أكان أحد الراكبين على فيل والآخر على كبش، لأنا لا نقطع بأنه لا أثر لحركة الكبش مع حركة الفيل، ومثل ذلك يأتي في الماشيين، كما قاله ابن الرفعة وغيره، والصحيح: أن على كل منهما في تركته (كفارتين) : إحداهما: لقتل نفسه، والأخرى لقتل صاحبه؛ لاشتراكهما في إهلاك نفسين بناء على أن الكفارة لا تتجزأ وأن قاتل نفسه عليه كفارة، وهو الأظهر. والثاني: على كل كفارة بناء على أنها تتجزأ (وإن ماتا مع مركوبهما فكذلك الحكم دية وكفارة (و) يزاد على ذلك أن (في تركة كل) منهما (نصف قيمة دابة الآخر) أي: مركوبه؛ لاشتراكهما في الإتلاف مع هدر فعل كل منهما في حق نفسه، وقد يجيء التقاص في ذلك ولا يجيء في الدية إلا أن يكون عاقلة كل منهما ورثته وعدمت الإبل. (فروع) لو كان مع كل من المصطدمين بيضة، وهي ما تجعل على الرأس فكسرت ففي [البحر] ،: أن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: على كل منهما نصف قيمة بيضة الآخر، ولو تجاذبا حبلا لهما أو لغيرهما فانقطع وسقطا وماتا فعلى عاقلة كل منهما نصف دية الآخر وهدر الباقي؛ لأن كلا

منهما مات بفعله وفعل الآخر، سواء أسقطا منكبين أم مستلقيين أم أحدهما منكبا والآخر مستلقيا، فإن قطعه غيرهما فماتا فديتهما على عاقلته؛ لأنه القاتل لهما، وان مات أحدهما بإرخاء الآخر الحبل فنصف ديته على عاقلته وهدر الباقي؛ لأنه مات بفعلها، وإن كان الحبل لأحدهما والآخر ظالم فالظالم هدر وعلى عاقلته نصف دية المالك، ولو كان شخص يمشي فوقع مداسه على مؤخر مداس غيره وتمزق لزمه نصف الضمان؛ لأنه تمزق بفعله وفعل صاحبه (وصبيان أو مجنونان) أو صبي ومجنون في اصطدامهما (ككاملين) فيما سبق فيهما ومنه التغليظ بناء على أن عمدهما عمد، وهو الأصح إن كانا مميزين، هذا إن ركبا بأنفسهما، وكذا إن أركبهما وليهما لمصلحتهما وكانا ممن يضبط المركوب (وقيل) ونص عليه في [الأم] ، (إن أركبهما الولي تعلق به الضمان) ؛ لما فيه من الخطر وجوازه مشروط بسلامة العاقبة، والأصح المنع كما لو ركبا بأنفسهما. (تنبيه) : محل الخلاف كما نقلاه عن الإمام وأقراه ما إذا أركبهما لزينة أو لحاجة غير مهمة، فإن أرهقت إلى إركابهما حاجة كنقلهما من مكان إلى مكان فلا ضمان عليه قطعا، قالا: ومحله أيضا عند ظن السلامة فإن أركبهما الولي دابة شرسة جموحا ضمن الولي لتعديه. قال الأذرعي: ومحله أيضا فيمن يستمسك على الدابة فلو أركبه دابة هادية وهو لا يستمسك عليها تعلق به الضمان. قال ابن الرفعة: ويستثنى من عدم تضمين الولي ما إذا كانا غير مميزين كابن سنة وسنتين فأركبهما الولي فيجب على عاقلته دية كل منهما. قال البلقيني: وينبغي أن يضاف إلى ما ذكره الإمام أن لا ينسب الولي

إلى تقصيره في ترك من يكون معهما ممن جرت العادة بإرساله معهما. قال: والمراد بالولي هنا ولي الحضانة الذكر لا ولي المال، وذلك ظاهر من قول الشافعي رضي الله تعالى عنه، وبسط ذلك. ثم قال: ولم أر من تعرض له. وقال الزركشي في [التكملة] ،: يشبه أنه من له ولاية التأديب من أب وغيره خاص وغيره. وقال في [الخادم] ، ظاهر كلامهم والي المال. اهـ. والأوجه كلام البلقيني (ولو أركبهما أجنبي) بغير إذن الولي ولو لمصلحتهما (ضمنهما ودابتيهما) ؛ لتعديه بإركابهما، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع. (تنبيه) شمل إطلاقه تضمين الأجنبي ما لو تعمد الصبيان الاصطدام وهو كذلك، وإن قال في [الوسيط] : يحتمل إحالة الهلاك عليهما بناء على أن عمدهما عمد، واستحسنه الشيخان؛ لأن هذه المباشرة ضعيفة فلا يعول عليها كما قاله شيخي، وقوله: ضمنهما ودابتيهما ليس على إطلاقه، بل الضمان الأول على عاقلته، والثاني عليه، وقضية كلام الجمهور: إن ضمان المركب بذلك ثابت، وإن كان الصبيان ممن يضبطان الركوب وهو كذلك وإن كان قضية نص الأم أنهما إن كانا كذلك فهما كما لو ركبا بأنفسهما، وجزم به البلقيني أخذا من النص المشار إليه، وإن وقع الصبي فمات ضمنه المركب، كما قاله الشيخان، وظاهره: أنه لا فرق بين أن يكون إركابه لغرض من فروسية ونحوها أو لا، وهو كذلك في الأجنبي، بخلاف الولي فإنه إذا أركبه لهذا الغرض وكان ممن يستمسك على الدابة

فإنه لا يضمنه، وقول المتولي: لا فرق فيه بين الولي والأجنبي خصه ابن الرفعة في الأجنبي على ما إذا أركب بإذن- معتبر. أو اصطدم (حاملان وأسقطتا) بأن ألقتا جنينيهما وماتتا (فالدية كما سبق) من وجوب نصفها على عاقلة كل منهما وإهدار النصف الآخر، لأن الهلاك منسوب إلى فعلهما (وعلى) أي: ويجب في تركة (كل) من الحاملين (أربع كفارات على الصحيح) بناء على الصحيح: أن الكفارة تجب على قاتل نفسه، وأنها لا تتجزأ؛ فيجب كفارة لنفسها، وثانية: لجنينها، وثالثة: لصاحبتها، ورابعة: لجنينها؛ لأنهما اشتركا في إهلاك أربعة أنفس. والثاني: تجب كفارتان بناء على عدم الوجوب وعلى التجزي (و) يجب (على عاقلة كل) منهما (نصف غرتي جنينيهما) نصف غرة لجنينها ونصف غرة لجنين الأخرى؛ لأن الحامل إذا جنت على نفسها فألقت جنينا وجبت الغرة على عاقلتها، كما لو جنت على حامل أخرى ولا يهدر من الغرة شيء بخلاف الدية فإنه يجب نصفها ويهدر نصفها كما مر؛ لأن الجنين أجنبي عنهما بخلاف أنفسهما. (تنبيه) : كلامه قد يوهم وجوب رقيق واحد نصفه لهذا ونصفه لذلك، وعبارة ابن يونس له أن يسلم نصف رقيق عن واحد ونصف رقيق عن الآخر، وعلى هذا فكان الأولى للمنصف أن يقول: نصف غرة لهذه ونصف غرة للأخرى (أو) اصطدم (عبدان) وماتا (فهدر) سواء ماتا معا بهذا الاصطدام أم أحدهما بعد الآخر قبل إمكان بيعه، وسواء اتفقت قيمتهما أم اختلفت؛ لأن جناية العبد تتعلق برقبته وقد فاتت. (أو) اصطدم سفينتان وغرقتا (فكدابتين) اصطدمتا وماتتا في حكمهما

السابق (والملاحان) فيهما تثنية ملاح، وهو النوتي صاحب السفينة سمي بذلك لإجرائه السفينة على الماء المالح حكمهما (كراكبين) ماتا باصطدام في حكمهما السابق (وإن كانتا) أي: السفينتان وما فيهما (لهما) فيهدر نصف قيمة كل سفينة ونصف بدل ما فيها، فإن ماتا بذلك لزم كلا منهما كفارتان كما سبق ولزم عاقلة كل منهما نصف دية الآخر. (تنبيه) يستثنى من كون الملاحين كالراكبين ما إذا قصد الملاحان الاصطدام بما يعده أهل الخبرة مهلكا مغرقا فإنه يجب نصف دية كل منهما في تركة الآخر، بخلاف المصطدمين فإنها على العاقلة، ولو مات أحدهما بما صدر من المتعمد دون الآخر وجب القصاص على الحي بناء على إيجاب القصاص على شريك جارح نفسه ولو كان في السفينة من يقتلان به فعليهما القصاص إذا مات بذلك، فلو تعدد الغرقى قتل بواحد ووجب في مال كل واحد نصف ديات الباقين وضمان الكفارات بعدد من أهلكا، وإن كان الاصطدام لا يعد مهلكا غالبا وقد يهلك فشبه عمد فتجب الدية مغلظة على العاقلة ولو كان الملاحان صبيين وأقامهما الولي أو أجنبي فالظاهر كما قال الزركشي إنه لا يتعلق به ضمان؛ لأن الوضع في السفينة ليس بشرط؛ لأن العمد من الصبيين هنا هو المهلك (فإن) كانت السفينتان لهما (وكان فيهما مال أجنبي لزم كلا) منهما (نصف ضمانه) سواء أكان المال في يد مالكه وهو السفينة أم لا، لتعديهما ويتخير الأجنبي بين أخذ جميع بدل ماله من أحد الملاحين ثم هو يرجع على الآخر. وبين أن يأخذ نصفه منه ونصفه من الآخر، فإن كان الملاحان رقيقين تعلق الضمان برقبتيهما (وإن كانتا لأجنبي) والملاحان فيهما أمينين أو أجيرين للمالك (لزم كلا نصف

قيمتهما) ؛ لأن مال الأجنبي لا يهدر منه شيء، ويتخير كل من المالكين بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من ملاحه ثم يرجع هو بنصفهما على الملاح الآخر. أو يأخذه نصفها منه ونصفهما من الملاح الآخر، فلو كان الملاحان رقيقين تعلق الضمان برقبتيهما. (تنبيه) : محل هذا التفصيل: إذا كان الاصطدام بفعلهما أو لم يكن، وقصرا في الضبط، أو سيرا في ريح شديدة فإن حصل الاصطدام بغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر بخلاف غلبة الدابة فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه فالقول قولهما بيمينهما عند التنازع في أنهما غلبا؛ لأن الأصل براءة ذمتهما وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر فلكل حكمه وإن كانت إحداهما مربوطة فالضمان على مجري السائرة. وفي [المغني] ، لابن قدامة (¬1) رحمه الله: (مسألة) قال: (وإذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) . وجملته: أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين، أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره سواء كانا مقبلين أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق. وقال مالك والشافعي: على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر؛ لأن التلف حصل بفعلهما، فكان الضمان منقسما عليهما كما لو ¬

_ (¬1) [المغني] (4\89) .

جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما، ولنا أن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها، كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة. إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصا وسقطتا، وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وإن نقصت فعليه نقصها. (فصل) : فإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما فالضمان على اللاحق؛ لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف. (مسألة) : قال: (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف) نص أحمد على هذا؛ لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه، وإن مات هو أو دابته فهو هدر؛ لأنه أتلف نفسه ودابته، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين؛ لأن التلف حصل من فعلهما، وإن كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر؛ لأن التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه، كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به إنسان. (مسألة) : قال: (وإن تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) روي هذا عن علي رضي الله عنه والخلاف فيها في الضمان، كما الخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان إلا أنه لا تقاص هاهنا في الضمان؛ لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد

منهما. إن اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة أو يكون الضمان على المتصادمين تقاصا، ولا يجب القصاص سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ؛ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ، ولا فرق بين البصيرين والأعميين والبصير والأعمى، فإن كانتا امرأتين حاملتين فهما كالرجلين فإن أسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها؛ لأنهما اشتركتا في قتله، وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتهما في الجنين، وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة عتق رقبتين. وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنينين بغرة إذا سقطا ميتين وعتق رقبتين، وإن اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين، وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو كانا ماشيين. (فصل) وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما؛ لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر فسقطت بتلف، وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي، فإن هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات محلها، وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد، ثم انتقلت إلى قيمة العبد ووجبت قيمة العبد في تركة الحر، فيتقاصان، فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة؛ لأنها لا متعلق لها، وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني وفي مال الحر عتق رقبة ولا شيء كلى العبد؛ لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته، وإن مات العبد وحده

فقيمته في ذمة الحر؛ لأن العاقلة لا تحمل العبد وإن مات الحر وحده تعلق ديته برقبة العبد وعليه صيام شهرين متتابعين، وإن مات العبد قبل استيفاء الدية سقطت، وإن قتله أجنبي فعليه قيمته ويتحول ما كان متعلقا برقبته إلى قيمته، لأنها بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه. (مسألة) : قال: (وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة أو أرش ما نقصت إن أخرجت إلا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها) . وجملته: أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلو من حالين: أحدهما: أن تكونا متساويتين كاللتين في بحر أو ماء واقف، أو كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة فنبدأ بما إذا كانت إحداهما منحدرة والأخرى صاعدة؛ لأنها مسألة الكتاب، ولا يخلوان من حالين: أحدهما: أن يكون القيم بها مفرطا بأن يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل أو أمكنه أن يعدلها إلى ناحية أخرى فلم يفعل أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما، فعلى المنحدر ضمان الصاعدة؛ لأنها تنحط عليها من علو، فيكون ذلك سببا لغرقها فتنزل المنحدرة بمنزلة السائر والصاعدة بمنزلة الواقف، وإن غرقتا جميعا فلا شيء على المصعد وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش ما نقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فيكون الضمان على المصعد؛ لأنه المفرط وإن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها، ولا يكلف الله

نفسا إلا سعها. الحال الثاني: أن يكونا متساويتين فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال كما قلنا في الفارسين يصطدمان، وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما، وللشافعي في حال عدم التفريط قولان: أحدهما: عليهما الضمان؛ لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما. ولنا أن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتراز من ذلك فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة ويخالفان الفرسين فإنه ممكن ضبطهما والاحتراز من طردهما وان كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده، فإن اختلفا في تفريط القيم فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع وعند الشافعي أنهما إن كانا مفرطين فعلى كل واحد من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه كقوله في اصطدام الفارسين على ما مضى. (فصل) : فإن كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله وإن كانا أجيرين ضمنا ولا تقاص هاهنا؛ لأن من يجب به غير من يجب عليه، وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا وكانا قد تعمدا المصادمة وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص، وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين إذا كانا حرين وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك مما لا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين وقيمة العبيد في أموالهما وإن كان القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتيهما فإن تلفا جميعا

سقط الضمان، وأما مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد، وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن؛ لأن الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما وإن كان فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد آخر فلا ضمان؛ لأن الهلاك بأمر غير مستطاع. (فصل) وإن كانت إحدى السفينتين قائمة والأخرى سائرة فلا ضمان على الواقفة، وعلى السائرة ضمان الواقفة إن كان مفرطا، ولا ضمان عليه إن لم يفرط على ما قدمنا. اهـ. وذكر أبو الفرج في [شرحه الكبير للمقنع] ، نحو ما تقدم. وفي [الفروع] ، لابن مفلح (¬1) رحمه الله: وإن اصطدم راجلان أو راكبان أو ماش وراكب - قال في [الروضة] : بصيران أو ضريران أو أحدهما- فماتا أو دابتاهما ضمن كل واحد متلف الآخر، وقيل: نصفه، وقدم في [الرعاية] : وإن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن وجزم به في [الترغيب] ، وإن اصطدما عمدا ويقتل غالبا فهدر، وإلا شبه عمد، وما تلف للسائر منهما لا يضمنه واقف وقاعد، في المنصوص، وقيل: بلى مع ضيق الطرق، وفي ضمان سائر ما أتلف لواقف وقاعد في طريق ضيق وجهان: وإن اصطدم قنان ماشيان فهدر، لا حر وقن فقيمة قن. وقيل: نصفها في تركة حر، ودية حر ويتوجه الوجه أو نصفها في تلك ¬

_ (¬1) [الفروع] (6 \ 6-8) .

القيمة، اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحد متلف الآخر وفي [المغني] : إن فرطا، وقاله في [المنتخب] ، وأنه ظاهر كلامه ولا يضمن المصعد منهما، بل المنحدر إن لم يغلبه ريح نص عليه. وفي [الواضح] وجه لا يضمن منحدر. وفي [الترغيب] السفينة كدابة والملاح كراكب ويصدق ملاح في إن تلف مال بغلبة ريح، ولو تعمدا الصدم فشريكان في إتلاف كل منهما ومن فيهما، فإن قتل غالبا فالقود إلا شبه عمد ولا يسقط فعل المصادم في حق نفسه مع عمد ولو خرقها عمدا أو شبه عمد أو خطأ عمل على ذلك، وهل يضمن من ألقى عدلا مملوءا بسفينة ما فيها أو نصفه أو بحصته؟ يحتمل أوجها وإن أركب صبيين غير وليهما فاصطدما ضمن. وفي [الترغيب] : تضمن عاقلته ديتهما وإن ركباها فكبالغين مخطئين وكذا إن أركبهما ولي لمصلحة، قال ابن عقيل: ويثبتان بأنفسهما. وفي [الترغيب] : إن صلحا للمركوب وأركبهما ما يصلح لركوب مثلهما، وإلا ضمن ويضمن كبير صدم الصغير، وإن مات الكبير ضمنه من أركب الصغير، نقل حرب: إن حمل رجل صبيا على دابة فسقط ضمنه إلا أن يأمره أهله بحمله. اهـ.

وفي [الإنصاف على المقنع] (¬1) : قوله: (وإن اصطدم نفسان) قال في [الروضة] : بصيران أو ضريران أو أحدهما، قلت: وكذا قال المصنف والشارح: (فماتا فعلى عاقلة كل واحد ¬

_ (¬1) [الإنصاف على المقنع] (10 \ 35) .

(منهما دية الآخر) هذا المذهب جزم به الخرقي و [المحرر] و [المفتي] ، و [الشرح] والزركشي و [النظم] و [الوجيز] و [المنور] و [منتخب الأدمي] ، وغيرهم وقدمه في [الرعايتين] و [الحاوي الصغير] ، و [الفروع] وقيل: يجب على عاقلة كل منهما نصف الدية وهو تخريج لبعضهم. (تنبيه) ظاهر كلام المصنف أنه سواء كان تصادمهما عمدا أو خطأ وهو صحيح وهو المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وقيل: إذا كان عمدا يضمنان دون عاقلتهما، وقال في [الرعاية] ،: وهو أظهر (قوله: وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر) ، وهذا المذهب جزم به في [المغني] ، و [الشرح الكبير] ، و [المحرر] ، وغيرهم وقدمه في [الفروع] ، وغيره، وقيل: على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر، وقدم في [الرعايتين] ، إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن، وجزم به في [الترغيب] ، و [الوجيز] و [الحاوي الصغير] . قوله: (وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر ضمان الواقف ودابته إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه. وعليه ضمان ما تلف به) ذكر المصنف هنا مسألتين: إحداهما: ما يتلف السائر إذا كان الآخر واقفا أو قاعدا فقطع بضمان الواقف ودابته على السائر إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا فلا ضمان عليه وهو أحد الوجهين وهو المذهب منهما، ونص عليه وجزم به في [المغني] ، و [الشرح] ، و [الوجيز] ، وهو ظاهر ما جزم به في [الرعاية] ، و [الحاوي] وقيل: يضمنه السائر سواء كان الواقف في طريق ضيق أو واسع وقدمه في [المحرر] ، و [النظم] ، والزركشي، وهو ظاهر كلام الخرقي

وأطلقهما في [الفروع] . المسألة الثانية: ما يتلفه الواقف أو القاعد للسائر في الطريق الضيق فجزم المصنف هنا أنه يضمنه وجزم به في [الشرح] ، و [شرح ابن منجا] واختاره المصنف، والصحيح من المذهب: أنه لا يضمن، نص عليه وقدمه في [المحرر] و [النظم] ، و [الرعايتين] ، و [الحاوي الصغير] ، و [الفروع] ، وأما ما يتلف للسائر إذا كان الطريق واسعا فلا ضمان على الواقف والقاعد على الصحيح من المذهب، وقطع به كثير منهم وقدمه في [المحرر] و [النظم] ، و [الرعايتين] و [الحاوي] و [الفروع] وغيرهم، وقيل: يضمنه، ذكره الزركشي وغيره. تنبيهان: أحدهما: قوله: (فعلى السائر ودابته ضمان الواقف يكون على عاقلة السائر، وضمان دابة الواقف يكون على نفس السائر صرح به الأصحاب فظاهر كلام المصنف غير مراد. الثاني: قوله: (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعدا أو واقفا) قال ابن منجا: لا بد أن يلحظ أن الطريق الضيق غير مملوك للواقف أو القاعد؛ لأنه إذا كان مملوكا لم يكن متعديا بوقوفه فيه، بل السائر هو المتعدي بسلوكه ملك غيره بغير إذنه. انتهى. قال أبو محمد ابن حزم (¬1) رحمه الله (¬2) : وأما المصطدمان راجلين أو على دابتين أو السفينتين يصطدمان فروي ¬

_ (¬1) [المحلى] لابن حزم، ص (502- 504) طبع منير. (¬2) [المحلى] لابن حزم، (12 \ 283- 286) مكتبة الجمهورية العربية 1391 هـ.

عن الشعبي في السفينتين يصطدمان لا ضمان في شيء من ذلك. وقال الشافعي: لا يجوز فيه إلا أحد قولين: إما أنه يضمن مدير السفينة نصف ما أصابت سفينته لغيره أو أنه لا يضمن البتة إلا أن يكون قادرا على صرفها بنفسه أو بمن يطيعه فلا يفعل فيضمن، والقول قوله مع يمينه أنه ما قدر على صرفها، وضمان الأموال إذا ضمن في ذمته، وضمان النفوس على عاقلته. قال أبو محمد: وقال بعض أصحابنا: إذا اصطدمت السفينتان بغير قصد من ركابهما لكن بغلبة أو غفلة فلا ضمان في ذلك أصلا، فإن حملا سفينتهما على التصادم فهلكتا ضمن كل واحد نصف قيمة السفينة الأخرى؛ لأنها هلكت من فعلها ومن فعل ركابها، وأما الفارسان يصطدمان فإن أبا حنيفة ومالكا والأوزاعي والحسن بن حيي قالوا: إن ماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر كاملة، وقال عثمان البستي وزفر والشافعي: على كل واحد منهما نصف في دية صاحبه. وقال بعض أصحابنا: بمثل قول الشافعي في ذلك، وكذلك أوجبوا إن هلكت الدابتان أو إحداهما فنصف قيمتها أيضا، وكذلك لو رموا بالمنجنيق فعاد الحجر على أحدهم فمات فإن الدية على عواقلهم وتسقط منها حصة المقتول؛ لأنه مات من فعله وفعل غيره، قالوا: فلو صدم أحدهما الآخر فقط فمات المصدوم فديته على عاقلة الصادم إن كان خطأ، وفي مال القاتل إن قتلت في العمد. قال أبو محمد: والقول في ذلك وبالله تعالى التوفيق أن السفينتين إذا اصطدمتا بغلبة ريح أو غفلة فلا شيء في ذلك؛ لأنه لم يكن من الركبان في ذلك عمل أصلا ولم يكسبوا على أنفسهم شيئا وأموالهم وأموال عواقلهم

محرمة إلا بنص أو إجماع، فإن كانوا تصادموا وحملوا وكل أهل سفينة غير عارفة بمكان الأخرى لكن في ظلمة لم يروا شيئا فهذه جناية، والأموال مضمونة؛ لأنهم تولوا إفسادها وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬1) وأما الأنفس فعلى عواقلهم كلهم؛ لأنه قتل خطأ وإن كانوا تعمدوا فالأموال مضمونة كما ذكرنا وعلى من سلم منهم القود أو الدية كاملة والقول في الفارسين أو الرجلين يصطدمان كذلك وكذلك أيضا الرماة بالمنجنيق تقسم الدية عليه وعليهم وتؤدي عاقلته وعاقلتهم ديته سواء، برهان ذلك: أنه في الخطأ قاتل نفسه مع من قتلها وقد ذكرنا قبل أن في قاتل نفسه الدية بنص قول الله تعالى في قاتل الخطأ فعم تعالى كل مقتول ولم يخص خطأ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬2) قال أبو محمد: ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول: أما قولهم في المصطدمين أن الميت مات منهما من فعل نفسه ومن فعل غيره فهو خطأ، والفعل إنما هو مباشرته الفاعل وما يفعله فيه وهو لم يباشره بصدمة غيره في نفسه شيئا ولا يختلفون فيمن دفع ظالما إلى ظالم آخر ليقاتله فقتل أحدهما الآخر أن على القاتل منهما القود أو الدية، كلها إن فات القود ببعض العوارض وهو قد تسبب في موت نفسه بابتداء القتال كما تسبب في موت نفسه بالصدم ولا فرق وهذا تناقض منهم. قال أبو محمد: وكذلك القول في المتصارعين ولا فرق، وما أباح الله ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية 40 (¬2) سورة مريم الآية 64

تعالى في اللعب شيئا حظره في الجد، وأما من سقط من علو على إنسان فماتا جميعا أو مات الواقع أو الموقوع عليه فإن الواقع هو المباشر لإتلاف الموقوع عليه بلا شك وبالمشاهدة؛ لأن الوقعة قتلت الموقوع عليه ولم يعمل الموقوع عليه شيئا فدية الموقوع عليه إن هلك على عاقلة الواقع إن لم يتعمد الوقوع عليه؛ لأنه قاتل خطأ، فإن تعمد فالقود واقع عليه إن سلم أو الدية، وكذلك الدية في ماله إن مات الموقوع عليه قبله فإن ماتا معا أو مات الواقع قبل فلا شيء في ذلك، لما ذكرنا من أن الدية إنما تجب بموت المقتول المجني عليه لا قبل ذلك، فإذا مات في حياة قاتله فقد وجبت الدية أو القود في مال القاتل وإذا مات مع قاتله أو بعد قاتله فلم يجب له بعد شيء لا قود ولا دية في حياة القاتل فإذا مات فالقاتل غير موجود والمال قد صار للورثة وهذا لا حق له عندهم وليس هكذا قتل الخطأ؛ لأن الدية لا تجب في مال الجاني وإنما تجب على عاقلته، فسواء مات القاتل قبل المقتول أو معه أو بعده لا يسقط بذلك وجوب الدية: إما على العاقلة إن علمت، وإما في كل مال المسلمين، كما جاء في سهم الغارمين، وبالله تعالى التوفيق. لا شيء لوارث الواقع إن مات في جميع هذه الوجوه لا دية ولا غيرها؛ لأنه لم يجن أحد عليه شيئا وسواء وقع على سكين بيد الموقوع عليه أو على رمح أو غير ذلك لا شيء في ذلك أصلا؛ لأنه إن عمد فهو قاتل نفسه عمدا ولا شيء في ذلك بلا خلاف، وإن كان لم يعمد فلم يباشر في نفسه جناية وإنما هو قتيل حجر أو حديدة أو نحو ذلك وما كان هكذا فلا شيء في ذلك كله. وبالله تعالى التوفيق.

مما تقدم تتبين أحكام حوادث آلات النقل والمواصلات في نظر فقهاء الإسلام السابقين بالنسبة لما كان مستعملا منها في زمنهم كالسفن والدواب وأحكام حوادث المصارعة والتجاذب وما إليهما مع اختلاف وجهة نظرهم في بعض المسائل ولا يزال الكثير من هذه الآلات والوسائل وأحداثها قائما، وجد إلى جانبها وسائل أخرى للنقل والمواصلات كالسيارات والطيارات والدبابات والدراجات ولا غنى للناس عن استعمالها، بل صارت من ضرورات الحياة، ولذا كثر استعمال الناس لها في تحقيق مصالحهم وقضاء حاجاتهم ونشأ عن ذلك كثير من الحوادث فوجب على علماء هذا العصر أن يتبينوا حكمها على ضوء الأصول الشرعية وما سبق من النظائر التي حكم فيها أئمة الفقه الإسلامي باجتهادهم وذلك بتخريج حوادث الوسائل الجديدة على نظائرها من حوادث الوسائل القديمة، ليعرف الحكم فيها بتحقيق المناط وتطبيق القواعد الشرعية عليها، كما فعل المجتهدون السابقون في بناء الأحكام على أصولها واستنباطها منه وتخريجها على نظائرها، وعلى هذا يمكن أن يقال: أولا: إن تصادمت سيارتان وكان ذلك من السائقين عمدا فإن ماتا فلا قصاص لفوات المحل وتجب دية كل منهما ودية من هلك معه من النفوس وما تلف معه من السيارة والمتاع في مال صاحبه بناء على عدم اعتبار اعتدائه وفعله في نفسه ومن هلك معه واعتبار ذلك بالنسبة لصاحبه ومن هلك أو تلف معه، أو يجب نصف دية كل منهما ونصف دية من هلك معه ونصف قيمة ما تلف معه في مال صاحبه، بناء على اعتبار اعتدائه وفعله في حق نفسه وحق صاحبه، وإن مات أحدهما دون الآخر اقتص منه لمن مات

بالصدمة، لأنها مما يغلب على الظن القتل به، وإن كان التصادم منهما خطأ وجبت الدية أو نصفها لكل منهما ولمن مات معه على عاقلة صاحبه، وتجب قيمة ما تلف من سيارة كل منهما أو متاعه أو نصفها في مال صاحبه بناء على ما تقدم من الاعتبارين، وإن كان أحدهما عامدا والآخر مخطئا فلكل حكمه على ما تقدم، ومن كان منهما مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه إلا إذا كان ذلك بسبب تفريط منه سابق. ثانيا: إذا صدمت سيارة سائرة سيارة واقفة في ملك صاحبها أو خارج طريق السيارات أو على جانب طريق واسع ضمن سائق السائرة ما تلف في الواقفة من نفس ومال بصدمته، لأنه المتعدي، فإن انحرفت الواقفة فصادف ذلك الصدمة فالضمان بينهما على ما تقدم في تصادم سيارتين، وإن كانت واقفة في طريق ضيق غير مملوك لصاحبها فالضمان على صاحب الواقفة، لتعديه بوقوفه، ويحتمل أن يكون الضمان بينهما لتفريط كل منهما وتعديه. وإن صدمت سيارة نازلة من عقبة مثلا سيارة صاعدة فالضمان على سائق المنحدرة إلا إذا كان مغلوبا على أمره فلا ضمان عليه أو كان سائق الصاعدة يمكنه العدول عن طريق النازلة فلم يفعل فالضمان بينهما، وإن أدركت سيارة سيارة أمامها فصدمتها ضمن سائق اللاحقة ما تلف من النفوس والأموال في سيارته والسيارة المصدومة؛ لأنه متعد بصدمه لما أمامه والأمامية بمنزلة الواقفة بطريق واسع إلا إذا حصل من سائق الأمامية فعل يعتبر سببا أيضا في الحادث، كأن يوقف سيارته فجأة أو يرجع بها إلى الخلف أو ينحرف بها إلى ممر اللاحقة ليعترض طريقها فالضمان بينهما

على ما تقدم من الخلاف في حكم تصادم سيارتين. ثالثا: وإذا وقف سائق سيارة بسيارته أمام إشارة المرور مثلا ينتظر فتح الطريق فصدمت سيارة مؤخر سيارته صدمة دفعتها إلى الأمام فصدمت بعض المشاة مثلا فمات أو أصيب بكسور - ضمن من صدمت سيارته مؤخر السيارة الأخرى كل ما تلف من نفس ومال؛ لأنه متعد بصدمه، والسيارة الأمامية بمنزلة الآلة بالنسبة للخلفية فلا ضمان على سائقها؛ لعدم تعديه.

الموضوع الثاني حوادث دهس السيارات وانقلابها أو سقوط شيء منها على أحد أو قفز أحد ركابها

الموضوع الثاني: حوادث دهس السيارات وانقلابها، أو سقوط شيء منها على أحد أو قفز أحد ركابها أو تعلق أحد بها وما يترتب على ذلك من أحكام: يعتبر ما تقدم في التمهيد أمام النقول في الموضوع الأول من بيان مبنى الأحكام في الحوادث ومنشأ الخلاف فيها؛ تمهيدا للنقول عن فقهاء الإسلام في الموضوع الثاني يقصد به هنا ما قصد به هناك. وعلى هذا نبدأ في ذكر النقول عن الفقهاء، ثم نتبعها تخريج الأحكام في موضوع البحث إن شاء الله. قال شمس الدين المعروف بقاضي زاده في [تكملة فتح القدير على الهداية] (¬1) : (الراكب ضامن لما أوطأت الدابة ما أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت، وكذا إذا صدمت ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها) والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة؛ لأنه يتصرف في حق نفسه من وجه وفي حق غيره من وجه؛ ¬

_ (¬1) [التكلمة] (8 \ 344-354) .

لكونه مشتركا بين كل الناس، فقلنا بالإباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه، ولم يتقيد بها فيما لا يمكن الاحتراز عنه؛ لما فيه من المنع من التصرف وسد بابه وهو مفتوح والاحتراز عن الإبطاء وما يضاهيه ممكن، فإنه ليس من ضرورات التسيير فقيدناه بشرط السلامة عنه، والنفحة بالرجل والذنب ليس يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به (فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا) ؛ لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف، وإن لم يمكنه عن النفحة فصار متعديا في الإيقاف وشغل به فيضمنه. قال: (وإن أصابت بيدها أو برجلها، حصاة أو نواة أو أثارت غبارا أو حجرا صغيرا ففقأ عين إنسان أو أفسد ثوبه لم يضمن، وإن كان حجرا كبيرا ضمن) ؛ لأنه في الوجه الأول لا يمكن التحرز عنه، إذ سير الدواب لا يعرى عنه- وفي الثاني ممكن؛ لأنه ينفك عن السير عادة وإنما ذلك عن تعنيف الراكب، والرديف فيما ذكرنا كالراكب؛ لأن المعنى لا يختلف، قال: (فإن راثت أو بالت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن) ؛ لأنه من ضرورات السير فلا يمكن الاحتراز عنه، (وكذا إن أوقفها لذلك) ؛ لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك إلا بالإيقاف، وإن أوقفها لغير ذلك فعطب إنسان بروثها أو بولها ضمن؛ لأنه متعد بهذا الإيقاف؛ لأنه ليس من ضرورات السير، ثم هو أكثر ضررا بالمارة من السير؛ لأنه أدوم مدة، فلا يلحق به (والسائق ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها والقائد ضامن لما أصابت بيدها دون رجلها) . والمراد: النفحة قال رضي الله عنه: هكذا ذكره القدوري في [المختصر] ، وإليه مال بعض المشايخ، ووجهه أن

النفحة بمرأى عين السائق فيمكنه الاحتراز عنه وغائب عن بصر القائد فلا يمكنه الاحتراز عنه. وقال بعض المشايخ: إن السائق لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها، إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه بخلاف الكدم لإمكانه كبحها بلجامها، وبهذا ينطق أكثر النسخ وهو الأصح. وقال الشافعي: يضمنون النفحة كلهم، لأن فعلها مضاف إليهم، والحجة عليه ما ذكرناه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الرجل جبار (¬1) » ، ومعناه النفحة بالرجل وانتقال الفعل بتخويف القتل كما في المكره، وهذا تخويف بالضرب (قال: وفي [الجامع الصغير] : وكل شيء ضمنه الراكب ضمنه السائق والقائد) ؛ لأنهما مسببان بمباشرتها شرط التلف وهو تقريبها إلى مكان الجناية فيتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه كالراكب (إلا أن على الراكب الكفارة فيما أوطأته بيدها أو برجلها (ولا كفارة عليهما) ولا على الراكب فيما وراء الإيطاء، لأن الراكب مباشر فيه؛ لأن التلف بثقله وثقل الدابة تبع له؛ لأن سير الدابة مضاف إليه وهي آلة له، وهما مسببان؛ لأنه لا يتصل منهما إلى المحل شيء، وكذا الراكب في غير الإيطاء، والكفارة حكم المباشرة لا حكم التسبب، وكذا يتعلق بالإيطاء في حق الراكب حرمان الميراث والوضعية دون السائق والقائد؛ لأنه يختص بالمباشرة (ولو كان راكب وسائق قيل: لا يضمن السائق ما أوطأت الدابة) ؛ لأن الراكب مباشر فيه لما ذكرناه والسائق مسبب والإضافة إلى المباشر أولى، وقيل: الضمان عليهما؛ لأن كل ذلك سبب الضمان. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الديات (4592) .

ثم قال (¬1) (ومن ساق دابة فوقع السرج على رجل فقتله ضمن، وكذا على هذا سائر أدواته كاللجام ونحوه، وكذا ما يحمل عليها) ؛ لأنه متعد في هذا التسبب؛ لأن الوقوع بتقصير منه وهو ترك الشد أو الإحكام بخلاف الرداء؛ لأنه لا يشد في العادة، ولأنه قاصد لحفظ هذه الأشياء كما في المحمول على عاتقه دون اللباس على ما مر من قبل فيقيد بشرط السلامة. قال: (ومن قاد قطارا فهو ضامن لما أوطأ فإن وطئ بعير إنسانا ضمن به القائد والدية على العاقلة) ؛ لأن القائد عليه حفظ القطار كالسائق وقد أمكنه ذلك، وقد صار متعديا بالتقصير فيه والتسبب بوصف التعدي سبب للضمان إلا أن ضمان النفس على العاقلة فيه، وضمان المال في ماله (وإن كان معه سائق فالضمان عليهما) ؛ لأن قائد الواحد قائد للكل وكذا سائقه لاتصال الأزمة، وهذا إذا كان السائق في جانب من الإبل، أما إذا كان توسطها وأخذ بزمام واحد يضمن ما عطب بما هو خلفه، ويضمنان ما تلف بما بين يديه؛ لأن القائد لا يقود ما خلف السائق لانفصام الزمام والسائق يسوق ما يكون قدامه، ثم قال: (ومن سار على دابة في الطريق فضربها رجل أو نخسها فنفحت رجلا أو ضربته بيدها أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) هو المروي عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - ولأن الراكب والمركوب مدفوعان بدفع الناخس فأضيف فعل الدابة إليه كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه والراكب في فعله غير متعد ¬

_ (¬1) [التكملة] (8\349-354) .

فيترجح جانبه في التغريم للتعدي حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين؛ لأنه متعد في الإيقاف أيضا. قال: (وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا) ؛ لأنه بمنزلة الجاني على نفسه (وإن ألقت الراكب أيضا فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس) ؛ لأنه متعد في تسببه وفيه الدية على العاقلة. قال: (ولو وثبت بنخسه على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) لما بيناه والواقف في ملكه والذي يسير في ذلك سواء، وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان على الناخس والراكب نصفين؛ لأن التلف حصل بثقل الراكب ووطء الدابة، والثاني مضاف إلى الناخس فيجب الضمان عليهما، وإن نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها ولا ضمان عليه في نفحتها؛ لأنه أمره بما يملكه إذ النخس في معنى السوق فصح أمره فانتقل إليه معنى الأمر. قال: (ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها بإذن الراكب؛ فالدية عليهما نصفين جميعا إذا كانت في ثؤرها الذي نخسها) ، لأن سيرها في تلك الحالة مضاف إليهما والأذن يتناول فعلة السوق ولا يتناوله من حيث إنه إتلاف. فمن هذا الوجه يقتصر عليه، والركوب وإن كان علمه للوطء فالنخس ليس بشرط لهذه العلة، بل هو شرط أو علة للسير والسير علة للوطء، وبهذا لا يترجح صاحب العلة كمن جرح إنسانا فوقع في بئر حفرها غيره على قارعة الطريق فمات؛ فالدية عليهما لما أن الحفر شرط علة أخرى دون علة الجرح كذا هذا. . إلى أن قال: (ومن قاد دابة فنخسها رجل فانفلتت من

يد القائد فأصابت في فورها فهو على الناخس، وكذا إذا كان لها سائق فنخسها غيره) لأنه مضاف إليه. . ثم قال: (ولو نخسها شيء منصوب في الطريق فنفحت إنسانا فقتلته؛ فالضمان على من نصب ذلك الشيء) ؛ لأنه متعد بشغل الطريق فأضيف إليه كأنه نخسها بفعله: اهـ بتصرف.

وفي [المدونة] (¬1) : قلت: أرأيت الرجلان يترادفان على الدابة فوطئت الدابة رجلا بيديها أو رجليها فقتلته؟ قال مالك: أراه على المقدم إلا أن يعلم أن ذلك كان من الدابة بسبب المؤخر مثل أن يكون حركها أو ضربها فيكون عليهما جميعا؛ لأن المقدم بيده لجامها، أو يأتي من سبب فعلها أمر يكون من المؤخر لم يكن المقدم يقدر على دفع شيء منه فيكون على المؤخر بمنزلة ما لو ضربها المؤخر، فرمحت لضربه فقتلت إنسانا، فهذا وما أشبهه على عاقلة المؤخر؛ لأنه يعلم أن المقدم لم يعنتها شيئا، ولم يمسك لها لجاما ولا تحريكا من رجل ولا غيرها، فيكون شريكا فيما فعل. قلت: أرأيت إن كان الرجل راكبا على دابته فكدمت إنسانا فأعطبته أيكون على الراكب شيء أم لا؛ قال: سمعت مالكا يقول في الرجل يكون على الدابة راكبا فتضرب برجلها رجلا فتعطبه قال: لا شيء على الراكب إلا أن يكون ضربها فنفحت برجليها فيكون عليه ما أصابت، وأرى الفم عندي بمنزلة الرجل إن كدمت من شيء فعله بها الراكب فعليه وإلا فلا ¬

_ (¬1) [المدونة] ص (505) .

شيء عليه. قلت: أرأيت ما وطئت بيديها أو رجليها؟ قال: هو ضامن ما وطئت بيديها أو رجليها عند مالك؛ لأنه هو يسيرها. قال ابن القاسم: وإن كانت قد ضربت من فعل الرديف برجلها فأصابت إنسانا فلا شيء على المقدم من ذلك؛ لأن المقدم لا يضمن النفحة بالرجل إلا أن يكون ذلك من فعله عند مالك، قال ابن القاسم: وأرى إن كان فعل الرديف بها شيئا فوثبت الدابة من غير أن يعلم المقدم بذلك فوطئت إنسانا؛ فالضمان على الرديف إذا كان يعلم أن المقدم لم يكن يستطيع حبسها فهو على الرديف. قلت: أرأيت حين قلت: إن اللجام بيد المقدم فلم لا تضمنه ما كدمت الدابة؟ قال: لأن الدابة تكدم وهو غافل لا يعلم بذلك، فإذا كان شيئا يستيقن أنه من غير سببه فليس عليه شيء، وإن كان يعلم أنه من سببه فهو له ضامن) . قلت (¬1) : أرأيت إن أوقف دابة في سبيل المسلمين حيث لا يجوز له أيضمن ما أصابت في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: أرأيت من قاد دابة فوطئت بيديها أو رجليها أيضمن القائد ما أصابت في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فإن ضربت برجلها فنفحت الدابة، فأصابت رجلا فأعطبته أيضمن القائد ما أصابت أم لا في قول مالك؟ قال: لا يضمن في رأي إلا أن تكون نفحت من شيء صنع بها. قلت: أرأيت السائق أيضمن ما أصابت الدابة في قول مالك؟ قال: نعم يضمن ما وطئت بيديها أو رجليها بحال ما وصفت لك في قائد الدابة. .) . ¬

_ (¬1) [المدونة] ص (506) .

قلت: أرأيت إن نخس رجل دابة فوثبت الدابة على رجل فقتلته على من تكون دية هذا المقتول؛ قال: على عاقلة الناخس. قلت: وهو قول مالك؟ قال: هو قوله. قلت: أرأيت الدابة إذا جمحت براكبها فوطئت إنسانا فعطبت أيضمن ذلك أم لا في قول مالك؟ قال: قال: هو ضامن. قلت: هل كان مالك يضمن القائد والسائق والراكب إذا اجتمعوا: أحدهم سائق والآخر راكب والآخر قائد؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا إذا اجتمعوا جميعا، وما أقوم لك على حفظه، وأرى أن ما أصابت الدابة على القائد والسائق إلا أن يكون الذي فعلت الدابة من شيء كان من سبب الراكب، ولم يكن من القائد والسائق عون في ذلك فهو له ضامن. قلت: أرأيت الرجل يقود القطار فيطأ البعير من أول القطار أو من آخره على رجل فيعطب أيضمن القائد؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا وأراه ضامنا. اهـ. وفي [المهذب] للشيرازي (¬1) : (فصل) وإن كان معه دابة فأتلفت إنسانا أو مالا بيدها أو رجلها أو نابها أو بالتبول في الطريق فزلق ببولها إنسان فوقع ومات ضمنه، لأنها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته. وفيه أيضا (¬2) : وإن كان صبي على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمن؛ لأن الصياح سبب لوقوعه، وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ، وإن لم يكن صياحه عليه فهو خطأ، وإن كان بالغ على طرف ¬

_ (¬1) [المهذب] ص (195) . (¬2) [المهذب] ص (193) .

سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فخر ميتا، ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالصبي؛ لأن البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي، والثاني: لا يضمن؛ لأن معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة. وفي [المغني] لابن قدامة (¬1) : (مسألة) قال: وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال، وكذلك إن قادها أو ساقها) وهذا قول شريح وأبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: لا ضمان عليه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العجماء جرحها جبار (¬2) » ، ولأنه جناية بهيمة فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرجل جبار (¬3) » رواه سعيد بإسناده عن هزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتخصيص الرجل بكونها جبارا دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها، ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها بخلاف من لا يد له عليها وحديثه محمول على من لا يد له عليها. (مسألة) قال: (وما جنت برجلها فلا ضمان عليه) وبهذا قال أبو حنيفة، وفي رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح والشافعي؛ لأنه من جناية بهيمة يده عليها فيضمنها كجناية يده، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل جبار (¬4) » ولأنه لا يمكنه حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها، فأما إن كانت جنايتها بفعله مثل أن كبحها بلجامها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك ضمن جناية رجلها؛ لأنه السبب في جنايتها فكان ضمانها عليه ¬

_ (¬1) (9\171) مطبعة الإمام. (¬2) صحيح البخاري الديات (6912) ، صحيح مسلم الحدود (1710) ، سنن الترمذي الزكاة (642) ، سنن النسائي الزكاة (2495) ، سنن أبو داود الديات (4593) ، سنن ابن ماجه الديات (2673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/454) ، موطأ مالك العقول (1622) ، سنن الدارمي الديات (2377) . (¬3) سنن أبو داود الديات (4592) . (¬4) سنن أبو داود الديات (4592) .

ولو كان السبب في جنايتها غيره مثل أن نخسها أو نفرها، فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها وسائقها وقائدها؛ لأن ذلك هو السبب في جنايتها. (فصل) فإن كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما؛ لأنه المتصرف فيها القادر على كفها إلا أن يكون الأول صغيرا أو مريضا أو نحوهما، ويكون الثاني هو المتولي لتدبيرها فيكون الضمان عليه، وإن كان مع الدابة قائد وسائق فالضمان عليهما، لأن كل واحد منهما لو انفرد لضمن فإذا اجتمعا ضمنا وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب ففيه وجهان: أحدهما: الضمان عليهم جميعا لذلك، والثاني: على الراكب؛ لأنه أقوى يدا وتصرفا، ويحتمل أن يكون على القائد؛ لأنه لا حكم للراكب مع القائد. (فصل) والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته؛ لأنه في حكم القائد، فأما الجمل المقطور على الجمل الثاني فينبغي أن لا تضمن جنايته إلا أن يكون له سائق؛ لأن الراكب الأول لا يمكنه حفظه عن الجناية ولو كان مع الدابة ولدها لم تضمن جنايته؛ لأنه لا يمكنه حفظه. (فصل) وإن وقفت الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو رجل أو فم؛ لأنه متعد بوقفها فيه، وإن كان الطريق واسعا ففيه روايتان: إحداهما: يضمن وهو مذهب الشافعي؛ لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة، وكذلك لو ترك في الطريق طينا فزلق به إنسان ضمنه. والثانية: لا يضمن؛ لأنه غير متعد بوقفها في الطريق الواسع فلم يضمن، كما لو وقفها في موات وفارق الطين؛ لأنه متعد بتركه في الطريق. بناء على ما تقدم في التمهيد من القواعد الشرعية والعلل التي بنيت

عليها أحكام حوادث وسائل النقل القديمة وعلى ما ذكر بعد ذلك من المسائل يمكن تخريج أحكام حوادث السيارات في الموضوع الثاني من البحث عليها، فيقال: أولا: إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة ومتبعا خط السير حسب النظام فقفز رجل فجأة أمامه فصدمته السيارة ومات أو أصيب بجروح أو كسور رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها أمكن أن يقال: بتضمين السائق من مات بالصدم أو كسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها، وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال، بناء على ما تقدم عن الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد وبضمان المصدوم نصف ذلك؛ لاعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه، بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويحتمل أن يقال: أنه هدر لانفراده بالتعدي. ولو قدر أنه اصطدم بجانب السيارة فمات أو كسر والسيارة على ما ذكر من الحال كان الضمان بينهما على ما تقدم من الاحتمالات. ثانيا: إذا مر إنسان أو حيوان أمام سيارة (ونيت) مثلا فاستعمل سائق السيارة الفرملة تفاديا للحادث فسقط أحد الركاب وقفز آخر فماتا أو أصيبا بكسور علما بأن باب السيارة قد أحكم إغلاقه ضمن السائق دية من سقط أو

أرش إصابته؛ لأن سقوطه كان بعنفة الفرملة، وقد كان عليه أن يعمل لذلك احتياطا من قبل فيهدئ من السرعة، وليس له أن يتسبب في قتل شخص ليسلم آخر، ويحتمل ألا يضمن إذا كان متبعا للنظام في سرعته وخط سيره؛ لأنه مأمور بالفرملة تفاديا للحادث. أما من قفز فهو كاسر نفسه أو قاتلها فلا يضمنه السائق. ثالثا: إذا تعهد السائق سيارته قبل السير بها ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها مع مراعاته النظام في سرعته وخط سيره وغلب على أمره فصدمت إنسانا أو حيوانا أو وطئته فمات أو كسر مثلا لم يضمن السائق دية ولا قيمة ولو انقلبت بسبب ذلك فمات أو كسر من فيها أو تلف ما فيها لم يضمن، وكذا لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف فلا ضمان عليه؛ لعدم تعديه وتفريطه، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1) وإن فرط السائق في تعهد سيارته أو زاد في السرعة أو في حمولتها أو نحو ذلك - ضمن ما أصاب من نفس ومال. وإن سقط شيء من السيارة ضمنه إن كان في حفظه بأن كان موكولا إليه، إلا أن عليه شده بما يصونه ويضبطه، وإن سقط أحد منها لصغره وليس معه قيم فأصيب ضمن ذلك لتفريطه. رابعا: إن سقط شيء من السيارة فأصاب أحدا فمات أو كسر أو أصاب شيئا فتلف - ضمن ما أصاب من نفس أو مال لتفريطه، وإن سقط منها ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 286

مكلف لازدحام يخالف نظام المرور فمات ضمن السائق لتعديه، ويحتمل أن يكون الضمان على السائق ومن هلك بالسقوط مناصفة؛ لاشتراكهما في الاعتداء.

الموضوع الثالث بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة نظام المرور ونحوه

الموضوع الثالث: بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة نظام المرور ونحوه مما يسبب وقوع الحوادث: من الواجب على ولي الأمر العام النصح لأمته، والمحافظة على رعيته والسعي في تحقيق ما فيه صلاحهم وما به دفع الضرر عنهم معتصما في ذلك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى الأمة النصح له، وإعانته على شئون الدولة، وحفظ كيانها، وطاعته في المعروف، وعلى هذا إذا رأى باجتهاده في أمور الناس ومعاملاتهم المباحة وشئون حياتهم التي ليس فيها نص شرعي بأمر أو نهي إنما وكلت إلى اختيارهم أن يلزمهم بأحد طرفي المباح تحقيقا للمصلحة، ودفعا لمضرة الفوضى عنهم، وجب عليهم أن يطيعوه واعتبر من عصاه في ذلك من المعتدين. من ذلك: تنظيم العمل في الوزارات والدوائر والمؤسسات والمدارس بتحديد زمان العمل ومكانه ووضع اللوائح ومناهج العلوم وجداول الدراسة، ونحو ذلك مما يضبط العمل ويساعد على الاستفادة منه على أكمل الوجوه، فإذا فعل ذلك أو نائبه وجبت طاعته وحق له تعزير من يعصيه ويخالفه بما يراه مكافئا لمخالفته. ومنه: تنظيم خط السير في الطرق برا وبحرا وجوا، وإلزام قادة

السيارات والبواخر والطائرات ونحوها خطوطا محدودة وسرعة مقدرة ومواعيد مؤقتة، وأن يحملوا بطاقات تثبت الإذن لهم في القيادة وتدل على صلاحيتهم لها، فيجب على قادة وسائل النقل والمواصلات أن يلتزموا بما وضع لهم؛ محافظة على الأمن والدماء وسائر المصالح، ودفعا للفوضى والاضطراب وما ينجم عنهما من الحوادث والأخطار وفوات الكثير من المصالح، ومن خالف في ذلك كان من المعتدين، وحق لولي الأمر أو نائبه أن يعزره بما يردعه ويحفظ الأمن والمصلحة والاطمئنان من حبس وسحب بطاقة القيادة وغرامة مالية في قول بعض العلماء وحرمانه من القيادة ونحو ذلك، ومن جنى على غيره، وهو مخالف للنظام ضمن ما أصاب من نفس ومال على ما تقدم بيانه في مسائل الموضوع الأول والثاني من هذا البحث.

الموضوع الرابع توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع حادث بنسبة اعتدائهم أو خطئهم

الموضوع الرابع: توزيع الجزاء على من اشتركوا في وقوع حادث بنسبة اعتدائهم أو خطئهم: إن لاشتراك جماعة في وقوع حادث صورا كثيرة ومتنوعة يختلف الحكم فيهم باختلافها في وحدة موضع جنايتهم في البدن أو العضو وتعدده وفي اتفاق زمن حصول الحادث منهم وتتابعه، وفي تساوي مبلغ الإصابة وما ترتب عليها من الآثار والتفاوت في ذلك وفي المباشرة للحادث والتسبب فيه إلى غير هذا مما يختلف باختلافه الحكم على من اشترك في الحادث أو يوجب تساويهم في الحكم عليهم، كما يختلف الحكم باختلاف الجناية إذا وقعت من واحد.

ونذكر فيما يلي نقولا عن بعض فقهاء الإسلام يتبين منها ذلك، ثم نتبعها بالكلام عن توزيع الجزاء على المشتركين في حادث بنسب متساوية أو متفاوتة. في [المدونة] (¬1) : قلت: أرأيت لو أن رجلا جرح رجلا جرحين خطأ، وجرحه آخر جرحا واحدا خطأ فمات من ذلك فأقسمت الورثة عليهما كيف تكون الدية على عاقلتهما، أنصفين أم الثلث والثلثين؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئا إلا ما أخبرتك أن الدية على عواقلهما، فلو كانت الدية عند مالك الثلث والثلثين لقال لنا ذلك ولكنا لا نشك أن الدية عليهما نصفان. اهـ. قلت: أرأيت العينين أو الأذنين كيف يعرف ذهاب السمع والبصر منهما في قول مالك؟ قال: قال لي مالك: في العين إذا أصيبت فنقص بصرها أن تغلق الصحيحة وتقاس له التي أصيبت بأمكنة يختبر بها، فإذا اتفق قوله في تلك الأمكنة قيست الصحيحة ثم نظر كم نقصت هذه المصابة من الصحيحة فيعقل له قدر ذلك، قال: قال مالك: والسمع كذلك. قلت: فكيف يقيسون بصره؟ قال: سمعت أنه توضع له البيضة أو الشيء في مكان فإن أبصرها حولت إلى موضع آخر ثم إلى موضع آخر، فإن كان قياس ذلك سواء أو يشبه بعضه بعضا صدق، وكذلك قال لي مالك: قلت: فالسمع كيف يقاس؟ قال: يختبر بالأمكنة أيضا حتى يعرف صدقه من كذبه. اهـ. وقال الشيرازي في [المهذب] (¬2) : ¬

_ (¬1) ج 4 ط الخشاب. (¬2) (2\201) .

(فصل) وإن خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت، فإن كان قبل الالتحام لم يلزمه أرش؛ لأنه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطة، وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة؛ لأنه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط لا أجرة الخياطة؛ لأنها دخلت في أرش الجائفة، وإن كان بعد التحام بعضها لزمه حكومة، لجنايته على ما التحم، ولزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة؛ لأنها دخلت في الحكومة. ثم قال: (فصل) فإن جنى على عينيه فنقص الضوء منها فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها؛ لأنه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه، وإن لم يعرف مقدار النقصان بأن ساء إدراكه وجبت من الحكومة؛ لأنه تعذر التقدير فوجبت فيه الحكومة، وإن نقص الضوء في إحدى العينين عصبت القليلة وأطلقت الصحيحة ووقف له شخص في موقف يراه ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول: لا أراه ويمسح قدر المسافة، ثم تطلق العليلة وتعصب الصحيحة ولا يزال يقرب الشخص حتى يراه، ثم ينظر ما بين المسافتين فيجب من الدية بقسطها. . إلخ. ثم قال مثل ذلك في نقصان السمع والشم والذوق والكلام والعقل غير أن المقياس لمعرفة مقدار النقص فيها يكون في كل منها بحسبه. اهـ. وقال الشربيني في [مغني المحتاج] (¬1) : لو وضع رجل حجرا في طريق عدوانا وآخران حجرا كذلك فعثر بهما ¬

_ (¬1) (4 \88) .

آخر فمات فالضمان عليهم للعاثر أثلاثا وإن تفاوت فعلهم نظرا لعدد رءوس الجناة، كما لو مات بجراحة ثلاثة واختلفت الجراحات، وقيل: الضمان نصفان على الأول نصف وعلى الآخرين نصف نظرا إلى عدد الموضوع، ورجحه البلقيني إذ ليس هذا كالجراحات التي لها نكاية في الباطن، بل هو إلى صورة الضربات أقرب، بل أولى في الحكم. اهـ. وقال الشيرازي في [المهذب] (¬1) : وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم؛ لأنه بدل متلف يتجزأ فقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال، فإن اشترك في القتل اثنان، وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية، وإن كان أحدهما من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الآخر نصف الدية. وفي [المغني] لابن قدامة (¬2) : (مسألة) قال: (وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل وحبس الماسك حتى يموت) يقال: أمسك ومسك ومسك، وقد جمع الخرقي بين اللغتين فقال: إذا أمسك وحبس الماسك وهو اسم الفاعل من مسك مخففا، ولا خلاف في أن القاتل يقتل؛ لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق، وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه؛ لأنه متسبب والقاتل مباشر فسقط حكم المتسبب به، وإن أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى ¬

_ (¬1) (2\192) . (¬2) [المغني] (8\348، 349) ط الإمام.

ذبحه له، فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عنه أنه يحبس حتى يموت. وهذا قول عطاء وربيعة، وروي ذلك عن علي، وروي عن أحمد أنه يقتل أيضا. وهو قول مالك. قال سليمان بن أبي موسى: الاجتماع فينا أن يقتل؛ لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يعاقب ويأثم ولا يقتل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله (¬1) » ، والممسك غير قاتل، ولأن الإمساك سبب غير ملجئ، فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله. ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك» ، ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت. (فصل) وإن اتبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله نظرت، فإن كان قصد الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك؛ لأنه حبسه على القتل، وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم، ومنه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال، والأول أصح؛ لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بإمساكه، فإن قيل: لم اعتبرتم قصد الإمساك هاهنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الخارج؟ قلنا: إذا مات من الجرح فقد مات من سرايته وأثره فنعتبر قصد الجرح ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (2/187) .

الذي هو السبب دون قصد الأثر، وفي مسألتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له عليه فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه. وفي [المغني] أيضا لابن قدامة (¬1) : (فصل) ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه، فلو جرحه رجل جرحا والآخر مائة أو جرحه أحدهما موضحة والآخر آمة، أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة، فمات كانا سواء في القصاص والدية؛ لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين، إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه. ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم؛ لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفي باحتمال الوجود، بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم، ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة، كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الأمة ومن غير الجائفة دودن الجائفة، ولأن الجراح إذا صارت نفسا سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد، ألا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات وجبت فيه دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات. (فصل) إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه الثالث فمات، فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها، وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين، وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث. اهـ. ¬

_ (¬1) [المغني] (8\269) ط الإمام.

وفي [المقنع] مع حاشيته (3\ 338- 339) : (وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية) قال في الحاشية: هذا بلا نزاع بشرطه المتقدم (يعني: إذا كان فعل كل منهما صالحا للقتل) أي: لو انفرد لقتل. في الحاشية: إذا اشترك ثلاثة فقطع أحدهم يده والآخر رجله والثالث أوضحه فمات، فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية، فيأخذ من كل واحد ثلثها، وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين، وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث. (وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى معه الحياة كقطع حشوشه أو مريئه أو ودجيه ثم قطع عنقه آخر فالقاتل هو الأول وعزر الثاني) . وإن شق الأول بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثاني عنقه فالثاني هو القاتل، وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية. (وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقاتل الثاني) قال في الحاشية: لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حالة ييأس فيها من حياته، وبه قال الشافعي: إن كان مما يجوز أن يسلم منه، وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان: أحدهما: كقولنا. والثاني: الضمان عليهما بالقصاص؛ لأن كل واحد منهما سبب الإتلاف. (وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين والأخرى يقتل أيضا) . وفي الحاشية: وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر يعاقب

ويأثم ولا يقتل، وفيها أيضا فائدة مثل هذه المسألة في الحكم لو أمسكه ليقطع طرفه، ذكره في [الانتصار] ، وكذا إن فتح فمه وسقاه آخر سما وكذا لو اتبع رجلا ليقتله فهرب فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله، فإن كان الأول حبسه بالقطع فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك على الصحيح من المذهب، وفيه وجه ليس عليه إلا القطع. وفي [المغني] لابن قدامة (¬1) : (فصل) وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب، يعتبر ذلك بحروف المعجم وهي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا، فإن مخرجها مخرج اللام والألف فمهما نقص من الحروف وجب من الدية بقدره؛ لأن الكلام يتم بجميعها، فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام، ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها، وفي الأربعة سبعها، ولا فرق بين ما خف من الحروف على اللسان وما ثقل؛ لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع، ويحتمل أن قسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفة، وهي أربعة: الباء والميم والفاء والواو ودون حروف الحلق الستة: الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين، فهذه عشرة بقي ثمانية عشر حرفا، للسان تنقسم ديته عليها؛ لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه، فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها ¬

_ (¬1) [المغني] (8\439) ط الإمام.

بقسطه منها، ففي الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها في الثلاثة سدسها، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي. وإن جنى على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره، وكذلك إن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته وينبغي أن تجب بقدره من الثمانية والعشرين وجها واحدا، وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير أرش الحرف؛ لأن الضمان إنما يجب لما تلف، وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كأن يقول: درهم فصار يقول: دلهم أودغهم أوديهم، فعليه ضمان الحرف الذاهب؛ لأن ما تبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها، فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا؛ لأنه أصل إن لم يذهب شيء من الكلام لكن حصلت فيه عجلة أو تمتمة أو فأفأة فعليه حكومة، لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية، لأن المنفعة باقية. وإن جنى عليه جان آخر فأذهب كلامه ففيه الدية كاملة، كما لو جنى على عينه جان فعمشت ثم جنى عليها آخر فذهب بصرها، وإن أذهب الأول بعض الحروف وأذهب الثاني بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى، وإن كان ألثغ من غير جناية عليه فذهب إنسان بكلامه كله. فإن كان ميئوسا من زوال لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف، وإن كان غير ميئوس من زوالها كالصبي ففيه الدية كاملة؛ لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم. (فصل) إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه: فإن استويا مثل أن يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما

لو قلع إحدى عينيه فذهب بصرها. وإن ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين؛ لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفردا، فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف، ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شيء وجب نصف الدية ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شيء وجب نصف الدية، وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب نصف الدية فإن قطع آخر بقية اللسان فذهبت بقية الكلام ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: عليه نصف الدية هذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي؛ لأن السالم نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام. والثاني: عليه نصف الدية وحكومة للربع الأكمل؛ لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه حكومة أو ثلث الدية، فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضا. الثالث: عليه ثلاثة أرباع الدية، وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي؛ لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب ربع كلامه فوجبت عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا، ولا يصح القول بأن بعضه أشل؛ لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بعضه أشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ناقصا، وإن قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه ديته، فإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية، وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي

والآخر عليه نصف الدية؛ لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه. ولنا أنه ذهب ثلاثة أرباع الكلام فلزمه ثلاثة أرباع ديته، كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع نصف اللسان الأول، ولأنه لو أذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمه ثلاثة أرباع الدية فلأن تجب بقطع نصف اللسان في الأول أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جناية أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته؛ لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع الدية، كما لو جنى على صحيح فذهب بثلاثة أرباع كلامه مع بقاء لسانه. (فصل) وإذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جني عليه به، فذهب من كلام الجاني مثل ما ذهب من كلام المجني عليه وأكثر فقد استوفى حقه، ولا شيء في الزائد؛ لأنه من سراية القود وسراية القود غير مضمونة وإن ذهب أقل، فللمقتص دية ما بقي؛ لأنه لم يستوف بدله. بناء على ما تقدم من أقوال الفقهاء في مسائل الموضوع الرابع من الإعداد، وما بنيت عليه من العلل أو اندرجت تحته من القواعد الشرعية يمكن أن يخرج توزيع المسئولية في حوادث السيارات على الطريقة الآتية: أولا: إذا صدمت سيارة إنسانا عمدا أو خطأ فرمته إلى جانب وأصابته سيارة أخرى مارة في نفس الوقت فمات: أ- فإن كانت إصابة كل منهما تقتله لو انفردت وجب القصاص منهما له، أو الدية عليهما مناصفة على ما تقدم من الخلاف والشروط في مسألة اشتراك جماعة في قتل إنسان سواء تساوت الإصابتان أو كانت إحداهما

أبلغ من أخرى ما دامت الدنيا منهما لو انفرد قتلت (¬1) . ب- وان تتابعت الإصابتان وكانت الأولى منهما تقتل وجب القصاص أو الدية على سائق الأولى، ويعزر سائق الثانية، وإن كانت الأولى لا تقتل ومات بإصابة الثانية فالقصاص أو الدية على سائق الثانية، ويجب على سائق الأولى جزاء ما أصاب من قصاص أو دية أو حكومة (¬2) . ثانيا: إذا أصابت سيارة إنسانا بجروح أو كسور وأصابته أخرى بجروح أو كسور أقل أو أكثر من الأولى وكل من الإصابتين لا تقتل إذا انفردت فمات المصاب من مجموع الإصابتين وجب القصاص أو الدية على السائقين مناصفة. ثالثا: إذا دفع إنسان آخر فسقط أو أوثقه في طريق فأدركته سيارة ووطئته فقتلته أو كسرته مثلا فقد يقال: على السائق ضمن ما أصاب من نفس أو كسر، ويعزر الدافع أو الموثق بعقوبة دون الموت أو يحبس حتى يموت؛ لأن السائق مباشر والموثق أو الدافع متسبب، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما قصاصا أو دية أو حكومة؛ لأن كليهما مشترك مع السائق في ذلك. ¬

_ (¬1) يرجع في ذلك إلى ما نقل عن الشيرازي ص (516) ، [والمغني] و [المقنع] ص (520، 521) من الإعداد. (¬2) يرجع إلى آخر ص (521) وأول ص (522) من الإعداد.

رابعا: إذا أصابت سيارة إنسانا أو مالا وأصابته أخرى في نفس الوقت أو بعده ولم يمت وتمايزت الكسور أو الجروح أو التلف فعلى كل من السائقين ضمان ما تلف أو أصيب بسيارته قل أو كثر (¬1) . خامسا: إذا أصابت سيارتان إنسانا بجروح أو كسور ولم تتمايز ولم يمت أو أصابتا شيئا أو أتلفته فعليهما القصاص في العمد وضمان الدية والمال بينهما مناصفة (¬2) . سادسا: إن استعمل السائق المنبه (البوري) من أجل إنسان أمام سيارته أو يريد العبور فسقط من قوة الصوت أمام سيارته ووطئته سيارته فمات أو كسر مثلا ضمنه السائق وإن سقط تحت سيارة أخرى ضمنه سائقها؛ لأنه مباشر ومستعمل المنبه متسبب، ويحتمل أن يكون بينهما لاشتراكهما كالممسك مع القاتل، وإن سقط فمات أو كسر مثلا بمجرد سماعه الصوت ضمنه مستعمل المنبه. سابعا: إذا خالف سائق نظام السير المقرر من جهة السرعة أو عكس خط السير وأصاب إنسانا أو سيارة أو أتلف شيئا عمدا أو خطأ ضمنه. وإن خرج إليه إنسان أو سيارة من منفذ فحصل الحادث ففي من يكون عليه الضمان احتمالات: الأول: أن يكون على السائق المخالف للنظام لاعتدائه ومباشرته، ويحتمل أن يكون على من خرج من المنفذ فجأة؛ لأنه لم يثبت ولم يحتط لنفسه ولغيره، وعلى من خالف نظام المرور التعزير بما ¬

_ (¬1) يرجع إلى ما نقل عن [المغني] ، ص (494) ، وعن الشيرازي ص (494، 495) من الإعداد. (¬2) ص (497) من الإعداد.

يراه الحاكم أو نائبه، ويحتمل أن يكون الضمان عليهما للاشتراك في الحادث، وإن اعترضته سيارة تسير في خطها النظامي أو زحمته فإن كان ذلك عمدا منه فالضمان عليه وإن كان خطأ فالضمان عليهما وعلى المخالف للنظام الحق العام وهو التعزير بما يراه الإمام. والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

المجلد السادس - إصدار: سنة 1423 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

(1) التجانية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم التجانية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد. فبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من كتابة بحث مختصر عن الطريقة التجانية وإدراجه في أعمال الدورة العاشرة لمجلس هيئة كبار العلماء - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يلي: 1 - كلمة عن أحمد بن محمد التجاني منشئ هذه الطريقة وعن مصدرها. 2 - نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه. 3 - حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة. الموضوع الأول: كلمة عن أحمد بن محمد التجاني وعن مصدر الطريقة التجانية: هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد التجاني،

ولد عام 1150 من الهجرة بقرية عين ماضي التي وفد إليها جده محمد، فاستوطن بها وتزوج من قبيلة فيها تدعى تجاني أو تجانا، فكانت أخوالا لأولاده، وإليها نسبوا. نشأ أبو العباس بهذه القرية وحفظ بها القرآن ورحل في طلب العلم إلى بلاد عدة، وتأثر في أسفاره بمن التقى به من مشايخ الطرق الصوفية، وأخذ الطريق عن عدة منهم، ثم انتهت به رحلاته إلى أبي صيفون. وهناك زعم أنه قد جاءه الفتح، وأنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، وأنه أذن له في تربية الخلق على العموم والإطلاق، وأخذ عنه الطريقة الصوفية مشافهة، وأمره أن يترك كل طريق أخذه عن مشايخ الصوفية اكتفاء بما أخذ عنه صلى الله عليه وسلم مشافهة، وعين له النبي صلى الله عليه وسلم الورد الذي يلقنه مريديه وهو: الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذلك سنة 1196 من الهجرة، وكمل له الورد بسورة الإخلاص على رأس المائة؛ ولذا سميت الطريقة الأحمدية والمحمدية كما سميت التجانية نسبة إلى القبيلة التي صاهرها جده محمد فنسبوا إليها. وزعم أحمد التجاني بعد شهرته أنه شريف، ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، ولم يشأ أن يعول في إثبات ذلك على وثائق مكتوبة ولا على أخبار الأعيان والآحاد، بل زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وسأله عن نسبه، فأجابه بقوله: أنت ولدي حقا، وكررها (ثلاث مرات) ، ثم قال له: نسبك إلى الحسن صحيح. اهـ ملخصا من الباب الأول من [جواهر المعاني] لعلي حرازم (¬1) ومن الفصل الثامن ¬

_ (¬1) [جواهر المعاني] (1 \ 25 - 57) .

والعشرين (¬1) من كتاب [الرماح] لعمر بن سعيد الفوتي. * هذا وإنه لم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم أن أحدا منهم - وهم خير الخلق بعد الأنبياء - ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ومن المعلوم من الدين بالضرورة: أن التشريع قد أكمل في حياته صلى الله عليه وسلم، وأن الله قد أكمل للأمة دينها، وأتم عليها نعمته قبل أن يتوفى رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2) فلا شك أن ما زعمه أحمد التجاني لنفسه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأنه أخذ عنه الطريقة التجانية يقظة مشافهة. وأنه عين له الأوراد التي يذكر بها ويصلى على رسوله بها - لا شك أن هذا من البهتان والضلال المبين. ¬

_ (¬1) [الرماح] (1 \ 178 - 181) . (¬2) سورة المائدة الآية 3

نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه

الموضوع الثاني: نبذ من عقيدته وعقيدة أتباعه: نظرا إلى أن الدواعي التي دعت إلى إعداد بحث عن الطريقة التجانية ليعرض على هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة لا تعني مناقشة رؤساء هذه الطريقة ولا الرد عليهم وبيان الصواب لهم، إنما تعني ذكر نقول من كتبهم تتجلى فيها عقائدهم، ويمكن بعد الاطلاع عليها الحكم من خلالها عليهم بما تقضيه هذه النقول. لهذا اقتصرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على مجموعة من النقول من بعض كتبهم استقصاء تتبين منها عقائدهم ويسهل

الحكم بمقتضاها عليهم، ولم تضف إليها من عندها إلا إشارات خفيفة، وفيما يلي ذكر نقول من كتاب [جواهر المعاني وبلوغ الأماني] لعلي حرازم، وكتاب [رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم] لعمر بن سعيد الفوتي: قال علي حرازم (¬1) : (اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل وما هو؟ فأجاب: أما ما هو حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر في الحضرة الإلهية نظرا عينيا وتحقيقا يقينيا، فإن الأمر أوله محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية، ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عينا وأثرا، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق: فلم يبق إلا الله لا شيء غيره ... فما ثم موصول وما ثم واصل ثم حياة وهي تمييز المراتب بمعرفة جميع خصوصياتها ومقتضياتها ولوازمها، وما تستحقه من كل شيء، ومن أي حضرة كل مرتبة منها، ولماذا وجدت، وماذا يراد منها وما يئول إليه أمرها، وهو مقام إحاطة العبد بعينه ومعرفته بجميع خصوصياته وأسراره ومعرفة ما هي الحضرة الإلهية وما هي عليه من العظمة والجلال والنعوت العلية، والكمال ¬

_ (¬1) [جواهر المعاني] (1 \ 160) .

معرفة ذوقية ومعاينة يقينية، وصاحب هذه المرتبة هو الذي تشق إليه المهامة في طلبه، لكن مع هذه الصفة فيه كمال أذن الحق إذنا خاصا في هداية عبيده وتوليته عليهم بإرشادهم إلى الحضرة الإلهية، فهذا هو الذي يستحق أن يطلب وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي جحيفة: «سل العلماء وخالط الحكماء واصحب الكبراء» . وصاحب هذه المرتبة هو المعبر عنه بالكبير، ومتى عثر المريد على من هذا صفته فلازم في حقه أن يلقي نفسه بين يديه كالميت بين يدي غاسله لا اختيار له ولا إرادة ولا عطاء له ولا إفادة، وليجعل همته منه تخليصه من البلية التي أغرق فيه إلى كمال الصفاء بمطالعة الحضرة الإلهية بالإعراض عن كل ما سواها، ولينزه نفسه عن جميع الاختيارات والمرادات مما سوى هذا، ومتى أشار عليه بفعل أو أمر فليحذر من سؤاله بلم وكيف وعلام ولأي شيء؟ فإنه باب المقت والطرد، وليعتقد أن الشيخ أعرف بمصالحه منه، وأي مدرجة أدرجه فيها فإنه يجري به في ذلك على ما هو لله بالله بما فيها إخراجه عن ظلمة نفسه وهواها. . .) إلخ. ومن أمثلة غلو أتباع أحمد بن محمد التجاني فيه ما قاله علي حرازم ونصه (¬1) : (واعلم رحمك الله أني لا أستوفي ما لسيدنا وشيخنا ومولانا أحمد التجاني رضي الله عنه من المآثر والآيات والمناقب والكرامات أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ لأني كلما تذكرت فضيلة وجدت فضيلة أخرى، وكلما تذكرت آية رأيت أكبر من أختها إلى هلم جرا. . .) إلى أن ¬

_ (¬1) [جواهر المعاني] (1 \ 7 - 9) .

قال: (لأن مآثر هذا الشيخ لا تحصى، ومناقبه لا تستقصى، فقد شاعت بها الأخبار حيث سار الليل والنهار، وليس يوجد لها حد ولا مقدار، وإنما نورد صبابة منها وشظية من عدها فقد يكل عنها القرطاس والقلم، ويعيا في طلبها اليد والقدم. . .) إلخ. وبعد أن أثنى على من نقل عنهم في كتابه [جواهر المعاني] قال: (جعلنا الله وإياكم من المنخرطين في سلكه ومن المحسوبين في حزبه، وممن عرف قدره وقدر محبه بجاه محمد وآله وصحبه، فإن من تشبث بأذيالهم بلغ المأمول، وكان فيما يرومه قريب الوصول، فابسط أيها المحب يد الضراعة عند ذكرهم، وقف متذللا عند بابهم، وقل بلسان الافتقار إليهم: ارحم عبيدك الضعيف، وإن كان بها على الجور والتطفيف، فقد قال تعالى على لسان رسوله: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» ) . . إلى أن قال: (وحاشا لمن تعلق بأذيالهم أن يهملوه أو تحيز لجنابهم أن يتركوه فإن طفيلي ساحتهم لا يرد، وعن بابهم لا يصد، ولله در قائلهم: هم سادتي هم راحتي هم منيتي ... أهل الصفا حازوا المعالي الفاخرة حاشا لمن قد حبهم أو زارهم ... أن يهملوه سادتي في الآخرة ) وقال أيضا: (والفرق بين من يغلبه الحال لضعفه، ومن يغلبه لقوة الوارد عليه: أن الذي يغلبه الحال لضعفه علامته: ألا يمد غيره، وقصاراه على نفسه، والذي يغلبه الحال لقوته علامته: أن يمد غيره، وأقوى من ذلك أن يسلبه ما أعطاه، وقد شاهدناه غير ما فعل ذلك مع بعض الإخوان لسوء

أدبهم ولموجب آخر. . .) إلخ. هذا وإن ما اشتملت عليه هذه الكلمات من الغلو الفاحش والشرك الفاضح لغني عن البيان، وقد تجاوز به قائله حدا لا يقبل معه تأويل، ولا ينفع معه اعتذار، اللهم إلا إذا قيل: إنه صدر من قائله في حال سلب فيها عقله، وصار إلى حال لا يحمد عليها، ولكن معظموه لا يرون ذلك ولا يقبلونه، بل يرونه محمدة له وكرامة. ثم ذكر عن أحمد التجاني أن كلامه يحوم حول الفناء ووحدة الوجود، وأن شعور الولي بوجود نفسه يعتبر شركا. وقال في وصفه أحمد التجاني (¬1) وحديثه عنه -: (وكثيرا ما يقرر هذا المعنى ويدل وعليه، ويرشد بحاله ومقاله إليه، وينشد بحاله على سبيل التمثيل -: أنا معي بدر الكمال، حيث يميل قلبي يميل، وذلك بأنه قد محا السوى فلا يشاهد مع الله غيرا، ولا يرى نفعا ولا ضرا، بل يشاهد الفعل من الله، وأنه هو المتصرف، والدال بفعله عليه والمتعرف، وأن أفعاله كلها مصحوبة بالحكمة، محفوفة بالرحمة، ويرى الخلق كالأواني المسخرة في يد غيره، ويعد شهود الإنسان نفسه اثنينية، ويتمثل بلسان حاله ويقول: إذا قلت: ما أذنبت. قالت مجيبة: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب. وعلى هذا المعنى صارت حالته فلا ترى أفعاله وأقواله وتصريحاته وتلويحاته تحوم إلا على الفناء في الله والغيبة فيه عما سواه. . .) إلى أن ¬

_ (¬1) [جواهر المعاني] (1 \ 61، 62) .

قال في وصفه ص: 63: (يحيي القلوب ويبرئ من العيوب، يغني بنظرة ويوصل إلى الحضرة، إذا توجه أغنى وأقنى، وبلغ المنى، يتصرف في أطوار القلوب بإذن علام الغيوب. . .) إلخ. اهـ. وهذا لون آخر من شدة غلو الشيخ في نفسه وغلو أصحابه فيه انتهى به وبهم إلى دعوى الفناء الممقوت، والقول بوحدة الوجود، إن ذلك لإلحاد في الدين، وبهتان وكفر مبين. ثم زعم أن شيخه يعلم الغيب فقال (¬1) : (ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية وفراسته النورانية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب، وفي غيرها من إظهار مضمرات، وإخبار بمغيبات، وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات، فيعرف أحوال قلوب الأصحاب وتحول حالهم وإبدال أعراضهم، وانتقال أغراضهم، وحالة إقبالهم وإعراضهم وسائر عللهم وأمراضهم، ويعرف ما هو عليه ظاهرا وباطنا، وما زاد وما نقص، وبين ذلك في بعض الأحيان، وتارة يستره رفقا بهم من الاختبار والامتحان، واتفقت لغير واحد معهم في ذلك قضايا غير ما مرة) . وقال في حصول شيخه على اسم الله الأعظم في تقدير ثوابه (¬2) : (وأما ثواب الاسم الأعظم. فقد قال سيدنا رضي الله عنه: أعطيت من اسم الله العظيم الأعظم صيغا عديدة، وعلمني كيفية أستخرج بها ما ¬

_ (¬1) [جواهر المعاني] (1 \ 63، 64) . (¬2) [جواهر المعاني] (1 \ 68) .

أصيبت تراكيبه، وأخبره صلى الله عليه وسلم بما فيه من الفضل العظيم الذي لا حد له ولا حصر، وأخبره صلى الله عليه وسلم بخواصه العظام وكيفية الدعاء به وكيفية سلوكه، وهذا الأمر لم يبلغ لنا أحد أن بلغه غير سيدنا رضي الله عنه؛ لأنه قال رضي الله عنه: أعطاني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم الاسم الأعظم الخاص بسيدنا علي كرم الله وجهه، بعد أن أعطاني الاسم الأعظم الخاص بمقامه هو صلى الله عليه وسلم. وقال الشيخ رضي الله عنه: قال سيد الوجود صلى الله عليه وسلم: هذا الاسم الخاص بسيدنا علي لا يعطى إلا لمن سبق عند الله في الأزل أنه يصير قطبا. ثم قال رضي الله عنه: ثم قلت لسيد الوجود صلى الله عليه وسلم: ائذن لي في جمع أسراره ومع ما احتوى عليه. ففعل صلى الله عليه وسلم، وأما ما أخبره به صلى الله عليه وسلم عن ثواب الاسم الأعظم الكبير الذي هو مقام قطب الأقطاب، فقال الشيخ رضي الله عنه حاكيا ما أخبره به سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل لتاليه في كل مرة سبعون ألف مقام في الجنة، في كل مقام سبعون ألفا من كل شيء في الجنة، كائن من الحور والقصور والأنهار إلى غاية ما هو مخلوق في الجنة ما عدا الحور وأنهار العسل فله في كل مقام سبعون حوراء، وسبعون نهرا من العسل، وكل ما خرج من فيه هبطت عليه أربعة من الملائكة المقربين فكتبوه من فيه وصعدوا به إلى الله تعالى وأروه له، فيقول الجليل جل جلاله: اكتبوه من أهل السعادة واكتبوا مقامه في عليين في جوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا في كل لفظة من ذكره، وله في كل مرة ثواب جميع ما ذكر الله به على ألسنة جميع خلقه في سائر عوالمه، وله في كل مرة ثواب ما سبح به ربنا على لسان كل مخلوق من أول خلق آدم إلى آخره. . .) إلى كثير من ذا الخرص والتخمين والرجم بالغيب في

تقدير الثواب بالآلاف المؤلفة. . . إلى أن قال علي حرازم: (ومما أملاه علينا رضي الله عنه قال: لو اجتمع ما تلته الأمة من القرآن من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى النفخ في الصور لفظا فردا فردا في القرآن ما بلغ لفظة واحدة من الاسم الأعظم، وهذا كله بالنسبة للاسم كنقطة في البحر المحيط، وهذا مما لا علم لأحد به، واستأثر الله به عن خلقه، وكشفه لمن شاء من عباده. وقال رضي الله عنه: إن الاسم الأعظم هو الخاص بالذات لا غيره، وهو اسم الإحاطة، ولا يتحقق بجميع ما فيه إلى واحد في الدهر وهو الفرد الجامع هذا هو الاسم الباطن، أما الاسم الأعظم الظاهر فهو اسم الرتبة الجامع لمرتبة الألوهية من أوصاف الإله ومألوهيته، وتحته مرتبة أسماء التشتيت، ومن هذه الأسماء فيوض الأولياء، فمن تحقق بوصف كان فيضه بحسب ذلك الاسم، ومن هذا كانت مقاماتهم مختلفة وأحوالهم كذلك وجميع فيوض المرتبة بعض من فيوض اسم الذات الأكبر، وقال رضي الله عنه: إذا ذكر الذاكر الاسم الكبير يخلق الله من ذكره ملائكة كثيرة، لا يحصي عددهم إلا الله، ولكل واحد من الألسنة بعدد جميع الملائكة المخلوقين من ذكر الاسم، ويستغفرون في كل طرفة عين للذاكر، أي: كل واحد يستغفر في كل طرفة عين بعدد جميع ألسنته، وهكذا إلى يوم القيامة، ثم قال رضي الله عنه: سألت سيد الوجود صلى الله عليه وسلم عن فضل المسبعات العشر، وأن من ذكرها مرة لم تكتب عليه ذنوب سنة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: فضل جمع الأذكار وسر جميع الأذكار في الاسم الكبير.

فقال الشيخ رضي الله عنه: علمت أنه أراد صلى الله عليه وسلم جميع خواص الأذكار وفضائلها منطوية في الاسم الكبير، ثم قال رضي الله عنه: يكتب الذكر الاسم بكل ملك خلقه الله في العالم فضل عشرين من ليلة القدر، ويكتب له بكل دعاء كبير وصغير ستة وثلاثون ألف ألف مرة، بكل مرة من ذكر هذا الاسم الشريف، وقال رضي الله عنه: فمن قدر أن ذاكرا ذكر جميع أسماء الله في جميع اللغات تساوي نصف مرة من ذكر الاسم من ذكر كل عارف) (¬1) . اهـ. وذكر عمر بن سعيد الفوتي في كتاب [الرماح] : (¬2) (إن الأولياء يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة، وإنه يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وإنه يتصرف ويسير في أقطار الأرض في الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل عنه شيء، وإنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله أن يراه عبد رفع عنه الحجاب فيراه على هيئته التي كان هو عليها) ، ثم ذكر في هذا الفصل كثيرا من النقول عن جماعة من الصوفية فيها حكايات عن رؤية الأولياء للرسول صلى الله عليه وسلم يقظة، وذكر في هذا الفصل كثيرا من الغرائب والمنكرات حول مجالس الأنبياء والأقطاب في المسجد الحرام عند الكعبة بأجسادهم وتصرفهم بنفسهم ووكلائهم في الخلق. وذكر فيه أيضا أن الأنبياء لا يبقون في قبورهم بعد الوفاة إلا ¬

_ (¬1) [جواهر المعاني] (1 \ 71، 72) (¬2) [الرماح] الفصل الحادي والثلاثين (1 \ 198، 199) .

زمانا محدودا يتفاوت حسب تفاوت درجاتهم ومراتبهم، ثم ختم الفصل بقوله: (إذا نظرت وتحققت بجميع ما تقدم من أول الفصل إلى هنا ظهر لك ظهورا لا غبار عليه أن اجتماع القطب المكتوم والبرزخ المختوم شيخنا أحمد بن محمد التجاني سقانا الله تعالى من بحره بأعظم الأواني، ورزقنا جواره في دار التهاني، رضي الله عنه وأرضاه، وعنا به بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، وأخذه رضي لله تعالى عنه وأرضاه، وعنا به وأعاد علينا من بركاته دنيا وبرزخا وأخرى وحضور النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم بأجسادهم وأرواحهم قراءة جوهرة الكمال وعند أي مجلس خير أو أي مكان شاءوا ولا ينكره إلا الطلبة الجهلة الأغبياء والحسدة المردة الأشقياء، لا مهدي إلا من هداه الله تعالى) . وقد غلا عمر بن سعيد الفوتي في تعظيم شيخه أحمد بن محمد التجاني فزعم أنه خاتم الأولياء وسيد العارفين، وأنه لا يتلقن واحد من الأولياء فيضا من نبي الله إلا عن طرقه من حيث لا يشعر به ذلك الولي قال: (الفصل السادس والثلاثون في ذكر فضل شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به، وبيان أنه هو خاتم الأولياء وسيد العارفين وإمام الصديقين وممد الأقطاب والأغواث، أنه قطب المكتوم والبرزخ المختوم الذي هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء بحيث لا يتلقن واحد من الأولياء من كبر شأنه ومن صغر فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله تعالى عنه من

حيث لا يشعر به ذلك الولي. . .) (¬1) . إن هذه الكلمات ناطقة بالشرك الصريح، والكذب المكشوف، والغلو الممقوت، فقد جعل شيخه أعلى مرتبة من الصحابة وسائر القرون الثلاثة، من شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون بله من سواهم من الصالحين، ثم ذكر ما نصه: (¬2) : (أن بعض من لم يكن له في العلم ولا في نفحات أهل الله من خلاق قد يورد علينا إيرادين: أولهما: أنه يقول: إن الشيخ رضي الله عنه وأرضاه مدح نفسه وزكاها وذلك مذموم. ثانيهما: أنه يقول: إن قول الشيخ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعنا به: وإن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود تتلقاها ذوات الأنبياء وكل من فاض، وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، ويدخل فيه جميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فيكون أفضل من جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وذلك باطل، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: ولا يشرب ولي ولا يسقى إلى من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وكذلك قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: إذا جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته يسمعه كل من بالموقف: يا أهل المحشر، هذا إمامكم الذي كان ممدكم منه، وكذا ¬

_ (¬1) [الرماح] (2 \ 4) . (¬2) [الرماح] (2 \ 5) .

قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: روحه صلى الله عليه وسلم وروحي هكذا، مشيرا بإصبعه السبابة والوسطى روحه صلى الله عليه وسلم تمد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور، وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به: إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء، ولا يقاربه من كبر شأنه، ولا من صغر، وإن جميع الأولياء من الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: أعمار الناس كلها ذهبت مجانا إلا أعمار أصحاب الفاتح لما أغلق، فقد فازوا بالربح دنيا وأخرى ولا يشغل بها عمره إلا السعيد) . وذكر علي حرازم عن أحمد بن محمد التجاني في سياق الكلام على المفاضلة بين تلاوة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تلاوة القرآن أفضل من حيث إنه كلام الله ومن حيث ما دل عليه من العلوم والمعارف والآداب. . .) ثم قال ما نصه (¬1) : (إن هاتين الحيثيتين لا يبلغ فضل القرآن فيهما إلا عارف بالله قد انكشفت له بحار الحقائق، فهو أبدا يسبح في لججها، فصاحب هذه المرتبة هو الذي يكون القرآن في حقه أفضل من جميع الأذكار والكلام لحوز الفضيلتين؛ لكونه يسمعه من الذات ¬

_ (¬1) [من جواهر المعاني] (1 \ 176 - 179) .

المقدسة سماعا صريحا لا في كل وقت، وإنما ذلك في استغراقه وفنائه في الله تعالى. والمرتبة الثانية في القرآن دون هذه: وهي من عرف معاني القرآن ظاهرا وألقى سمعه عند تلاوته كأنه يسمعه من الله يقصه عليه، ويتلوه عليه مع وفائه بالحدود، فهذا أيضا لاحق بالمرتبة الأولى إلا أنه دونها. والمرتبة الثالثة: رجل لا يعلم شيئا من معانيه ليس إلا سرد حروفه ولا يعلم ما تدل عليه من العلوم والمعارف - فهذا إن كان مهتديا كسائر الأعاجم الذين لا يعلمون معاني العربية إلا أنه يعتقد أنه كلام الله ويلقي سمعه عند تلاوته معتقدا أن الله يتلو عليه تلاوة لا يعلم معناها، فهذا لاحق في الفضل بالمرتبتين إلا أنه منحط عنهما بكثير كثير. والمرتبة الرابعة: رجل يتلو القرآن، وسواء علم معانيه أو لم يعلم، إلا أنه متجرئ على معصية الله غير متوقف عن شيء منها، فهذا لا يكون القرآن في حقه أفضل، بل كلما ازداد تلاوة ازداد ذنبا وتعاظم عليه الهلاك، يشهد له قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} (¬1) إلى قوله: {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (¬2) وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (¬3) إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬4) . . . ثم قال ما نصه: (فمثل ¬

_ (¬1) سورة الكهف الآية 57 (¬2) سورة الكهف الآية 57 (¬3) سورة الجاثية الآية 7 (¬4) سورة الجاثية الآية 10

هذا لا يكون القرآن في حقه أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحب المرتبة الرابعة: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في حقه أفضل من القرآن) وبعد أن بين ذلك قال ما نصه: (فإذا عرف ذلك بان للعارف به أن ما في طريق العامة غطاء غطى الله به أسرار القرآن وتركت أسرار القرآن ومذاقات أهل الخصوص من وراء أطوار الحس والعقل المدركان في أمر العامة، فيجب كتمه على كل من علمه إذ لم يرد سبحانه وتعالى إظهاره إلا للخاصة العليا من خلقه. قيل: إن أبا يزيد باسطه الحق في بعض مباسطته قال له: يا عبد السوء لو أخبرت الناس بمساويك لرجموك بالحجارة. فقال له: وعزتك لو أخبرت الناس بما كشفت لي من سعة رحمتك لما عبدك أحد. فقال له: لا تفعل. فسكن. انتهى ما أملاه علينا شيخنا أبو العباس التجاني) . ثم ذكر علي حرازم ما زعمه أحمد التجاني من مباسطة الرب لأبي يزيد مرة أخرى في [الجواهر] ص: 183. وقال علي حرازم (¬1) . وسألته رضي الله عنه عن قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (¬2) {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} (¬3) الآية، فأجاب رضي الله عنه بقوله: معنى البحرين: بحر الألوهية، وبحر الوجود المطلق، وبحر الخليقة، وهو الذي وقع عليه كن، وهو البرزخ بينهما صلى الله عليه وسلم لولا برزخيته صلى الله عليه وسلم لاحترق بحر الخليقة كله من هيبة جلال الذات. قال سيدنا رضي الله عنه: بحر ¬

_ (¬1) [جواهر المعاني] (1 \ 204، 205) (¬2) سورة الرحمن الآية 19 (¬3) سورة الرحمن الآية 20

الخليقة بحر الأسماء والصفات فما ترى ذرة في الكون إلا وعليها اسم أو صفة من صفات الله، وبحر الألوهية هو بحر الذات المطلقة التي لا تكيف ولا تقع العبارة عنها. يلتقيان لشدة القرب الواقع بينهما. قال سبحانه وتعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} (¬1) ولا يختلطان: لا تختلط الألوهية بالخليقة ولا الخليقة بالألوهية، فكل منهما لا يبغي على الآخر للحاجز الذي بينهما، وهي البرزخية العظمى، التي هي مقامه صلى الله عليه وسلم، فالوجود كله عائش بدوام بقائه تحت حجابيته صلى الله عليه وسلم استتارا به عن سبحات الجلال التي لو تبدت بلا حجاب لاحترق الوجود كله وصار محض العدم في أسرع من طرفة عين، فالألوهية قائمة في حدودها، والخليقة قائمة في حدودها، كل منهما يلتقيان ولا يختلطان للبرزخية التي بينهما، لا يبغيان: أعني: لا يختلط أحدهما على الآخر، انتهى ما أملاه علينا رضي الله عنه من حفظه ولفظه. وسألته رضي الله عنه: عن دائرته صلى الله عليه وسلم، فأجاب رضي الله عنه بقوله: هي دائرة السعادة التي وقع عليها قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2) قال البوصيري رضي الله عنه: ولن ترى من ولي غير منتصر . . . البيت. كل من لم ينتصر بالنبي صلى الله عليه وسلم لا حظ له في ولاية الله، وهو معنى قول الشيخ رضي الله عنه: لن ترى من ولي. . .) إلخ. اهـ. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآية 85 (¬2) سورة يونس الآية 62

هذه طامة أخرى، طامة التلاعب بآيات القرآن، وتحريفها عن مواضعها، وتأويل لها بما لا تدل عليه في لغة العرب، بل بما تمجه العقول السليمة ويسخر منه أولو الألباب. ذكر عمر بن سعيد الفوتي: أن الشيخ أحمد التجاني قال ذات ليلة في مجلسه (¬1) : (أين السيد محمد الغالي؟ فجعل أصحابه ينادون أين السيد محمد الغالي؟ على عادة الناس مع الكبير إذا نادى أحدا، فلما حضر بين يدي الشيخ قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى. وقال سيدي محمد الغالي - وكان لا يخافه؛ لأنه من أكابر أحبابه وأمرائهم -: يا سيدي، أنت في الصحو والبقاء أو في السكر والفناء؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: أنا في الصحو والبقاء وكمال العقل ولله الحمد. وقال: قلت: ما تقول بقول سيدي عبد القادر رضي الله عنه: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله تعالى؟ فقال: صدق رضي الله عنه، يعني: أهل عصره، وأما أنا فأقول: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور. قال: فقلت له: يا سيدي، فكيف تقول إذا قال أحد بعدك مثل ما قلت؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: لا يقول أحد بعدي، قال: فقلت: يا سيدي، قد حجرت على الله تعالى واسعا ألم يكن الله تعالى قادرا على أن يفتح على ولي فيعطيه من الفيوضات والتجليات والمنح والمقامات والمعارف والعلوم والأسرار والترقيات والأحوال أكثر مما أعطاك؟ فقال رضي الله ¬

_ (¬1) كتاب [الرماح] (2 \ 15 - 17) .

عنه وأرضاه وعنا به: بلى، قادر على ذلك وأكثر منه لكن لا يفعله؛ لأنه لم يرده ألم يكن قادرا على أن ينبئ أحدا ويرسله إلى الخلق ويعطيه أكثر مما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: بلى، لكنه تعالى لا يفعله؛ لأنه ما أراده في الأزل، فقال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: هذا مثل ذلك ما أراده في الأزل لم يسبق به علمه تعالى، فإن قلت: ما صورة برزخية القطب المكتوم المعبر عنه عند العارفين والصديقين وأفراد الأحباب وجواهر الأقطاب، بجواهر الجواهر، وبرزخ البرازخ والأكابر. فالجواب والله تعالى الموفق للصواب: اعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه: أن الحضرات المستفيضة سبع: الأولى: حضرة الحقيقة الأحمدية، وهي في [جواهر المعاني] غيب من غيوب الله تعالى، فلم يطلع أحد على ما فيها من المعارف والعلوم والأسرار والفيوضات والتجليات والأحوال العلية والأخلاق الزكية، فما ذاق منها أحد شيئا ولا جميع الرسل والنبيين اختص صلى الله عليه وسلم وحده بمقامه. . .) إلى أن قال: (فما نال أحد منها شيئا اختص بها صلى الله عليه وسلم لكمال عزها وغاية علوها. والثانية: حضرة الحقيقة المحمدية، فمنها كما في [جواهر المعاني] كل مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة والمقربين وجميع الأقطاب والصديقين وجميع الأولياء والعارفين. . .) إلى أن قال: (وكل ما أدركه جميع الموجودات من العلوم والمعارف والفيوضات والتجليات والترقيات والأحوال والمقامات والأخلاق إنما هو كله من فيض حقيقته المحمدية.

والثالثة: الحضرة التي فيها حضرات سادتنا الأنبياء على اختلاف أذواقهم ومراتبهم وأهل هذه الحضرة هم الذين يتلقون كل ما فاض وبرز من حضرة الحقيقة المحمدية، كما قال شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا إلى أهل الحضرة بقوله: إن الفيوض التي تفيض من ذات الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء إلا أن لخاتم الأولياء مشربا من النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا اطلاع له عليه، كما سيأتي الآن قريبا إن شاء الله تعالى. والرابعة: حضرة خاتم الأولياء الذي يتلقى جميع ما فاض به من ذوات الأنبياء؛ لأنه رضي الله عنه وأرضاه وعنا به هو برزخ البرازخ، كما قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا إلى هذه الحضرة بقوله: إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا لله عز وجل بلا وساطة، وبقوله: أنا سيد الأولياء كما كان صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: لا يشرب ولي ولا يسقى إلا من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: إذا جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته حتى يسمع كل من في الموقف: يا أهل المحشر، هذا إمامكم الذي كان مددكم منه، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيرا بإصبعيه السبابة والوسطى: روحي وروحه صلى الله عليه وسلم

هكذا، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: إن القطب المكتوم هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء، فكل ولي لله تعالى من كبر شأنه ومن صغر لا يتلقى فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به من حيث لا يشعر به. ومدده الخاص به إنما يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به؛ لأن له مشربا معهم منه صلى الله عليه وسلم. الخامسة: حضرة أهل طريقته الخاصة بهم، وإلى هذه الحضرة أشار الشيخ رضي الله عنه وأرضاه وعنا به بقوله: ولو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لأهل هذه الطريقة لبكوا وقالوا: يا ربنا، ما أعطيتنا شيئا، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: كل الطرائق تدخل عليها طريقتنا فتبطلها، وطابعنا يركب على كل طابع لا يحمل طابعنا غيره، وبقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: من ترك وردا من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق آمنه الله تعالى في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو الأموات، وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به المصائب دنيا وأخرى، ولا يفلح أبدا، قلت: وهذه لأنه قد ثبت أول هذا الفصل أن صاحبها رضي الله عنه وأرضاه وعنا به هو الختم الممد الذي يستمد منه من سواه من الأولياء

والعارفين. . . . والصديقين والأغواث ومن ترك المستمد ورجع إلى الممد فلا لوم عليه ولا خوف، بخلاف من ترك الممد ورجع إلى المستمد بقوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به: وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب، ولو عملوا من الذنوب ما عملوا، وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه صلى الله عليه وسلم أمر لا يحل لي ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة. قلت: ووجه تقديم حضرة أهل طريقته على الحضرة التي فيها حضرات الشيوخ الذين هم أهل الطرق من سادتنا الأولياء رضي الله عنهم ظاهر؛ لأن أهل طريقته هم أول من يفيض عليهم ما يستمده من الحضرة المحمدية ومن حضرات سادتنا الأنبياء عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأتم السلام، ومن هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين. السادسة: الحضرة التي فيها حضرات سادتنا الأولياء رضي الله عن جميعهم، وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا، وإليها يشير قول شيخنا أحمد رضي الله عنه وأرضاه وعنا به كما في [جواهر المعاني] لقوله: فلكل شيخ من أهل الله تعالى حضرة لا يشاركه فيها أحد. السابعة: الحضرة التي فيها حضرات تلاميذهم) اهـ.

حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة

الموضوع الثالث: حكم الشريعة فيمن يعتقد هذه العقيدة: إن ما تقدم في الإعداد من بدع التجانية قليل من كثير مما ذكره علي حرازم في كتابه [جواهر المعاني وغاية الأماني] وما ذكره عمر بن سعيد الفوتي في كتابه [رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم] وهما من أوسع كتب التجانية وأوثقها في نظر أهل هذه الطريقة. إن ما ذكر في الإعداد إنما هو نموذج لأنواع من بدع التجانية تتجلى فيها عقائدهم وتكفي لمن عرضها على أصول الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم على كل من يعتقد هذه العقائد المبتدعة المنكرة. ونلخص فيما يلي جملة من عقائدهم التي تضمنها البحث: 1 - غلو أحمد بن محمد التجاني مؤسس الطريقة وغلو أتباعه فيه غلوا جاوز الحد، حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة، بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه. 2 - إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه، بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه. 3 - زعمه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وتلقين النبي صلى الله عليه وسلم إياه الطريقة التجانية وتلقينه وردها يقظة والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك. 4 - تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي صلى الله عليه وسلم أولا، ثم يفيض منه على الأنبياء، ثم يفيض من الأنبياء عليه، ثم منه يتفرق على

جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور، ويزعم أنه يفيض أحيانا من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ثم يفيض على سائر الخليقة، ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه. 5 - تهجمه على الله وعلى كل ولي لله وسوء أدبه معهم، إذ يقول: قدماي على رقبة كل ولي: فلما قيل له: إن عبد القادر الجيلاني قال: فيما زعموا: قدمي على رقبة كل ولي، قال: صدق ولكن في عصره، أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور. فلما قيل له: أليس الله قادرا على أن يوجد بعدك وليا فوق ذلك؟ قال: بلى، ولكن لا يفعل، كما أنه قادر على أن يوجد نبيا بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يفعل، ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه. 6 - دعواه كذبا أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور، وأنه يصرف القلوب، وتصديق مريديه ذلك وعده من محامده وكراماته. 7 - إلحاده في آيات الله، وتحريفها عن مواضعها بما يزعمه تفسيرا إشاريا كما سبق في الإعداد من تفسيره قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (¬1) {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} (¬2) ويعتقد مريدوه أن ذلك من الفيض الإلهي. 8 - تفضيله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن الآية 19 (¬2) سورة الرحمن الآية 20

9 - زعمه هو وأتباع أن مناديا ينادي يوم القيامة والناس في الموقف، بأعلى صوته: يا أهل الموقف، هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا. . إلخ. 10 - زعمه أن كل من كان تجانيا يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب، مهما فعل من الذنوب. 11 - زعمه أن من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله، ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر. 12 - زعمه أنه يجب على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل لا اختيار له، بل يستسلم لشيخه فلا يقول: لم، ولا كيف، ولا علام، ولا لأي شيء. . . إلخ. 13 - زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم، علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم ثم هول أمره، وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات، خرصا وتخمينا ورجما بالغيب واقتحاما لأمر لا يعلم إلا بالتوقيف. 14 - زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمنا محدودا يتفاوت بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء. 15 - زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم،

وكذا الخلفاء الراشدون. . . إلخ. إلى غير ذلك مما لو عرض على أصول الإسلام اعتبر شركا وإلحادا في الدين، وتطاولا على الله ورسوله وتشريعه، وتضليلا للناس، وتبجحا منهم بعلمه الغيب. . . إلخ. هذا ما تيسر والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

حكم ورد التجانية

حكم ورد التجانية فتوى برقم 7 117 7 وتاريخ 3 \ 5 \ 1392 هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم من أحد السائلين وهو: هل الورد الذي يقوم به التجانيون والتجانية صحيح في الإسلام؟ فقد سمع كثيرا من المدارس الإسلامية تعارضه والتجانيون يستعملونه بعد صلاة المغرب، فهم ينشرون قطعة قماش بيضاء في المسجد ويجلسون حولها ويتلون لا إله إلا الله وكلمتين أخريين مائة مرة، ويرجو مساعدته في إيضاح الحق؟ الجواب: حثت الشريعة الإسلامية على ذكر الله تعالى، ورغبت في ذلك كثيرا، وبينت أنه يحيي النفوس، وتطمئن به القلوب، وتنشرح به الصدور، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (¬1) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (¬2) وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت (¬4) » رواه البخاري، وكما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية 41 (¬2) سورة الأحزاب الآية 42 (¬3) سورة الرعد الآية 28 (¬4) صحيح البخاري الدعوات (6407) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (779) .

بالذكر والترغيب فيه مجملا فيهما مفصلا، فبين القرآن: أن ذكر الله يكون بالقلب؛ إجلالا لله، وهيبة ووقارا وخوفا منه، ورغبة إليه خفية وخيفة، دون الجهر من القول بالغدو والآصال، وبين أن الصلاة أعظم ذكر الله، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (¬2) وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) وفي الصلاة: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (¬4) وبينت السنة قولية وعملية أنواع الأذكار وأوقاتها وكيفيتها، فبينت أذكارا للصباح والمساء والشدة والبلاء، وعند النوم واليقظة، وعند الأسفار والعودة. . إلخ، وعينت كلماتها وكيفياتها. ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (¬5) » فمن ذكر الله تعالى كما جاء في بيان الكتاب والسنة من أنواع الذكر، وأوقاتها وكيفياتها فقد اتبع هدي الله تعالى، وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام وكسب الأجر والمثوبة، ومن غير صيغ الأذكار وحرفها، أو بدل في كيفياتها والتزم فيها كيفيات لم يلتزمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 238 (¬2) سورة البقرة الآية 239 (¬3) سورة النساء الآية 103 (¬4) سورة الأعراف الآية 205 (¬5) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) .

ما قيده، أو قيد ما أطلقه والتزم طريقة في أداء الأذكار لم تعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أصحابه، ولا القرون الثلاثة المشهود لها بالخير؛ فقد أساء وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله وحرم الأجر والثواب، ومن ذلك ما التزمه بعض أصحاب الطرق كالتجانية من نشر قطعة قماش بيضاء يلتف حولها الذاكرون بلا إله إلا الله ونحوها من الأذكار بعد الغروب، فالذكر مشروع وكلمة (لا إله إلا الله) أفضل ما قاله النبيون، والذكر بها من أفضل الأذكار، ولكن التزام نشر الرقعة البيضاء، والاجتماع حولها، وتخصيص ما بعد المغرب لذلك الذكر وإيقاعه جماعيا بدعة ابتدعوها لم يأذن بها الله ولا رسوله، وخير العمل ما كان اتباعا، وشره ما كان ابتداعا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة (¬1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (¬2) » ، ومن ذلك الاجتماع قبل الفجر أو بعده أو بعد العشاء للتعبد بأوراد وضعوها من عند أنفسهم، أو لأذكار بهيئات مزرية وترنحات، هي إلى الألعاب والتمثيل أقرب وبه أشبه، ومن ذلك ذكرهم بكلمة " هو " وكلمة " آه " وليستا من أسماء الله، بل الأولى: ضمير غائب، والثانية: كلمة توجع، فالذكر بهما من البدع المنكرة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ¬

_ (¬1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) . (¬2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .

حكم الصلاة خلف الأئمة المبتدعين كالتجانية

حكم الصلاة خلف الأئمة المبتدعين - كالتجانية فتوى برقم 7 2089 7 وتاريخ 21 \ 9 \ 1398 هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، والذي جاء فيه: لقد تضاربت أقوال الفقهاء في الصلاة خلف الأئمة المبتدعين، وأصحاب الطرق خصوصا التابعين للطريقة التجانية، وقد اطلعت على رسالة الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي رحمه الله مدير دار الحديث بالمدينة المنورة سابقا [الأنوار الرحمانية في هداية الفرقة التجانية] حيث اتضح أن عقائد أصحاب هذه الطريقة هداهم الله إلى سواء الصراط غير صحيحة، وهم أقرب إلى الشرك والضلالة - والعياذ بالله - منهم إلى الإيمان والتصديق بكتاب الله، واتباع سنة رسوله المصطفى المختار عليه صلاة الله وسلامه. فهل تصح الصلاة خلف إمام مبتدع تابع للطريقة التجانية؟ وإذا كان الجواب لا، فهل للمسلم إقامة الصلاة في أهله وفي بيته إذا لم يجد في أي مسجد في المدينة التي يسكنها إماما غير مبتدع؟ وهل تجوز إقامة الصلاة في جماعة خاصة في المسجد بعد انتهاء المبتدع صاحب الطريقة التجانية من صلاته؟ وهذا سيؤدي إلى بلبلة في الأفكار وتفرقة

بين صفوف المسلمين؟ وأجابت اللجنة بما يلي: الفرقة التجانية من أشد الفرق كفرا وضلالا وابتداعا في الدين لما لم يأذن به الله، فلا تصح الصلاة خلف من هو على طريقتهم وبإمكان المسلم أن يلتمس له إماما غير متبع لطريقة التجانية وغيرها من طرق المبتدعة ممن لا تتسم عباداتهم وأعمالهم بالمتابعة لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. وإذا لم يجد إماما غير مبتدع فيقيم له جماعة في أي مسجد من مساجد المسلمين إذا أمن الفتنة والإضرار به من المبتدع، فإن كان في بلد يتسلط فيها مبتدع فيقيم الجماعة في أهله أو بأي مكان يأمن على نفسه، ومتى أمكنته الهجرة إلى بلد تقام فيها السنة وتحارب البدع وجب عليه ذلك. وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

من أحكام القرآن الكريم

(2) من أحكام القرآن الكريم هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم من أحكام القرآن الكريم إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 1 - حكم السفر بالمصحف إلى أرض العدو. 2 - ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا (الطهارة من الحدث ومن الكفر) . 3 - ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن. 4 - حكم تعليم الكافر القرآن. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما ورد إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من مدير عام التعليم بمنطقة الرياض برقم 35 \ 3 \ 2 \ 6231 \ 4 وتاريخ 1 \ 7 \ 1398 هـ. من السؤال: عما يجب أن يعامل به الطالب المسيحي الملتحق بالمدرسة بالنسبة لمادة القرآن الكريم ومواد التربية الإسلامية، باعتبار أنه لا يجوز مس المصحف لغير المسلمين. . انتهى.

وبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام من إدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال الدورة الثالثة عشرة، وجمع ما تيسر من النقول عن أهل العلم في الأمور الآتية: أولا - ما جاء من النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو. ثانيا - ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا (الطهارة من الحدث ومن الكفر) . ثالثا - ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن. رابعا - حكم تعليم الكافر القرآن.

حكم السفر بالمصحف إلى أرض العدو

أولا: ما جاء من النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو. بناء على ذلك جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن أهل العلم فيما ذكر. . وبالله التوفيق. أولا: اختلف أهل العلم في حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وفيما يلي ذكر أقوالهم وأدلتهم والمناقشة: قال البخاري: (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) . وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن، حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. وقال ابن حجر: (قوله: باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) سقط لفظ كراهية إلا للمستملي فأثبتها وبثبوتها يندفع الإشكال الآتي: (قوله: وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله) هو ابن عمر (عن

نافع عن ابن عمر) وتابعه ابن إسحاق عن نافع أما رواية محمد بن بشر فوصلها إسحاق بن راهويه في [مسنده] عنه، ولفظه: كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. قال الدارقطني والبرقاني: لم يروه بلفظ الكراهة إلا محمد بن بشر، وأما متابعة ابن إسحاق فهي بالمعنى؛ لأن أحمد أخرجه من طريقه بلفظ: (نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو) والنهي يقتضي الكراهة؛ لأنه لا ينفك عن كراهة التنزيه أو التحريم، (قوله: وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن) أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف؛ خشية أن يناله العدو لا السفر بالقرآن نفسه، وقد تعقبه الإسماعيلي: بأنه لم يقل أحد: إن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم، وهو اعتراض من لم يفهم مراد البخاري، وادعى المهلب: أن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة، فيجوز في تلك دون هذه، والله أعلم، ثم ذكر المصنف حديث مالك في ذلك، وهو بلفظ: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) وأورده ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وزاد (مخافة أن يناله العدو) ورواه ابن وهب عن مالك: فقال: قال مالك: أراه مخافة فذكره، قال أبو عمر: كذا قال يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه، ولم يرفعوه وأشار إلى ابن وهب تفرد برفعها وليس كذلك لما قدمته من رواية ابن ماجه، وهذه الزيادة رفعها ابن إسحاق

أيضا كما تقدم، وكذلك أخرجها مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث عن نافع ومسلم من طريق أيوب بلفظ: «فإني لا آمن أن يناله العدو (¬1) » . فصح أنه مرفوع وليس بمدرج، ولعل مالكا كان يجزم به ثم صار يشك في رفعه فجعله من تفسير نفسه. قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء: أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه: فمنع مالك أيضا مطلقا، وفصل أبو حنيفة، وأدار الشافعية الكراهية مع الخوف وجودا وعدما، وقال بعضهم كالمالكية، واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر لوجود المعنى المذكور فيه، وهو التمكن من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك، وإنما وقع الاختلاف: هل يصح لو وقع الاختلاف (¬2) ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا (¬3) ؟ وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬4) » . وحدثنا قتيبة، حدثنا ليث ح، وحدثنا ابن رمح أخبرنا الليث عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (¬5) » وحدثنا أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) . (¬2) هكذا في الأصل، والصواب: لو وقع العقد. (¬3) [فتح الباري] (5 \ 133) رقم الحديث (2990) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .

الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمن أن يناله العدو (¬1) » قال أيوب: فقد ناله العدو وخاصموكم به. حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل - يعني: ابن علية - ح، وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان والثقفي كلهم عن أيوب ح، وحدثنا ابن رافع حدثنا ابن أبي فديك، أخبرنا الضحاك - يعني: ابن عثمان - جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن علية والثقفي «فإني أخاف» وفي حديث سفيان وحديث الضحاك بن عثمان «مخافة أن يناله العدو (¬2) » . وقال النووي قوله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬3) » ، وفي الرواية الأخرى «مخافة أن يناله العدو (¬4) » ، وفي الرواية الأخرى: «فإني لا آمن أن يناله العدو (¬5) » فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة، بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة، ولا منع منه حينئذ؛ لعدم العلة، هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والصحيح عنه ما سبق، وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك. واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات، والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال القاضي: وكره مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير التي فيها اسم الله تعالى وذكره سبحانه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬5) صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) .

وتعالى. وقال الأبي: قوله نهى: قلت: لا يدخل الخلاف المذكور في قول الراوي: نهى، لتصريحه بالنهي في الطريق الثاني. قوله: أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (ع) المراد بالقرآن هنا المصحف، وكذا جاء مفسرا في بعض الأحاديث. قلت: لم يكن المصحف مكتوبا حينئذ فلعله من الإخبار عن مغيب أو لعله كان مكتوبا في رقاع فيصح ويتقرر النهي بالقليل؛ والكثير منه، لا سيما على القول أن القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير منه، وأما على القول بأنه اسم للجمع فيتعلق النهي بالقليل؛ لمشاركته الكل في القلة، فإن حرمة القليل منه كالكثير. (ع) واختلف في السفر به: فمنعه مالك وقدماء أصحابه وإن كان الجيش كبيرا؛ لأنه قد ينسى أن يسقط، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة جوازه مطلقا، والصحيح عنه جوازه في الجيش الكبير دون السرايا؛ لأن نيل العدو إياه مع الجيش الكبير نادر لا يلتفت إليه. وأجاز الفقهاء الكتب إليهم بالآية ونحوها للدعاء إلى الإسلام والوعظ. انتهى (¬1) . قال الأبي: قوله: «مخافة أن يناله العدو (¬2) » (ع) ظن بعض الناس وصحح أن هذا التعليل من قول مالك أو ما بعده من قوله: «فإني لا آمن أن يناله العدو (¬3) » . وفي الآخر: «إني أخاف أن يناله العدو فلن يرده (¬4) » ، فإنه ¬

_ (¬1) [الأبي على مسلم] (5 \ 216) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬3) صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .

ظاهر أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ومتصل به، واختلف في ذلك رواة الموطأ فرواه ابن مهدي وابن وهب والأكثر متصلا بكلامه صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير أنه من كلام مالك وهذه الرواية تحمل على أن مالكا شك في رفع هذه الزيادة فجعلها لتحريه من كلامه وإلا فهي رواية الثقات. انتهى. (¬1) وجاء في [موطأ مالك] : حدثني يحيى عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬2) » فقال مالك: وإنما ذلك مخافة أن يناله العدو. انتهى. وقال الباجي: قوله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬3) » يريد والله أعلم الصحف: لما كان القرآن مكتوبا فيها سماها قرآنا، ولم يرد ما كان منه محفوظا في الصدر؛ لأنه لا خلاف أنه يجوز لحافظ القرآن الغزو؛ وإنما ذلك لأنه لا إهانة للقرآن في قتل الغازي، وإنما الإهانة للقرآن بالعبث بالمصحف والاستخفاف به، وقد روي مفسرا «نهى أن يسافر بالمصحف (¬4) » رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (¬5) » . فصل: والسفر واقع على الغزو وغيره، قال ابن سحنون: قلت لسحنون: أجاز بعض العراقيين الغزو بالمصحف إلى أرض العدو في الجيش الكبير كالطائفة ونحوها وأما السرية ونحوها فلا. قال ¬

_ (¬1) [الأبي على مسلم] (5 \ 217) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .

سحنون: لا يجوز ذلك؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك عاما ولم يفصل، وقد يناله العدو من ناحية الغفلة. والدليل على صحة ما ذهب إليه سحنون أنه لا قوة فيه على العدو، وليس مما يستعان به على حربه، وقد يناله لشغل عنه كما قال سحنون، وقد يناله بالغلبة أيضا. مسألة: ولو أن أحدا من الكفار رغب أن يرسل إليه بمصحف؛ ليتدبره لم يرسل إليه به؛ لأنه نجس جنب، ولا يجوز له مس المصحف، ولا يجوز لأحد أن يسلمه إليه، ذكره ابن الماجشون. فصل: وقوله: «مخافة أن يناله العدو (¬1) » يريد أهل الشرك؛ لأنهم ربما تمكنوا من نيله، والاستخفاف به؛ فلأجل ذلك منع السفر به إلى بلادهم. انتهى (¬2) . وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر بالقرآن، فإني أخاف أن يناله العدو (¬3) » . وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، يعني: ابن مهدي، حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (¬4) » . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬2) [الموطأ على المنتقى] (3 \ 165، 166) . (¬3) [المسند] (2 \ 6) . (¬4) [المسند] (2 \ 7، 62، 63، 75)

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسافروا بالقرآن، فإني أخاف أن يناله العدو (¬1) » . وجاء في [مختصر المنذري لسنن أبي داود] : عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬2) » . قال مالك: أراد مخافة أن يناله العدو. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، هكذا ذكره هاهنا أن قوله: مخافة أن يناله العدو، من قول مالك. وأخرجه من رواية القعنبي عنه ووافق القعنبي على ذلك كأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ويحيى بن يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير، ورواه بعضهم من حديث عبد الرحمن بن مهدي والقعنبي عن مالك فأدرج هذه الزيادة في الحديث. فقد اختلف على القعنبي في هذه الزيادة: فمرة يبين أنها قول مالك ومرة يدرجها في الحديث. ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك فلم يذكر الزيادة البتة، وقد رفع هذه الكلمات أيوب السختياني والليث بن سعد والضحاك بن عثمان الحزامي عن نافع عن ابن عمر. وقال بعضهم: يحتمل أن مالكا شك هل هي من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل [التحرية] هذه الزيادة من كلامه على التفسير وإلا فهي صحيحة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية الثقات. والمراد بالقرآن هاهنا: المصحف، وكذا جاء مفسرا في بعض ¬

_ (¬1) [المسند] (2\ 10) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .

الحديث، ونيل العدو له استخفافه به وامتهانه إياه، فإذا أمنت العلة في الجيوش الكثيرة. وقد قيل: ارتفع النهي وهو مذهب أبي حنيفة وغيره من العلماء، وأشار إليه البخاري وحملوا النهي على الخصوص. ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير في النهي عن ذلك، وحكي عن بعضهم جواز السفر به مطلقا. وقيل: إن نهيه - صلى الله عليه وسلم - فيه ليس على وجه التحريم والفرض، وإنما هو على معنى الندب والإكرام للقرآن، انتهى (¬1) . وجاء في [طرح التثريب] : وعن نافع عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬2) » فيه فوائد: 1 - أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من طريق مالك، وزاد في رواية ابن ماجه: «مخافة أن يناله العدو (¬3) » ، وفي رواية أبي داود: قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث بن سعد بزيادة «مخافة أن يناله العدو (¬4) » ، وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني بلفظ «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (¬5) » ، ومن طريق الضحاك بن عثمان بلفظ: «مخافة أن يناله العدو (¬6) » ، وعلقه البخاري من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر، ومن طريق ابن إسحاق ستتهم عن نافع عمر، وقال أبو بكر البرقاني: لم يقل ¬

_ (¬1) [مختصر المنذري] (3\ 414، 415) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬6) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .

كره إلا محمد بن بشر، ورواه أبو همام عن محمد بن بشر كذلك، ورواه عن عبيد الله بن عمر جماعة فاتفقوا على لفظة النهي، وقال ابن عبد البر: هكذا قال يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير وأكثر الرواة يعني: بلفظ قال مالك: «أراه مخافة أن يناله العدو (¬1) » ، ورواه ابن وهب عن مالك فقال في آخره: «خشية أن يناله العدو (¬2) » ، وفي سياقه الحديث لم يجعله من قول مالك [قلت] : وتقدم أنه في [سنن ابن ماجه] من رواية مالك في نفس الحديث، وهو عنده من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك قال: وكذلك قال عبيد الله بن عمر وأيوب والليث وإسماعيل بن أمية وليث بن أبي سليم وإن اختلفت ألفاظهم، قال: وهو صحيح مرفوع، وقال القاضي عياض في الرواية المشهورة عن مالك: يحتمل أنه شك هل هي من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ وقد روي عن مالك متصلا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كرواية غيره من رواية عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن وهب، وقال النووي: هذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك. 2 - فيه النهي عن السفر بالقرآن والمراد به المصحف إلى أرض العدو، وهذا محتمل للتحريم والكراهة، وفي لفظ مسلم: «لا تسافروا بالقرآن (¬3) » ، وظاهر هذا اللفظ التحريم، ولفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله «كره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬4) » وظاهره التنزيه فقط، وقد بوب عليه البخاري (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) ، وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سافر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .

النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن. انتهى، وفي بعض نسخه باب السفر بدون ذكر الكراهة، وقد اعتمد في الكراهة على لفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر، وقد عرفت من كلام البرقاني أن المشهور لفظ النهي على أن لفظ الكراهة يحتمل التحريم أيضا، وقال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء: أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا، والعسكر الصغير المخوف عليه. واختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه، فلم يفرق مالك بين الصغير والكبير، وقال أبو حنيفة: لا بأس في السفر بالعسكر العظيم. وقال النووي في [شرح مسلم] ،: إن أمنت العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهة ولا منع حينئذ؛ لعدم العلة هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والصحيح عنه ما سبق. انتهى. وقول البخاري رحمه الله: (قد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أرض العدو وهم يعلمون القرآن) إن قصد به معارضة النهي عن ذلك فلا تعارض بينهما؛ لأن النهي عن ذلك في المصحف؛ لئلا يتمكنوا منه فينتهكوا حرمته، وليس آدميا يمكنه الدفع عن نفسه بخلاف ما في صدور المؤمنين من القرآن، فإنهم عند العجز عن المدافعة عن أنفسهم لا يعد المهين لهم مهينا للمصحف؛ لأن الذي في صدورهم أمر معنوي والذي في المصحف مشاهد محسوس -والله أعلم.

3 - يستنبط منه منع بيع المصحف إلى الكافر؛ لوجود المعنى فيه، وهو تمكنه من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك، ولكن هل يصح لو وقع، اختلف أصحابنا فيه على طريقين: (أصحهما) : القطع ببطلانه (والثاني) : إجراء الخلاف الذي في بيع العبد المسلم للكافر فيه، والفرق بينهما على عظم حرمة المصحف وأنه لا يمكنه دفع الذل عن نفسه بالاستعانة بخلاف العبد (¬1) . وقال النووي: اتفقوا على أنه لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في [الصحيحين] : أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬2) » . واتفقوا: أنه يجوز أن يكتب إليهم الآية والآيتان وشبههما في أثناء كتاب؛ لحديث أبي سفيان - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابا فيه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬3) الآية (¬4) . ¬

_ (¬1) [طرح التثريب] (7\ 216، 217) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) . (¬3) سورة آل عمران الآية 64 (¬4) [المجموع شرح المهذب] : (2\78) .

ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا

ثانيا: ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا (الطهارة من الحدث ومن الكفر) . اختلف أهل العلم في ذلك: وفيما يلي نقول عن أهل العلم من المفسرين، والمحدثين والفقهاء وتشتمل على أقوالهم، وأدلتهم ومناقشتها:

1 - النقول من المفسرين: 1 - قال الجصاص: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (¬1) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (¬2) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬3) روي عن سلمان أنه قال: لا يمس القرآن إلا المطهرون، فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء، وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال: فقال لأخته: أعطوني الكتاب الذي كنتم تقرءون، فقالت: إنك رجس وأنه لا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأه، وذكر الحديث، وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف، وعن ابن عمر مثله، وكره الحسن والنخعي مس المصحف على غير وضوء، وروي عن حماد: أن المراد الذي في اللوح المحفوظ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬4) يعني: الملائكة، وقال أبو العالية في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬5) قال: هو في كتاب مكنون ليس أنتم (¬6) من أصحاب الذنوب. وقال سعيد بن جبير وابن عباس: {الْمُطَهَّرُونَ} (¬7) الملائكة. وقال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي والنجس والمنافق. قال أبو بكر: إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر، فالأولى: أن يكون المراد القرآن الذي عند الله، والمطهرون الملائكة، وإن حمل على النهي، وإن كان في صورة الخبر، كان عموما فينا، وهذا أولى؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآية 77 (¬2) سورة الواقعة الآية 78 (¬3) سورة الواقعة الآية 79 (¬4) سورة الواقعة الآية 79 (¬5) سورة الواقعة الآية 79 (¬6) كذا في الأصل، ولعله (أنتم أنتم) . (¬7) سورة الواقعة الآية 79

أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم (ولا يمس القرآن إلا طاهر) ، فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية إذ فيها احتمال له (¬1) . 2 - وقال القرطبي: الخامسة: قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2) اختلف في معنى {لَا يَمَسُّهُ} (¬3) هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في {الْمُطَهَّرُونَ} (¬4) من هم؟ فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم: فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬5) أنها بمنزلة الآية التي في عبس وتولى {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (¬6) {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} (¬7) {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} (¬8) {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} (¬9) {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (¬10) يريد: أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة عبس: وقال معنى: {لَا يَمَسُّهُ} (¬11) لا ينزل به إلا المطهرون أي: الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] ، للجصاص: (3\ 511) . (¬2) سورة الواقعة الآية 79 (¬3) سورة الواقعة الآية 79 (¬4) سورة الواقعة الآية 79 (¬5) سورة الواقعة الآية 79 (¬6) سورة عبس الآية 12 (¬7) سورة عبس الآية 13 (¬8) سورة عبس الآية 14 (¬9) سورة عبس الآية 15 (¬10) سورة عبس الآية 16 (¬11) سورة الواقعة الآية 79

العربي: وهذا باطل؛ لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل؛ وهو اختيار مالك. وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا: وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره: أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: «من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد (¬1) » وكان في كتابه: «ألا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » . وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» ، وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬3) فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة (طه) وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬4) من الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا. وقيل معنى: {لَا يَمَسُّهُ} (¬5) لا يقرؤه {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬6) إلا الموحدون، قال محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة: كان ابن عباس ينهى أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن. وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون؛ أي: المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان ¬

_ (¬1) سنن النسائي القسامة (4853) ، سنن الدارمي الديات (2365) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬3) سورة الواقعة الآية 79 (¬4) سورة الواقعة الآية 79 (¬5) سورة الواقعة الآية 79 (¬6) سورة الواقعة الآية 79

من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا (¬1) » . وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع، أي: لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع؛ وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر. وقد مضى هذا المعنى في سورة (البقرة) ، المهدوي: يجوز أن يكون أمرا تكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة السين ضمة بناء والفعل مجزوم. السادسة: واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء: فالجمهور: على المنع من مسه؛ لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة: فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الإيمان (34) ، سنن الترمذي الإيمان (2623) ، مسند أحمد بن حنبل (1/208) .

ابن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه؛ لأن تحريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي: أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما: المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني: الجواز؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن؛ لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة؛ لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا (¬1) . 3 - وقال ابن كثير: وقال ابن جرير: حدثني موسى بن إسماعيل أخبرنا شريك عن حكيم هو ابن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2) قال: الكتاب الذي في السماء، وقال ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (17\ 225-227) . (¬2) سورة الواقعة الآية 79

العوفي عن ابن عباس: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬1) يعني: الملائكة، وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، حدثنا معمر عن قتادة {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2) قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس، والمنافق الرجس، قال: وهي في قراءة ابن مسعود ما يمسه إلا المطهرون، وقال أبو العالية: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬3) ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب، وقال ابن زيد زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} (¬4) {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} (¬5) {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (¬6) وهذا القول قول جيد وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله. وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. وقال آخرون: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬7) أي: من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناها: الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف، كما روى مسلم عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (¬8) » . ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآية 79 (¬2) سورة الواقعة الآية 79 (¬3) سورة الواقعة الآية 79 (¬4) سورة الشعراء الآية 210 (¬5) سورة الشعراء الآية 211 (¬6) سورة الشعراء الآية 212 (¬7) سورة الواقعة الآية 79 (¬8) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، موطأ مالك الجهاد (979) .

واحتجوا في ذلك: بما رواه الإمام مالك في [موطئه] عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (¬1) » . وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » ، وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي الأخذ به، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد كل منهما (¬3) نظر (¬4) . 4 - وقال القرطبي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬5) ابتداء وخبر، واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: لأنه جنب، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري: من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم، إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله. وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد، وأسقطه الشافعي. ¬

_ (¬1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬3) كذا ولعل منهم. (¬4) [تفسير ابن كثير] (4\298) . (¬5) سورة التوبة الآية 28

وقال: أحب إلي أن يغتسل. ونحوه لابن القاسم. ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس. وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال، رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده «وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حسن إسلام صاحبكم (¬1) » ، وأخرجه مسلم بمعناه. وفيه أن ثمامة لما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل. وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. فإن كان إسلامه قبل احتلامه فغسله مستحب. ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة. هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب (¬2) . 5 - وقال ابن كثير على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬3) أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع، ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر - رضي الله عنهما - عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا، وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (2/483) . (¬2) [تفسير القرطبي] (8\103، 104) . (¬3) سورة التوبة الآية 28

جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬1) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة. وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا شريك عن الأشعث يعني: ابن سوار عن الحسن، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم (¬2) » تفرد به الإمام أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬3) وقال عطاء: الحرم كله مسجد؛ لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬4) ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك، كما ورد في الصحيح «المؤمن لا ينجس (¬5) » ، وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير (¬6) . ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) مسند أحمد بن حنبل (3/392) . (¬3) سورة التوبة الآية 28 (¬4) سورة التوبة الآية 28 (¬5) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. (¬6) [تفسير ابن كثير] (2\346) .

النقول من المحدثين

2 - النقول من المحدثين: أ- قال الزيلعي: الحديث الخامس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬1) » قلت: روي من حديث عمرو بن حزم ومن حديث ابن عمر، ¬

_ (¬1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

ومن حديث حكيم بن حزام، ومن حديث عثمان بن أبي العاص، ومن حديث ثوبان. أما حديث عمرو بن حزم فرواه النسائي في [سننه] ، في كتاب الديات، وأبو داود في [المراسيل] من حديث محمد بن بكار بن بلال عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (¬1) » انتهى. وروياه أيضا من حديث الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة، ثنا سليمان بن داود الخولاني، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده بنحوه، قال أبو داود: وهم فيه الحكم بن موسى (يعني قوله: سليمان بن داود) وإنما هو سليمان بن أرقم، قال النسائي: الأول أشبه بالصواب وسليمان بن أرقم متروك. انتهى. وبالسند الثاني رواه ابن حبان في [صحيحه] في النوع السابع والثلاثين، من القسم الخامس، قال: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون، انتهى، وكذلك الحاكم في [المستدرك] (¬2) وقال: هو من قواعد الإسلام وإسناده من شرط هذا الكتاب. انتهى. أخرجه ¬

_ (¬1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬2) في باب زكاة الذهب (1\ 397) في حديث طويل.

بطوله، ورواه الطبراني في [معجمه] والدارقطني (¬1) ثم البيهقي في [سننهما] ، وأحمد في [مسنده] ، وابن راهويه. طريق آخر: رواه الدارقطني في [غرائب مالك] من حديث أبي ثور هاشم بن ناجية عن مبشر بن إسماعيل، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده، قال: كان فيما أخذ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمس القرآن إلا طاهر، قال الدارقطني: تفرد به أبو ثور عن مبشر عن مالك، فأسنده عن جده، ثم رواه من حديث إسحاق الطباع، أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، قال: كان في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » ، قال: وهذا الصواب عن مالك، ليس فيه عن جده. انتهى. قال الشيخ تقي الدين في [الإمام] : وقوله فيه: عن جده أن يراد به جده الأدنى، وهو محمد بن عمرو بن حزم، ويحتمل أن يراد به جده الأعلى، وهو عمرو بن حزم، وإنما يكون متصلا إذا أريد الأعلى، لكن قوله: كان فيما أخذ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي أنه عمرو بن حزم؛ لأنه الذي كتب له الكتاب. طريق آخر أخرجه البيهقي في [الخلافيات] من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب في عهده، «ولا يمس القرآن إلا طاهر (¬3) » ، انتهى. ¬

_ (¬1) ص: (45، 283) ، والبيهقي في [سننه] ص: 88، والدارمي في باب: لا طلاق قبل النكاح ص: (293) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

قلت: لم أجده عند عبد الرزاق في [مصنفه] وفي تفسيره إلا مرسلا فرواه في [مصنفه] في (باب الحيض) أخبرنا معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: كان في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث، ورواه في [تفسيره] في سورة الواقعة: أخبرنا معمر عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لهم كتابا فيه: «ولا يمس القرآن إلا طاهر (¬1) » ، انتهى. ومن طريق عبد الرزاق، رواه الدارقطني ثم البيهقي في [سننهما] هكذا مرسلا. قال الدارقطني: هذا مرسل ورواته ثقات. انتهى. طريق آخر، رواه البيهقي في [الخلافيات] أيضا من حديث إسماعيل بن أبي أويس حدثني أبي عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر يخبرانه عن أبيهما عن جدهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن. وأبو أويس صدوق، أخرج له مسلم في [المتابعات] ، وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى مرسلة، وسيأتي في الزكاة وفي الديات بعض ذلك إن شاء الله تعالى، قال السهيلي في [الروض الأنف] (¬2) حديث: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬3) » مرسل لا يقوم به الحجة، وقد أسنده الدارقطني من طرق أقواها رواية أبي داود الطيالسي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه ¬

_ (¬1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬2) في (فصل تطهير عمر ليمس القرآن) . (¬3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

عن جده. انتهى. وأما حديث ابن عمر، فرواه الطبراني في [معجمه] والدارقطني (¬1) ثم البيهقي من جهته في [سننهما] من حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري، قال: سمعت سالما يحدث عن أبيه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » انتهى. وسليمان بن موسى الأشدق مختلف فيه، فوثقه بعضهم، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي، وأما حديث حكيم بن حزام، فرواه الحاكم في [المستدرك] ، في كتاب الفضائل من حديث سويد بن أبي حاتم، ثنا مطر الوراق عن حسان بن بلال، عن حكيم بن حزام قال: لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» انتهى. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، رواه الطبراني. والدارقطني، ثم البيهقي في [سننهما] . وأما حديث عثمان بن أبي العاص، فرواه الطبراني في [معجمه] حدثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي، ثنا يعقوب بن حميد، ثنا هشام بن سليمان عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن سعيد، عن عبد الملك، عن المغيرة بن شعبة، عن عثمان بن أبي العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬3) » انتهى. ¬

_ (¬1) ص: (45) ، والبيهقي: ص: (88) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

وأما حديث ثوبان فلم أجده موصولا، ولكن قال ابن القطان في كتابه [الوهم والإيهام] : وروى علي بن عبد العزيز في [منتخبه] حدثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا مسعدة البصري عن خصيب بن جحدر، عن النضر بن شفي عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يمس القرآن إلا طاهر، والعمرة هي الحج الأصغر (¬1) » انتهى. قال ابن القطان: وإسناده في غاية الضعف، أما النضر بن شفي، فلم أجد له ذكرا في شيء من مظانه، فهو مجهول جدا، وأما الخصيب بن جحدر، فقد رماه ابن معين بالكذب، وأما مسعدة البصري، فهو ابن اليسع تركه أحمد بن حنبل، وخرق حديثه، ووصفه أبو حاتم بالكذب، وأما إسحاق بن إسماعيل فهو ابن عبد الأعلى يروي عن ابن عيينة وجرير وغيرهما، وهو شيخ لأبي داود، وأبو داود إنما يروي عن ثقة عنده، انتهى كلامه. وفي الباب أثران جيدان: أحدهما: أخرجه الدارقطني (¬2) عن إسحاق الأزرق، ثنا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر متقلدا بالسيف، فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر، وعندهما رجل من المهاجرين، يقال له: خباب وكانوا يقرءون (طه) فقال: أعطوني الذي عندكم فأقرأه - وكان عمر يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل، أو توضأ، فقام عمر فتوضأ، ثم أخذ ¬

_ (¬1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬2) في [سننه] ص: (45، 46) ، والبيهقي كلاهما في ص: (88) ، والثاني من طريق الدارقطني أيضا.

الكتاب فقرأ (طه) انتهى. ورواه أبو يعلى الموصلي في [مسنده] مطولا، قال الدارقطني: تفرد به القاسم بن عثمان، وليس بالقوي، وقال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها. الثاني: أخرجه الدارقطني أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: كنا مع سلمان، فخرج فقضى حاجته، ثم جاء فقلت: يا أبا عبد الله، لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات، قال: إني لست أمسه، إنه لا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا، انتهى. وصححه الدارقطني (¬1) . ب- وقال ابن حجر: حديث: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » أبو داود في المراسيل والنسائي من حديث عمرو بن حزم، في أثناء حديثه الطويل. ¬

_ (¬1) [نصب الراية] (1\ 196- 199) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

وأخرجه الدارقطني (¬1) من طريق أبي ثور عن مبشر بن إسماعيل، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه عن جده، قال: كان فيما أخذ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » ، تفرد به أبو ثور، وقال: الصواب ليس فيه عن جده، ثم أخرجه من طريق إسحاق بن الصباغ عن مالك كذلك. وأخرجه عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي من طريقه، عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، ليس فيه عن جده. وقد أخرجه الطيالسي من طريق أبي بكر بن محمد عن أبيه عن جده نحوه. وفي الباب: عن ابن عمر، أخرجه الطبراني والبيهقي. وعن حكيم بن حزام أخرجه الحاكم والطبراني والدارقطني. وعن عثمان (¬3) بن أبي العاص، أخرجه الطبراني. وعن ثوبان رفعه: «لا يمس القرآن إلا طاهر، والعمرة هي الحج الأصغر (¬4) » أخرجه علي بن عبد العزيز في [منتخب المسند] ، وإسناده ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في (غرائب مالك) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬3) وفيه إسماعيل بن رافع، ضعفه النسائي وابن معين، وقال البخاري: ثقة مقارب الحديث. (¬4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

ضعيف. وعن أخت عمر أنها قالت له عند إسلامه: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، أخرجه أبو يعلى والطبراني. وعن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان: أنه قضى حاجته فخرج ثم جاء، فقلت: لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات؟ قال: إني لست أمسه، لا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا، أخرجه الدارقطني وصححه (¬1) . وقال ابن حجر أيضا: حديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لحكيم بن حزام: «لا يمس المصحف إلا طاهر (¬2) » ، الدارقطني والحاكم في المعرفة من [مستدركه] . والبيهقي في [الخلافيات] والطبراني من حديث حكيم، قال: لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن: قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» ، وفي إسناده سويد أبو حاتم، وهو ضعيف، وذكر الطبراني في [الأوسط] : أنه تفرد به، وحسن الحازمي إسناده. واعترض النووي على صاحب [المهذب] في إيراده له عن حكيم بن حزام، بما حاصله أنه تبع في ذلك الشيخ أبا حامد، يعني: في قوله عن حكيم بن حزام، قال: والمعروف في كتب الحديث أنه عن عمرو بن حزم قلت: حديث عمرو بن حزم أشهر، وهو في الكتاب الطويل، كما سيأتي الكلام عليه في الديات إن شاء الله تعالى، ثم إن الشيخ محيي الدين في الخلاصة، ضعف حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن ¬

_ (¬1) [الدراية، (1\ 86) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

حزم جميعا، فهذا يدل على أنه وقف على حديث حكيم بعد ذلك. والله أعلم، وفي الباب عن ابن عمر رواه الدارقطني وإسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به، وعن عثمان بن أبي العاص، رواه الطبراني وابن أبي داود في المصاحف، وفي إسناده انقطاع، وفي رواية الطبراني من لا يعرف وعن ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في [منتخب مسنده] ، وفي إسناده خصيب بن جحدر، وهو متروك، وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، وفي إسناده مقال، وفيه عن سلمان موقوفا، أخرجه الدارقطني والحاكم. قوله: ويروى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر» ، هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا يوجد ذكر حمل المصحف في شيء من الروايات، وأما المس ففيه الأحاديث الماضية. حديث: «أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابا إلى هرقل، وكان فيه: (¬2) » الآية متفق عليه من حديث ابن عباس عن أبي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (7) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) . (¬2) سورة آل عمران الآية 64 (¬1) {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}

سفيان صخر بن حرب في حديث طويل (¬1) . ج- وجاء في [بلوغ المرام] : وعن عبد الله بن أبي بكر: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » . رواه مالك مرسلا. ووصله النسائي وابن حبان وهو معلول. د- وقال الصنعاني: وإنما قال في [المصنف] : إن هذا الحديث معلول؛ لأنه من رواية سليمان بن داود، وهو متفق على تركه، كما قال ابن حزم ووهم في ذلك، فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني وليس كذلك، بل هو سليمان بن داود الخولاني وهو ثقة، أثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، واليماني هو المتفق على ضعفه، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. وفي الباب من حديث حكيم بن حزام «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬3) » وإن كان في إسناده مقال إلا أنه ذكره الهيثمي في [مجمع الزوائد] من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬4) » قال الهيثمي: رجاله موثقون، وذكر له شاهدين ولكنه يبقى النظر في ¬

_ (¬1) [التلخيص الحبير] (1\ 131، 132) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

المراد من الطاهر فإنه لفظ مشترك يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة، وأما قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬1) فالأوضح أن الضمير للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية، وأن المطهرون هم الملائكة (¬2) . هـ- وجاء في [المنتقى] للمجد: وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬3) » - رواه الأثرم والدارقطني. وهو لمالك في [الموطأ] مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (¬4) » ، وقال الأثرم: واحتج أبو عبد الله -يعني: أحمد - بحديث ابن عمر: «ولا يمس المصحف إلا على طهارة» . ووقال الشوكاني: الحديث أخرجه الحاكم في [المستدرك] ، والبيهقي في [الخلافيات] والطبراني، وفي إسناده سويد بن أبي حاتم، وهو ضعيف. وذكر الطبراني في [الأوسط] : أنه تفرد به وحسن الحازمي إسناده، وقد ضعف النووي وابن كثير في إرشاده وابن حزم حديث حكيم بن حزام، وحديث عمرو بن حزم جميعا. وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني قال الحافظ: وإسناده لا بأس به، لكن فيه سليمان ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآية 79 (¬2) [سبل السلام] (1\70) . (¬3) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬4) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

الأشدق وهو مختلف فيه، رواه عن سالم عن أبيه ابن عمر قال الحافظ: ذكر الأثرم أن أحمد احتج به. وفي الباب أيضا عن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني وابن أبي داود في المصاحف وفي إسناده انقطاع، وفي رواية الطبراني من لا يعرف، وعن ثوبان أورد علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده، وفي إسناده خصيب بن جحدر وهو متروك، وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس ولا يمسه إلا المطهرون، قال الحافظ: وفي إسناده مقال، وفيه عن سلمان موقوفا أخرجه الدارقطني والحاكم، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة. والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة: ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: «المؤمن لا ينجس (¬2) » ، وعلى الثاني: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬3) وعلى الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين: «دعهما فإني أدخلتهما ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. (¬3) سورة المائدة الآية 6

طاهرتين (¬1) » ، وعلى الرابع: الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا، وقد ورد إطلاق ذلك في كثير فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه حمله عليها هنا. والمسألة مدونة في الأصول وفيها مذاهب: والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يبين، وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف، وخالف في ذلك داود. (استدل المانعون للجنب) بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬2) وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن، والظاهر رجوعه إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه الأقرب، والمطهرون: الملائكة، ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية، ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين لكانت دلالته على المطلوب -وهو منع الجنب من مسه- غير مسلمة؛ لأن المطهر من ليس بنجس والمؤمن ليس بنجس دائما؛ لحديث «المؤمن لا ينجس (¬3) » وهو متفق عليه، فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل يتعين حمله على من ليس بمشرك، كما هو في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬4) لهذا الحديث، وحديث النهي عن السفر ¬

_ (¬1) رواه البخاري في باب إذا أدخل رجليه، وهما طاهرتان في المسح على الخفين، ورواه مسلم في المسح على الرأس والخفين، ورواه غيرهما. (¬2) سورة الواقعة الآية 79 (¬3) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) . (¬4) سورة التوبة الآية 28

بالقرآن إلى أرض العدو، ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر، فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه فلا يعين حتى يبين: وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره؛ لحديث «المؤمن لا ينجس (¬1) » ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح؛ لوجود المانع وهو حديث «المؤمن لا ينجس (¬2) » . واستدلوا أيضا بحديث الباب. وأجيب: بأنه غير صالح للاحتجاج؛ لأنه من صحيفة غير مسموعة وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر وقد عرفته. قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة، صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه، فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما فلا يتناوله الحديث سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا أو على بدنه نجاسة- (فإن قلت) : إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقل عظيم الروم: «أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) . (¬2) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .

وإلى قوله: (¬3) » مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم. (قلت) : أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار كدعائه إلى الإسلام. ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ككتب التفسير فلا تخصص به الآية والحديث: إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك، وقد عرفت الخلاف في الجنب. وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية، وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز، واستدلوا بما سلف وقد سلف ما فيه. (¬4) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن (4553) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2717) ، سنن أبو داود الأدب (5136) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) . (¬2) سورة آل عمران الآية 64 (¬1) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} (¬3) سورة آل عمران الآية 64 (¬2) {مُسْلِمُونَ} (¬4) [نيل الأوطار] (1\ 259-261)

النقول من الفقهاء

3 - النقول من الفقهاء أ- قال النووي: يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء إن حمله بعلاقته أو في كمه أو على رأسه. وحكى القاضي حسين والمتولي وجها أنه يجوز حمله بعلاقته، وهو شاذ في المذهب وضعيف. قال أصحابنا: وسواء من نفس الأسطر، أو ما بينهما أو الحواشي أو

الجلد فكل ذلك حرام. وفي مس الجلد وجه ضعيف أنه يجوز. وحكى الدارمي وجها شاذا بعيدا أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي ولا ما بين الأسطر، ولا يحرم إلا نفس المكتوب. والصحيح الذي قطع به الجمهور: تحريم الجميع. وفي مس العلاقة والخريطة والصندوق إذا كان المصحف فيها وجهان مشهوران: أصحهما: يحرم، وبه قطع المتولي والبغوي؛ لأنه متخذ للمصحف منسوب إليه كالجلد. والثاني: يجوز واختاره الروياني في مس الصندوق. وأما حمل الصندوق وفيه المصحف فاتفقوا على تحريمه. قال أبو محمد الجويني في [الفروق] : وكذا يحرم تحريكه من مكان إلى مكان، وأما إذا تصفح أوراقه بعود ففيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين: أصحهما: - وبه قطع المصنف وسائر العراقيين- يجوز؛ لأنه غير مباشر له ولا حامل. والثاني: لا يجوز، ورجحه الخراسانيون؛ لأنه حمل الورقة، وهي بعض المصحف ولو لف كمه على يده وقلب الأوراق بها فهو حرام. هكذا صرح به الجمهور منهم الماوردي المحاملي في [المجموع] وإمام الحرمين والغزالي والروياني وغيرهم، وفرقوا بينه وبين العود بأن الكم متصل به، وله حكم أجزائه في منع السجود عليه وغيره بخلاف العود. قال إمام الحرمين: ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم، قال: ومن ذكر

فيه خلافا فهو غالط، وشذ الدارمي عن الأصحاب فقال: إن مسه بخرقة أو بكمه فوجهان، وإن مسه بعود جاز. وأما إذا حمل المصحف في متاع فوجهان، حكاهما الماوردي والخراسانيون: أصحهما: - وبه قطع المصنف والجمهور، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي - يجوز؛ لأنه غير مقصود. والثاني: يحرم؛ لأنه حامله حقيقة ولا أثر لكون غيره معه، كما لو حمل المصلي متاعا فيه نجاسة فإن صلاته تبطل. قال الماوردي: وصورة المسألة أن يكون المتاع مقصودا بالحمل، فإن كان بخلافه لم يجز، وإنما قاس المصنف على ما إذا كتب كتابا إلى دار الشرك فيه آيات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى دار الشرك كتابا فيه شيء من القرآن مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المسافرة بالقرآن إلى دار الكفر، فدل على أن الآيات في ضمن كتاب لا يكون لها حكم المصحف، والله سبحانه أعلم (¬1) . وقال النووي أيضا: الثانية: كتاب تفسير القرآن إن كان القرآن فيها أكثر، كبعض كتب غريب القرآن حرم مسه وحمله وجها واحدا، كذا ذكره الماوردي وغيره، ونقله الروياني عن الأصحاب، وإن كان التفسير أكثر كما هو الغالب ففيه أوجه: أصحها: لا يحرم؛ لأنه ليس بمصحف، وبهذا قطع الدارمي وغيره. والثاني: يحرم؛ لتضمينه قرآنا كثيرا. والثالث: إن كان القرآن متميزا عن التفسير بخط غليظ حمرة أو ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (2\ 73) .

صفرة ونحو ذلك حرم وإلا فلا. وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وضعفه غيرهم، قال المتولي: وإذا لم يحرم كره، وأما كتب القراءات فجعلها الشيخ نصر المقدسي ككتب الفقه، وقطع هو بجوازها. وأما كتب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلق الماوردي والقاضي حسين والبغوي وغيرهم جواز مسها وحملها مع الحديث، وقال المتولي والروياني: يكره. والمختار: ما قاله آخرون: إنه إن لم يكن فيها شيء من القرآن جاز، والأولى أن لا يفعل إلا بطهارة، وإن كان فيها قرآن فعلى وجهين في كتب الفقه (¬1) . وقال أيضا: الخامسة: إذا كتب القرآن في لوح فله حكم المصحف فيحرم مسه. وحمله على البالغ المحدث هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الأكثرون، وفيه وجه مشهور أنه لا يحرم؛ لأنه لا يراد الدوام بخلاف المصحف، فعلى هذا يكره، قاله في التتمة، ولا فرق بين أن يكون المكتوب قليلا أو كثيرا فيحرم على الصحيح. قال إمام الحرمين: لو كان على اللوح آية أو بعض آية كتب للدراسة حرم مسه وحمله (¬2) . وقال أيضا: الثامنة: لو خاف المحدث على المصحف من حرق أو غرق ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (2\ 76) . (¬2) [المجموع شرح المهذب] (2\ 77) .

أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه بيد كافر جاز أخذه مع الحدث. صرح به الدارمي وغيره، بل يجب ذلك؛ صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث. قال القاضي أبو الطيب: ولا يلزمه التيمم له؛ لأنه لا يرفع الحدث وفيما قاله نظر. وينبغي أن يجب التيمم؛ لأنه وإن لم يرفع الحدث فيبيح الصلاة ومس المصحف وحمله (¬1) . وقال أيضا: (فرع) في مذاهب العلماء في مس المصحف وحمله، ومذهبنا تحريمهما، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء. وعن الحكم وحماد وداود: يجوز مسه وحمله، وروي عن الحكم وحماد جواز مسه بظهر الكف دون بطنه. واحتجوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقل كتابا فيه قرآن، وهرقل محدث، يمسه وأصحابه، ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع. واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (¬2) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (¬3) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬4) {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬5) فوصفه بالتنزيل، وهذا ظاهر في المصحف الذي عندنا، فإن قالوا: المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة المطهرون، ولهذا قال: يمسه ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (2\ 77) . (¬2) سورة الواقعة الآية 77 (¬3) سورة الواقعة الآية 78 (¬4) سورة الواقعة الآية 79 (¬5) سورة الواقعة الآية 80

بضم السين على الخبر، ولو كان المصحف لقال: يمسه بفتح السين على النهي. فالجواب: أن قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ} (¬1) ظاهر في إرادة المصحف فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح، وأما رفع السين فهو نهي بلفظ الخبر، كقوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (¬2) على قراءة من رفع، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يبيع بعضكم على بيع أخيه (¬3) » بإثبات الياء، ونظائره كثيرة مشهورة وهو معروف في العربية، فإن قالوا: لو أريد ما قلتم لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، فالجواب: أنه يقال في المتوضئ: مطهر ومتطهر، واستدل أصحابنا بالحديث المذكور وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر - رضي الله عنهم - ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة. والجواب عن قصة هرقل: أن ذلك الكتاب فيه آية ولا يسمى مصحفا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود، وبالله التوفيق (¬4) . ب- وجاء في [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] : وسئل عن رجل يقرأ القرآن وليس له على الوضوء قدرة في كل وقت: فهل له أن يكتب في اللوح ويقرأه إن كان على وضوء وغير وضوء. أم لا؟ وقد ذكر ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآية 80 (¬2) سورة البقرة الآية 233 (¬3) رواه البخاري في (كتاب البيوع) باب (لا يبيع على بيع أخيه) رقم الحديث في [فتح الباري] ، (2139) . (¬4) [المجموع شرح الهذب] (2\ 79) .

بعض المالكية أن معنى قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬1) تطهير القلب، وأن المسلم لا ينجس، وقال بعض الشافعية: لا يجوز له أن يمس اللوح، أو المصحف على غير وضوء أبدا، فهل بين الأئمة خلاف في هذا أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، إذا قرأ في المصحف، أو اللوح، ولم يمسه جاز ذلك، وإن كان على غير طهور، ويجوز له أن يكتب في اللوح وهو على غير وضوء والله أعلم. وسئل: هل يجوز مس المصحف بغير وضوء، أم لا؟ فأجاب: مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس المصحف إلا طاهر. كما قال في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » . قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له، وهو أيضا قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر، وغيرهما. ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف. وسئل: عن الإنسان إذا كان على غير طهر، وحمل المصحف بأكمامه، ليقرأ به، ويرفعه من مكان إلى مكان، هل يكره ذلك؟ فأجاب: وأما إذا حمل الإنسان المصحف بكمه فلا بأس، ولكن لا يمسه بيديه. وسئل: عمن معه مصحف، وهو على غير طهارة، كيف يحمله؟ فأجاب: ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشه، وفي خرجه وحمله، سواء كان ذلك القماش لرجل، أو امرأة، أو صبي، وإن ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآية 79 (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .

كان القماش فوقه أو تحته (¬1) . وقال أيضا: وأما مس المصحف: فالصحيح أنه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة: سعد، وسلمان، وابن عمر. وفي كتاب عمرو بن حزم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمس القرآن إلا طاهر (¬2) » . وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، وقد أقر المشركين على السجود لله، ولم ينكره عليهم، فإن السجود لله خضوع: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (¬3) وأما كلامه فله حرمة عظيمة؛ ولهذا ينهى أن يقرأ القرآن في حالة الركوع والسجود، فإذا نهى أن يقرأ في السجود، لم يجز أن يجعل المصحف مثل السجود، وحرمة المصحف أعظم من حرمة المسجد، والمسجد يجوز أن يدخله المحدث، ويدخله الكافر للحاجة، وقد كان الكفار يدخلونه، واختلف في نسخ ذلك، بخلاف المصحف فلا يلزم إذا جاز الطواف مع الحدث، أن يجوز للمحدث مس المصحف؛ لأن حرمة المصحف أعظم. وعلى هذا فما روي عن عثمان وسعيد من أن الحائض تومئ بالسجود، هو لأن حدث الحائض أغلظ، والركوع هو سجود خفيف. كما قال تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} (¬4) قالوا: ركعا، فرخص لها في ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (21\ 265- 267) . (¬2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) . (¬3) سورة الرعد الآية 15 (¬4) سورة النساء الآية 154

دون كمال السجود (¬1) . ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] (21\ 288) .

ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن

ثالثا: ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن: اختلف أهل العلم في ذلك: وفيما يلي نقول توضح أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها: 1 - النقول عن المحدثين: أ- قال البخاري: باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت. وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية. ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه. وقالت أم عطية: كنا نؤمر أن يخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون. وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان: أن هرقل دعا بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} (¬1) الآية. وقال عطاء: عن جابر حاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير الطواف بالبيت ولا تصلي. وقال الحكم: إني لأذبح وأنا جنب، وقال الله عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2) حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقال: " ما يبكيك؟ " قلت: لوددت -والله- أني لم أحج العام. قال: " لعلك نفست؟ " قلت: نعم. قال: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية 64 (¬2) سورة الأنعام الآية 121

" فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (¬1) » . ب- وقال ابن حجر: (قوله: باب تقضي الحائض) أي: تؤدي (المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) ، قيل: مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار؛ أن الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات، بل صحت معه عبادات بدنية من أذكار وغيرها، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافيها، إلا الطواف فقط. وفي كون هذا مراده نظر؛ لأن كون مناسك الحج كذلك حاصل بالنص فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه والأحسن ما قاله ابن رشيد تبعا لابن بطال وغيره أن مراده: الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة - رضي الله عنها -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من جيمع مناسك الحج إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه ومنع القراءة إن كان لكونه ذكر الله فلا فرق بينه وبين ما ذكر وإن كان تعبدا فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره لكن أكثرها قابل للتأويل، كما سنشير إليه، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز غيره كالطبري، وابن المنذر وداود؛ بعموم حديث: كان يذكر الله على كل أحيانه؛ لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف، والحديث المذكور وصله مسلم من حديث ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحيض (305) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) .

عائشة، وأورد المصنف أثر إبراهيم -وهو النخعي - إشعارا بأن منع الحائض من القراءة ليس مجمعا عليه، وقد وصله الدارمي وغيره بلفظ أربعة لا يقرءون القرآن: الجنب، والحائض، وعند الخلاء، وفي الحمام، إلا الآية ونحوها للجنب والحائض، وروي عن مالك نحو قول إبراهيم، وروي عنه الجواز مطلقا، وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب، وقد قيل: إنه قول الشافعي في القديم ثم أورد أثر ابن عباس، وقد وصله ابن المنذر بلفظ: (أن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب) ، وأما حديث أم عطية فوصله المؤلف في العيدين، وقوله فيه: (ويدعون) كذا لأكثر الرواة، وللكشميهني: (يدعين) بياء تحتانية بدل الواو، ووجه الدلالة منه: ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها. ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل وهو موصول عنده في بدء الوحي وغيره، ووجه الدلالة منه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى الروم وهم كفار، والكافر جنب كأنه يقول: إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملا على آيتين فكذلك يجوز له قراءته، كذا قاله ابن رشيد وتوجيه الدلالة منه إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط، وقد أجيب عمن منع ذلك، وهم: الجمهور: بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه أو في التفسير، فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور؛ لأنه لا يقصد منه التلاوة. ونص أحمد: أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل؛ كالآية والآيتين.

قال الثوري: لا بأس أن يعلم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه، وأكره أن يعلمه الآية هو كالجنب، وعن أحمد: أكره أن يضع القرآن في غير موضعه، وعنه: إن رجي منه الهداية جاز وإلا فلا، وقال بعض من منع: لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن؛ لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها وعرف أن الذي يقرأه قرآن، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أن من القرآن فإنه لا يمنع، وكذلك الكافر، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. تنبيه: ذكر صاحب [المشارق] أنه وقع في رواية القابسي والنسفي وعبدوس هنا (ويا أهل الكتاب) بزيادة واو، قال: وسقطت لأبي ذر والأصيلي، وهو الصواب (قلت) : فافهم أن الأولى خطأ، لكونها مخالفة للتلاوة وليست خطأ وقد تقدم توجيه إثبات الواو في بدء الوحي، (قوله: وقال عطاء: عن جابر) هو طرف من حديث موصول عند المصنف في كتاب [الأحكام] وفي آخره: غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تصلي، وأما أثر الحكم وهو الفقيه الكوفي فوصله البغوي في الجعديات من روايته عن علي بن الجعد عن شعبة عنه. ووجه الدلالة منه: أن الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره، ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه، واستدل الجمهور على المنع بحديث علي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق: أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة، لكن قيل في الاستدلال به نظر؛ لأنه فعل مجرد

فلا يدل على تحريم ما عداه، وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعا بين الأدلة. وأما حديث ابن عمر مرفوعا: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (¬1) » فضعيف من جميع طرقه (¬2) . ج- قال الزيلعي: الحديث الرابع: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن (¬3) » قلت: روي من حديث ابن عمر، ومن حديث جابر. أما حديث ابن عمر، فأخرجه الترمذي وابن ماجه عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (¬4) » انتهى. قال الترمذي: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه، انتهى، ورواه البيهقي في [سننه] (¬5) ، وقال: قال البخاري فيما بلغني عنه: إنما روى هذا إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة، ولا أعرفه من حديث غيره، وإسماعيل منكر الحديث عن أهل الحجاز وأهل العراق، ثم قال: وقد روي عن غيره عن موسى بن عقبة، وليس بصحيح، انتهى. وقال في [المعرفة] : هذا حديث ينفرد به إسماعيل بن عياش، وروايته عن أهل الحجاز ضعيفة لا يحتج بها، قاله أحمد بن حنبل، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) . (¬2) [فتح الباري] (1\ 323، 324) . (¬3) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) . (¬4) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) . (¬5) [السنن الكبرى] (1\ 461) .

ويحيى بن معين، وغيرهما من الحفاظ. وقد روي هذا من غيره، وهو ضعيف، انتهى. وقال ابن أبي حاتم في [علله] (¬1) : سمعت أبي، وذكر حديث إسماعيل بن عياش هذا فقال: خطأ، إنما هو قول ابن عمر، انتهى. وقال ابن عدي في [الكامل] : هذا الحديث بهذا السند لا يرويه غير إسماعيل بن عياش، وضعفه أحمد والبخاري وغيرهما، وصوب أبو حاتم وقفه على ابن عمر، انتهى. وله طريقان آخران عند الدارقطني: (¬2) . أحدهما: عن المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة به. والثاني: عن محمد بن إسماعيل الحساني عن رجل عن أبي معشر عن موسى بن عقبة به. وهذا مع أن فيه رجلا مجهولا، فأبو معشر رجل مستضعف إلا أنه يتابع عليه. وأما حديث جابر: فرواه الدارقطني في [سننه] في (آخر الصلاة) من حديث محمد بن الفضل عن أبيه عن طاوس عن جابر مرفوعا نحوه، ورواه ابن عدي في [الكامل] ، وأعله بمحمد بن الفضل، وأغلظ في تضعيفه عن البخاري، والنسائي، وأحمد، وابن معين، ووافقهم حديث يمكن أن يستدل به الطحاوي في إباحة ما دون الآية للجنب، ورواه أحمد في [مسنده] (¬3) : حدثنا عائذ بن حبيب، حدثني عامر بن ¬

_ (¬1) [العلل] (1\49) (¬2) [سنن الدارقطني] (1\ 43) . (¬3) [المسند] (1\ 110) .

السمط عن أبي العزيف الهمداني قال: أتي علي بوضوء فمضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وغسل يديه (¬1) ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ثم مسج برأسه، ثم غسل رجليه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال: هذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا، ولا آية انتهى. ولكن الدارقطني رواه في [سننه] (¬2) موقوفا بغير هذا اللفظ، فأخرجه عن عامر بن السمط ثنا أبو العزيف الهمداني، قال: كنا مع علي - رضي الله عنه - في الرحبة، فخرج إلى أقصى الرحبة، فوالله ما أدري أبولا أحدث أم غائطا، ثم جاء فدعا بكوز من ماء فغسل كفيه، ثم قبضهما إليه، ثم قرأ صدرا من القرآن، ثم قال: اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابه فلا، ولا حرفا واحدا. انتهى. قال الدارقطني: هو صحيح عن علي. انتهى. حديث آخر. في منع القراءة للجنب، رواه أصحاب السنن الأربعة من حديث عمر بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجبه -أو لا يحجزه- عن القرآن شيء ليس الجنابة، انتهى. ¬

_ (¬1) في [المسند] غسل يديه وذراعيه ثلاثا ثلاثا. (¬2) [سنن الدارقطني] : (1\ 118) ، والبيهقي (1\ 146) .

قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في [صحيحه] ، والحاكم في [المستدرك] ، وصححه، قال: ولم يحتجا بعبد الله بن سلمة، ومدار الحديث عليه، انتهى. قال النووي في [الخلاصة] : قال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه، قال البيهقي: لأن مداره على عبد الله بن سلمة (بكسر اللام) وكان قد كبر، وأنكر حديثه وعقله، وإنما روى هذا بعد كبره، قاله شعبة. انتهى كلامه (¬1) . د- وقال ابن حجر: حديث: روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقرأ الجنب، ولا الحائض، شيئا من القرآن (¬2) » ، الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر، وفي إسناده إسماعيل بن عياش وروايته عن الحجازيين ضعيفة وهذا منها، وذكر البزار: أنه تفرد به عن موسى بن عقبة، وسبقه إلى نحو ذلك البخاري، وتبعهما البيهقي، لكن رواه الدارقطني، من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى، ومن وجه آخر، فيه مبهم، عن أبي معشر، وهو ضعيف، عن موسى، وصحح ابن سيد الناس، طريق المغيرة وأخطأ في ذلك، فإن فيها عبد الملك بن مسلمة، وهو ضعيف، فلو سلم منه لصح إسناده، وإن كان ابن الجوزي ضعفه بمغيرة بن عبد الرحمن، فلم يصب في ذلك، فإن مغيرة ثقة، وأن ابن سيد الناس تبع ابن عساكر في قوله في الأطراف: أن عبد الملك بن مسلمة هذا هو القعنبي، وليس كذلك، بل هو آخر. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: حديث إسماعيل بن عياش هذا خطأ، ¬

_ (¬1) [نصب الراية] (1\ 256- 258) . (¬2) سنن الدارمي الطهارة (998) .

وإنما هو ابن عمر، قوله: وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: هذا باطل، أنكر على إسماعيل، وله شاهد من حديث جابر، رواه الدارقطني مرفوعا. وفيه محمد بن الفضل، وهو متروك، وموقوفا، وفيه يحيى بن أبي أنيسة، وهو كذاب، وقال البيهقي: هذا الأثر ليس بالقوي، وصح عن عمر، أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب، وساقه عنه في الخلافيات: بإسناد صحيح (¬1) . وقال أيضا: حديث علي بن أبي طالب: لم يكن يحجب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن شيء سوى الجنابة. وفي رواية: يحجزه، أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطني والبيهقي، من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي. وفي رواية للنسائي، عن الأعمش عن عمرو بن مرة نحوه، وألفاظهم مختلفة، وصححه الترمذي وابن السكن وعبد الحق والبغوي في [شرح السنة] ، وروى ابن خزيمة بإسناده عن شعبة قال: هذا الحديث ثلث رأس مالي، وقال الدارقطني: قال شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه، وقال البزار: لا يروى من حديث علي إلا عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عنه، وحكى الدارقطني في [العلل] أن بعضهم رواه عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي، وخطأ هذه الرواية، وقال الشافعي في سنن حرملة: إن كان هذا الحديث ثابتا، ففيه دلالة على تحريم القرآن على الجنب، وقال في جماع كتاب الطهور: أهل الحديث لا يثبتونه، ¬

_ (¬1) [التلخيص الحبير] (1\ 138) .

قال البيهقي: إنما قال ذلك؛ لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر، قاله شعبة. وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث. وقال النووي في [الخلاصة] : خالف الترمذي الأكثرون، فضعفوا هذا الحديث، وتخصيصه الترمذي بذلك دليل على أنه لم ير تصحيحه لغيره، وقد قدمنا ذكر من صححه غير الترمذي، وروى الدارقطني عن علي موقوفا: «اقرءوا القرآن ما لم تصب أحدكم جنابة، فإن أصابته فلا ولا حرفا» ، وهذا يعضد حديث عبد الله بن سلمة لكن قال ابن خزيمة: لا حجة في هذا الحديث لمن منع الجنب من القراءة؛ لأنه ليس فيه نهي، وإنما هي حكاية فعل، ولا يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما امتنع من ذلك لأجل الجنابة، وذكر البخاري عن ابن عباس، أنه لم ير بالقرآن للجنب بأسا، وذكر في الترجمة قالت عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه (¬1) . ¬

_ (¬1) [التلخيص الحبير] (1\ 139) .

النقول عن الفقهاء

2 - النقول عن الفقهاء: أ- قال النووي: (فرع) في مذاهب العلماء في قراءة الجنب والحائض، مذهبنا أنه يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن قليلها وكثيرها حتى بعض آية، وبهذا قال أكثر العلماء، كذا حكاه الخطابي وغيره عن

الأكثرين، وحكاه أصحابنا عن عمر بن الخطاب وعلي وجابر - رضي الله عنهم - والحسن والزهري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق. وقال داود: يجوز للجنب والحائض قراءة كل القرآن، وروى هذا عن ابن عباس وابن المسيب، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: واختاره ابن المنذر، وقال مالك: يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ، وفي الحائض روايتان عنه: إحداهما: تقرأ. والثانية: لا تقرأ. وقال أبو حنيفة: يقرأ الجنب بعض آية ولا يقرأ آية، وله رواية كمذهبنا. واحتج من جوزه مطلقا بحديث عائشة - رضي الله عنها -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله تعالى على كل أحيانه (¬1) » رواه مسلم، قالوا: والقرآن ذكر ولأن الأصل عدم التحريم. واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر المذكور في الكتاب، لكنه ضعيف كما سبق، وعن عبد الله بن سلمة -بكسر اللام- عن علي - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيقرأ القرآن ولم يكن يحجبه، وربما قال: يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة (¬2) » رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال غيره من الحفاظ المحققين: هو حديث ضعيف، ورواه الشافعي في (سنن حرملة) ثم قال: إن كان ثابتا ففيه دلالة على تحريم القراءة على الجنب. قال البيهقي: ورواه الشافعي في كتاب جماع الطهور، وقال: وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه، قال البيهقي: وإنما توقف الشافعي في ثبوته؛ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحيض (373) ، سنن الترمذي الدعوات (3384) ، سنن أبو داود الطهارة (18) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (302) ، مسند أحمد بن حنبل (6/70) . (¬2) سنن الترمذي الطهارة (146) ، سنن النسائي الطهارة (265) ، سنن أبو داود الطهارة (229) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (594) ، مسند أحمد بن حنبل (1/107) .

لأن مداره على عبد الله بن سلمة، وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وإنما روى هذا الحديث بعد ما كبر قاله شعبة، ثم روى البيهقي عن الأئمة تحقيق ما قال، ثم قال البيهقي: وصح عن عمر - رضي الله عنه - أنه كره القراءة للجنب، ثم رواه بإسناده عنه. وروي عن علي: لا يقرأ الجنب القرآن ولا حرفا واحدا، وروى البيهقي عن عبد الله بن مالك الغافقي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا توضأت وأنا جنب أكلت وشربت، ولا أصلي ولا أقرأ حتى أغتسل» وإسناده أيضا ضعيف. واحتج أصحابنا أيضا بقصة عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - المشهورة: أن امرأته رأته يواقع جارية له، فذهبت فأخذت سكينا وجاءت تريد قتله، فأنكر أنه واقع الجارية، وقال: أليس قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجنب أن يقرأ القرآن؟ قالت: بلى، فأنشدها الأبيات المشهورة فتوهمتها قرآنا فكفت عنه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فضحك ولم ينكر عليه. والدلالة فيه من وجهين: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه قوله: حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن. والثاني: أن هذا كان مشهورا عندهم يعرفه رجالهم ونساؤهم، ولكن إسناد هذه القصة ضعيف ومنقطع. وأجاب أصحابنا عن احتجاج داود بحديث عائشة: بأن المراد بالذكر غير القرآن، فإنه المفهوم عند الإطلاق. وأما المذاهب الباقية فقد سلموا تحريم القراءة في الجملة، ثم ادعوا تخصيصا لا مستند له. فإن قالوا: جوزنا للحائض خوف النسيان، قلنا: يحصل المقصود

بتفكرها بقلبها (¬1) . ب- وقال الشيرازي: ويحرم قراءة القرآن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن. ج- وقال النووي: (الشرح) : هذا الحديث رواه الترمذي، والبيهقي من رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - وضعفه الترمذي والبيهقي، وروي لا يقرأ بكسر الهمزة على النهي وبضمها على الخبر الذي يراد به النهي، وقد سبق بيانه في آخر باب ما يوجب الغسل، وهذا الذي ذكره من تحريم قراءة القرآن على الحائض هو الصحيح المشهور، وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين، وحكى الخراسانيون قولا قديما للشافعي: أنه يجوز لها قراءة القرآن. وأصل هذا القول أن أبا ثور رحمه الله قال: قال أبو عبد الله: يجوز للحائض قراءة القرآن. فاختلفوا في أبي عبد الله فقال بعض الأصحاب: أراد به مالكا وليس للشافعي قول بالجواز، واختاره إمام الحرمين والغزالي في [البسيط] ، وقال جمهور الخراسانيين: أراد به الشافعي وجعلوه قولا قديما. قال الشيخ أبو محمد: وجدت أبا ثور جمعهما في موضع، فقال: قال أبو عبد الله ومالك. واحتج من أثبت قولا بالجواز اختلفوا في علته على وجهين: أحدهما: أنها تخاف النسيان؛ لطول الزمان بخلاف الجنب. ¬

_ (¬1) [المجموع] (2\182- 183) .

والثاني: أنها قد تكون معلمة فيؤدي إلى انقطاع حرفتها، فإن قلنا بالأول جاز لها قراءة ما شاءت إذ ليس لما يخاف نسيانه ضابط، فعلى هذا هي كالطاهر في القراءة، وإن قلنا بالثاني لم يحل إلا ما يتعلق بحاجة التعليم في زمان الحيض، هكذا ذكر الوجهين وتفريعهما إمام الحرمين وآخرون. هذا حكم قراءتها باللسان؛ فأما إجراء القراءة على القلب من غير تحريك اللسان والنظر في المصحف وإمرار ما فيه في القلب فجائز بلا خلاف، وأجمع العلماء على جواز التسبيح والتهليل وسائر الأذكار غير القرآن للحائض والنفساء، وقد تقدم إيضاح هذا مع جمل من الفروع المتعلقة به في باب ما يوجب الغسل والله أعلم. (فرع) : في مذاهب العلماء في قراءة الحائض القرآن. قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور تحريمها، وهو مروي عن عمر وعلي وجابر - رضي الله عنهم -، وبه قال الحسن البصري وقتادة وعطاء وأبو العالية والنخعي وسعيد بن جبير والزهري وإسحاق وأبو ثور. وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد روايتان: إحداهما: التحريم، والثانية: الجواز، وبه قال داود. واحتج لمن جوز بما روي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها كانت تقرأ القرآن وهي حائض، ولأن زمنه يطول فيخاف نسيانها، واحتج أصحابنا والجمهور بحديث ابن عمر المذكور، ولكنه ضعيف وبالقياس على الجنب، فإن من خالف فيها وافق على الجنب إلا داود. والمختار عند الأصوليين: أن داود لا يعتد به في الإجماع والخلاف، وفعل عائشة - رضي الله عنها - لا حجة فيه على تقدير صحته؛ لأن غيرها من الصحابة خالفها، وإذا اختلفت الصحابة - رضي الله عنهم - رجعنا إلى القياس، وأما

خوف النسيان فنادر، فإن مدة الحيض غالبا ستة أيام أو سبعة، ولا ينسى غالبا في هذا القدر؛ ولأن خوف النسيان ينتفي بإمرار القرآن على القلب والله أعلم (¬1) . د- وقال الخرقي: (ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء) . هـ- وقال ابن قدامة: رويت الكراهة لذلك عن عمر وعلي والحسن والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} (¬2) ، {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (¬3) وقال ابن عباس: يقرأ ورده. وقال سعيد بن المسيب: يقرأ القرآن أليس هو في جوفه؟ ! وحكي عن مالك: للحائض القراءة دون الجنب؛ لأن أيامها تطول، فإن منعناها من القراءة نسيت. ولنا ما روي عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحجبه أو قال: يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة، رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (¬4) » رواه أبو داود والترمذي، وقال: يرويه إسماعيل بن عياش عن نافع، وقد ضعف البخاري روايته عن أهل الحجاز، وقال: إنما روايته عن أهل الشام، وإذا ثبت هذا في الجنب ففي الحائض أولى؛ لأن حدثها آكد؛ ولذلك حرم الوطء ومنع ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (2\387، 388) . (¬2) سورة الزخرف الآية 13 (¬3) سورة المؤمنون الآية 29 (¬4) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .

الصيام وأسقط الصلاة وساواها في سائر أحكامها. (فصل) : ويحرم عليهم قراءة آية، فأما إن كان بعض آية فإن كان مما لا يتميز به القرآن عن غيره كالتسمية والحمد لله وسائر الذكر، فإن لم يقصد به القرآن فلا بأس به، فإنه لا خلاف في أن لهم ذكر الله تعالى، ويحتاجون إلى التسمية عند اغتسالهم ولا يمكنهم التحرر من هذا. وإن قصدوا به القراءة أو كان ما قرأوه شيئا يتميز به القرآن عن غيره من الكلام ففيه روايتان: (إحداهما) : لا يجوز، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن الجنب يقرأ القرآن، فقال: لا، ولا حرفا، وهذا مذهب الشافعي؛ لعموم الخبر في النهي، ولأنه قرآن فمنع من قراءته كالآية. (والثانية) : لا يمنع منه وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يحصل به الإعجاز ولا يجزئ في الخطبة ويجوز إذا لم يقصد به القرآن وكذلك إذا قصد (¬1) . ووأما قراءة الجنب والحائض للقرآن، فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: يجوز لهذا ولهذا. وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: لا يجوز للجنب، ويجوز للحائض. إما مطلقا، أو إذا خافت النسيان. وهو مذهب مالك. وقول في مذهب أحمد وغيره، فإن قراءة الحائض القرآن لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء غير الحديث المروي عن ¬

_ (¬1) [مختصر الخرقي] ومعه [المغني] (1\135- 136) .

إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا (¬1) » رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث. وإسماعيل بن عياش ما يرويه عن الحجازيين أحاديث ضعيفة، بخلاف روايته عن الشاميين، ولم يرو هذا عن نافع أحد من الثقات، ومعلوم أن النساء كن يحضن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ينههن عن قراءة القرآن. كما لم يكن ينههن عن الذكر والدعاء، بل أمر الحيض أن يخرجن يوم العيد، فيكبرن بتكبير المسلمين. وأمر الحائض أن تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: تلبي وهي حائض، وكذلك بمزدلفة ومنى، وغير ذلك من المشاعر. وأما الجنب فلم يأمره أن يشهد العيد، ولا يصلي ولا أن يقضي شيئا من المناسك؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر فلا عذر له في ترك الطهارة، بخلاف الحائض فإن حدثها قائم لا يمكنها مع ذلك التطهر. ولهذا ذكر العلماء: ليس للجنب أن يقف بعرفة ومزدلفة ومنى حتى يطهر، وان كانت الطهارة ليست شرطا في ذلك. لكن المقصود: أن الشارع أمر الحائض أمر إيجاب أو استحباب بذكر الله ودعائه مع كراهة ذلك للجنب. فعلم أن الحائض يرخص لها فيما لا يرخص للجنب فيه، لأجل العذر. وإن كانت عدتها أغلظ، فكذلك قراءة القرآن لم ينهها الشارع عن ذلك. وإن قيل: إنه نهى الجنب؛ لأن الجنب يمكنه أن يتطهر، ويقرأ ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطهارة (131) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (596) .

بخلاف الحائض، تبقى حائضا أياما فيفوتها قراءة القرآن، تفويت عبادة تحتاج إليها مع عجزها عن الطهارة، وليست القراءة كالصلاة، فإن الصلاة يشترط لها الطهارة مع الحدث الأكبر والأصغر، والقراءة تجوز مع الحدث الأصغر بالنص، واتفاق الأئمة. والصلاة يجب فيها استقبال القبلة واللباس واجتناب النجاسة، والقراءة لا يجب فيها شيء من ذلك، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع رأسه في حجر عائشة - رضي الله عنها - وهي حائض، وهو حديث صحيح، وفي [صحيح مسلم] ، أيضا: يقول الله عز وجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما، ويقظانا (¬1) » ، فتجوز القراءة قائما، وقاعدا وماشيا ومضطجعا وراكبا (¬2) . ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (4/162) . (¬2) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (21\459- 462) .

حكم تعليم الكافر القرآن

رابعا: حكم تعليم الكافر القرآن: اختلف أهل العلم في ذلك: وفيما يلي نقول عنهم يتبين منها أقوالهم وأدلتهم ومنا قشتها. 1 - النقول من المفسرين: أ- قال الجصاص: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) وقد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام؛ لأن قوله تعالى: {اسْتَجَارَكَ} (¬2) معناه: استأمنك، وقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ} (¬3) معناه: فأمنه ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 6 (¬2) سورة التوبة الآية 6 (¬3) سورة التوبة الآية 6

حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يدل على أن الكافر إذا طلب منا إقامة الحجة عليه وبيان دلائل التوحيد والرسالة حتى يعتقدهما لحجة ودلالة كان علينا إقامة الحجة وبيان توحيد الله وصحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه غير جائز لنا قتله إذا طلب ذلك منا إلا بعد بيان الدلالة وإقامة الحجة؛ لأن الله قد أمرنا بإعطائه الأمان حتى يسمع كلام الله، وفيه الدلالة أيضا على أن علينا تعليم كل من التمس منا تعريفه شيئا من أمور الدين؛ لأن الكافر الذي استجارنا، ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين (¬1) . ب- قال القرطبي: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2) أي: من الذين أمرتك بقتالهم {اسْتَجَارَكَ} (¬3) أي: سأل جوارك، أي: أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي: يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه. فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأمنه. وهذا ما لا خلاف فيه، والله أعلم. قال مالك: إذا وجد الحربي في طريق بلاد المسلمين فقال: جئت أطلب الأمان، قال مالك: هذه أمور مشتبهة، وأرى أن يرد إلى مأمنه، وقال ابن القاسم: وكذلك الذي يوجد وقد نزل تاجرا بساحلنا فيقول: ظننت ألا تعرضوا لمن جاء تاجرا حتى يبيع. وظاهر الآية: إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين والنظر فيما تعود عليهم به منفعته (¬4) . ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] (3\103) . (¬2) سورة التوبة الآية 6 (¬3) سورة التوبة الآية 6 (¬4) [تفسير القرطبي] (8\75، 76) .

ج- قال ابن كثير: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬2) الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم {اسْتَجَارَكَ} (¬3) أي: استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي: القرآن تقرؤه عليه، وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (¬4) أي: وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وفى وداره ومأمنه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (¬5) أي: إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء، ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إنسان يأتيك، ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء، ومن هذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 6 (¬2) سورة التوبة الآية 6 (¬3) سورة التوبة الآية 6 (¬4) سورة التوبة الآية 6 (¬5) سورة التوبة الآية 6

من أكبر أسباب هداية أكثرهم، ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: " أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ " قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك (¬1) » ، وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال له: ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له: إنك الآن لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه، لا رحمه الله ولعنه. والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه، لكن قال العلم: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله (¬2) . ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الجهاد (2761) ، مسند أحمد بن حنبل (3/488) . (¬2) [تفسير ابن كثير] (2\338) .

النقل من البخاري وابن حجر

2 - النقل من البخاري وابن حجر: أ- قال البخاري: (باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب؟ أو يعلمهم الكتاب) حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أخبره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر وقال:

«فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (¬1) » . ب- قال ابن حجر: (قوله: باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب) . المراد بالكتاب الأول: التوراة والإنجيل، وبالكتاب الثاني: ما هو أعم منهما ومن القرآن وغير ذلك. وأورد فيه طرفا من حديث ابن عباس في شأن هرقل، وقد ذكره بعد بابين من وجه آخر عن ابن شهاب بطوله، وإسحاق شيخه فيه هو ابن منصور، وهذه الطريق أهملها المزي في الأطراف وإرشادهم منه ظاهر، وأما تعليمهم الكتاب فكأنه استنبطه من كونه كتب إليهم بعض القرآن بالعربية وكأنه سلطهم على تعليمه إذ لا يقرءونه حتى يترجم لهم ولا يترجم لهم حتى يعرف المترجم كيفية استخراجه، وهذه المسألة مما اختلف فيه السلف، فمنع مالك من تعليم الكافر القرآن، ورخص أبو حنيفة، واختلف قول الشافعي. والذي يظهر أن الراجح التفصيل بين من يرجى منه الرغبة في الدين والدخول فيه مع الأمن منه أن يتسلط بذلك إلى الطعن فيه، وبين من يتحقق أن ذلك لا ينجع فيه أو يظن أنه يتوصل بذلك إلى الطعن في الدين والله أعلم. ويفرق أيضا بين القليل منه والكثير كما تقدم في أوائل كتاب الحيض (¬2) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (7) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) . (¬2) [فتح الباري] ومعه [الصحيح] (6 \81) .

النقول من الفقهاء

3- النقول من الفقهاء: 1 - قال العيني: قال أبو حنيفة: لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن

والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا في الإسلام، واحتج الطحاوي لأبي حنيفة بكتاب هرقل وبقوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) وروى أسامة بن زيد: «مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي قبل أن يسلم، وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود فقرأ عليهم القرآن (¬2) » . 2 - وقال الأبي نقلا عن القاضي عياض: ومنع مالك تعليمهم شيئا من القرآن (¬3) . 3 - وقال الباجي: ولا يجوز أن يعلم أحد من ذراريهم القرآن؛ لأن ذلك سبب لتمكنهم منه، ولا بأس أن يقرأ عليهم احتجاجا عليهم، ولا بأس أن يكتب لهم بالآية ونحوها على سبيل الوعظ، كما كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الروم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬4) انتهى. (¬5) . واستدل به -أي: بحديث النهي عن السفر بالقرآن- على منع تعليم الكافر القرآن، وبه قال مالك مطلقا (¬6) 4 - وفصل بعض المالكية بين القليل؛ لأجل مصلحة قيام الحجة: ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 6 (¬2) [العيني على البخاري] (4\207) ، و [الأبي على مسلم] (5\216) . (¬3) [الأبي على مسلم] (5\216) . (¬4) سورة آل عمران الآية 64 (¬5) [المنتقى للباجي على الموطأ] (3\165) (¬6) [الزرقاني على الموطأ] (1\10) .

فأجازه، وبين الكثير فمنعه، ويؤيده كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل بعض آيات (¬1) . 5 - وقال الأبي: وحجة المانع: أنه نجس في الحال وعدو لله وكتابه فقد يعرضه للمهانة، انتهى (¬2) . 6 - قال النووي: الثانية عشرة: قال أصحابنا: لا يمنع سماع القرآن ويمنع مس المصحف، وهل يجوز تعليمه القرآن؟ ينظر إن لم يرج إسلامه لم يجز وان رجي جاز في أصح الوجهين، وبه قطع القاضي حسين، ورجحه البغوي وغيره. والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز بيعه المصحف، وإن رجي إسلامه. قال البغوي: وحيث رآه معاندا لا يجوز تعليمه بحال، وهل يمنع التعليم؟ فيه وجهان حكاهما المتولي والروياني. هما أصحهما: يمنع (¬3) . 7 - ومحل منع قراءة الجنب إذا كان مسلما، أما الكافر فلا يمنع منها؛ لعدم اعتقاده حرمتها، ولا يجوز تعليمه للكافر المعاند، ويمنع تعلمه في الأصح، وغير المعاند إن لم يرج إسلامه لم يجز تعليمه وإلا جاز، وإنما منع من مس المصحف؛ لأن حرمته آكد بدليل حرمة حمله مع الحدث، وحرمة مسه بنجس بخلافها، إذ تجوز مع الحدث وبفم نجس، وبذلك علم اندفاع ما في الإسعاد هنا أخذا من كلام المهمات من ¬

_ (¬1) [الفتح] (6\134) ، [العيني] (14\207) ، [والزرقاني] : (10\10) . (¬2) [الأبي على مسلم] (5\216) . (¬3) [المجموع] (2\78) .

قياسها عليها كما رد ذلك العلامة الجوجري. انتهى (¬1) . 8 - قوله: (أما الكافر فلا يمنع منها) أي: القراءة، بل يمكن منها، أما قراءته مع الجنابة فتحرم عليه؛ لأنه مخاطب بفروع الشريعة خطاب عقاب. انتهى زيادي. وظاهر كلام الشارح أنه لا يمنع ولو كان معاندا، وعبارته على [البهجة] : نعم شرط تمكين الكافر من القراءة: أن لا يكون معاندا، أو رجي إسلامه كما في [المجموع] ، والقياس أيضا منعه من كتابة القرآن حيث منع من قراءته. قوله: (يمنع تعليمه) والقياس منعه من التلاوة حيث كان معاندا ولم يرج إسلامه. ولا يشترط في المنع كونه من الإمام، بل يجوز من الآحاد؛ لأنه نهي عن منكر وهو لا يختص بالإمام. قوله: (بخلافها) أي: القراءة. قوله: (من قياسها) انظر مرجع الضمير فيه وفيما بعده، ولعله تثنية الضمير في عليهما وعليه فضمير قياسها للقراءة، وضمير عليهما لمس المصحف وحمله. انتهى (¬2) . 9 - وقال القليوبي: ويجوز تعليمه لكافر غير معاند ورجي إسلامه، سواء الذكر أو الأنثى، وهذا مراد من عبر بقراءته؛ لأنها بمعنى إقرائه؛ إذ قراءته لا يمنع منها مطلقا وعبروا في الكافر بعدم المنع من المكث والقراءة، ولم يعبروا بالجواز لبقاء الحرمة عليه؛ لأنه مكلف بفروع ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (1\221) . (¬2) [حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج] (1\221) .

الشريعة، ويمنع من مس المصحف وحمله؛ لأن حرمته أبلغ؛ بدليل جواز قراءة المحدث دون نحو مسه (¬1) . 10 - وقال ابن قدامة: ولا يجوز تمكينه من شراء مصحف ولا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا فقه، فإن فعل فالشراء باطل؛ لأن ذلك يتضمن ابتذاله، وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله تعالى، قال مهنا: سألت أحمد أبا عبد الله هل تكره للرجل المسلم أن يعلم غلاما مجوسيا شيئا من القرآن؟ قال: إن أسلم فنعم، وإلا فأكره أن يضع القرآن في غير موضعه، قلت: فيعلمه أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم. وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة؛ قال: لا، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، اهـ (¬2) . 11 - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وكذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى: أن من الشروط العمرية: (ولا نعلم أولادنا القرآن) . 12 - وقال ابن القيم: صيانة للقرآن أن يحفظه من ليس من أهله ولا يؤمن به، بل هو كافر به، فهذا ليس أهلا أن يحفظه ولا يمكن منه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم؛ فلهذا ينبغي أن يصان عن تلقينهم إياه، فإن طلب أحد منهم أن يسمعه منهم، فإن له أن يسمعه إياه إقامة للحجة عليهم، ولعله أن يسلم. انتهى (¬3) . ¬

_ (¬1) [حاشيتا قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين] (1\ 95) . (¬2) [المغني ومعه الشرح الكبير] (10\ 624، 625) . (¬3) [أحكام أهل الذمة] (2\ 775) .

13 - ويمنع كافر من قراءته ولو رجي إسلامه (قياسا على الجنب وأولى) . انتهى (¬1) . 14 - ويمنع في المنصوص كافر القراءة (هـ) ولو رجي إسلامه (ش) ونقل مهنا أكره أن يضعه في غير موضعه، قال القاضي: جعله في حكم الجنب. انتهى (¬2) . 15 - الكافر كالجنب يمنع من قراءته ولو رجي إسلامه، نقل مهنا أكره أن يضعه في غير موضعه. انتهى (¬3) هذا ما تيسر ذكره من النقول. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) [مطالب أولي النهى] ومعه [الغاية] (1\172) . (¬2) [الفروع] (1\203) . (¬3) [المبدع على المقنع] (1\188) .

حكم الأسورة المغناطيسية

(3) حكم الأسورة المغناطيسية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم حكم الأسورة المغناطيسية إعداد اللجنة الدائمة للبعوث العلمية الإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه، وبعد: فبناء على ما رأى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من إدراج موضوع ما يسمى بـ (الأسورة المغناطيسية) لعلاج الروماتزم ضمن جدول هيئة كبار العلماء في الدورة الثالثة عشرة وإعداد بحث في ذلك - أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع يشتمل على ما يلي: 1 - ذكر قاعدة سد الذرائع. 2 - ذكر الأسباب المادية والأسباب الروحية. 3 - ذكر نصوص وآثار جزئية ونقول عن العلماء في ذلك. وبالله التوفيق. وفيما يلي ذكر ذلك.

قاعدة سد الذرائع

1 - قاعدة سد الذرائع الأصل الكلي في تحريم لبس الحلقة وتعليق التمائم والودع والخرز وربط الخيط وما في معنى ذلك من الحروز التي يستشفي بها الجهلة والمبتدعة سد الذرائع. وقاعدة سد الذراع كلية يقينية ثبتت باستقراء أدلة الكتاب والسنة في جميع أبواب الشريعة عقائد وعبادات ومعاملات وغير ذلك. وقد أطال ابن تيمية الكلام على الاستدلال عليها بأدلة من جميع أبواب الشريعة، فاستدل عليها بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) وبنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، وبالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعن الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله، وبالنهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبالنهي عن بيع وسلف وعن اشتراء الإنسان السلعة ممن باعه إياها لأجل بأقل من ثمنها، وكفه عن قتل المنافقين خشية أن يقال: إن محمدا يقتل أصحابه، وبتحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية، وبتحريم خطبة المعتدة أو العقد عليها في العدة، وبحرمان القاتل من ميراث قتيله، وكقتل الجماعة بالواحد، وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما قد اعتاده فليصمه، وبإقامة الحدود والتعزيرات سدا للتذرع إلى المعاصي. . . إلى غير ذلك من الأدلة المتنوعة. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108

يتبين ذلك من كلمته وكلمة تلميذه ابن القيم فيما يلي، مع زيادة تفصيل في أنواع الذرائع: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (¬1) (الوجه الرابع والعشرون) : إن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم؛ بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء. لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم. ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة؛ ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح، وهو وسيلة إلى فعل المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم فهذا ليس من هذا الباب. فإنا نعلم أنما حرمت الأشياء لكونها في نفسها فسادا بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعلا محظورا سميت ذريعة. وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي لكن الطبع متقاض لإفضائها. وأما إن كانت إنما تفضي أحيانا فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا ¬

_ (¬1) [الفتاوى الكبرى] (3\256) وما بعدها.

الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضا. ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها. ومنها ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا القسم الثاني يجامع الحيل بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع فصارت الأقسام (ثلاثة) : الأول: ما هو ذريعة وهو مما يحتال به، كالجمع بين البيع والسلف وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى. وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ وكقرض بني آدم. الثاني: ما هو ذريعة لا يحتال بها كسب الأوثان فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذان لا يقصدهما مؤمن. الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل، كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة. والغرض من هذا أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع. وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا، فيصير ذريعة فيسد هذا الباب؛ لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا، ويقول القائل: لم أقصد به ذلك، ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى،

ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه. وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر، لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة. أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر: فالأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة إلى سبهم لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم. الثاني: ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬2) » ، متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108 (¬2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .

والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬1) » ، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر، لكونه شتما لوالديه، لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره. الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام. الرابع: أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل وجعلها نجسة؛ لئلا تقضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها. ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها، حسما لمادة ذلك. وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة، فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» يعني صلى الله عليه وسلم: أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا. الخامس: أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية، حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير. السادس: أنه نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .

ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها. ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصد، بل قصد خلافه سدا للذريعة. السابع: أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبيه بهم مشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس أو أخذ بعض أحوال عابديها. الثامن: أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة: مثل قوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (¬1) » ، و «إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (¬2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع (¬3) » ، وقال في موضع: «لا تشبهوا بالأعاجم» ، وقال فيما رواه الترمذي: «ليس منا من تشبه بغيرنا (¬4) » ، حتى قال حذيفة بن اليمان: من تشبه بقوم فهو منهم؛ وما ذلك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض. التاسع: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك، وإنما زعمتا أنهما لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬2) سنن أبو داود الصلاة (652) . (¬3) صحيح مسلم الصيام (1134) ، سنن أبو داود الصوم (2445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) ، سنن الدارمي الصوم (1759) . (¬4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .

تتباغضان بذلك؛ لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة. وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬1) وهذا نص في اعتبار الذريعة. العاشر: أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك. الحادي عشر: أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي حال الإحرام؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين، ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين. الثاني عشر: أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما. ومثل اشتراط الولي فيه. ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة. وكان أصل ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (¬2) و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (¬3) وإنما ذلك؛ ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 3 (¬2) سورة النساء الآية 24 (¬3) سورة النساء الآية 25

لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش. ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها، ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى: {نَسَبًا وَصِهْرًا} (¬1) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه. الثالث عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، وهو حديث صحيح، ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا. ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة، قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار، ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر، يقصد بذلك أن هذا ذريعة إلى الربا، وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول - صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان الآية 54

والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها، فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له؟ ! الرابع عشر: أن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطأ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة. الخامس عشر: أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض إلا أن يحسبها له، أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض. وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية. السادس عشر: أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من الميراث شيء إما القاتل عمدا كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما. أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة. أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا؛ وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر. السابع عشر: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت، حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف، مأخذ الشارع في ذلك أن المورث أوجب تعلق

حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين. الثامن عشر: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء. التاسع عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار. العشرون: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه، ونهى عن صوم يوم الشك إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد. وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم تمييزا لوقت العبادة من غيره، لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها، وعن غيرها فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التمييز، ومن جملة فوائد ذلك سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض. الحادي والعشرون: أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله

سبحانه، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا؛ قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه. الثاني والعشرون: أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (راعنا) مع قصدهم الصالح؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه - صلى الله عليه وسلم -، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا. الثالث والعشرون: أنه أوجب الشفعة لما فيه من رفع الشركة، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان. الرابع والعشرون: أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه بالباطن، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة وإن وثق بتقواه؛ حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء؛ لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير. الخامس والعشرون: أن الله سبحانه منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به.

السادس والعشرون: أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر، وإن كان العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى قيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. السابع والعشرون: أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاة ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال، وزجر عن ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا. الثامن والعشرون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا، لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار، وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع. التاسع والعشرون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت

تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها، لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكفار معاملة المسلم. الثلاثون: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته. قالوا: وسبب ذلك أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها؛ مما يؤذيها لحصول غرضه بعطبها دون المحل كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء. فإذا أيس من حصوله غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إبلاغها المحل وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع. والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذا الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحيتال اليهود ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع، فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا. ثم هذه الأحكام في بعضها حكم آخر غير ما ذكرناه من الذرائع، وإنما قصدنا أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم أو بأن لا يقصد به، يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك

مصلحة توجب حله أو وجوبه، فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما، وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله. والله الهادي إلى سواء الصراط. وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة، فقال رحمه الله. " فصل " (¬1) في سد الذرائع لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها؛ تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه. ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسته ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\ 175-183) .

أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه. وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء. ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه، فنقول: الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان: أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر. وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية. والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك. فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها. الثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب. فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه. فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك. والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم أو يصلي بين يدي القبر لله. ونحو ذلك. ثم هذا القسم من الذراع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.

والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته. فهاهنا أربعة أقسام: الأولى: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها. فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم. ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم. وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها. وأمثال ذلك. ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (¬1) : يطبها. ويعاملها. وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاء بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة. بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ فنقول: الدلالة على المنع من وجوه: ¬

_ (¬1) قوله: يطؤها، كذا في الأصل، والصواب: يطبها.

الوجه الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين - مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم - لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز. الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (¬2) فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن. الوجه الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} (¬3) الآية. أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة، لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة. ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة؛ لندورها وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة (¬4) . ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108 (¬2) سورة النور الآية 31 (¬3) سورة النور الآية 58 (¬4) كذا بالأصل، وصوابه: كالمعدوم.

الوجه الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (¬1) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير - لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب، يقصدون فاعلا من الرعونة فنهي المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون. الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (¬2) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬3) فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز، لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى. الوجه السادس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح، لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة. الوجه السابع: أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 104 (¬2) سورة طه الآية 43 (¬3) سورة طه الآية 44

الوجه الثامن: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬1) » متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟! قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬2) » ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده. الوجه التاسع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين - مع كونه مصلحة - لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل. الوجه العاشر: أن الله تعالى حرم الخمر؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه. لكن حرم القطرة الواحدة منها. وحرم إمساكها للتخليل ونجسها، لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب. ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث. وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به؛ حسما لمادة قربان المسكر، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالعلة في تحريم القليل، فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) . (¬2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .

الوجه الحادي عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع. الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى أمر بغض البصر - وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله - سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور. الوجه الثالث عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا، وعن شد الرحال إليها، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها، وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سدا للذريعة. الوجه الرابع عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة؟ . الوجه الخامس عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة كقوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم (¬1) » ، وقوله: «إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم (¬2) » ، وقوله: في عاشوراء: «خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده» ، وقوله: «لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬2) سنن أبو داود الصلاة (652) .

تشبهوا بالأعاجم» ، وروى الترمذي عنه: «ليس منا من تشبه بغيرنا (¬1) » ، وروى الإمام أحمد عنه: «من تشبه بقوم فهو منهم (¬2) » ، وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل. الوجه السادس عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة، كما علل به النبي - صلى الله عليه وسلم. الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور. وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع، وأباح الأربع - وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن - لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة. الوجه الثامن عشر: أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا. حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها. الوجه التاسع عشر: أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام؛ فإن زمنه قريب جدا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل. الوجه العشرون: أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) . (¬2) سنن أبو داود اللباس (4031) .

أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة. هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع حتى أوصلها تسعة وتسعين دليلا.) . ثم قال: وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. اهـ.

الأسباب المادية والأسباب الروحية

2 - الأسباب المادية والأسباب الروحية: الأسباب نوعان: مادية عادية، وروحية. فالمادية العادية: هي التي عرف كونها سبب باب التجارب وتكرار نشوء أشياء عن أخرى، فحكم بأنها مسببة عنها عادة بتقدير الله لا بنفسها استقلالا. مثل: حرث الأرض وسقيها وزرعها وغرسها طلبا للحبوب والثمار، وكالأدوية من حبوب وشراب ونحوهما لعلاج الأمراض، وليس منها الحلقة المسئول عنها، فإنها ليست سببا عاديا؛ لعدم ثبوت ما يدعى أن بها مادة تصلح لعلاج الروماتزم. والناس في هذه الأسباب ثلاث طوائف: فمنهم: من غلا في إثباتها وتأثيرها، فزعم أنها يترتب عليها مسبباتها بطبيعتها استقلالا، وهذا شرك في الربوبية، ومنهم: من ألغاها ولم يعتبر لها شأنا في ترتيب مسبباتها عليها أصلا، وهذا مخالف لمقتضى العقل ولأدلة الشرع، ومنهم: من اعتبرها أسبابا عادية ينشأ عنها مسبباتها بتقدير من الله. فإذا وجد السبب

التام وانتفت الموانع ترتب عليه مسببه بإذن الله وتقديره لا استقلالا، وهذا هو الحق الذي شهدت له الأدلة وعليه أهل السنة والجماعة. أما الأسباب الروحية فمصدر معرفتها الشرع؛ كالرقى، والأذكار الشرعية، واللجوء إلى الله وصدق التوكل عليه، والدعاء لتفريج كربة وشفاء مرض، وغير ذلك من الشدائد. فهذه قد وردت الأدلة باعتبارها أسبابا لجلب نفع ودفع ضر، وليس منها الحلقة المسئول عنها، فإنها لم يدل دليل على اعتبارها شرعا، ولا ثبت في مجاري العادات اعتبارها سببا عاديا، وعلى هذا يقال: إن لبسها رجاء الشفاء من مرض نوع من الشرك. وفيما يلي نقول عن بعض العلماء في ذلك: قال ابن القيم رحمه الله (¬1) : ونحن نقول: إن هاهنا أمرا آخر نسبة طب الأطباء إليه كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم بالطب: منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة، ومنهم من يقول هو إلهامات، ومنامات وحدس صائب، ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمية كما نشاهد السنانير إذا أكلت ذوات السموم، تعمد إلى السراج فتلغ في الزيت تتداوى به، وكما رئيت الحيات إذا خرجت من بطون الأرض وقد غشيت أبصارها تأتي إلى ورق الرازيانح فتمر عيونها عليها، وكما عهد من الطير الذي ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (3\ 139\ 143) .

يحقن بماء البحر عند انحباس طبعه، وأمثال ذلك مما ذكر في مبادئ الطب وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية، والروحانية وقوة القلب، واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه والتذلل له، والصدقة والدعاء، والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء ولا تجربته ولا قياسه. وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة الأدوية الطرقية عند الأطباء، وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية ليس خارجا عنها، ولكن الأسباب متنوعة فإن القلب متى اتصل برب العالمين وخالق الداء والدواء ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعاينها القلب البعيد منه المعرض عنه، وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة تعاونا على دفع الداء وقهره، فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به، وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه وجمعها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، وأن

توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا وأبعدهم عن الله، وعن حقيقة الإنسانية، وسنذكر إن شاء الله السبب الذي به أزالت قراءة الفاتحة داء اللدغة عن اللديغ الذي رقي بها فقام حتى كأن ما به قلبة، فهذان نوعان من الطب النبوي، ونحن بحول الله نتكلم عليهما بحسب الجهد والطاقة، ومبلغ علومنا القاصرة ومعارفنا المتلاشية جدا، وبضاعتنا المزجاة، ولكنا نستوهب من بيده الخير كله، ونستمد من فضله، فإنه العزيز الوهاب. (فصل) روى مسلم في [صحيحه] من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل (¬1) » ، وفي [الصحيحين] عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء (¬2) » ، وفي [مسند الإمام أحمد] و [السنن] من حديث زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال: «كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: " نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد " قالوا: ما هو؟ قال: " الهرم (¬3) » ، وفي لفظ: «إن الله لم ينزل داء إلا وضع له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله (¬4) » ، وفي [المسند] من حديث ابن مسعود يرفعه: «إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله (¬5) » ، وفي [المسند] و [السنن] عن أبي خزامة قال: «قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، وداوء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: " هي من قدر الله (¬6) » . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم السلام (2204) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) . (¬2) صحيح البخاري الطب (5678) ، سنن ابن ماجه الطب (3439) . (¬3) سنن الترمذي الطب (2038) ، سنن أبو داود الطب (3855) ، سنن ابن ماجه الطب (3436) ، مسند أحمد بن حنبل (4/278) . (¬4) سنن ابن ماجه الطب (3438) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) . (¬5) سنن ابن ماجه الطب (3438) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) . (¬6) سنن الترمذي القدر (2148) ، سنن ابن ماجه الطب (3437) .

فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله: «لكل داء دواء (¬1) » على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر ولم يجعل لهم إليه سبيلا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله، ولهذا علق النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاء على مصادفة الدواء للداء، فإنه لا شيء من المخلوقات إلا له ضد، وكل داء له ضد، من الدواء به يعالج. فعلق النبي - صلى الله عليه وسلم - البرء بموافقة الداء للدواء، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية أو زاد في الكمية على ما ينبغي نقله إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته، وكان العلاج قاصرا ومتى لم يقع المداوي على الدواء (¬2) لم يحصل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحا لذلك الدواء لم ينفع، ومتى كان البدن غير قابل له أو القوة عاجزة عن حمله أو ثم مانع يمنع من تأثيره لم يحصل البرء، لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة، حصل البرء بإذن الله ولا بد، وهذا أحسن المحملين في الحديث. والثاني: أن يكون من العام المراد به الخاص لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه، وهذا يستعمل في كل لسان، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء، وهذا كقوله تعالى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم السلام (2204) ، مسند أحمد بن حنبل (3/335) . (¬2) أو لم يقع الدواء على الداء.

في الريح التي سلطها على قوم عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬1) أي: كل شيء يقبل التدمير، ومن شأن الريح أن تدمره، ونظائره كثيرة، ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ومقاومة بعضها لبعض، ودفع بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، تبين له كمال قدرة الرب تعالى، وحكمته وإتقانه ما صنعه وتفرده بالربوبية والوحدانية والقهر، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه، كما أنه الغني بذاته، وكلما سواه محتاج بذاته، وفي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا، وفيها رد على من أنكر التداوي وقال: إن كان الشفاء قد قدر فالتداوي لا يفيد، وإن لم يكن قد قدر فكذلك، وأيضا فإن المرض حصل بقدر الله وقدر الله لا يدفع ولا يرد، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما أفاضل الصحابة فأعلم بالله وبحكمته وصفاته من أن يوردوا ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف الآية 25

مثل هذا، وقد أجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما شفى وكفى، فقال: هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله، فما خرج شيء عن قدره، بل يرد قدره بقدره، وهذا الرد من قدره فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما، وهذا كرد قدر الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، وكرد قدر العدو بالجهاد، وكل من قدر الله: الدافع والمدفوع والدفع، ويقال لمورد هذا السؤال: هذا يوجب عليك أن لا تباشر سببا من الأسباب التي تجلب بها منفعة أو تدفع بها مضرة؛ لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا لم يكن بد من وقوعهما، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما وفي ذلك خراب الدين والدنيا وفساد العالم، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق معاند له، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه كالمشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (¬1) والذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} (¬2) فهذا قالوه دفعا لحجة الله عليهم بالرسل، وجواب هذا السائل أن يقال: بقي قسم ثالث لم تذكره، وهو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب، وإلا فلا، فإن قال: إن كان قدر لي السبب فعلته وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله، قيل له: فهل تقبل هذا الاحتجاج من عبدك وولدك وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ونهيته عنه فخالفك؟ فإن قبلته فلا تلم من عصاك وأخذ مالك وضربك وقذف عرضك وضيع حقوقك، ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 148 (¬2) سورة النحل الآية 35

وإن لم تقبله فكيف يكون مقبولا منك في دفع حقوق الله عليك؟ وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله (¬1) : ولنقدم قبل الشروع في المطلوب (مقدمة كلامية) مسلمة في هذا الموضع: وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا. وليس هذا موضع ذلك. وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي: أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين. ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى: العلامات المعرفة للأحكام خاصة، ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة. والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬2) ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬3) وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬4) ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬5) ¬

_ (¬1) [الموافقات] (2\6، 7) . (¬2) سورة النساء الآية 165 (¬3) سورة الأنبياء الآية 107 (¬4) سورة هود الآية 7 (¬5) سورة الذاريات الآية 56

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬1) وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (¬2) وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬3) وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬4) وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (¬5) وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (¬6) وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (¬7) وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (¬8) والمقصود التنبيه. وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيدا للعلم ¬

_ (¬1) سورة الملك الآية 2 (¬2) سورة المائدة الآية 6 (¬3) سورة البقرة الآية 183 (¬4) سورة العنكبوت الآية 45 (¬5) سورة البقرة الآية 150 (¬6) سورة الحج الآية 39 (¬7) سورة البقرة الآية 179 (¬8) سورة الأعراف الآية 172

فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة. ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد فلنجر على مقتضاه، ويبقى البحث في كون ذلك واجبا أو غير واجب موكولا إلى علمه. وقال القرطبي رحمه الله (¬1) : واختلف العلماء في حقيقة التوكل: فسئل عنه سهل بن عبد الله، فقال: قال فرقة: الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل: ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب. فإذا شغله السبب عن المسبب زال عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال: إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله عز وجل يقول: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬2) فالغنيمة: اكتساب. وقال تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬3) فهذا عمل. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب العبد المحترف (¬4) » . وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرضون على السرية. وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد الأسلحة ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (4\ 189، 190) . (¬2) سورة الأنفال الآية 69 (¬3) سورة الأنفال الآية 12 (¬4) ذكر السيوطي في [الجامع الصغير] : أن هذا الحديث رواه الطبراني في [الكبير] والبيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ورمز له برموز الضعف.

واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب، فإنها لا تجلب نفعا ولا ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل منه وبمشيئته، ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على حالين: الأول: حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر. الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية والبراهين القطعية والأذواق الحالية، فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين، ويلحقه بدرجات العارفين. وجاء في [شرح العقيدة الطحاوية] : ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء وهو: أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. ومعنى التوكل والرجاء يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع. وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا؛ لأنه ليس بمستقل ولا بد له من شركاء وأضداد مع هذا كله. فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر.

نصوص وآثار جزئية في موضوع البحث ونقول عن العلماء في ذلك

3 - نصوص وآثار جزئية في موضوع البحث ونقول عن العلماء في ذلك: ما سبق بيانه في الأمر الأول والثاني تقعيد كلي عام يندرج فيه موضوع البحث ونحوه، أما الأمر الثالث ففيه أدلة جزئية من السنة النبوية، وآثار عن الصحابة هي نص في الموضوع، ونقول عن العلماء في حكم ذلك نذكرها فيما يلي: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على حديث أبي بشير الأنصاري - رضي الله عنه - في قطع القلادة (¬1) والوتر: قال ابن الجوزي: وفي المراد بالأوتار ثلاثة أقوال: أحدهما: أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي لئلا تصيبها العين بزعمهم فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا، وهذا قول مالك. (قلت) : وقع ذلك متصلا بالحديث من كلامه في [الموطأ] وعند مسلم وأبي داود وغيرهما، قال مالك: أرى أن ذلك من أجل العين، ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه: «من علق تميمة فلا أتم الله له (¬2) » أخرجه أبو داود أيضا، والتميمة: ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك، وقال ابن عبد البر: إذا اعتقد الذي قلدها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر، وذلك لا يجوز اعتقاده. ثانيها: النهي عن ذلك لئلا تختنق الدابة عن محمد بن الحسن ¬

_ (¬1) [فتح الباري] (6\106، 107) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .

صاحب أبي حنيفة وكلام أبي عبيدة يرجحه، فإنه قال: نهي عن ذلك؛ لأن الدواب تتأذى بذلك ويضيق عليها نفسها ورعيها، وربما تعلقت بشجرة فاختنقت أو تعوقت عن السير. ثالثها: أنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس حكاه الخطابي، وعليه يدل تبويب البخاري، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أم حبيبة أم المؤمنين مرفوعا: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس (¬1) » أخرجه النسائي من حديث أم سلمة أيضا، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، فقد أخرجه الدارقطني من طريق عثمان بن عمر المذكور بلفظ: «لا تبقين قلادة من وتر ولا جرس في عنق بعير إلا قطع (¬2) » . (قلت) : ولا فرق بين الإبل وغيرها في ذلك إلا على القول الثالث فلم تجر العادة بتعليق الأجراس في رقاب الخيل، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الحساني رفعه: «اربطوا الخيل وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار (¬3) » فدل على أن لا اختصاص للإبل، فلعل التقييد بها في الترجمة للغالب، وقد حمل النضر بن شميل الأوتار في هذا الحديث على معنى الثأر، فقال: معناه: لا تطلبوا بها ذحول الجاهلية، قال القرطبي: وهو تأويل بعيد، وقال النووي: ضعيف، وإلى نحو قول النضر جنح وكيع، فقال: المعنى لا تركبوا الخيل في الفتن، فإن من ركبها لم يسلم أن يتعلق به وتر يطلب به. والدليل على أن المراد بالأوتار جمع الوتر بالتحريك لا الوتر بالإسكان: ما رواه أبو داود أيضا من حديث رويفع بن ثابت: «من عقد لحيته أو تقلد وترا فإن محمدا بريء منه (¬4) » ، فإنه عند الرواة أجمع بفتح المثناة. انتهى. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الجهاد (2554) ، مسند أحمد بن حنبل (6/327) ، سنن الدارمي الاستئذان (2675) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) . (¬3) سنن النسائي الخيل (3565) ، سنن أبو داود الجهاد (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (4/345) . (¬4) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (¬1) : باب (من الشرك: لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه) وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬2) عن عمران بن حصين رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (¬3) » رواه أحمد بسند لا بأس به. وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (¬4) » ، وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (¬5) » . ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬6) فيه مسائل: الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك. الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. ¬

_ (¬1) [فتح المجيد] ص (116- 133) ، باستثناء الشرح الذي في ص (119) . (¬2) سورة الزمر الآية 38 (¬3) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (4/156) . (¬6) سورة يوسف الآية 106

الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر لقوله: «لا تزيدك إلا وهنا (¬1) » . الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه. السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة. العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك. الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة: أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له، أي: ترك الله له. قال حفيده عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: قوله: (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو في دفعه) . رفعه: إزالته بعد نزوله، ودفعه: منعه قبل نزوله. قال: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬2) قال ابن كثير: أي: لا تستطيع شيئا من الأمر، {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} (¬3) أي: الله كافي من توكل عليه {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬4) كما ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) . (¬2) سورة الزمر الآية 38 (¬3) سورة الزمر الآية 38 (¬4) سورة الزمر الآية 38

قال هود عليه السلام حين قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (¬1) {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} (¬2) {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3) قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا، أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها. وإنما كانوا يدعونها على معنى: أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (¬4) {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (¬5) قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله. وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله، والرغبة إليه من دون الله، والتوحيد ضد ذلك. وهو: أن لا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، كما تقدم. قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن عمران بن حصين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، ¬

_ (¬1) سورة هود الآية 54 (¬2) سورة هود الآية 55 (¬3) سورة هود الآية 56 (¬4) سورة النحل الآية 53 (¬5) سورة النحل الآية 54

قال: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (¬1) » رواه أحمد بسند لا بأس به. قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا المبارك عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة- قال: أراها من صفر- فقال: ويحك، ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (¬2) » ، ورواه ابن حبان في [صحيحه] ، فقال: «فإنك إن مت وكلت إليها» ، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران، وقوله في الإسناد: أخبرني عمران، يدل على ذلك. قوله: (عن عمران بن حصين) أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد- بنون وجيم مصغر- صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة. قوله: (رأى رجلا) ، وفي رواية الحاكم: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر، فقال: ما هذه؟» الحديث. فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث. قوله: (ما هذه؟) يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أظهر. قوله: (من الواهنة) قال أبو السعادات: الواهنة: عرق يأخذ في المنكب، وفي اليد كلها، فيرقى منها، وقيل: هو مرض يأخذ في ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) . (¬2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .

العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، وإنما نهي عنها لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد. قوله: «انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهنا (¬1) » ، النزع: هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه، بل تضره، وتزيده ضعفا، وكذلك كل أمر نهي عنه، فإنه لا ينفع غالبا، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه. قوله: «فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (¬2) » لأنه شرك، والفلاح: هو الفوز والظفر والسعادة. قال المصنف رحمه الله تعالى: وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (¬3) » ، وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (¬4) » . الحديث الأول: رواه الإمام أحمد، كما قال المصنف، ورواه أيضا أبو يعلى، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. قوله: (وفي رواية) أي: من حديث آخر رواه أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي منصور، عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟! فقال: إن عليه تميمة، فأدخل يده فقطعها، فبايعه، وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك (¬5) » ، ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات. قوله: (عن عقبة بن عامر) صحابي مشهور، فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين، ومات قريبا من الستين. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) . (¬2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (4/156) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .

قوله: «من تعلق تميمة (¬1) » ، أي: علقها متعلقا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر. قال المنذري: خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى. وقال أبو السعادات: التمائم: جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام. قوله: «فلا أتم الله له (¬2) » دعاء عليه. قوله: «ومن تعلق ودعة (¬3) » بفتح الواو وسكون المهملة، قال في [مسند الفردوس] الودع: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين. قوله: «فلا ودع الله له (¬4) » بتخفيف الدال: أي: لا جعله في دعة وسكون، قال أبو السعادات: وهذا دعاء عليه. قوله: وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك (¬5) » . قال أبو السعادات: إنما جعلها شركا؛ لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه. قال المصنف رحمه الله تعالى: ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬6) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرا، فقطعه أو ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (4/156) . (¬6) سورة يوسف الآية 106

انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬1) وابن أبي حاتم: هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وحذيفة: هو ابن اليمان: واسم اليمان: حسيل- بمهملتين مصغرا- ويقال: حسل- بكسر ثم سكون- العبسي- بالموحدة- حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، ويقال له: صاحب السر، وأبوه أيضا صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه، سنة ست وثلاثين. قوله: (رأى رجلا في يده خيط من الحمى) أي: عن الحمى، وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى، وروى وكيع عن حذيفة: أنه دخل على مريض يعوده، فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه، وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك، وفيه: إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها، وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك، مما تعلقه الجهال- فهو شرك، يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه. قوله: وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬2) ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 106 (¬2) سورة يوسف الآية 106

استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك، ففيه: صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله في الشرك الأكبر، لشمول الآية له، ودخوله في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره، والله أعلم. وفي هذه الآثار عن الصحابة: ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه، أو ينافي كماله. وقال الشيخ رحمه الله في باب (ما جاء في الرقى والتمائم) : في الصحيح، عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: «أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر- أو قلادة - إلا قطعت (¬1) » . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (¬2) » رواه أحمد وأبو داود. " التمائم ": شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه. و" الرقى ": هي التي تسمى: العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة. و" التولة ": شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته. وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: «من تعلق شيئا وكل إليه (¬3) » رواه أحمد والترمذي. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) . (¬2) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) . (¬3) سنن الترمذي الطب (2072) .

وروى أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم- فإن محمدا بريء منه (¬1) » . وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة" رواه وكيع. وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن. فيه مسائل: الأولى: تفسير الرقى والتمائم. الثانية: تفسير التولة. الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء. الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين، والحمة ليس من ذلك. الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟ السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك. السابعة: الوعيد الشديد على من علق وترا. الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان. التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده: أصحاب عبد الله بن مسعود. وقال حفيده رحمه الله: قوله: (باب ما جاء في الرقى والتمائم) . أي: من النهي، وما ورد عن السلف في ذلك. ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .

قال المصنف رحمه الله تعالى: (في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري: «أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر - أو قلادة - إلا قطعت (¬1) » . هذا الحديث في [الصحيحين] . قوله: (عن أبي بشير) بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد، وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي، شهد الخندق، ومات بعد الستين، ويقال: إنه جاوز المائة. قوله: (في بعض أسفاره) قال الحافظ: لم أقف على تعيينه. قوله: (فأرسل رسولا) هو زيد بن حارثة روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في [مسنده] ، قاله الحافظ. قوله: «أن لا يبقين (¬2) » بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، و [قلادة] مرفوع على أنه فاعل، و [الوتر] بفتحتين واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوا به الدواب؛ اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين. قوله: «أو قلادة إلا قطعت (¬3) » معناه: أن الرواي شك، هل قال شيخه: قلادة من وتر، أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك: أنه سئل عن القلادة؟ فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر. ولأبي داود: «ولا قلادة (¬4) » بغير شك. قال البغوي في [شرح السنة] : تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) . (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) . (¬4) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) .

الأوتار والتمائم والقلائد، ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا. قال أبو عبيد: كانوا يقلدون الإبل الأوتار؛ لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها؛ إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا، وكذا قال ابن الجوزي وغيره. وقال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر، رفعه «من تعلق تميمة فلا أتم الله له (¬1) » رواه أبو داود: وهي: ما علق من القلائد خشية العين، ونحو ذلك، انتهى. قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (¬2) » رواه أحمد وأبو داود. وفيه قصة، ولفظ أبي داود: عن زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - قالت: «إن عبد الله رأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (¬3) » ، ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي. ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬2) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) . (¬3) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) .

قوله: «إن الرقى (¬1) » قال المصنف: (هي التي تسمى: العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة) ، يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا أسماء الله وصفاته وآياته، والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا حسن: جائز، أو مستحب. قوله: (فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة) كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد، وكذا رخص في الرقى من غيرها، كما في [صحيح مسلم] عن عوف بن مالك: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (¬2) » ، وفي الباب أحاديث كثيرة. قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك. قلت: من ذلك: ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم، وبنحو هذا ذكر الخطابي. وقال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به، فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا فليس من دين الإسلام. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) . (¬2) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .

وقال السيوطي: وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى. قوله: " والتمائم " قال المصنف: (شيء يعلق على الأولاد من العين) وقال الخلخالي: " التمائم ": جمع تميمة، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته. قال المصنف: (لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود) . اعلم أن العلماء- من الصحابة والتابعين فمن بعدهم - اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته: فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك. وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه. قلت: هذا هو الصحيح؛ لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل. الأول: عموم النهي، ولا مخصص للعموم، الثاني: سد الذريعة،

فإذا يقضي إلى تعليق ما ليس كذلك، الثالث: أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك. وتأمل هذه الأحاديث، وما كان عليه السلف رضي الله عنهم: يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة: من تعظيم القبور، واتخاذ المساجد عليها، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات - التي هي حق الله تعالى - إليها من دونه، كما قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1) {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2) ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر. قوله: «التولة شرك» قال المصنف: (هي شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته) . وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث، كما في [صحيح ابن حبان] والحاكم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن) . قال الحافظ: التولة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا - شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، والله أعلم. وكان من الشرك لما يراد به دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية 106 (¬2) سورة يونس الآية 107

قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا «من تعلق شيئا وكل إليه (¬1) » رواه أحمد والترمذي، ورواه أبو داود والحاكم. وعبد الله بن عكيم: هو بضم المهملة مصغرا، ويكنى: أبا معبد الجهني الكوفي قال البخاري: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبو حاتم، قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره: أنه مات في ولاية الحجاج. قوله: «من تعلق شيئا وكل إليه (¬2) » ، التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما، «وكل إليه» أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه به والتجأ إليه وفوض أمره إليه كفاه، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬3) وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا أبو سعيد المؤدب، حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: «لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود، أما وعزتي وعظمتي، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطب (2072) . (¬2) سنن الترمذي الطب (2072) . (¬3) سورة الطلاق الآية 3

لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجا، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته: إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك» . قال المصنف رحمه الله تعالى: وروى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس: أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم - فإن محمدا بريء منه (¬1) » . الحديث رواه الإمام أحمد، عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب، كلاهما عن ابن لهيعة، وفيه قصة اختصرها المصنف، وهذا لفظ الحسن: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عياش بن عباس، عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: «كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش، وللآخر القدح، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . الحديث (¬2) » ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان، حدثني المفضل، حدثنا عياش بن عباس: أن شييم بن بيتان أخبره: أنه سمع شيبان القتباني. . . الحديث، ابن لهيعة فيه مقال، وفي الإسناد الثاني: شيبان القتباني، قيل فيه: مجهول، وبقية رجالهما ثقات. قوله: «لعل الحياة ستطول بك (¬3) » فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين، فمات ببرقة من أعمال مصر أميرا ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) . (¬2) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/108) . (¬3) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .

عليها، وهو من الأنصار، وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين. قوله: «فأخبر الناس (¬1) » دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصا برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية، قاله أبو زرعة في [شرح سنن أبي داود] . قوله: «أن من عقد لحيته (¬2) » بكسر اللام لا غير، والجمع: لحى بالكسر والضم، قاله الجوهري. قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم، يفتلونها ويعقدونها، قال أبو السعادات: تكبرا وعجبا. ثانيهما: أن معناه: معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث. قال أبو زرعة بن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع، وفيه: «أن من عقد لحيته في الصلاة (¬3) » . قلت: وهذه الرواية لا تدل على تخصيصه في الصلاة، بل تدل على أن فعله في الصلاة أشد من فعله خارجها. قوله: «أو تقلد وترا (¬4) » أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته، وفي رواية محمد بن الربيع: «أو تقلد وترا (¬5) » - يريد: تميمة. فإذا كان هذا فيمن تقلد وترا، فكيف بمن تعلق بالأموات، وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، الذي جاء النهي عنه وتغليظه في ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) . (¬2) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) . (¬3) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) . (¬4) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) . (¬5) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) .

الآيات المحكمات؟! قوله: «أو استنجى برجيع دابة أو عظم- فإن محمدا بريء منه (¬1) » قال النووي: أي: بريء من فعله، وهذا خلاف الظاهر، والنووي كثيرا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها، فيغفر الله تعالى له، بل هو بريء من الفاعل وفعله. وفي [صحيح مسلم] عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: «لا تستنجوا بالروث ولا العظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن (¬2) » ، وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما، كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران. » قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة، رواه وكيع. هذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي، ويكون هذا مرسلا؛ لأن سعيدا تابعي، وفيه: فضل قطع التمائم؛ لأنها شرك. ووكيع: هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي، ثقة إمام، صاحب تصانيف، منها [الجامع] وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته، مات سنة سبع وتسعين ومائة. قوله: وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن. وإبراهيم: هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، يكنى: أبا عمران، ثقة من كبار الفقهاء، قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزينة (5067) ، سنن أبو داود الطهارة (36) ، مسند أحمد بن حنبل (4/109) . (¬2) صحيح مسلم الصلاة (450) ، سنن الترمذي الطهارة (18) ، مسند أحمد بن حنبل (1/459) .

له سماع منها، مات سنة ست وتسعين، وله خمسون سنة أو نحوها. قوله: (كانوا يكرهون التمائم) إلى آخره، مراده بذلك: أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد، وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وغيرهم، وهم من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم، كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره. وقال الشيخ محمد صديق حسن رحمه الله (¬1) : فصل في شرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلايا ودفعها، ومعنى رفع الشيء: إزالته بعد نزوله، ومعنى دفع الشيء: منعه قبل نزوله. عن عمران بن حصين رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة، (¬2) » وفي رواية الحاكم: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة من صفر،» فالمبهم في هذه الرواية هو: عمران راوي الحديث. قال: (ما هذه؟) يحتمل أن يكون الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها أو يكون للإنكار وهو أظهر، قال: من الواهنة: قال أبو السعادات: (الواهنة) : عرق يأخذ بالمنكب وفي اليد كلها فيرقى منها، وقيل: مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء. قال: (انزعها) نهي عنه؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد، والنزع: هو الجذب بقوة. «فإنها لا تزيدك إلا وهنا (¬3) » ، أخبر أنها لا تنفعك، بل تضرك وتزيدك ¬

_ (¬1) [الدين الخالص] (2\ 130- 134) . (¬2) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) . (¬3) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) .

ضعفا، وكذلك كل أمر نهى عنه إنه لا ينفع غالبا وإن نفع بعضه في اعتقاده الكاذب فضرره أكبر من نفعه «فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (¬1) » ؛ لأنه شرك استعان صاحبه بغير الله تعالى، و (الفلاح) : هو الفوز والظفر والسعادة. وفي هذا شاهد لكلام الصحابة إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر وأنه لم يعذره بالجهالة، وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك، رواه أحمد بسند لا بأس به. وله رضي الله عنه عن عقبة بن عامر مرفوعا: «من تعلق تميمة (¬2) » ، أي: علقها متعلقا بها في قلبه في طلب خير أو شر وضير. قال المنذري: خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلال، إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى. وقال أبو السعادات: التمائم: جمع تميمة وهي خرزة كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام، «فلا أتم الله له (¬3) » ، دعاء عليه، «ومن تعلق ودعة (¬4) » بفتح الواو وسكون المهملة، قال في [مسند الفردوس] : الودع: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين، «فلا ودع الله له (¬5) » بتخفيف الدال، أي: لا جعله في دعة وسكون. قال أبو السعادات: هذا دعاء عليه، وروى هذا الحديث أيضا أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي، وفي رواية لأحمد «من تعلق تميمة فقد أشرك (¬6) » ، وهذا أصرح من الأول، ورواه الحاكم أيضا بنحوه ورواته ثقات. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الطب (3531) ، مسند أحمد بن حنبل (4/445) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬5) مسند أحمد بن حنبل (4/154) . (¬6) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .

قال ابن الأثير: إنما جعلها شركا؛ لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه. قال: ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬1) وفي لفظ: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ} (¬2) إلخ. كان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى، واستدل حذيفة بالآية على أن هذا شرك. وفيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزل الله تبارك في الشرك الأكبر؛ لشمول الآية له، ولدخوله في مسمى الشرك. وفي رواية عن حذيفة بلفظ: أنه دخل على مريض فلمس عضده فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهي عليك ما صليت عليك. وفي إنكار مثل هذا وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله مع عدم الاعتماد عليها. وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهلة البطلة- فهو شرك، يجب إنكاره وإزالته بالقول وبالفعل وإن لم يأذن فيه صاحبه. ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 106 (¬2) سورة يوسف الآية 106

وفي هذه الآثار عن الصحابة ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وبما ينافيه من أنواع الشرك أو ينافي كماله. وقال في فصل في رد شرك الرقى والتمائم: عن أبي بشير الأنصاري «أنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، (¬1) » قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تعيينه، «فأرسل رسولا» : هو زيد بن حارثة، رواه الحارث بن أبي أسامة في [مسنده] ، كما قال الحافظ: «أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر (¬2) » - بفتحتين واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب، اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين- «أو قلادة إلا قطعت (¬3) » رواه الشيخان في [الصحيحين] . والشك فيه من الراوي، هل قال شيخه: قلادة من وتر، أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيد، ويؤيد الأول ما روي عن مالك: أنه سئل عن القلادة، فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر. ولأبي داود " قلادة " بغير شك. قال البغوي في [شرح السنة] : تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ ويظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا. وقال أبو عبيد: كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا، وكذا قال ابن الجوزي وغيره. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) . (¬3) صحيح البخاري الجهاد والسير (3005) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2115) ، سنن أبو داود الجهاد (2552) ، مسند أحمد بن حنبل (5/216) ، موطأ مالك الجامع (1745) .

قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة المتقدم وهي ما علق من القلائد وخشية العين ونحو ذلك. اهـ. وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (¬1) » رواه أحمد وأبو داود وفيه قصة. ولفظ أبي داود عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود: أن عبد الله رأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ... إلخ. فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقى كف عنها. إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما (¬2) » ، رواه أيضا ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي. سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: عن حكم استعمال الأسورة المغناطيسية؟ فأجاب حفظه الله: والذي أرى في هذه المسألة: هو ترك الأسورة المذكورة، وعدم استعمالها؛ سدا لذريعة الشرك، وحسما لمادة الفتنة بها والميل إليها، وتعلق النفوس بها، ورغبة في توجيه المسلم بقلبه إلى الله سبحانه؛ ثقة به واعتمادا عليه، واكتفاء بالأسباب المشروعة المعلومة ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الطب (3883) ، سنن ابن ماجه الطب (3530) ، مسند أحمد بن حنبل (1/381) . (¬2) صحيح البخاري الطب (5750) ، صحيح مسلم السلام (2191) ، سنن ابن ماجه الطب (3520) ، مسند أحمد بن حنبل (6/45) .

إباحتها بلا شك، وفيما أباح الله ويسر لعباده غنية عما حرم عليهم، وعما اشتبه أمره. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (¬1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (¬2) » . ولا ريب أن تعليق الأسورة المذكورة يشبه ما تفعله الجاهلية في سابق الزمان، فهو إما من الأمور المحرمة الشركية أو من وسائلها، وأقل ما يقال فيه: أنه من المشتبهات، فالأولى بالمسلم والأحوط له: أن يترفع بنفسه عن ذلك، وأن يكتفي بالعلاج الواضح الإباحة البعيد عن الشبهة، هذا ما ظهر لي ولجماعة من المشايخ والمدرسين. وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه، وأن يمن علينا جميعا بالفقه في دينه، والسلامة مما يخالف شرعه، إنه على كل شيء قدير، والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا ما تيسر جمعه، والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) . (¬2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .

حكم استعمال المياه النجسة

(4) حكم استعمال المياه النجسة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بسم الله الرحمن الرحيم حكم استعمال المياه النجسة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: بناء على ما تقرر في الدورة الثانية لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول سنة 1396 هـ من إعداد بحث في [حكم استعمال المياه النجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها]- أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على: تمهيد في بيان معنى الاستحالة، وإيضاح هذا المعنى بكلام أهل العلم في حكم استحالة النجس إلى طاهر بالإحراق أو غيره، وهل تطهر الخمر بالاستحالة؟ ثم بيان كلام أهل العلم في حكم استعمال المياه المتنجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها. وبالله التوفيق. أولا: التمهيد: (أ) معنى الاستحالة: لغة: جاء في معنى حال:

كل شيء تغير عن الاستواء إلى العوج، فقد حال في معنى واستحال وهو مستحيل (¬1) . ومعناها اصطلاحا: انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى (¬2) . ب- استحالة النجس إلى حقيقة أخرى بالإحراق أو غيره هل تكسبه الطهارة؟: اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب قوم إلى القول بالطهارة: وممن قال بذلك: أبو حنيفة ومحمد وأكثر الحنفية والمالكية، وسواء عندهم ما هو نجس لعينه وما هو نجس لمعنى فيه، ووافقهم الشافعية في النجس لمعنى فيه كجلد الميتة، وأما الحنابلة فمنهم من يقول بالطهارة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية. وفيما يلي ذكر نصوصهم في ذلك وأدلتهم مع المناقشة: جاء في [البحر الرائق] : من الأمور التي يكون بها التطهير انقلاب العين ... ومضى إلى أن قال: وإن كان في غيره- أي: الخسر- كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل والسرجين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد (¬3) وقال أيضا: وضم إلى محمد أبا حنيفة في [المحيط] ، وكثير من المشايخ اختاروا قول محمد، وفي ¬

_ (¬1) [لسان العرب] (14\ 197) . (¬2) [رد المحتار] (1\ 291) . (¬3) [البحر الرائق] : (1\ 239)

[الخلاصة] وعليه الفتوى، وفي [فتح القدير] : أنه المختار (¬1) . والمالكية يذهبون إلى أن ما استحال إلى صلاح فهو طاهر، وأن ما استحال إلى فساد كان نجسا، جاء في [الشرح الكبير] و [حاشية الدسوقي] عليه: من الطاهر لبن الآدمي ولو كافرا لاستحالته إلى الصلاح (¬2) . ثم جاء في موضع آخر: إذا تغير القيء وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة كان نجسا وعلة نجاسته الاستحالة إلى فساد، فإن لم يتغير كان طاهرا (¬3) . واعتبر المالكية كذلك: أن المسك طاهر، ففي [الحطاب] : الحكم بطهارة المسك؛ لأنها استحالة عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفات وإلى اسم يختص به، وطهرت بذلك، كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذى به الحيوان من النجاسات إلى اللحم فيكون طاهرا، انتهى (¬4) . وفرق الشافعية بين ما هو نجس لعينه وما هو نجس لمعنى فيه، فأما الأشياء النجسة لمعنى فيها فإنها طاهرة، قال في [المهذب] : ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: ¬

_ (¬1) [البحر الرائق] : (1\ 239) . (¬2) [الشرح الكبير] مع [حاشية الدسوقي] ص (50) . (¬3) المرجع السابق (1\ 57) . (¬4) [مواهب الجليل] (1\ 97) .

أحدهما: جلد الميتة إذا دبغ، والثاني: الخمر (¬1) وقال ابن قدامة: ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة (¬2) . وقال المرداوي: وعنه بل تطهر وهي مخرجة من الخمرة إذا انقلبت بنفسها، خرجها المجد واختار الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق، فحيوان متولد من نجاسة كدود الجروح والقروح وصراصير الكنيف طاهر نص عليه (¬3) انتهى المقصود. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحا في الملاحة أو صارت رمادا أو صارت- الميتة والدم والصديد- ترابا كتراب المقبرة فهذا فيه خلاف، وبعد ذكره للخلاف قال: والصواب أن ذلك كله طاهر، إذا لم يبق شيء من النجاسة، لا طعمها ولا لونها ولا ريحها (¬4) وقال ابن حزم: إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر فليس هو ذلك النجس ولا ذلك الحرام، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر (¬5) . وقال أيضا: إذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا فكل ذلك طاهر (¬6) . ¬

_ (¬1) [المهذب] : (1\ 48) . (¬2) [المغني] ومعه [الشرح] (1\ 59) . (¬3) [الإنصاف] (1\ 5، 31) وما بعده. (¬4) [مجموع الفتاوى] (21\ 481) . (¬5) [المحلى] (1\ 138) . (¬6) [المحلى] (1\ 128) ، ويرجع أيضا إلى (1\ 118، 137، 162) من [المحلى]

واستدل لذلك بالكتاب والسنة والاستقراء والمعنى: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1) وجه الدلالة: أن هذه الأشياء بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها صارت طيبة فهي طاهرة، وقد يعارض ذلك: بأن القول بأنها طيبة وهو محل النزاع، ولا يصح الاستدلال بمحل الخلاف. وقد يجاب عن ذلك: بأن العبرة بالواقع لا بالدعوى وواقعها أنها طيبة فيسلم الدليل. وأما السنة: فما ورد من الأدلة في طهارة المسك وجلود الميتة مأكولة اللحم بعد الدبغ ونحو ذلك من الأدلة. وأما الاستقراء: فقد ذكره شيخ الإسلام، فقال بعد كلام سبق: الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس مثل جعل الخمر خلا والدم منيا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيبا وكذلك بيضها ولبنها والزرع المستسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر وغير ذلك فإنه يزول حكم التنجس ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه، فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقا بعد خلق ولا التفات إلى موادها وعناصرها، وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان كإحراق الروث حتى يصير رمادا ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحا، ففيه خلاف مشهور، وللقول بالتطهير اتجاه ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 157

انتهى المقصود (¬1) . وقد سبق أنه يختار القول بالطهارة. وأما المعنى: فقد جاء في [فتح القدير] أنه المختار؛ لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف بالكل؟! فإن الملح غير العظم واللحم، فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح عليه (¬2) ، انتهى المقصود. القول الثاني: إن استحالة النجس وزوال أعراض النجاسة عنه وتبدلها بأوصاف طيبة لا تصيره طاهرا. وممن قال بهذا القول: أبو يوسف، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو قول الشافعي فيما كان نجسا نجاسة عينية، وإحدى الروايتين في مذهب أحمد وهي المقدمة. جاء في [فتح القدير] : أن أبا يوسف يرى أن الأشياء النجسة لا تطهر بانقلاب عينها، وفي [التجنيس] اختار قول أبي يوسف كذا قال: خشبة أصابها بول فاحترقت ودفع رمادها في بئر يفسد الماء، وكذلك رماد العذرة والحمار إذا مات في مملحة لا يؤكل الملح، هذا قول أبي يوسف (¬3) ، انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهو أحد قولي أصحاب ¬

_ (¬1) [الفتاوى المصرية] (2\ 122) . (¬2) [البحر الرائق] (1\ 239) ، وقد بسط ذلك ابن حزم في [المحلى] (1\ 137، 162) منه (1\ 118) منه أيضا. (¬3) [فتح القدير] (1\ 139) .

مالك (¬1) وقال الشيرازي: ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان: أحدهما: جلد الميتة إذا دبغ. والثاني: الخمر. ثم قال صاحب [المهذب] : وإن حرق العذرة والسرجين حتى صار رمادا لم تطهر (¬2) وقال ابن قدامة: ظاهر المذهب: أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمر إذا انقلبت بنفسها خلا، وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت فصارت رمادا، والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا، والدخان الصاعد من وقود النجاسة (¬3) . وقال المرداوي على قول ابن قدامة: ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة، قال: هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب ونصروه (¬4) واستدل لهذا القول بما ذكره أبو يوسف من أن الرماد أجزاء تلك النجاسة فتبقى النجاسة من وجه فالتحقت بالنجس من كل وجه احتياطا (¬5) . وما ذكره الشيرازي بقوله: لأن نجاستها- أي: العذرة والسرجين- ¬

_ (¬1) [المجموع] (21\ 72) . (¬2) [المهذب] (1\ 10) . (¬3) [المغني] مع شرحه (1\ 59) . (¬4) [الإنصاف] (1\ 318) . (¬5) [فتح القدير] (2\ 139) .

لعينهما (¬1) . وأما ابن قدامة فقد استدل لذلك: بأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر كالدم إذا صار قيحا وصديدا (¬2) ج- هل تطهر الخمر بالاستحالة؟: اتفق أهل العلم- فيما نعلم- على أن الخمر إذا تخللت بنفسها فإنها تكون طاهرة. قال شيخ الإسلام: اتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله بدون قصد صاحبها وصارت خلا أنها تطهر (¬3) وأما إذا خللت فقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من يقول بطهارتها، ومنهم من يقول بنجاستها. وممن قال بأنها طاهرة: الحنفية والمالكية وابن حزم ومن وافقهم. جاء في [بداية المبتدي] وشرحها [الهداية] : وإذا تخللت الخمر حلت، سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها ولا يكره تخليلها (¬4) وفي [الحطاب] : ولو تخللت الخمر بإلقاء شيء فيها؛ كالخل والملح والماء ونحوه يطهر الخل وما ألقي فيه (¬5) . ¬

_ (¬1) [المهذب] (1\ 48) . (¬2) [المغني] ومعه الشرح (1\ 744) . (¬3) [مجموع الفتاوى] (21\ 475) وما بعدها. (¬4) [البداية] وشرحها (4\ 113) (¬5) [مواهب الجليل] (1\ 98) .

وقال ابن حزم: إذا تخللت الخمر وخللت فالخل حلال (¬1) . واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى: أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل (¬2) » رواه مسلم والأربعة من حديث جابر. وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم عم ولم يخص. وعورض هذا الاستدلال بحديث أنس، «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا؟ قال: لا (¬3) » أخرجه مسلم، وعن أنس «أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا؟ قال: أهرقها قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: لا (¬4) » . ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث: بحمل الحديث الأول على الخمر إذا تخللت بنفسها والخل الذي لم يكن أصله خمرا، وحمل الثاني على ما إذا خللت بفعل فاعل قصدا. وعلى هذا فلا دلالة في الحديث الأول على طهارة الخمر إذا خللت قصدا. وأما الدليل من جهة المعنى: فقد جاء في [البداية] وشرحها: إنه بالتحليل يزول الوصف المفسد، وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والأقرياب لإعدام الفساد فأشبه الإراقة والتخليل؛ وذلك لما فيه ¬

_ (¬1) [المحلى] (1\ 124) . (¬2) صحيح مسلم الأشربة (2052) ، سنن الترمذي الأطعمة (1839) ، سنن أبو داود الأطعمة (3820) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي الأطعمة (2048) . (¬3) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) . (¬4) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1293) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .

من احترام حال يصير حلالا في الثاني فيختاره من ابتلي به. وقد يجاب عن ذلك: بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص، ولا اجتهاد مع النص، والنص هو حديث أنس الذي رواه مسلم: «سئل عن الخمر تتخذ خلا؟ قال: لا (¬1) » الحديث وقد سبق (¬2) . القول الثاني: أن الخمر إذا خللت لا تكون طاهرة. وممن قال بهذا: الشافعية والحنابلة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. قد جاء في [المهذب] : وإن خللت بخل أو ملح لم تطهر (¬3) . وقال ابن قدامة: (وإن خللت لم تطهر) . وقال المرداوي تعليقا على ذلك: اعلم أن الخمرة يحرم تخليلها على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب (¬4) . وقال شيخ الإسلام: والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال (¬5) . واستدل لهذا القول بالسنة والأثر والمعنى. أما السنة: فما رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة عن أنس رضي الله عنه، «أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: أهرقها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) . (¬2) [البداية] وشرحها (4\ 113) . (¬3) [المهذب] (1\ 48) . (¬4) [الإنصاف] (1\ 318) . (¬5) [المجموع] (21\ 481) .

فقال: أفلا أخللها؟ قال: لا (¬1) » . وجه الدلالة: أنه نهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز. وأجاب الطحاوي عن ذلك فقال: إنه محمول على التغليظ والتشديد؛ لأنه كان في ابتداء الإسلام، كما ورد ذلك في سؤر الكلب بدليل أنه ورد في بعض طرقه الأمر بكسر الدنان وتقطيع الزقاق، رواه الطبراني في [معجمه] : حدثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا معتمر، ثنا ليث عن يحيى بن عباد عن أنس عن أبي طلحة قال: «قلت: يا رسول الله، إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري، فقال: أهرق الخمر واكسر الدنان (¬2) » انتهى. ورواه الدارقطني أيضا، وروى أحمد في [مسنده] : حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن حمزة بن حبيب عن ابن عمر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم شق زقاق الخمر بيده في أسواق المدينة،» وقد تقدم بتمامه في أحاديث تحريم الخمر، وهذا صريح في التغليظ؛ لأن فيه إتلاف مال الغير، وقد كان يمكن إراقة الدنان والزقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد ليكون أبلغ في الردع، انتهى بواسطة الزيلعي (¬3) . ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن حمله على التغليظ على خلاف الظاهر، فيحتاج إلى دليل يدل عليه ذلك، فإن وجد وإلا فالأصل بقاء دلالة الحديث على التحريم (¬4) ، كما سبق. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) . (¬2) سنن الترمذي البيوع (1293) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) . (¬3) [نصب الراية] (4\ 311) . (¬4) [نصب الراية] (4\ 311) .

وأما الأثر: فقول عمر رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خل خمر أهل الذمة إذا ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها، انتهى، استدل به شيخ الإسلام، وذكر أنه صحيح (¬1) وأما المعنى: فقال شيخ الإسلام: إن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة (¬2) ¬

_ (¬1) [الفتاوى] (21\ 484) . (¬2) [الفتاوى] (21\ 486) .

استحالة المياه المتنجسة بسبب اختلاف أسبابها

ثانيا: استحالة المياه المتنجسة بسبب اختلاف أسبابها: استحالة المياه المتنجسة قد تكون بصب ماء طهور عليها أو نزح بعضه أو زوال التغير بنفسه، وقد تكون برمي تراب ونحوه فيها، وقد تكون بسقي النباتات بها وشرب الحيوانات إياها، وقد تكون بتبخيره وتقطيره مثلا. وفيما يلي الكلام على كل نوع: ا- استحالة المياه المتنجسة بصب ماء طهور عليها أو نزح بعضه أو زوال التغير بنفسه: نذكر فيما يلي طريقة كل مذهب إجمالا ثم نتبعها بالتفصيل نظرا لاختلافهم من حيث الجملة في طريقة التطهير: فالحنفية: يرون: أن نزح مقدار من ماء البئر المتنجس مطهر لما بقي

من الماء لكن يختلف مقدار ما ينزح لتحصل به الطهارة للباقي باختلاف نوع النجاسة واختلاف أحوالها. وأما المالكية: فإذا زال تغيره بمكاثرة ما لمادة فيه أو يإدخال ماء آخر طهر، وإن زال بنفسه ففي [الإرشاد] : الظاهر عوده إلى أصله، وقيل: إن زال بالنقص المجرد فقولان أيضا. وأما الشافعية: فإنهم يقسمون الماء ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون أكثر من القلتين، والثاني: أن يكون قلتين، والثالث: أن يكون دون القلتين. فإن كان أكثر من قلتين فإنه يطهر بطرق ثلاثة: إضافة ماء إليه يزول به التغير وهذا متفق عليه، أو بأخذ بعضه حتى يزول التغير بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين وهذا بلا خلاف أيضا، أو بزوال التغير بنفسه، بطلوع الشمس والريح أو بدور الزمان، وهذا هو المذهب. وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكر إلا بأخذ بعضه فإنه لا يطهر محل اتفاق. وإن كان دون القلتين وكاثره بماء حتى بلغ قلتين طهر بلا خلاف عندهم. وأما الحنابلة: فهم كالشافعية في تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام، فإن كان أكثر من قلتين وهو غير متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان متغيرا بها طهر بالمكاثرة، وبنزح كثير يزول معه التغير ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدا، وبزوال التغير بمكثه. وإن كان قلتين وهو متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان

متغيرا بها طهر بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغاير أو بتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه. وإن كان دون القلتين وهو متغير طهر بالمكاثرة بقلتين طاهرتين يزول بهما التغير، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة. أما طريقتهم تفصيلا فهي ما يلي:

طريقة الحنفية

أ- طريقة الحنفية: جاء في [بداية المبتدي] وشرحها: وإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت وكذا نزح ما فيها طهارة لها بإجماع السلف، ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس، وإن ماتت فيها فأرة أو عصفورة أو صعوة أو سودانية أو سام أبرص- نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو وصغرها، يعني: بعد إخراج الفأرة، لحديث أنس رضي الله عنه أنه قال: في الفأرة: إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها نزح منها عشرون دلوا، والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها، والعشرون بطريق الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب، فإن ماتت فيها حمامة ونحوها كالدجاجة والسنور: نزح ما بين أربعين دلوا إلى ستين. وفي [الجامع الصغير] : أربعون أو خمسون، وهو الأظهر لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال في الدجاجة: إذا ماتت في البئر نزح منها أربعون دلوا، وهذا لبيان الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب، ثم المعتبر في كل بئر دلوها الذي يستقى به منها، وقيل: دلو يسع فيها صاع ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز؛

لحصول المقصود. وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمي نزح جميع ما فيها من الماء؛ لأن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر لانتشار البلة في أجزاء الماء. وإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء، وطريقة معرفته: أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ أو ترسل فيها قصبة ويجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها عشر دلاء مثلا، ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص فينزح لكل قدر منها عشر دلاء، وهذان عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله، نزح مئتي دلو إلى ثلثمائة، فكأنه بنى قوله على ما شاهد في بلده. وعند أبي حنيفة رحمه الله في [الجامع الصغير] في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء، ولم يقدر القلة بشيء كما هو دأبه، وقيل: يؤخذ بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء، وهذا تشبه بالفقه.

طريقة المالكية

ب- طريقة المالكية: قال الشيخ خليل: وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فأستحسن

الطهورية وعدمها أرجح. وقد شرح الحطاب ذلك فقال: يعني: أن الماء إذا تغير بالنجاسة ثم زال تغيره فلا يخلو؛ إما أن يكون بمكاثرة ماء مطلق خالطه، أم لا: فالأول: طهور باتفاق، قاله في [التوضيح] ، وذلك كالبئر ينزح منها حتى يزول التغير وكالصهريج يتغير بميتة فيترك حتى يكثر ماؤه بمطر ونحوه، وقد جهل أبو محمد بعضهم في قوله في ماجل قليل الماء وقعت فيه فأرة يطيق حتى يكثر ماؤه ثم يشرب، قال: فإن فعل شرب وتجهيله في تأخير طرحه. الثاني: إما أن يكون بإلقاء شيء فيه غير الماء ولم يذكره المصنف، وسيأتي حكمه، أو من نفسه فلا شيء ومنه ما إذا نزع من الماء الذي لا مادة له بعضه فزال تغيره فذكر المصنف تبعا لابن الحاجب وابن شاس وابن بشير وغيرهم في طهوريته قولين: استحسن بعض الشيوخ القول بالطهورية، ورجح ابن يونس عدم الطهورية فاعترض عليه ابن غازي فيما ذكره عن ابن يونس، وفي [التوضيح] بأنه لم يوجد في كلامه إلا الكلام على حكم زوال النجاسة إذا زال عينها بالماء المضاف وسيأتي. وذكر ابن مرزوق في شرحه على المختصر نحو ذلك، وقال ما معناه: إن المصنف حمل كلام ابن يونس على نفس ما نحن فيه فهو وهم، وإن أراد أن يقيسه عليه فبعيد، وقد رأيت كلام ابن مرزوق شرح المفصلين الأولين من المختصر، وفيه نحو ما ذكره ابن غازي، وقال ابن غازي: لم يعرفه ذلك الإمام، ابن عرفة من نقل ابن يونس ولا غيره ممن قبل ابن بشير فقال: وقول ابن بشير في طهورية النجس يزول تغيره بلا نزح قولان

لا أعرفه، فبقي وجدان القولين معا في المذهب، وإن كان لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، ولا يلتفت لما حكى أبو زيد القابسي من رد بعضهم على ابن عرفة بقول ابن يونس لا أن الراد مقلد لخليل في نقله، كالشارح نعم أغفل ابن عرفة ما ذكره ابن رشد في رسم القسمة من سماع عيسى، وذكر بعض كلام ابن رشد، ولنأت بأكثر مما يتضح به المقصود. قال: وسئل ابن وهب عن الجب من ماء السماء تموت فيه الدابة، وننشق والماء كثير لم يتغير منه إلا ما كان قريبا منها، فلما أخرجت وحرك الماء ذهبت الرائحة هل يتوضأ به ويشرب؟ قال: إذا خرجت الميتة فلينزح منه حتى يذهب دسمها والرائحة واللون إن كان به لون إذا كان الماء كثيرا على ما وصفت طاب إذا فعل ذلك به. قال ابن القاسم: الأخير فيه ولم أسمع مالكا رخص فيه قط، ابن رشد قول ابن وهب وهو الصحيح على أصل مذهب مالك الذي رواه المدنيون عنه: أن الماء لا ينجسه إلا ما غير أحد أوصافه على ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في بئر بضاعة. وقد روى ابن وهب وابن أبي أويس عن مالك في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة فمتغير لون الماء وريحه ثم يطيب بعد ذلك: أنه لا بأس به، انتهى، فظهر وجود القولين: أحدهما: قول ابن القاسم فيما نزح بعضه فأحرى إذا لم ينزح منه شيء؛ لأنه لما لم يعتبر ذهاب التغير مع النزح كان عدم اعتباره مع عدم النزح أولى، بناء على أن المعتبر

مخالطة المغير فيجب بقاء حكمه وإن زال التغير، والثاني: رواية ابن وهب وابن أبي أويس وقد صححه ابن رشد، وهو الذي ارتضاه صاحب الطراز وشيخه أبو بكر الطرطوشي بضم الطاءين وبينهما راء، قال الطراز: ولقد عاينت في صهريج دار الشيخ أبي بكر هرا قد انتفخ وتزلع وتغير منه ريح الماء وطعمه ولونه فنزع الهر وترك الصهريج حتى ينزح فأقام شهرا ثم رفع منه الماء فإذا هو سالم الأوصاف، فشرب ذلك الماء في داره، وفيها ما يزيد على سبعين من أهل العلم وطلبته ولم ينزح منه دلو. انتهى. ولعل المصنف أشار إليهما بالاستحسان، ثم إن كليهما فيما لا مادة له أو لم ينزح منه شيء فماله مادة أو نزح بعضه أولى بالطهورية، وانظر ما الذي أنكره ابن عرفة هل القول بالطهورية، أو القول بعدمها؟ وليس في كلامه ما يدل على ذلك صريحا غير أن المتبادر من كلامه إنما هو إنكار القول بالطهورية، كما يفهم ذلك من كلام ابن ناجي في [شرح المدونة] في الكلام على من توضأ من ماء مات فيه دابة، وكذا ذكر ابن الفاكهاني في [شرح الرسالة] القولين وشبهة من عدم الطهورية، ونصه: وأما إن كان المخالط نجسا فإن غير أحد أوصاف الماء فلا خلاف في نجاسته قليلا كان أو كثيرا ما دام متغيرا، فإن زال تغيره بعد فقولان: أحدهما: إنه كالبول فلا ينتقل حكمه، وهو المشهور. والثاني: أنه يرجع إلى أصله من الطهارة أو التطهير، وكذلك إن أزيل بعض الماء وسلمت أوصافه فقولان، انتهى. تنبيهات: وبعد أن ذكر حكم الماء المتغير بطاهر قال: الثاني: إن زال تغيره

بمخالطة ماء مطلق قليل فظاهر كلام المصنف فيه قولان: وقال البساطي في شرحه: ولو جعل المصنف محل النزاع إذا زال التغير بنفسه سلم من المطالبة بالنقل فيما إذا زال بقليل المطلق. وقال في [المغني] بعد أن ذكر الخلاف فيما زال تغيره بنفسه: وألحق الشيخ خليل في مختصره به إذا زال التغير بمطلق يسير وهو في عهدته، انتهى. قلت: وكلام ابن الإمام يقتضي ثبوت الخلاف فيه، فإنه قال: إذا كاثره الطهور حتى غلب عليه وزال به التغير، فالأظهر نفي الخلاف فيه إن انتهى إلى ما لو رفع فيه جملة هذا التغير كان كثيرا، أو ثبوته إن انتهى إلى ما لو وقع فيه كان قليلا. وقد أطلق بعض من تكلم على هذه المسألة القول بطهوريته عند ذهاب التغير بالتكاثر ولا ينفى؛ لأن هذا الماء لما تغير لنجاسة كان نجسا فطروء ماء عليه كطروئه عليه فيجب لذلك أن يراعى كثرته وقلته، انتهى المقصود (¬1) وقال ابن المواق على قول خليل: وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فأستحسن الطهورية، وعدمها أرجح (قال ابن عرفة: قول ابن بشير في طهوريته النجس يزول تغيره بلا نزح قولان لا أعرفه. والذي ينبغي أن تكون به الفتوى، هو قول مالك في رواية ابن وهب وابن أبي أويس عنه في جباب تحفر بالمغرب فتسقط فيها الميتة فتغير ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (1\ 84) وما بعدها.

لونه وريحه لم يطيب الماء بعد ذلك أنه لا بأس به) . انتهى، فترك نقل هذه الرواية ونقل غيرها قصور (¬1) ¬

_ (¬1) [التاج والإكليل شرح مختصر خليل] (1\ 84) .

طريقة الشافعية

ج- طريقة الشافعية: قال الشيرازي: إذا أراد تطهير الماء النجس نظر، فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر بأن يزول التغير بنفسه، وبأن يضاف إليه ماء آخر، وبأن يؤخذ بعضه؛ لأن النجاسة بالتغير وقد زال. وقال النووي شرحا لذلك: إذا زال تغير الماء النجس وهو أكثر من قلتين نظر؛ إن زال بإضافة ماء آخر إليه طهر بلا خلاف، سواء كان الماء المضاف طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا، وسواء صب الماء عليه أو نبع عليه، وإن زال بنفسه- أي: بأن لم يحدث فيه شيئا، بل زال تغيره بطلوع الشمس أو الريح أو مرور الزمان- طهر أيضا على المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى المتولي عن أبي سعيد الإصطخري: أنه لا يطهر؛ لأنه شيء نجس فلا يطهر بنفسه، وهذا ليس بشيء؛ لأن سبب النجاسة التغير، فإذا زال طهر لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس (¬1) » ، وإن زال بأخذ بعضه طهر بلا خلاف، بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف، ويتصور زوال تغيره بأخذ بعضه بأن يكون كثيرا لا يدخله الريح، فإذا نقص دخلته وقصرته، وكذا الشمس فيطيب (¬2) . ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن أبو داود الطهارة (63) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، سنن الدارمي الطهارة (731) . (¬2) [المجموع شرح المهذب] (1\ 183) وما بعدها.

وقال الشيرازي أيضا: وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه إلا بأخذ بعضه، فإن لم يطهر؛ لأنه نقص عن القلتين وفيه نجاسة. وعلق النووي عليه فقال: هذا الذي قاله متفق عليه. وقال الشيرازي أيضا: وإن كانت نجاسته بالقلة بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة، وإن لم يبلغ قلتين طهر كالأرض النجسة طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة، ومن أصحابنا من قال: لا يطهر؛ لأنه دون القلتين وفيه نجاسة، والأول: أصح؛ لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، وههنا ورد الماء عليها فلم ينجس إذ لو نجس لم يطهر الثوب إذا صب عليه الماء. وعلق النووي على ذلك فقال: أما المسألة الأولى: وهي إذا كاثره فبلغ قلتين فيصير طاهرا مطهرا بلا خلاف، سواء كان الذي أورده عليه طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬1) » . . . . وأما المسألة الثانية: وهي إذا كوثر بالماء ولم يبلغ قلتين فهل يطهر، فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف. وذكر دليلهما وهما مشهوران، لكن الأصح عند المصنف وسائر العراقيين: أنه يطهر، وبه قطع منهم شيخهم أبو حامد، وهو قول ابن سريج، والصحيح عند الخراسانيين: لا يطهر، وبه قطع منه القاضي حسين. وقال إمام الحرمين: وإن صح عند ابن سريج قوله بالطهارة فهو من هفواته، إذ لا معنى لغسل الماء من غير أن يبلغ قلتين، قال: فلا يتمارى ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .

في فساده، وكذا صحح البغوي والرافعي عن الطهارة، وهو الأصح (¬1) . ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (1\188)

طريقة الحنابلة

د- طريقة الحنابلة: قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة: في تطهير الماء النجس: هو ثلاثة أقسام: القسم الأولى: أحدها: ما دون القلتين فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين: إما أن يصب فيه، أو ينبع فيه فيزول بها تغيره إن كان متغيرا، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة؛ لأن القلتين لا تحمل الخبث ولا تنجس إلا بالتغير؛ ولذلك لو ورد عليها ماء نجس لم ينجسها ما لم يتغير به، فكذلك إذا كانت واردة، ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلطتا به. القسم الثاني: أن يكون وفق القلتين: فلا يخلو من أن يكون غير متغير بالنجاسة فيطهر بالمكاثرة المذكورة لا غير، الثاني: أن يكون متغيرا فيطهر بأحد أمرين: بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير، وبتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه. القسم الثالث: الزائد عن القلتين فله حالان: أحدهما: أن يكون نجسا بغير التغير فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة. الثاني: أن يكون متغيرا بالنجاسة فتطهيره بأحد أمور ثلاثة: المكاثرة، أو زوال تغيره بمكثه، وأن ينزح منه ما يزول به التغير، ويبقى بعد ذلك

قلتان فصاعدا، فإنه إن بقي ما دون القلتين قبل زوال تغيره لم يبق التغير علة تنجيسه؛ لأنه تنجس بدونه، فلا يزول التنجيس بزواله؛ ولذلك طهر الكثير بالنزح وطول المكث ولم يطهر القليل، فإن الكثير لما كانت علة تنجيسه التغير زال تنجيسه بزوال علته، كالخمرة إذا انقلبت خلا والقليل علة تنجيسه الملاقاة لا التغير فلم يؤثر زوال التنجيس، انتهى. ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كلام في قاعدة التطهير للمياه وعدم الفرق بين المياه والمائع. والجواب على شبهة من فرق بينهما - قال: إذا عرف أصل هذه المسألة فالحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة فإذا زالت بفعل الله تعالى طهرت بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خل خمر من أهل الذمة إذا لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها؛ وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة. وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة.

وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأن إفسادها ليس بمحرم كما لا يحد شاربها؛ لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها. والماء لنجاسته سببان: (أحدهما) : متفق عليه، والآخر مختلف فيه، فالمتفق عليه: التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرا كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرا (والثاني) : القلة، فإذا كان الماء قليلا ووقعت فيه نجاسة ففي نجاسته قولان للعلماء: فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه: أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه: يستثني البول والعذرة المائية، فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه، ومذهب أبي حنيفة: ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة: أنه لا ينجس ولو لم يبلغ قلتين. واختار هذا القول بعض الشافعية كالروياني. وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي، كما نصر الأول طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولم يحدوا ذلك بقلتين. وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول: فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير، ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك كما قاله الزهري وغيره، فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير، كما ذكره البخاري في

[صحيحه] ، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء. وكذلك في المائعات إذا سويت به. فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين وصار الجميع كثيرا فوق القلتين ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد: (أحدهما) : وهو مذهب الشافعي في الماء: أن الجميع طاهر. (والوجه الثاني) : أنه لا يكون طاهرا حتى يكون المضاف كثيرا والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا، وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل. وفي ذلك الوجهان المتقدمان، وهذا القول الذي ذكرناه في المائعات كالماء هو الأظهر في الدلالة، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجس الأشربة والأطعمة؛ ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، كما جاء في الحديث، ولم يأمر مالك بإراقته من الأطعمة والأشربة واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك؛ وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم، فإن في نجاستها من المشقة والحرج ما لا يخفى على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة والحرج في ذلك أشق؟ !

ولعل المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة. (فإن قيل) : الماء يدفع النجاسة عن غيره فعن نفسه أولى وأحرى بخلاف المائعات. (قيل) : الجواب من وجوه: (أحدها) : أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا سقطت فيه فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه، لا لكونه أزالها عن نفسه؛ ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، فإذا كانت كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زال معها أن يزيلها إذا كانت فيه. ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل وتلك نجسة قبل طهارة المحل. وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة أو مطهرة أو نجسة. وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه وإن كان يزيلها عن غيره، كما ذكرناه. فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء (¬1) » ، وقوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (¬2) » ، فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره، علم أنه لا ينجس بالملاقاة، إذ لو نجس بها لكان إذا صب على النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت وإن استحالت زالت، فدل ذلك ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (326) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/86) . (¬2) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .

على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس وإن لم تكن قد زالت عن المحل فإن من قال: إنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة. وهذا المعنى يوجد في سائر الأشربة من المائعات وغيرها. الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أنه يقتضي أن يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وأحمد جعله لازما لمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة؛ وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، كما ذكروه في الماء فيلزم جواز إزالة النجاسات بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول. وهذا هو القياس، فنقول به على هذا التقدير، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره؛ لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال: إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء: أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقا، وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات. وفي الجملة التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات وفي مسألة ملاقاتها للمائعات: الماء وغير الماء. ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية - تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة

وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس، ومن كان فقيها خبيرا بمأخذ الأحكام الشرعية وأزال عنه الهوى تبين له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فساد فإنه ينهى عن ذلك، كما كان ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها، ونحو ذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بعض أسفاره مع الصحابة فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر ظهورهم، فأذن لهم، ثم أتى عمر رضي الله عنه فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقي الظهر، ففعل ذلك. فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا لأن الإبل محرمة؛ فلهذا ينهى عما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات. (الوجه الثالث) : أن يقال: إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما يقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى. (الوجه الرابع) : أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا

لون ولا ريح فلا نسلم بأن يقال بنجاسته أصلا، كما في الخمر المنقلبة أو أبلغ وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة. فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر، كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ووجه في مذهب الشافعي. (الوجه الخامس) : إن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره. فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر الأرض؟ على قولين: أحدهما: تطهر: وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل. فإنه قد ثبت عن ابن عمر أنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك، وفي [السنن] أنه قال: «إذا أتى أحدكم المسجد لينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور (¬1) » . وكان الصحابة - كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره - يخوضون في الوحل ثم يدخلون فيصلون بالناس ولا يغسلون أقدامهم. وأوكد من هذا «قوله صلى الله عليه وسلم في ذيول النساء إذا أصابت أرضا طاهرة بعد أرض خبيثة: " فتلك بتلك "، وقال: " يطهره ما بعده (¬2) » . وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نص عليه أحمد ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الصلاة (650) ، مسند أحمد بن حنبل (3/20) ، سنن الدارمي الصلاة (1378) . (¬2) سنن الترمذي الطهارة (143) ، سنن أبو داود الطهارة (383) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (531) ، مسند أحمد بن حنبل (6/290) ، موطأ مالك الطهارة (47) ، سنن الدارمي الطهارة (742) .

في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها كريم (¬1) بن يعقوب الجوزجاني، وهي من أجل المسائل؛ وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة فصارت كأسفل الخف وكمحل الاستنجاء. فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة كما في الاستنجاء بالأحجار وجعل الجامد طهورا - علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء (¬2) . وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة فالمائعات أولى وأحرى؛ لأن إحالتها أشد وأسرع. ¬

_ (¬1) في نسخة إبراهيم. (¬2) [المجموع] (21\503) وما بعدها.

الاستحالة برمي تراب ونحوه فيها

2 - الاستحالة برمي تراب ونحوه فيها: اختلف أهل العلم في ذلك: فمنهم من قال بعدم الطهارة. ومنهم من قال بالطهارة. وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة: أما القائلون: بأنه لا يطهر: فبعض الشافعية وبعض الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم. قال الشيرازي: وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان. وقال النووي في [شرح المهذب] : وصحح الأكثرون: أنه لا يطهر وهو المختار. وقيد النووي صورة المسألة بأن يكون بكدر ولا تغير له أما إذا صفا فلا يبقى خلاف، بل إن كان التغير موجودا فنجس قطعا وإلا

فطاهر قطعا، صرح به المتولي وغيره، ولا فرق بين أن يكون التغير بالطعم أو اللون أو الرائحة، ففي الجميع قولان (¬1) . وقال ابن قدامة: وإن كوثر بماء يسير أو بغير الماء فأزال التغير لم يطهر. قال في [المبدع] تعليقا على ذلك: أي طهور أو بغير الماء كالتراب والخل ونحوهما لا مسك فأزال التغير لم يطهر على المذهب (¬2) ، وقال المرداوي: اعلم أن الماء النجس تارة يكون كثيرا وتارة يكون يسيرا، فإن كان كثيرا وكوثر بماء يسير أو بغير الماء لم يطهر على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، انتهى المقصود (¬3) . واستدل لهذا: بأنه كما أنه لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة فلا يطهر هنا، ونوقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الكافور يجوز أن تكون الرائحة باقية فيه دائما لم تظهر لغلبة رائحة الكافور والمسك، ذكر ذلك الشيرازي في [المهذب] . واستدل أيضا: بأنه وقع الشك في زوال التغير، وإذا وقع الشك في سبب الإباحة، لم تثبت الإباحة، كما لو رأى شاة مذبوحة في موضع فيه مسلمون ومجوس، وشك هل ذبحها المجوسي أو المسلم لا تباح، ذكر ذلك النووي في شرح المهذب] ، وبأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره من باب أولى، ذكره في [المبدع] . ¬

_ (¬1) [المهذب] وشرحه (1\ 185) . (¬2) [الإنصاف] (1\ 66) . (¬3) [المبدع] (1\ 63) وما بعدها.

وبأنه يستر النجاسة، قاله ابن عقيل نقله عنه صاحب المبدع. القول الثاني: أنه طاهر: وهذا قول المالكية إذا لم تظهر فيه أوصاف الملقى، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. جاء في [مواهب الجليل] : وأما إذا زال التغير بإلقاء تراب فيه أو طين، فقال في [الطراز] : إن لم يظهر فيه لون الطين ولا ريحه ولا طعمه وجب أن يطهر. انتهى (¬1) . وقال الشيرازي: وقال - أي: الشافعي - في حرملة يطهر، وهو الأرجح (¬2) . وعلق النووي على ذلك فقال: اختلف المصنفون في الأصح من القولين، فصحح المصنف هنا، وفي التنبيه، وشيخه القاضي أبو الطيب وأبو العباس الجرجاني والشاشي وغيرهم الطهارة، وهو اختيار المزني والقاضي أبي حامد (¬3) . وقال ابن قدامة: ويتخرج أن يطهر (¬4) . وعلق على ذلك صاحب [المبدع] فقال: وقاله بعض أصحابنا (¬5) . واستدل لذلك: بأن علة النجاسة زالت وهي التغير، أشبه ما لو زال بالمكاثرة (¬6) ، وبأنه لو زال بطول المكث طهر، فأولى أن يطهر، إذا كان ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل] (1\ 85) . (¬2) [المهذب] ومعه [المجموع] (1\ 185) . (¬3) [المجموع] ومعه [المهذب] (1\ 185) . (¬4) [المقنع] وعليه [المبدع] (1\ 63) . (¬5) [المبدع] ومعه [المقنع] (1\ 63) . (¬6) [المبدع] (1\ 63) .

يطهر بمخالطته لما دون القلتين (¬1) . ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (1\ 66) .

الاستحالة بسقي النباتات بها وشرب الحيوانات إياها

3 - الاستحالة بسقي النباتات بها وشرب الحيوانات إياها: أما الاستحالة بسقي النبات بها فقد تكلم أهل العلم في حكم ذلك: فمنهم من قال: إن هذه الزروع طاهرة مباحة، ومنهم من قال: إنها نجسة محرمة. وممن قال بطهارتها: أبو حنيفة، وبعض المالكية، والشافعي، وهو قول في مذهب أحمد قال ابن المواق على قول خليل: (وزرع بنجس) ابن يونس: القمح النجس يزرع فينبت هو طاهر، وكذلك الماء النجس يسقى به شجر أو بقل، فالثمرة والبقلة طاهرتان (¬1) . وقال ابن قدامة: قال ابن عقيل: يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها. . . وهذا قول أكثر الفقهاء منهم: أبو حنيفة، والشافعي (¬2) . واستدل لهذا بالأثر والمعنى: أما الأثر: فهو أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يدمل أرضه بالعذرة ويقول: مكتل عرة مكتل بر. قال ابن قدامة: والعرة: عذرة الناس، استدل بهذا الأثر ابن قدامة (¬3) . وأما المعنى: فإن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة كالدم ¬

_ (¬1) ابن المواق على متن خليل (1\ 97) ومعه [مواهب الجليل] . (¬2) [المغني] ومعه [الشرح] (11\ 72، 73) . (¬3) [المغني] ومعه [الشرح] (11\ 72، 73) .

يستحيل في أعضاء الحيوان ويصير لبنا (¬1) . القول الثاني: إنها لا تطهر: وهو المقدم عند الحنابلة، وبه قال من وافقهم من أهل العلم. قال ابن قدامة: وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات وسمدت بها (¬2) . وقال المرداوي على قول ابن قدامة: (وما سقي بالماء النجس من الزروع والثمر محرم) قال: وينجس بذلك، وهو المذهب نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب (¬3) . وقيد ذلك [بالمغني] فقال: فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات كالجلالة، إذا حبست وأطعمت الطاهرات (¬4) . واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى. أما السنة: فما ذكره ابن قدامة في [المغني] ، قال: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس. وأما المعنى: فإنها تتغذى بالنجاسات وتترقى فيها أجزاؤها والاستحالة لا تطهر (¬5) . ¬

_ (¬1) [المغني] ومعه [الشرح] (11\ 72، 73) . (¬2) [الإنصاف] (2\ 10، 367) . (¬3) [المغني] ومعه الشرح (11\ 72، 73) . (¬4) [المغني] ومعه الشرح (11\ 72، 73) . (¬5) [المغني] ومعه الشرح (11\ 72، 73) .

وأما شرب الحيوانات إياها، فإننا نذكر كلام العلماء وأدلتهم في حكم لحوم الجلالة وألبانها مع المناقشة: ومن أوسع ما جاء في ذلك: ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله - قال: قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها. قال القاضي في [المجرد] : هي التي تأكل القذر، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها وفي بيضها روايتان، وإن كان يكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها، وتحديد الجلالة بكونه أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد، ولا هو ظاهر كلامه، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير. وقال الليث: إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع. وقال ابن موسى: في الجلالة روايتان: إحداهما: أنها محرمة: والثانية: أنها مكروهة غير محرمة، وهذا قول الشافعي، وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس، ورخص الحسن في لحومها وألبانها؛ لأن الحيوانات لا تنجس بأكل النجاسات بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجس أعضائه، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس. ولنا ما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها (¬1) » رواه أبو داود، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة، وأن يؤكل لحمها ولا يحمل عليها إلا الأدم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» رواه الخلال ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الأطعمة (1824) ، سنن أبو داود الأطعمة (3785) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3189) .

بإسناده، ولأن لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة. وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه، وإنما يتغذى الطاهرات وكذلك الكافر في الغالب، وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا. واختلف في قدره: فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثا، سواء أكانت طائرا أو بهيمة، وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا، وهذا قول أبي ثور؛ لأن ما طهر حيوانا طهر الآخر كالذي نجس ظاهره. والأخرى تحبس الدجاجة ثلاثا، والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين، وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة؛ لحديث عبد الله بن عمرو، ولأنهما أعظم جسما وبقاء علفهما فيهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير. ومن هذا تبين: أن القول بطهارة النجاسات والمياه بالاستحالة في الحيوانات والنباتات إلى لحم وعظم ولبن وغير ذلك - هو قول أكثر الفقهاء، لتغيرها من فساد إلى صلاح وتبدل حقيقتها الخبيثة إلى حقيقة أخرى يشملها وصف الطيب في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (¬1) وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬2) فكان ما تولد عنها بالاستحالة طاهرا حلالا أكله وشربه. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 157 (¬2) سورة المائدة الآية 4

حكم استعمال مياه المجاري بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة منها

4 - حكم استعمال مياه المجاري بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة منها: مما تقدم يتبين: أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره

بصب ماء طهور فيه باتفاق، أو بطول مكث، أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه، أو برمي تراب ونحوه فيه على الراجح عند الفقهاء؛ لزوال الحكم بزوال علته. وعلى هذا: فإذا كانت مياه المجاري المتنجسة - وهي بلا شك كثيرة - تتخلص بالطرق الفنية الحديثة مما طرأ عليها من النجاسات، فإنه يمكن حينئذ أن يحكم بطهارتها لزوال علة تنجسها، وهي تغير لونها أو طعمها أو ريحها بالنجاسة، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما وبذلك تعود هذه المياه إلى أصلها، وهو الطهورية ويجوز استعماله في الشرب ونحوه وفي إزالة الأحداث والأخباث وتحصل بها الطهارة من الأحداث والأخباث، إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع استعمالها فيما ذكر محافظة على النفس، وتفاديا للضرر، لا لنجاستها ولكن لو استعملها في إزالة الأحداث أو الأخباث صحت الطهارة. وينبغي للمسلمين أن يستغنوا عن ذلك ويجتنبوه اكتفاء بالمياه الأخرى ما وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ احتياطا للصحة، واتقاء للضرر، وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع والفطر السليمة. هذا ما تيسر، وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار بشأن حكم استعمال مياه المجاري بعد تنقيتها للوضوء

قرار رقم (64) في 25 \ 10 \ 1398هـ الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة الثالثة عشرة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الآخر من شهر شوال 1398 هـ بمدينة الطائف، وبناء على رغبة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في إحالة موضوع الاستفتاء الوارد إلى الرابطة من رئيس تحرير جريدة (مسلم نيوز) الصادرة بكيب تون إلى هيئة كبار العلماء؛ لإعداد بحث في الموضوع، وتقرير ما تراه الهيئة نحوه، والمتضمن الإفادة بأن المسلمين في تلك الجهة يواجهون مشكلة كبيرة بسبب ما أقدم عليه مجلس مشروع التحقيقات العالمية والصناعية الذي يعمل على إنتاج ماء للشرب النقي من مياه المجاري، وأنهم يسألون عن حكم استعمال هذه المياه بعد تنقيتها للوضوء. بناء على ذلك فقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، كما اطلع المجلس على خطاب معالي وزير الزراعة والمياه رقم (1\ 1299) وتاريخ 30 \ 5 \ 1398 هـ وبعد البحث والمداولة والمناقشة قرر المجلس ما يلي: بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه، أو بإضافة ماء طهور إليه أو زال تغيره بطول مكث، أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته. وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات، بواسطة

الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات، كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم. لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يرى فيها تغير بنجاسة من طعم ولا لون ولا ريح، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك؛ محافظة على النفس، وتفاديا للضرر لا لنجاستها. والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل؛ احتياطا للصحة، واتقاء للضرر، وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع. والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة: محمد بن علي الحركان عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... عبد الرزاق عفيفي راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

جباية الزكاة

(5) جباية الزكاة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم جباية الزكاة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة العاشرة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض، في آخر ربيع الأول وأول ربيع الثاني - عام 1397 هـ، من إدراج موضوع جباية الزكاة، واللائحة التنفيذية للجباية، الوارد من المقام السامي برفق خطابه رقم 3 \ ش \ 293 وتاريخ 4 \ 1 \ 1397 هـ، وأن اللجنة تعد في ذلك بحثا يعرض على الهيئة في الدورة الحادية عشرة - كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بحثا مختصرا مشتملا على العناصر الآتية: 1 - حق ولي الأمر في تولي جباية الزكاة من الأموال الباطنة. 2 - النظر في زكاة عروض التجارة. 3 - زكاة الديون التي للإنسان على غيره. 4 - الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة؟ 5 - التعزير بالمال.

وفيما يلي الكلام على هذه العناصر تباعا، والله الموفق.

حق ولي الأمر في تولي جباية الزكاة من الأموال الباطنة

أولا: حق ولي الأمر في تولي جباية الزكاة من الأموال الباطنة: قد يكون الإمام عادلا، وقد يكون جائرا، وقد يكون جوره في توزيعها، وقد يكون في سائر عمله، وفي كل ذلك قد يطلبها، وقد يدفعها صاحبها إليه بدون طلب. وفيما يلي نقول مختصرة عن فقهاء الإسلام في ذلك مع ما ذكروه من الأدلة والمناقشة. 1 - النقول من كتب الحنفية: أ - قال الكاساني: وأما المال الباطن الذي يكون في المصر فقد قال عامة مشايخنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طالب بزكاته وأبو بكر وعمر طالبا وعثمان طالب زمانا ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجا على الأمة وفي تفتيشها ضررا بأرباب الأموال فوض الأداء إلى أربابها. وذكر إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي - رحمه الله - وقال: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة، ولكن الناس يعطون ذلك، ومنهم من يحمل إلى الأئمة فيقبلون منه ذلك، ولا يسألون أحدا عن مبلغ ماله، ولا يطالبونه بذلك إلا ما كان من توجيه عمر رضي الله عنه العشار إلى الأطراف، وكان ذلك منه عندنا - والله أعلم - عمن بعد داره وشق عليه أن يحول صدقته إليه، وقد جعل في كل طرف من الأطراف عاشرا لتجار أهل الحرب والذمة، وأمر أن يأخذوا من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه، وكان ذلك من عمر تخفيفا على المسلمين، إلا أن على الإمام مطالبة أرباب الأموال

العين وأموال التجارة بأداء الزكاة إليهم سوى المواشي والأنعام، وأن مطالبة ذلك إلى الأئمة إلا أن يأتي أحدهم إلى الإمام بشيء من ذلك فيقبله، ولا يتعدى عما جرت به العادة والسنة إلى غيره، انتهى المقصود (¬1) . ب - قال الزيلعي: وأما أخذ الصدقات فإلى الإمام، كذا كان من أيامه عليه الصلاة والسلام وفي زمن أبي بكر وعمر، وفوض عثمان إلى أربابها في الأموال الباطنة إذا لم يمر بها على العاشر، فبقي ما وراءه على الأصل، وروي أن عمر أراد أن يستعمل أنس بن مالك على هذا العمل، فقال له: «أتستعملني على المكس من عملك؟ فقال: أفلا ترضى أن أقلدك ما قلدنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬2) . ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2\ 3635) ، ويرجع أيضا إلى [حاشية ابن عابدين] (2\ 5) . (¬2) [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] (1\ 282) .

النقول من كتب المالكية

2 - النقول من كتب المالكية: أ - جاء في [المدونة] : وقال مالك: إذا كان الإمام يعدل لم يسع الرجل أن يفرق زكاة ماله الناض ولا غير ذلك، ولكن يدفع زكاة الناض إلى الإمام ويدفعه الإمام، انتهى المقصود. ب - قال ابن المواق: وأما عدم إجزاء الزكاة إن طاع لدفعها لجائر. فقال ابن العربي: هل يجوز أن يحتجز من زكاته عن الوالي ما يعطى للمحتاج؟

قولان: وبالجواز أقول؛ لأنه قادر على استخراج حق مسلم من يد غاصب فوجب عليه شرعا. اللخمي: إذا كان الإمام غير عدل ومكنه صاحبه منها مع القدرة على إخفائها عنه لم تجزه ووجب إعادتها، انتهى. ونحو هذا عبارة التونسي. ابن رشد: الأصح قوله في [المدونة] وأحد قوليه في سماع عيسى وقول ابن وهب وأصبغ: أن ما يأخذه الولاة من الصدقات تجزئ وإن لم يضعوها موضعها؛ لأن دفعها إليهم واجب لما في منعنا من الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، فإذا وجب أن تدفع إليهم وجب أن تجزئ. انتهى المقصود. ج - قال القرطبي: وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غيره، وقد قيل: إن زكاة الناض على أربابه. وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين خاصة، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف فلا يفرق عليهم إلا الإمام. انتهى (¬1) . د - وقال القرطبي على قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2) اختلف في هذه الصدقة المأمور بها: فقيل: هي صدقة الفرض. ¬

_ (¬1) [الجامع لأحكام القرآن] للقرطبي (8\ 177) . (¬2) سورة التوبة الآية 103

قاله جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل: هو مخصوص بمن نزلت فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث؛ متمسكا بحديث أبي لبابة. وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته، وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق، وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها: التطهير والتزكية والصلاة علينا، وقد عدمناها من غيره. ونظم في ذلك شاعرهم فقال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا ... فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر سنمنعهم ما دام فينا بقية ... كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. قال ابن العربي: أما قولهم: إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين؛ فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا، ولكن اختلف موارده: فمنها

خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬1) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬2) ونحوه. ومنها: خطاب خص به ولم يشركه فيه غيره لفظا ولا معنى، كقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} (¬3) وقوله: {خَالِصَةً لَكَ} (¬4) ومنها: خطاب خص به لفظا وشركه جميع الأمة معنى وفعلا، كقوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬5) الآية. وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬6) وقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬7) فكل من دلكت عليه الشمس مخاطب بالصلاة. وكذلك كل من قرأ القرآن مخاطب بالاستعاذة، وكذلك كل من خاف يقيم الصلاة (بتلك الصفة) . ومن هذا القبيل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬8) وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (¬9) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 6 (¬2) سورة البقرة الآية 183 (¬3) سورة الإسراء الآية 79 (¬4) سورة الأحزاب الآية 50 (¬5) سورة الإسراء الآية 78 (¬6) سورة النحل الآية 98 (¬7) سورة النساء الآية 102 (¬8) سورة التوبة الآية 103 (¬9) سورة الأحزاب الآية 1

و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1) (¬2) . وقال أيضا في تفسير قول تعالى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (¬3) هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها، وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت، وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬4) ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم (¬5) . ¬

_ (¬1) سورة الطلاق الآية 1 (¬2) [الجامع لأحكام القرآن] (8\244، 245) (¬3) سورة التوبة الآية 104 (¬4) سورة التوبة الآية 103 (¬5) [الجامع لأحكام القرآن] (8\251) .

النقول من كتب الشافعية

3 - النقول من كتب الشافعية أ - جاء في [الأم] تحت عنوان: (باب جماع قسم المال من الوالي ورب المال) : قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: وجميع ما أخذ من مسلم من صدقة فطر وخمس ركاز وزكاة معدن وصدقة ماشية وزكاة مال وعشر زرع وأي أصناف الصدقات أخذ من مسلم - فقسمه واحد على الآية التي في براءة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (¬1) الآية. لا يختلف، وسواء قليلة وكثيرة على ما وصفت، فإذا قسمه الوالي ففيه سهم العاملين منه ساقط؛ لأنه لا عامل عليه يأخذه فيكون له أجره فيه والعاملون فيه عدم، فإن قال رب المال: فأنا إلى أخذه من نفسي وجمعه وقسمه فآخذ أجر ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60

مثلي قيل: إنه لا يقال لك: عامل نفسك، ولا يجوز لك إذا كانت الزكاة فرضا عليك أن يعود إليك منها شيء، فإن أديت ما كان عليك أن تؤديه وإلا كنت عاصيا لو منعته، فإن قال: فإن وليتها غيري قيل: إذا كنت لا تكون عاملا على غيرك لم يكن غيرك عاملا إذا استعملته أنت ولا يكون وكيلك فيها إلا في معناك أو أقل؛ لأن عليك تفريقها فإذا تحقق منك فليس لك الانتقاص منها لما تحققت بقيامه بها، قال: ولا أحب لأحد من الناس يولي زكاة ماله غيره؛ لأن المحاسب بها المسئول عنها هو فهو أولى بالاجتهاد في وضعها مواضعها من غيره، وأنه على يقين من فعل نفسه في أدائها، وفي شك من فعل غيره، لا يدري أداها عنه أو لم يؤدها، فإن قال: أخاف حبائي فهو يخاف من غيره مثل ما يخاف من نفسه، ويستيقن فعل نفسه في الأداء ويشك في فعل غيره. انتهى (¬1) . ب - قال الشيرازي: ويجوز لرب المال أن يفرق زكاة الأموال الباطنة بنفسه وهو الذهب والفضة وعروض التجارة والركاز، لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عنده دين فليقض دينه ثم ليزك بقية ماله، ويجوز أن يوكل من يفرق؛ لأنه حق مال جاز أن يوكل في أدائه كدين الآدميين، ويجوز أن تدفع إلى الإمام؛ لأنه نائب عن الفقراء، فجاز الدفع إليه كولي اليتيم. وفي الأفضل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأفضل أن يفرق بنفسه وهو ظاهر النص؛ لأنه على بينة من ¬

_ (¬1) [الأم] (2\66) .

أدائه وليس على ثقة من أداء غيره. الثاني: أن الأفضل أن يدفع إلى الإمام عادلا كان أو جائزا؛ لما روي «أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف: كيف تصنع في صدقة مالي؟ قال: منها ما أتصدق به، ومنها ما أدفع إلى السلطان، فقال: وفيم أنت من ذلك؟ فقال: إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون بها النساء، فقال: ادفعها إليهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم» ، ولأنه أعرف بالفقراء وقدر حاجاتهم، ومن أصحابنا من قال: إن كان عادلا فالدفع إليه أفضل، وإن كان جائرا فتفرقته بنفسه أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن سألها على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقه فلا يعطه (¬1) » ، ولأنه على ثقة من أدائه إلى العادل وليس على ثقة من أدائه إلى الجائر؛ لأنه ربما صرفها في شهواته (¬2) . ج - وقال النووي: الأثر المذكور عن عثمان صحيح رواه البيهقي في [سننه الكبير] في كتاب الزكاة في باب الدين مع الصدقة بإسناد صحيح عن الزهري عن السائب بن يزيد الصحابي: أنه سمع عثمان بن عفان خطيبا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا شهر زكاتكم، فمن كان منكم عليه دين فليقض دينه حتى تخلص أموالكم فتؤدوا منها الزكاة) . قال البيهقي: ورواه البخاري في [الصحيح] عن أبي اليمان عن شعيب، وينكر على البيهقي هذا القول؛ لأن البخاري لم يذكره في [صحيحه] ، هكذا. وإنما ذكر عن السائب بن يزيد أنه سمع عثمان بن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الزكاة (1454) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2455) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1567) ، مسند أحمد بن حنبل (1/12) . (¬2) [المهذب] وعليه [المجموع] (6\161) .

عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على هذا ذكره في كتاب الاعتصام في ذكر المنبر. وكذا ذكره الحميدي في [الجمع بين الصحيحين] عن البخاري كما ذكرته، ومقصود البخاري به إثبات المنبر، وكأن البيهقي أراد أن البخاري روى أصله لا كله. والله أعلم. وأما حديث المغيرة فرواه البيهقي في [السنن الكبير] بإسناد فيه ضعف يسير، وسمى في روايته مولى المغيرة، فقال: هو هنيد - يعني: بضم الهاء - وهو هنيد الثقفي مولى المغيرة. وأما الحديث الآخر: فمن سئلها على حقها فهو صحيح في [صحيح البخاري] لكن المصنف غيره هنا وفي أول باب صدقة الإبل: وقد سبق بيانه هناك، وقد جاءت أحاديث وآثار في هذا المعنى منها: عن جرير بن عبد الله قال: «جاء أناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أناسا من المصدقين يأتوننا فيظلموننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضوا مصدقيكم (¬1) » رواه مسلم في [صحيحه] . وعن أنس رضي الله عنه: «أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله؟ ! ، فقال: " نعم، إن أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، ولك أجرها وإثمها على من بدلها (¬2) » رواه الإمام أحمد بن حنبل في [مسنده] . وعن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: اجتمع عندي نفقة فيها صدقة - يعني: بلغت نصاب الزكاة - فسألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري أن أقسمها أو أدفعها إلى السلطان، فأمروني جميعا أن أدفعها إلى السلطان ما اختلف علي منهم أحد، وفي رواية ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الزكاة (989) ، سنن الترمذي الزكاة (647) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2460) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1589) ، سنن الدارمي الزكاة (1670) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل (3/136) .

فقلت لهم: هذا السلطان يفعل ما ترون، فأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم، فادفعها، رواهما الإمام سعيد بن منصور في [سننه] . وعن جابر بن عتيك الصحابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن ظلموا فعليها، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم (¬1) » رواه أبو داود، والبيهقي وقال: إسناده مختلف. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها) رواه البيهقي بإسناد صحيح أو حسن، وعن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال: ادفعوها إليهم وان شربوا بها الخمر. رواه البيهقي بإسناد صحيح أو حسن. قال البيهقي: وروينا في هذا عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، ومما جاء في تفريقها بنفسه ما رواه البيهقي بإسناد عن أبي سعيد المقبري واسمه كيسان قال: جئت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمائتي درهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه زكاة مالي، قال: وقد عتقت؟ قلت: نعم، قال: اذهب بها أنت فاقسمها، والله أعلم. وأما قول المصنف: لأنه حق مال فاحتراز من الصلاة ونحوها. (وقوله) : لأنه مال للإمام فيه حق المطالبة احتراز من دين الآدمي. (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل: (إحداها) : قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله تعالى -: للمالك أن يفرق زكاة ماله الباطن بنفسه. وهذا لا خلاف فيه، ونقل أصحابنا فيه ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1588) .

إجماع المسلمين، والأموال الباطنة هي الذهب الفضة والركاز وعروض التجارة وزكاة الفطر، وفي زكاة الفطر وجه أنها من الأموال الظاهرة، حكاه صاحب [البيان] وجماعة، ونقله صاحب [الحاوي] عن الأصحاب، ثم اختار لنفسه أنها باطنة، وهذا هو المذهب وبه قطع جمهور الأصحاب منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي في كتابيه وصاحب الشامل والبغوي وخلائق وهو ظاهر نص الشافعي. وهو المشهور وبه قطع الجمهور، ذكر أكثرهم المسألة في باب زكاة الفطر. قال أصحابنا: وإنما كانت عروض التجارة من الأموال الباطنة وإن كانت ظاهرة؛ لكونها لا تعرف أنها للتجارة أم لا فإن العروض لا تصير للتجارة إلا بشروط سبقت في بابها. والله أعلم. الثانية: له أن يوكل في صرف الزكاة التي له تفريقها بنفسه، فإن شاء وكل في الدفع إلى الإمام والساعي، وإن شاء في التفرقة على الأصناف، وكلاهما جائز بلا خلاف، وإنما جاز التوكيل في ذلك مع أنها عبادة؛ لأنه تشبه قضاء الديون، ولأنه قد تدعو الحاجة إلى الوكالة لغيبة المال وغير ذلك. الثالثة: له صرفها إلى الإمام والساعي، فإن كان الإمام عادلا أجزأه الدفع إليه بالإجماع وإن كان جائرا أجزأه على المذهب الصحيح المشهور، ونص عليه الشافعي وقطع به الجمهور، وفيه الوجه السابق عن الحناطي والماوردي.

الرابعة: في بيان الأفضل، قال أصحابنا: تفريقه بنفسه أفضل من التوكيل بلا خلاف؛ لأنه على ثقة من تفريقه بخلاف الوكيل وعلى تقدير خيانة الوكيل لا يسقط الفرض عن المالك؛ لأن يده كيده، فما لم يصل المال إلى المستحقين لا تبرأ ذمة المالك بخلاف دفعها إلى الإمام، فإنه بمجرد قبضه تسقط الزكاة عن المالك. قال الماوردي وغيره: وكذا الدفع إلى الإمام أفضل من التوكيل لما ذكرناه، وأما التفريق بنفسه والدفع إلى الإمام ففي الأفضل منهما تفصيل: قال أصحابنا: إن كانت الأموال باطنة والإمام عادل ففيه وجهان: أصحهما عند الجمهور: الدفع إلى الإمام أفضل للأحاديث السابقة، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف تفريقه بنفسه فقد يصادف غير مستحق، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين وبالمصالح وقدر الحاجات وبمن أخذ قبل هذه المرة من غيره؛ ولأنه يقصد لها، وهذا الوجه قول ابن سريج وأبي إسحاق. قال المحاملي في [المجموع والتجريد] : هو قول عامة أصحابنا وهذا المذهب، وكذا قاله آخرون. قال الرافعي: هذا هو الأصح عند الجمهور من العراقيين وغيرهم، وبه قطع الصيدلاني وغيره. والثاني: تفريقها بنفسه أفضل، وبه قطع البغوي، قال المصنف: وهو ظاهر النص يعني: قول الشافعي في [المختصر] : وأحب أن يتولى الرجل قسمها بنفسه ليكون على يقين من أدائها عنه. هذا نصه وهو ظاهر

فيما قاله المصنف. وتأوله الأكثرون القائلون بالأول على أن المراد أنه أولى من الوكيل لا من الدفع إلى الإمام وتعليله يؤيد هذا التأويل؛ لأن أداءها عنه يحصل بيقين بمجرد الدفع إلى الإمام وإن جار فيها لا إلى الوكيل. أما إذا كان الإمام جائرا فوجهان حكاهما المصنف والأصحاب: أحدهما: الدفع إليه أفضل لما سبق، وأصحهما التفريق بنفسه أفضل ليحصل مقصود الزكاة هكذا صححه الرافعي والمحققون. . . فرع: قال الرافعي حكاية عن الأصحاب: لو طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه بلا خلاف. وأما الأموال الباطنة فقال الماوردي: ليس للولاة نظر في زكاتها، بل أصحاب الأموال أحق بتفرقتها، فإن بذلوها طوعا قبلها الإمام منهم، فإن علم الإمام من رجل أنه لا يؤديها بنفسه فهل له أن يقول: إما أن تفرقها بنفسك وإما أن تدفعها إلي لأفرقها. فيه وجهان يجريان في النذور والكفارات. قلت: أصحهما: له المطالبة، بل الصواب أنه يلزمه المطالبة، كما يلزمه إزالة المنكرات (¬1) . ¬

_ (¬1) [المهذب والمجموع] (6\161) وما بعدها.

النقول من كتب الحنابلة

4 - النقول من كتب الحنابلة أ - قال الخرقي: ولا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية إلا أن يأخذها الإمام قهرا. ب - وقال ابن قدامة: مقتضى كلام الخرقي: أن الإنسان متى دفع زكاته طوعا لم تجزئه إلا بنية، سواء دفعها إلى الإمام أو غيره، وإن أخذها الإمام منه قهرا أجزأت من غير نية؛ لأن تعذر النية في حقه أسقط

وجوبها عنه كالصغير والمجنون، وقال القاضي: متى أخذها الإمام أجزأت من غير نية، سواء أخذها طوعا أو كرها، وهذا قول للشافعي؛ لأن أخذ الإمام بمنزلة القسم بين الشركاء، فلم يحتج إلى نية، ولأن للإمام ولاية في أخذها، ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقا ولو لم يجزئه لما أخذها أو لأخذها ثانيا وثالثا حتى ينفد ماله؛ لأن أخذها إن كان لإجزائها فلا يحصل الإجزاء بدون النية، وإن كان لوجوبها فالوجوب باق بعد أخذها. واختار أبو الخطاب وابن عقيل: أنها لا تجزئ فيما بينه وبين الله تعالى إلا بنية رب المال؛ لأن الإمام إما وكيله وإما وكيل الفقراء، أو وكيلهما معا، وأي ذلك كان فلا تجزئ نيته عن نية رب المال، ولأن الزكاة عبادة تجب لها النية فلا تجزئ عمن وجبت عليه بغير نية إن كان من أهل النية كالصلاة، وإنما أخذت منه مع عدم الإجزاء حراسة للعلم الظاهر كالصلاة، يجبر عليها ليأتي بصورتها ولو صلى بغير نية لم تجزئه عند الله تعالى. قال ابن عقيل: ومعنى قول الفقهاء: يجزئ عنه: أي في الظاهر، بمعنى: أنه لا يطالب بأدائها ثانيا كما قلنا في الإسلام، فإن المرتد يطالب بالشهادة، فمتى أتى بها حكم بإسلامه ظاهرا، ومتى لم يكن معتقدا صحة ما يلفظ به لم يصح إسلامه باطنا. قال: وقول أصحابنا لا تقبل توبة الزنديق معناه لا يسقط عنه القتل الذي توجه (¬1) عليه؛ لعدم علمنا بحقيقة توبته؛ لأن أكثر ما فيه أنه أظهر إيمانه وقد كان دهره يظهر إيمانه ويستر كفره، فأما عند الله عز وجل فإنها ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ولعلها: توجب عليها

تصح إذا علم منه حقيقة الإنابة وصدق التوبة واعتقاد الحق، ومن نصر قول الخرقي قال: إن للإمام ولاية على الممتنع فقامت نيته مقام نيته كولي اليتيم والمجنون، وفارق الصلاة، فإن النيابة فيها لا تصح فلا بد من نية فاعلها، وقوله: لا يخلو من كونه وكيلا له أو وكيلا للفقراء أولهما. قلنا: بل هو وال على المالك، وأما إلحاق الزكاة بالقسمة فغير صحيح، فإن القسمة ليست عبادة، ولا يعتبر لها نية بخلاف الزكاة. (فصل) يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة، قال الإمام أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز، وقال: الحسن ومكحول وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران: يضعها رب المال في موضعها. وقال الثوري: احلف لهم وأكذبهم ولا تعطهم شيئا إذا لم يضعوها مواضعها. وقال: لا تعطهم، وقال عطاء: أعطهم إذا وضعوها مواضعها. فمفهومه: أنه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك. وقال الشعبي وأبو جعفر: إن رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة من أهلها. وقال إبراهيم: ضعوها في مواضعها، فإن أخذها السلطان أجزأك. وقال سعيد: أنبأنا أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن قال: أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة، وهما على بيت المال فأخذاها، ثم جئت مرة أخرى فرأيت أبا وائل وحده، فقال لي: ردها فضعها مواضعها. وقد روي عن أحمد أنه قال: أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها إلى

السلطان، وأما زكاة الأموال كالمواشي فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين. فظاهر هذا أنه استحب دفع العشر خاصة إلى الأئمة؛ وذلك لأن العشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤونة الأرض فهو كالخراج يتولاه الأئمة بخلاف سائر الزكاة والذي رأيت في [الجامع] قال: أما صدقة الفطر فيعجبني دفعها إلى السلطان، ثم قال أبو عبد الله: قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب ويشربون بها الخمور، قال: ادفعوها إليهم. وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب: دفع الزكاة إلى الإمام العادل أفضل، وهو قول أصحاب الشافعي، وممن قال يدفعها إلى الإمام: الشعبي ومحمد بن علي وأبو رزين والأوزاعي؛ لأن الإمام أعلم بمصارفها ودفعها إليه يبرئه ظاهرا وباطنا، ودفعها إلى الفقير لا يبرئه باطنا؛ لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف وتزول عنه التهمة، وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى من جاءه من سعاة ابن الزبير أو نجدة الحروري. وقد روي عن سهيل بن أبي صالح قال: أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى فما تأمرني؟ قال: ادفعها إليهم، فأتيت ابن عمر فقال مثل ذلك، فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك، وأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك، ويروى نحوه عن عائشة رضي الله عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وأبو عبيد: لا يفرق

الأموال الظاهرة إلا الإمام؛ لقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬1) ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها، وقال: لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها، ووافقه الصحابة على هذا، ولأن ما للإمام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه إلى المولى عليه كولي اليتيم. وللشافعي قولان كالمذهبين. ولنا على جواز دفعها بنفسه أنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فأجزأه كما لو دفع الدين إلى غريمه وكزكاة الأموال الباطنة، ولأنه أحد نوعي الزكاة فأشبه النوع الآخر، والآية تدل على أن للإمام أخذها ولا خلاف فيه، ومطالبة أبي بكر لهم بها؛ لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها؛ لأن ذلك مختلف في إجزائه فلا تجوز المقاتلة من أجله، وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها، فإذا دفعها إليهم جاز؛ لأنهم أهل رشد فجاز الدفع إليهم بخلاف اليتيم. وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه فلأنه إيصال الحق إلى مستحقه مع توفير أجر العمالة وصيانة حقهم عن خطر الخيانة ومباشرة تفريج كربة مستحقها وإغنائه بها مع إعطائها للأولى بها من محاويج أقاربه وذوي رحمه وصلة رحمه بها، فكان أفضل كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل. فإن قيل: فالكلام في الإمام العادل إذ الخيانة مأمونة في حقه، قلنا: الإمام لا يتولى ذلك بنفسه، وإنما يفوضه إلى سعاته ولا تؤمن منهم ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 103

الخيانة، ثم ربما لا يصل إلى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شيء منها وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته. وقولهم: إن أخذ الإمام يبرئه ظاهرا وباطنا، قلنا: يبطل هذا بدفعها إلى غير العادل، فإنه يبرئه أيضا، وقد سلموا أنه ليس بأفضل ثم إن البراءة الظاهرة تكفي، وقولهم: إنه تزول به التهمة، قلنا: متى أظهرها زالت التهمة، سواء أخرجها بنفسه أو دفعها للإمام، ولا يختلف المذهب إن دفعها إلى الإمام، سواء كان عادلا أو غير عادل، وسواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة، ويبرأ بدفعها، سواء تلفت في يد الإمام أو لم تتلف، أو صرفها في مصارفها، أو لم يصرفها لما ذكرنا عن الصحابة رضي الله عنهم، ولأن الإمام نائب عنهم شرعا فبرئ بدفعها إليه كولي اليتيم إذا قبضها له، ولا يختلف المذهب أيضا في أن صاحب المال يجوز أن يفرقها بنفسه. (فصل) إذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة أجزأت عن صاحبها، وحكى ابن المنذر عن أحمد والشافعي وأبي ثور في الخوارج: أنه يجزئ، وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها، سواء عدل فيها أو جار وسواء أخذها قهرا أو دفعها إليه اختيارا، قال أبو صالح: سألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وجابرا وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة: فقلت: هذا السلطان يصنع ما ترون أفأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم. وقال إبراهيم: يجزئ عنك ما أخذ منك العشارون، وعن سلمة بن الأكوع أنه دفع صدقته إلى نجدة، وعن ابن عمر أنه سئل عن مصدق ابن الزبير ومصدق نجدة فقال: إلى أيهما دفعت أجزأ عنك،

وبهذا قال أصحاب الرأي فيما غلبوا عليه، وقالوا: إذا مر على الخوارج فعشروه لا يجزئ عن زكاته، وقال أبو عبيد في الخوارج يأخذون الزكاة: على من أخذوا منه الإعادة؛ لأنهم ليسوا بأئمة، فأشبهوا قطاع الطريق. ولنا قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه، فيكون إجماعا، ولأنه دفعها إلى أهل الولاية فأشبه دفعها إلى أهل البغي (¬1) . ج - قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أما ما يأخذه ولاة المسلمين من العشر، وزكاة الماشية والتجارة وغير ذلك فإنه يسقط ذلك عن صاحبه. إذا كان الإمام عادلا يصرفه في مصارفه الشرعية باتفاق العلماء، فإن كان ظالما لا يصرفه في مصارفه الشرعية فينبغي لصاحبه أن لا يدفع الزكاة إليه، بل يصرفها هو إلى مستحقيها. فإن أكره على دفعها إلى الظالم بحيث لو لم يدفعها إليه لحصل له ضرر فإنها تجزئه في هذه الصورة عند أكثر العلماء. وهم في هذه الحال ظلموا مستحقيها كولي اليتيم وناظر الوقف إذا قبضوا ماله وصرفوه في غير مصارفه (¬2) . د - قال ابن قدامة: ويستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه. هـ - وقال المرداوي على ذلك: سواء كانت زكاة مال أو فطرة، نص عليه، قال بعض الأصحاب منهم ابن حمدان - يشترط أمانته قال في ¬

_ (¬1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (1\506) وما بعدها. (¬2) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (25\81) .

الفروع: وهو مراد غيره، أي: من حيث الجملة. انتهى. وقال ابن قدامة: (وله دفعها إلى الساعي وإلى الإمام أيضا) . ز - وقال المرداوي على ذلك: وهذا المذهب في ذلك كله مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب، وهو من المفردات. قال ناظمها: زكاته يخرج في الأيام ... بنفسه أولى من الإمام وقيل: يجب دفعها إلى الإمام إذا طلبها وفاقا للأئمة الثلاثة. وعنه يستحب أن يدفع إليه العشر، ويتولى هو تفريق الباقي. وقال أبو الخطاب: دفعها إلى الإمام العادل أفضل. واختاره ابن أبي موسى؛ للخروج من الخلاف وزوال التهمة. وعنه: دفع الفطرة إليه أفضل: نقله المروذي، كما تقدم في آخر باب الفطرة. وقيل: يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام ولا يجزئ دونه. فوائد: الأولى: يجوز دفع زكاته إلى الإمام الفاسق، على الصحيح من المذهب، وقال القاضي في [الأحكام السلطانية] : يحرم عليه دفعها إن وضعها في غير أهلها، ويجب كتمها إذن عنه، واختاره في [الحاوي] . قلت: وهو الصواب. ويأتي في باب قتال أهل البغي: أنه يجزئ دفع الزكاة إلى الخوارج والبغاة، نص عليه في الخوارج. الثانية: يجوز للإمام طلب الزكاة من المال الظاهر والباطن على

الصحيح من المذهب إن وضعها في أهلها. وقال القاضي في [الأحكام السلطانية] : لا نظر له في زكاة المال الباطن إلا أن يبذل له، وقال ابن تميم فيها: تجب فيه الزكاة. قال القاضي: إذا مر المضارب أو المؤذن له بالمال على عاشر المسلمين أخذ منه الزكاة، قال: وقيل: لا تؤخذ منه حتى يحضر المالك. الثالثة: لو طلبها الإمام لم يجب دفعها إليه، وليس له أن يقاتله على ذلك إذا لم يمنع إخراجها بالكلية نص عليه، وجزم به ابن شهاب وغيره وقدمه في [الفروع] و [مختصر ابن تميم] وهو من المفردات. وقيل: يجب عليه دفعها إذا طلبها إليه ولا يقاتل لأجله؛ لأنه مختلف فيه جزم به المجد في شرحه. قال في [الفروع] : وصححه غير واحد في الخلاف. قلت: صححه في [الرعايتين] ، و [الحاويين] . وقيل: لا يجب دفع الباطنة بطلبه، قال ابن تميم وجها واحدا. وقال الشيخ تقي الدين: من جوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوزه هنا، ومن لم يجوزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله: لم يجوزه (¬1) . ح - قال ابن مفلح: يجوز لمن وجبت عليه الزكاة تفرقتها بنفسه (وش) ؛ لقول الله تعالى: ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (3\191) .

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} (¬1) الآية، وكالدين، ولأن القابض رشيد قبض ما يستحقه والإمام وكيله ونائبه فجاز الدفع إليه كالموكل، ويحمل ما خالف ذلك على الجواز، أو أن الإمام أخذها أو على من لا يعرف مصارفها أو على من تركها جحودا أو بخلا، وقيل: يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام، ولا يجزئ دونه (وهـ م) وزاد: وزكاة المال الباطن. قال أبو حنيفة: وأموال التجار التي تسافر بها كالظاهرة، فيأخذ العاشر زكاتها إن بلغت نصابا للحاجة إلى حمايتها من قطاع الطريق، إلا أن يكون مما يسرع إليه الفساد كالفاكهة فلا تعشر؛ لأن قطاع الطريق لا يقصدونه غالبا إلا اليسير منه للأكل، وعند أبي يوسف ومحمد: يعشر أيضا. وله دفع الزكاة إلى إمام فاسق (وهـ) قال أحمد - رحمه الله تعالى -: الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بدفعها وقد علموا فيما ينفقونها. وفي [الأحكام السلطانية] : يحرم إن وضعها في غير أهلها، ويجب كتمها عنه إذن (وم ش) وتجزئ مطلقا (م ش) : لما رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعا: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك. ولأحمد عن أنس مرفوعا: «إذا أديتها إلى رسولي فقد برأت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها (¬2) » ، وللإمام طلب الزكاة من ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 271 (¬2) مسند أحمد بن حنبل (3/136) .

المال الظاهر والباطن إن وضعها في أهلها (و) ، ولو من بلد غلب عليه الخوارج فلم يؤد أهله الزكاة ثم غلب عليهم الإمام (هـ) ؛ لأنهم وقت الوجوب ليسوا تحت حمايته وفي الأحكام السلطانية لا نظر له في زكاة الباطن إلا أن تبذل وذكر ابن تميم فيما تجب فيها الزكاة: قال القاضي: إذا مر المضارب أو المأذون له بالمال على عاشر المسلمين أخذ منه الزكاة، قال: وقيل: لا تؤخذ منه حتى يحضر المالك، وإذا طلب الزكاة لم يجب دفعها إليه. وليس له أن يقاتل على ذلك إذا لم يمنع إخراجها بالكلية نص عليه وجزم به ابن شهاب وغيره. قال في [الخلاف] : نص عليه في رواية أحمد بن سعيد في صدقة الماشية والعين: إذا أبى الناس أن يعطوها الإمام قاتلهم عليها إلا أن يقولوا: نحن نخرجها وقيل: ويجب دفعها إليه إذا طالبها (و) ولا يقاتل لأجله؛ لأنه مختلف فيه، جزم به في [منتهى الغاية] وجمع به بين الأدلة وصححه غير واحد. قال في [الخلاف] : لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد كالحكم بشفعة الجوار على من لا يراها، وقيل: لا يجب دفع الباطن بطلبه، وقال بعضهم: وجها واحدا، وذكر شيخنا: أن من أداها لم تجز مقاتلته، للخلاف في إجزائها، ثم ذكر نص أحمد فيمن قال: أنا أؤديها ولا أعطيها للإمام، لم يكن له قتاله، ثم قال: من جوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوزه، ومن لم يجوزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله لم يجوزه. ويستحب تفرقة زكاته بنفسه، قال بعضهم: مع أمانته، وهو مراد

غيره، أي: من حيث الجملة، نص عليه، وقال أيضا: أحب إلي أن يقسمها هو. وقيل: دفعها إلى إمام عادل أفضل للخروج من الخلاف، وزوال التهمة، واختاره ابن أبي موسى وأبو الخطاب (وش) وقاله (هـ م) حيث جاز الدفع بنفسه، وعنه: دفع الظاهر أفضل، وعنه: يختص بالعشر، وعنه: بصدقة الفطر، ونقله المروذي، ويجوز الدفع إلى الخوارج والبغاة، نص عليه في الخوارج: إذا غلبوا على بلد وأخذوا منه العشر وقع موقعه. وقال القاضي في موضع: هذا محمول على أنهم خرجوا بتأويل وقال في موضع آخر: إنما يجزئ أخذهم إذا نصبوا لهم إماما، وظاهر كلامه في موضع من [الأحكام السلطانية] : لا يجزئ الدفع إليهم اختيارا، وعنه: التوقف فيما أخذه الخوارج من الزكاة، وقال القاضي: وقد قيل: تجوز الصلاة خلف الأئمة الفساق، ولا يجوز دفع عشر وصدقة إليهم ولا إقامة حد. وعن أحمد نحوه. والظاهر: أن المراد بجواز الدفع الإجزاء؛ لأنه لا يجوز (¬1) الدفع إليهم في المنصوص، وإن أجزأ في المنصوص، وهل للإمام طلب النذر والكفارة؟ على وجهين: (م 6) أحدهما: له ذلك، نص عليه في كفارة الظهار، وقال الحنفية: إذا أخذ الخوارج زكاة السائمة، فقيل: تجزئ؛ لأن الإمام لم يحمهم، والجباية بالحماية، وقيل: لا؛ لأن مصرفها ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: إلا أنه لا يجوز

للفقراء ولا يصرفونها إليهم، ولهم قول ثالث: إن نوى التصدق عليهم أجزأ، وكذلك الدفع إلى كل جائر (¬1) ؛ لأنهم - بما عليهم من التبعات - فقراء (¬2) . وقد بسط القرضاوي الكلام على هذه المسألة في كتابه [فقه الزكاة] ، فمن أراد المزيد من الكلام فعليه الرجوع إلى الكتاب المذكور. ¬

_ (¬1) كلمة (جائر) لا توجد في مخطوط الأزهر ولا مخطوط الدار. (¬2) [الفروع] (2\556) .

النظر في زكاة عروض التجارة

ثانيا: النظر في زكاة عروض التجارة: جمهور أهل العلم يرى: أنها واجبة؛ لثبوت الأدلة. والذين قالوا بوجوبها، منهم من أوجبها في كل حول، ومنهم من فرق بين المال الذي يدار والذي لا يدار، فأوجبها في كل حول في الأول، وأوجبها في حول واحد بعد البيع. وفيما يلي ما تيسر من نصوص فقهاء الإسلام وأدلتهم وما تيسر من مناقشة بعضهم لبعض. ومن أهل العلم من لا يرى وجوب الزكاة فيها أصلا؛ لعدم الدليل. 1 - النقل عن الحنفية: أ - قال الكاساني: وأما أموال التجارة فتقدير النصاب فيها بقيمتها من الدنانير والدراهم، فلا شيء فيها ما لم تبلغ قيمتها مائتي درهم، أو عشرين مثقالا من ذهب، فتجب فيها الزكاة، وهذا قول عامة العلماء. وقال أصحاب الظواهر: لا زكاة فيها أصلا. وقال مالك: إذا نضت زكاها لحول واحد.

وجه قول أصحاب الظواهر: أن وجوب الزكاة إنما عرف بالنص، والنص ورد بوجوبها في الدراهم، والدنانير، والسوائم، فلو وجبت بالقياس عليها والقياس ليس بحجة خصوصا في باب المقادير. (ولنا) ما روي عن سمرة بن جندب أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإخراج الزكاة من الرقيق الذي كنا نعده للبيع» ، وروي عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في البر صدقة» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «هاتوا ربع عشر أموالكم (¬1) » . فإن قيل: الحديث ورد في نصاب الدراهم؛ لأنه قال في آخره: «من كل أربعين درهما درهم (¬2) » . فالجواب: أن أول الحديث عام وخصوص آخره لا يوجب سلب عموم أوله، أو نحمل قوله: من كل أربعين درهم على القيمة، أي: من كل أربعين درهما من قيمتها درهم. وقال صلى الله عليه وسلم: «وأدوا زكاة أموالكم (¬3) » من غير فصل بين مال ومال، إلا ما خص بدليل، ولأن مال التجارة مال نام فاضل عن الحاجة الأصلية، فيكون مال الزكاة كالسوائم، وقد خرج الجواب عن قولهم: إن وجوب الزكاة عرف بالنص؛ لأنا قد روينا بالنص في الباب على أن أصل الوجوب عرف بالعقل، وهو شكر لنعمة الله، وشكر نعمة القدرة في إعانة العاجز، إلا أن مقدار الواجب عرف بالسنة، وما ذكره مالك غير سديد؛ لأنه وجد سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول؛ فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه، كالسوائم والدراهم والدنانير، وسواء كان مال التجارة عروضا، أو عقارا، أو شيئا مما يكال أو يوزن؛ ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1572) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/92) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) . (¬2) سنن الترمذي الزكاة (620) ، سنن النسائي الزكاة (2477) ، سنن أبو داود الزكاة (1572) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/92) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) . (¬3) سنن الترمذي الجمعة (616) ، مسند أحمد بن حنبل (5/251) .

لأن الوجوب في أموال التجار تعلق بالمعنى، وهو المالية والقيمة، وهذه الأموال كلها في هذا المعنى جنس واحد، وكذا يضم بعضها أموال التجارة إلى البعض في تكميل النصاب؛ لما قلنا. وإذا كان تقدير النصاب من أموال التجارة بقيمتها من الذهب والفضة، وهو أن تبلغ قيمتها مقدار نصاب من الذهب والفضة، فلا بد من التقويم حتى يعرف مقدار النصاب، ثم بماذا تقوم؟ ذكر القدوري في شرحه [مختصر الكرخي] : أن يقوم بأوفى القيمتين من الدراهم والدنانير، حتى أنها إذا بلغت بالتقويم بالدراهم نصابا، ولم تبلغ بالدنانير قومت بما تبلغ به النصاب. وكذا روي عن أبي حنيفة في الأمالي أنه يقومها بأنفع النقدين للفقراء. وعن أبي يوسف أنه يقومها بما اشتراها به، فإن اشتراها بالدراهم قومها بالدراهم، وإن اشتراها بالدنانير قومها بالدنانير، وإن اشتراها بغيرهما من العروض أو لم يكن اشتراها بأن كان وهب له فقبله ينوي به التجارة قومها بالنقد الغالب في ذلك الموضع وعند محمد يقومها بالنقد الغالب على كل حال. وذكر في كتاب الزكاة: أنه يقومها يوم حال الحول إن شاء بالدراهم، وإن شاء بالدنانير. وجه قول محمد: أن التقويم في حق الله تعالى يعتبر بالتقويم في حق العباد، ثم إذا وقعت الحاجة إلى تقويم شيء من حقوق العباد، كالمغصوب، والمستهلك، يقوم بالنقد الغالب في البلدة، كذا هذا. وجه قول أبي يوسف: أن المشترى بدل، وحكم البدل يعتبر بأصله،

فإذا كان مشترى بأحد النقدين. فتقويمه بما هو أصله أولى. وجه رواية كتاب الزكاة: أن وجوب الزكاة في عروض التجارة باعتبار ماليتها دون أعيانها، والتقويم لمعرفة مقدار المالية، والنقدان في ذلك سيان، فكان الخيار إلى صاحب المال يقومه بأيهما شاء. ألا ترى أن في السوائم عند الكثرة وهي ما إذا بلغت مائتين، الخيار إلى صاحب المال، إن شاء أدى أربع حقاق، وإن شاء خمس بنات لبون، فكذا هذا. وجه قول أبي حنيفة: أن الدراهم والدنانير وإن كانا في الثمنية والتقويم بهما سواء، لكنا رجحنا أحدهما بمرجح، وهو النظر للفقراء، والأخذ بالاحتياط أولى. ألا ترى أنه لو كان بالتقويم بأحدهما يتم النصاب والآخر لا، فإنه يقوم بما يتم به النصاب؛ نظرا للفقراء واحتياطا، كذا هذا. ومشايخنا حلوا رواية كتاب الزكاة على ما إذا كان لا يتفاوت النفع في حق الفقراء بالتقويم بأيهما كان، جمعا بين الروايتين، وكيفما كان ينبغي أن يقوم بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم أو الدنانير، وهي التي يكون الغالب فيها الذهب والفضة. وعلى هذا إذا كان مع عروض التجارة ذهب وفضة، فإنه يضمهما إلى العروض، ويقومه جملة؛ لأن معنى التجارة يشمل الكل. لكن عند أبي حنيفة يضم باعتبار القيمة، إن شاء قوم العروض وضمها إلى الذهب والفضة، وإن شاء قوم الذهب والفضة وضم قيمتهما إلى قيمة أعيان التجارة، وعندهما يضم باعتبار الإجزاء فتقوم العروض، فيضم قيمتها إلى ما عنده من الذهب والفضة، فإن بلغت الجملة نصابا تجب الزكاة وإلا فلا، ولا يقوم الذهب والفضة

عندهما أصلا في باب الزكاة على ما مر. (فصل) : وأما صفة هذا النصاب فهي: أن يكون معدا للتجارة، وهو أن يمسكها للتجارة، وذلك بنية التجارة مقارنة لعمل التجارة؛ لما ذكرنا فيما تقدم، بخلاف الذهب والفضة فإنه لا يحتاج فيهما إلى نية التجارة؛ لأنها معدة للتجارة بأصل الخلقة فلا حاجة إلى إعداد العبد، ويوجد الإعداد منه دلالة على ما مر (¬1) . ب - قال الكاساني في الكلام على الشرائط التي ترجع إلى المال: ومنها: كون المال ناميا؛ لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي، ولسنا نعني به حقيقة النماء؛ لأن ذلك غير معتبر، وإنما نعني به كون المال معدا للاستنماء بالتجارة أو بالإسامة؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن، والتجارة سبب لحصول الربح، فيقام السبب مقام المسبب، وتعلق الحكم به، كالسفر مع المشقة، والنكاح مع الوطء، والنوم مع الحدث، ونحو ذلك. وإن شئت قلت: ومنها: كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية؛ لأن به يتحقق الغنا ومعنى النعمة، وهو: التنعم، وبه يحصل الأداء عن طيب النفس، إذ المال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيا عنه، ولا يكون نعمة، إذ التنعم لا يحصل بالقدر المحتاج إليه حاجة أصلية؛ لأنه من ضرورات حاجة البقاء وقوام البدن، فكان شكره شكر نعمة البدن ولا يحصل الأداء عن طيب نفس فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها؛ ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2\20، 21) .

لقوله صلى الله عليه وسلم: «وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم (¬1) » فلا تقع زكاة، إذ حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليه، فلا يعرف الفضل عن الحاجة؛ فيقام دليل الفضل عن الحاجة مقامه، وهو الإعداد للإسامة والتجارة، وهذا قول عامة العلماء. وقال مالك: هذا ليس بشرط لوجوب الزكاة، وتجب الزكاة في كل مال، سواء كان ناميا فاضلا عن الحاجة الأصلية أو لا؛ كثياب البذلة والمهنة والعلوفة والحمولة والعمولة من المواشي وعبيد الخدمة والمسكن والمراكب وكسوة الأهل وطعامهم، وما يتجمل به من آنية أو لؤلؤ أو فرش ومتاع لم ينو به التجارة ونحو ذلك. واحتج بعمومات الزكاة من غير فصل بين مال ومال، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2) وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (¬3) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬4) وقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬5) وغير ذلك؛ ولأنها وجبت شكرا لنعمة المال، ومعنى النعمة في هذه الأموال أتم وأقرب؛ لأنها متعلق البقاء فكانت أدعى إلى الشكر. ولنا: أن معنى النماء والفضل عن الحاجة الأصلية لا بد منه لوجوب الزكاة؛ لما ذكرنا من الدلائل، ولا يتحقق ذلك في هذه الأموال، وبه تبين أن المراد من العمومات الأموال النامية الفاضلة عن الحوائج الأصلية. وقد خرج الجواب عن قوله: إنها نعمة؛ لما ذكرنا أن معنى ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الجمعة (616) ، مسند أحمد بن حنبل (5/251) . (¬2) سورة التوبة الآية 103 (¬3) سورة المعارج الآية 24 (¬4) سورة المعارج الآية 25 (¬5) سورة البقرة الآية 43

النعمة فيها يرجع إلى البدن؛ لأنها تدفع الحاجة الضرورية وهي حاجة دفع الهلاك عن البدن؛ فكانت تابعة لنعمة البدن، فكان شكرها شكر نعمة البدن، وهي العبادات البدنية من الصلاة والصوم وغير ذلك. وقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬1) دليلنا؛ لأن الزكاة عبارة عن النماء، وذلك من المال النامي على التفسير الذي ذكرناه، وهو أن يكون معدا للاستنماء، وذلك بالإعداد للإسامة في المواشي والتجارة في أموال التجارة، إلا أن الإعداد للتجارة في الأثمان المطلقة من الذهب والفضة ثابت بأصل الخلقة؛ لأنها لا تصلح للانتفاع بأعيانها في دفع الحوائج الأصلية، فلا حاجة إلى الإعداد من العبد للتجارة بالنية، إذ النية للتعيين وهي متعينة للتجارة بأصل الخلقة، فلا حاجة إلى التعيين بالنية، فتجب الزكاة فيها، نوى التجارة، أو لم ينو أصلا، أو نوى النفقة. وأما فيما سوى الأثمان من العروض فإنما يكون الإعداد فيها للتجارة بالنية؛ لأنها كما تصلح للتجارة تصلح للانتفاع بأعيانها، بل المقصود الأصلي منها ذلك، فلا بد من التعيين للتجارة وذلك بالنية، وكذا في المواشي لا بد فيها من نية الإسامة؛ لأنها كما تصلح للدر والنسل تصلح للحمل والركوب واللحم فلا بد من النية، ثم نية التجارة الإسامة لا تعتبر ما لم تتصل بفعل التجارة والإسامة؛ لأن مجرد النية لا عبرة به في الأحكام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا به أو يفعلوا (¬2) » ثم نية التجارة قد تكون صريحا وقد تكون دلالة. أما الصريح فهو أن ينوي عند عقد التجارة أن يكون المملوك به للتجارة، بأن اشترى سلعة ونوى أن تكون للتجارة عند الشراء فتصير ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 43 (¬2) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3433) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2044) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) .

للتجارة، سواء كان الثمن الذي اشتراها به من الأثمان المطلقة، أو من عروض التجارة، أو مال البذلة والمهنة، أو أجر داره بعرض بنية التجارة فيصير ذلك مال التجارة، لوجود صريح نية التجارة مقارنا لعقد التجارة. أما الشراء فلا شك أنه تجارة وكذلك الإجارة؛ لأنها معاوضة المال بالمال وهو نفس التجارة؛ ولهذا ملك المأذون بالتجارة الإجارة، والنية المقارنة للفعل معتبرة. ولو اشترى عينا من الأعيان ونوى أن تكون للبذلة والمهنة دون التجارة لا تكون للتجارة، سواء كان الثمن من مال التجارة أو من غير مال التجارة؛ لأن الشراء بمال التجارة إن كان دلالة التجارة فقد وجد صريح نية الابتذال، ولا تعتبر الدلالة مع الصريح بخلافها. ولو ملك عروضا بغير عقد أصلا، بأن ورثها ونوى التجارة لم تكن للتجارة؛ لأن النية تجردت عن العمل أصلا؛ فضلا عن عمل التجارة؛ لأن الموروث يدخل في ملكه من غير صنعه. ولو ملكها بعقد ليس مبادلة أصلا، كالهبة والوصية والصدقة، أو بعقد هو مبادلة مال بغير مال؛ كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العبد وبدل العتق، ونوى التجارة، يكون للتجارة عند أبي يوسف، وعند محمد لا يكون للتجارة، كذا ذكر الكرخي، وذكر القاضي الشهيد الاختلاف على القلب، فقال في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: لا يكون للتجارة، وفي قول محمد: يكون للتجارة. وجه قول من قال: إنه لا يكون للتجارة: أن النية لم تقارن عملا هو تجارة، وهي مبادلة المال بالمال، فكان الحاصل مجرد النية؛ فلا تعتبر. ووجه القول الآخر: أن التجارة عقد اكتساب المال، وما لا يدخل في

ملكه إلا بقبوله فهو حاصل بكسبه، فكانت نيته مقارنة لفعله، فأشبه قرانها بالشراء والإجارة. والقول الأول: أصح؛ لأن التجارة كسب المال ببذل ما هو مال، والقبول اكتساب المال بغير بدل أصلا، فلم تكن من باب التجارة، فلم تكن النية مقارنة عمل التجارة. ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون للتجارة اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يصير للتجارة؛ لأن القرض ينقلب معاوضة المال بالمال في العاقبة، وإليه أشار في [الجامع] : أن من كان له مائتا درهم لا مال له غيرها، فاستقرض قبل حولان الحول بيوم من رجل خمسة [أقفزة لغير التجارة] ، ولم تستهلك الأقفزة حتى حال الحول - لا زكاة عليه في المائتين، ويصرف الدين إلى مال الزكاة دون الجنس الذي ليس بمال الزكاة. فقوله: (استقرض لغير التجارة) دليل: أنه لو استقرض للتجارة يصير للتجارة. وقال بعضهم: لا يصير للتجارة وإن نوى؛ لأن القرض إعارة، وهو تبرع لا تجارة، فلم توجد نية التجارة مقارنة للتجارة؛ فلا تعتبر. ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة، ثم نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك، لا تصير للتجارة ما لم يبعها، فيكون بدلها للتجارة. فرق بين هذا وبين ما إذا كان له مال التجارة، فنوى أن يكون للبذلة، حيث يخرج من أن يكون للتجارة وإن لم يستعمله؛ لأن النية لا تعتبر ما لم تتصل بالفعل، وهو ليس بفاعل فعل التجارة، فقد عزبت النية عن فعل التجارة، فلا تعتبر للحال، بخلاف ما إذا نوى الابتذال؛ لأنه نوى

ترك التجارة، وهو تارك لها في الحال، فاقترنت النية بعمل هو ترك التجارة؛ فاعتبرت ونظير الفصلين: السفر مع الإقامة، وهو أن المقيم إذا نوى السفر لا يصير مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر، والمسافر إذا نوى الإقامة في مكان صالح للإقامة يصير مقيما للحال. ونظيرهما من غير هذا الجنس: الكافر إذا نوى أن يسلم بعد شهر لا يصير مسلما للحال، والمسلم إذا قصد أن يكفر بعد سنين - والعياذ بالله - فهو كافر للحال. ولو أنه اشترى بهذه العروض التي اشتراها للابتذال بعد ذلك عروضا أخر تصير بدلها للتجارة بتلك النية السابقة، وكذلك في الفصول التي ذكرنا أنه نوى للتجارة في الوصية والقرض ومبادلة مال بما ليس بمال إذا اشترى بتلك العروض عروضا أخر صارت للتجارة؛ لأن النية قد وجدت حقيقة إلا أنها لم تعمل للحال؛ لأنها لم تصادف عمل التجارة، فإذا وجدت التجارة بعد ذلك عملت النية السابقة عملها، فيصير المال للتجارة؛ لوجود نية التجارة مع التجارة، وأما الدلالة فيه أن يشتري عينا من الأعيان بعرض التجارة، أو يؤاجر داره التي للتجارة بعرض من العروض، فيصير للتجارة وإن لم ينو التجارة صريحا؛ لأنه لما اشترى بمال التجارة فالظاهر أنه نوى به التجارة. وأما الشراء بغير مال التجارة فلا يشكل. وأما إجارة الدار فلأن بدل منافع عين معدة للتجارة كبدل عين معدة للتجارة في أنه للتجارة، كذا ذكر في كتاب الزكاة من الأصل، وذكر في الجامع ما يدل على أنه لا يكون للتجارة إلا بالنية صريحا فإنه قال: وإن

كانت الأجرة جارية تساوي ألف درهم، وكانت عند المستأجر للتجارة، فأجر المؤجر داره بها، وهو يريد التجارة شرط النية عند الإجارة لتصير الجارية للتجارة، ولم يذكر أن الدار للتجارة أو لغير التجارة، فهذا يدل على أن النية شرط ليصير بدل منافع الدار المستأجرة للتجارة. وإن كانت الدار معدة للتجارة فكان في المسألة روايتان، ومشايخ بلخ كانوا يصححون رواية الجامع، ويقولون: إن العين إن كانت للتجارة لكن قد يقصد ببدل منافعها المنفعة فيؤاجر الدابة لينفق عليها والدار للعمارة فلا تصير للتجارة مع التردد إلا بالنية. وأما إذا اشترى عروضا بالدراهم أو الدنانير أو بما يكال أو يوزن موصوفا في الذمة فإنها لا تكون للتجارة ما لم ينو التجارة عند الشراء، وإن كانت الدراهم والدنانير أثمانا، والموصوف في الذمة من المكيل والموزون أثمان عند الناس؛ ولأنها كما جعلت ثمنا لمال التجارة، جعلت ثمنا لشراء ما يحتاج إليه للابتذال والقوت، فلا يتعين الشراء به للتجارة مع الاحتمال. وعلى هذا لو اشترى المضارب بمال المضاربة عبيدا ثم اشترى لهم كسوة وطعاما للنفقة كان الكل للتجارة وتجب الزكاة في الكل؛ لأن نفقة عبيد المضاربة من مال المضاربة، فطلق تصرفه ينصرف إلى ما يملك دون ما لا يملك حتى لا يصير خائنا وعاصيا عملا بدينه وعقله، إن نص على النفقة. وبمثله المالك إذا اشترى عبيدا للتجارة، ثم اشترى لهم ثيابا للكسوة وطعاما للنفقة فإنه لا يكون للتجارة؛ لأن المالك كما يملك الشراء

للتجارة يملك الشراء للنفقة والبذلة، وله أن ينفق من مال التجارة وغير مال التجارة، فلا يتعين للتجارة إلا بدليل زائد. وأما الأجراء الذين يعملون للناس نحو الصباغين والقصارين والدباغين إذا اشتروا الصبغ والصابون والدهن ونحو ذلك مما يحتاج إليه في عملهم ونووا عند الشراء أن ذلك للاستعمال في عملهم، هل يصير ذلك مال التجارة؟ روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف الصباغ إذا اشترى العصفر والزعفران ليصبغ ثياب الناس فعليه فيه الزكاة. والحاصل: أن هذا على وجهين: إن كان شيئا يبقى أثره في المعمول فيه، كالصبغ والزعفران والشحم الذي يدبغ به الجلد، فإنه يكون مال التجارة؛ لأن الأجر يكون مقابلة ذلك الأثر، وذلك الأثر مال قائم، فإنه من أجزاء الصبغ والشحم، لكنه لطيف فيكون هذا تجارة. وإن كان شيئا لا يبقى أثره في المعمول فيه مثل: الصابون والأشنان والقلي والكبريت فلا يكون مال التجارة؛ لأن عينها تتلف ولم ينتقل أثرها إلى الثوب المغسول حتى يكون له حصة من العوض، بل البياض أصلي للثوب يظهر عند زوال الدرن، فما يأخذ من العوض يكون بدل عمله لا بدل هذه الآلات فلم يكن مال التجارة. وأما آلات الصناع وظروف أمتعة التجارة لا تكون مال التجارة؛ لأنها لا تباع مع الأمتعة عادة. وقالوا في نخاس الدواب: إذا اشترى المقاود والجلال والبراذع: إنه إن كان يباع مع الدواب عادة يكون للتجارة؛ لأنها معدة لها، وإن كان لا

يباع ولكن تمسك وتحفظ بها الدواب فهي من آلات الصناع فلا يكون مال التجارة إذا لم ينو التجارة عند شرائها. وقال أصحابنا في عبد التجارة قتله عبد خطأ فدفع به: إن الثاني للتجارة، لأنه عوض مال التجارة، وكذا إذا فدى بالدية من العروض والحيوان. وأما إذا قتله عمدا فصالح المولى من الدية على العبد القاتل أو على شيء من العروض لا يكون مال التجارة، لأنه عوض القصاص لا عوض العبد المقتول، والقصاص ليس بمال. والله أعلم (¬1) . ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2 \ 11) وما بعدها.

النقل عن المالكية

2 - النقل عن المالكية: أ- جاء في [المدونة] تحت ترجمة: (في زكاة تجار المسلمين) : (قلت) : أكان مالك يرى أن يؤخذ من تجارة المسلمين إذا تجروا الزكاة؟ فقال: نعم. (قلت) : أفي بلادهم أم إذا خرجوا من بلادهم؟ (فقال) : في بلادهم عنده وغير بلادهم سواء، من كان عنده مال تجب فيه الزكاة زكاه. (قلت) : فيسألهم إذا أخذ منهم الزكاة هذا الذي يأخذ عما في بيوتهم من ناضهم فيأخذ زكاته مما في أيديهم. (فقال) : ما سمعت من مالك في هذا شيئا، وأرى إن كان الوالي عدلا أن يسألهم عن ذلك، وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق. (قلت) : أفيسأل عن زكاة أموالهم الناض إذا لم يتجروا؟ (فقال) : نعم، إذا كان عدلا وقد فعل ذلك أبو بكر الصديق، كان يقول للرجل إذا

أعطاه عطاءه: هل عندك من مال قد وجبت عليك فيه الزكاة. فإن قال: نعم، أخذ من عطائه زكاة ذلك المال، وإن قال: لا، أسلم إليه عطاءه. ولا أرى أن يبعث في ذلك أحدا، وإنما ذلك إلى أمانة الناس، إلا أن يعلم أحد أن لا يؤدي فتؤخذ منه. ألا ترى أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا شهر زكاتكم. (قلت) : ما قول مالك أين ينصب هؤلاء الذين يأخذون العشور من أهل الذمة والزكاة من تجار المسلمين. (فقال) : لم أسمع منه فيه شيئا، ولكني رأيته فيما يتكلم به أنه لا يعجبه أن ينصب لهذه المكوس أحد. (قال) ابن القاسم: وأخبرني يعقوب بن عبد الرحمن من بني القارة حليف لبني زهرة عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل المدينة أن يضع المكس، فإنه ليس المكس ولكنه البخس، قال الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (¬1) ومن أتاك بصدقته فاقبلها منه، ومن لم يأتك بها فالله حسيبه والسلام. (قلت) : أليس إنما تؤخذ من تجار المسلمين في قول مالك الزكاة في كل سنة مرة، وإن تجروا من بلد إلى بلد وهم خلاف أهل الذمة في هذا. (فقال) نعم. (قال) : ومن تجر ومن لم يتجر فإنما عليه الزكاة في كل سنة مرة. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا خرج من مصر بتجارة إلى المدينة أيقوم عليه ما في يديه فتؤخذ منه الزكاة. (فقال) : لا يقوم عليه، ولكن إذا باع أدى الزكاة. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 85

(قال) : ولا يقوم على أحد المسلمين. (قلت) : وهذا قول مالك. قال: نعم. (قلت) : وأهل الذمة لا يقوم عليهم أيضا، فإذا باعوا أخذ منهم العشر. فقال: نعم. (قلت) : وهذا قول مالك. قال: نعم. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا من المسلمين قدم بتجارة، فقال: هذا الذي معي مضاربة أو بضاعة أو علي دين أو لم يحل على ما عندي الحول أيصدق ولا يحلف في قول مالك؟ قال: نعم، يصدق ولا يحلف (¬1) . وجاء في [المدونة] تحت عنوان: (زكاة السلع) : (قال) : وقال مالك: إذا كان الرجل إنما يشتري النوع الواحد من التجارة أو الأنواع وليس ممن يدير ماله في التجارة، فاشترى سلعة أو سلعا كثيرة يريد بيعها فبارت عليه ومضى الحول فلا زكاة عليه فيها، وإن مضى لذلك أحوال حتى يبيع، فإذا باع زكى زكاة واحدة. وإنما مثل هذا مثل الرجل يشتري الحنطة في زمان الحصاد فيريد البيع في غير زمان الحصاد ليربح فتبور عليه فيحبسها فلا زكاة عليه فيها. (وقال) علي بن زياد: قال مالك: الأمر عندنا في الرجل يكون له عند الناس من الدين ما تجب فيه الزكاة فيغيب عنه سنين ثم يقبضه، أنه ليس عليه فيه إذا قبضه إلا زكاة واحدة. (قال) : والدليل على ذلك أنه ليس على الرجل في الدين يغيب عنه سنين ثم يقبضه أنه ليس عليه إلا زكاة واحدة، وفي العروض يبتاعها ¬

_ (¬1) [المدونة] (1 \ 239)

للتجارة فيمسكها سنين ثم يبيعها أنه ليس عليه إلا زكاة واحدة، أنه لو وجب على رب الدين أن يخرج زكاته قبل أن يقبضه لم يجب عليه أن يخرج في صدقة ذلك الدين إلا دينا يقطع به لمن يلي ذلك على الغرماء يتبعهم به، إن قبض كان له وإن تلف كان منه؛ من أجل أن السنة أن تخرج صدقة كل مال منه ولا على رب العرض أن يخرج في صدقته إلا عرضا؛ لأن السنة أن تخرج صدقة كل مال منه، (وإنما قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزكاة في العين والحرث والماشية» ، فليس في العروض شيء حتى تصير عينا. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا كانت عنده دابة للتجارة فاستهلكها رجل فضمن قيمتها فأخذ منه رب الدابة سلعة بقيمتها التي وجبت له، أيكون عليه في قيمة هذه السلعة التي للتجارة الزكاة؟ (فقال) : إن كان نوى بالسلعة التي أخذ التجارة زكى ثمنها ساعة بيعها إن كان الحول قد حال على أصل هذا المال من يوم زكى أصل هذا المال وهو ثمن الدابة المستهلكة، وإن كان حين أخذ السلعة بقيمة الدابة المستهلكة لم ينو بها التجارة ونوى بها القنية فلا شيء عليه فيها. (قال) : وإن باعها حتى يحول الحول على ثمنها من يوم باعها، وإن كان أخذ في قيمة الدابة المستهلكة دنانير أو دراهم وقد حال الحول على الأصل، زكى الدنانير والدراهم ساعة يقبضها، وإن لم يكن حال الحول ثم اشترى بتلك الدنانير والدراهم سلعة، فإن نوى بها التجارة فهي للتجارة، وإن نوى بها حين اشتراها القنية فهي على القنية لا زكاة عليه في ثمنها إذا باعها حتى يحول على ثمنها الحول.

(قلت) : وهذا قول مالك. (فقال) : قول مالك في البيع مثل هذا، ورأيت أنا هذه المسألة في الاستهلاك مثل قول مالك في البيع. (قلت) : فلو أن رجلا كانت عنده سلعة للتجارة فباعها بعدما حال عليها الحول بمائة دينار. (فقال) : إذا قبض المائة زكاها مكانه. (قلت) : فإن أخذ بالمائة قبل قبضها ثوبا قيمته عشرة دنانير، (فقال) لا شيء عليه في الثوب حتى يبيعه. (قلت) : فإن باع الثوب بعشرة دنانير. قال: لا شيء عليه فيها وقد سقطت الزكاة عنه، إلا أن يكون له مال قد جرت فيه الزكاة إذا أضافه كان فيهما الزكاة. (قلت) : فإن باعها بعشرين دينارا. فقال: يزكي، يخرج ربع عشرها نصف دينار. (قلت) : وهذا قول مالك. قال: نعم. (قلت) : أرأيت عبدا اشتراه رجل للتجارة فكاتبه فمكث عنده سنين يؤدي فاقتضى منه مالا ثم عجز فرجع رقيقا فباعه مكانه، أيؤدي من ثمنه زكاة التجارة أم هو لما رجع إليه رقيقا صار فائدة. (فقال) : إذا عجز ورجع رقيقا رجع على الأصل فكان للتجارة ولا تنقض الكتابة ما كان ابتاعه له؟ لأن ملكه لم يزل عليه، وإنما مثل ذلك عندي مثل ما لو أنه باع عبدا له من رجل فأفلس المشتري فأخذ عبده، أو أخذ عبدا من غريمه في دينه فإنه يرجع على الأصل ويكون للتجارة كما

كان. (قال) : وكذلك لو أن رجلا اشترى دارا للتجارة فأجرها سنين ثم باعها بعد ذلك فإنها ترجع إلى الأصل ويزكيها على التجارة ساعة يبيع. (قلت) : أرأيت الرجل يتكارى الأرض للتجارة ويشتري الحنطة فيزرعها يريد بذلك التجارة. (قال) : قال مالك في هذا: إذا اكترى الرجل الأرض واشترى حنطة فزرعها يريد بذلك التجارة فإذا حصد زرعه أخرج منه العشر إن كان مما يجب فيه العشر، أو نصف العشر إن كان مما يجب فيه نصف العشر. (فإن مكثت) الحنطة عنده بعدما حصده وأخرج منه زكاة حصاده حولا ثم باعه فعليه الزكاة يوم باعه، وإن كان باعه قبل الحول فلا زكاة عليه فيه حتى يحول الحول عليه من يوم أدى زكاة حصاده. (قال) : وإن كان تكارى الأرض وزرعها بطعامه فحصده وأدى زكاته حين حصده ورفع طعامه فأكل منه وفضلت منه فضلة فباعها كانت فائدة ويستقبل بها حولا من يوم قبض الثمن في يديه. (قال) : وإن كانت الأرض له فزرعها للتجارة فإنه إذا رفع زرعه وحصده زكاه مكانه ولم يكن عليه إذا باع في ثمنه زكاة حتى يحول عليه الحول من يوم قبض ثمنه. (قلت) : أرأيت من اكترى أرضا للتجارة فاشترى حنطة وهو ممن يدير التجارة فزرع الأرض أيكون عليه عشر ما أخرجت الأرض؟ فقال: نعم. (قلت) : فإن هو أخرج عشر ما أخرجت الأرض فحال عليه الحول

أيزكي زكاة التجارة وهو ممن لا يدير ماله في التجارة؟ (فقال) : لا، حتى يبيع الحنطة بعد الحول فإذا باع زكى الثمن مكانه. (قلت) : فمن أين تحتسب السنة، أمن يوم اشترى الحنطة للتجارة واكترى الأرض، أو من يوم أدى زكاة الزرع؟ (فقال) : من يوم أدى زكاة الزرع. (قلت) : فإن هو باع الحنطة من قبل أن يحول عليها الحول من يوم أدى زكاة عشر ما أخرجت الأرض. (فقال) : ينتظر به حتى تأتي السنة من يوم أخرج العشر. (قلت) : فإن كان هذا يدير ماله في التجارة. (فقال) : إذا رفع زرعه زكى العشر ويستقبل من يوم زكى الزرع سنة كاملة، فإذا جاءت السنة فإن كان له مال سوى هذا الناض ناض في سنته هذه زكى هذه الحنطة وإن لم يبعها، وهذا مخالف للذي لا يدير ماله؟ لأن الذي يدير ماله هذه الحنطة في يده للتجارة وعنده مال ناض غير هذه الحنطة، فلما حال الحول على هذه الحنطة لم يكن له بد من أن يقوم هذه الحنطة. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا اشترى عروضا للتجارة فبدا له فجعل ذلك لجمال بيته واقتناه أتسقط عنه زكاة التجارة؟ . فقال: نعم. (قلت) : وهذا قول مالك؟ قال: نعم. قال ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: إن بار عليه العرض ولم يخلص إليه ماله فليس عليه صدقة حتى يخلص إليه، وإنما فيه إذا خلص العرض والدين صار عينا ناضا صدقة واحدة.

(وقال) عطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد مثل قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن (¬1) . وجاء في [المدونة] تحت عنوان: (في زكاة الذي يدير ماله) : (قال) : وقال مالك: إن كان رجل يدير ماله في التجارة، فكلما باع اشترى، مثل الحناطين والبزازين والزياتين ومثل التجار الذين يجهزون الأمتعة وغيرها إلى البلدان. (قال) : فليجعلوا لزكاتهم من السنة شهرا، فإذا جاء ذلك الشهر قوموا ما عندهم مما هو للتجارة وما في أيديهم من الناض فزكوا ذلك كله. (قال) : فقلت لمالك: فإن كان له دين على الناس؟ (قال) : يزكيه مع ما يزكي من تجارته يوم يزكي تجارته إن كان دينا يرتجى اقتضاؤه. (قال) : فقلت له: فإن جاءه عام آخر ولم يقتضه. (فقال) : يزكي أيضا. ومعنى قوله في ذلك: أن العروض والدين سواء؛ لأن العروض لو بارت عليه وهو ممن يقوم - يريد: يدير التجارة - زكى العرض السنة الثانية، فالدين والعرض في هذا سواء؛ فلو لم يكن على الدين شيء في السنة الثانية لم يكن على العرض في السنة الثانية شيء؛ لأنه لا زكاة في عرض على من لا يدير التجارة حتى يبيع، ولا في دين حتى يقبض، فلما كان الذي يدير التجارات الذي لا يشتري إلا باع يزكي عروضه التي عنده، فكذلك يزكي دينه الذي يرتجي قضاءه. (قال) : وقال: مالك: إذا كان الرجل يدير ماله في التجارة فجاء يومه ¬

_ (¬1) [المدونة] (1 \ 214) وما بعدها

الذي يقوم فيه وله دين من عروض أو غير ذلك على الناس لا يرجوه. (فقال) : إذا كان لا يرجوه لم يقومه وإنما يقوم ما يرتجيه من ذلك. (قال) مالك: ويقوم الرجل الحائط إذا اشتراه للتجارة إذا كان ممن يدير ماله. (قال) ابن القاسم: ولا يقوم الثمر؛ لأن الثمر فيه زكاة فلا يقومه مع ما يقوم من ماله. (قال) سحنون: ولأنه غلة بمنزلة خراج الدار وكسب العبد وإن اشترى رقابها للتجارة، وبمنزلة غلة الغنم ما يكون من صوفها ولبنها وسمنها وإن كان رقابها للتجارة أو للقنية. (قلت) : أرأيت رجلا كان يدير ماله للتجارة ولا ينض له شيء فاشترى بجميع ما عنده حنطة، فلما جاء شهره الذي يقوم فيه كان جميع ماله الذي يتجر فيه حنطة، فقال: أنا أؤدي إلى المساكين ربع عشر هذه الحنطة كيلا ولا أقوم. (فقال) لي مالك: إذا كان الرجل يدير ماله في التجارة ولا ينض له شيء إنما يبيع العرض بالعرض، فهذا لا يقوم، ولا شيء عليه، ولا زكاة ولا تقويم حتى ينض له بعض ماله. (قال) : وقال مالك: من باع بالعرض والعين فذلك الذي يقوم. (قال) سحنون: وكذلك روى ابن وهب عن مالك في الذي لا ينض له شيء إنما يبيع العرض بالعرض. (قلت) : أرأيت إن كان يدير ماله للتجارة فحالت عليه أحوال لا ينض له منه شيئا ثم إنه باع منها بدرهم واحد ناض.

(فقال) : إذا نض مما في يديه من العروض بعد الحول وإن كان درهما واحدا، فقد وجبت فيه الزكاة ويقوم العرض مكانه حين نض هذا الدرهم فيزكيه كله، ويستقبل الزكاة من ذي قبل. (قلت) : فإن أتت السنة من ذي قبل وليس عنده من الناض شيء، وماله كله في العرض وقد كان في وسط السنة وفي أولها وفي آخرها قد كان ينض له، إلا أنه لما حال الحول ذلك اليوم لم يكن عنده من الناض شيء فكان جميع ما في يديه عرضا. (قال) : يقوم ويزكي؛ لأن هذا قد كان يبيع في سنته بالعين والعرض. (قلت) : فإن هو باع من ذي قبل بالعرض ولم ينض له شيء حتى أتى الحول وجميع ما عنده عرض أيقوم. فقال: لا يقوم؛ لأن هذا لم ينض له شيء في سنته هذه، وإنما كان رجل يبيع العرض بالعرض فلا تقويم عليه، ولا زكاة حتى ينض له مما في يديه شيء من يوم زكى إلى أن يحول الحول من ذي قبل. (قلت) : فإن باع بعد الحول فنض له وإن درهم واحد زكاه؟ قال: نعم. (قلت) : ويكون هذا اليوم الذي زكى فيه وقته، ويستقبل حولا من ذي قبل ويلغي الوقت الأول. (فقال) : نعم؛ لأن مالكا قال لي: لا يقوم على من يبيع العرض بالعرض ولا ينض له شيء. (قال) ابن وهب عن الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه حماس: أنه كان يبيع الجلود

والقرون، فإذا فرغ منها اشترى مثلها، فلا يجتمع عنده أبدا ما تجب فيه الزكاة، فمر به عمر بن الخطاب وعليه جلود يحملها للبيع، فقال له: زك مالك يا حماس، فقال: ما عندي شيء تجب فيه الزكاة، فقال: قوم مالك، فقوم ما عنده ثم أدى زكاته. قال سحنون: قال عمرو بن الحارث وقال يحيى بن سعيد: إنما هذا الذي يدير ماله، فلو أنه كان لا يقوم ماله لم يزك أبدا، وأما الذي تكسد سلعته فلا زكاة عليه. قال سحنون: يعني حتى يبيع، وقال: قال ذلك مالك بن أنس رضي الله عنهما (¬1) . ب - قال ابن رشد - الجد - تحت ترجمة: (في افتراق حكم الأموال في الزكاة) : والأموال في الزكاة تنقسم على ثلاثة أقسام: قسم الأغلب فيه إنما يراد لطلب الفضل والنماء فيه لا للاقتناء، وهو العين من المذهب والورق وأتبارهما والمواشي وآنية الذهب والفضة وكل ما لا يجوز اتخاذه منها، فهذا تجب فيه الزكاة، اشتراه أو ورثه أو تصدق به عليه، نوى به التجارة أو القنية أو ما نوى به. وقسم ثان الأغلب منه إنما يراد للاقتناء لا لطلب الفضل والنماء، وهي العروض كلها، الدور والأرضون والثياب والطعام والحيوان الذي تجب في رقابه الزكاة، فهذا يفرق فيه بين الشراء والفائدة، فما أفاده من ذلك بهبة أو ميراث، أو بما أشبه ذلك من وجوه الفوائد فلا زكاة عليه فيه، نوى به التجارة أو القنية حتى يبيعه ¬

_ (¬1) [المدونة] (1 \ 217) وما بعدها

ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه، وما اشترى من ذلك فهو على ما نوى فيه، إن أراد به القنية فلا زكاة عليه فيه حتى يبيعه ويستقبل به حولا من يوم باعه، وإن أراد به التجارة كان للتجارة وزكاه عن سنة التجارة. واختلف ابن القاسم وأشهب إذا اشتراه للتجارة ثم نوى به القنية هل يرجع إلى حكمها بالنية أم لا؟ فقال ابن القاسم: يرجع إلى القنية ويستقبل بثمنه حولا من يوم باعه وقبض ثمنه إن باعه، ورواه عن مالك. وقال أشهب: لا يرجع إلى القنية بالنية وهو على ما اشتراه عليه من نية التجارة، فإن باعه زكاه ساعة باعه وقبض ثمنه إن كان الحول قد حال على أصل الثمن، ورواه عن مالك. ولم يختلفا أنه إذا اشتراه للقنية أو أفاده بميراث أو غيره ثم نوى به التجارة، أنه لا ينتقل إليها بالنية واختلفا أيضا إذا اشتراه للوجهين جميعا، فغلب ابن القاسم القنية على أصله فيما اشتراه للتجارة أنه يرجع إلى القنية بالنية؛ لأنها الأصل، وغلب أشهب التجارة على أصله أن القنية والتجارة أصلان لا يرجع أحدهما إلى صاحبه بالنية، فلما اجتمعا كان الحكم للذي أوجب الزكاة احتياطا كالبينتين إذا أثبتت إحداهما الحكم ونفته الأخرى، وكقول مالك فيمن له أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق أنه متمتع. وقسم ثالث يراد للوجهين جميعا، للاقتناء وطلب النماء، وهو حلي الذهب والفضة، فهذا لا يفرق فيه بين الفائدة والشراء، وهو في الوجهين معا على ما نوى، إن أراد به التجارة زكاه، وإن أراد به الاقتناء ليلبسه أهله وجواريه، أو هي إن كانت امرأة فلا زكاة عليها فيه.

واختلف فيما يتخذ منه للكراء هل يخرج بذلك عن حكم الاقتناء وتجب فيه الزكاة أم لا؟ على قولين: وقال أيضا تحت ترجمته: (في افتراق حكم التجارة في الزكاة) : والتاجر ينقسم إلى قسمين: مدير، وغير مدير. فالمدير: هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجى قبضها فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض، وأما غير المدير: وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق، فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده أحوالا (¬1) . ج- قال ابن رشد- الحفيد -: والنصاب في العروض على مذهب القائلين بذلك إنما هو فيما اتخذ منها للبيع خاصة على ما يقدر قبل، والنصاب فيها على مذهبهم هو النصاب في العين، إذ كانت هذه هي قيم المتلفات ورؤوس الأموال، وكذلك الحول في العروض عند الذين أوجبوا الزكاة في العروض، فإن مالكا قال: إذا باع العروض زكاه لسنة واحدة كالحال في الدين، وذلك عنده في التاجر الذي تنضبط له أوقات شراء عروضه. وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ولا يشترونه، وهم الذين يخصون باسم المدير، فحكم هؤلاء عند مالك إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم أن يقوم ما بيده من العروض ثم يضم إلى ذلك ما بيده ¬

_ (¬1) [المقدمات] مع [المدونة] (1\ 123) وما بعدها

من العين، وما له من الدين الذي يرتجى قبضه إن لم يكن عليه دين مثله، وذلك بخلاف قوله في دين غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابا أدى زكاته، وسواء نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض، بلغ نصابا أو لم يبلغ نصابا، وهذه رواية ابن الماجشون عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: إذا لم يكن له ناض وكان يتجر بالعروض لم يكن عليه في العروض شيء، فمنهم من لم يشترط وجود الناض عنده، ومنهم من شرطه، والذي شرطه منهم من اعتبر فيه النصاب، ومنهم من لم يعتبر ذلك. وقال المزني: زكاة العروض تكون من أعيانها لا من أثمانها. وقال الجمهور- الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم-: المدير وغير المدير حكمه واحد، وأنه من اشترى عرضا للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه. وقال قوم: بل يزكي ثمنه الذي ابتاعه به لا قيمته. وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئا؛ لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه. وأما مالك فشبه النوع ههنا بالعين لئلا تسقط الزكاة رأسا عن المدير، وهذا هو بأن يكون شرعا زائدا أشبه منه بأن يكون شرعا مستنبطا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه.

ومالك رحمه الله يعتبر المصالح وإن لم يستند إلى أصول منصوص عليها (¬1) . د- جاء في [أقرب المسالك على مذهب الإمام مالك] و [الشرح الصغير] ، له: (وإنما يزكي عرض تجارة) لا قنية، فلا زكاة فيه إلا إذا باعه بعين أو ماشية، فيستقبل بثمنه حولا من قبضه، كما تقدم في الفائدة. وقوله: (عرض) أي: عوض، فيشمل قيمة عروض المدير وثمن عروض المحتكر حيث باعها بشروط خمسة: أشار لأولها بقوله: (إن كان لا زكاة في عينه) كالثياب والرقيق، وأما ما في عينه زكاة كنصاب ماشية أو حلي أو حرث فلا يقوم على مدير، ولا يزكي ثمنه محتكر، بل يستقبل بثمنه من يوم قبضه، إلا إذا قرب الحول وباعه فرارا من الزكاة فيؤخذ بزكاة المبدل كما تقدم. ولثانيها بقوله: (وملك) العرض (بشراء) لا إن ورثه، أو وهب له، أو أخذه في خلع أو أخذته صداقا ونحو ذلك من الفوائد. وقولنا (بشراء) أحسن من قوله (بمعاوضة) ؛ لأنه يشمل الصداق والخلع فيحتاج إلى تقييده بقولنا: مالية؛ لإخراجهما. وشمل هذا الشرط والذي قبله الحب المشترى للتجارة، فإنه لا زكاة في عينه. وعلم بذلك أن المراد بالعرض ما يشمل المثليات. ولثالثها بقوله: (بنية تجر) أي: إن ملك بشراء مع نية تجر مجردة حال الشراء (أو مع نية غلته) بأن ينوي عند شرائه للتجارة أن يكريه إلى أن ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد] (1\ 245)

يجد ربحا، (أو مع) نية (قنية) بأن ينوي عند الشراء ركوبه أو سكناه أو حملا عليه إلى أن يجد فيه ربحا فيبيعه (لا) إن ملكه (بلا نية) أصلا (أو نية قنية) فقط، (أو) نية (غلة) فقط، (أو هما) ، أي: بنية القنية والغلة معا، فلا زكاة. ولرابعها بقوله: (وكان ثمنه) الذي اشترى به ذلك العرض (عينا أو عرضا كذلك) أي: ملك بشراء، سواء كان عرض تجارة أو قنية، كمن عنده عرض مقتنى اشتراه بعين، ثم باعه بعرض نوى به التجارة، فيزكي ثمنه إذا باعه لحوله من وقت اشترائه. بخلاف ما لو كان عنده عرض ملك بلا عوض كهبة وميراث فيستقبل بالثمن. ولخامسها بقوله: (وبيع منه) أي: من العرض وأولى بيعه كله (بعين) نصابا فأكثر في المحتكر أو أقل. (ولو درهما في المدير) . فإن توفرت هذه الشروط زكى (كالدين) أي: كزكاة الدين المتقدمة، أي: لسنة من أصله إن قبض ثمنه عينا نصابا فأكثر كمل بنفسه، ولو قبضه في مرات أو مع فائدة تم حولها، أو معدن. وهذا (إن رصد) ربه (به) أي: بالعرض المذكور (الأسواق) أي: ارتفاع الأثمان، وهو المسمى بالمحتكر، فقوله: (كالدين) خاص بالمحتكر، والشروط الخمسة المتقدمة عامة فيه وفي المدير، فكأنه قال: إن توفرت الشروط زكاه كزكاة الدين إن كان محتكرا شأنه يرصد الأسواق. (وإلا) يرصد الأسواق بأن كان مديرا وهو الذي يبيع بالسعر الواقع كيف كان ويخلف ما باعه بغيره؛ كأرباب الحوانيت والطوافين بالسلع (زكى عينه) التي عنده (ودينه) أي: عدده (النقد) الذي أصله عرض (الحال)

أي: الذي حل أجله أو كان حالا أصالة (المرجو) خلاصه ولو لم يقبضه بالفعل، وما تقدم في زكاة الدين- من أنه إنما يزكى بعد قبضه مع بقية الشروط- ففي غير المدير أو في المدير إذا كان أصله قرضا، كما تقدمت الإشارة إليه، وكما سيأتي قريبا إن شاء الله. (وإلا) يكن نقدا حالا- بأن كان عرضا أو مؤجلا- مرجوا فيهما، فالنفي راجع لقوله النقد الحال فقط بدليل ما بعده. ومرادنا بالعرض: ما يشمل طعام السلم (قومه) على نفسه قيمة عدل (كل عام) وزكى القيمة؛ لأن الموضوع أنه مرجو فهو في المدير في قوة المقبوض (كسلعه) أي: المدير، أي: كما يقوم كل عام سلعه التي للتجارة (ولو بارت) سنين إذ بوارها بضم الباء، أي: كسادها لا ينقلها لاحتكار ولا قنية، وأما البوار بفتح الباء، فمعناه: الهلاك (¬1) . (لا إن لم يرجه) بأن كان على معدم أو ظالم لا تأخذه الأحكام فلا يقومه فإن قبضه زكاه لعام واحد كالعين الضائعة والمغصوبة (أو كان) أي: ولا إن كان دينه الذي على المدين (قرضا) أي: كان أصله سلفا - ولو مرجوا- فلا يقومه على نفسه ليزكيه لعدم النماء فيه فهو خارج عن حكم التجارة (فإن قبضه زكاه لعام) واحد. وإن أقام عند المدين سنين إلا أن يؤخره فرارا من الزكاة فلكل عام مضى. (وحوله) أي: والمدير الذي يقوم فيه سلعه لزكاتها مع عينه ودينه الحال المرجو (حول أصله) أي: المال الذي اشترى به السلع؛ فيكون ¬

_ (¬1) وقوله: بوار بالضم، كذا في الأصل، وفي [القاموس] الفتح فقط.

ابتداء الحول من يوم ملك الأصل أو زكاه. ولو تأخرت الإدارة عنه، كما لو ملك نصابا أو زكاه في المحرم ثم أداوه في رجب، أي: شرع في التجارة على وجه الإدارة في رجب فحوله إلى محرم، وقيل: حوله وسط بين حول الأصل ووقت الإدارة كربيع الثاني. (ولا تقوم الأواني) التي توضع فيها سلع التجارة كالزلع، (والآلات) ؟ كالمنوال والمنشار والقدوم والمحراث (وبهيمة العمل) من حمل وحرث وغيرهما؛ لبقاء عينها فأشبهت القنية. (وإن اجتمع) لشخص (احتكار) في عرض (وإدارة) في آخر (وتساويا أو احتكر الأكثر) وأدار في الأقل (فكل) من العرضين (على حكمه) في الزكاة (وإلا) بأن أدار أكثر سلعه واحتكر الأقل (فالجميع للإدارة) وبطل حكم الاحتكار.

النقل عن الشافعية

3 - النقل عن الشافعية: أ- جاء في [الأم] تحت ترجمة (باب زكاة التجارة) : (أخبرنا) الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن عبد الله بن أبي سلمة عن أبي عمرو بن حماس: أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي آدمة أحملها، فقال عمر: (ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟) فقلت: يا أمير المؤمنين، مالي غير هذه التي على ظهري واهبة في القرظ، فقال: (ذاك مال فضع) فوضعتها

بين يديه، فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة. (أخبرنا) الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان قال حدثنا ابن عجلان عن أبي الزناد عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه مثله، أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا الثقة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال: (ليس في العرض زكاة إلا أن يراد به التجارة) . أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن رزيق (¬1) بن حكيم: أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: (أن انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرين دينارا، فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا) . (قال الشافعي) : ويعد له حتى يحول عليه الحول فيأخذ، ولا يأخذ منهم حتى يعلموا أن الحول قد حال على ما يأخذ منه. (قال الشافعي) : ونوافقه في قوله: فإن نقصت ثلث دينار فدعها. ونخالفه في أنها إذا نقصت عن عشرين دينارا أقل من حبة لم نأخذ منها شيئا؛ لأن الصدقة إذا كانت محدودة بأن لا يؤخذ إلا من عشرين دينارا، فالعلم يحيط أنها لا يؤخذ من أقل من عشرين دينارا بشيء ما كان الشيء. (قال الشافعي) : وبهذا كله نأخذ، وهو قول أكثر من حفظت عنه وذكر لي عنه من أهل العلم بالبلدان. ¬

_ (¬1) ويقال: زريق، ثقة من السادسة، وأبوه بالتكبير والتصغير، كذا في التقريب.

(قال الشافعي) : والعروض التي لم تشتر للتجارة من الأموال ليس فيها زكاة بأنفسها، فمن كانت له دور أو حمامات لغلة أو غيرها أو ثياب كثرت أو قلت، أو رقيق كثر أو قل فلا زكاة فيها، وكذلك لا زكاة في غلاتها حتى يحول عليها الحول في يدي مالكها، وكذلك كتابة المكاتب وغيره لا زكاة فيها إلا بالحول له، وكذلك كل مال ما كان ليس بماشية ولا حرث ولا ذهب ولا فضة يحتاج إليه، أو يستغني عنه، أو يستغل ما له غلة منه، أو يدخره ولا يريد بشيء منه التجارة فلا زكاة عليه في شيء منه بقيمة، ولا في غلته ولا في ثمنه لو باعه إلا أن يبيعه أو يستغله ذهبا أو ورقا، فإذا حال على ما نض بيده من ثمنه حول زكاه، وكذلك غلته إذا كانت مما يزكى من سائمة إبل أو بقر أو غنم أو ذهب أو فضة، فإن أكرى شيئا منه بحنطة أو زرع مما فيه زكاة فلا زكاة عليه فيه، حال عليه الحول أو لم يحل؛ لأنه لم يزرعه فتجب عليه فيه الزكاة، وإنما أمر الله عز وجل أن يؤتى حقه يوم حصاده، وهذا دلالة على أنه إنما جعل الزكاة على الزرع. (قال الربيع) : قال أبو يعقوب: وزكاة الزرع على بائعه؟ لأنه لا يجوز بيع الزرع في قول من يجيز بيع الزرع إلا بعد أن يبيض. (قال أبو محمد الربيع) : وجواب الشافعي فيه على قول من يجيز بيعه، فأما هو فكان لا يرى بيعه في سنبله إلا أن يثبت فيه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتبع. (قال الشافعي) : ولا اختلاف بين أحد علمته أن من أدى عشر أرضه ثم حبس طعامها أحوالا لم يكن عليه فيه زكاة.

(قال الشافعي) : ومن ملك شيئا من هذه العروض بميراث أو هبة أو وصية أو أي وجوه الملك ملكها به إلا الشراء، أو كان متربصا يريد به البيع، فحالت عليه أحوال فلا زكاة عليه فيه؛ لأنه ليس بمشترى للتجارة. (قال الشافعي) : ومن اشترى من العروض شيئا مما وصفت أو غيره مما لا تجب فيه الزكاة بعينه بذهب أو ورق أو عرض، أو بأي وجوه الشراء الصحيح كان أحصى يوم ملكه ملكا صحيحا، فإذا حال عليه الحول من يوم ملكه وهو عرض في يده للتجارة فعليه أن يقومه بالأغلب من نقد بلده، دنانير كانت أو دراهم، ثم يخرج زكاته من المال الذي قومه به. (قال الشافعي) : وهكذا إن باع عرضا منه بعرض اشتراه للتجارة قوم العرض الثاني بحوله يوم ملك العرض الأول للتجارة، ثم أخرج الزكاة من قيمته، وسواء غبن فيما اشتراه منه أو غبن عامة إلا أن يغبن بالمحاباة وجاهلا به؛ لأنه بعينه لا اختلاف فيما تجب عليه الزكاة منه. (قال الشافعي) : وإذا اشترى العرض بنقد تجب فيه الزكاة أو عرض تجب في قيمته الزكاة حسب ما أقام المال في يده ويوم اشترى العرض، كأن المال أو العرض الذي اشترى به العرض للتجارة أقام في يده ستة أشهر، ثم اشترى به عرضا للتجارة فأقام في يده ستة أشهر فقد حال الحول على المالين معا، الذي كان أحدهما مقام الآخر، وكانت الزكاة واجبة فيهما معا، فيقوم العرض الذي في يده فيخرج منه زكاته. (قال الشافعي) : فإن كان في يده عرض لم يشتره، أو عرض اشتراه

لغير تجارة ثم اشترى به عرضا للتجارة لم يحسب ما أقام العرض الذي اشترى به العرض الآخر، وحسب من يوم اشترى العرض الآخر، فإذا حال الحول من يوم اشتراه زكاه؛ لأن العرض الأول ليس مما تجب فيه الزكاة بحال. (قال الشافعي) : ولو اشترى عرضا للتجارة بدنانير أو بدراهم أو شيء تجب فيه الصدقة من الماشية، وكان أفاد ما اشترى به ذلك العرض من يومه لم يقوم العرض حتى يحول الحول يوم أفاد ثمن العرض ثم يزكيه بعد الحول. (قال الشافعي) : ولو أقام هذا العرض في يده ستة أشهر، ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يده ستة أشهر زكاه، وكانت كدنانير أو دراهم أقامت في يده ستة أشهر؛ لأنه لا يجب في العرض زكاة إلا بشرائه على نية التجارة؛ فكان حكمه حكم الذهب والورق التي حال عليها الحول في يده. (قال الشافعي) : ولو كانت في يده مائتا درهم ستة أشهر، ثم اشترى بها عرضا فأقام في يده حتى يحول عليه حول من يوم ملك المائتي درهم التي حولها فيه لتجارة عرضا، أو باعه بعرض لتجارة فحال عليه الحول من يوم ملك المائتي درهم، أو من يوم زكى المائتي درهم قومه بدراهم ثم زكاه لا يقومه بدنانير إذا اشتراه بدراهم، وإن كانت الدنانير الأغلب من نقد البلد، وإنما يقومه بالأغلب إذا اشتراه بعرض للتجارة. (قال الشافعي) : ولو اشتراه بدراهم ثم باعه بدنانير قبل أن يحول الحول عليه من يوم ملك الدراهم التي صرفها فيه، أو من يوم زكاه فعليه

الزكاة من يوم ملك الدراهم التي اشتراه بها إذا كانت مما تجب فيه الزكاة، وذلك أن الزكاة تجوز في العرض بعينه فبأي شيء بيع العرض ففيه الزكاة، وقوم الدنانير التي باعه بها دراهم ثم أخذ زكاة الدراهم، ألا ترى أنه يباع بعرض فيقوم فتؤخذ منه الزكاة ويبقى عرضا فيقوم فتؤخذ منه الزكاة، فإذا بيع بدنانير زكيت الدنانير بقيمة الدراهم. (قال الربيع) : وفيه قول آخر: أن البائع إذا اشترى السلعة بدراهم فباعها بدنانير، فالبيع جائز ولا يقومها بدراهم ولا يخرج لها زكاة من قبل أن في الدنانير بأعيانها زكاة، فقد تحولت الدراهم دنانير فلا زكاة فيها. وأصل قول الشافعي: أنه لو باع بدراهم قد حال عليها الحول إلا يوم بدنانير لم يكن عليه في الدنانير زكاة حتى يبتدئ لها حولا كاملا، كما لو باع بقرا أو غنما بإبل قد حال الحول على ما باع إلا يوم استقبل حولا بما اشترى إذا كانت سائمة. (قال الشافعي) : ولو اشترى عرضا لا ينوي بشرائه التجارة فحال عليه الحول أو لم يحل ثم نوى به التجارة لم يكن عليه فيه زكاة بحال حتى يبيعه ويحول على ثمنه الحول؛ لأنه إذا اشتراه لا يريد به التجارة كان كما ملك بغير شراء لا زكاة فيه. (قال الشافعي) : ولو اشترى عرضا يريد به التجارة فلم يحل عليه حول من يوم اشتراه حتى نوى به أن يقتنيه ولا يتخذه لتجارة، لم يكن عليه فيه زكاة كان أحب إلي لو زكاه، وإنما يبين أن عليه زكاته إذا اشتراه يريد به التجارة، ولم تنصرف نيته عن إرادة التجارة به، فأما إذا انصرفت نيته عن إرادة التجارة فلا أعلمه أن عليه فيه زكاة.

وهذا مخالف لماشية سائمة أراد علفها فلا ينصرف عن السائمة حتى يعلفها. فأما نية القنية والتجارة فسواء، لا فرق بينهما إلا بنية المالك. (قال الشافعي) : ولو كان لا يملك إلا أقل من مائتي درهم أو عشرين مثقالا، فاشترى بها عرضا للتجارة، فباع العرض بعدما حال عليه الحول أو عنده أو قبله بما تجب فيه الزكاة - زكى العرض من يوم ملك العرض لا يوم ملك الدراهم؛ لأنه لم يكن في الدراهم زكاة لو حال عليها الحول وهي بحالها. (قال الشافعي) : ولو كانت الدنانير أو الدراهم التي لا يملك غيرها التي اشترى بها العرض أقامت في يده أشهرا لم يحسب مقامها في يده؛ لأنها كانت في يده لا تجب فيها الزكاة، وحسب للعرض حول من يوم ملكه، وإنما صدقنا العرض من يوم ملكه أن الزكاة وجبت فيه بنفسه بنية شرائه للتجارة إذا حال الحول من يوم ملكه، وهو مما تجب فيه الزكاة؛ لأني كما وصفت من أن الزكاة صارت فيه نفسه ولا أنظر فيه إلى قيمته في أول السنة ولا في وسطها؛ لأنه إنما تجب فيه الزكاة إذا كانت قيمته يوم تحل الزكاة مما تجب فيه الزكاة، وهو في هذا يخالف الذهب والفضة. ألا ترى أنه لو اشترى عرضا بعشرين دينارا وكانت قيمته يوم يحول الحول أقل من عشرين سقطت فيه الزكاة؛ لأن هذا بين أن الزكاة تحولت فيه وفي ثمنه إذا بيع لا فيما اشترى به. (قال الشافعي) : وسواء فيما اشتراه لتجارة كل ما عدا الأعيان التي فيها الزكاة بأنفسها من رقيق وغيرهم؛ فلو اشترى رقيقا لتجارة فجاء عليهم الفطر وهم عنده - زكى عنهم زكاة الفطر إذا كانوا مسلمين وزكاة

التجارة بحولهم، وإن كانوا مشركين زكى عنهم التجارة وليست عليه فيهم زكاة الفطر. (قال) : وليس في شيء اشتري لتجارة زكاة الفطر غير الرقيق المسلمين، وزكاته غير زكاة التجارة. ألا ترى أن زكاة الفطر على عدد الأحرار الذين ليسوا بمال، وإنما هي طهور لمن لزمه اسم الإيمان. (قال الشافعي) : ولو اشترى دراهم بدنانير أو بعرض أو دنانير بدراهم أو بعرض يريد بها التجارة فلا زكاة فيما اشترى منها إلا بعدما يحول عليه الحول من يوم ملكه، كأنه ملك مائة دينار أحد عشر شهرا ثم اشترى بها مائة دينار أو ألف درهم. فلا زكاة في الدنانير الآخرة ولا الدراهم، حتى يحول عليها الحول من يوم ملكها؛ لأن الزكاة فيها بأنفسها. (قال الشافعي) : وهكذا إذا اشترى سائمة من إبل أو بقر أو غنم بدنانير أو دراهم أو غنم أو إبل أو بقر، فلا زكاة فيما اشترى منها حتى يحول عليها الحول في يده من يوم ملكه، اشتراه بمثله أو غيره مما فيه الزكاة. ولا زكاة فيما أقام في يده ما اشتراه ما شاء أن يقيم؛ لأن الزكاة فيه بنفسه لا بنية للتجارة ولا غيرها. (قال الشافعي) : وإذا اشترى السائمة لتجارة زكاها زكاة السائمة لا زكاة التجارة، وإذا ملك السائمة بميراث أو هبة أو غيره زكاها بحولها زكاة السائمة، وهذا خلاف التجارات. (قال الشافعي) : وإذا اشترى نخلا وأرضا للتجارة زكاها زكاة النخل والزرع، وإذا اشترى أرضا فيها غراس غير نخل أو كرم أو زرع غير حنطة (قال أبو يعقوب والربيع) : وغير ما فيها الركاز لتجارة زكاها زكاة

التجارة؛ لأن هذا مما ليس فيه بنفسه زكاة وإنما يزكى زكاة التجارة. (قال الشافعي) : ومن قال: لا زكاة في الحلي ولا في الماشية غير السائمة، فإذا اشترى واحدا من هذين للتجارة ففيه الزكاة، كما يكون في العروض التي تشترى للتجارة (¬1) . ب - قال الشيرازي: تجب الزكاة في عروض التجارة لما روى أبو ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البز صدقته (¬2) » ، ولأن التجارة يطلب بها نماء المال فتعلقت بها الزكاة كالسوم في الماشية. ج - وقال النووي على ذلك: هذا الحديث رواه الدارقطني في [سننه] والحاكم أبو عبد الله في [المستدرك] والبيهقي بأسانيدهم، ذكره الحاكم بإسنادين، ثم قال: هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم. (قوله) : «وفي البز صدقته» هو بفتح الباء وبالزاي، هكذا رواه جميع الرواة، وصرح بالزاي الدارقطني والبيهقي، ونصوص الشافعي - رضي الله عنه - القديمة والجديدة متظاهرة على وجوب زكاة التجارة. قال أصحابنا: (قال الشافعي - رضي الله عنه - في القديم: اختلف الناس في زكاة التجارة: فقال بعضهم: لا زكاة فيها، وقال بعضهم: فيها الزكاة، وهذا أحب إلينا) . هذا نصه. ¬

_ (¬1) [الأم] (2 \ 39) وما بعدها (¬2) مسند أحمد بن حنبل (5/179) .

فقال القاضي أبو الطيب وآخرون: هذا ترديد قول، فمنهم من قال في القديم: قولان في وجوبها، ومنهم من لم يثبت هذا القديم، واتفق القاضي أبو الطيب وكل من حكى هذا القديم على أنه الصحيح في القديم أنها تجب، كما نص عليه في الجديد، والمشهور للأصحاب الاتفاق على أن مذهب الشافعي (رض) وجوبها، وليس في هذا المنقول عن القديم إثبات قول بعدم وجوبها، وإنما أخبر عن اختلاف الناس، وبين أن مذهبه الوجوب بقوله: وهذا أحب إلي، والصواب الجزم بالوجوب، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين. قال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، قال: رويناه عن عمر بن الخطاب وابن عباس والفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وطاوس، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، والنخعي ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، والنعمان وأصحابه، وأحمد وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيد. وحكى أصحابنا عن داود وغيره من أهل الظاهر أنهم قالوا: لا تجب. وقال ربيعة ومالك: لا زكاة في عروض التجارة ما لم تنض وتصير دراهم أو دنانير، فإذا نضت لزمه زكاة عام واحد. واحتجوا: بالحديث الصحيح: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة (¬1) » وهو في [الصحيحين] ، وقد سبق بيانه، وبما جاء عن ابن ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزكاة (2469) .

عباس أنه قال: لا زكاة في العروض. واحتج أصحابنا بحديث أبي ذر المذكور، وهو صحيح كما سبق، وعن سمرة قال: (أما بعد: «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (¬1) » رواه أبو داود في أول كتاب الزكاة، وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم، ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده. وعن حماس - بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم وآخره سين مهملة - وكان يبيع الأدم قال: (قال لي عمر بن الخطاب: يا حماس، أد زكاة مالك، فقلت: ما لي مال، إنما أبيع الأدم، قال: قومه، ثم أد زكاته، ففعلت) رواه الشافعي وسعيد بن منصور الحافظ في [مسنده] والبيهقي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة) رواه البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل بإسناده الصحيح. وأما الجواب عن حديث: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة (¬2) » : فهو محمول على ما ليس للتجارة، ومعناه: لا زكاة في عينه بخلاف الأنعام، وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث، وأما قول ابن عباس فهو ضعيف الإسناد ضعفه الشافعي رضي الله عنه والبيهقي وغيرهما، قال البيهقي: ولو صح لكان محمولا على عرض ليس للتجارة ليجمع بينه وبين الأحاديث والآثار السالفة، ولما روى ابن المنذر عنه من وجوب زكاة التجارة كما سبق (¬3) ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1562) . (¬2) سنن النسائي الزكاة (2469) . (¬3) [المهذب] ، و [المجموع] (6 \ 43) .

د - قال الشيرازي: ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين: (أحدهما) : أن يملكه بعقد فيه عوض كالبيع والإجارة والنكاح والخلع. (والثاني) : أن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة، وأما إذا ملكه بإرث أو وصية أو هبة من غير شرط الثواب فلا تصير للتجارة بالنية، وإن ملكه بالبيع والإجارة ولم ينو عند العقد أنه للتجارة لم يصر للتجارة. وقال الكرابيسي من أصحابنا: إذا ملك عرضا ثم نوى أنه للتجارة صار للتجارة، كما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى القنية صار للقنية بالنية والمذهب الأول؛ لأنه ما لم يكن للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى إسامتها، ويفارق إذا نوى القنية بمال التجارة؛ لأن القنية هي الإمساك بنية القنية، وقد وجد الإمساك والنية، والتجارة هي التصرف بنية التجارة، وقد وجدت النية ولم يوجد التصرف فلم يصر للتجارة. هـ- قال النووي: (الشرح) قوله: من أصله، احتراز من حلي الذهب والفضة إذا قلنا: لا زكاة فيه، فنوى استعماله في حرام أو نوى كنزه واقتناه فإنه يجب فيه الزكاة كما سبق؛ لأن أصله الزكاة. قال أصحابنا: مال التجارة هو كل ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة. وتفصيل هذه القيود: أن مجرد نية التجارة يصير به المال للتجارة. فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره فجعله للتجارة لم يصر للتجارة، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور، وقال الكرابيسي: يصير للتجارة، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن راهويه، وقد ذكر المصنف دليل الوجهين.

أما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء، فإن المشترى يصير للتجارة ويدخل في الحول بنفس الشراء، سواء اشتراه بعرض أو نقد أو دين حال أو مؤجل، وإذا صار للتجارة استمر حكمها، ولا يحتاج في كل معاملة إلى نية أخرى بلا خلاف، بل النية مستصحبة كافية، وفي معنى الشراء ما لو صالح عن دين له في ذمة إنسان على عوض بنية التجارة فإنه يصير للتجارة بلا خلاف، سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أو ضمان متلف، وهكذا الاتهاب بشرط الثواب إذا نوى به التجارة صار للتجارة. صرح به البغوي وغيره. وأما الهبة بلا ثواب والاحتطاب والاحتشاش والاصطياد فليست من أسباب التجارة ولا أثر لاقتران النية بها، ولا يصير العرض للتجارة بلا خلاف، لفوات الشرط، وهو المعاوضة، وهكذا الرد بالعيب والاسترداد. فلو باع عرض قنية بعرض قنية ثم وجد بما أخذه عيبا فرده واسترد الأول على قصد التجارة، أو وجد صاحبه بما أخذ عيبا فرده فقصد المردود عليلا بأخذه للتجارة- لم يصر للتجارة. ولو كان عنده ثوب قنية فاشترى به عبدا للتجارة ثم رد عليه الثوب بالعيب انقطع حول التجارة ولا يكون الثوب للتجارة، بخلاف ما لو كان الثوب للتجارة أيضا فإنه يبقى حكم التجارة فيه، كما لو باع عرض التجارة واشترى بثمنه عرضا آخر، وكذا لو تبايع التاجران ثم تعاملا - يستمر حكم التجارة في المالين. ولو كان عنده ثوب تجارة فباعه بعبد للقنية، فرد عليه الثوب بالعيب لم يعد إلى حكم التجارة؛ لأن قصد القنية حول التجارة، وليس الرد

والاسترداد من التجارة، كما لو قصد القنية بمال التجارة الذي عنده فإنه يصير قنية بالاتفاق. فلو نوى بعد ذلك جعله للتجارة لا يؤثر حتى تقترن النية بتجارة جديدة. ولو خالع وقصد بعرض الخلع التجارة في حال المخالعة، أو زوج أمته أو تزوجت الحرة ونويا حال العقد التجارة في الصد اق، فطريقان: (أصحهما) : - وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين - يكون مال تجارة، وينعقد الحول من حينئذ؛ لأنها معاوضة ثبتت فيها الشفعة كالبيع. (والثاني) : وهو مشهور في طريقة الخراسانيين، وذكر بعض العراقيين، فيه وجهان: (أصحهما) : هذا، (والثاني) : لا يكون للتجارة؟ لأنهما ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة، وطرد الخراسانيون الوجهين في المال المصالح به عن الدم، والذي أجر به نفسه أو ماله إذا نوى بهما التجارة، وفيما إذا كان يصرفه في المنافع بأن كان يستأجر المستغلات ويؤجرها للتجارة، فالمذهب في الجميع مصيره للتجارة. هذا كله فيما يصير به العرض للتجارة، ثم إذا صار للتجارة ونوى به القنية صار للقنية وانقطع حكم التجارة بلا خلاف؟ لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى (¬1) . ¬

_ (¬1) [المهذب] ، و [المجموع] (6 \ 45) وما بعدها.

النقل عن الحنابلة

4 - النقل عن الحنابلة: أ - قال الخرقي: (والعروض إذا كانت لتجارة قومها إذا حال عليها

الحول وزكاها) . ب- وقال ابن قدامة في شرح ذلك: العروض: جمع عرض، وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه، من النبات والحيوان والعقار وسائر المال. فمن ملك عرضا للتجارة فحال عليه حول، وهو نصاب قومه في آخر الحول، فما بلغ أخرج زكاته، وهو ربع عشر قيمته. ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول. وقد دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (¬1) » . إذا ثبت هذا فإن الزكاة تجب فيه في كل حول. وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يزكيه إلا لحول واحد، إلا أن يكون مدبرا؛ لأن الحول الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه، فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عينا. ولنا: أنه مال تجب الزكاة فيه في الحول الأول لم ينقص عن النصاب، ولم تتبدل صفته فوجبت زكاته في الحول الثاني، كما لو نص في أوله. ولا نسلم أنه إذا لم يكن في أوله عينا لا تجب الزكاة فيه، وإذا اشترى عرضا للتجارة تعرض للقنية جرى في حول الزكاة من حين اشتراه. (فصل) : ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين: أحدهما: أن يملكه بفعله؛ كالبيع والنكاح والخلع وقبول الهبة والوصية والغنيمة واكتساب المباحات؛ لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الزكاة (632) .

بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كالصوم، ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض. ذكر ذلك أبو الخطاب وابن عقيل؛ لأنه ملكه بفعله أشبه الموروث. والثاني: أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة، فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة، وإن نواه بعد ذلك، وإن ملكه بإرث، وقصد أنه للتجارة لم يصر للتجارة؛ لأن الأصل القنية، والتجارة عارض، فلم يصر إليها بمجرد النية، كما لو نوى الحاضر السفر، لم يثبت له حكم بدون الفعل. وعن أحمد رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية؛ لقول سمرة: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع (¬1) » ، فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله، ولا أن يكون في مقابلة عوض، بل متى نوى به التجارة صار للتجارة (¬2) وقال ابن قدامة: تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس. وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1562) . (¬2) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (2 \ 623) .

وحكي عن مالك وداود: أنه لا زكاة فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق (¬1) » . ولنا: ما روى أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأمرنا أن نخرج مما نعده للبيع (¬2) » ، وروى الدارقطني عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته (¬3) » قال: بالزاي، ولا خلاف أنها لا تجب في عينه، وثبت أنها في قيمته. وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: (أمرني عمر، فقال: أد زكاة مالك. فقلت: مالي مال إلا جعاب وأدم، فقال: قومها ثم أد زكاتها) رواه الإمام أحمد وأبو عبيد. وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر، فيكون إجماعا. وخبرهم المراد به: زكاة العين لا زكاة القيمة، بدليل ما ذكرنا، على أن خبرهم عام وخبرنا خاص فيجب تقديمه (¬4) . ج - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الزكاة (620) ، سنن النسائي الزكاة (2477) ، سنن أبو داود الزكاة (1574) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/132) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) . (¬2) سنن أبو داود الزكاة (1562) . (¬3) مسند أحمد بن حنبل (5/179) . (¬4) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (2 \ 622)

عبيد. وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي سنن أبي داود، عن سمرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم «يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع (¬1) » وروي عن حماس قال: (مر بي عمر فقال: أد زكاة مالك، فقلت: ما لي إلا جعاب وأدم، فقال: قومها ثم أد زكاتها) ، واشتهرت القصة بلا منكر فهي إجماع. وأما مالك، فمذهبه: أن التجار على قسمين: متربص ومدير. فالمتربص: وهو الذي يشتري السلع ينتظر بها الأسواق، فربما أقامت السلع عنده سنين- فهذا عنده لا زكاة عليه، إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد. وحجته: أن الزكاة شرعت في الأموال النامية، فإذا زكى السلعة كل عام - وقد تكون كاسدة - نقصت عن شرائها فيتضرر. فإذا زكيت عند البيع، فإن كانت ربحت فالربح كان كامنا فيها. فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب، ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل. وأما المدير: وهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول، فلا يستقر بيده سلعة، فهذا يزكي في السنة الجميع، يجعل لنفسه شهرا معلوما يحسب ما بيده من السلع والعين، والدين الذي على المليء الثقة، ويزكي الجميع. هذا إذا كان ينض في يده في أثناء السنة، ولو درهم، فإن لم يكن يبيع بعين أصلا، فلا زكاة عليه عنده (¬2) ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1562) . (¬2) [مجموع الفتاوى] (25 \ 15، 16) .

د - قال ابن مفلح: وهي واجبة، واحتج الأصحاب - رحمهم الله - بما روي عن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني حبيب بن سليمان ابن سمرة عن أبيه سليمان بن سمرة قال: (أما بعد، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان «يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (¬1) » رواه أبو داود. وروي أيضا بهذا السند نحو ستة أخبار، منها: (من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله) . ومنها: (من كتم غالا فإنه مثله) وهذا الإسناد لا ينهض مثله لشغل الذمة؛ لعدم شهرة رجاله ومعرفة عدالتهم، وحبيب تفرد عنه جعفر ووثقه ابن حبان. وقال ابن حزم: جعفر وحبيب مجهولان. وقال الحافظ عبد الحق: حبيب ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه. وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله (¬2) وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم. وأفرد الحافظ عبد الغني المقدسي بقوله: إسناده مقارب عن أبي ذر مرفوعا: «وفي البز صدقة» رواه أحمد، ورواه الحاكم عن طريقين، وصحح إسنادهما، وأنه على شرطهما، ورواه الدارقطني وعنده قاله بالزاي. وذكر بعضهم: أن جميع الرواة رووه بالزاي، وفي صحة هذا الخبر نظر، ويدل على ضعفهما أن أحمد إنما احتج بقول عمر رضي الله عنه ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الزكاة (1562) . (¬2) في الطبعة الأولى: وقال ابن القطان: (هو ممن لا يعرف حاله) والتصويب من المخطوطين.

لحماس: أد زكاة مالك، فقال: ما لي إلا جعاب وأدم. قال: قومها ثم أد زكاتها. رواه أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، ثنا عبد الله بن أبي سلمة، عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه. ورواه (سعيد، ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني أبو عمرو ابن حماس أن أباه أخبره) . ورواه أبو عبيد وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهما وهو مشهور. وسأل الميموني أبا عبد الله عن قول ابن عباس في الذي يحول عنده المتاع للتجارة، قال: يزكيه بالثمن الذي اشتراه فقلت: ما أحسنه! فقال: أحسن منه حديث: (قومه) ، وروى ابن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة، ثنا عبيد الله عن نافع (¬1) عن ابن عمر قال: يعمل في العروض زكاة إلا عرضا (¬2) في تجارة. ورواه سعيد بمعناه في طريق آخر، وهذا صحيح عن ابن عمر، وأما (أبو عمرو) (¬3) عن أبيه، فحماس لا تعرف عدالته، واحتج صاحب [المحرر] بأنه إجماع متقدم، واعتمد على قول ابن المنذر، وإنما قال: أجمع عامة أهل العلم على أن في العروض التي تراد للتجارة الزكاة. وذكر الشافعي في القديم: أن الناس اختلفوا في ذلك: فقال بعضهم: ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: (عبيد الله عن عبد الله عن نافع) ، والتصويب من المخطوطين. (¬2) في مخطوط الأزهر: إلا عرض. (¬3) أبو عمرو: زيادة منا.

لا زكاة، وقال بعضهم: تجب. قال: وهو أحب إلينا، ومن أصحابه (¬1) من أثبت له قولا في القديم لا تجب، وحكى أحمد هذا عن مالك وهو قول داود، واحتج بظواهر العفو عن صدقة الخيل والرقيق والحمر، ولأن الأصل عدم الوجوب. ويتوجه هنا ما سبق في زكاة العسل، وقد يتوجه تخريج من نية الأضحية مع الشراء لا تصير أضحية فلم تؤثر النية مع الفعل في نقل حكم الأصل. وفرق القاضي من وجهين: أحدهما: أنه يمكن أن ينوي بها أضحية بعد حصول الملك فهذا لم يصح مع الملك، وهنا لا تصح نية التجارة بعد حصول الملك، فلهذا صح أن ينوي مع الملك. والثاني: أن الشراء يملك به، ونية الأضحية سبب يزيل الملك فلم يقع الملك، وسبب زواله بمعنى واحد، والزكاة لا تزيل الملك ولا هي سبب في إزالته والشراء يملك به؛ فلهذا صح أن ينوى بها الزكاة حين الشراء، كذا قال وفيهما نظر (¬2) وقال ابن مفلح: ومن طولب بالزكاة فادعى أداءها أو بقاء الحول أو نقص النصاب أو زوال ملكه أو تجدده قريبا أو أن ما بيده لغيره، أو أنه ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: ومن أصحابنا. (¬2) [الفروع] (2 \ 502) .

منفرد أو مختلط أو نحو ذلك - قبل قوله (و) بلا يمين، نص عليه، قاله بعضهم، وظاهر كلامه لا يشرع. نقل حنبل: لا يسأل المتصدق عن شيء ولا يبحث، إنما يأخذ ما أصابه مجتمعا. قال في [عيون المسائل] : ظاهر قوله: (لا يستحلف الناس على صدقاتهم) لا يجب ولا يستحب؛ لأنها عبادة مؤتمن عليها، كالصلاة والكفارة بخلاف الوصية للفقراء بمال، ويأتي ما يتعلق بهذا في آخر باب الدعاوى. وقال ابن حامد: يستحلف في الزكاة في ذلك كله ويتوجه احتمال إن اتهم (وم) . وفي [الأحكام السلطانية] : إن رأى العامل أن يستحلفه فعل، وإن نكل لم يقض عليه بنكوله، وقيل: بلى، وكذلك الحكم في من مر بعاشر وادعى أنه عشره آخر. قال أحمد رحمه الله: إذا أخذ منه المصدق كتب له براءة، فإذا جاء آخر أخرج إليه براءته. قال القاضي: وإنما قال ذلك لنفي التهمة عنه. وهل يلزمه الكتابة؟ يأتي فيمن سأل الحاكم أن يكتب له ما ثبت عنده، وإن ادعى التلف بجائحة فسبق في زكاة الثمر، وإن أقر بقدر زكاته ولم يذكر قدر ماله صدق، والمراد وفي اليمين الخلاف (¬1) ¬

_ (¬1) [الفروع] (2 \ 546) ، ويرجع إلى [الإنصاف] (3 \ 190) .

الديون التي للإنسان على غيره هل تجب فيها الزكاة

ثالثا الديون التي للإنسان على غيره هل تجب فيها الزكاة؟ قد يكون الدين على مليء، وقد يكون على معسر ومن في حكمه، وقد يكون لازما أو غير لازم، وإذا كان لازما فقد يكون ماشية أو دراهم ودنانير وعروض تجارة. . . إلى غير ذلك من التفاصيل التي يكشفها ما يأتي من النصوص عن فقهاء الإسلام، مع ذكر مستندهم وما ذكروه من المناقشات: 1 - النقل عن الحنفية: قال الكاساني في الكلام على الشرائط التي ترجع إلى المال: ومنها: الملك المطلق، وهو: أن يكون مملوكا له رقبة ويدا، وهذا قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: اليد ليست بشرط. وهو قول الشافعي، فلا تجب الزكاة في المال الضمار عندنا خلافا لهما، وتفسير مال الضمار: هو كل مال غير مقدور الانتفاع به مع قيام الأصل الملك، كالعبد الآبق، والضال، والمال المفقود، والمال الساقط في البحر، والمال الذي أخذه السلطان مصادرة، والدين المجحود إذا لم يكن للمالك بينة وحال الحول ثم صار له بينة بأن أقر عند الناس، والمال المدفون في الصحراء إذا خفي على المالك مكانه، فإن كان مدفونا في البيت تجب فيه الزكاة بالإجماع، وفي المدفون في الكرم والدار الكبيرة اختلاف المشايخ احتجا بعمومات الزكاة من غير فصل، ولأن وجوب الزكاة يعتمد الملك دون اليد بدليل ابن السبيل، فإنه تجب الزكاة في ماله، وإن كانت يده فائتة لقيام ملكه، وتجب الزكاة في الدين

مع عدم القبض، وتجب في المدفون في البيت، فثبت أن الزكاة وظيفة الملك، والملك موجود، فتجب الزكاة فيه، إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال؛ لعجزه عن الأداء لبعد يده عنه، وهذا لا ينفي الوجوب كما في ابن السبيل. ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه، ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا زكاة في مال الضمار» ، وهو المال الذي لا ينتفع به مع قيام الملك - مأخوذ من البعير الضامر الذي لا ينتفع به لشدة هزاله مع كونه حيا- وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك لعدم وصول يده إليها؛ فكانت ضمارا، ولأن المال إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا يكون المالك به غنيا، ولا زكاة على غير الغني بالحديث الذي روينا، ومال ابن السبيل مقدور الانتفاع به في حقه بيد نائبه، وكذا المدفون في البيت؛ لأنه يمكنه الوصول إليه بالنبش، بخلاف المفازة؛ لأن نبش كل الصحراء غير مقدور له، وكذا الدين المقر به إذا كان المقر مليا فهو ممكن الوصول إليه، وأما الدين المجحود فإن لم يكن له بينة فهو على الاختلاف، وإن كان له بينة اختلف المشايخ فيه. قال بعضهم: تجب الزكاة فيه؟ لأنه يمكن الوصول إليه بالبينة، فإذا لم يقم البينة فقد ضيع القدرة فلم يعذر. وقال بعضهم: لا تجب؛ لأن الشاهد قد يفسق إلا إذا كان القاضي عالما بالدين؛ لأنه يقضي بعلمه فكان مقدور الانتفاع به، وإن كان المديون يقر في السر ويجحد في العلانية فلا زكاة فيه، كذا روي عن أبي يوسف؛ لأنه لا ينتفع بإقراره في السر، فكان بمنزلة الجاحد سرا

وعلانية، وإن كان المديون مقرا بالدين لكنه مفلس، فإن لم يكن مقضيا عليه بالإفلاس تجب الزكاة فيه في قولهم جميعا. وقال الحسن بن زياد: لا زكاة فيه؛ لأن الدين على المعسر غير منتفع به فكان ضمارا. والصحيح قولهم؛ لأن المفلس قادر على الكسب والاستقراض مع أن الإفلاس محتمل الزوال ساعة فساعة إذ المال غاد ورائح وإن كان مقضيا عليه بالإفلاس فكذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا زكاة فيه. فمحمد مر على أصله؛ لأن التفليس عنده يتحقق وأنه يوجب زيادة عجز؛ لأنه يسد عليه باب التصرف؛ لأن الناس لا يعاملونه، بخلاف الذي لم يقض عليه بالإفلاس، وأبو حنيفة مر على أصله؛ لأن الإفلاس عنده لا يتحقق في حال الحياة والقضاء به باطل، وأبو يوسف وإن كان يرى التفليس، لكن المفلس قادر في الجملة بواسطة الاكتساب، فصار الدين مقدور الانتفاع في الجملة، فكان أثر التفليس في تأخير المطالبة إلى وقت اليسار، فكان كالدين المؤجل، فتجب الزكاة فيه. ولو دفع إلى إنسان وديعة ثم نسي المودع، فإن كان المدفوع إليه من معارفه فعليه الزكاة فيما مضى إذا تذكر؛ لأن نسيان المعروف نادر، فكان طريق الوصول قائما، وإن كان ممن لا يعرفه فلا زكاة عليه فيما مضى، لتعذر الوصول إليه. ولا زكاة في دين الكتابة والدية على العاقلة؛ لأن دين الكتابة ليس بدين حقيقة؛ لأنه لا يجب للمولى على عبده دين؛ فلهذا لم تصح الكفالة به، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، إذ هو ملك المولى من

وجه، وملك المكاتب من وجه؛ لأن المكاتب في اكتسابه كالحر، فلم يكن بدل الكتابة ملك المولى مطلقا، بل كان ناقصا، وكذا الدية على العاقلة، ملك ولي القتيل فيها متزلزل، بدليل أنه لو مات واحد من العاقلة سقط ما عليه، فلم يكن ملكا مطلقا، ووجوب الزكاة وظيفة الملك المطلق. وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة في الدين الذي وجب للإنسان لا بدلا عن شيء رأسا؛ كالميراث الدين، والوصية بالدين، أو وجب بدلا عما ليس بمال أصلا، كالمهر للمرأة على الزوج، وبدل الخلع للزوج على المرأة، والصلح، عن دم العمد: أنه لا تجب الزكاة فيه. وجملة الكلام في الديون: أنها على ثلاث مراتب في قول أبي حنيفة: دين قوي، ودين ضعيف، ودين وسط. كذا قال عامة مشايخنا. أما القوي: فهو الذي وجب بدلا عن مال التجارة، كثمن عرض التجارة من ثياب التجارة وعبيد التجارة أو غلة مال التجارة، ولا خلاف في وجوب الزكاة فيه، إلا أنه لا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما، فكلما قبض أربعين درهما، أدى درهما واحدا، وعند أبي يوسف ومحمد كلما قبض شيئا يؤدي زكاته قل المقبوض أو كثر. وأما الدين الضعيف: فهو الذي وجب له بدلا عن شيء وجب له بغير صنعه كالميراث، أو بصنعه كالوصية، أو وجب بدلا عما ليس بمال كالمهر وبدل الخلع والصلح عن القصاص وبدل الكتابة، ولا زكاة فيه ما

لم يقبض كله ويحول عليه الحول بعد القبض، وأما الدين الوسط: فما وجب له بدلا عن مال ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة، وفيه روايتان عنه، ذكر في الأصل أنه تجب فيه الزكاة قبل القبض، لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم، فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض وهو أصح الروايتين عنه. وقال أبو يوسف ومحمد: الديون كلها سواء، وكلها قوية تجب الزكاة فيها قبل القبض، إلا الدية على العاقلة ومال الكتابة فإنه لا تجب الزكاة فيها أصلا ما لم تقبض ويحول عليها الحول. وجه قولهما: أن ما سوى بدل الكتابة والدية على العاقلة ملك صاحب الدين ملكا مطلقا رقبة ويدا لتمكنه من القبض بقبض بدله وهو العين؟ فتجب فيه الزكاة كسائر الأعيان المملوكة ملكا مطلقا، إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال؛ لأنه ليس في يده حقيقة، فإذا حصل في يده يخاطب بأداء الزكاة قدر المقبوض، كما هو مذهبهما في العين فيما زاد على النصاب، بخلاف الدية وبدل الكتابة؛ لأن ذلك ليس بملك مطلق، بل هو ملك ناقص على ما بينا. والله أعلم. ولأبي حنيفة وجهان: أحدهما: أن الدين ليس بمال، بل هو فعل واجب، وهو فعل تمليك المال وتسليمه إلى صاحب الدين، والزكاة إنما تجب في المال، فإذا لم

يكن مالا لا تجب فيه الزكاة، ودليل كون الدين فعلا من وجوه ذكرناها في الكفالة بالدين عن ميت مفلس في [الخلافيات] كان ينبغي أن لا تجب الزكاة في دين ما لم يقبض ويحول عليه الحول، إلا أن ما وجب له بدلا عن مال التجارة أعطي له حكم المال؟ لأن بدل الشيء قائم مقامه كأنه هو، فصار كأن المبدل قائم في يده وأنه مال التجارة وقد حال عليه الحول في يده. والثاني: إن كان الدين مالا مملوكا أيضا لكنه مال لا يحتمل القبض؛ لأنه ليس بمال حقيقة، بل هو مال حكمي في الذمة وما في الذمة لا يمكن قبضه فلم يكن مالا مملوكا رقبة ويدا، فلا تجب الزكاة فيه كمال الضمار، فقياس هذا أن لا تجب الزكاة في الديون كلها، لنقصان الملك بفوات اليد، إلا أن الدين الذي هو بدل مال التجارة التحق بالعين في احتمال القبض؛ لكونه بدل مال التجارة، قابل للقبض، والبدل يقام مقام المبدل، والمبدل عين قائمة قابلة للقبض، فكذا ما يقوم مقامه، وهذا المعنى لا يوجد فيما ليس ببدل رأسا، ولا فيما هو بدل عما ليس بمال، وكذا في بدل مال ليس للتجارة على الرواية الصحيحة أنه لا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض قدر النصاب ويحول عليه الحول بعد القبض؛ لأن الثمن بدل مال ليس للتجارة فيقوم مقام المبدل، ولو كان المبدل قائما في يده حقيقة لا تجب الزكاة فيه، فكذا في بدله، بخلاف بدل مال التجارة. وأما الكلام في إخراج زكاة قدر المقبوض من الدين الذي تجب فيه الزكاة على نحو الكلام في المال العين إذا كان زائدا على قدر النصاب وحال عليه الحول: فعند أبي حنيفة لا شيء في الزيادة هناك ما لم يكن

أربعين درهما فهاهنا أيضا لا يخرج شيئا من زكاة المقبوض ما لم يبلغ المقبوض أربعين درهما، فيخرج من كل أربعين درهما يقبضها درهما، وعندهما يخرج قدر ما قبض قل المقبوض أو كثر، كما في المال العين إذا كان زائدا على النصاب، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وذكر الكرخي أن هذا إذا لم يكن له مال سوى الدين، فأما إذا كان له مال سوى الدين فما قبض منه فهو بمنزلة المستفاد، فيضم إلى ما عنده، والله أعلم (¬1) . ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2\9) .

النقل عن المالكية

2 - النقل عن المالكية: أ- جاء في [المدونة] تحت عنوان: (زكاة القرض وجميع الدين) : (قلت) : أرأيت لو أني أقرضت رجلا مائة دينار وقد وجبت علي زكاتها ولم أخرج زكاتها حتى أقرضتها فمكثت عند الذي أقرضتها إياه سنتين ثم ردها ماذا يجب علي من زكاتها. (فقال) : زكاة عامين وهي الزكاة التي كانت وجبت عليك وزكاة عام بعد ذلك أيضا، وهو قول مالك. (قلت) : أرأيت دينا لي على رجل، أقرضته مائة دينار فأقام الدين عليه أعواما فاقتضيت منه دينارا واحدا أترى لي أن أزكي هذا الدينار. فقال: لا. (قلت) : فإن اقتضيت منه عشرين دينارا. (فقال) : تزكي نصف دينار.

(قلت) : فإن اقتضيت دينارا بعد العشرين دينارا. (فقال) : تزكي من الدينار ربع عشره. (قلت) : فإن كان قد أتلف العشرين كلها ثم اقتضى دينارا بعد ما أتلفها. (فقال) : نعم، يزكيه وإن كان أتلف العشرين؛ لأنه لما اقتضى العشرين صار مالا تجب فيه الزكاة فما اقتضى بعد هذا فهو مضاف إلى العشرين، وإن كانت العشرون قد تلفت. (قلت) : ولم لا يزكي إذا اقتضى ما دون العشرين. (فقال) : لأنا لا ندري لعله لا يقتضي غير هذا الدينار، والزكاة لا تكون في أقل من عشرين دينارا. (قلت) : أليس يرجع هذا الدينار إليه على ملكه الأول وقد حال عليه الحول فلم لا يزكيه. (فقال) : لأن الرجل لو كانت عنده مائة دينار فمضى لها حول لم يفرط في زكاتها حتى ضاعت كلها إلا تسعة عشر دينارا لم يكن عليه فيها زكاة؛ لأنها قد رجع إلى ما لا زكاة فيه، فكذلك هذا الدين حين اقتضى منه دينارا؛ قلنا له: لا زكاة عليك حتى تقبض ما تجب فيه الزكاة؛ لأنا لا ندري لعلك لا تقتضي غيره فتزكي عن مال لا تجب فيه الزكاة، وإن اقتضى ما تجب فيه الزكاة زكاه ثم يزكي ما اقتضى من الدين من قليل أو كثير. (قلت) : أرأيت إن كانت عنده عشرون دينارا أو له مائة دينار دين على الناس أيزكي العشرين إن كان الدين قد حال عليه الحول ولم يحل على العشرين الحول؟ فقال: لا.

(قلت) : فإن اقتضى من الدين أقل من عشرين دينارا أيزكيه مكانه؟ قال: لا. (قلت) : لم؟ (قال) : لأن العشرين التي عنده ليست من الدين وهي فائدة لم يحل عليها الحول. (قلت) : فإن حال الحول على العشرين التي عنده وقد كان اقتضى من الدين أقل من عشرين دينارا. (فقال) : يزكي العشرين الدينار الآن وما اقتضى من الدين جميعا. (قلت) : فإن كان عنده العشرون ولم يقتض من الدين شيئا حتى حال الحول على العشرين ثم اقتضى من الدين دينارا واحدا أيزكي الدينار الذي اقتضى؟ فقال: نعم. (قلت) : فإن تلفت العشرون بعد الحول فاقتضى بعدها دينارا أيزكيه؟ قال: نعم. (قلت) : وما الفرق بين ما اقتضى من الدين وبين الفائدة، جعلت ما اقتضى من الدين تجب فيه الزكاة يزكي كل ما اقتضى بعد ذلك، وإن كان الذي اقتضى أولا قد تلف، وجعلته في الفائدة إن تلفت قبل أن يحول عليها الحول ثم اقتضى من الدين شيئا لم يزكه إلا أن يكون قد اقتضى من الدين ما تجب فيه الزكاة. (فقال) : لأن الفائدة ليست من الدين إنما تحسب الفائدة عليه من يوم ملكها وما اقتضى من الدين يحسب عليه من يوم ملكه، وقد كان ملكه لهذا الدين قبل سنة فهذا فرق ما بينهما.

(قلت) : وهذا قول مالك؟ قال: نعم. (قال) ابن القاسم: ولو أن رجلا كانت له مائة دينار فأقامت في يديه ستة أشهر ثم أخذ منها خمسين دينارا فابتاع بها سلعة فباعها بثمن إلى أجل- فإن بقيت الخمسون حتى يحول عليها الحول زكاها، ثم ما اقتضى بعد ذلك من ثمن تلك السلعة من قليل أو كثير زكاه، وإن كانت الخمسون قد تلفت قبل أن يحول عليها الحول وتجب فيها الزكاة فلا زكاة عليه فيما اقتضى حتى يبلغ ما اقتضى عشرين دينارا، فإن بقيت الخمسون في يديه حتى يزكيها ثم أنفقها بعد ذلك فأقام دهرا ثم اقتضى من الدين دينارا فصاعدا فإنه يزكيه؛ لأن هذا الدينار من أصل مال قد وجبت فيه الزكاة وهي الخمسون التي حال عليها فزكاها فالدين على أصل تلك الخمسين؟ لأنه حين وجبت الزكاة في الخمسين صار أصل الدين وأصل الخمسين واحدا في وجوب الزكاة، ويفترقان في أحوالهما، فإنما مثل ذلك مثل الرجل يبيع السلعة بمائة دينار ولا مال له غيرها فتقيم سنة في يدي المشتري ثم يقتضي منها عشرين دينارا فيخرج منها نصف دينار ثم يستهلكها ثم يقتضي بعد ذلك من ذلك الدين شيئا- فما اقتضى من قليل أو كثير فعليه فيه الزكاة؛ لأن أصله كان واحدا. (قال) : وكل مال كان أصله واحدا أقرضت بعضه أو ابتعت ببعضه سلعة فبعتها بدين وتبقي بعض المال عندك وفيما أبقيت ما تجب فيه الزكاة فلم تتلفه حتى زكيته فهو والمال الذي أقرضت أو ابتعت به سلعة فبعت السلعة بدين فهو أصل واحد يعمل فيه كما يعمل فيه لو ابتيع به كله، فإذا اقتضى مما ابتيع به كله عشرين دينارا وجب فيه نصف دينار وما

اقتضى بعد ذلك من قليل أو كثير ففيه الزكاة، وإن كان قد استهلك العشرين التي اقتضى. قال: وهو قول مالك. (قال) ابن القاسم: وكل مال كان أصله واحدا فأسلفت بعضه أو ابتعت ببعضه سلعة وأبقيت منه في يديك مالا تجب الزكاة فيه فحال عليه الحول وهو في يديك ثم أتلفته- فإنه يضاف ما اقتضيت إلى ما كان في يديك مما لا زكاة فيه، فإذا تم ما اقتضيت إلى ما كان في يديك مما أنفقت بعد الحول- فإنه إذا تم عشرين دينارا فعليك فيه الزكاة، ثم ما اقتضيت بعد ذلك من قليل أو كثير فعليك فيه الزكاة. (قال) : وكل مال كان أصله واحدا فابتعت ببعضه أو أسلفت بعضه وأبقيت في يديك ما لا تجب فيه الزكاة ثم استهلكته قبل أن يحول عليه الحول- فإنه لا يضاف شيء من مالك كان خارجا من دينك إلى شيء منه، وما اقتضيت منه قبل أن يحول عليه الحول فاستهلكته قبل أن يحول عليه الحول- فهو كذلك أيضا لا يضاف إلى ما بقي لك من دينك، ولكن ما حال عليه الحول في يديك مما تجب فيه الزكاة أو لا زكاة فيه فإنه يضاف إلى دينك، فإن كان الذي في يديك مما تجب فيه الزكاة فإنك تزكي ما اقتضيت من قليل أو كثير من دينك وإن كنت قد استهلكته، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة مما حال عليه الحول فاستهلكته بعد الحول- فإنك لا تزكي ما اقتضيت حتى يتم ما اقتضيت، وما استهلكت بعد الحول عشرين دينارا فتخرج زكاتها، ثم ما اقتضيت بعد ذلك من قليل أو كثير فعليك فيه الزكاة.

(قلت) : ما قول مالك في الدين يقيم على الرجل أعواما لكم يزكيه صاحبه إذا قبضه؟ فقال: لعام واحد. (قلت) : وإن كان الدين مما يقدر على أخذه فتركه، أو كان مفلسا لا يقدر على أخذه منه فأخذه بعد أعوام أهذا عند مالك سواء؟ (قال) : نعم، عليه زكاة عام واحد إذا أخذه، وهذا كله عند مالك سواء. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا كانت له دنانير على الناس فحال عليها الحول فأراد أن يؤدي زكاتها من ماله قبل أن يقبضها؟ (قال) : لا يقدم زكاتها قبل أن يقبضها. (قال) : وقد قال لي مالك في رجل اشترى سلعة للتجارة فحال عليها الحول قبل أن يبيعها فأراد أن يقدم زكاتها. (قال) : فقال مالك: لا يفعل ذلك. (فقال) : فقلت له: إن أراد أن يتطوع بذلك. (قال) : يتطوع في غير هذا ويدع زكاته حتى يبيع عرضه والدين عندي مثل هذا. (قال) ابن القاسم: وإن قدم زكاته لم تجزئه، قال: فرأيت الدين مثل هذا. (قال) أشهب عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر: أن عبد الله بن دينار حدثه عن عبد الله بن عمر: أنه قال: ليس في الدين زكاة حتى يقبض، فإذا قبض فإنما فيه زكاة واحدة لما مضى من السنين. (قال) أشهب: قال: وأخبرني ابن أبي الزناد وسليمان بن بلال

والزنجي مسلم بن خالد: أن عمرا مولى المطلب حدثهم أنه سأل سعيد بن المسيب عن زكاة الدين، فقال: ليس في الدين زكاة حتى يقبض فإذا قبض فإنما فيه زكاة واحدة لما مضى من السنين. (قال) ابن القاسم وابن وهب وعلي بن زياد وابن نافع وأشهب عن مالك عن يزيد بن خصيفة: أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة؟ فقال: لا. (قال) ابن وهب عن نافع وابن شهاب: أنه بلغه عنهما مثل قول سليمان. (قال) ابن وهب عن يزيد بن عياض عن عبد الكريم بن أبي المخارق عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب مثله. (قال) ابن وهب عن عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح: أنه كان يقول: ليس في الدين زكاة وإن كان في ملاء حتى يقبضه صاحبه. (قال) سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال: ليس في الدين إذا لم يأخذه صاحبه زمانا ثم أخذه أن يزكيه إلا مرة واحدة. (قال) ابن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن مثله. (قال) أشهب: قال مالك: والدليل على أن الدين يغيب أعواما ثم يقضيه صاحبه فلا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة: العروض تكون عند الرجل للتجارة فتقيم أعواما ثم يبيعها فليس عليه في أثمانها إلا زكاة واحدة، فكذلك الدين، وذلك أنه ليس عليه أن يخرج زكاة ذلك الدين أو

العروض من مال سواء لا تخرج زكاة من شيء عن شيء غيره (¬1) ب- قال ابن رشد الجد تحت عنوان: (في زكاة الديون) : الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة. فأما الدين من الفائدة: فإنه ينقسم على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع وما أشبه ذلك- فهذا لا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبض ويحول الحول عليه من بعد القبض ولا دين على صاحبه يسقط عنه الزكاة فيه، وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه الزكاة. والثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفوائد- فهذا لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول الحول عليه بعد القبض، وسواء كان باعه بالنقد أو بالتأخير. وقال ابن الماجشون والمغيرة: إن كان باعه بثمن إلى أجل فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه، فإن ترك قبضه فرارا من الزكاة تخرج ذلك على قولين: أحدهما: أنه يزكيه لما مضى من الأعوام. والثاني: أنه يبقى على حكمه فلا يزكيه حتى يحول عليه الحول من بعد قبضه أو حتى يقبضه إن كان باعه بثمن إلى أجل على الاختلاف الذي ¬

_ (¬1) [المدونة] (1\219) .

ذكرناه في ذلك. والثالث: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية- فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه زكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض، وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه، وإن ترك قبضه فرارا من الزكاة زكاه لما مضى من الأعوام، ولا خلاف في وجه من وجوه هذا القسم. الرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة- فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني. وإن كان قبضه بعد استيفاء العمل مثل أن يؤجر نفسه ثلاثة أعوام بستين دينارا فيقبضها معجلة ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يزكي إذا حال الحول ما يجب له من الإجارة وذلك عشرون دينارا؛ لأنه قد بقيت في يده منذ قبضها حولا كاملا، ثم يزكي كل ما مضى له من المدة شيء له بال ما يجب له من الكراء إلى أن يزكي جميع الستين لانقطاع الثلاثة الأعوام، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون عن ابن القاسم، وعلى قياس قول غير ابن القاسم في المدونة، في مسألة هبة الدين هو عليه بعد حلول الحول عليه. والثاني: أنه يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار وهو نص ما قاله ابن المواز على قياس القول الأول. والثالث: أنه لا زكاة عليه في شيء من السنين حتى يمضي العام الثاني، فإذا مر زكى عشرين؛ لأن ما ينوى بها من العمل دين عليه فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء فوجب استئناف حول آخر بها منذ

سقوط الدين عنها. وأما الدين من الغصب ففيه في المذهب قولان: أحدهما: وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القراض. والثاني: أنه يستقبل حولا مستأنفا من يوم يقبضه كدين الفائدة، وقد قيل: إنه يزكيه للأعوام الماضية، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله في مال قبضه بعض الولاة ظلما ثم عقب بعد ذلك بكتاب آخر أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة؛ لأنه كان ضمارا. وأما دين القرض فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين. واختلف هل يقومه المدير أم لا؟ فقيل: إنه يقومه وهو ظاهر ما في [المدونة] . وقيل: إنه لا يقومه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان يدير أحدهما ولا يدير الآخر؛ لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير قرضا فقد أخرجه بذلك عن الإدارة. وأما دين التجارة فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة، يقومه المدير ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام كما يقوم المدير عروض التجارة، ولا يزكيها غير المدير حتى يبيع فيزكيها زكاة واحدة لما مضى من الأعوام، وإذا قبض من الدين أقل من نصاب أو باع من العروض بعد أن حال عليه الحول بأقل من نصاب- فلا زكاة عليه حتى يقبض تمام النصاب، أو يبيع بتمامه، فإذا كمل عنده تمام

النصاب زكى جميعه، كان ما قبض أولا قائما بيده، أو كان قد أنفقه. واختلف إن كان تلف من غير سببه: وقال محمد بن المواز: لا ضمان عليه فيه؛ لأنه بمنزلة مال تلف بعد حلول الحول عليه من غير تفريط، فعلى قياس قول مالك في هذه المسألة التي نظرها بها يسقط عنه زكاة باقي الدين إن لم يكن فيه نصاب، وعلى قول محمد بن الجهم فيها يزكي الباقي إذا قبضه، وإن كان أقل من نصاب، وهو الأظهر؛ لأن المساكين نزلوا معه بمنزلة الشركاء فكانت المصيبة فيما تلف منه ومنهم، وكان ما بقي بينه وبينهم قل أو كثر. وقال ابن القاسم وأشهب: يزكي الجميع، وهذا الاختلاف إنما يكون إذا تلف بعد أن مضى من المدة ما لو كان ما تجب فيه الزكاة لضمنه، وأما إن تلف بفور قبضه فلا اختلاف في أنه لا يضمن ما دون النصاب، كما لا يضمن النصاب. وقول ابن المواز أظهر؛ لأن ما دون النصاب لا زكاة عليه فيه فوجب أن لا يضمنه في البعد كما لا يضمنه في القرب. ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أنه يضمن ما تلف بغير سببه في البعد مراعاة على قول من يوجب الزكاة في الدين، وإن لم يقبض فهو استحسان، فإذا تخلل الاقتضاء فوائد وكان كلما اقتضى من الدين شيئا أنفقه، وكلما حال الحول على فائدة أفادها أنفقها. فمذهب أشهب في ذلك: أن يضيف كل ما اقتضى من الدين وكل ما حل من الفوائد إلى ما كان اقتضى قبله من الدين وأنفقه وإلى ما كان حل عليه الحول من الفوائد قبله فأنفقه.

وأما ابن القاسم فمذهبه: أن يضيف الدين إلى ما أنفقه من الدين وإلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها، ولا يضيف الفائدة التي حال الحول عليها إلى ما أنفقه من الدين بعد اقتضائه ولا إلى ما أنفقه من الفوائد بعد حلول الحول عليها. مثال ذلك: أن يقتضي من دين له خمسة دنانير فينفقها وله فائدة لم يحل عليها الحول وهي عشرة دنانير فينفقها بعد حلول الحول عليها ثم يقبض من دينه عشرة فإنه يزكيها مع العشرة الفوائد التي أنفقها ولا يزكي الخمسة الأولى التي اقتضى من الدين حتى يقتضي خمسة أجزاء، وبالله التوفيق (¬1) . ج- وقال ابن رشد الحفيد: وأما المال الذي هو في الذمة - أعني: في ذمة الغير وليس هو بيد المالك- وهو الدين فإنهم اختلفوا فيه أيضا: فقوم قالوا: لا زكاة فيه، وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعي وبه قال الليث، أو هو قياس قوله. وقوم قالوا: إذا قبضه زكاه لما مضى من السنين. وقال مالك: يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض. وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول. ¬

_ (¬1) [المقدمات] بهامش [المدونة] (1\ 245) وما بعدها.

وفي المذهب تفصيل في ذلك (¬1) . د- جاء في [أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك] و [الشرح الصغير، له: (ويزكي الدين) بعد قبضه- كما يأتي- السنة) فقط وإن أقام عند المدين أعواما، وتعتبر السنة (من يوم ملك أصله) بهبة ونحوها، أو قبضه إن كان عما لا زكاة فيه (أو) من يوم (زكاه) إن استمر عنده عاما. ومحل تزكيته لسنة فقط إذا لم يؤخره فرارا من الزكاة، وإلا زكاه لكل عام مضى عند ابن القاسم. ولزكاته لسنة شروط أربعة: أولها: أن يكون أصله عينا بيده فيسلفها، أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل، وإليه أشار بقوله: (إن كان) الدين الذي هو على المدين (عينا، كائنة (من قرض أو) ثمن (عروض تجارة) لمحتكر، أي: سببه أحد هذين الأمرين، لا إن كان الدين عرضا فلا يزكى إلا على ما سيأتي في المدير. الشرط الثاني: أن يقبض من المدين، وإليه أشار بقوله (وقبض) لا إن لم يقبض فلا يزكى، اللهم إلا أن يكون أصله ثمن عرض تجارة لمدير فلا يزكى بتمام شروطه الآتية في المدير. الشرط الثالث: أن يقبض (عينا) ذهبا أو فضة لا إن قبضه عرضا، فلا زكاة حتى يبيعه على ما سيأتي من احتكار أو إدارة، إذا كان القابض له رب الدين، بل (ولو) كان القابض له (موهوبا له) من رب الدين (أو ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (1\ 247) .

أحال) ربه به من له عليه دين على المدين، فإن ربه المحيل يزكيه من غيره بمجرد قبول الحوالة، ولا يتوقف على قبضه من المحال عليه؛ ولذا عبرنا بالفعل المعطوف على كان المحذوفة بعد لو، والمعنى وقبضه عينا، ولو أحال به فإن الحوالة تعد قبضا، بخلاف ما ولو وهبه فلا بد من زكاته على ربه الواهب من قبض الموهوب له بالفعل، خلافا لما يوهمه قول الشيخ: ولو بهبة أو إحالة، فقولنا: ولو أحال، في قوة ولو إحالة أي: ولو كان القبض إحالة فيزكيه المحيل. وأما المحال فيزكيه أيضا منه لكن بعد قبضه، وأما المحال عليه فيزكيه أيضا من غيره بشرط أن يكون عنده ولو من العروض ما يفي بدينه. الشرط الرابع: أن يقبض نصابا كاملا ولو في مرات، كأن يقبض منه عشرة ثم عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب، وإليه أشار بقوله (وكمل) المقبوض (نصابا، بنفسه ولو على مرات بل (وإن) كمل (بفائدة) عنده (ثم حولها) كما لو قبض عشرة وعنده عشرة حال عليها الحول، فيزكي العشرين (أو كمل) المقبوض نصابا (بمعدن) ؛ لأن المعدن لا يشترط فيه الحول على ما سيأتي: (و) ولو اقتضى من دينه دون نصاب، ثم اقتضى ما يتم به النصاب في مرة أو مرات كان (حول المتم) بفتح التاء اسم مفعول وهو: ما قبض أولا (من) وقت (التمام) فإذا قبض خمسة فخمسة فعشرة، فحول الجميع وقت قبض العشرة فيزكي العشرين حينئذ (ثم زكى المقبوض) بعد ذلك (ولو قل) كدرهم حال قبضه ويكون كل اقتضاء بعد التمام على

حوله لا يضم لما قبله ولا بعده ولو نقص النصاب بعد تمامه لاستقرار حوله بالتمام (¬1) . ¬

_ (¬1) [أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك] وشرحه [الشرح الصغير] (2\ 155) وما بعدها، مطبعة الحلبي.

النقل عن الشافعية

3 - النقل عن الشافعية : أ- جاء في [الأم] تحت ترجمة: (باب زكاة الدين) : (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وإذا كان الدين لرجل غائبا عنه فهو كما تكون التجارة له غائبة عنه، والوديعة، وفي كل زكاة. (قال) : وإذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحول لم يجز أن يجعل زكاة ماله إلا في حول؛ لأن المال لا يعدو أن يكون فيه زكاة، ولا يكون إلا كما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لا يكون فيه زكاة، فيكون كالمال المستفاد. (قال الشافعي) : وإذا كان لرجل على رجل دين فحال عليه حول، ورب المال يقدر على أخذه منه بحضور رب الدين وملائه وأنه لا يجحده ولا يضطره إلى عدوى- فعليه أن يأخذ منه أو زكاته كما يكون ذلك عليه في الوديعة هكذا، وإن كان رب المال غائبا، أو حاضرا لا يقدر على أخذه منه إلا بخوف أو بفلس له إن استعدى عليه، وكان الذي عليه الدين غائبا، حسب ما احتبس عنده حتى يمكنه أن يقبضه، وإذا قبضه أدى زكاته لما مر عليه من السنين لا يسعه غير ذلك. وهكذا الماشية تكون للرجل غائبة لا يقدر عليها بنفسه ولا يقدر له عليها، وهكذا الوديعة، والمال يدفنه فينسى موضعه لا يختلف في شيء.

(قال الشافعي) : وإن كان المال الغائب عنه في تجارة يقدر وكيل له على قبضه حيث هو، قوم حيث هو، وأديت زكاته ولا يسعه إلا ذلك، وهكذا المال المدفون والدين، وكلما قلت لا يسعه إلا تأدية زكاته بحوله وإمكانه له، فإن هلك قبل أن يصل إليه وبعد الحول وقد أمكنه فزكاته عليه دين، وهكذا كل مال له يعرف موضعه ولا يدفع عنه، فكلما قلت له: يزكيه فلا يلزمه زكاته قبل قبضه حتى يقبضه فهلك المال قبل أن يمكنه قبضه فلا ضمان عليه فيما مضى من زكاته؛ لأن العين التي فيها الزكاة هلكت قبل أن يمكنه أن يؤديها. (قال الشافعي) : فإن غصب مالا فأقام في يدي الغاصب زمانا لا يقدر عليه ثم أخذه أو غرق له مال فأقام في البحر زمانا ثم قدر عليه أو دفن مالا فضل موضعه فلم يدر أين هو ثم قدر عليه- فلا يجوز فيه إلا واحد من قولين: أن لا يكون عليه فيه زكاة لما مضى ولا إذا قبضه حتى يحول عليه حول من يوم قبضه؛ لأنه كان مغلوبا عليه بلا طاعة منه كطاعته في السلف والتجارة والدين، أو يكون فيه الزكاة إن سلم؛ لأن ملكه لم يزل عنه لما مضى عليه من السنين. (قال الربيع) : القول الآخر أصح القولين عندي؛ لأن من غصب ماله أو غرق لم يزل ملكه عنه، وهو قول الشافعي. (قال الشافعي) : وهكذا لو كان له على رجل مال أصله مضمون أو أمانة فجحده إياه ولا بينة له عليه أوله بينة غائبة لم يقدر على أخذه منه بأي وجه ما كان الأخذ. (قال الربيع) : إذا أخذه زكاه لما مضى عليه من السنين، وهو معنى

قول الشافعي. (قال الشافعي) : فإن هلك منه مال فالتقطه منه رجل أو لم يدر التقط أو لم يلتقط- فقد يجوز أن يكون مثل هذا، ويجوز أن لا يكون عليه فيه زكاة بحال؛ لأن الملتقط يملكه بعد سنة على أن يؤديه إليه إن جاءه، ويخالف الباب قبله بهذا المعنى. (قال الشافعي) : وكل ما أقبض من الدين الذي قلت عليه فيه زكاة زكاه إذا كان في مثله زكاة لما مضى، ثم كلما قبض منه شيئا فكذلك. (قال الشافعي) : وإذا عرف الرجل اللقطة سنة ثم ملكها فحال عليها أحوال ولم يزكها ثم جاء صاحبها فلا زكاة على الذي وجدها وليس هذا كصداق المرأة؛ لأن هذا لم يكن لها مالكا قط حتى جاء صاحبها، وإن أدى عنها زكاة منها ضمنها لصاحبها. (قال الشافعي) : والقول في أن لا زكاة على صاحبها الذي اعترفها، أو أن عليها الزكاة في مقامها في يدي غيره كما وصفت أن تسقط الزكاة في مقامها في يدي الملتقط بعد السنة؛ لأنه أبيح له أكلها بلا رضا من الملتقط، أو يكون عليه فيها الزكاة؛ لأنها ماله، وكل ما قبض من الدين الذي قلت عليه فيه زكاة زكاه إذا كان في مثله زكاة لما مضى فكلما قبض منه شيئا فكذلك، وإن قبض منه ما لا زكاة في مثله فكان له مال أضافه إليه، وإلا حسبه فإذا قبض ما تجب فيه الزكاة معه أدى زكاته لما مضى عليه من السنين (¬1) . ¬

_ (¬1) [الأم] (2\ 43) .

ب- قال الشيرازي: (وإن كان له دين نظرت، فإن كان دينا غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته؛ لأن ملكه غير تام عليه، فإن العبد يقدر أن يسقطه، وإن كان لازما نظرت، فإن كان على مقر مليء لزمه زكاته؛ لأنه مقدور على قبضه فهو كالوديعة، وإن كان على مليء جاحد، أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب، وفيه قولان، وقد بيناه في زكاة الماشية، وإن كان له دين مؤجل، ففيه وجهان. قال أبو إسحاق: هو كالدين الحال على فقير أو مليء جاحد، فيكون على قولين. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا تجب فيه الزكاة، فإذا قبضه استقبل به الحول؛ لأنه لا يستحقه، ولو حلف أنه لا يستحقه كان بارا، والأول أصح؛ لأنه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه إبراؤه، وإن كان له مال غائب، فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه، وإن لم يقدر عليه فهو كالمغصوب) . ج- وقال النووي في شرح ذلك: قال أصحابنا: الدين ثلاثة أقسام: (أحدها) : غير لازم كمال الكتابة، فلا زكاة فيه بلا خلاف؛ لما ذكره المصنف. (الثاني) : أن يكون لازما وهو ماشية بأن كان له في ذمة إنسان أربعون شاة سلما أو قرضا، فلا زكاة فيها أيضا بلا خلاف؛ لأن شرط زكاة الماشية السوم. ولا توصف التي في الذمة بأنها سائمة. (الثالث) : أن يكون دراهم أو دنانير أو عرض تجارة، وهو مستقر، ففيه قولان مشهوران: (القديم) لا تجب الزكاة في الدين بحال؛ لأنه غير معين. (والجديد) الصحيح باتفاق الأصحاب وجوب الزكاة في الدين

على الجملة. وتفصيله: أنه إن تعذر استيفاؤه لإعسار من عليه، أو جحوده ولا بينة، أو مطله، أو غيبته، فهو كالمغصوب، وفي وجوب الزكاة فيه طرق تقدمت في باب زكاة الماشية، والصحيح وجوبها، وقيل: تجب في الممطول والدين على مليء غائب بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما سواهما. وبهذا الطريق قطع صاحب [الحاوي] وغيره، وليس كذلك، بل المذهب طرد الخلاف. فإن قلنا بالصحيح: وهو الوجوب لم يجب الإخراج قبل حصوله بلا خلاف، ولكن (¬1) في يده أخرج عن المدة الماضية، هذا معنى الخلاف. وأما إذا لم يتعذر استيفاؤه بأن كان على مليء باذل أو جاحد عليه بينة أو كان القاضي يعلمه، وقلنا: القاضي يقضي بعلمه؛ فإن كان حالا وجبت الزكاة بلا شك ووجب إخراجها في الحال، وإن كان مؤجلا فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليليهما: (أصحهما) : عند المصنف والأصحاب: أنه على القولين في المغصوب: (أصحهما) : تجب الزكاة. (الثاني) : لا تجب، وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي. والطريق الثاني: طريقة ابن أبي هريرة: لا زكاة فيه قولا واحدا، كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره. فإن قلنا بوجوب الزكاة، فهل يجب إخراجها في الحال؟ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ولكن إذا حصل. . . إلخ

فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون: (أصحهما) : لا يجب، وبه قطع الجمهور كالمغصوب. قال إمام الحرمين: ولأن الخمسة نقدا تساوي ستة مؤجلة، ويستحيل أن يسلم أربعة نقدا تساوي خمسة مؤجلة، فوجب تأخير الإخراج إلى القبض، قال: ولا شك أنه لو أراد أن يبرئ فقيرا عن دين له عليه، ليوقعه عن الزكاة لم يقع عنها؛ لأن شرط أداء الزكاة أن يتضمن تمليكا محققا. والله تعالى أعلم. وأما المال الغائب فإن لم يكن مقدورا عليه؛ لانقطاع خبره فهو كالمغصوب، هكذا قال المصنف والجمهور، وقيل: تجب الزكاة قطعا؛ لأن تصرفه فيه نافذ، بخلاف المغصوب، ولا خلاف أنه لا يجب الإخراج عنه قبل عوده وقبضه، وإن كان مقدورا على قبضه وجبت الزكاة منه بلا خلاف، ووجب إخراجها في الحال بلا خلاف، ويخرجها في بلد المال، فإن أخرجها في غيره ففيه خلاف نقل الزكاة، هذا إذا كان المال مستقرا، فإن كان سائرا غير مستقر لم يجب إخراج زكاته قبل أن يصل إليه، فإذا وصل أخرج عن الماضي بلا خلاف، هذا هو الصواب في مسألة الغائب، وما وجدته خلافه في بعض الكتب فنزله عليه، ومما يظن مخالفا قول المصنف: (فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة، إلا إنه لا يلزمه إخراجها حتى يرجع إليه) ، هكذا قاله ابن الصباغ، وكلامهما محمول على ما ذكرنا إذا كان سائرا غير مستقر، هكذا صرح به أبو المكارم في العدة وغيره، وجزم الشيخ أبو حامد بأنه يخرجها في الحال، هو محمول على ما إذا كان المال مستقرا في بلد. والله تعالى أعلم.

قال أصحابنا: كل دين وجب إخراج زكاته قبل قبضه، وجب ضمه إلى ما معه من جنسه لإكمال النصاب، ويلزمه إخراج زكاتهما في الحال، وكل دين لا يجب إخراج زكاته قبل قبضه ويجب بعد قبضه. فإن كان معه من جنسه ما لا يبلغ وحده نصابا، ويبلغ بالدين نصابا، فوجهان مشهوران: (أحدهما) وبه قطع صاحب البيان: لا يلزمه زكاة ما معه في الحال، فإذا قبض الدين لزمه زكاتهما عن الماضي (وأصحهما) عند الرافعي وغيره: يجب إخراج قسط ما معه. قالوا: وهما مبنيان على أن التمكن شرط في الوجوب أو في الضمان، إن قلنا بالأول لا يلزمه لاحتمال أن لا يحصل الدين، وإن قلنا بالثاني لزمه. والله تعالى أعلم. وكل دين لا زكاة فيه في الحال ولا بعد عوده عن الماضي، بل يستأنف له الحول إذا قبض، فهذا لا يتم به نصاب ما معه، وإذا قبضه لا يزكيهما عن الماضي بلا خلاف، بل يستأنف لهما الحول. والله تعالى أعلم. أما إذا كان له مائة درهم حاضرة ومائة غائبة فإن كانت الغائبة مقدورا عليها لزمه زكاة الحاضرة في الحال في موضعها والغائبة في موضعها، وإن لم يكن مقدورا عليه فإن قلنا: لا زكاة فيه إذا عاد فلا زكاة في الحاضر؛ لنقصه عن النصاب، وإن قلنا: تجب زكاته فهل يلزمه زكاة الحاضر في الحال؛ فيه الوجهان السابقان في الدين بناء على أن التمكن شرط في الوجوب أم الضمان، فإن لم نوجبها في الحال أوجبناها فيه، وفي الغائب إن عاد وإلا فلا (¬1) . ¬

_ (¬1) [المهذب] و [المجموع] (6\ 19) وما بعدها

النقل عن الحنابلة

4 - النقل عن الحنابلة : أ- قال الخرقي: (وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه ويؤدي لما مضى) . ب - وقال ابن قدامة: وجملة ذلك: أن الدين على ضربين: أحدهما: دين على معترف به باذل له فعلى صاحبه زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى، روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبهذا قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال عثمان وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، وطاوس، والنخعي، وجابر بن زيد، والحسن، وميمون بن مهران، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيد: عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه؛ لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه إخراج زكاته كالوديعة. وقال عكرمة: ليس في الدين زكاة، وروي ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم؛ لأنه غير نام فلم تجب زكاته كعروض القنية. وروي عن سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وأبي الزناد: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة. ولنا: أنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، كما لو كان على معسر، ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به. وأما الوديعة فهي بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده، وإنما يزكيه لما مضى؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به

فلزمته زكاته كسائر أمواله. الضرب الثاني: أن يكون على معسر أو جاحد أو مماطل به، فهذا هل تجب فيه الزكاة؟ على روايتين: إحداهما: لا تجب، وهو قول قتادة، وإسحاق، وأبي ثور، وأهل العراق؛ لأنه غير مقدور على الانتفاع به أشبه مال المكاتب. والرواية الثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى. وهو قول الثوري، وأبي عبيد؛ لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون، قال: إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى. وروي نحوه عن ابن عباس، رواهما أبو عبيد. ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما مضى كالدين على المليء. وللشافعي قولان: كالروايتين، وعن عمر بن عبد العزيز والحسن والليث والأوزاعي ومالك: يزكيه إذا قبضه لعام واحد. ولنا: أن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد؛ فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها، كسائر الأموال، ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما. (فصل) وظاهر كلام أحمد: أنه لا فرق بين الحال والمؤجل؛ لأن البراءة تصح من المؤجل، ولولا أنه مملوك لم تصح البراءة منه، لكن يكون في حكم الدين على المعسر؛ لأنه لا يمكن قبضه في الحال (¬1) . ج- قال الخرقي: (وإذا غصب مالا، زكاه إذا قبضه لما مضى في ¬

_ (¬1) [المغني] (3\42) .

إحدى الروايتين عن أبي عبد الله، والرواية الأخرى قال: ليس هو كالدين الذي متى قبضه زكاه، وأحب إلي أن يزكيه) . د- وقال ابن قدامة في شرح ذلك: قوله: (إذا غصب مالا) أي: إذا غصب الرجل مالا، فالمفعول الأول المرفوع مستتر في الفعل، والمال هو المفعول الثاني، فلذلك نصبه، وفي بعض النسخ: (وإذا غصب ماله) وكلاهما صحيح، والحكم في المغصوب والمسروق والمجحود والضال واحد، وفي جميعه روايتان: إحداهما: لا زكاة فيه، نقلها الأثرم والميموني. ومتى عاد صار كالمستفاد يستقبل به حولا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في قديم قوليه؛ لأنه مال خرج عن يده وتصرفه، وصار ممنوعا منه، فلم يلزمه زكاته، كمال المكاتب. والثانية: عليه زكاته؛ لأن ملكه عليه تام، فلزمته زكاته، كما لو نسي عند من أودعه، أو كما لو أسر، أو حبس، وحيل بينه وبين ماله، وعلى كلتا الروايتين لا يلزمه إخراج زكاته قبل قبضه. وقال مالك: إذا قبضه زكاه لحول واحد؛ لأنه كان في ابتداء الحول في يده، ثم حصل بعد ذلك في يده، فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد. وليس هذا بصحيح؛ لأن المانع من وجوب الزكاة إذا وجد في بعض الحول، يمنع كنقص النصاب. هـ- قال الخرقي: (واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا ثم زكاها، فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها) .

ووقال ابن قدامة في شرح ذلك: ظاهر المذهب: أن اللقطة تملك بمضي حول التعريف، واختار أبو الخطاب أنه لا يملكها حتى يختار. وهو مذهب الشافعي - يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى- ومتى ملكها استأنف حولا، فإذا مضى وجبت عليه زكاتها. وحكى القاضي في موضع، أنه إذا ملكها وجب عليه مثلها إن كانت مثلية، أو قيمتها إن لم تكن مثلية. وهذا مذهب الشافعي، ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى. ومقتضى هذا أن لا تجب عليه زكاتها؛ لأنه دين فمنع الزكاة كسائر الديون. وقال ابن عقيل: يحتمل أن لا تجب الزكاة فيها لمعنى آخر، وهو أن ملكه غير مستقر عليها، ولصاحبها أخذها منه متى وجدها. والمذهب ما ذكره الخرقي، وما ذكره القاضي يفضي إلى ثبوت معاوضة في حق من لا ولاية عليه بغير فعله ولا اختياره، ويقتضي ذلك أن يمنع الدين الذي عليه الميراث والوصية كسائر الديون والأمر بخلافه. وما ذكره ابن عقيل يبطل بما وهبه الأب لولده وبنصف الصداق فإن لهما استرجاعه، ولا يمنع وجوب الزكاة. فأما ربها إذا جاء فأخذها، فذكر الخرقي أنه يزكيها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها، وهو حول التعريف، وقد ذكرنا في الضال روايتين، وهذا من جملته. وعلى مقتضى قول الخرقي: أن الملتقط لو لم يملكها مثل من لم يعرفها، فإنه لا زكاة على ملتقطها، وإذا جاء ربها زكاها للزمان كله

وإنما تجب عليه زكاتها إذا كانت ماشية بشرط كونها سائمة عند الملتقط، فإن علفها فلا زكاة عليه على ما ذكرنا في المغصوب. ز- قال الخرقي: (والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى) . ح- وقال ابن قدامة في شرح ذلك: وجملة ذلك: أن الصداق في الذمة دين للمرأة، حكمه حكم الديون على ما مضى، إن كان على مليء به فالزكاة واجبة فيه، إذا قبضته أدت لما مضى، وإن كان على معسر أو جاحد فعلى الروايتين. واختار الخرقي وجوب الزكاة فيه، ولا فرق بين ما قبل الدخول أو بعده؛ لأنه دين في الذمة، فهو كثمن مبيعها، فإن سقط نصفه بطلاقها قبل الدخول، وأخذت النصف فعليها زكاة ما قبضته دون ما لم تقبضه؛ لأنه دين لم تتعوض عنه، ولم تقبضه، فأشبه ما تعذر قبضه لفلس أو جحد، وكذلك لو سقط كل الصداق قبل قبضه لانفساخ النكاح بأمر من جهتها، فليس عليها زكاته؛ لما ذكرنا، وكذلك القول في كل دين يسقط قبل قبضه من غير إسقاط صاحبه، أو يئس صاحبه من استيفائه. والمال الضال إذا يئس منه فلا زكاة على صاحبه؛ فإن الزكاة مواساة فلا تلزم المواساة إلا مما حصل له. وإن كان الصداق نصابا فحال عليه الحول ثم سقط نصفه وقبضت النصف، فعليها زكاة النصف المقبوض؛ لأن الزكاة وجبت فيه ثم سقطت من نصفه لمعنى اختص به؛ فاختص السقوط به. وإن مضى عليه حول قبل قبضه ثم قبضته كله زكته لذلك الحول.

وإن مضت عليه أحوال قبل قبضه، ثم قبضته زكته لما مضى كله ما لم ينقص عن النصاب. وقال أبو حنيفة: لا تجب عليها الزكاة ما لم تقبضه؛ لأنه بدل عما ليس بمال فلا تجب الزكاة فيه قبل قبضه، كدين الكتابة. ولنا: أنه دين يستحق قبضه، ويجبر المدين على أدائه، فوجبت فيه الزكاة كثمن المبيع. يفارق دين الكتابة، فإنه لا يستحق قبضه، وللمكاتب الامتناع من أدائه ولا يصح قياسهم عليه، فإنه عوض عن مال. (فصل) : فإن قبضت صداقها قبل الدخول، ومضى عليه حول فزكته، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع فيها بنصفه وكانت الزكاة من النصف الباقي لها. وقال الشافعي في أحد أقواله: يرجع الزوج بنصف الموجود ونصف قيمة المخرج؛ لأنه لو تلف الكل رجع عليها بنصف قيمته، فكذلك إذا تلف البعض. ولنا: قول الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬1) ولأنه يمكنه الرجوع في العين فلم يكن له الرجوع إلى القيمة، كما لو لم يتلف منه شيء، ويخرج على هذا ما لو تلف كله، فإنه ما أمكنه الرجوع في العين، وإن طلقها بعد الحول وقبل الإخراج، لم يكن له الإخراج من النصاب؛ لأن حق الزوج تعلق به على وجه الشركة، والزكاة لم تتعلق به على وجه الشركة، لكن تخرج الزكاة من غيره أو يقتسمانه (¬2) ، ثم تخرج الزكاة من حصتها، فإن طلقها قبل الحول ملك النصف مشاعا، وكان حكم ذلك كما لو باع نصفه قبل الحول مشاعا، وقد بينا حكمه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 237 (¬2) في ب، م: (يقسمانه) .

(فصل) : فإن كان الصداق دينا فأبرأت الزوج منه بعد مضي الحول، ففيه روايتان: إحداهما: عليها الزكاة؛ لأنها تصرفت فيه، فأشبه ما لو قبضته. والرواية الثانية: زكاته على الزوج؛ لأنه ملك ما ملك عليه، فكأنه لم يزل ملكه عنه، والأول أصح، وما ذكرنا لهذه الرواية لا يصح؛ لأن الزوج لم يملك شيئا وإنما سقط الدين عنه. ثم لو ملك في الحال لم يقتض هذا وجوب زكاة ما مضى. ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد منهما لما ذكرنا في الزوج، والمرأة لم تقبض الدين؛ فلم تلزمها زكاته، كما لو سقط بغير إسقاطها وهذا إذا كان الدين مما تجب فيه الزكاة إذا قبضه، فأما إن كان مما لا زكاة فيه، فلا زكاة عليها بحال. وكل دين على إنسان أبرأه صاحبه منه بعد مضي الحول عليه فحكمه حكم الصداق فيما ذكرنا. قال أحمد: إذا وهبت المرأة مهرها لزوجها وقد مضى له عشر سنين، فإن زكاته على المرأة؛ لأن المال كان لها. وإذا وهب رجل لرجل مالا فحال الحول، ثم ارتجعه الواهب فليس له أن يرتجعه، فإن ارتجعه فالزكاة على الذي كان عنده. وقال في رجل باع شريكه نصيبه من داره فلم يعطه شيئا، فلما كان بعد سنة قال: ليس عندي دراهم فأقلني فأقاله. قال: عليه أن يزكي؛ لأنه قد ملكه حولا (¬1) . ¬

_ (¬1) [المغني] (3\44) وما بعدها.

ط- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا بد في الزكاة من الملك. واختلفوا في اليد، فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تجب في كل دين وكل عين، وإن لم تكن تحت يد صاحبها، كالمغصوب والضال، والدين المجحود، وعلى معسر أو مماطل، وأنه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه، كالدين على الموسر. وهذا أحد قولي الشافعي، وهو أقواهما (¬1) . وسئل رحمه الله: عن صداق المرأة على زوجها تمر عليه السنون المتوالية لا يمكنها مطالبته به لئلا يقع بينهما فرقة، ثم إنها تتعوض عن صداقها بعقار، أو يدفع إليها الصداق بعد مدة من السنين، فهل تجب زكاة السنين الماضية؟ أم إلى أن يحول الحول من حين قبضت الصداق؟ فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة فيها للعلماء أقوال: قيل: يجب تزكية السنين الماضية، سواء كان الزوج موسرا أو معسرا. كأحد القولين في مذهب الشافعي، وأحمد، وقد نصره طائفة من أصحابهما. وقيل: يجب مع يساره وتمكنها من قبضها، دون ما إذا لم يمكن تمكينه من القبض. كالقول الآخر في مذهبهما. وقيل: تجب لسنة واحدة. كقول مالك، وقول في مذهب أحمد. وقيل: لا تجب بحال. كقول أبي حنيفة، وقول في مذهب أحمد. وأضعف الأقوال: من يوجبها للسنين الماضية، حتى مع العجز عن ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (25\ 45) .

قبضه، فإن هذا القول باطل، فأما أن يجب لهم ما يأخذونه مع أنه لم يحصل له شيء، فهذا ممتنع في الشريعة، ثم إذا طال الزمان كانت الزكاة أكثر من المال، ثم إذا نقص النصاب. وقيل: إن الزكاة تجب في عين النصاب، لم يعلم الواجب إلا بحساب طويل يمتنع إتيان الشريعة به. وأقرب الأقوال: قول من لا يوجب فيه شيئا بحال حتى يحول عليه الحول، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض فهذا القول له وجه، وهذا وجه، وهذا قول أبي حنيفة، وهذا قول مالك، وكلاهما قيل به في مذهب أحمد. والله أعلم (¬1) . ي- قال ابن مفلح: ويعتبر تمام ملك النصاب في الجملة (و) فلا زكاة في دين الكتابة (و) لعدم استقرارها، ولهذا لا يصح ضمانها، وفيه رواية، فدل على الخلاف هنا، ولا في دين مؤجل، أو على معسر، أو مماطل، أو جاحد قبضه، ومغصوب، ومسروق، ومعرف، وضال رجع، وما دفنه ونسيه، وموروث، أو غيره وجهله، أو جهل عند من هو، وفي رواية صححها صاحب التلخيص وغيره، ورجحها بعضهم، واختارها ابن شهاب وشيخنا (وهـ) . وفي رواية: تجب، اختاره الأكثر، وذكر صاحب [الهداية] و [المحرر] : ظاهر المذهب (وم ش) وجزم به جماعة في المؤجل (م 5) (وهـ) (¬2) لصحة الحوالة به والإبراء، فيزكي ذلك إذا قبضه لما مضى من السنين، خلافا لرواية عن مالك. ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (25\ 47) (¬2) في مخطوط الدار: (و) .

وقال أبو الفرج: إذا قلنا: تجب في الدين وقبضه، فهل يزكيه لما مضى؟ على روايتين، ويتوجه ذلك في بقية الصور، وقيد في [المستوعب] المجحود ظاهرا وباطنا. وقال أبو المعالي: ظاهرا. وقال غيرهما: ظاهرا أو باطنا أو فيهما، وإن كان به بينة فوجهان (م 6) . وقيل: تجب في مدفون بداره، ودين على معسر ومماطل، والروايتان في وديعة جحدها المودع، وجزم في [الكافي] بوجوبها في وديعة جهل عند من هي (م 7) ولا يخرج المودع إلا بإذن (¬1) ربها، نص عليه وقيد الحنفية المدفون بمغارة (¬2) ، وعكسه المدفون في البيت، وفي المدفون في كرم أو أرض اختلاف المشايخ. وتجب عندهم في دين على معسر، أو جاحد عليه بينة، أو علم به القاضي، وعلى مقر مفلس عند أبي حنيفة؛ لأن التفليس لا يصح عنده، وعند محمد: لا تجب لتحقق الإفلاس بالتفليس عنده، وقاله أبو يوسف، وقال في حكم الزكاة كقول أبي حنيفة، رعاية للفقراء. ولو وجبت في نصاب، بعضه دين على معسر أو غصب أو ضال، ففي وجوب إخراج زكاة ما بيده قبل قبض الدين والغصب وجهان (م 8 و 9) فإن قلنا: لا، وكان الدين على مليء، فوجهان. ¬

_ (¬1) في مخطوط الدار: بلا إذن. (¬2) في مخطوط الدار: بمفازة.

ومتى قبض شيئا من الدين أخرج زكاته ولو لم يبلغ نصابا، نص عليه (وش) خلافا للقاضي وابن عقيل ومالك، وخلافا لأبي حنيفة إن كان الدين بدلا عن مال غير زكوي ولم يقبض منه أربعين درهما أو أربعة دنانير، ويرجع المغصوب منه على الغاصب بالزكاة، لنقصه بيده كتلفه، وإن غصب رب المال بأسر أو حبس ومنع من التصرف في ماله لم تسقط زكاته في الأصح؛ لنفوذ تصرفه ولو حمل إلى دار الحرب؛ لأن عصمته بالإسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم (¬1) » ، وعند أبي حنيفة تسقط؛ لأن العاصم دار الإسلام فلا يضمن بإتلاف ويملك باستيلاء، ومن دينه حال على مليء باذل زكاه على الأصح، وفاقا، إذا قبضه، وعنه: أو قبله (¬2) (وم ش) ويزكيه لما مضى، قصد ببقائه عليه الفرار من الزكاة (و) أم لا (م) ، وعنه: لسنة واحدة، بناء على أنه يعتبر لوجوبها إمكان الأداء، ولم يوجد فيما مضى، ويجزئه إخراج الزكاة قبل قبضه (م) لزكاة (¬3) سنين، ولو منع التعجيل لأكثر من سنة لقيام الوجوب، وإنما لم تجب رخصة. ولو ملك مائة نقدا ومائة مؤجلة زكى النقد لتمام حوله والمؤجل إذا قبضه. وإذا ملك الملتقط اللقطة (¬4) استقبل بها (حولا) وزكى، نص عليه؛ لأنه لا شيء في ذمته. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3341) ، مسند أحمد بن حنبل (3/332) . (¬2) في الطبعة الأولى: أو قيل. (¬3) في مخطوط الدار: كزكاة. (¬4) في الطبعة الأولى: وإذا ملك اللقطتان لقطة.

وقيل: لا يلزمه؛ لأنه مدين بها، فإن ملك ما يقابل قدر عوضها زكى (¬1) . وقيل: لا (وم) لعدم استقرار ملكه، وإذا ملكها الملتقط وزكى فلا زكاة إذا على ربها على الأصح، وهل يزكيها ربها حول التعريف كبعده (¬2) إذا لم يملكها الملتقط؟ فيه الروايتان في المال الضال، فإن لم يملك اللقطة وقلنا يتصدق بها، لم يضمن حتى يختار ربها الضمان، فيثبت حينئذ في ذمته كدين مجدد، وإن أخرج الملتقط زكاتها عليه منها ثم أخذها ربها رجع عليه بما أخرج. وقيل: لا، إن قلنا: لا تلزم ربها زكاتها. قال بعضهم: لوجوبها على الملتقط إذا. ويستقبل (¬3) بالصداق وعوض الخلع والأجرة بالعقد حولا، عينا كان ذلك أو دينا مستقرا أو لا، نص عليه (وش) وكذلك مالك في غير نقد، للعموم، ولأنه ظاهر إجماع الصحابة، وعنه: حتى يقبض ذلك (وهـ) ، وعنه: لا زكاة في صداق قبل الدخول حتى يقبض فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الدخول. قال صاحب [المحرر] بالإجماع، مع احتمال الانفساخ، وعنه: تملك قبل الدخول نصف الصداق، وكذا في الخلاف: في اعتبار القبض في كل دين لا في مقابلة مال أو مال غير زكوي عند الكل كموصى به ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: فإن مالك ما يقابل قدره عوضها زكى. (¬2) في الطبعة الأولى: (لعبده) وفي تصحيحاتها: بعيدة. (¬3) في الطبعة الأولى: وليستقل بالصداق.

وموروث وثمن مسكن، وعنه: لا حول لأجرة، اختاره شيخنا (خ) وقيدها بعضهم بأجرة العقار (خ) نظرا إلى كونها غلة أرض مملوكة، وعنه: ومستفاد. وذكرها أبو المعالي فيمن باع سمكا صاده بنصاب زكاة، فعلى الأول لا يلزمه الإخراج قبل القبض، وإن كان دينا من بهيمة الأنعام فلا زكاة (و) لاشتراط السوم فيها، بخلاف سائر الديون، فإن عينت زكيت كغيرها، وكذا الدية الواجبة لا تزكى (و) لأنها لم تتعين مالا زكويا؛ لأن الإبل في الدية فيها أصل أو أحدها، وتجب في قرض ودين وعروض تجارة (و) وكذا في مبيع قبل القبض، خلافا لرواية عن أبي حنيفة، جزم به صاحب [المحرر] وغيره، فيزكيه المشتري، ولو أزال ملكه عنه أو زال أو انفسخ العقد بتلف مطعوم قبل قبضه. ويزكي المبيع بشرط الخيار أو في خيار المجلس من حكم له بملكه ولو فسخ العقد، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا، وثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما ولو انفسخ العقد (¬1) ، جزم بذلك كله جماعة؛ لأن الطارئ لا يضعف ملكا تاما، كمال الابن معرض لرجوع أبيه وتملكه، وفي [الرعاية] : إنما تجب الزكاة في ملك تام مقبوض، وعنه: أو مميز لم يقبض، قال: وفيما (صح) تصرف ربه (فيه) قبل قبضه أو ضمنه بتلفه، وفي ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهما، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا والمبيع في ¬

_ (¬1) في مخطوط الدار: ولو انفسخ البعض.

مدة الخيار قبل القبض، روايتان، وللبائع إخراج زكاة مبيع فيه خيار منه، فيبطل البيع في قدره، وفي بقيته روايتا تفريق الصفقة، وفي أيهما يقبل قوله في قيمة المخرج؟ وجهان. وقال ابن حامد: إذا دلس البائع العيب فرد عليه فزكاته عليه، فأما مبيع غير متعين ولا متميز فيزكيه البائع، وكل دين سقط قبل قبضه لم يتعوض عنه سقطت زكاته (و) وقيل: هل يزكيه من سقط عنه؟ يخرج على روايتين، وإن أسقطه زكاه (¬1) نص عليه (م) لأنه أتلف ما فيه الزكاة، فقيرا كان المدين أو غنيا، وعنه: يزكيه المدين المبرأ؛ لأنه [ملك] ، ما عليه، وحملها صاحب [المحرر] على أن بيد المدين نصابا منع الدين زكاته (وم) وإلا فلا شيء عليه. وقيل: لا زكاة عليها (خ) (¬2) وإن أخذ ربه [به] ، عوضا أو أحال أو احتال- زاد بعضهم: وقلنا الحوالة وفاء- زكاه كعين وهبها، وعنه: زكاة التعويض على المدين، وقيل في ذلك وفي الإبراء: يزكيه ربه إن قدر وإلا المدين، والصداق كالدين. ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: وإن أسقط ربه زكاة. (¬2) في الطبعة الأولى: (هـ) .

(و) وقيل: سقوطه كله؛ لانفساخ النكاح من جهتها، كإسقاطها، وإن زكت صداقها كله ثم تنصف بطلاقها (¬1) رجع فيما بقي بكل حقه. وقيل: إن كان مثريا (¬2) ، (¬3) وإلا فبقيمة حقه. وقيل: يرجع ونصف ما بقي ونصف بدل ما أخرجت. وقيل: يخير بين ذلك ونصف قيمة ما أصدقها يوم العقد أو مثله، ولا تجزئها زكاتها منه بعد طلاقه؛ لأنه مشترك، وقيل: بلى: عن حقها وتغرم له نصف (¬4) ما أخرجت، ومتى لم تزكه رجع بنصفه كاملا وتزكيه هي، فإن تعذر فيتوجه: لا يلزم الزوج، وفيها- في [الرعاية]- بلى، ويرجع عليها إن تعلقت بالعين، وقيل: أو بالذمة، ويزكي المرهون على الأصح (و) ويخرجها الراهن منه بلا إذن إن عدم، كجناية رهن على دينه. وقيل: منه مطلقا، وقيل: إن تعلقت بالعين. وقيل: يزكي راهن موسر. وإن أيسر معسر جعل بدله رهنا. وقيل: لا، وفي مال مفلس محجور عليه روايتا مدين، عند أبي المعالي والأزجي، وعند القاضي والشيخ كمغصوب. وقيل: يزكي سائمة؛ لنمائها بلا تصرف، قال أبو المعالي: إن عين حاكم لكل غريم شيئا فلا زكاة، لضعف ملكه إذا، وإن حجر عليه بعد ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: كله لم ينصف بطلاقها. (¬2) في مخطوط الدار: مليئا. (¬3) الصواب: إن كان مثليا كما يدل عليه السياق والمعنى. (¬4) في الطبعة الأولى: وقيل بلى في حقها وتعدم نصف.

وجوبها لم تسقط. وقيل: بلى إن كان قبل تمكنه من الإخراج، وهل له إخراجها منه؟ فيه وجهان، ولا يقبل إقراره بها، جزم به بعضهم، وعنه: يقبل، كما لو صدقه الغريم، فأما قبل الحجر فإن الدين وإن لم يكن من جنس المال يمنع وجوب الزكاة في قدره في الأموال الباطنة (وم) قال أبو الفرج: وهي الذهب والفضة، وقال غيره: وقيمة عروض التجارة، وفي المعدن وجهان، وعنه: لا يمنع الدين الزكاة (وش) وعنه: يمنعها الدين الحال خاصة، جزم به في [الإرشاد] وغيره، ويمنعها في الأموال الظاهرة، كماشية وحب وثمرة أيضا، نص عليه، واختاره أبو بكر والقاضي وأصحابه، والحلواني وابن الجوزي وغيرهم. قال ابن أبي موسى: هذا الصحيح من مذهب أحمد، وعنه: لا يمنع (وم ش) وعنه: يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك أو كان من ثمنه، وعنه: خلا الماشية، وهو ظاهر كلام الخرقي ومذهب ابن عباس، لتأثير ثقل المؤنة في المعشرات وعند (هـ) كل دين مطالب به يمنع إلا في المعشرات؛ لأن الواجب فيها ليس بزكاة عنده، ومتى أبرأ المدين أو قضى مال مستحدث ابتدأ حولا؛ لأن ما منع وجوب الزكاة منع انعقاد الحول (¬1) ، وقطعه، وعنه: يزكيه (وم) فيبني إن كان في أثناء الحول. وبعده يزكيه في الحال. ولا يمنع الدين خمس الركاز (¬2) ، ويمنع أرش ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: مع انعقاد الحول. (¬2) في الطبعة الأولى: خمس الزكاة.

جناية عند التجارة زكاة قيمته؛ لأنه وجب جبرا لا مواساة، بخلاف الزكاة، وجعله بعضهم كالدين، ومن له عرض قنية يباع لو أفلس يفي بدينه. فعنه: يجعل في مقابلة ما معه ويزكي (¬1) ما معه من المال الزكوي (وم) جمعا بين الحقين، وهو أحظ، وعنه: يجعل في مقابلة ما معه ولا يزكيه (وهـ) لئلا تحتمل المواساة ولأن عرض القنية كملبوسه في أنه لا زكاة فيهما، فكذا فيما يمنعها، وكذا الخلاف فيمن بيده ألف دينا- والمراد على مليء وجزم به بعضهم- وعليه مثلها، يزكي ما معه على الأولى (وم) لا الثانية فإن كان العرض للتجارة فنص في رواية أبي الحارث والمروذي: يزكي ما معه بخلاف ما لو كان للقنية، وحمله القاضي على أن الذي عنده للقنية فوق حاجته (¬2) ، وقيل: إن كان فيما معه من المال الزكوي جنس الدين جعل في مقابلته، وحكى رواية: وإلا اعتبر الأحظ (وقيل: يعتبر) الأحظ للفقراء مطلقا، فمن له مائتا درهم وعشرة دنانير قيمتها مائتا درهم، جعل الدنانير قبالة دينه وزكى ما معه، ومن له أربعون شاة وعشرة أبعرة، ودينه قيمة أحدهما جعل قبالة الغنم وزكى بشاتين. ونقد البلد أحظ للفقراء، وفوق نفعه زيادة المالية، ودين المضمون عنه يمنع الزكاة بقدره في ماله، دون الضامن، خلافا لما ذكره أبو المعالي، كنصاب غصب من غاصبه وأتلف فإن المنع يختص بالثاني ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: ما عليه معه ويزكي. (¬2) في الطبعة الأولى: وفق حاجته.

مع أن للمالك طلب كل منهما (و) ولو استأجر لرعي غنمه بشاة موصوفة صح، وهي كالدين في منعها للزكاة، وحيث منع دين الآدمي، فعنه: دين الله من كفارة ونذر مطلق ودين الحج ونحوه كذلك، صححه صاحب [المحرر] و [الرعاية] (وم) وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة والخراج، وقال: نص عليه، وهو الذي احتج له القاضي في الكفارة. وعنه: لا يمنع، وفي [المحرر] : الخراج من دين الله، وقدم أحمد الخراج على الزكاة، ويأتي في اجتماع العشر والخراج في أرض العنوة، وعند (هـ) ، لا يمنع إلا دين زكاة وخراج؛ لأن لهما مطالبا بهما، وأجاب القاضي بأن الكفارة عندنا على الفور، فإن منعها (¬1) وعلم الإمام بذلك طالبه بإخراجها كالزكاة، نص عليه في رواية إبراهيم بن هانئ: يجبر المظاهر (¬2) على الكفارة، على أن هذا لا يؤثر في الحج، كذا الكفارة، ولأن الإمام لا يطالب بزكاة مال باطن، والدين يمنع منه، ويأتي في من منع الزكاة. وإن نذر الصدقة بمعين (¬3) قال: لله علي أن أتصدق بهذا، أو هو صدقة، فحال الحول، فلا زكاة لزوال ملكه أو نقصه، وعند ابن حامد: تجب، فقال في قوله: إن شفى الله مريضي تصدقت من هاتين المائتين بمائة فشفي ثم حال الحول قبل الصدقة وجبت الزكاة، وفي [الرعاية] : إن نذر التضحية بنصاب معين- وقيل: أو قال: جعلته ضحايا- فلا زكاة ¬

_ (¬1) في مخطوط الدار: فإن علمها. (¬2) في الطبعة الأولى: لخبر المظاهر. (¬3) في الطبعة الأولى: لمعين.

ويحتمل وجوبها إذا تم حوله قبلها، وإن قال: لله علي الصدقة بهذا النصاب إذا حال الحول، فقيل: لا زكاة. وقيل: بلى، فتجزئه الزكاة منه في الأصح، ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا، لكون الزكاة صدقة، وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب، هل يخرجها أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما؟ وذكر ابن تميم إذا نذر الصدقة بنصاب إذا حال الحول، فقيل: لا زكاة. وقيل: بلى، فيجزئ إخراجها منه، ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر، ويحتمل أن لا يجزئ إخراجها منه، وإن نذر الصدقة ببعض النصاب وجبت الزكاة ووجب إخراجهما معا. وقيل: يدخل النذر في الزكاة وينويهما معا. ولا زكاة في الفيء والخمس وكذا الغنيمة المملوكة إذا كانت أجناسا؛ لأن للإمام أن يقسم بينهم قسمة تحكيم، فيعطي كل واحد منهم من أي الأصناف شاء، فما تم ملكه على معين بخلاف الميراث، وإن كانت صنفا فكذلك عند أبي بكر والقاضي، والأشهر ينعقد الحول عليها إن بلغت حصة كل واحد نصابا، وإلا ابتنى على الخلطة، ولا يخرج قبل القبض، كالدين، ولا زكاة في وقف على غير معين أو على المساجد والمدارس والربط ونحوها (هـ م) (¬1) ، قال أحمد في أرض موقوفة على المساكين: لا عشر؛ لأنها كلها تصير إليهم، وسبق في الفصل الثاني خلاف الحنفية في العشر، ولم يصرحوا في الوقف على فقهاء مدرسة أو ¬

_ (¬1) في مخطوط الدار: ونحوها (و) .

نحوها، ويتوجه الخلاف، وإن وقف سائمة أو أسامها الموقوف عليه على معينين كأقاربه ففيها الزكاة، نص عليه. وقيل: لا؛ لنقص ملكه، وكما لو قلنا: الملك لله، ولا يخرج منها لمنع نقل الملك في الوقف، وإن وقف أرضا أو شجرا عليه وجبت في الغلة، نص عليه، لجواز بيعها. وقيل: تجب مع غنى الموقوف عليه، جزم به أبو الفرج والحلواني وابنه صاحب [التبصرة] ، ولعله ظاهر ما نقله ابن سعيد وغيره، ومن وصى بدراهم في وجوه البر، أو ليشتري بها ما يوقف، فاتجر بها الوصي، فربحه مع المال فيما وصى، ولا زكاة فيهما، ويضمن إن خسر، نقل ذلك الجماعة، وقيل: ربحه إرث، ويأتي كلام صاحب [الموجز] وشيخنا في آخر الشركة، والمال الموصى به يزكيه من حال الحول على ملكه، وإن وصى بنفع نصاب سائمة زكاها مالك الأصل، ويحتمل: لا زكاة إن وصى به أبدا، ولا زكاة في حصة المضارب، ولا ينعقد الحول قبل استقراره، نص عليه. واختاره: أبو بكر والقاضي والشيخ وغيره، وذكره في الوسيلة ظاهر المذهب، لعدم الملك أو لضعفه؛ لأنه وقاية رأس المال، واختار أبو الخطاب وغيره- وقدمه في [المستوعب] وغيره- تجب الزكاة وينعقد حوله بملكه بظهور الربح (وهـ ش) أو بغيره، على خلاف يأتي، كمغصوب ودين على مفلس، وأولى ليده وتنميته، فعلى هذا يعتبر بلوغ حصته نصابا، ودونه ينبني على الخلطة، ومذهب (م) يزكيها. وإن قلت بحول المالك، ولا يلزمه عندنا إخراجها قبل القبض

كالدين، ولا يجوز له إخراجها من مال المضاربة بلا إذن، نص عليه؛ لأنه وقاية. وقيل: يجوز لدخولهما على حكم الإسلام، صححه صاحب المستوعب والمحرر. وقيل: يزكيها رب المال (هـ) (¬1) بحول أصله؛ لأنه نماؤه، والعامل لا يملكه على هذا. وأوجب أبو حنيفة فيمن اشترى بألف المضاربة عبدين فصار يساوي كل منهما ألفا زكاة قيمتهما على المالك، لشغل رأس ماله كلا منهما، كشغل الدين ذمة الضامن والمضمون، فلم يفضل ما يملكه المضارب، ولهذا لو أعتق المالك أحدهما عتق كله، واستوفى رأس ماله، وعندنا أن ذلك ممنوع، والحكم كعبد واحد مطلقا (وش) ويزكي رب المال حصته - نص عليه (و) كالأصل؛ لأنه يملكه بظهوره، زاد بعضهم: في أظهر الروايتين، وهو سهو- قبل قبضها، وفيه احتمال، ويحتمل سقوطها قبله لتزلزله، وإذا أداها من غيره فرأس المال باق، وإن أدى منه حسب من المال والربح، ذكره القاضي وتبعه صاحب [المستوعب] و [المحرر] وغيرهما. وفي [المغني] : تحتسب من الربح ورأس المال باق؛ لأنه وقاية ولا يقال مؤنة (¬2) كسائر المؤن؛ لأنه يلزم أن يحسب عليهما. ¬

_ (¬1) في مخطوط الدار: رب المال (خ) . (¬2) في الطبعة الأولى: ولا مال مؤنة.

وفي [الكافي] : هي من رأس المال، ونص عليه أحمد؛ لأنه واجب عليه كدينه، وليس لعامل إخراج زكاة تلزم رب المال إلا بإذنه، نص عليه، ومن شرط منهما زكاة حصته على الآخر جاز؛ لأنه شرط لنفسه نصف الربح وثمن عشره. ولا يصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح؛ لأنه قد يحيط بالربح، فهو كشرط فضل دراهم، سأله المروذي: يشترط المضارب على رب المال أن الزكاة من الربح، قال: لا، الزكاة على رب المال، وصححه شيخنا، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر (¬1) ، وركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا، كذا قال. قال الشيخ في [فتاويه] : ويصح شرطها في المساقاة على العامل؛ لأنه جزء من النماء المشترك، فمعناه القدر المسمى [لك] مما يفضل عنها، ويحتمل أن لا يصح؛ لأنا لا نعلم هل يوجد من الثمرة ما فيه العشر أولا؟ فيصير نصيبه مجهولا، ولأنه يفضي (¬2) إلى أن يصح له القليل إذا كثرت الثمرة، والكثير إذا قلت، ولا نظير له (¬3) . ك- جاء في [الإنصاف] : قوله: (ومن كان له دين على مليء- من صداق أو غيره- زكاه إذا قبضه) . هذا المذهب، وعليه الأصحاب. وعنه: لا تجب فيه الزكاة، فلا يزكيه إذا قبضه. وعنه: يزكيه إذا قبضه أو قبل قبضه. قال في [الفائق] : ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: إذا لم يثمر عن ربح الشجر. (¬2) في الطبعة الأولى: ولأنه يفضل. (¬3) لفروع (2\323) وما بعدها.

وعنه يلزمه في الحال. وهو المختار. تنبيه: قوله: (على مليء) من شرطه أن يكون باذلا. فائدة: الحوالة به والإبراء منه كالقبض. على الصحيح من المذهب. وقيل: إن جعلا وفاء فكالقبض، وإلا فلا. قوله: (زكاه إذا قبضه لما مضى) . يعني: من الأحوال. وهذا المذهب، سواء قصد ببقائه الفرار من الزكاة أو لا. وجزم به في [المغني] ، و [الشرح] ، و [الوجيز] وغيرهم. وقدمه في [الفروع] وغيره. وعليه الأصحاب. وعنه يزكيه لسنة واحدة، بناء على أنه يعتبر لوجوبها إمكان الأداء. ولم يوجد فيما مضى. فوائد: إحداها: يجزئه إخراج زكاته قبل قبضه لزكاة سنين، ولو منع التعجيل لأكثر من سنة؛ لقيام الوجوب، وإنما لم يجب الأداء رخصة. الثانية: لو ملك مائة نقدا ومائة مؤجلة، زكى النقد لتمام حوله، وزكى المؤجل إذا قبضه. الثالثة: حول الصداق من حين العقد. على الصحيح من المذهب، عينا كان أو دينا، مستقرا كان أو لا، نص عليه. وكذا عوض الخلع والأجرة. وعنه: ابتداء حوله من حين القبض لا قبله. وعنه: لا زكاة في الصداق قبل الدخول حتى يقبض. فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الحول. قال المجد: بالإجماع مع احتمال الانفساخ. وعنه: تملك قبل الدخول نصف الصداق.

وكذا الحكم خلافا ومذهبا في اعتبار القبض في كل دين، إذا كان في غير مقابلة مال، أو مال زكوي عند الكل، كموصى به وموروث وثمن مسكن. وعنه: لا حول لأجرة، فيزكيه في الحال كالمعدن. اختاره الشيخ تقي الدين، وهو من المفردات. وقيدها بعض الأصحاب بأجرة العقار. وهو من المفردات أيضا، نظرا إلى كونها غلة أرض مملوكة له. وعنه أيضا: لا حول لمستفاد. وذكرها أبو المعالي فيمن باع سمكا صاده بنصاب زكاة، فعلى الأول لا يلزمه الإخراج قبل القبض. الرابعة: لو كان عليه دين من بهيمة الأنعام فلا زكاة لاشتراط السوم فيها، فإن عينت زكيت لغيرها. وكذا الدية الواجبة، لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها لم تتعين مالا زكويا؛ لأن الإبل في الذمة فيها أصل أو أحدها. تنبيه: شمل قول المصنف: (من صداق أو غيره) القرض ودين عروض التجارة، وكذا المبيع قبل القبض. جزم به المجد وغيره، فيزكيه المشتري، ولو زال ملكه عنه، أو زال، أو انفسخ العقد بتلف مطعوم قبل قبضه. ويزكي المبيع بشرط الخيار، أو في خيار المجلس من حكم له بملكه. ولو فسخ العقد. ويزكي أيضا دين السلم إن كان للتجارة، ولم يكن أثمانا. ويزكي أيضا ثمن المبيع ورأس مال السلم قبل قبض عوضهم، ولو انفسخ العقد. قال في [الفروع] : جزم بذلك جماعة. وقال في [الرعاية] :

وإنما تجب الزكاة في ملك تام مقبوض. وعنه: أو مميز لم يقبض. ثم قال: قلت: وفيما صح تصرف ربه فيه قبل قبضه، أو ضمنه بتلفه. وفي ثمن المبيع، ورأس مال المسلم قبل قبض عوضهما، ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا، وفي المبيع في مدة الخيار قبل القبض، روايتان. وللبائع إخراج زكاة مبيع فيه خيار منه؛ فيبطل البيع في قدره، وفي قيمته روايتا تفريق الصفقة، وفي أيهما تقبل. قوله: (وفي قيمة المخرج وجهان) . وأطلقهما في [الفروع] ، وابن تميم. قلت: الصواب قول المخرج. فأما مبيع غير متعين ولا متميز فيزكيه البائع. الخامسة: كل دين سقط قبل قبضه، ولم يتعوض عنه، تسقط زكاته، على الصحيح من المذهب. وقيل: هل يزكيه من سقط عنه؟ يخرج على روايتين. وإن أسقطه ربه زكاه. نص عليه. وهو الصحيح من المذهب، كالإبراء من الصداق ونحوه. وقيل: يزكيه المبرأ من الدين؛ لأنه ملك عليه. وقيل: لا زكاة عليهما. وهو احتمال في الكافي وهو من المفردات. وإن أخذ ربه عوضا، أو أحال أو احتال- زاد بعضهم وقلنا: الحوالة وفاء- زكاه. على الصحيح من المذهب كعين وهبها. وعنه زكاة التعويض على الدين. وقيل في ذلك وفي الإبراء: يزكيه ربه إن قدر وإلا المدين.

السادسة: الصداق في هذه الأحكام كالدين فيما تقدم. على الصحيح من المذهب. وقيل: سقوطه كله لانفساخ النكاح من جهتها كإسقاطها. وإن زكت صداقها. قال الزركشي: وقيل: لا ينعقد الحول؛ لأن الملك فيه غير تام. وقيل: محل الخلاف فيما قبل الدخول. هذا إذا كان في الذمة. أما إن كان معينا فإن الحول ينعقد من حين الملك. نص عليه. انتهى. وإن زكت صداقها كله، ثم تنصف بطلاق، رجع فيما بقي بكل حقه. على الصحيح من المذهب. وقيل: إن كان مثليا وإلا فقيمة حقه. وقيل: يرجع بنصف ما بقي، ونصف بدل ما أخرجت. وقيل: يخير بين ذلك ونصف قيمة ما أصدقها يوم العقد أو مثله. ولا تجزيها زكاتها منه بعد طلاقه؛ لأنه مشترك. وقيل: بلى عن حقها، وتغرم له نصف ما أخرجت، ومتى لم تزكه رجع بنصفه كاملا، وتزكيه هي. فإن تعذر، فقال في [الفروع] : يتوجه، لا يلزم الزوج. وقال في [الرعاية] : يلزمه، ويرجع عليها إن تعلقت بالعين. وقيل: أو بالذمة. فائدة: لو وهبت المرأة صداقها لزوجها، لم تسقط عنها الزكاة. على الصحيح من المذهب. قاله القاضي وغيره. وعنه: تجب على الزوج. وفي [الكافي] احتمال بعدم الوجوب عليها. قوله: (وفي الدين على غير المليء، والمؤجل، والمجحود

والمغصوب، والضائع، روايتان) . وكذا لو كان على مماطل، أو كان المال مسروقا، أو موروثا، أو غيره، جهله، أو جهل عند من هو، وأطلقهما في [الفروع] ، و [الشرح] ، و [الرعايتين] ، و [الحاويين] و [المستوعب] ، و [المذهب الأحمد] ، و [لمحرر] . إحداهما: كالدين على المليء، فتجب الزكاة في ذلك كله إذا قبضه. وهو الصحيح من المذهب. قال في [الفروع] : اختاره الأكثر. وذكره أبو الخطاب، والمجد ظاهر المذهب. وصححه ابن عقيل، وأبو الخطاب، وابن الجوزي، والمجد في [شرحه] ، وصاحب [الخلاصة] ، و [تصحيح المحرر] . ونصرها أبو المعالي. وقال: اختارها الخرقي وأبو بكر. وجزم به في [الإيضاح] و [الوجيز] . وجزم به جماعة في المؤجل؛ وفاقا للأئمة الثلاثة لصحة الحوالة به والإبراء. وشمله كلام الخرقي. وقطع به في [التلخيص] ، و [المغني] ، و [الشرح] . والرواية الثانية: لا زكاة فيه بحال. صححها في [التلخيص] وغيره. وجزم به في العمدة في غير المؤجل ورجحها بعضهم، واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين. وقدمه [ابن تميم] و [الفائق] . وقيل: تجب في المدفون في داره، وفي الدين على المعسر والمماطل. وجزم في [الكافي] بوجوبها في وديعة، جهل عند من هي. وعليه: ما لا يؤمل رجوعه؛ كالمسروق المغصوب والمجحود لا

زكاة فيه. وما يؤمل رجوعه كالدين على المفلس أو الغائب المنقطع خبره فيه الزكاة. قال الشيخ تقي الدين: هذه أقرب. وعنه: إن كان الذي عليه الدين يؤدي زكاته، فلا زكاة على ربه، وإلا فعليه الزكاة. نص عليه في المجحود. ذكرهما الزركشي وغيره. فعلى المذهب: يزكي ذلك كله إذا قبضه لما مضى من السنين. على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، وجزموا به. وقال أبو الفرج في [المبهج] : إذا قلنا تجب في الدين وقبضه، فهل يزكيه لما مضى أم لا؛ على روايتين. قال في [الفروع] : ويتوجه ذلك في بقية الصور. تنبيه: قوله: (المجحود) يعني: سواء كان مجحودا باطنا أو ظاهرا أو ظاهرا وباطنا. هذا المذهب. وعليه الأكثر. وقيده في [المستوعب] بالمجحود ظاهرا وباطنا. وقال أبو المعالي: ظاهرا. فوائد: منها: لو كان بالمجحود بينة، وقلنا: لا تجب في المجحود. ففيه هنا وجهان. وأطلقهما في [الفروع] و [ابن تميم] . وقال: ذكرهما القاضي) . أحدهما: تجب. وهو الصحيح. جزم به المجد في [شرحه] . وقدمه في [الفائق] و [الرعايتين] و [الحاويين] . الثاني: لا تجب. ومنها: لو وجبت في نصاب بعضه دين على معسر، أو غصب أو ضال ونحوه، ففي وجوب إخراج زكاة ما بيده قبل قبض الدين والغصب

والضال وجهان. وأطلقهما في [الفروع] و [ابن تميم] . أحدهما: يجب إخراج زكاة ما بيده. وهو المذهب قدمه في [الرعايتين] و [الحاويين] . وهو ظاهر ما قدمه المجد في شرحه. فلو كانت إبلا خمسا وعشرين، منها خمس مغصوبة أو ضالة، أخرج أربعة أخماس بنت مخاض. والثاني: لا يجب حتى يقبض ذلك. فعلى هذا الوجه لو كان الدين على مليء، فوجهان. وأطلقهما في [الفروع] و [ابن تميم] و [الرعايتين] و [الحاويين] . قلت: الصواب وجوب الإخراج. ومنها: لو قبض شيئا من الدين، أخرج زكاته ولو لم يبلغ نصابا. على الصحيح من المذهب، ونص عليه في رواية صالح وأبي طالب وابن منصور. وقال: يخرج زكاته بالحساب ولو أنه درهم. وعليه أكثر الأصحاب. وقدمه في [الفروع] والمجد في شرحه. و [الفائق] وغيرهم. وقال القاضي في [المجرد] وابن عقيل في [الفصول] : لا يلزمه ما لم يكن المقبوض نصابا، أو يصير ما بيده ما يتمم به نصابا. ومنها: يرجع المغصوب منه على الغاصب بالزكاة لنقصه بيده كتلفه. ومنها: لو غصب رب المال بأسر أو حبس، ومنع من التصرف في ماله، لم تسقط زكاته. على الصحيح من المذهب؛ لنفوذ تصرفه فيه. وقيل: تسقط. قوله: (وقال الخرقي: واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها) .

اللقطة قبل أن يعلم ربها حكمها حكم المال الضائع. على ما تقدم خلافا ومذهبا. وعند الخرقي: أن الزكاة تجب فيها إذا وجدها ربها لحول التعريف. وذكر المصنف الخرقي تأكيدا لوجوب الزكاة فيما ذكره. فوائد: إذا ملك الملتقط اللقطة بعد الحول، استقبل بها حولا وزكاها. على الصحيح من المذهب. نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب. وجزم به الخرقي وغيره. وقدمه في [الفروع] وغيره. وقيل: لا يلزمه؛ لأنه مدين بها. وحكي عن القاضي لا زكاة فيها؛ نظرا إلى أنه ملكها مضمونة عليه بمثلها، أو قيمتها. فهي دين عليه في الحقيقة. انتهى. ولذلك قال ابن عقيل: لكن نظر إلى عدم استقرار الملك فيها. انتهى. فعلى القول الثاني: لو ملك قدر ما يقابل قدر عوضها زكى. على الصحيح. وقيل: لا؛ لعدم استقرار ملكه لها. وتقدم كلام ابن عقيل. وإذا ملكها الملتقط وزكاها فلا زكاة إذن على ربها. على الصحيح من المذهب. وعنه، بلى. وهل يزكيها ربها حول التعريف أو بعده، إذا لم يملكها الملتقط؟ فيه الروايتان في المال الضال. وإن لم يملك اللقطة - وقلنا: له أن يتصدق بها - لم يضمن حتى يختار ربها الضمان، فتثبت حينئذ في ذمته، كدين تجدد. فإن أخرج الملتقط زكاتها عليه منها، ثم أخذها ربها، رجع عليه بما أخرج على الصحيح من

المذهب. وقال القاضي: لا يرجع عليه، إن قلنا: لا يلزم ربها زكاتها. قال في [الرعاية] : لوجوبها على الملتقط إذن (¬1) . ¬

_ (¬1) [الإنصاف] ، (3 \ 18) وما بعدها.

الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة

رابعا: الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة؟ الديون التي على الإنسان قد تكون لآدمي، وقد تكون لله تعالى، وقد يكون الدين حالا أو مؤجلا. وفيما يلي نصوص فقهاء الإسلام تبين أقوالهم وأدلتهم مع المناقشة: 1 - النقل عن الحنفية: أ- قال الكاساني: ومنها: أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد عندنا، فإن كان فإنه يمنع وجوب الزكاة بقدره، حالا كان أو مؤجلا. وعند الشافعي: هذا ليس بشرط، والدين لا يمنع وجوب الزكاة كيفما كان، احتج الشافعي بعمومات الزكاة من غير فصل، ولأن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب، وشرطه أن يكون معدا للتجارة أو للإسامة وقد وجد. أما الملك فظاهر؛ لأن المديون مالك لماله؛ لأن دين الحر الصحيح يجب في ذمته ولا يتعلق بماله، ولهذا يملك التصرف فيه كيف شاء. وأما الإعداد للتجارة أو الإسامة؛ فلأن الدين لا ينافي ذلك، والدليل عليه أنه لا يمنع وجوب العشر. (ولنا) : ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه خطب في شهر رمضان وقال في خطبته: ألا إن شهر زكاتكم قد حضر، فمن كان له مال وعليه

دين فليحسب ماله بما عليه، ثم ليزك بقية ماله. وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان ذلك إجماعا منهم على أنه لا تجب الزكاة في القدر المشغول بالدين. وبه تبين أن مال المديون خارج عن عمومات الزكاة، ولأنه محتاج إلى هذا المال حاجة أصلية؛ لأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية، والمال المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون مال الزكاة؛ لأنه لا يتحقق به الغنى، «ولا صدقة إلا عن ظهر غنى (¬1) » على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد خرج الجواب عن قوله: إنه وجد سبب الوجوب وشرطه؛ لأن صفة الغنى مع ذلك شرط ولا يتحقق مع الدين مع ما (¬2) أن ملكه في النصاب ناقص، بدليل أن لصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه أن يأخذه من غير قضاء ولا رضاء. وعند الشافعي: له ذلك في الجنس وخلاف الجنس وذا آية عدم الملك، كما في الوديعة والمغصوب. فلأن يكون دليل نقصان الملك أولى. وأما العشر: فقد روى ابن المبارك عن أبي حنيفة: أن الدين يمنع وجوب العشر فيمنع على هذا الرواية، وأما على ظاهر الرواية؛ فلأن العشر مؤنة الأرض النامية كالخراج فلا يعتبر فيه غنى المالك، ولهذا لا يعتبر فيه أصل الملك عندنا حتى يجب في الأراضي الموقوفة وأرض المكاتب، بخلاف الزكاة، فإنه لا بد فيها من غنى المالك، والغنى لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري النفقات (5355) ، سنن النسائي الزكاة (2534) ، سنن أبو داود الزكاة (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/230) ، سنن الدارمي الزكاة (1651) . (¬2) كذا في الأصل. ولعل (ما) زائدة، أو تكون بعد أن.

يجامع الدين، وعلى هذا يخرج مهر المرأة، فإنه يمنع وجوب الزكاة عندنا معجلا كان أو مؤجلا؛ لأنها إذا طالبته يؤاخذ به. وقال بعض مشايخنا: إن المؤجل لا يمنع؛ لأنه غير مطالب به عادة، فأما المعجل فيطالب به عادة فيمنع. وقال بعضهم: إن كان الزوج على عزم من قضائه يمنع، وإن لم يكن على عزم القضاء لا يمنع؛ لأنه لا يعده دينا، وإنما يؤاخذ المرء بما عنده في الأحكام. وذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري في الإجارة الطويلة التي تعارفها أهل بخارى أن الزكاة في الأجرة المعجلة تجب على الآجر؛ لأنه ملكه قبل الفسخ وإن كان يلحقه دين بعد الحول بالفسخ. وقال بعض مشايخنا: إنه يجب على المستأجر أيضا؛ لأنه يعد ذلك مالا موضوعا عند الآجر. وقالوا في البيع الذي اعتاده أهل سمرقند وهو بيع الوفاء: إن الزكاة على البائع في ثمنه إن بقي حولا؛ لأنه ملكه. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن يلزم المشتري أيضا؛ لأنه يعده مالا موضوعا عند البائع فيؤاخذ بما عنده. وقالوا فيمن ضمن الدرك فاستحق المبيع: إنه إن كان في الحول يمنع؛ لأن المانع قارن الموجب فيمنع الوجوب، فأما إذا استحق بعد الحول لا يسقط الزكاة؛ لأنه دين حادث؛ لأن الوجوب مقتصر على حالة الاستحقاق وإن كان الضمان سببا حتى اعتبر من جميع المال، وإذا اقتصر وجوب الدين لم يمنع وجوب الزكاة قبله.

وأما نفقة الزوجات فما لم يصر دينا إما بفرض القاضي أو بالتراضي لا يمنع؛ لأنها تجب شيئا فشيئا؛ فتسقط إذا لم يوجد قضاء القاضي أو التراضي، وتمنع إذا فرضت بقضاء القاضي أو بالتراضي لصيرورته دينا. وكذا نفقة المحارم تمنع إذا فرضها القاضي في مدة قصيرة نحو ما دون الشهر فتصير دينا، فأما إذا كانت المدة طويلة فلا تصير دينا، بل تسقط؛ لأنها صلة محضة، بخلاف نفقة الزوجات. إلا أن القاضي يضطر إلى الفرض في الجملة في نفقة المحارم أيضا لكن الضرورة ترتفع بأدنى المدة. وقال بعض مشايخنا: إن نفقة المحارم تصير دينا أيضا بالتراضي في المدة اليسيرة. وقالوا: دين الخراج يمنع وجوب الزكاة؛ لأنه مطالب به. وكذا إذا صار العشر دينا في ذمته بأن أتلف الطعام العشري صاحبه. فأما وجوب العشر فلا يمنع؛ لأنه متعلق بالطعام يبقى ببقائه ويهلك بهلاكه، والطعام ليس مال التجارة حتى يصير مستحقا بالدين. وأما الزكاة الواجبة في النصاب أو دين الزكاة بأن أتلف مال الزكاة حتى انتقل من العين إلى الذمة - فكل ذلك يمنع وجوب الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد، سواء كان في الأموال الظاهرة أو الباطنة. وقال زفر: لا يمنع كلاهما. وقال أبو يوسف: وجوب الزكاة في النصاب يمنع، فأما دين الزكاة فلا يمنع. هكذا ذكر الكرخي قول زفر ولم يفصل بين الأموال الظاهرة والباطنة.

وذكر القاضي في شرحه [مختصر الطحاوي] : أن هذا مذهبه في الأموال الباطنة من الذهب والفضة، وأموال التجارة. ووجه هذا القول ظاهر؛ لأن الأموال الباطنة لا يطالب الإمام بزكاتها، فلم يكن لزكاتها مطالب من جهة العباد، سواء كانت في العين أو في الذمة، فلا يمنع وجوب الزكاة، كديون الله تعالى من الكفارات والنذور وغيرها، بخلاف الأموال الظاهرة؛ لأن الإمام يطالب بزكاتها. وأما وجه قوله الآخر فهو: أن الزكاة قربة، فلا يمنع وجوب الزكاة، كدين النذور والكفارات. ولأبي يوسف: الفرق بين وجوب الزكاة وبين دينها هو: أن دين الزكاة في الذمة لا يتعلق بالنصاب، فلا يمنع الوجوب؛ كدين الكفارات والنذور. وأما وجوب الزكاة فمتعلق بالنصاب، إذ الواجب جزء من النصاب، واستحقاق جزء من النصاب يوجب النصاب؛ إذ المستحق كالمصروف. وحكي أنه قيل لأبي يوسف: ما حجتك على زفر؟ فقال: ما حجتي على من يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم؟ ! والأمر على ما قاله أبو يوسف؛ لأنه إذا كان له مائتا درهم فلم يؤد زكاتها سنين كثيرة، يؤدي إيجاب الزكاة في المال أكثر منه بأضعافه وأنه قبيح. ولأبي حنيفة ومحمد: أن كل ذلك دين مطالب به من جهة العباد. أما زكاة السوائم فلأنها يطالب بها من جهة السلطان عينا كان أو دينا؛ ولهذا يستحلف إذا أنكر الحول، أو أنكر كونه للتجارة أو ما أشبه ذلك،

فصار بمنزلة ديون العباد. وأما زكاة التجارة فمطالب بها أيضا تقديرا؛ لأن حق الأخذ للسلطان. وكان يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى زمن عثمان رضي الله عنه. فلما كثرت الأموال في زمانه وعلم أن في تتبعها زيادة ضرر بأربابها رأى المصلحة في أن يفوض الأداء إلى أربابها بإجماع الصحابة، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام. ألا ترى أنه قال: من كان عليه دين فليؤده وليترك ما بقي من ماله. فهذا توكيل لأرباب الأموال بإخراج الزكاة، فلا يبطل حق الإمام عن الأخذ؛ ولهذا قال أصحابنا: إن الإمام إذا علم من أهل بلدة أنهم يتركون أداء الزكاة من الأموال الباطنة فإنه يطالبهم بها، لكن إذا أراد الإمام أن يأخذها بنفسه من غير تهمة الترك من أربابها ليس له ذلك؛ لما فيه من مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم. وبيان ذلك: أنه إذا كان لرجل مائتا درهم أو عشرون مثقال ذهب فلم يؤد زكاته سنتين يزكي السنة الأولى وليس عليه للسنة الثانية شيء عند أصحابنا الثلاثة. وعند زفر: يؤدي زكاة سنتين، وكذا هذا في مال التجارة، وكذا في السوائم إذا كان له خمس من الإبل السائمة مضى عليها سنتان ولم يؤد زكاتها - أنه يؤدي زكاة السنة الأولى، وذلك شاة، ولا شيء عليه للسنة الثانية. ولو كانت عشرا وحال عليها حولان، يجب للسنة الأولى شاتان، وللثانية شاة.

ولو كانت الإبل خمسا وعشرين يجب للسنة الأولى بنت مخاض، وللسنة الثانية أربع شياه، ولو كان له ثلاثون من البقر السوائم يجب للسنة الأولى تبيع أو تبيعة، ولا شيء للسنة الثانية. وإن كانت أربعين يجب للسنة الأولى مسنة، وللثانية تبيع أو تبيعة وإن كان له أربعون من الغنم عليه للسنة الأولى شاة، ولا شيء للسنة الثانية. وإن كانت مائة وإحدى وعشرين عليه للسنة الأولى شاتان، وللسنة الثانية شاة. ولو لحقه دين مطالب به من جهة العباد في خلال الحول، هل ينقطع حكم الحول؟ قال أبو يوسف: لا ينقطع، حتى إذا سقط بالقضاء أو بالإبراء قبل تمام الحول تلزمه الزكاة إذا تم الحول. وقال زفر: ينقطع الحول بلحوق الدين. والمسألة مبنية على نقصان النصاب في خلال الحول؛ لأن بالدين ينعدم كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية؛ فتنعدم صفة الغنى في المالك، فكان نظير نقصان النصاب في أثناء الحول. وعندنا نقصان النصاب في خلال الحول: لا يقطع الحول، وعند زفر: يقطع على ما نذكر، فهذا مثله. وأما الديون التي لا مطالب لها من جهة العبادات كالنذور والكفارات وصدقة الفطر ووجوب الحج ونحوها لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن أثرها في حق أحكام الآخرة وهو الثواب بالأداء والإثم بالترك فأما لا أثر له في أحكام الدنيا، ألا ترى أنه لا يجبر ولا يحبس فلا يظهر في حق حكم من أحكام الدنيا فكانت ملحقة بالعدم في حق أحكام الدنيا.

ثم إذا كان على الرجل دين وله مال الزكاة وغيره من عبيد الخدمة وثياب البذلة ودور السكنى فإن الدين يصرف إلى مال الزكاة عندنا سواء كان من جنس الدين أو لا، ولا يصرف إلى غير مال الزكاة وإن كان من جنس الدين. وقال زفر: يصرف الدين إلى الجنس وإن لم يكن مال الزكاة، حتى إنه لو تزوج امرأة على خادم بغير عينه وله مائتا درهم وخادم فدين المهر يصرف إلى المائتين دون الخادم عندنا، وعنده يصرف إلى الخادم. وجه قول زفر: أن قضاء الدين من الجنس أيسر؛ فكان الصرف إليه أولى. ولنا: أن عين مال الزكاة مستحق كسائر الحوائج، ومال الزكاة فاضل عنها، فكان الصرف إليه أيسر وأنظر بأرباب الأموال، لهذا لا يصرف إلى ثياب بدنه وقوته وقوت عياله، وإن كان من جنس الدين لما قلنا. وذكر محمد في الأصل: أرأيت لو تصدق عليه لم يكن موضعا للصدقة. ومعنى هذا الكلام: أن مال الزكاة مشغول بحاجة الدين؛ فكان ملحقا بالعدم، وملك الدار والخادم لا يحرم عليه أخذ الصدقة، فكان فقيرا، ولا زكاة على الفقير. ولو كان في يده من أموال الزكاة أنواع مختلفة من الدراهم والدنانير وأموال التجارة والسوائم، فإنه يصرف الدين إلى الدراهم والدنانير وأموال التجارة دون السوائم؛ لأن زكاة هذه الجملة يؤديها أرباب الأموال، وزكاة السوائم يأخذها الإمام، وربما يقصرون في الصرف إلى الفقراء ظنا بما

لهم، فكان صرف الدين إلى الأموال الباطنة ليأخذ السلطان زكاة السوائم نظرا للفقراء، وهذا أيضا عندنا. وعلى قول زفر: يصرف الدين إلى الجنس وإن كان من السوائم، حتى إن من تزوج امرأة على خمس من الإبل السائمة بغير أعيانها وله أموال التجارة وإبل سائمة - فإن عنده يصرف المهر إلى الإبل، وعندنا يصرف إلى مال التجارة لما مر. وذكر الشيخ الإمام السرخسي: أن هذا إذا حضر المصدق، فإن لم يحضر فالخيار لصاحب المال، إن شاء صرف الدين إلى السائمة وأدى الزكاة من الدراهم، وإن شاء صرف الدين إلى الدراهم وأدى الزكاة من السائمة؛ لأن في حق صاحب المال هما سواء لا يختلف، وإنما الاختلاف في حق المصدق، فإن له ولاية أخذ الزكاة من السائمة دون الدراهم؛ فلهذا إذا حضر صرف الدين إلى الدراهم وأخذ الزكاة من السائمة. فأما إذا لم يكن له مال الزكاة سوى السوائم فإن الدين يصرف إليها ولا يصرف إلى أموال البذلة لما ذكرنا. ثم ينظر إن كان له أنواع مختلفة من السوائم، فإن الدين يصرف إلى أقلها زكاة حتى يجب الأكثر نظرا للفقراء، بأن كان له خمس من الإبل وثلاثون من البقر وأربعون شاة، فإن الدين يصرف إلى الإبل أو الغنم دون البقر حتى يجب التبيع؛ لأنه أكثر قيمة من الشاة. وهذا إذا صرف الدين إلى الإبل والغنم بحيث لا يفضل شيء منه، فأما إذا استغرق أحدهما وفضل منه شيء وإن صرف إلى البقر لا يفضل منه شيء - فإنه

يصرف إلى البقر؛ لأنه إذا فضل شيء منه يصرف إلى الغنم فانتقص النصاب بسبب الدين فامتنع وجوب شاتين. ولو صرف إلى البقر وامتنع وجوب التبيع تجب الشاتان؛ لأنه لو صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل السائمة كاملا، والتبيع أقل قيمة من شاتين، ولو لم يكن له إلا الإبل والغنم. ذكر في [الجامع] : أن لصاحب المال أن يصرف الدين إلى أيهما شاء، لاستوائهما في قدر الواجب، وهو الشاة. وذكر في نوادر الزكاة أن للمصدق أن يأخذ الزكاة من الإبل دون الغنم؛ لأن الشاة الواجبة في الإبل ليست من نفس النصاب؛ فلا ينتقص النصاب بأخذها. ولو صرف الدين إلى الإبل يأخذ الشاة من الأربعين فينتقص النصاب فكان هذا أنفع للفقراء. ولو كان له خمس وعشرون من الإبل وثلاثون بقرا وأربعون شاة، فإن كان الدين لا يفضل عن الغنم يصرف إلى الشاة؛ لأنه أقل زكاة، فإن فضل منه ينظر إن كان بنت مخاض وسط أقل قيمة من الشاة وتبيع وسط يصرف إلى الإبل، وإن كان أكثر قيمة منها يصرف إلى الغنم والبقر؛ لأن هذا أنفع للفقراء، فالمدار على هذا الحرف. فأما إذا لم يكن له مال للزكاة فإنه يصرف الدين إلى عروض البذلة والمهنة أولا ثم إلى العقار؛ لأن الملك مما يستحدث في العروض ساعة فساعة، فأما العقار فمما لا يستحدث فيه الملك غالبا؛ فكان فيه مراعاة

النظر لهما جميعا. والله أعلم (¬1) . ب- قال الزيلعي: وأما كونه فارغا عن الدين وعن حاجته الأصلية؛ كدور السكنى وثياب البذلة وأثاث المنازل وآلات المحترفين وكتب الفسقة لأهلها، فلأن المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم؛ ولهذا يجوز التيمم مع الماء المستحق بالعطش. وقال الشافعي في الجديد: الدين لا يمنع وجوب الزكاة للعمومات، والحجة عليه ما رويناه، وهو قول عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر، وكفى بهم قدوة، وكان عثمان رضي الله عنه يقول: (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تخلص أمواله فيؤدي منها الزكاة) بمحضر من الصحابة من غير نكير، فكان إجماعا، ولأن الزكاة تجب على الغني لإغناء الفقير، ولا يتحقق الغنى بالمال المستقرض ما لم يقضه، ولأن ملكه ناقص حيث كان للغريم أن يأخذه إذا ظفر بجنس حقه، فصار كمال المكاتب، ولا يلزم على هذا الموهوب له حيث تجب عليه الزكاة وإن كان للواهب أن يرجع فيه؛ لأنه ليس له أن يأخذه إلا بقضاء القاضي أو برضا الموهوب له، فلا يصح رجوعه بدونهما. وفيما قال الشافعي: يلزم تزكية مال واحد في سنة واحدة مرارا بأن كان لرجل عبد يساوي ألفا فباعه من آخر بدين ثم باعه الآخر كذلك حتى تداولته عشرة أنفس مثلا فحال عليه الحول، يجب على كل واحد منهم زكاة ألف، والمال في الحقيقة واحد حتى لو فسخت البياعات بعيب ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2 \ 6) وما بعدها.

رجع إلى الأول فلم يبق لهم شيء. ولا فرق في الدين بين المؤجل والحال. والمراد بالدين: دين له مطالب من جهة العباد حتى لا يمنع دين النذر والكفارة، ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب؛ لأنه ينتقص به النصاب، وكذا بعد الاستهلاك، خلافا لزفر رحمه الله فيهما، ولأبي يوسف في الثاني؛ لأنه مطالب به من جهة الإمام في الأموال الظاهرة، ومن جهة نوابه في الباطنة؛ لأن الملاك نوابه، فإن الإمام كان يأخذها إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وهو فوضها إلى أربابها في الأموال الباطنة، قطعا لطمع الظلمة فيها، فكان ذلك توكيلا منه لأربابها. وقيل لأبي يوسف: ما حجتك على زفر؛ فقال: ما حجتي على رجل يوجب في مائتي درهم أربعمائة درهم؟ ! ومراده إذا كان لرجل مائتا درهم وحال عليها ثمانون حولا. ولو طرأ الدين في خلال الحول يمنع وجوب الزكاة عند محمد، كهلاك النصاب كله، وعند أبي يوسف لا يمنع، كنقصان النصاب في أثناء الحول، ثم لا فرق بين أن يكون الدين بطريق الكفالة والأصالة حتى لا تجب عليهما الزكاة، بخلاف الغاصب وغاصب الغاصب، حيث تجب على الغاصب في ماله دون غاصب الغاصب، والفرق أن الأصيل والكفيل كل واحد منهما مطالب به؛ أما الغاصبان فكل واحد منهما غير مطالب به، بل أحدهما. وإن كان ماله أكثر من الدين زكى الفاضل إذا بلغ نصابا بالفراغة عن الدين، وإن كان له نصب يصرف الدين إلى أيسرها قضاء.

مثاله: إذا كان له دراهم ودنانير وعروض التجارة وسوائم من الإبل ومن البقر والغنم وعليه دين، فإن كان يستغرق الجميع فلا زكاة عليه، وإن لم يستغرق صرف إلى الدراهم والدنانير أولا، إذ القضاء منهما أيسر؛ لأنه لا يحتاج إلى بيعهما، ولأنه لا تتعلق المصلحة بعينهما، ولأنهما لقضاء الحوائج وقضاء الدين منها، ولأن للقاضي أن يقضي الدين منهما جبرا، وكذا للغريم أن يأخذ منهما إذا ظفر بهما وهما من جنس حقه، فإن فضل عنهما الدين أو لم يكن له منهما شيء، صرف إلى العروض؛ لأنهما عرضة للبيع، بخلاف السوائم؛ لأنها للنسل والدر والقنية، فإن لم يكن له عروض أو فضل الدين عنها صرف إلى السوائم، فإن كانت السوائم أجناسا صرف إلى أقلها زكاة نظرا للفقراء، وإن كان له أربعون شاة وخمس من الإبل يخير لاستوائهما في الواجب، وقيل: يصرف إلى الغنم لتجب الزكاة في الإبل في العام القابل (¬1) . ¬

_ (¬1) [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق] (1 \ 253) وما بعدها.

النقل عن المالكية

2 - النقل عن المالكية: أ- جاء في [المدونة] تحت عنوان (زكاة المديان) : (قلت) : أرأيت الرجل تكون له الدنانير فيحول عليها الحول وهي عشرون دينارا، وعليه دين وله عروض، أين يجعل دينه؟ (فقال) : في عروضه، فإن كانت وفاء دينه زكى هذه العشرين الناضة التي حال عليها الحول عنده. (قلت) : أرأيت إن كانت عروضه ثياب جسده وثوبي جمعته وسلاحه

وخاتمه وسرجه وخادما تخدمه ودارا يسكنها. (فقال) : أما خادمه وداره وسلاحه وسرجه وخاتمه فهي عروض يكون الدين فيها، فإن كان فيها وفاء الدين زكى العشرين التي عنده، قال: وهو قول مالك وأصل هذا لما جعلنا من قول مالك أنه ما كان للسلطان أن يبيعه في دينه فإنه يجعل دينه في ذلك، ثم يزكي ما كان عنده بعد ذلك من ناض، وإذا كان على الرجل الدين، فإن السلطان يبيع داره وعروضه كلها، ما كان من خادم أو سلاح أو غير ذلك، إلا ما كان من ثياب جسده مما لا بد له منه، ويترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام. (قلت) : أرأيت ثوبي جمعته أيبيع عليه السلطان ذلك في دينه؟ (فقال) : إن كانا ليس لهما تلك القيمة فلا يبيعهما، وإن كان لهما قيمة باعهما. (قلت) : أتحفظ هذا عن مالك؟ فقال: لا، ولكن هذا رأيي. (قلت) : أرأيت من له مال ناض وعليه من الدين مثل هذا المال الناض الذي عنده وله مدبرون قيمتهم أو قيمة خدمتهم مثل الدين الذي عليه؟ (فقال) : يجعل الدين الذي عليه في قيمة المدبرين. (قلت) : قيمة رقابهم أم قيمة خدمتهم. (فقال) : قيمة رقابهم ويزكي الدنانير الناضة التي عنده. (قلت) : وهذا قول مالك؟ قال: هذا رأيي. (قلت) : فإن كانت له دنانير ناضة وعليه من الدين مثل الدنانير وله مكاتبون، فقال: ينظر إلى قيمة الكتابة.

(قلت) : وكيف ينظر إلى قيمة الكتابة؟ (فقال) : يقال: ما قيمة ما على هذا المكاتب من هذه النجوم على محلها بالعاجل من العروض ثم يقال: ما قيمة هذه العروض بالنقد؛ لأن ما على المكاتب لا يصلح أن يباع إلا بالعرض، إذا كان دنانير أو دراهم فينظر إلى قيمة المكاتب الآن بعد التقويم، فيجعل دينه فيه؛ لأنه مال له لو شاء أن يتعجله تعجله، وذلك أنه لو شاء أن يبيع ما على المكاتب بما وصفت لك فعل، فإذا جعل دينه في قيمة ما على المكاتب زكى ما في يديه من الناض إن كانت قيمة ما على المكاتب مثل الدين الذي عليه. (قال) : وكانت الدنانير التي في يديه هذه الناضة تجب فيها الزكاة، فإن كانت قيمة ما على المكاتب أقل مما عليه من الدين جعل فضل دينه فيما في يديه من الناض، ثم ينظر إلى ما بقي بعد ذلك، فإن كان ذلك مما تجب فيه الزكاة زكاه، وإن كان مما لا تجب فيه الزكاة لم يكن عليه فيها شيء. (قلت) : وهذا قول مالك في هذه المسألة في المكاتب. (فقال) : لم أسمع منه هذا كله، ولكن قال مالك: لو أن رجلا كانت له مائة دينار في يديه، وعليه دين مائة دينار، وله مائة دينار دينا، رأيت أن يزكي المائة الناضة التي في يديه، ورأيت ما عليه من الدين في الدين الذي له إن كان دينا يرتجيه وهو على مليء. (قلت) : فإن لم يكن يرتجيه؟ (قال) : لا يزكيه فمسألة المكاتب عندي على مثل هذا؛ لأن كتابة المكاتب في قول مالك لو أراد أن يبيع ذلك بعرض مخالف لما عليه كان

ذلك له وهو مال للسيد كأنه عرض في يديه لو شاء أن يبيعه باعه. (قلت) : أرأيت إن كان عليه دين وله عبيد قد أبقوا وفي يديه مال ناض، أيقوم العبيد الأباق فيجعل الدين فيهم؟ قال: لا. (قلت) : لم؟ قال: لأن الأباق لا يصلح بيعهم ولا يكون دينه فيهم. (قلت) : أتحفظ هذا عن مالك؟ قال: لا، ولكن هذا رأيي. (قلت) : فما فرق ما بين الماشية والثمار والحبوب والدنانير في الزكاة؟ (فقال) : لأن السنة إنما جاءت في الضمار، وهو المال المحبوس في العين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز كانوا يبعثون الخراص في وقت الثمار فيخرصون على الناس لإحصاء الزكاة، ولما للناس في ذلك من تعجيل منافعهم بثمارهم الأكل والبيع وغير ذلك، ولا يؤمرون فيه بقضاء ما عليهم من دين ليحصل أموالهم، وكذلك السعاة يبعثونهم فيأخذون من الناس مما وجدوا في أيديهم ولا يسألونهم عن شيء من الدين، وقد قال أبو الزناد: كان من أدركت من فقهاء المدينة وعلمائهم ممن يرضى وينتهي إلى قولهم، منهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل، وربما اختلفوا في الشيء فأخذ يقول أكثرهم أنهم كانوا يقولون: لا يصدق المصدق إلا ما أتى عليه، لا ينظر إلى غير ذلك.

(وقال) أبو الزناد: وهي السنة. قال أبو الزناد: وإن عمر بن عبد العزيز ومن قبله من الفقهاء يقولون ذلك. (قال) ابن وهب: وقد كان عثمان بن عفان يصيح في الناس: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. فكان الرجل يحصي دينه ثم يؤدي مما بقي في يديه إن كان ما بقي تجب فيه الزكاة. (قال) ابن مهدي: عن أبي عبد الرحمن عن طلحة بن النضر قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: كانوا لا يرصدون الثمار في الدين وينبغي للعين أن ترصد في الدين. (قال) ابن مهدي: عن حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: كان المصدق يجيء فأينما رأى زرعا أو إبلا قائمة أو غنما قائمة أخذ منها الصدقة. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا كانت في يديه مائة دينار ناضة فحال عليها الحول وعليه مائة دينار مهر لامرأته أيكون عليه فيما في يديه الزكاة؛ فقال: لا. (قلت) : وهو قول مالك. فقال: قال لي مالك: إذا أفلس زوجها حاصت الغرماء، فإن مات زوجها حاصت الغرماء فهو دين، وهذا مثله. (قلت) : أرأيت لو أن رجلا كانت عنده مائة دينار فحال عليها الحول وعليه زكاة قد كان فرط فيها لم يؤدها من زكاة المال والماشية وما أنبتت الأرض، أيكون عليه فيما في يديه الزكاة؟ (فقال) : لا يكون عليه فيما في يديه الزكاة إلا أن يبقى في يديه بعد أن يؤدي ما كان فرط فيه من الزكاة ما تجب فيه الزكاة عشرون دينارا فصاعدا، فإن بقي في يديه عشرون دينارا فصاعدا زكاه.

(قلت) : وهذا قول مالك. فقال: هذا رأيي؛ وذلك؛ لأن مالكا قال لي في الزكاة: إذا فرط فيها الرجل ضمنها، وإن أحاطت بماله فهذا عندي مثله. (قلت) : أرأيت رجلا له عشرون دينارا قد حال عليها الحول وعليه عشرة دراهم لامرأته نفقة شهر قد كان فرضها عليه القاضي قبل أن يحول الحول بشهر. (فقال) : يجعل نفقة المرأة في هذه العشرين الدينار، فإذا انحطت فلا زكاة عليه فيها. (قلت) : أرأيت إن لم يكن فرض لها القاضي ولكنها أنفقت على نفسها شهرا قبل الحول ثم تبعته بنفقة الشهر وعند الزوج هذه العشرون الدينار. فقال: تأخذ نفقتها ولا يكون على الزوج فيها زكاة. (قلت) : ويلزم الزوج ما أنفقت من مالها وإن لم يفرض لها القاضي. (فقال) : نعم، إذا كان الزوج موسرا، فإن كان غير موسر فلا يضمن لها ما أنفقت، فمسألتك أنها أنفقت وعند الزوج عشرون دينارا، فالزوج يتبع بما أنفقت يقضى لها عليه بما أنفقت من مالها فإذا قضى لها بذلك عليه حطت العشرون الدينار إلى ما لا زكاة فيها فلا يكون عليه زكاة. (قلت) : وهذا قول مالك. (قال) : قال مالك: أيما امرأة أنفقت على نفسها وزوجها في حضر أو في سفر وهو موسر، فما أنفقت فهو في مال الزوج إن اتبعته على ما أحب أو كره الزوج مضمونا عليه. فلما اتبعته به كان ذلك دينا عليه، فجعلته في هذه العشرين فبطلت الزكاة عنه.

(قلت) : أرأيت إن كانت هذه النفقة التي على هذا الزوج الذي وصفت لك إنما هي نفقة والدين أو ولد. فقال: لا تكون نفقة الوالدين والولد دينا أبطل به الزكاة عن الرجل؛ لأن الوالدين والولد إنما تلزم النفقة لهم إذا ابتغوا ذلك، وإن أنفقوا ثم طلبوه بما أنفقوا لم يلزمه ما أنفقوا وإن كان موسرا، والمرأة تلزمه ما أنفقت قبل أن تطلبه بالنفقة إن كان موسرا. (قلت) : فإن كان القاضي قد فرض للأبوين نفقة معلومة فلم يعطهما ذلك شهرا وحال الحول عليها عند هذا الرجل بعد هذا الشهر، أتجعل نفقة الأبوين ههنا دينا فيما في يديه إذا قضى به القاضي. قال: لا. (قال) أشهب: أحط عنه به الزكاة وألزمه ذلك إذا قضى به القاضي عليه في الأبوين؛ لأن النفقة لهما إنما تكون إذا طلبا ذلك، ولا يشبهان الولد، ويرجع على الأب بما تداين به الولد، أو أنفق عليه إذا كان موسرا، ويحط بذلك عنه الزكاة، كانت بفريضة من القاضي أو لم تكن؛ لأن الولد لم تسقط نفقتهم عن الوالد إذا كان له مال من أول ما كانوا حتى يبلغوا، والوالدين قد كانت نفقتهما ساقطة فإنما ترجع نفقتهما بالقضية، والحكم من السلطان. والله أعلم. (قلت) لابن القاسم: أرأيت رجلا كانت عنده دنانير قد حال عليها الحول تجب فيها الزكاة وعليه إجارة أجراء قد عملوا عنده قبل أن يحول على ما عنده الحول، أو كراء إبل أو دواب، أيجعل ذلك الكراء والإجارة فيما في يديه من الناض ثم يزكي ما بقي؟ (فقال) : نعم إذا لم يكن له عروض.

(قلت) : وهذا قول مالك؟ قال: نعم. (قال) : وسألت مالكا عن العامل إذا عمل بالمال قراضا سنة فربح ربحا وعلى العامل المقارض دين فاقتسماه بعد الحول، وأخذ العامل ربحه، هل ترى على العامل في حظه زكاة وعليه دين؟ (فقال) : لا إلا أن تكون له عروض فيها وفاء بدينه، فيكون دينه في العروض ويكون في ربحه هذا الزكاة. قال: فإن لم تكن له عروض فلا زكاة عليه في ربحه إذا كان الدين يحيط بربحه كله، وقال غيره: فيه الزكاة. (قال) ابن وهب وسفيان بن عيينة: إن ابن شهاب حدثهما عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. (قال) أشهب: عن ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر وهو يقول: هذا شهر زكاتكم الذي تؤدون فيه زكاتكم فمن كان عليه دين فليقض في دينه، فإن فضل عنده ما تجب فيه الزكاة فليؤد زكاته، ثم ليس عليه شيء حتى يحول عليه الحول. (قال) ابن القاسم وابن وهب وأشهب: عن مالك أن يزيد بن خصيفة حدثه أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة؟ قال: لا. (قال) ابن وهب: وأخبرني غير واحد عن ابن شهاب ونافع مثل قول سليمان بن يسار.

(قال) ابن مهدي: عن أبي الحسن عن عمرو بن حزم قال: سئل جابر بن يزيد عن الرجل يصيب الدراهم وعليه دين أكثر منها. فقال: لا زكاة عليه حتى يقضي دينه (¬1) . ب- قال ابن رشد - الجد - تحت ترجمة (في تقسيم الديون التي تسقط الزكاة) : والديون التي تسقط زكاة العين تنقسم عند ابن القاسم على ثلاثة أقسام: قسم منها يسقط الزكاة، وهو دين الزكاة، كانت له عروض تفي به أو لم تكن، مرت به سنة من يوم استدانه: مثل: أن يكون له عشرون دينارا فيحول عليها الحول فلا يخرج زكاتها ويمسكها حتى يحول عليها حول آخر فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة العام الأول، أو لم تمر به سنة من يوم استدانه: مثل: أن يفيد عشرين دينارا فتقيم عنده عشرة أشهر ثم يفيد عشرين أخرى فيحول حول العشرين الأولى فلا يزكيها وينفقها أو تتلف ثم يحول الحول على العشرين الأخرى فإنه لا يجب عليه فيها زكاة من أجل الدين الذي عليه من زكاة الفائدة الأولى. وقسم منها يسقط الزكاة، مرت به سنة من يوم استدانه أو لم تمر، إلا أن تكون له عروض تفي به يجعل الدين فيها، وهو ما استدانه في غير ما بيده من مال الزكاة. وقسم يسقط الزكاة إن لم تمر به سنة من يوم استدانه، كانت له ¬

_ (¬1) المدونة، ومعها (المقدمات) (1 \ 234) .

عروض أو لم تكن، ويسقطها إن مرت به سنة من يوم استدانه، إلا أن تكون له عروض يجعله فيها، وهو ما استدانه فيما بيده من مال الزكاة، كان الدين من سلف أو مبايعة. فكونه من سلف: هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيتسلف عشرة أخرى ويتجر بالعشرين حولا، فهذا يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه دينا من السلف، فإن بقيت العشرة التي بيده عشرة أشهر فتسلف عشرة أخرى فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها، وإن كان له من العروض ما يفي بالعشرة التي عليه من السلف حتى يحول الحول عليه من يوم تسلفها. وكونه من مبايعة: هو مثل أن تكون له عشرة دنانير فيأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة، فتجر بالعشرين حولا فإنه يزكي العشرين إن كانت له عروض تفي بالعشرة التي عليه من السلم، ولو بقيت العشرة التي له بيده عشرة أشهر فأخذ عشرة دنانير سلما في سلعة فتجر في العشرين إلى تمام الحول لم يجب عليه زكاتها وإن كان له من العروض ما يفي بالدين الذي عليه من السلم حتى يحول الحول من يوم أخذ العشرة دنانير في السلم. وأشهب يساوي بين دين الزكاة وغير الزكاة، فالدين ينقسم في هذا عنده على قسمين. وقد قيل: إن الدين يسقط الزكاة العين على كل مال وفي كل دين، وإن كانت له عروض لم يجعله فيها على ظاهر حديث

عثمان بن عفان المذكور، إذ لم يفرق فيه بين دين الزكاة من غيره، ولا شرط عدمه للعروض. وبالله التوفيق (¬1) . وقال أيضا تحت عنوان: (زكاة الديون) : الدين لا يسقط زكاة ما عدا العين من الأموال التي تجب فيها الزكاة. والدليل على ذلك: أن الله تبارك وتعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬2) وقال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3) فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال، والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم من ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل ما روي أن عثمان بن عفان كان يصيح في الناس: يا أيها الناس، هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى يحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. وبقي ما سوى ذلك على العموم، فلا يسقط الدين زكاة الحرث ولا الماشية، وكذلك زكاة الفطر عن العبد على الصحيح من الأقوال، وهو قول ابن وهب عن مالك خلاف ظاهر ما في المدونة، ونص ما في كتاب ابن المواز. وقد فرق أيضا بين العين وغيرها في وجوب إسقاط الدين بتفاريق من جهة المعنى لا تخلص من الاعتراض، وقد يحتمل أن يكون حذر عنها ¬

_ (¬1) المقدمات، ومعها [المدونة] (1 \ 219) وما بعدها. (¬2) سورة التوبة الآية 103 (¬3) سورة الأنعام الآية 141

الإجماع. وبالله التوفيق (¬1) . ج- قال ابن رشد الحفيد: وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال قوم: لا زكاة في مال حبا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكي وإلا فلا. وبه قال الثوري وأبو ثور وابن المبارك وجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها. وقال مالك: الدين يمنع زكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع، وقال قوم بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا. والسبب في اختلافهم: اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين؛ لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي بيده. ومن قال: هي عبادة، قال: تجب على من بيده مال؛ لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف، سواء كان عليه دين أو لم يكن، وأيضا فإنه قد تعارض هناك حقان: حق لله وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى، والأشبه بغرض ¬

_ (¬1) [المقدمات] ومعها [المدونة] (1 \ 306- 310) .

الشرع إسقاط الزكاة عن المديان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «فيها صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (¬1) » . والمدين ليس بغني. وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة، وقد كان أبو عبيد يقول: إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه. وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة، وإنما هو خلاف لمن يقول يصدق في الدين كما يصدق في المال (¬2) . د- جاء في [أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك] وشرحه الصغير: (ولا يسقط الدين) ولو عينا (زكاة حرث وماشية ومعدن) لتعلق الزكاة بعينها (بخلاف العين) الذهب والفضة (فيسقطها) الدين (ولو) كان الدين (مؤجلا أو) كان (مهرا، عليه لامرأته أو مؤخرا (أو) مقدما أو كان (نفقة كزوجة) أو أب أو ابن (تجمدت) عليه (أو) كان (دين زكاة) وانكسرت عليه، (لا) دين (كفارة) ليمين أو غيره كظهار، وصوم، (و) لا دين (هدي) وجب عليه في حج أو عمرة فلا يسقطان زكاة العين (إلا أن يكون له) أي: لرب العين المدين (من العروض ما) أي: شيء (يفي به) أي: بدينه فإنه يجعله في نظير الدين الذي عليه ويزكي ما عنده من العين. ولا تسقط عنه الزكاة بشرطين: أشار لأولهما بقوله: (إن حال حوله) أي: العرض (عنده) ، وللثاني بقول: (وبيع) ذلك العرض: أي: وكان مما يباع (على المفلس) كثياب ونحاس وماشية، ولو دابة ركوب أو ثياب ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) . (¬2) [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] (1 \ 236) .

جمعة أو كتب فقه، لا ثوب جسده أو دار سكناه، إلا أن يكون فيها فضل عن ضرورته. فإن كان عنده من العرض ما يفي ببعض ما عليه نظر للباقي، فإن كان فيه الزكاة زكاه، كما لو كان عنده أربعون دينارا وعليه مثلها وعنده عرض يفي بعشرين زكى العشرين. (والقيمة) لذلك العرض تعتبر (وقت الوجوب) أي: وجوب الزكاة آخر الحول (أو) يكون (له دين مرجو ولو مؤجلا) فإنه يجعله فيما عليه ويزكي ما عنده من العين (لا غير مرجو) كما لو كان على معسر أو ظالم لا تناله الأحكام، (ولا) إن كان له (آبق) فلا يجعل في نظير الدين الذي عليه (ولو رجي) تحصيله؛ لعدم جواز بيعه بحال. (فلو وهب الدين له) أي: لمن هو عليه - بأن أبرأه ربه منه ولم يحل حوله من يوم الهبة - فلا زكاة في العين التي عنده؛ لأن الهبة إنشاء لملك النصاب الذي بيده، فلا تجب الزكاة فيه، إلا إذا استقبل حولا من يوم الهبة (أو) وهب له (ما) أي: شيء من العرض أو غيره، أي: وهب له إنسان ما: أي: شيئا (يجعل فيه) أي: في نظير الدين، (ولو لم يحل حوله) أي: حول الشيء الموهوب عند رب العين (فلا زكاة) في العين التي عنده حتى يحول الحول؟ لما تقدم في الذي قبله، وهذا التصريح بمفهوم قوله: (إن حال حوله) (¬1) . ¬

_ (¬1) [أقرب المسالك] وشرحه [الشرح الصغير] (1 \ 647) .

النقل عن الشافعية

3 - النقل عن الشافعية: أ- جاء في [الأم] تحت ترجمة (باب الدين مع الصدقة) : أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد: أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. (قال الشافعي) : رحمه الله تعالى: وحديث عثمان يشبه والله تعالى أعلم أن يكون إنما أمر بقضاء الدين قبل حلول الصدقة في المال في قوله: هذا شهر زكاتكم، يجوز أن يقول: هذا الشهر الذي إذا مضى حلت زكاتكم، كما يقال: شهر ذي الحجة وإنما الحجة بعد مضي أيام منه. (قال الشافعي) : فإذا كانت لرجل مائتا درهم وعليه دين مائتا درهم فقضى من المائتين شيئا قبل حلول المائتين، أو استعدى عليه السلطان قبل محل حول المائتين فقضاها فلا زكاة عليه؛ لأن الحول حال وليست مائتين. (قال) : وإن لم يقض عليه بالمائتين إلا بعد حولها فعليه أن يخرج منها خمسة دراهم، ثم يقضي عليه السلطان بما بقي منها. (قال الشافعي) : وهكذا لو استعدى عليه السلطان قبل الحول فوقف ماله ولم يقض عليه بالدين حتى يحول عليه الحول - كان عليه أن يخرج زكاتها ثم يدفع إلى غرمائه ما بقي. (قال الشافعي) : ولو قضى عليه السلطان بالدين قبل الحول ثم حال الحول قبل أن يقبضه الغرماء - لم يكن عليه فيه زكاة؛ لأن المال صار للغرماء دونه قبل الحول. وفيه قول ثان: أن عليه فيه الزكاة من قبل أنه لو

تلف كان منه، ومن قبل أنه لو طرأ له مال غير هذا كان له أن يحبس هذا المال وأن يقضي الغرماء من غيره. (قال الشافعي) : وإذا أوجب الله عز وجل عليه الزكاة في ماله فقد أخرج الزكاة من ماله إلى من جعلها له فلا يجوز عندي - والله أعلم - إلا أن يكون كمال كان في يده فاستحق بعضه فيعطي الذي استحقه ويقضي دينه من شيء إن بقي له. (قال الشافعي) : وهكذا هذا في الذهب والورق والزرع والثمرة والماشية كلها لا يجوز أن يخالف بينها بحال؛ لأن كلا مما قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في كله إذا بلغ ما وصف صلى الله عليه وسلم الصدقة. (قال الشافعي) : وهكذا هذا في صدقة الإبل التي صدقتها منها، والتي فيها الغنم وغيرها، كالمرتهن بالشيء، فيكون لصاحب الرهن ما فيه، ولغرماء صاحب المال ما فضل عنه، وفي أكثر من حال المرتهن وما وجب في مال فيه الصدقة من إجارة أجير وغيرها أعطي قبل الحول. (قال الشافعي) : ولو استأجر الرجل على أن يرعى غنمه بشاة منها بعينها فهي ملك للمستأجر، فإن قبضها قبل الحول فهي له، ولا زكاة على الرجل في ماشيته، إلا أن يكون ما تجب فيه الصدقة بعد شاة الأجير، وإن لم يقبض الأجير الشاة حتى حال الحول ففي غنمه الصدقة على الشاة حصتها من الصدقة؛ لأنه خليط بالشاة. (قال الشافعي) : وهكذا هذا في الرجل يستأجر بتمر نخلة بعينها أو نخلات لا يختلف إذا لم يقبض الإجارة. (قال الشافعي) : فإن استؤجر بشيء من الزرع قائم بعينه لم تجز

الإجارة به؛ لأنه مجهول، كما لا يجوز بيعه، إلا أن يكون مضى خبر لازم بجواز بيعه؛ فتجوز الإجارة عليه، ويكون كالشاة بعينها وتمر النخلة والنخلات بأعيانهن. (قال الشافعي) : وإن كان استأجره بشاة بصفة، أو تمر بصفة، أو باع غنما، فعليه الصدقة في غنمه وتمره وزرعه، ويؤخذ بأن يؤدي إلى الأجير والمشتري منه الصفة التي وجبت له من ماله الذي أخذت منه الزكاة أو غيره. (قال الشافعي) : وسواء كانت له عروض كثيرة تحمل دينه أو لم يكن له شيء غير المال الذي وجبت فيه الزكاة. (قال الشافعي) : ولو كانت لرجل مائتا درهم فقام عليه غرماؤه فقال: قد حال عليها الحول، وقال الغرماء: لم يحل عليها الحول، فالقول قوله، ويخرج منها الزكاة ويدفع ما بقي منها إلى غرمائه إذا كان لهم عليه مثل ما بقي منها أو أكثر. (قال الشافعي) : ولو كان له أكثر من مائتي درهم فقال: قد حالت عليها أحوال ولم أخرج منها الزكاة، وكذبه غرماؤه، كان القول قوله ويخرج منها زكاة الأحوال، ثم يأخذ غرماؤه ما بقي منها بعد الزكاة أبدا أولى بها من مال الغرماء؛ لأنها أولى بها من ملك مالكها. (قال الشافعي) : ولو رهن رجل رجلا ألف درهم بألف درهم أو ألفي درهم بمائة دينار فسواء، وإذا حال الحول على الدراهم المرهونة قبل أن يحل دين المرتهن أو بعده فسواء، ويخرج منها الزكاة قبل دين المرتهن.

(قال الشافعي) : وهكذا كل مال رهن وجبت فيه الزكاة (¬1) . ب- وجاء في [الأم] أيضا تحت هذه الترجمة (باب الدين في الماشية) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت لرجل ماشية فاستأجر عليها أجيرا في مصلحتها بسن موصوفة أو ببعير منها لم يسمه فحال عليها حول ولم يدفع منها في إجارتها شيء ففيها الصدقة، وكذلك إن كان عليه دين أخذت الصدقة وقضي دينه منها ومما بقي من ماله. ولو استأجر رجل رجلا ببعير منها أو أبعرة منها بأعيانها فالأبعرة للمستأجر، فإن أخرجها منه فكانت فيها زكاة زكاها، وإن لم يخرجها منه فهي إبله، وهو خليط بها يصدق مع رب المال الذي فيها وفي الحرث والورق والذهب سواء، وكذلك الصدقة فيها كلها سواء (¬2) . ج- قال الشيرازي: فإن كان ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال عن النصاب ففيه قولان، (قال في القديم) : لا تجب الزكاة فيه؛ لأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء. (وقال في الجديد) : تجب الزكاة فيه؛ لأن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة؛ فلا يمنع أحدهما الآخر، كالدين وأرش الجناية. وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاث طرق: أحدها: إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة؛ لأنه قد حصل له ¬

_ (¬1) [الأم] (2 \ 42) وما بعدها. (¬2) [الأم] (2 \ 22) .

نماؤه، وإن كان غيرها فقيل: قولان كالمغصوب. والثاني: تجب الزكاة فيه قولا واحدا؛ لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على السفيه والمجنون. والثالث: وهو الصحيح: أنه على قولين كالمغصوب؛ لأنه حيل بينه وبينه فهو كالمغصوب. وأما قول الأول: أنه حصل له النماء من الماشية فلا يصح؛ لأنه وإن حصل النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ويحول دونه. وقول الثاني: لا يصح؛ لأن حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف؛ لأن وليهما ينوب عنهما في التصرف، وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا. د- وقال النووي: الدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ فيه ثلاثة أقوال: أصحها: عند الأصحاب، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في معظم كتبه الجديدة: تجب. والثاني: لا تجب، وهو نصه في القديم، وفي اختلاف العراقيين من كتبه الجديدة، وذكر المصنف دليل القولين. الثالث: حكاه الخراسانيون: أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة، وهي: الذهب والفضة وعروض التجارة، ولا يمنعها في الظاهرة، وهي: الزروع والثمار والمواشي والمعادن، والفرق: أن الظاهرة نامية بنفسها. وبهذا القول قال مالك. قال أصحابنا: وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا، وسواء كان من جنس المال أو من غيره، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وقال جماعة من الخراسانيين: القو أبحاث هيئة كبار العلماء body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px} أبحاث هيئة كبار العلماء تصفح برقم المجلد > المجلد السادس - إصدار: سنة 1423 هـ > جباية الزكاة > الديون التي على الإنسان هل تمنع وجوب الزكاة > النقل عن الشافعية

3 - النقل عن الشافعية: أ- جاء في [الأم] تحت ترجمة (باب الدين مع الصدقة) : أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد: أن عثمان بن عفان كان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون منها الزكاة. (قال الشافعي) : رحمه الله تعالى: وحديث عثمان يشبه والله تعالى أعلم أن يكون إنما أمر بقضاء الدين قبل حلول الصدقة في المال في قوله: هذا شهر زكاتكم، يجوز أن يقول: هذا الشهر الذي إذا مضى حلت زكاتكم، كما يقال: شهر ذي الحجة وإنما الحجة بعد مضي أيام منه. (قال الشافعي) : فإذا كانت لرجل مائتا درهم وعليه دين مائتا درهم فقضى من المائتين شيئا قبل حلول المائتين، أو استعدى عليه السلطان قبل محل حول المائتين فقضاها فلا زكاة عليه؛ لأن الحول حال وليست مائتين. (قال) : وإن لم يقض عليه بالمائتين إلا بعد حولها فعليه أن يخرج منها خمسة دراهم، ثم يقضي عليه السلطان بما بقي منها. (قال الشافعي) : وهكذا لو استعدى عليه السلطان قبل الحول فوقف ماله ولم يقض عليه بالدين حتى يحول عليه الحول - كان عليه أن يخرج زكاتها ثم يدفع إلى غرمائه ما بقي. (قال الشافعي) : ولو قضى عليه السلطان بالدين قبل الحول ثم حال الحول قبل أن يقبضه الغرماء - لم يكن عليه فيه زكاة؛ لأن المال صار للغرماء دونه قبل الحول. وفيه قول ثان: أن عليه فيه الزكاة من قبل أنه لو

تلف كان منه، ومن قبل أنه لو طرأ له مال غير هذا كان له أن يحبس هذا المال وأن يقضي الغرماء من غيره. (قال الشافعي) : وإذا أوجب الله عز وجل عليه الزكاة في ماله فقد أخرج الزكاة من ماله إلى من جعلها له فلا يجوز عندي - والله أعلم - إلا أن يكون كمال كان في يده فاستحق بعضه فيعطي الذي استحقه ويقضي دينه من شيء إن بقي له. (قال الشافعي) : وهكذا هذا في الذهب والورق والزرع والثمرة والماشية كلها لا يجوز أن يخالف بينها بحال؛ لأن كلا مما قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في كله إذا بلغ ما وصف صلى الله عليه وسلم الصدقة. (قال الشافعي) : وهكذا هذا في صدقة الإبل التي صدقتها منها، والتي فيها الغنم وغيرها، كالمرتهن بالشيء، فيكون لصاحب الرهن ما فيه، ولغرماء صاحب المال ما فضل عنه، وفي أكثر من حال المرتهن وما وجب في مال فيه الصدقة من إجارة أجير وغيرها أعطي قبل الحول. (قال الشافعي) : ولو استأجر الرجل على أن يرعى غنمه بشاة منها بعينها فهي ملك للمستأجر، فإن قبضها قبل الحول فهي له، ولا زكاة على الرجل في ماشيته، إلا أن يكون ما تجب فيه الصدقة بعد شاة الأجير، وإن لم يقبض الأجير الشاة حتى حال الحول ففي غنمه الصدقة على الشاة حصتها من الصدقة؛ لأنه خليط بالشاة. (قال الشافعي) : وهكذا هذا في الرجل يستأجر بتمر نخلة بعينها أو نخلات لا يختلف إذا لم يقبض الإجارة. (قال الشافعي) : فإن استؤجر بشيء من الزرع قائم بعينه لم تجز

الإجارة به؛ لأنه مجهول، كما لا يجوز بيعه، إلا أن يكون مضى خبر لازم بجواز بيعه؛ فتجوز الإجارة عليه، ويكون كالشاة بعينها وتمر النخلة والنخلات بأعيانهن. (قال الشافعي) : وإن كان استأجره بشاة بصفة، أو تمر بصفة، أو باع غنما، فعليه الصدقة في غنمه وتمره وزرعه، ويؤخذ بأن يؤدي إلى الأجير والمشتري منه الصفة التي وجبت له من ماله الذي أخذت منه الزكاة أو غيره. (قال الشافعي) : وسواء كانت له عروض كثيرة تحمل دينه أو لم يكن له شيء غير المال الذي وجبت فيه الزكاة. (قال الشافعي) : ولو كانت لرجل مائتا درهم فقام عليه غرماؤه فقال: قد حال عليها الحول، وقال الغرماء: لم يحل عليها الحول، فالقول قوله، ويخرج منها الزكاة ويدفع ما بقي منها إلى غرمائه إذا كان لهم عليه مثل ما بقي منها أو أكثر. (قال الشافعي) : ولو كان له أكثر من مائتي درهم فقال: قد حالت عليها أحوال ولم أخرج منها الزكاة، وكذبه غرماؤه، كان القول قوله ويخرج منها زكاة الأحوال، ثم يأخذ غرماؤه ما بقي منها بعد الزكاة أبدا أولى بها من مال الغرماء؛ لأنها أولى بها من ملك مالكها. (قال الشافعي) : ولو رهن رجل رجلا ألف درهم بألف درهم أو ألفي درهم بمائة دينار فسواء، وإذا حال الحول على الدراهم المرهونة قبل أن يحل دين المرتهن أو بعده فسواء، ويخرج منها الزكاة قبل دين المرتهن.

(قال الشافعي) : وهكذا كل مال رهن وجبت فيه الزكاة (¬1) . ب- وجاء في [الأم] أيضا تحت هذه الترجمة (باب الدين في الماشية) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت لرجل ماشية فاستأجر عليها أجيرا في مصلحتها بسن موصوفة أو ببعير منها لم يسمه فحال عليها حول ولم يدفع منها في إجارتها شيء ففيها الصدقة، وكذلك إن كان عليه دين أخذت الصدقة وقضي دينه منها ومما بقي من ماله. ولو استأجر رجل رجلا ببعير منها أو أبعرة منها بأعيانها فالأبعرة للمستأجر، فإن أخرجها منه فكانت فيها زكاة زكاها، وإن لم يخرجها منه فهي إبله، وهو خليط بها يصدق مع رب المال الذي فيها وفي الحرث والورق والذهب سواء، وكذلك الصدقة فيها كلها سواء (¬2) . ج- قال الشيرازي: فإن كان ماشية أو غيرها من أموال الزكاة وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال عن النصاب ففيه قولان، (قال في القديم) : لا تجب الزكاة فيه؛ لأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء. (وقال في الجديد) : تجب الزكاة فيه؛ لأن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة؛ فلا يمنع أحدهما الآخر، كالدين وأرش الجناية. وإن حجر عليه في المال ففيه ثلاث طرق: أحدها: إن كان المال ماشية وجبت فيه الزكاة؛ لأنه قد حصل له ¬

_ (¬1) [الأم] (2 \ 42) وما بعدها. (¬2) [الأم] (2 \ 22) .

نماؤه، وإن كان غيرها فقيل: قولان كالمغصوب. والثاني: تجب الزكاة فيه قولا واحدا؛ لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على السفيه والمجنون. والثالث: وهو الصحيح: أنه على قولين كالمغصوب؛ لأنه حيل بينه وبينه فهو كالمغصوب. وأما قول الأول: أنه حصل له النماء من الماشية فلا يصح؛ لأنه وإن حصل النماء إلا أنه ممنوع من التصرف فيه ويحول دونه. وقول الثاني: لا يصح؛ لأن حجر السفيه والمجنون لا يمنع التصرف؛ لأن وليهما ينوب عنهما في التصرف، وحجر المفلس يمنع التصرف فافترقا. د- وقال النووي: الدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ فيه ثلاثة أقوال: أصحها: عند الأصحاب، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في معظم كتبه الجديدة: تجب. والثاني: لا تجب، وهو نصه في القديم، وفي اختلاف العراقيين من كتبه الجديدة، وذكر المصنف دليل القولين. الثالث: حكاه الخراسانيون: أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة، وهي: الذهب والفضة وعروض التجارة، ولا يمنعها في الظاهرة، وهي: الزروع والثمار والمواشي والمعادن، والفرق: أن الظاهرة نامية بنفسها. وبهذا القول قال مالك. قال أصحابنا: وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا، وسواء كان من جنس المال أو من غيره، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وقال جماعة من الخراسانيين: القولان إذا كان ماله من جنس الدين، فإن خالفه وجبت قطعا، وليس بشيء.

فالحاصل: أن المذهب وجوب الزكاة، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا، من جنس الدين أم غيره. قال أصحابنا: سواء دين الآدمي ودين الله عز وجل، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر وغيرها. وأما مسألة الحجر الذي ذكرها المصنف قال أصحابنا: إذا قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، فأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي - فله ثلاثة أحوال: أحدها: يحجر ويفرق ماله بين الفرق الغرماء فيزول ملكه، ولا زكاة. الثاني: أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه، ويمكنهم من أخذه، فحال الحول قبل أخذه، فالمذهب: أنه لا زكاة أيضا، وبه قطع الجمهور؛ لضعف ملكه. وحكى الشيخ أبو محمد الجويني وآخرون من الخراسانيين وجها: أن وجوب الزكاة فيه يخرج على الخلاف في المغصوب؛ لأنه حيل بينه وبينه. وقال القفال: يخرج على الخلاف في اللقطة في السنة الثانية؛ لأنهم تسلطوا على إزالة ملكه تسلط الملتقط في السنة الثانية بخلاف المغصوب. والصحيح: ما سبق عن الجمهور. والفرق: أن تسلط الغرماء أقوى من تسلط الملتقط؛ لأنهم أصحاب حق على المالك ولأنهم مسلطون بحكم حاكم، فكان تسليطهم مسنده ثبوت المال في ذمة المالك، وهو أقوى، بدليل: أنهم إذا قبضوه لم يرجع فيه المفلس بوجه ما، بخلاف الملتقط، فإن للمالك إذا رجع أن

يرجع في عين اللقطة على أحد الوجهين. (الحال الثاني) : (¬1) أن لا يفرق ماله ولا يعين لأحد شيئا، ويحول الحول في دوام الحجر. وهذه هي الصورة التي أرادها المصنف. وفي وجوب الزكاة هنا ثلاثة طرق ذكرها المصنف بدلائلها: أصحها: أنه على الخلاف في المغصوب. والثاني: القطع بالوجوب. والثالث: القطع بالوجوب في الماشية، وفي الباقي الخلاف كالمغصوب. والله أعلم. إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه في [المختصر] : ولو قضى عليه بالدين وجعل لهم ماله حيثما وجدوه قبل الحول ثم جاء الحول قبل أن يقبضه الغرماء - لم يكن عليه زكاة؛ لأنه صار لهم دونه قبل الحول. فمن الأصحاب من حمله على الحالة الأولى، ومنهم من حمله على الثانية. وقال الشافعي في الحالة الثانية: وللغرماء أن يأخذوا الأعيان التي عينها لهم الحاكم حيث وجدوها. فاعترض الكرخي عليه، وقال: أباح الشافعي لهم نهب ماله. فأجاب أصحابنا عنه فقالوا: هذا الذي توهمه الكرخي خطأ منه؛ لأن الحاكم إذا عين لكل واحد عينا جاز له أخذها حيث وجدها؛ لأنه يأخذها بحق. والله أعلم. (فرع) : قال صاحب [الحاوي] وآخرون من الأصحاب: إذا أقر قبل ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ولعل الصواب: (الحال الثالث) .

الحجر بوجوب الزكاة عليه فإن صدقه الغرماء ثبتت، وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين. وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان؟ فيه الأقوال الثلاثة المشهورة في اجتماع حق الله تعالى، ودين الآدمي. وإن أقر بالزكاة بعد الحجر ففيه القولان المشهوران في المحجور عليه إذا أقر بدين بعد الحجر، هل يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء أم يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته؟ (فرع) إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة فقد ذكرنا أنه يستوي دين الله تعالى ودين الآدمي، قال أصحابنا: فلو ملك نصابا من الدراهم أو الماشية أو غيرهما فنذر التصدق بهذا المال أو بكذا من هذا المال فمضى الحول قبل التصدق - فطريقان: أصحهما: القطع بمنع الزكاة لتعلق النذر بعين المال. والثاني: أنه على الخلاف في الدين. ولو قال: جعلت هذا المال صدقة أو هذه الأغنام ضحايا أو لله علي أن أضحي بهذه الشاة، وقلنا: يتعين التضحية بهذه الصيغة، فالمذهب: أنه لا زكاة قطعا، وطرد إمام الحرمين وبعضهم فيه الخلاف. قال الإمام: والظاهر: أنه لا زكاة؛ لأن ما جعل صدقة لا تبقى فيه حقيقة ملك، بخلاف الصورة السابقة، فإنه لم يتصدق، وإنما التزم التصدق، ولو نذر التصدق بأربعين شاة أو بمائتي درهم ولم يضف إلى دراهمه وشياهه - فهذا دين نذر. فإن قلنا: دين الآدمي لا يمنع، فهذا أولى، وإلا فوجهان: أصحهما عند إمام الحرمين: لا يمنع؛ لأن هذا

الدين لا مطالبة به في الحال، فهو أضعف، ولأن النذر يشبه التبرعات، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره، فالوجوب به أضعف. ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه. قال إمام الحرمين والغزالي: فيه الخلاف المذكور في مسألة النذر قبله. والله أعلم. (فرع) : إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، ففي علته وجهان: أصحهما وأشهرهما: - وبه قطع كثيرون أو الأكثرون - ضعف الملك لتسلط المستحق. والثاني: أن مستحق الدين تلزمه الزكاة. فلو أوجبنا على المديون أيضا لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد (¬1) . ¬

_ (¬1) [المهذب] و [المجموع] (5 \ 317) وما بعدها.

النقل عن الحنابلة

4 - النقل عن الحنابلة: أ- قال الخرقي: وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه. ب- وقال ابن قدامة في شرح ذلك: وجملة ذلك: أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، وهي الأثمان وعروض التجارة، وبه قال عطاء، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والحسن، والنخعي، والليث، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال ربيعة، وحماد بن أبي سليمان، والشافعي في جديد قوليه: لا يمنع الزكاة؛ لأنه حر مسلم ملك نصابا حولا، فوجبت عليه الزكاة كمن لا دين عليه.

ولنا: ما روى أبو عبيد في [الأموال] : حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: (هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم) . وفي رواية: (فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله) . قال ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكروه؟ فدل على اتفاقهم عليه. وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه» وهذا نص؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم» . فدل على أنها إنما تجب على الأغنياء، ولا تدفع إلا إلى الفقراء، وهذا ممن يحل له أخذ الزكاة فيكون فقيرا فلا تجب عليه الزكاة؛ لأنها لا تجب إلا على الأغنياء؟ للخبر، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى (¬1) » ، ويخالف من لا دين له عليه فإنه غني يملك نصابا، يحقق هذا: أن الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء، وشكرا لنعمة الغنى، والمدين يحتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير أو أشد، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لحاجة غيره ولا حصل له من الغنى ما يقتضي الشكر بالإخراج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول (¬2) » . (فصل) : فأما الأموال الظاهرة، وهي: السائمة والحبوب والثمار فروي عن أحمد: أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها؟ لما ذكرناه في الأموال الباطنة. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: يبتدئ بالدين فيقضيه، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة، فيزكي ما بقي، ولا يكون على أحد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري النفقات (5355) ، سنن النسائي الزكاة (2534) ، سنن أبو داود الزكاة (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/230) ، سنن الدارمي الزكاة (1651) . (¬2) صحيح مسلم الزكاة (997) ، سنن النسائي البيوع (4652) ، سنن أبو داود العتق (3957) ، مسند أحمد بن حنبل (3/305) .

دينه أكثر من ماله صدقة في إبل أو بقر أو غنم أو زرع ولا زكاة. وهذا قول عطاء، والحسن، وسليمان، وميمون بن مهران، والنخعي، والثوري، والليث، وإسحاق؛ لعموم ما ذكرنا. وروي أنه لا يمنع الزكاة فيها. وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي. وروي عن أحمد أنه قال: قد اختلف ابن عمر وابن عباس. فقال ابن عمر: يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ويزكي ما بقي. وقال الآخر: يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي. وإليه أذهب أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي؛ لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلا أو بقرا أو غنما لم يسأل أي شيء على صاحبها من الدين، وليس المال هكذا. فعلى هذه الرواية لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليه خاصة. وهذا ظاهر قول الخرقي؛ لأنه قال في الخراج: يخرجه ثم يزكي ما بقي. جعله كالدين على الزرع. وقال في الماشية المرهونة: يؤدي منها إذا لم يكن له مال يؤدي عنها، فأوجب الزكاة فيها مع الدين. وقال أبو حنيفة: الدين الذي تتوجه فيه المطالبة يمنع في سائر الأموال إلا الزرع والثمار. بناء منه على أن الواجب فيها ليس صدقة. والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة أن تعلق الزكاة الظاهرة آكد؛ لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها.

ولهذا يشرع إرسال من يأخذ صدقتها من أربابها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السعاة فيأخذون الصدقة من أربابها، وكذلك الخلفاء بعده. وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يأت عنه أنهم استكرهوا أحدا على صدقة الصامت، ولا طالبوه بها إلا أن يأتي بها طوعا، ولأن السعاة يأخذون زكاة ما يجدون ولا يسألون عما على صاحبها من الدين؛ فدل على أنه لا يمنع زكاتها. ولأن تعلق أطماع الفقراء بها أكثر والحاجة إلى حفظها أوفر فتكون الزكاة فيها أوكد. (فصل) : وإنما يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب، أو ما لا يستغني عنه، مثل أن يكون له عشرون مثقالا وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به النصاب إذا قضاه به، ولا يجد له قضاء من غير النصاب، فإن كان له ثلاثون مثقالا وعليه عشرة فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه، وإن كان عليه خمسة فعليه زكاة خمسة وعشرين، ولو كان له مائة من الغنم وعليه ما يقابل ستين فعليه زكاة الأربعين، فإن كان عليه ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه؛ لأنه ينقص النصاب، وإن كان له مالان من جنسين وعليه دين جعله في مقابلة ما يقضي منه، فلو كان له خمس من الإبل ومائتا درهم، فإن كانت عليه سلما أو دية ونحو ذلك مما يقضى بالإبل جعلت الدين في مقابلتها، ووجبت عليه زكاة الدراهم، وإن كان أتلفها أو غصبها جعلت قيمتها في مقابلة الدراهم؛ لأنها تقضى منها، وإن كانت قرضا خرج على الوجهين فيما يقضى منه.

فإن كانت إذا جعلناها في مقابلة أحد المالين فضلت منها فضلة تنقص النصاب الآخر، وإذا جعلناها في مقابلة الآخر لم يفضل منها شيء كرجل له خمس من الإبل ومائتا درهم وعليه ست من الإبل قيمتها مائتا درهم فإذا جعلناها في مقابلة المائتين لم يفضل من الدين شيء ينقص نصاب السائمة، وإذا جعلناها في مقابلة الإبل فضل منها بعير نقص نصاب الدراهم، أو كانت بالعكس. مثل: أن يكون عليه مائتان وخمسون درهما وله من الإبل خمس أو أكثر تساوي الدين، أو تفضل عليه جعلنا الدين في مقابلة الإبل هاهنا، وفي مقابلة الدراهم في الصورة الأولى؛ لأن له من المال ما يقضي به الدين سوى النصاب، وكذلك لو كان عليه مائة درهم وله مائتا درهم وتسع من الإبل، فإذا جعلناها في مقابلة الإبل لم ينقص نصابها؛ لكون الأربع الزائدة عنه تساوي المائة وأكثر منها، وإن جعلناه في مقابلة الدراهم سقطت الزكاة منها فجعلناها في مقابلة الإبل كما ذكرنا في التي قبلها، ولأن ذلك أحظ للفقراء. وذكر القاضي نحو هذا فإنه قال: إذا كان النصابان زكويين جعلت الدين في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته، وإن كان من غير جنس الدين. فإن كان أحد المالين لا زكاة فيه والآخر فيه الزكاة كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين، فقال القاضي: يجعل الدين في مقابلة العروض. وهذا مذهب مالك وأبي عبيد. قال أصحاب الشافعي: وهو مقتضى قوله؛ لأنه مالك لمائتين زائدة

عن مبلغ دينه؟ فوجبت عليه زكاتها، كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا. وظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه، فإنه قال في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف: إن كانت العروض للتجارة زكاها، وإن كانت لغير التجارة فليس عليه شيء. وهذا مذهب أبي حنيفة، ويحكى عن الليث بن سعد؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح، فجعل الدين في مقابلته أولى، كما لو كان النصابان زكويين. ويحتمل أن يحمل كلام أحمد هاهنا على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية، ولم يكن فاضلا عن حاجته فلا يلزمه صرفه في وفاء الدين؛ لأن الحاجة أهم، ولذلك لم تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال، ويكون قول القاضي محمولا على من كان العرض فاضلا عن حاجته وهذا أحسن؛ لأنه في هذه الحال مالك لنصاب فاضل عن حاجته، وقضاء دينه، فلزمته زكاته كما لو لم يكن عليه دين. فأما إن كان عنده نصابان زكويان وعليه دين من غير جنسهما ولا يقضى من أحدهما - فإنك تجعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته. (فصل) : فأما دين الله كالكفارة والنذر ففيه وجهان: أحدهما: يمنع الزكاة كدين الآدمي؛ لأنه دين يجب قضاؤه، فهو كدين الآدمي، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق أن يقضى (¬1) » . والآخر: لا يمنع؛ لأن الزكاة أكد منه لتعلقها بالعين، فهو كأرش ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1953) ، صحيح مسلم الصيام (1148) ، سنن الترمذي الصوم (716) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3816) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310) ، سنن ابن ماجه الصيام (1758) ، مسند أحمد بن حنبل (1/362) ، سنن الدارمي الصوم (1768) .

الجناية، ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به. فإن نذر الصدقة بمعين فقال: لله علي أن أتصدق بهذه المائتي درهم إذا حال الحول. فقال ابن عقيل: يخرجها في النذر ولا زكاة عليه؛ لأن النذر آكد لتعلقه بالعين، والزكاة مختلف فيها، ويحتمل أن تلزمه زكاتها، وتجزئه الصدقة بها، إلا أن ينوي الزكاة بقدرها، ويكون ذلك صدقة تجزئه عن الزكاة؛ لكون الزكاة صدقة، وسائرها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة، وإن نذر الصدقة ببعضها وكان ذلك البعض قدر الزكاة أو أكثر فعلى هذا الاحتمال يخرج النذور وينوي الزكاة بقدرها منه. وعلى قول ابن عقيل يحتمل أن تجب الزكاة عليه؛ لأن النذر إنما تعلق بالبعض بعد وجود سبب الزكاة وتمام شرطه فلا يمنع الوجوب، لكون المحل متسعا لهما جميعا. وإن كان المنذور أقل من قدر الزكاة وجب قدر الزكاة ودخل النذر فيه في أحد الوجهين، وفي الآخر يجب إخراجهما جميعا. (فصل) : إذا قلنا: لا يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة، فحجر الحاكم عليه بعد وجوب الزكاة لم يملك إخراجها؛ لأنه قد انقطع تصرفه في ماله وإن أقر بها بعد الحجر لم يقبل إقراره، وكانت عليه في ذمته كدين الآدمي، ويحتمل أن تسقط إذا حجر عليه قبل إمكان أدائها كما لو تلف ماله. فإن أقر الغرماء بوجوب الزكاة عليه أو ثبت ببينة، أو كان قد أقر بها قبل الحجر عليه - وجب إخراجها من المال، فإن لم

يخرجوها فعليهم إثمها. (فصل) : وإذا جنى العبد المعد للتجارة جناية تعلق أرشها برقبته منع وجوب الزكاة فيه إن كان ينقص النصاب؛ لأنه دين، وإن لم ينقص النصاب منع الزكاة في قدر ما يقابل الأرش (¬1) . ج- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن كان على مالك الزرع والثمار دين فهل تسقط الزكاة؛ فيه ثلاثة أقوال: قيل: لا تسقط بحال. وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، ورواية عن أحمد. وقيل: يسقطها. وهو قول عطاء، والحسن، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والنخعي، والليث، والثوري، وإسحاق. وكذلك في الماشية: الإبل، والبقر، والغنم. وقيل: يسقطها الدين الذي أنفقه على زرعه، ولا يسقطها ما استدانه لنفقة أهله. وقيل: يسقطها هذا وهذا. الأول قول ابن عباس. اختاره أحمد بن حنبل وغيره. والثاني قول ابن عمر (¬2) . وقال شيخ الإسلام أيضا: والدين يسقط زكاة العين: عند مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وأحد قولي الشافعي، وهو قول عطاء، والحسن، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والنخعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وإسحاق، وأبي ثور. ¬

_ (¬1) [المغني] ، ومعه الشرح الكبير (2 \ 635) وما بعدها. (¬2) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (25 \ 27) .

واحتجوا بما رواه مالك في [الموطأ] ، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان رضي الله عنه يقول: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخلص أموالكم تؤدون منها الزكاة. وعند مالك إن كان عنده عروض توفي الدين ترك العين وجعلها في مقابلة الدين، وهي التي يبيعها الحاكم في الدين ما يفضل عن ضرورته. وإن كان له دين على مليء ثقة جعله في مقابلة دينه أيضا، وزكى العين. فإن لم يكن إلا ما بيده سقطت الزكاة (¬1) . د- قال ابن مفلح: تجب الزكاة في عين المال، نقله واختاره الجماعة، قال الجمهور: هذا ظاهر المذهب، حكاه أبو المعالي وغيره (وهـ م ق) . (¬2) ، وعنه: تجب في الذمة، اختاره الخرقي وأبو الخطاب وصاحب [التلخيص] ، قال ابن عقيل: هو الأشبه بمذهبنا (وهـ ق) . فعلى الأول: لو لم يزك نصابا حولين فأكثر لزمه زكاة واحدة (وهـ ق) (¬3) ولو تعدى بالتأخير، وعلى الثانية يزكي لكل حول. أطلقه أحمد وبعض الأصحاب. قال ابن عقيل وغيره: لو قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة لم تسقط هنا؛ لأن الشيء لا يسقط نفسه، وقد يسقط غيره. واختار جماعة منهم صاحب [المحرر] : إن سقطت الزكاة بدين الله تعالى، وليس له سوى النصاب فلا زكاة للحول الثاني، لأجل الدين، لا للتعلق بالعين. ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] ص (19) . (¬2) في الطبعة الأولى (وهـ م ق ش) . (¬3) في الطبعة الأولى (وهـ ش) .

زاد صاحب [المستوعب] : متى قلنا: يمنع الدين فلا زكاة للعام الثاني، تعلقت بالعين أو بالذمة، وإن أحمد حيث لم يوجب زكاة العام الثاني فإنه بنى على رواية منع الدين؛ لأن زكاة العام الأول صارت دينا على رب المال، والعكس بالعكس، جعل فوائد الروايتين إخراج الراهن الموسر من الرهن بلا إذن إن علقت بالعين، واختاره في سقوطها بالتلف وتقديمها على الدين، وقال غيره خلافه، وإنه إن كان فوق نصاب، فإن وجبت في العين نقص من زكاته لكل حول بقدر نقصه بها، فإذا نقص بذلك عن نصاب فلا زكاة لما بعد ذلك، وإن وجبت في الذمة زكاه جميعه لكل حول، ما لم تفن الزكاة المال. وقال ابن تميم: إن قلنا: تجب في العين فهل تكرر الزكاة بتكرر الأحوال؟ فيه وجهان، والشاة في الإبل تتكرر بتكرر الأحوال إن قلنا: دين الزكاة لا يمنع، كذا قال، وكذا عند زفر تتعلق بالعين وتتكرر، كما لو كانت دينا فأتلف نصابا وجبت فيه، ثم حال عنده حول على نصاب آخر فالمنع ورد على رواية (¬1) ثم التعلق بالعين أقوى؛ ولهذا يمنع النذر المتعلق بالعين، ولا يمنع إذا كان في الذمة على رواية، فعلى المذهب: في مائتين وواحدة من الغنم خمس، ثلاث للأول، واثنتان للثاني (وق) (¬2) ، وعلى الثاني ست لحولين، ولو لم يزك خمسين من الغنم اثني عشر حولا زكى إحدى عشرة شاة وفي الثانية عشرة الخلاف، أما لو كان الواجب من غير الجنس ¬

_ (¬1) في مخطوط الدار: كما لو كان دينا بأن أتلف نصابا. . . آخر ورد بالمنع على رواية. (¬2) في الطبعة الأولى: وهو قول (ش) .

كالإبل المزكاة (¬1) بالغنم، فنص أحمد أن الواجب فيه في الذمة، وأن الزكاة تتكرر، فرق بينه وبين الواجب من الجنس (وم ش) ؛ لأن الواجب هنا (¬2) ليس بجزء من النصاب، وظاهر كلام أبي الخطاب واختاره صاحب [المستوعب] و [المحرر] أنه كالواجب من الجنس (وهـ ش) على ما سبق من العين والذمة؛ لأن تعلق الزكاة كتعلق الأرش بالجاني والدين بالرهن، فلا فرق إذا، فعلى النص: لو لم يكن له سوى خمس من الإبل ففي امتناع زكاة الحول الثاني لكونها دينا الخلاف. قال القاضي في الخلاف: هذه المسألة لا تلزمه؛ لأن أحمد علل في المال (بما) إذا أدى منه نقص، فاقتضى ذلك إذا أدى من الغنم ما يحصل عليه به دين لم يلزمه؛ لأن الدين يمنع وجوب الزكاة، وحمل كلام أحمد على أنه عنده من الغنم ما يقابل الحولين، فعلى النص في خمس وعشرين بعيرا في ثلاثة أحوال: حول (¬3) بنت مخاض، ثم ثمان شياه لكل حول، وعلى كلام أبي الخطاب أنها تجب في العين مطلقا كذلك لأول حول ثم الثاني، ثم إن نقص النصاب بذلك من عشرين بعيرا إذا قومناها فللثالث ثلاث شياه، وإلا أربع، وهل يمنع التعلق بالعين انعقاد الحول الثاني قبل الإخراج؟ يأتي في الفصل الثالث من الخلطة (¬4) . هـ- جاء في [المقنع] وشرحه [الإنصاف] : قوله: (ولا زكاة في مال ¬

_ (¬1) في الطبعة الأولى: الزكاة. (¬2) في الطبعة الأولى: لأن الواجب هذا (¬3) في مخطوط الدار: لأول حول بنت مخاض '' لكن ناقل التصحيح لم يذكرها بالهامش ''. (¬4) [الفروع] ، (2 \ 343) وما بعدها.

من عليه دين ينقص النصاب) . هذا المذهب، إلا ما استثني. وعليه أكثر الأصحاب. وعنه: لا يمنع الدين الزكاة مطلقا، وعنه: يمنع الدين الحال خاصة. جزم به في [الإرشاد] ، وغيره. قوله: (إلا في الحبوب والمواشي) . في إحدى الروايتين. وقدمه في [الفائق] . والرواية الثانية: يمنع أيضا. وهي المذهب، نص عليه. وعليه جماهير الأصحاب. قال الزركشي: هذا اختيار أكثر الأصحاب. قال ابن أبي موسى: هذا الصحيح من مذهب أحمد. قلت: اختاره أبو بكر، والقاضي، وأصحابه، والحلواني، وابن الجوزي، وصاحب [الفائق] ، وغيرهم، وجزم به في [العمدة] ، وقدمه في [المستوعب] ، و [الفروع] ، وصححه في [تصحيح المحرر] ، وأطلقهما في [الشرح] ، و [المحرر] و [الرعايتين] ، و [الحاويين] . وعنه: يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك، أو كان ثمنه. ولا يمنع ما استدانه لمؤنة نفسه، أو أهله. قال الزركشي: فعلى رواية عدم المنع: ما لزمه من مؤنة الزرع من أجرة حصاد وكراء أرض ونحوه يمنع. نص عليه. وذكره ابن أبي موسى وقال: رواية واحدة. وتبعه صاحب [التلخيص] . وحكى أبو البركات رواية: أن الدين لا يمنع في الظاهر مطلقا. قال الشيخ تقي الدين: لم أجد بها نصا عن أحمد. انتهى. وعنه: يمنع، خلا الماشية. وهو ظاهر كلام الخرقي.

فوائد: الأولى: في الأموال: ظاهرة، وباطنة: فالظاهرة: ما ذكره المصنف من الحبوب والمواشي، وكذا الثمار. والباطنة: كالأثمان، وقيمة عروض التجارة، على الصحيح من المذهب. وعليه الأكثر. وقال أبو الفرج الشيرازي: الأموال الباطنة: هي الذهب والفضة فقط. انتهى. وهل المعدن من الأموال الظاهرة، أو الباطنة؛ فيه وجهان: وأطلقها في [الفروع] و [ابن تميم] و [الرعايتين] ، و [الحاويين] : أحدهما: هو من الأموال الظاهرة. وهو ظاهر كلام الشيرازي على ما تقدم. الثاني: هو من الأموال الباطنة. قلت: وهو الصواب؛ لأنه أشبه بالأثمان، وقيمة عروض التجارة. قال في [المغني] : الأموال الظاهرة: السائمة، والحبوب، والثمار. قال في الفائق،: ولمنع في المعدن (¬1) وقيل: لا. الثانية: لا يمنع الدين خمس الركاز، بلا نزاع. الثالثة: لو تعلق بعد تجارة أرش جناية، منع الزكاة في قيمته؛ لأنه وجب جبرا لا مواساة، بخلاف الزكاة. وجعله بعضهم كالدين. منهم صاحب [الفروع] ، في حواشيه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. ولعله (ويمنع) .

الرابعة: لو كان له عرض قنية يباع لو أفلس يفي بما عليه من الدين، جعل في مقابلة ما عليه من الدين وزكى ما معه من المال، على إحدى الروايتين. قال القاضي: هذا قياس المذهب. ونصره أبو المعالي اعتبارا بما فيه الحظ للمساكين. وعنه: يفعل في مقابلة ما معه ولا يزكيه. صححه ابن عقيل. وقدمه ابن تميم وصاحب [الحواشي] ، و [الرعايتين] ، و [الحاويين] ، وأطلقهما في [الفروع] ، و [شرح المجد] ، و [الفائق] . وينبني على هذا الخلاف ما إذا كان بيده ألف، وله ألف دينار على مليء، وعليه مثلها، فإنه يزكي ما معه على الأولى لا الثانية. قاله في [الفروع] . وقدم في [الفائق] ، و [الرعايتين] ، و [الحاويين] هنا، جعل الدين مقابلا لما في يده، وقالوا: نص عليه، ثم قالوا: أو قيل: مقابلا للدين. الخامسة: لو كان له عرض تجارة بقدر الدين الذي عليه، ومعه عين بقدر الدين الذي عليه، فالصحيح من المذهب: أنه يحمل الدين في مقابلة العرض، ويزكي ما معه من العين. نص عليه في رواية المروذي وأبي الحارث، وقدمه في [الفروع] ، و [الحواشي] ، و [ابن تميم] . وقيل: إن كان فيما معه من المال الزكوي جنس الذي جعل في مقابلته، وحكاه ابن الزاغوني رواية، وتابعه في [الرعايتين] ، و [الحاويين] ، وغيرهم. وإلا اعتبر الأحظ. وأطلقهما في [الرعايتين] ، و [الحاويين] . وقيل: يعتبر الأحظ للفقراء مطلقا. فمن له مائتا درهم وعشر (دنانير) قيمتها مائتا درهم، جعل الدنانير قبالة دينه، وزكى ما معه. ومن له

أربعون شاة وعشرة أبعرة، ودينه قيمة أحدهما، جعل قبالة دينه الغنم وزكى شاتين. السادسة: دين المضمون عنه، يمنع الزكاة بقدره في ماله، دون الضامن. على الصحيح من المذهب، خلافا لأبي المعالي. السابعة: لا تجب الزكاة في المال الذي حجر عليه القاضي للغرماء، كالمال المغصوب؛ تشبيها للمنع الشرعي بالمنع الحسي. هذا الصحيح من المذهب. اختاره المصنف، والشارح، والقاضي، وقدمه في [الرعايتين] . وقال الأزجي في [النهاية] : هذا بعيد، بل إلحاقه بمال الديون أقرب. اختاره أبو المعالي. وظاهر الفروع: إطلاق الخلاف. وقيل: إن كان المال سائمة زكاها لحصول النماء والنتاج من غير تصرف، بخلاف غيرها. وقال أبو المعالي: إن قضى الحاكم ديونه من ماله، ولم يفضل شيء من ماله. فهو الذي ملك نصابا وعليه دين. قال: وإن سمى لكل غريم بعض أعيان ماله، فلا زكاة عليه مع بقاء ملكه؛ لضعفه بتسليط الحاكم لغريمه على أخذ حقه. انتهى. وإن حجر عليه بعد وجوبها، لم تسقط الزكاة. على الصحيح من المذهب. وقيل: تسقط إن كان قبل تمكنه من الإخراج. قال في [الحواشي] ، و [ابن تميم] : وهو بعيد. ولا يملك إخراجها من المال؛ لانقطاع تصرفه. قاله المصنف والشارح.

وقال ابن تميم: والأولى أن يملك ذلك كالراهن. وهما وجهان. وأطلقهما في [الفروع] . فإنه قال: لا يقبل إقراره بها. وجزم به بعضهم. ولا يقبل إقرار المحجور عليه بالزكاة. وتتعلق بذمته، كدين الآدمي. ذكره المصنف، والشارح، وأبو المعالي. وهو ظاهر ما قدمه في [الفروع] وعنه: يقبل كما لو صدقه الغريم. ويأتي زكاة المرهون في فوائد الخلاف الآتي آخر الباب. قوله: (والكفارة كالدين في أحد الوجهين) وحكاهما [أكثرهم] روايتين. وأطلقهما في [الهداية] ، و [المغني] ، و [الشرح] ، و [الحاويين] ، [والفائق] ، [والفروع] ، [والحواشي] ، [وابن تميم] ، [والمحرر] : إذا لم يمنع دين الآدمي الزكاة، فدين الله- من الكفارة والنذر المطلق، ودين الحج ونحوه- لا يمنع بطريق أولى. وإن منع الزكاة، فهل يمنع دين الله؛ فيه الخلاف. أحدهما: هو كالدين (الذي) للآدمي. وهو الصحيح من المذهب. صححه المجد، وابن حمدان في [رعايته] . وهو قول القاضي وأتباعه. وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة والخراج. وقال: نص عليه. وهو الذي احتج به القاضي في الكفارة. الوجه الثاني: لا يمنع وجوب الزكاة. فائدتان: إحداهما: النذر المطلق، ودين الحج ونحوه كالكفارة، كما تقدم. وقال في [المحرر] : والخراج من دين الله، وتابعه في [الرعايتين] ، [والحاويين] ، وغيرهم. قاله القاضي، وابن البنا، وغيرهما. ففيه الخلاف

في إلحاقه بديون الآدميين. وأما الإمام أحمد، فقدم الخراج على الزكاة. وقال الشيخ تقي الدين: الخراج ملحق بديون الآدميين. ويأتي، لو كان الدين زكاة، هل يمنع؟ عند فوائد الخلاف (في الزكاة هل تجب) في العين أو في الذمة؟ الثانية: لو قال: لله علي أن أتصدق بهذا، أو هو صدقة، فحال الحول، فلا زكاة فيه. على الصحيح من المذهب. وقال ابن حامد: فيه الزكاة. فقال في قوله: (إن شفى الله مريضي تصدقت من هاتين المائتين بمائة) فشفي، ثم حال الحول قبل أن يتصدق بها: وجبت الزكاة. وقال في [الرعاية] : إن نذر التضحية بنصاب معين. وقيل: أو قال: جعلته ضحايا، فلا زكاة. ويحتمل وجوبها إذا تم حولها قبلها. انتهى. ولو قال: (علي لله أن أتصدق بهذا النصاب إذا حال الحول) وجبت الزكاة على الصحيح من المذهب. اختاره المجد في شرحه. وقيل: هي كالتي قبلها. اختاره ابن عقيل، وأطلقهما [ابن تميم] ، و [الفروع] . فعلى الأول: تجزئه الزكاة (منه) على أصح الوجهين. ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا؛ لكون الزكاة صدقة. وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب، هل يخرجهما، أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما؟ وقال ابن تميم: وجبت الزكاة ووجب إخراجهما معا. وقيل: يدخل

النذر في الزكاة وينويهما معا. انتهى (¬1) . ¬

_ (¬1) [الإنصاف] (3\ 24) وما بعدها.

التعزير بالمال

خامسا: التعزير بالمال: اختلف العلماء في التعزير بالمال. وفيما يلي ذكر أقوالهم ومداركهم مع ما تيسر من مناقشات بعضهم لبعض: 1 - النقل عن المالكية: أ- قال الشاطبي: إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك، حسبما ذكره الغزالي. على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، فأجمع العلماء على منعه. فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام، ولا يلائم تصرفات الشرع. مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما. قال: فإن قيل: فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله، حتى أخذ رسوله إحدى نعله وشطر عمامته. قلنا: المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية، وإحاطته بتوسعته، فلعله ضمن المال، فرأى شطر ماله من فوائد الولاية، فيكون استرجاعا للحق، لا عقوبة في المال؛ لأن هذا من

الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع. هذا ما قال. ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا، ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال، كما قال الغزالي. وأما مذهب مالك: فإن العقوبة في المال عنده ضربان: (أحدهما) : كما صوره الغزالي، فلا مرية في أنه غير صحيح. على أن ابن العطار في [رقائقه] صغى إلى إجازة ذلك. فقال في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال أنها على الطالب، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه. ومال إليه ابن رشد. ورده عليه ابن النجار القرطبي وقال: إن ذلك من باب العقوبة في المال، وذلك لا يجوز على حال. (والثاني) : أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه، فالعقوبة فيه عنده ثابتة، فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه: إنه يتصدق به على المساكين قل أو كثر. وذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر، وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء. ووجه ذلك: التأديب للغاش. وهذا التأديب لا نص يشهد له، لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة، وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع. على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلا شرعيا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم. وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك. ومن مسائل مالك في المسألة: إذا اشترى مسلم من نصراني خمرا

فإنه يكسر على المسلم، ويتصدق بالثمن أدبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه، وهو كله من العقوبة في المال، إلا أن وجهه ما تقدم (¬1) . ب- قال ابن فرحون في أثناء الكلام على التعزير: ومنها: إباحته صلى الله عليه وسلم بسلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده. ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها. ومنها: أمره لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما بتحريق الثوبين المعصفرين. ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأهلية، ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم، فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بالكسر لم تكن واجبة. ومنها: هدمه صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار. ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بتحريق متاع الذي غل من الغنيمة. ومنها: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر. ومنها إضعاف الغرم على كاتم الضالة. ومنها: أخذه شطر مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى. ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم لابس خاتم الذهب بطرحه، فلم يعرض له أحد. ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اليهود إغاظة لهم. ومنها: تحريق عمر رضي الله عنه المكان الذي يباع فيه الخمر. ¬

_ (¬1) [الاعتصام] للشاطبي (2\ 123) .

ومنها: تحريق عمر رضي الله عنه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية وصار يحكم في داره. ومنها: مصادرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عماله بأخذ شطر أموالهم، فقسمها بينهم وبين المسلمين. ومنها: أنه رضي الله عنه ضرب الذي زور على نقش خاتمه وأخذ شيئا من بيت المال مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة. ومنها: أن عمر رضي الله عنه لما وجد مع السائل من الطعام فوق كفايته وهو يسأل أخذ ما معه وأطعمه إبل الصدقة. ومنها: أنه رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش. وغير ذلك مما يكثر تعداده. وهذه قضايا صحيحة معروفة (¬1) . ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] على هامش [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك] (2\ 261) .

النقل عن الشافعية

2 - النقل عن الشافعية: أ- قال الشيرازي: وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض، وعزره على المنع والغلول. وقال في القديم: يأخذ الزكاة وشطر ماله، ومضى توجيه القولين في أول الزكاة. قال النووي في شرح ذلك: إذا لزمته زكاة فمنعها أو غلها- أي: كتمها - وخان فيها أخذ الإمام أو الساعي الفرض منه، والقول الصحيح الجديد أنه لا يأخذ شطر ماله. وقال في القديم: يأخذه، وسبق شرح القولين بدليلهما وفروعها في أول كتاب الزكاة.

قال الشافعي في [المختصر] في آخر باب صدقة الغنم السائمة: ولو غل صدقته عزر إذا كان الإمام عادلا، إلا أن يدعي الجهالة، ولا يعزر إن لم يكن الإمام عادلا. هذا نصه. قال أصحابنا: إذا كتم ماله أو بعضه عن الساعي أو الإمام ثم اطلع عليه أخذ فرضه، فإن كان الإمام أو الساعي جائرا في الزيادة، بأن يأخذ فوق الواجب أو لا يصرفها مصارفها لم يعزره، لأنه معذور في كتمه، وإن كان عادلا فإن لم يدع المالك شبهة في الإخفاء عزره؛ لأنه عاص آثم بكتمانه، وإن ادعى شبهة بأن قال: لم أعلم تحريم كتمانها، أو قال: ظننت أن تفرقتي بنفسي أفضل أو نحو ذلك، فإن كان ذلك محتملا في حقه لقرب إسلامه أو لقلة اختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يعزره. قال السرخسي: فإن اتهمه فيه حلفه، وإن كان ممن لا يخفى عليه لاختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يقبل قوله وعزره (¬1) . ب- قال ابن حجر: حديث: «في كل أربعين من الإبل السائمة بنت لبون، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء (¬2) » أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقد قال يحيى بن معين في هذه الترجمة: إسناد صحيح إذا كان من دون بهز ثقة. وقال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. ¬

_ (¬1) [المهذب] وعليه [المجموع] (6\ 172، 173) . (¬2) سنن النسائي الزكاة (2444) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) .

وقال الشافعي: ليس بحجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلنا به. وكان قال به في القديم. وسئل عنه أحمد، فقال: ما أدري ما وجهه. فسئل عن إسناده، فقال: صالح الإسناد. وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا، ولولا هذا الحديث لأدخلته في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه. وقال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا. وقال ابن الطلاع في [أوائل الأحكام] : بهز مجهول. قال ابن حزم: غير مشهور بالعدالة. وهو خطأ منهما، فقد وثقه خلق من الأئمة، وقد استوفيت ذلك في [تلخيص التهذيب] . وقال البيهقي وغيره: حديث بهز هذا منسوخ. وتعقبه النووي بأن الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في الأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف، ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ. والجواب عن ذلك ما أجاب به إبراهيم الحربي، فإنه قال في سياق هذا المتن: لفظة وهم فيها الراوي، وإنما هو: «فإنا آخذوها من شطر ماله، (¬1) » أي: نجعل ماله شطرين، فيتخير عليه المصدق، ويأخذ الصدقة من خير الشطرين؛ عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا. نقله ابن الجوزي في [جامع المسانيد] عن الحربي. والله الموفق (¬2) . ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزكاة (2449) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) . (¬2) [تلخيص الحبير] (2\ 160، 161) .

النقل عن الحنابلة

3 - النقل عن الحنابلة: أ- قال ابن قدامة: وإن منعها معتقدا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم. منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم. وكذلك إن غل ماله وكتمه حتى لا يأخذ الإمام زكاته فظهر عليه. وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله؛ لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون، لا تفرق عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن أباها فإني آخذها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء (¬1) » . وذكر هذا الحديث لأحمد فقال: ما أدري ما وجهه؟ وسئل عن إسناده؟ فقال: هو عندي صالح الإسناد. رواه أبو داود والنسائي في سننهما. ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في المال حق سوى الزكاة (¬2) » . ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولا بذلك. واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر: فقيل: كان في بدء الإسلام، حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه. وحكى الخطابي عن إبراهيم الحربي أنه يؤخذ منه السن الواجبة عليه ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزكاة (2444) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) . (¬2) سنن الترمذي الزكاة (659) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1789) ، سنن الدارمي الزكاة (1637) .

من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد، لكن ينتقي من خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه، فيكون المراد بماله ها هنا الواجب عليه من ماله فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره (¬1) . ب- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: و (التعزير بالعقوبات المالية) مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك. كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل «أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: لا، بل أحرقهما» ، وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر. ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن. فإنه «لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها، فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: " افعلوا (¬2) » . فدل ذلك على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة. ومثل: هدمه لمسجد الضرار، ومثل: تحريق موسى للعجل المتخذ إلها، ومثل: تضعيفه صلى الله عليه وسلم الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل: ما روي من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير. ومثل: أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان ¬

_ (¬1) [المغني] ومعه [الشرح الكبير] (2\ 435) . (¬2) صحيح البخاري كتاب الأدب (6148) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1802) ، سنن النسائي الجهاد (3150) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3195) ، مسند أحمد بن حنبل (4/48) .

الذي يباع فيه الخمر، ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل: تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للإمام، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس، فأرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرقه عليه، فذهب فحرقه عليه. وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العلم بذلك، ونظائرها متعددة. ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما. ومن قاله مطلقا من أي مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل. ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية، بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ. وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه. وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث. ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية، تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليس العقوبة المالية منسوخة عندهما. والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة. وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة

لبعض النصوص (¬1) توهمه ترك العمل إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ. ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلا على أنه منسوخ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له؛ ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذا حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعا. ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء. وأيضا فإن واجبات الشريعة التي هي حق لله ثلاثة أقسام: عبادات، كالصلاة والزكاة والصوم. وعقوبات؛ إما مقدرة، وإما مفوضة. وكفارات. وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني وإلى مالي، وإلى مركب منهما. فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام. والمالية: كالزكاة. والمركبة: كالحج. والكفارات المالية: كالإطعام. والبدنية: كالصيام. والمركبة: كالهدي يذبح. والعقوبات البدنية: كالقتل والقطع. والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز وتضعيف الغرم عليه، وكقتل ¬

_ (¬1) لعله (إلا بعض نصوص) إلخ.

الكفار وأخذ أموالهم. وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاء على ما مضى كقطع السارق، وتارة تكون دفعا عن المستقبل كقتل القاتل، فكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف، وإلى تغيير، وإلى تمليك الغير. فالأول المنكرات من الأعيان والصفات يجوز إتلاف محلها تبعا لها مثل: الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها. فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي، مثل الطنبور، يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء. وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد. ومثل ذلك: أوعية الخمر يجوز تكسيرها وتخريقها. والحانوت الذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه. وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم. واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق لا رويشد. وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر، رواه أبو عبيد وغيره؛ وذلك لأن مكان البيع مثل الأوعية. وهذا أيضا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما. ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب، حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه. هذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل؟ وذلك لما

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع، وذلك بخلاف شوبه للشرب؛ لأنه إذا خلط لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء، فأتلفه عمر. ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل في جواز إتلاف المغشوشات في الصناعات: مثل الثياب التي نسجت نسجا رديئا أنه يجوز تمزيقها وتحريقها؛ ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبا من حرير مزقه عليه، فقال الزبير: أفزعت الصبي، فقال: لا تكسوهم الحرير. وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كما يتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية، فتقطع يد السارق، وتقطع رجل المحارب ويده. وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه نهي عن العود إلى ذلك المنكر. وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسدة جاز إبقاؤه أيضا، إما لله وإما أن يتصدق به، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل: أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء، كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش، وهو الذي خلط بالرديء وأظهر المشتري أنه جيد ونحو ذلك- يتصدق به على الفقراء، فإن ذلك من إتلافه. وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع، فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى، فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود، ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه. وعمر أتلفه؛ لأنه كان يغني الناس بالعطاء، فكان الفقراء عنده في

المدينة إما قليلا وإما معدومين. ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه، ففي [المدونة] عن مالك بن أنس: أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه. وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به، وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء. وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا. لكن الأول أشهر عنه، وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش، وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه، ولا يهراق. قيل لمالك: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو غشه فهو كاللبن. قال ابن القاسم: هذا في الشيء الخفيف منه، فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك، وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، يريد في الصدقة بكثيره. قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره، وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا، وذلك إذا كان هو الذي غشه. وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو، وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك. وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان. قال في

الملاحف الرديئة النسج: تحرق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق، وقال: تقطع خرقا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا. وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين. فأنكر عليه ابن القطان، وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه. قال القاضي أبو الأصبغ: وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين. وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله. وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش، إما بإزالة الغش، وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره. قال عبد الملك بن حبيب: قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب. قال عبد الملك بن حبيب: ولا يرده الإمام إليه وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ويسلم لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، هكذا العمل فيما غش من التجارات.

قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم (¬1) . ج- قال ابن القيم: وأما التعزير بالعقوبات المالية فمشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي. وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع: منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده. ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها. ومثل: أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين. ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الإنسية ثم استأذنوه في غسلها، فأذن لهم، فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر. ومثل: هدمه مسجد الضرار. ومثل: تحريق متاع الغال. ومثل: حرمان السلب الذي أساء على نائبه. ومثل: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر. ومثل: إضعافه الغرم على كاتم الضالة. ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة، عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى. ومثل: أمره لابس خاتم الذهب بطرحه، فطرحه فلم يعرض له أحد. ومثل: تحريق موسى عليه السلام العجل وإلقاء برادته في اليم. ¬

_ (¬1) [مجموع فتاوى شيخ الإسلام] (28\ 109) وما بعدها.

ومثل: قطع نخيل اليهود إغاظة لهم. ومثل: تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر. ومثل: تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية. وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها. ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل ساغ في مذهب أحمد وغيره، وكثير منها سائغ عند مالك. وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضا لدعوى نسخها. والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها. فمذهب أصحابه عيار على القبول والرد. وإذا ارتفع عن هذه الطبقة ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ أيضا. فإن الأمة لم تجمع على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ. قال ابن رشد في كتاب [البيان] له: ولصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبز أو لبن أو عسل أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك. فقد قال مالك في [المدونة] . (إن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن

المغشوش في الأرض) أدبا لصاحبه. وكره ذلك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به. ومنع من ذلك في رواية أشهب، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان، وإن قتل نفسا. وذكر ابن الماجشون عن مالك - في الذي غش اللبن- مثل الذي تقدم في رواية أشهب. قال ابن حبيب: فقلت لمطرف وابن الماجشون: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما غش من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يهراق ولا ينهب. قال ابن حبيب: ولا يبدده الإمام، وليأمر ثقته ببيعه عليه ممن يأمن أن لا يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ثم يسلمه لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، وهكذا العمل في كل ما غش من التجارات، وهو إيضاح ما استوضحته من أصحاب مالك وغيرهم. وروي عن مالك: أن المستحسن عنده أن يتصدق به؟ إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه. ولا يهراق. وقيل لمالك: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو الذي غشه فهو كاللبن. قال ابن القاسم: هذا في الشيء الخفيف ثمنه، فأما إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، تزيد

في الصدقة بكثير. قال ابن رشد: قال بعض الشيوخ: وسواء- على مذهب مالك - كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه يسوي في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره. وخالفه ابن القاسم، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا. وذلك إذا كان هو الذي غشه. فأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا خلاف أنه لا يتصدق بشيء من ذلك. والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا به، وكذلك ما وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران يباع على الذي غشه. وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك، لأن الصدقة بذلك من العقوبات في الأموال، وذلك أمر كان في أول الإسلام. ومن ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: «إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا (¬1) » ، وروي عنه في جريبة النخل: «أن فيها غرامة مثلها وجلدات نكال (¬2) » ، وما روي عنه: «أن من وجد يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن وجده سلبه (¬3) » . ومثل هذا كثير، نسخ ذلك كله. والإجماع على أنه لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا. والقياس: أنه لا يتصدق من ذلك بقليل ولا كثير، انتهى كلامه. ¬

_ (¬1) سنن النسائي الزكاة (2449) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) . (¬2) سنن النسائي قطع السارق (4959) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1364) ، سنن أبو داود المناسك (2037) ، مسند أحمد بن حنبل (1/170) .

وقد عرفت أنه ليس مع من ادعى النسخ نص ولا إجماع. والعجب أنه قد ذكر نص مالك وفعل عمر، ثم جعل قول ابن القاسم أولى، ونسخ النصوص بلا ناسخ. فقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب، بل هو إجماع الصحابة. فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدا، ولم ينكره منهم منكر، وعمر يفعله بحضرتهم، وهم يقرونه ويساعدونه عليه، ويصوبونه في فعله، والمتأخرون كلما استبعدوا شيئا قالوا: منسوخ ومتروك العمل به. وقد أفتى ابن القطان في الملاحف الرديئة النسج بالإحراق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بتقطيعها خرقا وإعطائها للمساكين إذا تقدم لمستعملها فلم ينته. ثم أنكر ابن القطان ذلك وقال: لا يحل هذا في مال مسلم بغير إذنه، يؤدب فاعل ذلك بالإخراج من السوق. وأنكر ذلك القاضي أبو الأصبغ على ابن القطان وقال: هذا اضطراب في جوابه، وتناقض من قوله، لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطائها للمساكين، قال: وابن عتاب أضبط لأصله في ذلك وأتبع لقوله. وفي [تفسير ابن مزين] ، قال عيسى: قال مالك في الرجل يجعل في مكياله زفتا: إنه يقام من السوق، فإنه أشق عليه. يريد: من أدبه بالضرب والحبس (¬1) . ¬

_ (¬1) [الطرق الحكمية] ص (266) وما بعدها.

الخلاصة

الخلاصة: أولا: حق ولي الأمر في الجباية: مما تقدم يتبين ما يأتي: 1 - الأموال الظاهرة بالنسبة لما تجب فيه الزكاة هي: بهيمة الأنعام والحبوب والثمار. والأموال الباطنة هي: النقدان وعروض التجارة. أما زكاة الفطر فقيل من الظاهرة وقيل من الباطنة. 2 - يجب على ولي الأمر جباية الزكاة ممن امتنع من إخراجها، فإن أبى أن يعطيها لعمال الإمام أيضا وجب قتاله حتى تؤخذ منه؛ لحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (¬1) » . . . الحديث، ولقتال أبي بكر رضي الله عنه من منعها، مع تسليم الصحابة رضي الله عنهم ذلك له، وقتالهم معه، والمحافظة على حقوق مستحقيها، وإقامة هذه الشعيرة التي هي من أعظم أركان الإسلام، ولإنكار المنكر. 3 - إذا طلب ولي الأمر دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى عماله وكان عادلا وجب على أرباب هذه الأموال دفعها إلى جباتها إجماعا، وإذا طلب دفع زكاة الأموال الباطنة فقيل: يجب دفعها إلى عماله؛ لعموم آية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2) ولعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولما في منعها بعد طلبها من شبهة الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، ولأنه طلب أمرا جائزا له فوجبت طاعته فيه، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف توزيعها من قبل رب المال بنفسه أو وكيله بعد طلبها منه، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) . (¬2) سورة التوبة الآية 103

وبالمصالح وبقدر الحاجات وبمن أخذ من قبل، ولأنه يقصد لها. وقيل: يجوز لرب المال، أن يفرقها بنفسه أو وكيله، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها. 4 - إذا كان الإمام عادلا ولم يطلب زكاة الأموال الباطنة فقيل: الأفضل أن يفرقها رب المال بنفسه. وقيل: الأفضل أن يسلمها لعمال الإمام، وتعليل القولين ما تقدم في الفقرة الثالثة. والاختلاف بين ما ذكر في الفقرتين إنما هو في الوجوب والأفضلية بناء على وجود طلب من الإمام وعدمه. 5 - إذا طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وكان جائرا فقد قيل: يجب دفعها إليه؛ لعموم الأدلة ولدرء الفتنة، على ما تقدم، وبذلك تبرأ ذمة دافعيها، والإثم على من خان فيها من الإمام أو عماله، وقيل: لا يدفعها له، بل يحتال لإخفائها منه، ثم يخرجها بنفسه، أو وكيله الأمين ويضعها في مصارفها الشرعية، وإن طلب زكاة الأموال الباطنة ففي وجوب دفعها ومنعها خلاف. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله أنه ينبغي ألا يدفعها له، ويجب توزيعها على مستحقيها، فإن أكره على أخذها منه في الأموال الظاهرة والباطنة أجزأته وبرئت منها ذمته، وإن لم يطلبها لم تدفع له، وبل يجب على رب المال تفريقها في مصارفها الشرعية. 6 - ليس للإمام ولا لعماله تتبع الأموال الباطنة والتنقيب عنها، بل يتقبل من أربابها ما بينوه، وتؤخذ منهم الزكاة على ما أقروا به؛ لأنهم

مؤتمنون على أموالهم، إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فيقوم بالبحث والاستقصاء حتى يعرف الواقع ويأخذ بمقتضاه. ثانيا: زكاة عروض التجارة. مما تقدم يتبين ما يأتي: 1 - العروض جمع عرض، فقيل: هو ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة. وقيل: هو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه، من الثياب والحيوان والعقار وسائر المال، إذا قصد به التجارة. 2 - ذهب أهل الظاهر إلى أن العروض لا زكاة فيها؛ لحديث «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق (¬1) » ولأن الزكاة عبادة من العبادات مبنية على التوقيف، والنص إنما ورد في الدراهم والدنانير والسوائم والحبوب والثمار، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ولا يثبت بالقياس؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا زكاة في العروض. ويجاب: عن الأول بحمله على ما ليس للتجارة. ومعناه: لا زكاة في عينه، بخلاف الأنعام، وهذا التأويل متعين؛ ليجمع بينه وبين الأحاديث. وعن الثاني بأنه ورد النص. وعن الثالث بأنه قد ضعفه الشافعي والبيهقي وغيرهما، فلا حجة فيه. وعلى فرض صحته فهو محمول على عرض ليس للتجارة؛ ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الزكاة (620) ، سنن النسائي الزكاة (2477) ، سنن أبو داود الزكاة (1574) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1790) ، مسند أحمد بن حنبل (1/132) ، سنن الدارمي الزكاة (1629) .

جمعا بينه وبين الأحاديث وبين الرواية الأخرى عنه. وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لعموم أدلة القرآن، ولدلالة السنة والأثر والمعنى، كما سبق في الإعداد ص: (36، 40، 45) . 3 - اختلف القائلون بوجوب الزكاة في عروض التجارة. فمنهم من أوجبها في كل حول؛ لعموم أدلة وجوب الزكاة في المال إذا حال عليه الحول ولا مخصص لها. وذهب الإمام مالك رحمة الله إلى أن التاجر ينقسم إلى قسمين: مدير وغير مدير، فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجي قبضها فيزكي ذلك على ما عنده من الناض. وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق، وكذلك من كسدت سلعته، فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى بيعها، وإن قامت أحوالا، فإذا باعها زكاها لحول واحد ص: (26) وما بعدها. وحجته: أن الحول الثاني لم يكن المال عينا في أحد طرفيه؛ فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول إذا لم يكن في أوله عين. ويجاب عن ذلك: بأن سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول متوفران، فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه كالسوائم وبأنه دليل اجتهادي مقابل للنص، ولا اجتهاد مع النص.

4 - يشترط الحنفية ومن وافقهم لوجوب الزكاة كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية، ولا يشترط مالك، وحجته العمومات. والجواب: أنها محمولة على الفاضل عن الحوائج الأصلية. ويرجع إلى ص (22) . ويشترطون أيضا نية التجارة مقارنة لعمل التجارة. أما المالكية فلهم شروط خمسة: أن لا يكون مما في عينه زكاة كالفضة، وأن يكون مملوكا بالشراء، وأن ينوي به التجارة عند الشراء، وأن يكون الثمن الذي اشترى به ذلك العرض عينا وعرضا ملك بشراء، وأن يبيع من العرض بعين نصابا فأكثر في المحتكر أو أقل لو درهما في المدير. ص (34) . ويشترط الشافعية: أن يملكه بعقد فيه عوض كالبيع، وأن ينوي عند العقد أنه تملكه للتجارة. ص (42) أما الحنابلة: فيشترطون أن يملكه بفعله كالبيع، وأن ينوي عند تملكه أنه للتجارة، وعن أحمد رواية أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية، وعليه فلا يعتبر أن يملكه بفعله ولا أن يكون في مقابله عروض، بل متى نوى به التجارة صار للتجارة، ومما تقدم يعلم أن النية شرط عند الجميع. 5 - تقوم عروض التجارة بالأحظ للفقراء، وقيل: بما اشتريت به، فإن لم تكن دخلت عليه بأحد النقدين فإنه يقومها بالنقد الغالب. وقيل: يقومها بالنقد الغالب مطلقا. وقيل: يقومها بما شاء: ومدارك هذه الأقوال الاجتهاد. ص (21، 22) .

6 - تضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة، أو يقوم الذهب والفضة ويضمهما إلى قيمة العروض بالقيمة أو بالإجزاء، ومدرك كل من القولين الاجتهاد ص: (20) . 7 - إذا ادعى من طلبت منه الزكاة أن ما بيده من العروض لم ينو به التجارة، أو أنه أدى زكاته، أو لم يحل عليه الحول، فقيل: يقبل؛ لأنه عبادة كالصلاة، فهو مؤتمن عليها: وقيل: لا يقبل إن اتهم؛ بناء على العمل بقاعدة القرائن؛ لما سبق في رقم (6) من ملخص الأمر الأول. ثالثا: الدين الذي للإنسان على غيره هل تلزمه زكاته؟ 1 - قسم أبو حنيفة الديون ثلاثة أقسام: قوي، وضعيف، ومتوسط فالقوي: هو الذي وجب بدلا عن مال التجارة، ولا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما، فكلما قبض أربعين درهما أدى درهما واحدا. والضعيف: ما وجب له بدلا عن شيء وجب له بغير صنعه كالميراث أو بصنعه كالوصية، أو وجب عما ليس بمال كالمهر، فيزكيه إذا قبضه كله وحال عليه الحول بعد القبض. والوسط: ما وجب له بدلا عما ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة وثمن ثياب البذلة والمهنة، فقال: تجب فيه الزكاة قبل القبض ولا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم، فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى، وقال: لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض. وهو أصح الروايتين عنه. ومدركه

اجتهادي يرجع إليه في ص: (53) . 2 - الديون عند المالكية تنقسم إلى أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة. فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام: أحدها: أن يكون من ميراث ونحوه، فلا زكاة فيه حالا كان أو مؤجلا حتى يقبضه ويحول عليه الحول من بعد القبض. الثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده، فإذا قبضه، وحال عليه الحول بعد القبض زكاه. الثالث: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناض عنده للقنية، فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه الزكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض، وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكاه ساعة يقبضه. الرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة، فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني، وإن كان قبضه بعد استيفاء العمل كما إذا أجر نفسه ثلاث سنين بستين دينارا فيقبضها معجلة. فقيل: يزكي إذا حال ما يجب له من الإجارة، وذلك عشرون دينارا. وقيل: يزكي إذا حال الحول تسعة وثلاثين دينارا ونصف دينار. وقيل: لا زكاة عليه في شيء من الستين حتى يمضي العام الثاني، فإذا مر زكى عشرين؛ لأن ما ينوي بها من العمل دين عليه، فلا يسقط إلا بمرور العام شيئا بعد شيء، فوجب استئناف حول آخر بها منذ تم سقوط الدين عنها.

وأما الدين من الغصب ففيه في المذهب قولان: أحدهما: وهو المشهور أنه يزكيه زكاة واحدة ساعة يقبضه كدين القراض. الثاني: أنه يستقبل حولا مستأنفا من يوم قبضه كدين الفائدة، وقد قيل: إنه يزكيه للأعوام الماضية. وأما دين القرض: فيزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من السنين. وأما المدير فقيل: يقومه، وقيل: لا يقومه، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف فيمن له مالان، يدير أحدهما، ولا يدير الآخر؛ لأن المدير إذا أقرض من المال الذي يدير أخرجه بذلك عن الإدارة. وأما دين التجارة: فلا اختلاف في أن حكمه حكم عروض التجارة يقومه المدير، ويزكيه غير المدير إذا قبضه زكاة واحدة لما مضى من الأعوام، ولزكاة الدين لسنة واحدة أربعة شروط: أن يكون أصله عينا بيده فيسلفها، أو عروض تجارة يبيعها بثمن معلوم لأجل. وأن يقبض من المدين. وأن يكون المقبوض عينا ذهبا أو فضة، ولو كان القابض له موهوبا له من رب الدين أو أحال ربه به ممن له عليه دين على المدين. وأن يقبض نصابا كاملا ولو في مرات، كأن يقبض منه عشرة ثم عشرة فيزكيه عند قبض ما به التمام، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب.

3 - قسم الشافعية الديون إلى ثلاثة أقسام: غير لازم: كدين الكتابة، ولا زكاة فيه بلا خلاف عندهم. ولازم: وهو ماشية، ولا زكاة فيه بلا خلاف؛ لأن ما في الذمة لا توصف بأنها سائمة، والسوم شرط. والثالث: أن يكون دراهم أو دنانير أو عروض تجارة وهو مستقر، ففيه قولان مشهوران. القديم: لا تجب الزكاة في الدين بحال؛ لأنه غير معين. والجديد الصحيح باتفاق الأصحاب: وجوب الزكاة في الدين على الجملة، وفيه تفصيل يرجع إليه ص: (65) . 4 - قسم الحنابلة الدين إلى قسمين: دين على معترف به باذل له، فعلى صاحبه زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى؛ لأنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل القبض، كما لو كان على معسر؛ ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به، وإنما يزكيه لما مضى؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به؛ فلزمته زكاته كسائر الأموال. وقيل: عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه؛ لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه؛ فلزمه إخراج زكاته كالوديعة. ورد بالفرق، فإن الوديعة بمنزلة ما في يده؛ لأن المستودع نائب عنه في حفظها فيده كيده. وقيل: ليس في الدين زكاة؛ لأنه غير نام؛ فلم تجب زكاته كعروض القنية. الضرب الثاني: أن يكون على معسر أو جاحدا أو مماطل به، ففي

وجوبها روايتان: إحداهما: لا تجب؛ لأن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد؛ فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال. الثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى؛ لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون، قال: إذا كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى. وروي نحوه عن ابن عباس، رواهما أبو عبيد، ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه؛ فوجبت زكاته لما مضى كالدين على مليء. ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما. وظاهر كلام أحمد: لا فرق بين الحال والمؤجل؛ لأن البراءة تصح من المؤجل. رابعا: هل الدين يمنع وجوب الزكاة؟ مما تقدم يتبين ما يلي: 1 - منع الدين للزكاة: أـ يشترط الحنفية ومن يوافقهم: أن لا يكون عليه دين مطالب به من جهة العباد حالا أو مؤجلا، والحجة في ذلك أثر عثمان رضي الله عنه: (هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم) . وفي رواية: (فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله) . قاله بمحضر من الصحابة ولم يعارض؛ فكان إجماعا. وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذ كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه» وهذا نص: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم» .

ووجه الدلالة ظاهر، ولأن ملكه غير مستقر؛ لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء، ولأن المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم. ب- وقال مالك: الدين يمنع زكاة الناض فقط، إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع، والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬1) فعم ولم يخص من عليه دين ممن لا دين عليه في مال من الأموال، والعموم محتمل للخصوص، فخصص أهل العلم ذلك من عليه دين في المال العين بإجماع الصحابة على ذلك، بدليل أثر عثمان رضي الله عنه ص: (98) . ج- مذهب الشافعية: وجوب الزكاة، سواء كان المال باطنا أو ظاهرا، من جنس الدين أو غيره، وسواء دين الله ودين الآدمي، كالزكاة السابقة والكفارة والنذر ص: (104) . وهذا إحدى الروايات الثلاث في المذهب. والحجة عمومات أدلة وجوب الزكاة، ولأنه مسلم ملك نصابا حولا فوجب عليه الزكاة كمن لا دين عليه. ويجاب عن الأول بأن العمومات خصصها أثر عثمان رضي الله عنه، وعن الثاني بأنه يخالف من لا دين عليه، فإنه غني يملك نصابا ص: 107. د- أما الحنابلة ومن يوافقهم: فإن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، والحجة لهذا القول ما سبق من أدلة الحنفية. وأما الأموال الظاهرة فروي عن أحمد: أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها؛ لما سبق من الأدلة. ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 103

والرواية الثانية: لا يمنع الزكاة فيها، لما سبق من الأدلة. والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة: أن تعلق الزكاة بالظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها. وفي رواية ثالثة: لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليها خاصة ص (107) . وأما دين الله كالكفارة ففيه وجهان: أحدهما: يمنع الزكاة كدين الآدمي؛ لما سبق من الأدلة، ولأنه دين يجب قضاؤه، فهو كدين الآدمي، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «دين الله أحق أن يقضى (¬1) » . ويناقش ذلك بالفرق، فإن دين الآدمي آكد، والمطالبة تتوجه به. والآخر: لا يمنع؛ لأن الزكاة آكد لتعلقها بالعين، فهو كأرش الجناية ص: (58) وما بعدها. 2 - يمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب، أو ينقص ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب أو ما لا يستغنى عنه. وإذا كان له مالان وأحدهما لا زكاة فيه، والآخر فيه الزكاة، كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين، فقال القاضي: يجعل الدين في مقابلة العروض، وهذا مذهب مالك وأبي عبيد. قال أصحاب الشافعي: وهو مقتضى قوله، لأنه مالك لمائتين زائدة عن مبلغ دينه، فوجب عليه زكاتها، كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا. وظاهر كلام أحمد: أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه، فإنه قال ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1953) ، صحيح مسلم الصيام (1148) ، سنن الترمذي الصوم (716) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3816) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3310) ، سنن ابن ماجه الصيام (1758) ، مسند أحمد بن حنبل (1/362) ، سنن الدارمي الصوم (1768) .

في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف، إن كانت العروض للتجارة زكاها، وإن كانت لغير التجارة فلا شيء عليه. وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأن الدين يقضى من جنسه عند التشاح، فجعل الدين في مقابلته أولى، كما لو كان النصابان زكويين. ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية، وإن لم يكن فاض عن حاجته فلا يلزم صرفه لوفاء الدين؛ لأن الحاجة أهم. 3 - بناء على قول من يقول: الدين يمنع وجوب الزكاة، وأحاطت برجل ديون وحجر عليه القاضي، فإذا أقر بوجوب الزكاة قبل الحجر فإن صدقه الغرماء ثبتت وأخذت، وإن كذبوه فالقول قوله بيمينه؛ لأنه أمين. وحينئذ هل تقدم الزكاة أم الدين أم يستويان؟ فيه ثلاثة أقوال في اجتماع حق الله تعالى، ودين الآدمي، ومداركها اجتهادية. وإذا أقر بالزكاة بعد الحجر، فقيل: يقبل في الحال ويزاحم به الغرماء. وقيل: يثبت في ذمته ولا تثبت مزاحمته. وفي ذلك تفاصيل ذكرت في الإعداد يمكن الرجوع إليها، وقد تركناها اختصارا. خامسا: التعزير: اتفق الفقهاء على جواز التعزير بالضرب والسجن والنفي ونحوها من العقوبات البدنية عند وجود ما يقتضيها. واختلفوا في جوازه بالعقوبات المالية:

فقال بعضهم: بالمنع؛ لأن العقوبات المالية من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ولا يلائم تصرفات الشرع، وتأولوا ما ورد من أخذ عمر شطر مال خالد رضي الله عنهما بأنه أخذ ما رأى أن خالدا استفاده بالولاية. وأقر جماعة بأن التعزير بالمال قد كان أول الإسلام، ثم زعموا أنه نسخ بالإجماع على تركه. واستشهدوا لذلك: بأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة حتى أخذها منهم، ولم ينقل عنه أنه زاد عليها، ولو كان لنقل، فدل ذلك على الإجماع على تركها. وستأتي مناقشة ذلك إن شاء الله. وقال بعضهم: يجوز لولي الأمر التعزير بالعقوبات المالية. واستدلوا على ذلك بوقائع كثيرة: منها: ما كان تأديبا بها من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: ما كان من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، دون نكير من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، حتى من نزلت به العقوبة. وعلى هذا فدعوى المانعين أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد للشريعة به ولا يلائم تصرفات الشرع دعوى يكذبها الواقع الكثير. وكذا ما زعموه من النسخ أو الإجماع على الترك باطل بوجود ذلك في تصرفات الخلفاء الراشدين على مشهد من الصحابة دون نكير، وبوجود الخلاف بعدهم في ذلك بين أئمة الفقهاء. ورأى بعضهم أن التعزير بالمال في المال الذي وقعت فيه الإساءة وتوابعه بإتلافه أو مصادرته وحرمانه منه ونفع المساكين ونحوهم به، غير

أنهم اختلفوا هل يقتصر في التعزير على اليسير أو يعم القليل والكثير؟ هذا ما تيسر إيراده، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار بخصوص جباية الزكاة

قرار رقم 63 في 25\ 10\ 1398هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء المنعقد في مدينة الطائف في الفترة ما بين يوم 14\ 10\ 1398 هـ حتى نهاية يوم 25\ 10 \ 1398 هـ. قد أعاد النظر في اللائحة التنفيذية لجباية الزكاة وما أعد بشأنها من بحث علمي من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في هيئة كبار العلماء، وذلك بناء على ما ورد من المقام السامي إلى الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء الدعوة والإرشاد برقم 3\ ش\ 293 في 4\ 1\ 1397 هـ. وبعد تداول الرأي والنظر في أقوال أهل العلم وأدلتهم ولعدم وجود أدلة شرعية تدل على وجوب قيام ولي الأمر بمطالبة الناس بزكوات أموالهم الباطنة ومحاسبتهم على ذلك، بل إن كلام أهل العلم يدل على خلاف ذلك، فأكثر العلماء يقول: إن زكاة الأموال الباطنة وهي النقود وعروض التجارة موكول أمر إخراجها لأصحاب الأموال وهم مصدقون في ذلك فلا يحاسبون ولا يتهمون بأنهم قاموا بإخفاء شيء منها، بل ذلك أمر بينهم وبين الله سبحانه، ولكن إذا طلبها ولي الأمر فدفعوها له برئت ذمتهم منها. لما تقدم فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى بالأكثرية ما يلي: 1 - الاكتفاء بما نص عليه أهل العلم من ترك أمر محاسبة الناس على أموالهم أو مطالبتهم ببيانات عما يملكونه من نقود وعروض تجارة، بل يؤخذ منهم ما دفعوه من الزكاة اتباعا لما درج عليه سلف الأمة في ذلك وما كان عليه العمل في عهد جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله، وما سبقه من عمل الدولة السعودية منذ نشأتها. 2 - إبقاء العمل على ما هو عليه في جباية زكاة الحبوب والثمار وأن

يوكل إلى لجنة فيها مندوب من المحكمة والإمارة وهيئة الأمر بالمعروف تتولى جبايتها وصرفها على مستحقيها ويبقى العمل في جباية زكاة الماشية على ما كان عليه ويعطون مكافأة على عملهم ولو من الزكاة. 3 - كل من تحقق لدى ولاة الأمر أنه لا يدفع الزكاة أو يجحد شيئا منها فإن ولي الأمر يجري ما يلزم نحو أخذها منه وتعزيره التعزير الشرعي جزاء ما ارتكب بعد ثبوت ذلك عليه. 4 - يوصي المجلس بإيجاد صندوق خاص يودع فيه ما يورد لصندوق الدولة من زكاة وتصرف منه بعد ورودها على مستحقيها بواسطة لجنة من أهل الثقة والأمانة في كل بلد. ولا شك أن ولاة الأمر -وفقهم الله- إذا انتهجوا ما أوضح في هذا القرار فإن ذمتهم بريئة، وسوف يكون لذلك أثره الحميد وعواقبه الطيبة؛ لأن الخير والبركة في اتباع سلفنا الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. وبالله التوفيق.. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن علي الحركان عبد الله بن منيع لي وجهة نظر ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون متوقف ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... سليمان بن عبيد عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد المجيد حسن عبد الله بن قعود متوقف فيما عدا الفقرة الرابعة ... صالح بن لحيدان

وجهة نظر لفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان المناع

"وجهة نظر" الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد، وعلى آله وصحبه وبعد: فبعد الاطلاع على خطاب سمو نائب رئيس مجلس الوزراء رقم 3\ ش\ 293 وتاريخ 4\ 1\ 1397هـ وعلى مشروع اللائحة التنفيذية لجباية الزكاة المقدم لمجلس الوزراء لدراسته وبعد التأمل والدراسة ظهر لي أن هذه اللائحة ليست لائحة تنفيذية بالمعنى الاصطلاحي المعروف لدى خبراء الإدارة والتنظيم بحيث تكون خاصة بالأعمال الإدارية لجباية الزكاة وإنما تشتمل اللائحة على مواد تشريعية، ومنها المواد الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة، وعلى مواد تنفيذية إدارية. وحيث إن المواد التشريعية في مشروع اللائحة ليست شاملة لأحكام الزكاة حتى يقال ببقائها للفائدة، وليست شاملة لأهم أحكام الزكاة حتى يقال بالاكتفاء بالأهم عن المهم، مع أن بعض ما تناولته موضع خلاف بين أهل العلم كما هو الحال في الديون على من تجب عليه الزكاة هل يسقط من الزكاة ما يقابلها من الأموال مطلقا أم أن ذلك خاص بالأموال الباطنة أو أنها لا تسقط من الزكاة شيئا، وكذلك الأمر بالنسبة للديون المملوكة للمكلف بالزكاة على مليء أو غيره هل يزكيها مطلقا، ومتى يزكيها، وهل تقابل بما يزيد عند المكلف بها عن حاجته من أموال القنية غير الأثمان. وحيث إن الأمور التشريعية يرجع إليها في مصادرها كالحال بالنسبة لمسائل العبادات والمعاملات وما تقتضيه الخصومات من أحكام قضائية ومتى أشكل منها على الجهة المختصة بجبايتها ما يقتضي الأمر استجلاءه أمكن الرجوع إلى الجهة المختصة بالإفتاء. وعليه فإنني أرى استبعاد كل ما يتعلق بالأمور التشريعية من اللائحة لما ذكر وليصدق عليها أنها لائحة تنفيذية لجباية الزكاة مفروض في جميع موادها أن

تكون إدارية محضة. وحيث إن غالب المواد التنفيذية الإدارية في هذه اللائحة مبني على المواد التشريعية المذكورة فيها فإن بقاءها بعد استبعاد المواد التشريعية فيها لا يستقيم إلا بعد إعادة النظر فيها وصياغتها صياغة إدارية لا تنبني على ما استبعد منها. وتستند على الأسس التالية: أ- إن لولي الأمر أن يطلب من الزكاة ما يرى المصلحة العامة تقتضي طلبه. ب- الأصل في المسلم أنه مؤتمن على شئون دينه من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك. ج- متى توفرت القرائن لاتهام من يتساهل أو يتلاعب بأداء الزكاة أو بعضها بأي طريق من طرق الاحتيال أو التهرب عن أدائها فإن للقضاء الفصل في عدوانه بما يقتضيه الوجه الشرعي. وللجهة المختصة بجبايتها بذل الجهد في تحصيل ما يدعم الادعاء. د- تعيين الجهة المختصة بجباية الزكاة وإعطائها من الصلاحيات ما تستطيع به إنفاذ ما وكل إليها. هـ- الرجوع في تقدير العقوبات الجزائية إلى القضاء المختص. والأخذ بالأصل في أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء. هذا ما ظهر لي، والله ولي التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. عضو الهيئة عبد الله بن سليمان بن منيع 24 \ 10 \ 1398 هـ

ملاحظة بعض التجار على جباية الزكاة

(6) ملاحظة بعض التجار على جباية الزكاة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم ملاحظة بعض التجار على جباية الزكاة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد: فبناء على ما جاء في كتاب معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء 3\ م\ 11256 وتاريخ 11\ 5\ 96 هـ. إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من الرغبة في دراسة ما لاحظه بعض التجار على جباية الزكاة الشرعية التي يدفعونها لمصلحة الزكاة والدخل، وكذا التأمينات الاجتماعية التي تستحصلها الدولة من غير السعوديين العاملين بالمملكة، وبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بالرياض آخر ربيع الأول وأول ربيع الآخر عام 1397 هـ من إعداد بحث في ذلك الموضوع أعدت اللجنة الدائمة فيه بحثا يتضمن ما يأتي: أولا: حق ولي الأمر العام في جباية الزكاة. ثانيا: مناقشة ما لاحظه التجار على ضوئه.

ثالثا: مناقشة أو دراسة ما لاحظه التجار على استحصال تأمينات اجتماعية من غير السعوديين الذين يعملون في المملكة. وفيما يلي الكلام على ذلك، والله الموفق.

حق ولي الأمر في الجباية

أولا- حق ولي الأمر في الجباية: 1 - الأموال الظاهرة بالنسبة لما تجب فيه الزكاة هي بهيمة الأنعام والحبوب والثمار، والأموال الباطنة هي النقدان وعروض التجارة، أما زكاة الفطر فقيل من الظاهرة وقيل من الباطنة. 2 - يجب على ولي الأمر جباية الزكاة ممن امتنع من إخراجها، فإن أبى أن يعطيها لعمال الإمام أيضا وجب قتاله حتى تؤخذ منه، لحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (¬1) » الحديث، ولقتال أبي بكر رضي الله عنه من منعها مع تسليم الصحابة رضي الله عنهم ذلك له وقتالهم معه والمحافظة على حقوق مستحقيها وإقامة هذه الشعيرة التي هي من أعظم أركان الإسلام، ولإنكار المنكر. 3 - إذا طلب ولي الأمر دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى عماله وكان عادلا وجب على أرباب هذه الأموال دفعها إلى جباتها إجماعا، وإذا طلب دفع زكاة الأموال الباطنة فقيل يجب دفعها إلى عماله، لعموم آية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2) الآية، ولعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ولما في منعها بعد طلبها من شبهة الخروج عليهم المؤدي إلى الهرج والفساد، ولأنه طلب أمرا جائزا له فوجبت طاعته فيه، ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف توزيعها من قبل رب المال بنفسه أو وكيله بعد طلبها منه، ولأن الإمام أعرف بالمستحقين وبالمصالح وبقدر الحاجات ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) . (¬2) سورة التوبة الآية 103

وبمن أخذ من قبل، ولأنه يقصد لها، وقيل: يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه أو وكيله، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها. 4 - إذا كان الإمام عادلا ولم يطلب زكاة الأموال الباطنة، فقيل: الأفضل أن يفرقها رب المال بنفسه، وقيل: الأفضل أن يسلمها لعمال الإمام وتعليل القولين ما تقدم في الفقرة الثالثة، والاختلاف بين ما ذكر في الفقرتين إنما هو في الوجوب والأفضلية بناء على وجود طلب من الإمام وعدمه. 5 - إذا طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وكان جائرا فقد قيل: يجب دفعها إليه؛ لعموم الأدلة ولدرء الفتنة على ما تقدم، وبذلك تبرأ ذمة دافعيها والإثم على من خان فيها من الإمام أو عماله، وقيل: لا يدفعها له، بل يحتال لإخفائها عنه، ثم يخرجها بنفسه أو وكيله الأمين ويضعها في مصارفها الشرعية، وإن طلب زكاة الأموال الباطنة ففي وجوب دفعها ومنعها خلاف. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه ينبغي ألا يدفعها له، ويجب توزيعها على مستحقيها، فإن أكره على أخذها منه في الأموال الظاهرة والباطنة أجزأته وبرئت منها ذمته، وإن لم يطلبها لم تدفع له، بل يجب على رب المال تفريقها في مصارفها الشرعية. 6 - ليس للإمام ولا لعماله تتبع الأموال الباطنة والتنقيب عنها، بل يتقبل من أربابها ما بينوه وتؤخذ منهم الزكاة على ما أقروا به، لأنهم مؤتمنون على أموالهم إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فيقوم بالبحث والاستقصاء حتى يعرف الواقع ويأخذ بمقتضاه.

مناقشة ما لاحظه التجار على ضوئه

ثانيا: مناقشة ما لاحظه التجار على ضوئه. بناء على ما تقدم في بيان حق ولي الأمر العام العادل في جباية زكاة

الأموال الظاهرة والباطنة، وما جاء فيه من أنه ليس له ولا لعماله التنقيب عن أموال الزكاة الباطنة، بل يأخذ من أربابها زكاتها على ما أقروا به؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك إلا إذا دلت الأمارات وقرائن الأحوال على خيانتهم وكتمانهم بعض ما تجب فيه الزكاة، فيقوم بالبحث والاستقصاء عنها حتى يتبين له الواقع ويأخذ الزكاة بمقتضاه. وبناء على ما جاء في كتاب معالي وزير المالية والاقتصاد الوطني رقم (7296\ 95) وتاريخ 23\ 10\ 95 هـ إلى معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء، وكتابه إليه أيضا رقم........ وتاريخ........ أنه لوحظ على بعض التجار عدم إخراج الزكاة وعلى بعض المؤسسات والشركات أنها لا تقدم حسابات نظامية يركن إليها في تحديد مقدار الزكاة الواجبة عليها بالضبط فاضطرت الجهة المختصة إلى اتباع طريقة لتحديد الأموال الخاضعة للزكاة عن طريق حصر حجم مستوردات تلك المؤسسات والشركات والاسترشاد بذلك قصدا إلى إيجاد قاعدة واحدة تطبق على الجميع وتزيل أسباب معاملة التجار بطرق مختلفة. بناء على ما تقدم يمكن أن يقال: إن من واجب ولي الأمر في مثل هذه الأحوال جباية زكاة الأموال الباطنة واختيار أقوم الطرق وأقربها إلى تقدير الأموال التي تجب فيها الزكاة تحقيقا للعدل بين أرباب الأموال والمستحقين للزكاة. وقد فعل ذلك ولي الأمر لوجود مقتضيه فاختار من طرق التقدير ما أشار به المختصون وترك بعض ما وجب من الزكاة إلى التجار ليوزعوه على المستحقين من الأقارب والجيران ومن يقصدهم لذلك، وهذا من حقه وتصرفاته شرعا، ومن وجد من التجار تعسفا من العمال فليرفع بيانا بذلك إلى ولي الأمر ليزيل شكاته.

ملاحظات بعض التجار على تحصيل تأمينات اجتماعية من غير السعوديين الذين يعملون في المملكة

ثالثا: ملاحظات بعض التجار على تحصيل تأمينات اجتماعية من غير السعوديين الذين يعملون في المملكة. إن ما ذكره التجار من الملاحظات في ذلك ينحصر في أربعة أمور: الأول: أن ما تنفقه الدولة على الجباية أكثر مما تأخذه. الثاني: أنه يؤخذ مبلغ 5% على الموظف و 8% على المؤسسات والشركات تأمينات اجتماعية وهو كثير. الثالث: أن العمال غير السعوديين يشترطون عند تعاقد المؤسسات والشركات معهم ألا تخضع مرتباتهم لاستقطاع زكاة منها أو تأمينات اجتماعية فتقبل المؤسسات والشركات هذا الشرط لحاجتها إليهم، وتتحمل هذه الاستقطاعات عنهم، وهذا مما يعوق الإنتاج الصناعي، ويضعف القدرة على منافسة السلع المستوردة. الرابع: أن الحكومة لا تتحمل مسئولية لغير السعودي ولا تعمل له شيئا؟ لأنه يغادر المملكة خلال سنة أو سنتين فلا يستطيع استرجاع ما دفعه، وهذه أحدثت بلبلة في البلد. وبعد دراسة اللجنة لذلك كتبت ما يلي: أولا: إن المقارنة بين ما تنفقه الدولة على جباية الزكاة وما تأخذه ومعرفة أيهما أكثر عملية حسابية تتعلق بأمر اقتصادي والنظر في مثل هذا إلى ولي الأمر العام فهو الذي ينظر في ذلك بنفسه أو بأجهزته المختصة، ويرتب على ذلك ما يراه مصلحة من الاستمرار في جباية الزكاة؛ إقامة لهذه الشعيرة ومحافظة عليها أو ترك إخراجها وتوزيعها على مستحقيها إلى أرباب الأموال مع الرقابة. ثانيا: إن النظر في كثرة ما يستقطع من الموظف ومن المؤسسات

والشركات وقلته من حق ولي الأمر والأجهزة المختصة التي يسند إليها النظر في مثل هذا، وقد فعل، فقد قامت لجنة وزارية ببحث هذا الموضوع وانتهت بالتوصية بعدم تعديل ما يتعلق بخضوع العمال الأجانب لنظام التأمينات الاجتماعية وصدرت الموافقة السامية على هذه التوصية برقم 18693 وتاريخ 4\ 8\ 93، أما النظر في حل ما يستقطع أو تحريمه فإنه يرجع إلى مجلس الهيئة. ثالثا: إن النظر في تأثير ما يستقطع من المؤسسة أو الشركة من أجل عمالها- سواء ما يخصها من النسبة وما يخص العامل الأجنبي- على الإنتاج وتعويقه إياه، وإضعافه القدرة على منافسة السلع المستوردة من الأمور الفنية الاقتصادية التي يرجع فيها ولي الأمر إلى المتخصصين في ذلك. رابعا: إذا كان العمال الأجانب قد اشترطوا عند التعاقد معهم ألا تخضع مرتباتهم للاستقطاع فلهم شرطهم ويلزم الوفاء به من اشترط عليهم من أرباب المؤسسات أو الشركات، وإذا تم الوفاء لهم بهذا الشرط، فلا توجد منهم بلبلة، ولا يصح أن يقال: إن الحكومة لا تتحمل مسئولية لغير السعودي؛ لأنه لا يسترجع شيئا مما دفعه. وإنما ذلك دفاع من المؤسسات والشركات عن نفسها لا عن عاملها وشكاية منها لا منه. والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

المجلد السابع - إصدار: سنة 1423 هـ - 2002 م

(1) نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد: فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض في الأيام الأخيرة من شهر ربيع الأول، والأولى من شهر ربيع الآخر عام 1397 هـ من دراسة البحث المعد في نزع القرنية من عين إنسان وزرعها في عين آخر في الدورة الحادية عشرة، وطلبه كلمة في ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا، وأخرى في ضابط المثلة الممنوعة شرعا، وثالثة في مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه. تتميما للبحث كتبت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المسائل الثلاث ما يلي: والله الموفق.

ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا

1 - ضابط الإيثار المرغب فيه شرعا: لما كان تمييز الإيثار المحمود شرعا من غيره يتوقف على تتبع النصوص التي وردت فيه من الكتاب والسنة وتدبرها مع الاستعانة بكلام العلماء السابقين في ذلك - كان لزاما علينا أن نستعرض جملة من الآيات والأحاديث في الإيثار، وجملة أخرى من كلام أهل العلم فيه، ثم نستخلص من ذلك المطلوب إن شاء الله فنقول: قال الله تعالى: (في سورة الحشر) {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) فأثنى جل شأنه على الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل غيرهم من المهاجرين، بحبهم من هاجر إليهم من المؤمنين، وبطهارة قلوبهم من الأحقاد، وسلامتها من الضغائن، وبطيب أنفسهم وكرمها وسماحتها؛ حيث لم يجدوا في دخيلتهم حرجا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره من الأموال، وبإيثارهم المهاجرين على أنفسهم بما شرحته أحاديث الإخاء الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، بهذا وأمثاله أثنى الله عليهم وكتب لهم الفوز والفلاح. وقال البخاري (¬2) : باب قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (¬3) الآية الخصاصة: فاقة، المفلحون: الفائزون بالخلود، الفلاح: البقاء، حي ¬

_ (¬1) سورة الحشر الآية 9 (¬2) [صحيح البخاري] كتاب التفسير (6\59، 60) . (¬3) سورة الحشر الآية 9

على الفلاح: عجل، وقال الحسن: حاجة: حسدا. حدثني يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيف هذه الليلة يرحمه الله " فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا. فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت. ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد عجب الله عز وجل أو ضحك من فلان وفلانة" فأنزل الله عز وجل: (¬2) » . وقال البخاري أيضا: باب قول الله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬3) حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضم أو يضيف هذا؟ ". فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضحك الله الليلة أو عجب من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4889) ، صحيح مسلم الأشربة (2054) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3304) . (¬2) سورة الحشر الآية 9 (¬1) {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬3) سورة الحشر الآية 9

فعالكما"، فأنزل الله: (¬2) » . ففي قصة هذا الأنصاري وأسرته مع الضيف إيثار له بالطعام على نفسه وعلى أسرته مع شدة حاجتهم إليه، لكنه إيثار لا يقضي على أحد منهم، ولا يفوت عليه عضوا من أعضائه، بل يمكنهم استدراك ما فاتهم في مستقبل أمرهم إن شاء الله. وقد أثنى الله عليهم بذلك ثناء عاطرا وكتب لهم الأجر الجزيل جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم من الفعل الجميل. وقال البخاري: باب إجابة دعاء من بر والديه (¬3) : حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، قال: أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع ¬

_ (¬1) [صحيح البخاري] (6\225\226) . (¬2) سورة الحشر الآية 9 (¬1) {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3) [صحيح البخاري] (7\77، 78) .

الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء (¬1) » . . . . الحديث. وقال البخاري: عن عائشة رضي الله عنها (¬2) . قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: «من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار (¬3) » . في الحديث الأول من هذين الحديثين إيثار الرجل والديه بالطعام على نفسه وسائر أسرته مع شدة حاجتهم إليه، وقد رضي الله عنه بذلك فاستجاب دعاءه حينما أصابته وصاحبيه شدة. وفي الحديث الثاني إيثار المرأة ابنتيها على نفسها بالتمرة مع حاجتها إليها، وقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم منها ما فعلت، وأخبر بأن مثل ذلك يكون وقاية لمن فعل ابتغاء وجه الله من النار. وإيثار عائشة رضي الله عنها المرأة وابنتيها على نفسها ومن معها بالتمرة وليس عندها غيرها. وقال البخاري (¬4) : باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: لما قدموا المدينة آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأدب (5974) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743) ، مسند أحمد بن حنبل (2/116) . (¬2) [صحيح البخاري] (2\114، 115) . (¬3) صحيح البخاري الزكاة (1418) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2629) ، سنن الترمذي البر والصلة (1915) ، مسند أحمد بن حنبل (6/166) . (¬4) [صحيح البخاري] (4\222، 223) .

فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهيم؟ " قال: تزوجت، قال: "كم سقت إليها؟ " قال: نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب - شك إبراهيم. حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه وضر من صفرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهيم " قال: تزوجت امرأة من الأنصار فقال: "ما سقت فيها؟ " قال: وزن نواة من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال: "أولم ولو بشاة (¬1) » . في قصة الإخاء بين المهاجرين والأنصار إيثار سعد بن الربيع عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وبإحدى زوجتيه، فقد أمره أن يقسم ماله بينهما، وأمره أن ينظر إلى أعجب زوجتيه إليه؛ ليطلقها فيتزوجها عبد الرحمن بعد انتهاء عدتها، وهذا الإيثار أعلى مما قبله، لكنه بما ينفع غيره ولا يضر بمن بذله ضررا فادحا، ومع ذلك يمكنه استدراك ما فاته. وقال البخاري (¬2) : حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3937) ، صحيح مسلم النكاح (1427) ، سنن الترمذي البر والصلة (1933) ، سنن النسائي النكاح (3388) ، سنن أبو داود النكاح (2109) ، سنن ابن ماجه النكاح (1907) ، مسند أحمد بن حنبل (3/205) ، موطأ مالك النكاح (1157) ، سنن الدارمي النكاح (2204) . (¬2) [صحيح البخاري] (5\33، 34) .

إسماعيل عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول: "انثرها لأبي طلحة" قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين أو ثلاثا. في هذا الحديث إيثار أبي طلحة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بالحياة والسلامة من المكاره فقد فداه بنفسه فقال: (نحري دون نحرك) وجوب عليه بحجفة له، وهذا إيثار أعلى مما قبله إيثار بالنفس، وذلك في ميدان الجهاد وقد أوجبه الله على المؤمنين، وكتب لمن قتل فيه الشهادة، ولمن أصيب فيه الأجر الجزيل. ثم هو إيثار واجب بالنفس والأعضاء لمن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وفيه أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقاه بيده حتى أصيبت بشلل. وروى مسلم (¬1) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد ¬

_ (¬1) [صحيح مسلم] رقم الحديث (1789) .

يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة"، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فقال: "من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا (¬1) » . وروى البخاري [صحيح البخاري] (5\33) . . عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بين أبويه كليهما - يريد: حين قال: " فداك أبي وأمي (¬2) » - وهو يقاتل. وروى البخاري (¬3) أيضا عن علي رضي الله عنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: «يا سعد، ارم فداك أبي وأمي (¬4) » . وقاتل عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب وآخرون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم حتى قضى بعضهم نحبه. وفي الموضوع أحاديث وآثار اكتفينا عن إيرادها بما ذكرنا؛ لكونها في معناه. مما تقدم يتبين: أن الإيثار المحمود شرعا يمكن أن يضبط بما أباح الشرع البذل في جنسه (¬5) .، كالأموال ومنافع الأبدان وثمار الأفكار ونحو ذلك مما هو من حظوظ النفس ومتعها، أو أوجب بذل النفس فيه، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1789) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) . (¬2) صحيح البخاري المغازي (4057) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2412) ، سنن الترمذي الأدب (2830) ، سنن ابن ماجه المقدمة (130) ، مسند أحمد بن حنبل (1/186) . (¬3) [صحيح البخاري] (5\33) . (¬4) صحيح البخاري المغازي (4059) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2411) ، سنن الترمذي الأدب (2829) ، سنن ابن ماجه المقدمة (129) ، مسند أحمد بن حنبل (1/92) . (¬5) أو حث عليه ورغب فيه.

كالجهاد في سبيل الله نصرة للدين وإقامة لحدوده وإحياء لمعالمه، ومع ذلك لا يسلم نفسه لعدوه، ولا يستسلم للأحداث، بل يستعد بما استطاع من قوة، ليحفظ نفسه وإخوانه، وليكون سيف الله المسلول على الأعداء، فإن قتل كان شهيدا، وإن رجع منتصرا سالما أو مصابا أجر وغنم، فله الحسنيان أو إحداهما على كل حال. أما الإيثار بما حرم الله عليه البذل في جنسه فلا يجوز، بل هو جريمة يعاقب عليها.

وقال ابن القيم: قال صاحب [المنازل] (¬1) : فصل: ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬2) منزلة الإيثار، قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3) فالإيثار ضد الشح؛ فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا (¬4) » . فالبخيل: من أجاب داعي الشح، والمؤثر: من أجاب داعي الجود. كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء، وهو أفضل من سخاء ¬

_ (¬1) [مدارج السالكين على منازل السائرين] (2\291-304) . (¬2) سورة الفاتحة الآية 5 (¬3) سورة الحشر الآية 9 (¬4) سنن أبو داود الزكاة (1698) ، مسند أحمد بن حنبل (2/195) .

البذل، قال عبد الله بن المبارك: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل. وهذا المنزل هو منزل الجود والسخاء والإحسان. وسمي بمنزل (الإيثار) ؛ لأنه أعلى مراتبه، فإن المراتب ثلاثة. إحداها: أن لا ينغصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة (السخاء) . الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقى له شيء. أو يبقي مثل ما أعطى فهو (الجود) . الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهو مرتبة (الإيثار) وعكسها (الأثرة) وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه. وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض (¬1) » ، والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2) فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا. وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين. حتى أنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة. فسأل عنهم، فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة. ثم أمر مناديا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل. فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه، لكثرة من عاده. وقالوا له يوما: هل رأيت أسخى منك؟ قال: نعم، نزلنا بالبادية على ¬

_ (¬1) صحيح البخاري كتاب المناقب (3793) ، صحيح مسلم الزكاة (1059) ، سنن الترمذي المناقب (3901) ، مسند أحمد بن حنبل (3/167) . (¬2) سورة الحشر الآية 9

امرأة فحضر زوجها. فقالت: إنه نزل بك ضيفان. فجاء بناقة فنحرها وقال: شأنكم، فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها. فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير. فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت. فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر. وهو يفعل ذلك. فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه، ومضينا. فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا. قفوا أيها الركب اللئام. أعطيتموني ثمن قراي؟ ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي فأخذناه وانصرف. فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير، سبحانه، استئثار الناس على الأنصار بالدنيا -وهم أهل الإيثار- ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس. فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك -مع كونك من أهل الإيثار- فاعلم أنه لخير يراد بك. والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل و (الجود) عشر مراتب. أحدها: الجود بالنفس. وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر: يجود بالنفس, إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فأطلق فيه ولم يفصل ثم ذكر بقية مراتب الجود ثم قال: قال: (وهو على ثلاث درجات. الدرجة الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا، ولا يقطع عليك طريقا، ولا يفسد عليك وقتا. يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم. مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين. ومثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا مستشرفا للناس أو سائلا. وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس. وأما قوله: (ولا يقطع عليك طريقا) أي: لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى، مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله. فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله مالا يستحق الإيثار. فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق. وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن. وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره. وما أقل المؤثرين الله على غيره. وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه. أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله. فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره فهذا أيضا إيثار غير محمود. وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله. ونظائر ذلك لا تخفى،

بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم. وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحدا. فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله. وأنت لا تعلم. وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفه فوق هذا. ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا: إنه مكروه أو حرام كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه. وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها. وأجابوا عنه: بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه. فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت؛ إذ لا تقرب في حق الميت. وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها، فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر. والله أعلم. اهـ - المقصود منه ثم ذكر الدرجتين الأخيرتين وقد تركناهما لعدم الحاجة إليهما في الموضوع. وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (¬1) . تحت عنوان: المسألة الخامسة: جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه بثمانية أقسام: نذكر منها الرابع لصلته بالإيثار في الجملة، قال: ¬

_ (¬1) [الموافقات] (2\255- 263) .

وأما الرابع: فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين: نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ فإن حق الجالب أو الدافع مقدم إن استضر غيره بذلك؛ لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت الميتة وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات فلا يكن له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة ومن حق غيره على ظن أو شك وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به، وقد سئل الداودي: هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم، ولا يحل له إلا ذلك. قيل له: فإن وضعه السلطان على أهل بلده وأخذهم بمال معلوم يردونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم؟ قال: ذلك له) إلى أن قال: هذا كله مع اعتبار الحظوظ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان: أحدهما: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو

محمود جدا، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم (¬1) » ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه. وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا وإنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك واحد منهم فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجاج لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم، فقال عليه الصلاة والسلام: فهم مني وأنا منهم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان في هذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر، إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته. وفي مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له (¬2) » قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل، وفي الحديث أيضا: «أن في المال حقا سوى الزكاة (¬3) » ، ومشروعية الزكاة والإقراض والعرية والمنحة وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى، وجميعه جار على أصل مكارم الأخلاق، وهو لا يقضي استبدادا، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجمع أو أقل ولا يكون موقعا على نفسه ضررا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الشركة (2486) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2500) . (¬2) صحيح مسلم اللقطة (1728) ، سنن أبو داود الزكاة (1663) ، مسند أحمد بن حنبل (3/34) . (¬3) سنن الترمذي الزكاة (660) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1789) ، سنن الدارمي الزكاة (1637) .

ناجزا وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره وهو نظر من يعد المسلمين كلهم شيئا واحدا على مقتضى قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا (¬1) » ، وقوله: «المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (¬2) » ، وقوله: «المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه (¬3) » ، وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى وأسبابه، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به، كما أن كل عضو من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدل لا يزيد ولا ينقص فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه أو أقل لخرج عن اعتداله وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة وترك الفرقة وهو كثير إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها. والوجه الثاني: الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ وذلك أن يترك حظه لحظ غيره اعتمادا على صحة اليقين إصابة لعين التوكل وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس بالخير وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة وقالت له خديجة: إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق. وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) . (¬2) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) . (¬3) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .

قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه. وجاءه رجل فسأله فقال: «ما عندي شيء، ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر رضي الله عنه: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أمرت» ذكره الترمذي. وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد، وهذا كثير. وهكذا كان الصحابة. وقد علمت ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (¬1) وما جاء في الصحيح في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2) وما روي عن عائشة وهو مذكور في باب الأسباب من كتاب الأحكام عند الكلام على مسألة العول على إسقاط الحظوظ، وهو ضربان: إيثار بالملك من المال وبالزوجة بفراقها، لتحل للمؤثر، كما في حديث المؤاخاة المذكور في الصحيح. وإيثار بالنفس، كما في الصحيح: أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت، وهو معلوم من فعله عليه الصلاة والسلام إذ كان في ¬

_ (¬1) سورة الإنسان الآية 8 (¬2) سورة الحشر الآية 9

غزوة أقرب الناس إلى العدو، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت، وقد استبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: "لن تراعوا"، وهذا فعل من آثر بنفسه، وحديث علي بن أبي طالب في مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عزم الكفار على قتله مشهور، وفي المثل الشائع: والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ومن الصوفية من يعرف المحبة بأنها: الإيثار، ويدل على ذلك قول امرأة العزيز في يوسف عليه السلام: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬1) فآثرته بالبراءة على نفسها. قال النووي: أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس بخلاف القربات، فإن الحق فيها لله، وهذا مع ما قبله على مراتب والناس في ذلك مختلفون باختلاف أحوالهم في الاتصاف بأوصاف التوكل المحض واليقين التام، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر جميع ماله ومن عمر النصف، ورد أبا لبابة وكعب بن مالك إلى الثلث، قال ابن العربي: لقصورهما عن درجتي أبي بكر وعمر، وهذا ما قال. وتحصل أن الإيثار هنا مبني على إسقاط الحظوظ العاجلة فتحمل المضرة اللاحقة بسبب ذلك لا عتب فيه إذا لم يخل بمقصد شرعي فإن أخل بمقصد شرعي فلا يعد ذلك إسقاطا للحظ ولا هو محمود شرعا. أما أنه ليس بمحمود شرعا؛ فلأن إسقاط الحظوظ إما لمجرد أمر الآمر وإما لأمر ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 51

آخر أو لغير شيء. فكونه لغير شيء عبث لا يقع من العقلاء، وكونه لأمر الآمر يضاد كونه مخلا بمقصد شرعي؛ لأن الإخلال بذلك ليس بأمر الآمر، إذا لم يكن كذلك فهو مخالف له ومخالفة أمر الآمر ضد الموافقة له، فثبت أنه لأمر ثالث وهو الحظ وقد مر بيان الحصر فيما تقدم من مسألة إسقاط الحظوظ. هذا تمام الكلام في القسم الرابع، ومنه يعرف حكم الأقسام الثلاثة المتقدمة بالنسبة إلى إسقاط الحظوظ. انتهى المقصود منه.

ضابط المثلة الممنوعة

2 - ضابط المثلة الممنوعة نذكر فيما يلي بيان معنى المثلة، وما تيسر من الآيات والأحاديث فيها مع كلام بعض العلماء عليها؛ لنستخلص من ذلك ما يجوز من المثلة وما يمتنع، فنقول: أولا: في [القاموس] : مثل: قام منتصبا كمثل بالضم مثولا.. وبفلان مثلا ومثلة بالضم نكل كمثل تمثيلا وهي المثلة بضم الثاء وسكونها ج مثولات ومثلات) . اهـ. المقصود منه. وفي [المفردات في غريب القرآن] للراغب الأصفهاني: والمثلة: نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره، وذلك كالنكال، وجمعه مثلات ومثلات وقد قرئ (من قبلهم المثلات) والمثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد وعضد وقد أمثل السلطان فلانا إذا نكل به) . اهـ. المقصود منه. ثانيا: وفي تفسير ابن جرير: قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الرعد الآية 6

يقول تعالى ذكره: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} (¬1) يا محمد، مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية فيقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬2) وهم يعلمون ما حل بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصيت ربها وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه، فمن أمة مسخت قردة وأخرى خنازير، ومن بين أمة أهلكت بالرجفة وأخرى بالخسف وذلك هو المثلات التي قال الله جل ثناؤه: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (¬3) والمثلات: العقوبات المنكلات، والواحدة منها مثلة، بفتح الميم وضم الثاء ثم تجمع المثلات كما واحد الصدقات صدقة ثم تجمع صدقات، وذكر أن تميما من بين العرب تضم الميم والثاء جميعا من المثلات فالواحدة على لغتهم منها مثلة، ثم تجمع مثلات كغرفة وغرفات، والفعل منه مثلث به أمثل مثلا بفتح الميم وتسكين الثاء فإذا أردت أنك أقصصته من غيره قلت: أمثلته من صاحبه أمثله إمثالا وذلك إذا قصصته منه) اهـ. وفي [تفسير الكشاف] للزمخشري: قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (¬4) أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين فما بالهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا، والمثلة العقوبة بوزن السمرة ¬

_ (¬1) سورة الرعد الآية 6 (¬2) سورة الأنفال الآية 32 (¬3) سورة الرعد الآية 6 (¬4) سورة الرعد الآية 6

والمثالة، لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها. ويقال: أمثلت للرجل من صاحبه أقصصته منه، والمثال القصاص. ثم ذكر قراءات في المثلات، ولغات فيها أغنى عنها ما تقدم. وروى البخاري عن مسلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه (¬1) أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام فقالوا: يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة: وبلغنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. وفي الصحيح عن بريدة بن الحصيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل أنه قال: «لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا (¬2) » . . . . وروى النسائي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمثلوا بالبهائم (¬3) » . ¬

_ (¬1) باب قصة عكل وعرينة. (¬2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) . (¬3) سنن النسائي الضحايا (4440) .

وروى النسائي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من إنسان يقتل عصفورة فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها" قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمى به (¬1) » . ثالثا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) : فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة، حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا، والترك أفضل، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬3) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (¬4) قيل: إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا» أنزل الله هذه الآية- وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (¬5) وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬6) ¬

_ (¬1) سنن النسائي الصيد والذبائح (4349) ، مسند أحمد بن حنبل (2/166) . (¬2) [مجمع الفتاوى] (28\314، 315) . (¬3) سورة النحل الآية 126 (¬4) سورة النحل الآية 127 (¬5) سورة الإسراء الآية 85 (¬6) سورة هود الآية 114

وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بل نصبر". وفي [صحيح مسلم] عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا (¬1) » اهـ. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .

الخلاصة أولا: المثلة: كل ما كان فيه تشويه للخلق من سمل عين أو فقئها أو بقر بطن أو قطع عضو وأمثال ذلك سواء كان ذلك قصاصا أم مجرد نكاية وعقوبة، شفاء لغل وحق أم عبثا ولهوا. ثانيا: ما كان منها قصاصا فهو جائز وتركه أولى؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬1) وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬2) الآيات. وما كان منها في حي لمصلحته فهو جائز، وقد يجب، وقد يمنع حسب اختلاف الأحوال، ولمصلحة غيره، فهو محل نظر ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية 126 (¬2) سورة الشورى الآية 40

واجتهاد، وما كان منها في ميت لمصلحته أو لحق غيره أو لمضطر فهو محل نظر واجتهاد، يعلم تفصيله مما تقدم في بحث (التشريع والقرنية) ، وما كان منها عبثا ولهوا أو لمجرد شفاء غليل فهو محرم.

مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه

3 - مدى ملك الإنسان التصرف في نفسه أو في عضو من أعضائه. سبق في الموضوع الأول من هذا البحث ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب تكريم المسلم ومن في حكمه حيا وميتا، والمحافظة على حرمته في نفسه وأعضائه وبشرته فلا يجوز الخروج عن مقتضى هذه الأدلة إلا بدليل يبيح لنا الاستثناء مما دلت عليه. وسبق في الموضوع الثاني ما قرر العلماء من أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أعلاهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما، تقليلا للضرر وتخفيفا للمشقة والحرج، وإذا تعارضت مصلحة ومفسدة قدم الأرجح منهما وعند تساويهما يرجح جانب الخطر؛ تقديما لدرء المفسدة على جلب المصلحة. وسبق في الموضوع الثالث ذكر نقول عن علماء الإسلام فيها استثناء حالات دعت الضرورة فيها إلى إباحة دم المسلم واقتضت شق بطنه أو جثته أو قطع عضو من أعضائه حيا أو ميتا وليس منه أخذ عين أو قرنيتها من إنسان لزرعها في إنسان آخر تحقيقا لمصلحته مع الإضرار بمن أخذت منه فعلى من يدعي جواز ذلك أن يأتي بدليل يرخص فيه؛ ليمكن استثناؤه من عموم الأدلة الدالة على حرمة المسلم ووجوب المحافظة على نفسه وأعضائه ووجوب مراعاة ذلك.

ونوردها نقلا عن الحنابلة من كتاب [المغني] له صلة بالموضوع. قال أبو محمد بن قدامة رضي الله عنه: مسألة (¬1) . (قال) : ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة، وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقال مالك: إن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر وشرب اللبن وإن خاف أن تقطع يده ولا يقبل منه أكل الميتة، ولأصحاب الشافعي وجهان أحدهما: يأكل الطعام، وهو قول عبد الله بن دينار؛ لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة، كما لو بذله له صاحبه. ولنا: أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى، ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق، ولأن حق الآدمي تلزمه غرامة وحق الله لا عوض له. (فصل) : إذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الامتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى أكل الميتة إلا أن يخاف أن يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضر ويخاف أن يهلكه أو يمرضه. (فصل) : فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له أكل بعض أعضائه، وقال بعض أصحاب الشافعي: له ذلك؛ لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو، كما لو وقعت فيه الأكلة. ولنا: أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا نفسه ولا يتيقن حصول ¬

_ (¬1) [المغني] (9\417) .

البقاء من أكله، أما قطع الأكلة (¬1) فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله. (فصل) : وإن لم يجد إلا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه مسلما كان أو كافرا، لأنه مثلة فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه وهذا لا خلاف فيه. وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي: أن له قتله وأكله؛ لأن قتله مباح، وهكذا قال أصحاب الشافعي؛ لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع وإن وجده ميتا أبيح أكله؛ لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا. وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح وهو أولى، لأن حرمة الحي أعظم. وقال أبو بكر بن داود: أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي (¬2) » واختار أبو الخطاب أن له أكله، وقال: لا حجة في الحديث هاهنا؛ لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافها في الضمان والقصاص ووجود صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت. (مسألة) : قال: (فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه قهرا ليحصي به نفسه وأعطاه ثمنه إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته) وجملته أنه إذا ¬

_ (¬1) في القاموس: الإكلة: الحكة، كالأكال والأكلة كغراب وفرحة. اهـ. المقصود منه. (¬2) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1617) .

اضطر فلم يجد إلا طعاما لغيره نظرنا فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به ولم يجز لأحد أخذه منه؛ لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه؛ لأنه قتله بغير حق. وإن لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله للمضطر؛ لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما يلزمه بذل منافعه في إنجائه من الغرق والحريق، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه؛ لأنه مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كغير ماله، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر؛ لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه لإمكان الوصول إليه دونها فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فذكر القاضي أن له قتاله، والأولى أن لا يجوز له ذلك لإمكان الوصول إليه بدونها، وإن اشتراه بأكثر من ثمن مثله لم يلزمه إلا ثمن مثله؛ لأنه صار مستحقا له بقيمته ويلزمه عوضه في كل موضع أخذه فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته. ولا يباح للمضطر من مال أخيه إلا ما يباح من الميتة. اهـ. المقصود منه. مجمل ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في [المغني] : 1 - أبيح للمضطر ما كان محرما عليه من أكل زرع غيره أو ثمره أو شرب لبن أنعامه بلا إذنه إبقاء على نفسه أو أكل الميتة إبقاء على يده حتى لا تقطع فيما لو أكل من الثمر ولم يصدق في دعوى اضطراره، وفي هذا دلالة على وجوب حفظ النفس والعضو وتحريم بذلها لغيره عند هؤلاء.

2 - لا يحل لمضطر أن يمتنع عن طعام أو شراب بذل إليه بعوض أو بغير عوض، وفي هذا دلالة على أن بذلك نفسه أو عضو منها أو تفويت شيء من ذلك ليس إليه، بل يجب عليه المحافظة على ذلك ما استطاع. 3 - في أكل المضطر بعض أعضائه خلاف، قيل: يمنع خشية أن يفضي إلى قتله، وقيل: يجوز ارتكابا لأخف الضررين. 4 - ليس للمضطر أن يقتل محقون الدم مطلقا أو يقطع عضوا من أعضائه لسد حاجته أو حفظ نفسه إجماعا، وإن وجده ميتا ففي جواز أكله منه؛ إيثارا لحق الحي ومنعه منه محافظة على حرمة الميت- قولان. 5 - من اضطر إلى طعام ووجده عند مستغن عنه وجب عليه أخذه ولو بعوض، فإن أبى صاحبه وهو مضطر إليه أيضا وجب تركه له، وإن كان مستغنيا عنه وجب أخذه منه كرها ولو بقتال وفي وجوب العوض عليه خلاف، فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن قتل صاحب الطعام فهو هدر؛ لأنه ظالم وفي هذا دلالة على وجوب حفظ الإنسان نفسه وأعضاءه وإثمه بتفويت ذلك. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء رقم 62 بشأن نقل قرنية العين

قرار هيئة كبار العلماء رقم (62) وتاريخ 25\10\1398هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: ففي الدورة الثالثة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف في النصف الأخير من شهر شوال عام 1398 هـ - اطلع المجلس على بحث نقل القرنية من عين إنسان إلى آخر الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بناء على اقتراح سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في كتابه رقم (4572\2\1\ د) واطلع على ما ذكره جماعة من المتخصصين في أمراض العيون وعلاجها عن نجاح هذه العملية، وأن النجاح يتراوح بين 50% و 95% تبعا لاختلاف الظروف والأحوال. وبعد الدراسة والمناقشة، وتبادل وجهات النظر قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: أولا: جواز نقل قرنية عين من إنسان بعد التأكد من موته وزرعها في عين إنسان مسلم مضطر إليها وغلب على الظن نجاح عملية زرعها ما لم يمنع أولياؤه، وذلك بناء على قاعدة: تحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه والانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به، ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنية عينه شيء، فإن عينه إلى الدمار والتحول إلى رفات، وليس في أخذ

قرنية عينه مثلة ظاهرة، فإن عينه قد أغمضت، وطبق جفناها أعلاهما على الأسفل. ثانيا: جواز نقل قرنية سليمة من عين قرر طبيا نزعها من إنسان، لتوقع خطر عليه من بقائها، وزرعها في عين مسلم آخر مضطر إليها، فإن نزعها إنما كان محافظة على صحة صاحبها أصالة، ولا ضرر يلحقه من نقلها إلى غيره وفي زرعها في عين آخر منفعة له، فكان ذلك مقتضى الشرع، وموجب الإنسانية. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء محمد بن جبير أرى جواز النقل مطلقا ... عبد الله خياط ... سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين ... عبد الله بن قعود متوقف في النقل من المسلم الميت فقط عبد المجيد حسن أرى جواز النقل مطلقا ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد العزيز بن صالح غائب رئيس الدورة محمد بن علي الحركان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

قرار هيئة كبار العلماء رقم 65 بشأن إنشاء بنك إسلامي لحفظ الدم

قرار هيئة كبار العلماء رقم (65) وتاريخ 7\ 2\ 1399هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد.. ففي الدورة الثالثة الاستثنائية لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من 1\2\1399هـ إلى 6 منه اطلع المجلس على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم (7815) في 28\8\1398 هـ. المبني على ما ورد إليه من المقام السامي لإجراء ما يلزم نحو ما اقترحه المدعو\ فتوح بن سليمان النجار من إنشاء بنك إسلامي؛ لحفظ الدم للإسعاف السريع لجرحى المسلمين وقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم والاحتفاظ بكميات هائلة منه لإسعاف جرحى المسلمين. وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: أولا: يجوز أن يتبرع الإنسان من دمه بما لا يضره عند الحاجة إلى ذلك لإسعاف من يحتاجه من المسلمين. ثانيا: يجوز إنشاء بنك إسلامي لقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم وحفظ ذلك لإسعاف من يحتاج إليه من المسلمين، على أن لا يأخذ البنك مقابلا ماليا عن المرضى أو أولياء أمورهم عوضا عما يسعفهم به من

الدماء، وألا يتخذ ذلك وسيلة تجارية للكسب؛ لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين. والله الموفق، وصلى الله على محمد. هيئة كبار العلماء عبد الله بن خياط لم يحضر الدورة ... سليمان بن عبيد راشد بن خنين لسبق صدور قرار بجواز نقل الدم ولكون بنوك الدم موجودة في البنوك الإسلامية فإنه لم يظهر لي ما يدعو إصدار هذا القرار ... عبد الله بن غديان متوقف عن إصدار القرار ... عبد الله بن قعود متوقف في الفقرة الثانية والأولى سبق أن صدر فيها قرار عبد الله بن محمد بن حميد لا داعي لإصدار قرار إذ أن السائل فرد من أفراد الناس وقد سبق أن صدر قرار بجواز نقل الدم عند الضرورة على أن لا يلحق بالمتبرع بدمه ضرر أيضا إذا أنا متوقف ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن جبير ... صالح بن غصون ... عبد الله بن منيع رئيس الدورة ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن علي الحركان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد المجيد بن حسن ... صالح بن لحيدان سبق أن صدر قرار بجواز نقل الدم وأما البنوك في المستشفيات فلا حاجة إلى إعداد قرار جديد بهذا المخصوص ولذا توقفت

قرار هيئة كبار العلماء رقم 99 بشأن نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم

قرار هيئة كبار العلماء رقم (99) وتاريخ 6\ 11\1402هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد: فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العشرين المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الخامس والعشرين من شهر شوال حتى السادس من شهر ذي القعدة 1402هـ - بحث حكم نقل عضو من إنسان إلى آخر بناء على الأسئلة الواردة فيه إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكان منها السؤال الوارد من الدكتور نزار فتيح المدير التنفيذي بالنيابة والمستشار والمشرف على أعمال الإدارة بمستشفى الملك فيصل التخصصي بكتابه المؤرخ في 15\8\ 1401 هـ، والسؤال الوارد من الشيخ عبد الملك بن محمود رئيس محكمة الاستئناف في نيجيريا المحالان إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بكتابيه رقم (1427) وتاريخ 16\6\1402 هـ، ورقم (590\ ب) وتاريخ 1\5\1402 هـ لعرضهما على المجلس. وقد رجع المجلس إلى قراره رقم (47) وتاريخ 20\8\1396 هـ الصادر في حكم تشريح جثة الإنسان الميت، وإلى قراره رقم (62) وتاريخ 25\10\1398 هـ الصادر في حكم نزع القرنية، وإلى قراره رقم (65) وتاريخ 7\2\1399 هـ الصادر في حكم التبرع بالدم وإنشاء بنك لحفظه، ثم استمع إلى البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة

للبحوث العلمية والإفتاء من قبل في حكم نقل دم أو عضو أو جزئه من إنسان إلى آخره. وبعد المناقشة وتداول الآراء قرر المجلس بالإجماع: جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا ادعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه. كما قرر بالأكثرية ما يلي: أ- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه. 2 - جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وسلم. هيئة كبار العلماء حمد بن علي الحركان سليمان بن عبيد راشد بن خنين أرى اشتراط إذن الإنسان المسلم قبل موته فيما ينقل من أعضائه بعد موته عبد الله بن غديان عبد الله بن قعود متوقف فيما عدا ما أجمع عليه المجلس عبد الله بن محمد بن حميد لم يحضر الدورة لمرضه عبد العزيز بن صالح لم يحضر الدورة لظروف خاصة به محمد بن جبير صالح بن غصون رئيس الدورة عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز متوقف عبد الله خياط إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد المجيد حسن صالح بن لحيدان

شارات الطيارين

(2) شارات الطيارين هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم شارات الطيارين إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه وبعد: فبناء على المحضر رقم 3 من محاضر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثالثة المنعقدة فيما بين 1 إلى 6 من شهر صفر عام 1399هـ الآتي نصه: موضوع شارات الطيارين الذي قدمه قائد جناح التعليم بكلية الملك فيصل الجوية بخطابه المؤرخ في 25\6\1398 هـ إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومسألة تتويج شعارات وشارات أسراب الطائرات للقوات الجوية الملكية السعودية بآيات كريمة من القرآن الكريم، حيث ينتهي كل سرب إلى آية من الآيات التي تحث على الجهاد والشجاعة ونحو ذلك، وتلك الشعارات تلبس على ملابس الطيارين فوق الصدور، وتثبت على الطائرات وتحفر على المعدن

والخشب الجيد فتقدم هدايا لكبار الضيوف. فأحاله سماحة الرئيس العام إلى فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء برقم 1448\1 وتاريخ 29\6\1398 هـ لعرضه على المجلس. وبعد أن استمع المجلس إلى الخطاب المذكور واطلع أعضاؤه على اللوحتين اللتين أرسلهما قائد جناح الكلية لهذا الغرض رأى: أن يحال الموضوع إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء؛ ليعد فيه بحثا يشتمل على الحكم وتعليله مع نقل كلام أهل العلم في المسألة ثم يعرض في الدورة القادمة إن شاء الله. وبناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك شمل ما يأتي: أولا: استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله. ثانيا: مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك. ثالثا: امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتبت فيه وقضاء حاجته به في حمام أو غيره وطرحه مع غيره من العدد في المخازن ورميه حين بلاه. رابعا: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ أو النصر. وبالله التوفيق. وفيما يلي ذكر ذلك:

أولا استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله

أولا: استعمال آيات القرآن في غير ما أنزلت من أجله: أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن حجة على العالمين ومنهاجا للناس أجمعين، أنزله ليكون دستور أمة ومنهاج حياة، دستور أمة يحكمها بأوامره

ونواهيه في جميع شئونها، ومنهاج حياة يحكم الفرد كذلك في عبادته ومعاملته وسلوكه، أنزله ليتعبد الناس بتلاوته، وليتدبروا معانيه فيعرفوا أحكامه ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، يؤمنون بمتشابهه، ويتلونه حق تلاوته، وليكون موعظة وذكرى تلين به قلوبهم وتقشعر منه جلودهم، وشفاء وطهرة يشفي النفوس ويطهرها من أدران الشكوك وما ارتكبته من المعاصي والذنوب، وهدى ورحمة لمن فتح له قلبه أو ألقى السمع وهو شهيد. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1) وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬2) وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (¬3) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4) وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (¬5) وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} (¬6) ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت الآية 51 (¬2) سورة المائدة الآية 49 (¬3) سورة طه الآية 123 (¬4) سورة يونس الآية 57 (¬5) سورة الإسراء الآية 82 (¬6) سورة الزمر الآية 23

وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬1) وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (¬2) ولم ينزله سبحانه وتعالى ليكتب في لوحة معدنية أو خشبية أو غيرها، ليعلق على الطائرات ونحوها، ولا ليكتب كذلك على ملابس الطيارين ونحوهم فوق الصدور، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نزل عليه القرآن وهو بأحكامه أعرف وبمنزلته أعلم- أنه اتخذه أو آيات منه شارة على كتفه أو صدره، ولا من خلفائه الراشدين وأتباعهم بإحسان، ولو كان شيء اتخذه على النحو المذكور؛ لبينوه، وسابقوا إلى فعله، رضوان الله عليهم أجمعين. فمن انتفع بالقرآن فيما أنزل من أجله فهو على بينة من ربه وهدى وبصيرة، ومن اتخذه على النحو المسئول عنه فقد انحرف بكتاب الله أو بآية أو بسورة منه عن جادة الهدى، وحاد عن الطريق السوي والصراط المستقيم، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم قولا أو عملا، ولا عمل به الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا أئمة الهدى في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم أنها خير القرون. ¬

_ (¬1) سورة ق الآية 37 (¬2) سورة العنكبوت الآية 49

ثانيا مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك

ثانيا: مشابهة الكفار في جنس اتخاذ الشعارات وتقليدهم في ذلك: إن تشبه إنسان بآخر أو جماعة بأخرى في الأزياء والملابس أو في الأفعال والأخلاق أو في الشعار والمعاملة والمظاهر- مما يدل على تأثره بمن تشبه به، وميله إليه؛ لذلك نهى الله تعالى في كتابه عن التشبه بالكافرين وحذر

النبي صلى الله عليه وسلم من مضاهاتهم في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم ومراسيمهم؛ خشية أن تنجذب نفسه إليهم وينجرف في تيارهم، وتتلاشى شخصيته فيهم، وذلك هو البلاء المبين. أ- أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد ذكر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قاعدة عامة في التحذير من التشبه بالكافرين واستشهد لها بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبين وجه دلالة ما ساق من النصوص على ثبوت تلك القاعدة وشمولها فقال رحمه الله: فصل: في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة، بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان ذلك عاما في جميع أنواع المخالفات أو خاصا ببعضها، وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب. ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا. وهنا نكتة -قد نبهت عليها في هذا الكتاب- وهي: أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون، لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة، بمعنى: أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة

والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة " ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم، وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى ... إلى غير ذلك من الفوائد. كذلك قد نتضرر بمتابعتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة، لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه، لكن عبر عن ذلك بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة، ومخالفتهم دليلا على المصلحة. واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران. أعني: الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه، ومن نفس مشاركتهم فيه، وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما، فلا بد من التفطن لهذا المعنى، فإنه به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا. واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم، أو الاستلزام، وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه. فنحن نذكر في آيات الكتاب: ما يدل على أصل هذه القاعدة في

الجملة، ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها. الآيات الآمرة بمخالفة أهل الكتاب. قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1) {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬2) {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3) {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (¬4) أخبر سبحانه: أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواؤهم: هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك، فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه؛ ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن ¬

_ (¬1) سورة الجاثية الآية 16 (¬2) سورة الجاثية الآية 17 (¬3) سورة الجاثية الآية 18 (¬4) سورة الجاثية الآية 19

من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه.

النهي عن اتباع أهوائهم وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول أظهر. وفي هذا الباب قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} (¬1) {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (¬2) فالضمير هو في أهوائهم يعود -والله أعلم- إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعض ما أنزل إليه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن: من يهودي أو نصراني أو غيرهما، وقد قال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬3) ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم، وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك. ومن هذا أيضا قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (¬4) فانظر كيف قال في الخبر: " ملتهم "، وقال في النهي: " أهواءهم "؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم ¬

_ (¬1) سورة الرعد الآية 36 (¬2) سورة الرعد الآية 37 (¬3) سورة البقرة الآية 120 (¬4) سورة البقرة الآية 120

في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه، كما تقدم. ومن هذا الباب قوله سبحانه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2) {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (¬3) {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4) {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬5) {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬6) قال غير واحد من السلف: معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬7) وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 145 (¬2) سورة البقرة الآية 146 (¬3) سورة البقرة الآية 147 (¬4) سورة البقرة الآية 148 (¬5) سورة البقرة الآية 149 (¬6) سورة البقرة الآية 150 (¬7) سورة البقرة الآية 150

حكمة نسخ القبلة مخالفة للكافرين فقد بين الله سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة. وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬1) وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر «أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة (¬2) » مع أن قوله: «لا تكن مثل فلان (¬3) » ، قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى، وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع، ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا- كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة. وقال سبحانه لموسى وهارون: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4) وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (¬5) وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} (¬6) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية 105 (¬2) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) . (¬3) صحيح البخاري الجمعة (1152) . (¬4) سورة يونس الآية 89 (¬5) سورة الأعراف الآية 142 (¬6) سورة النساء الآية 115

إلى غير ذلك من الآيات. وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين، بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون، وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه، ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه. صفات المؤمنين والمنافقين قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (¬1) {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (¬2) ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه، وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه. واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه- كثير مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (¬3) وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 48 (¬2) سورة المائدة الآية 49 (¬3) سورة الحشر الآية 2 (¬4) سورة يوسف الآية 111

وأمثال ذلك. ومنه ما يدل على مقصودنا، ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود. ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا، فجميع الآيات دالة على ذلك، وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا فهذا إنما يدل عليه بعض الآيات دون بعض. ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة، إذ كان هذا هو المقصود هنا. وأما تمييز دلالة الوجوب، أو الواجب عن غيرها، وتمييز الواجب عن غيره، فليس هو المقصود هنا. وسنذكر إن شاء الله: أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة، فإنه هو المسألة المقصودة هنا بعينها، وسائر المسائل سواها إنما جلبها إلى هنا تقريرات القاعدة الكلية العظيمة المنفعة وقال في موضع آخر: ما جاء من الأحاديث في التحذير من التشبه بالمغضوب عليهم والضالين: ثم هذا الذي دل عليه الكتاب: من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك، دلت عليه أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأويل الآية -على ذلك- أصحابه رضي الله عنهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذن كما

أخذت الأمم من قبلكم: ذراعا بذراع، وشبرا بشبر، وباعا بباع، حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم الآية، قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب. قال: فهل الناس إلا هم (¬2) » . وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في هذه الآية أنه قال: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه. وأما السنة: فجاءت الأخبار بمشابهتهم في الدنيا، وذم ذلك، والنهي عن ذلك، وكذلك في الدين (¬3) ثم ذكر ما يدل على ما ذكره، ورأينا الاقتصار على ما نقلناه؛ لحصول المقصود به. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، سنن ابن ماجه الفتن (3994) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) . (¬2) سورة التوبة الآية 69 (¬1) {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} (¬3) [اقتضاء الصراط المستقيم] لشيخ الإسلام ابن تيمية (1\ 107، 108) .

ب- قال الشاطبي رحمه الله: المسألة الحادية عشرة: فإن الحديث الصحيح قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر،

وذراعا بذراع، حتى دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن، زيادة إلى حديث الترمذي الغريب، فدل ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم. وفي الصحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم (¬2) » ، وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى، وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع، وتزيد عليها بدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين، ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر، وقد مر أن ذلك لا يعرف أو لا يسوغ التعريف به، وإن عرف فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة، والله أعلم. وفي الحديث أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بمأخذ الأمم والقرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع فقال رجل: يا رسول الله، كما فعلت فارس والروم. قال صلى الله عليه وسلم: وهل الناس إلا أولئك (¬3) » وهو بمعنى الأول، إلا أنه ليس فيه ضرب مثل، فقوله: «حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها (¬4) » يدل على أنها تأخذ ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) . (¬2) الصواب: حنين. (¬1) (¬3) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، سنن ابن ماجه الفتن (3994) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) . (¬4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، سنن ابن ماجه الفتن (3994) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .

بمثل ما أخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها، فالذي يدل على الأول قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم (¬1) » . . . الحديث، فإنه قال فيه: «حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم (¬2) » . والذي يدل على الثاني قوله: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، فقال عليه السلام: «هذا كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها (¬3) » . . . الحديث. فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه. والله أعلم (¬4) ج- قال محمد رشيد رحمه الله: لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة - أو التشبه بالنصارى: يسافر في كل سنة عدد عظيم من أمراء المصريين وحكامهم، ووجهائهم إلى أوربا فيلبسون فيها لبوس الإفرنج ويتزيون بزيهم لا يدعون منه شيئا على أن زي هؤلاء في الأغلب هو الزي الإفرنجي لا فرق إلا فيما يوضع على الرأس، فأكثر المصريين يتبعون حكامهم بلبس الطربوش الذي أخذه الترك عن الروم، وهم في أوربا يلبسون البرنيطة، لا فرق في ذلك بين الأمير والمأمور إلا أفرادا يعدهم الجمهور شذاذا، ويلومون بعضهم على محافظتهم على لبس الطربوش هناك، ويظن أكثر المسلمين أن لبس ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) . (¬2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3456) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) . (¬3) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) . (¬4) [الاعتصام] (2\245، 246) .

البرنيطة مخل بالدين الإسلامي، حتى إن [جريدة الحاضرة] تجرأت منذ عامين على التعريض بعزيز مصر لما بلغها من لبسه البرنيطة في أوربا وقالت: إن هذا ممنوع في الإسلام، وأجبناها يومئذ في [المنار] . ونرى الناس يلهجون في هذه الأيام بخبر فتوى من بعض العلماء بعدم إخلال لبس البرنيطة بالدين الإسلامي، قالوا: إن رجلا من مسلمي الترانسفال سأل العالم عن ذلك، وقال له: إن المسلمين في تلك البلاد مضطهدون ومهضومو الحقوق؛ لأنهم مسلمون، وأنه لا طريق إلى معاملة حكامهم وجيرانهم لهم بالمساواة إلا مساواتهم لهم في زيهم، ولا يتم ذلك إلا بلبس البرنيطة. فأجابه العالم: بأن اللبس من أمور العادات لا من أمور الدين، وأن ما قاله بعض الفقهاء من كراهة التشبه بالكافر في عاداته قد قيدوه بقصد التعظيم لدينه لا بقصد المصلحة، وأهل الترانسفال على ما يقول السائل لا يقصدون إلى ذلك، بل تحملوا كثيرا من الأذى في تركه، والضرورات تبيح المحظورات، فأمر الكراهة أهون. هذا ما سمعناه في المسألة، وقال: إن بعض المتفقهة استكبروا الأمر وعدوه من المشكلات الدينية، وطفقوا يتهامسون ويتباحثون فيه وما ذاك إلا من قلة الفقه ومن عدم النظر في السنة وفي تاريخ الأمة، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس الجبة الرومية، وهي من لبوس النصارى، ولبس الطيالسة الكسروية، وهي من لبوس مجوس الفرس، وكذلك الصحابة عليهم الرضوان لبسوا في كل بلاد فتحوها من لبوس أهلها، حتى قلنسوة النصارى بغير نكير، إلا ما كتبه عمر إلى عتبة بن غرقد لما خشي

على قومه الترف والسرف وفساد البأس والمنعة، فقد كتب إليه يأمره بالبروز إلى الشمس وبالخشونة وبترك زي الأعاجم، وهو أمر للمصلحة لا للتشريع كيف وعمر يعلم أن الشارع قد لبس لبوس الأعاجم. وقد لبس المسلمون بأمر المنصور قلانس كقلانس الكفار، ولم ينكر ذلك أحد إلا ما كان من هزل بعض الشعراء، ولكن المسلمين وجموا واستنكروا تغيير السلطان محمود العثماني زي قومه بزي الإفرنج؛ لما كانوا عليه من الجمود على العادات، ولكن عقلاء الترك الآن يعدون ذلك أصلا من أصول الإصلاح، لا لأن تغيير الزي كبير النفع؛ ولكن لما فيه من زلزال ذلك الجمود الذي كان مانعا من اقتباس الدولة كثيرا من النظام النافع في الجند والإدارة والسياسة عن أوربا التي سبقت وبرزت فيه، وقد رأينا أثر سبقها وجمودنا باستيلائها على معظم بلاد المسلمين، نعم، إنني لا أنكر أن اختيار التشبه بالأجنبي هو أثر الضعف القاضي باحتذاء المغلوب مثال الغالب في زيه وعادته، وأنه ينبغي للأمة أن تحافظ على عادتها أشد المحافظة ما لم تكن ضارة، وإذا أرادت استبدال عادة بأخرى فليكن ذلك بحسب المصلحة، لا تقليدا محضا للأجنبي، ولا أنكر أن المصريين الذين يلبسون البرنيطة في أوربا ملومون، وأن سبب لبسهم إياها ضعف العزيمة ولكنني لا أقول إنهم قد عصوا الله تعالى واستحقوا عقوبته بذلك. ولو كان أمر اللبس من أمور الدين لوجب أن نتبع فيه الشارع، وقد كان يلبس الإزار والرداء ولم يلبس السراويل قط، بل لم يلبس هذه الجبة والفرجية ذات الأكمام الواسعة والأذيال الطويلة التي جمد عليها علماء المسلمين لهذا العهد، ولكنه نهى عنها، ولبس الجبة الرومية الضيقة الأكمام، فكان يتعذر

الوضوء بها، حتى كان يخرج يده من أسفلها عند الوضوء ليغسلهما. وقد كنت كتبت في موضوع اللباس والتشبه فيه بالأجانب عشرات من الصحائف في كتاب [الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية] ذكرت فيه حكم الملابس في الدين وفي المنفعة وفي الذوق وفي عرف الصوفية وفي السياسة، وذكرنا حكم التقليد فيها وقد جاء في أول الفصل المعقود للبحث في (كيفية اللبوس والتقليد فيه) ما نصه: قد علم مما تقدم: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وبعض أصحابه عليهم الرضوان- قد لبسوا القباء والفروج والطيالسة الكسروية، واستعملوا المياثر، وكل ذلك من لبوس الفرس، وأنهم لبسوا أيضا البرانس والجبب الرومية وهي من لبوس النصارى، والجبة الرومية لم يتقدم لها ذكر. وقد ثبت في [الصحيحين] أن «النبي صلى الله عليه وسلم لبسها فكان يخرج يديه من أسفلها عند إرادة غسلهما في الوضوء؛ (¬1) » لضيق أكمامهما الذي لا يمكن معه التشمير، ولبسوا أيضا البرود والحبر المخططة والمعلمة، وهي من لبوس اليمن، وتلك الثياب كانت كغيرها تجلب إليهم من العراق والشام ومصر واليمن، لا أنهم كانوا يحتذون مثال هذه الشعوب في صنع لبوسها إذ لم يكونوا أصحاب صنائع، وفي ذلك دليل على أن الشرع ينيط أمر اللباس من حيث كيفية الأثواب وتفاصيلها باختيار اللابس، ولا يحظر على شعب وقبيل استعمال جديلة شعب آخر؛ لأنها أمور عادية لا تتعلق بحقوق الله تعالى ولا بحقوق الخلق لذاتها، نعم، كان أكثر ما يلبس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الرداء والإزار تبعا لعادة قومه لا لوحي نزل بأولوية ذلك وأفضليته شرعا على أنه مناسب لحالة القطر الحجازي الحار، وإذ لم يرد في الشرع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري اللباس (5798) ، سنن النسائي كتاب الطهارة (82) ، سنن أبو داود الطهارة (149) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/250) ، موطأ مالك الطهارة (73) .

تفضيل كيفية مخصوصة وشكل معين في الملابس؛ لأن الشرع نزل فيما هو أهم من ذلك- فينبغي أن يناط ذلك بالرأي الصحيح، وهو إنما يرجح ما يوافق حالة المكان والزمان) انتهى المراد منه وبعد هذا تفصيل في تفضيل بعض الملابس على بعض لاختلاف الزمان والمكان. وقد حكم الفقهاء العادة في أمر الملابس حتى في الشرع، فاستحبوا ما كرهته السنة لمعنى يقتضي الكراهة مع بقاء ذلك المعنى، وحجتهم: أنه صار عادة، فقد ورد في الحديث النهي عن إطالة الثياب ووعيد الذي يجر ثوبه خيلاء، واتفق الفقهاء على أن إطالة الأذيال أو الأكمام للخيلاء حرام، ولغير الخيلاء مكروه شرعا، ثم إنك ترى مثل الشيخ الحفني يقول في تفسير الحديث من حاشيته على [الجامع الصغير] : إن كراهة زيادة طول الثوب عن الكعبين لغير المختال مخصوصة بمن لم يصر ذلك عادة لهم كأهل مصر. وقال النووي في [شرح مسلم] نقلا عن القاضي عياض وأقره: وبالجملة: يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة، والله أعلم. وذكر الشمس الرملي في [شرح المنهاج] : أن إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف وتضييع للمال، ثم قال: نعم، ما صار شعارا للعلماء يندب لهم لبسه، ليعرفوا بذلك فيسألوا وليطاعوا فيما عنه زجروا، فأنت ترى أنهم جعلوا المحظور بنص الشارع مندوبا شرعا، وقد رأيت ضعف شبهتهم فإننا إذا سلمنا لهم بأنه ينبغي أن يكون للعلماء زي خاص نقول: إنه ينبغي أن يكون ذلك الزي مما لم ينه عنه الشارع نهيا صريحا، ولئن صح ما يقولون من تحكيم العادة بالشرع من غير ضرورة ولا

حاجة، ليكونن وزر هذا الزي المنهي عنه في السنة على من اخترعه لهؤلاء العلماء من سلفهم الذين كانوا خيرا منهم باعترافهم، ولا أعرف المخترع الأول لزي علماء مصر، وهو أبعد الأزياء عن أدب السنة وعن الذوق وعن المصلحة من حيث السعة والطول، ولكنني أعلم أن أول من اتخذ لأهل العلم زيا مخصوصا فقلدوه فيه بالتدريج هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (رح) ، وما أظن أنه كان من السعة والطول بالقدر الذي نشاهد، ولا براءة من هذا إلا بجعل ابتداء العادة كاستمرارها، ولقد بلغ من سلطان العادة على علمائنا أنهم صاروا ينكرون على من يخالفهم من أبناء صنفهم في الأردان المكبرة والأذيال المجررة، فلا عجب إذا حملت العادة بعضهم على إنكار لبس قلنسوة النصارى، ولو لضرورة دفع مفسدة أو جلب مصلحة، مع العلم بأن الصحابة والتابعين لبسوا في صدر الإسلام البرانس، وهي من قلانس النصارى، كما في [البخاري وشرحه] . أما حجة هؤلاء وأمثالهم التي تروج عند العامة فهي: أن ذلك تشبه بالنصارى الذين يجب علينا مخالفتهم و....، وهذا الكلام غير صحيح على إطلاقه، وإنما هو مقيد بالمخالفة في الأمور الدينية التي لا يوجد في ديننا ما يؤيدها كالأناشيد في الجنائز وحمل المباخر ونحوها أمام النعش واتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد وغير ذلك مما تشبهنا بهم فيه، بل جعلناه من شعائر ديننا مع النهي عنه في الأحاديث الصحيحة، وأما الأمور الدنيوية كالأكل والزي فليس مما تجب فيه المخالفة، بل تقارب الناس في العادات يؤلف بينهم ويزيل التنافر الذي يعمي كل فريق عن فضائل الآخر- وإذا زال التنافر ظهر الحق على الباطل، وقد علمت أن النبي وأصحابه

لبسوا زي المشركين والمجوس، بله النصارى الذين نطق القرآن الحكيم بأنهم أقرب مودة لنا، وأكثر ما قاله الفقهاء في هذا: أنه يكره أن يأتي المسلم أمرا بقصد التشبه بالأجنبي عن دينه، بل يأتيه أو يتركه للفائدة والمصلحة أو عدمهما، ولا أرى من مصلحة المصريين أن يلبسوا قلنسوة الإفرنج (البرنيطة) ؛ لأن هذا من مضعفات الرجاء باستقلالهم. وأما أهل الترانسفال وأهل الرجاء الصالح فلا رجاء في استقلالهم؛ لقلتهم وغلبة الإفرنج عليهم في كل شيء على أنه ينبغي لهم المحافظة على كل ما لا تضرهم المحافظة عليه من عاداتهم التي لا تخالف الشرع. أما اتقاء الضرر فواجب شرعا إن كان محققا، ومندوب إن كان مظنونا، هذه هي القاعدة الشرعية، ولكن أكثر الناس عبيد العادات إلا الذين انسخلوا من التقليد الأعمى، وقد فصلنا القول في مضار تقليد الأجانب في الأثاث والماعون والزينة في كتاب [الحكمة الشرعية] ونقلنا عنه نبذة في [منار السنة الأولى] ، فلتراجع (¬1) . ¬

_ (¬1) [الإيضاح والتنبيه] ص 12- 14.

د- قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله: فصل: وقد كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفا لهدي المشركين، كما في [مستدرك الحاكم] من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هدينا مخالف لهديهم» يعني: المشركين. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي في [تلخيصه] . وقد رواه الشافعي في [مسنده] من حديث ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا،

ولفظه: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك» ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه أنه كان يأمر بمخالفة أعداء الله تعالى وينهى عن التشبه بهم. فمن ذلك ما في الصحيحين، و [مسند الإمام أحمد] و [جامع الترمذي] و [سنن النسائي] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب (¬1) » . ومنها: ما في [صحيح مسلم] عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (¬2) » . ومنها: ما في [الصحيحين] و [المسند] و [السنن] عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم (¬3) » هذا لفظهم سوى الترمذي، ولفظ الترمذي: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود (¬4) » ثم قال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ الإمام أحمد: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى (¬5) » ، وأخرجه ابن حبان في [صحيحه] بهذا اللفظ، وفي رواية للنسائي: «أن اليهود والنصارى لا تصبغ فخالفوا عليهم فاصبغوا (¬6) » . ومنها: ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار، حمروا وصفروا، وخالفوا أهل الكتاب فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون، فقال: تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب (¬7) » . ومنها: ما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي، عن شداد بن أوس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم (¬8) » قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في [تلخيصه] ، وقد رواه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الطهارة (12) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/118) . (¬2) صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) . (¬3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن الترمذي اللباس (1752) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن الترمذي اللباس (1752) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬6) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن الترمذي اللباس (1752) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬7) مسند أحمد بن حنبل (5/265) . (¬8) سنن أبو داود الصلاة (652) .

الطبراني في [الكبير] ، ولفظه: «وصلوا في نعالكم، ولا تشبهوا باليهود» . وما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار، ولا تلبسها (¬1) » ، وفي [الصحيحين] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس: (إياكم والتنعم وزي أهل الشرك) ، ورواه الإمام أحمد في [مسنده] بإسناد صحيح، ولفظه: (ذروا التنعم وزي العجم) ، ورواه أيضا في [كتاب الزهد] بإسناد صحيح ولفظه: (إياكم وزي الأعاجم ونعيمها) . قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: النهي عن التشبه بالعجم للتحريم، وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: التشبه بالكفار منهي عنه بالإجماع، وقال أيضا: إذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم. فصل: وقد ورد التغليظ في التشبه بأعداء الله تعالى، كما في [المسند] و [سنن أبي داود] وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (¬2) » صححه ابن حبان. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إسناده جيد. وقال ابن حجر العسقلاني: إسناده حسن. قال شيخ الإسلام: وقد احتج الإمام أحمد ¬

_ (¬1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2077) ، سنن النسائي الزينة (5317) ، مسند أحمد بن حنبل (2/207) . (¬2) سنن أبو داود اللباس (4031) .

وغيره بهذا الحديث، قال: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (¬1) وقال الشيخ أيضا في موضوع آخر: قوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (¬2) » يوجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا. انتهى. وفي [جامع الترمذي] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى (¬3) » . قال ابن مفلح في قوله: «ليس منا (¬4) » هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم انتهى (¬5) . ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 51 (¬2) سنن أبو داود اللباس (4031) . (¬3) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) . (¬4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) . (¬5) [الإيضاح والتنبيه] ص 12-13.

ثالثا امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتب فيه وقضاء الحاجة به في حمام أو غيره

ثالثا: امتهان آيات القرآن بحمل الجنب للشعار الذي كتب فيه وقضاء الحاجة به في حمام أو غيره وطرحه مع غيره من العدد في المخازن ورميه حين بلاه. أ- قال المنذري رحمه الله في [مختصر سنن أبي داود] رحمه الله: قال أبو داود في [سننه] رحمه الله (¬1) ، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء (18:16) عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (¬2) » . وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه (¬3) » . ¬

_ (¬1) [مختصر سنن أبي داود] ص 26. (¬2) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) . (¬3) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) .

والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام. وقال النسائي: وهذا الحديث غير محفوظ. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. هذا آخر كلامه. وهمام هذا: هو أبو عبد الله همام بن يحيى بن دينار الأزدي والعوذي مولاهم البصري، وإن كان قد تكلم فيه بعضهم، فقد اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، وقال يزيد بن هارون: همام قوي في الحديث، وقال يحيى بن معين: ثقة صالح، وقال أحمد بن حنبل: همام ثبت في كل المشايخ، وقال ابن عدي الجرجائي: وهمام أشهر وأصدق من أن يذكر له حديث منكر، أوله (¬1) حديث منكر، وأحاديثه مستقيمة عن قتادة، وهو مقدم أيضا في يحيى بن أبي كثير، وعامة ما يرويه مستقيم. هذا آخر كلامه. وإذا كان حال همام كذلك فيترجح ما قاله الترمذي. وتفرده به لا يوهن الحديث. وإنما يكون غريبا، كما قال الترمذي. والله عز وجل أعلم. قال ابن القيم رحمه الله: 18 - وقال في آخر باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء، بعد قول الحافظ زكي الدين. وإنما يكون غريبا كما قال الترمذي، والله عز وجل أعلم. قلت: هذا الحديث رواه همام، وهو ثقة، عن ابن جريج عن الزهري عن أنس. قال الدارقطني في [كتاب العلل] : رواه سعيد بن عامر وهدية بن خالد عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهم ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل.

عمرو بن عاصم، فرواه عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس «أنه كان إذا دخل الخلاء (¬1) » موقوفا، ولم يتابع عليه. ورواه يحيى بن المتوكل ويحيى بن الضريس عن ابن جريج عن الزهري عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر ومن تابعه عن همام، ورواه عبد الله بن الحرث المخزومي وأبو عاصم وهشام بن سليمان وموسى بن طارق عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن «أنس: أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فاضطرب الناس الخواتيم، فرمى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا ألبسه أبدا (¬2) » . وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جريج، انتهى كلام الدارقطني. وحديث يحيى بن المتوكل الذي أشار إليه رواه البيهقي من حديث يحيى بن المتوكل عن ابن جريج، ثم قال: هذا شاهد ضعيف. وإنما ضعفه؛ لأن يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد: واهي الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه الجماعة كلهم. وأما حديث يحيى بن الضريس، فيحيى هذا ثقة، فينظر الإسناد إليه. وهمام -وإن كان ثقة صدوقا احتج به الشيخان في [الصحيح]- فإن يحيى بن سعيد كان لا يحدث عنه ولا يرضى حفظه، قال أحمد: ما رأيت يحيى أسوأ رأيا منه في حجاج -يعني: ابن أرطاة - وابن إسحاق وهمام، لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم. وقال يزيد بن زريع -وسئل عن همام -: كتابه صالح، وحفظه لا يسوى شيئا. وقال عفان: كان همام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان يخالف فلا يرجع إلى كتاب، وكان يكره ذلك، قال: ثم رجع بعد فنظر في كتبه، فقال: يا عفان، كنا نخطئ كثيرا فنستغفر الله عز وجل. ولا ريب أنه ¬

_ (¬1) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) . (¬2) صحيح البخاري اللباس (5867) ، سنن الترمذي اللباس (1741) ، سنن النسائي الزينة (5214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) ، موطأ مالك الجامع (1743) .

ثقة صدوق، ولكنه قد خولف في هذا الحديث، ولعله مما حدث به من حفظه فغلط فيه، كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني. وكذلك ذكر البيهقي: أن المشهور عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «اتخذ خاتما من ورق، ثم ألقاه (¬1) » . وعلى هذا فالحديث شاذ أو منكر، كما قال أبو داود، وغريب كما قال الترمذي. فإن قيل: فغاية ما ذكر في تعليله تفرد همام به. وجواب هذا من وجهين: أحدهما: أن هماما لم ينفرد به، كما تقدم. الثاني: أن هماما ثقة، وتفرد الثقة لا يوجب نكارة الحديث. فقد تفرد عبد الله بن دينار بحديث النهي عن بيع الولاء وهبته، وتفرد مالك بحديث دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر. فهذا غايته أن يكون غريبا، كما قال الترمذي، وأما أن يكون منكرا أو شاذا فلا. قيل: التفرد نوعان: تفرد لم يخالف فيه من تفرد به، كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين، وأشباه ذلك. وتفرد خولف فيه المنفرد، كتفرد همام بهذا المتن على هذا الإسناد، فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: «إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق (¬2) » - الحديث، فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلو لم يرو هذا عن ابن جريج وتفرد همام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه. فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله. وأما متابعة يحيى بن المتوكل فضعيفة، وحديث ابن الضريس ينظر في حاله ومن أخرجه. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) . (¬2) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) .

فإن قيل: هذا الحديث كان عند الزهري على وجوه كثيرة، كلها قد رويت عنه في قصة الخاتم، فروى شعيب بن أبي حمزة وعبد الرحمن بن خلاد بن مسافر عن الزهري، كرواية زياد بن سعد هذه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق، (¬1) » ورواه يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس، «كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق فصه حبشي، (¬2) » ورواه سليمان بن بلال وطلحة بن يحيى ويحيى بن نصر بن حاجب عن يونس عن الزهري، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه، فيه فص حبشي، جعله في باطن كفه، ورواه إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ آخر قريب من هذا، ورواه همام عن ابن جريج عن الزهري، كما ذكره الترمذي وصححه. وإذا كانت هذه الروايات كلها عند الزهري فالظاهر أنه حدث بها في أوقات، فما الموجب لتغليط همام وحده؟ قيل: هذه الروايات كلها تدل على غلط همام، فإنها مجمعة على أن الحديث إنما هو في اتخاذ الخاتم ولبسه، وليس في شيء منها نزعه إذا دخل الخلاء. فهذا هو الذي حكم لأجله هؤلاء الحفاظ بنكارة الحديث وشذوذه. والمصحح له لما لم يمكنه دفع هذه العلة حكم بغرابته لأجلها، فلو لم يكن مخالفا لرواية من ذكر فما وجه غرابته؟ ولعل الترمذي موافق للجماعة، فإنه صححه من جهة السند، لثقة الرواة، واستغربه لهذه العلة، وهي التي منعت أبا داود من تصحيحه في [سننه] ، فلا يكون بينهما اختلاف، بل هو صحيح السند لكنه معلول. والله أعلم. ب- قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا سعيد بن عامر والحجاج بن منهال قالا: حدثنا همام عن ابن جريج عن ¬

_ (¬1) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) . (¬2) صحيح البخاري اللباس (5872) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2092) ، سنن النسائي الزينة (5196) ، سنن أبو داود الخاتم (4216) ، سنن ابن ماجه اللباس (3641) ، مسند أحمد بن حنبل (3/275) .

الزهري عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه (¬1) » . هذا حديث حسن صحيح غريب. وقال صاحب [تحفة الأحوذي] رحمه الله: قوله: (إذا دخل الخلاء) أي: أراد دخوله (نزع) أي: أخرج من إصبعه (خاتمه) قال القاري في [المرقاة] : لأن نقشه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على تنحية المستنجي اسم الله واسم رسوله والقرآن، كذا قاله الطيبي، قال الأبهري: ويعم الرسل، وقال ابن حجر: استفيد منه أنه يندب لمريد التبرز أن ينحي كل ما عليه معظم من اسم الله تعالى أو نبي أو ملك، فإن خالف كره. انتهى. وهذا هو الموافق لمذهبنا. انتهى كلام القاري. قوله: (هذا حديث حسن صحيح غريب) قال الحافظ في [التلخيص] : حديث أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، (¬2) » أخرجه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث الزهري عن أنس به. قال النسائي: هذا حديث غير محفوظ. وقال أبو داود: منكر، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وأشار إلى شذوذه، وصححه الترمذي. وقال النووي: هذا مردود عليه، قال في الخلاصة: وقال المنذري: الصواب عندي تصحيحه، فإن رواته ثقات أثبات. وتبعه أبو الفتح القشيري في آخر الاقتراح وعلته أنه من رواية همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس ورواته ثقات، لكن لم يخرج الشيخان رواية همام عن ابن جريج، وابن جريج قيل: لم يسمعه عن الزهري، وإنما رواه عن زياد بن سعد عن الزهري بلفظ آخر، وقد رواه مع همام مع ذلك مرفوعا يحيى بن الضريس البجلي ويحيى بن المتوكل، وأخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمرو بن عاصم وهو من الثقات ¬

_ (¬1) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) . (¬2) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) .

عن همام موقوفا على أنس، وأخرج له البيهقي شاهدا وأشار إلى ضعفه ورجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضا ولفظه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتما نقشه محمد رسول الله فكان إذا دخل الخلاء وضعه، (¬1) » وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الجوزقاني في الأحاديث الضعيفة، وينظر في سنده فإن رجاله ثقات إلا محمد بن إبراهيم الرازي فإنه متروك. انتهى كلام الحافظ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري اللباس (5873) ، سنن أبو داود الخاتم (4218) ، سنن ابن ماجه اللباس (3639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) .

ج- وقال الحطاب رحمه الله: يكره أن يدخل بيت الخلاء بخاتم فيه اسم الله تعالى أو يصر الدراهم في خرقة منجوسة والخلاف في هذا كله. انتهى. وقال في [الطراز] لما تكلم على آداب الاستنجاء: وجوز مالك أن يدخل الخلاء ومعه الدينار والدرهم وإن كان مكتوبا عليه اسم الله تعالى، وقال عنه ابن القاسم في العتبية، إنه يستخف في الخاتم الاستنجاء به، قال: ولو نزعه كان أحب إلي وفيه سعة ولم يكن من مضى يتحفظون من هذا. قال ابن القاسم: وأنا أستنجي به وفيه ذكر الله تعالى، قال ابن حبيب: أكره له ذلك وليحوله في يمينه وهذا حسن، وقد كره مالك أن يعامل أهل الذمة بالدنانير والدراهم التي فيها اسم الله تعالى، وفي الترمذي عن أنس «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (¬1) » . انتهى. ونقله في [الذخيرة] وفي [رسم الشريكين] من سماع ابن القاسم من كتاب الطهارة، وسألت مالكا عن لبس الخاتم فيه ذكر الله تعالى يلبس في الشمال وهل يستنجي به؟ قال مالك: أرجو أن يكون خفيفا. قال ابن رشد: قوله: أرجو أن يكون خفيفا يدل على أنه ضده مكروه وأن نزعه أحسن وكذلك فيما يأتي في رسم مساجد القبائل من هذا السماع وفي رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب ومثله لابن حبيب في ¬

_ (¬1) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) .

الواضحة، ووجه الكراهية فيه بين؛ لأن ما كتب فيه اسم الله تعالى من الحروز يجعل له خرقة، وقد قال مالك رحمه الله تعالى في كتاب التجارة إلى أرض الحرب: إني لأعظم أن يعمد إلى دراهم فيها ذكر الله تعالى فيعطاها نجسا وأعظم ذلك إعظاما شديدا وكرهه، وقال ابن القاسم في رسم مساجد القبائل: وأن أستنتجي بخاتمي وفيه ذكر الله تعالى. ليس بحسن من فعله ويحتمل أن يكون إنما فعله؛ لأنه عض بأصبعه فيشق عليه تحويله إلى اليد الأخرى كلما دخل الخلاء واحتاج إلى الاستنجاء فيكون إنما تسامح فيه لهذا المعنى وهو أشبه بورعه وفضله. انتهى. والذي في رسم مساجد القبائل قيل له: استنجي به وفيه ذكر الله تعالى؟ فقال: إن ذلك عندي خفيف ولو نزعه لكان أحسن، وفي هذا سعة وما كان من مضى يتحفظ في مثل هذا ولا يسأل عنه، قال ابن القاسم: وأنا أستنجي بخاتمي وفيه ذكر الله تعالى. قال ابن رشد: قد مضى الكلام عليه في [رسم الشريكين] ، وقال في أواخر رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب: سئل مالك عن الخاتم فيه ذكر الله تعالى منقوش من الاستنجاء، فقال: إن نزعه فحسن، وما سمعت أحدا انتزع خاتمه عند الاستنجاء فقيل له: فإن استنجى وهو في يديه فلا بأس، قال ابن رشد: قد مضى الكلام عليه في رسم الشريكين وفي آخر سماع سحنون من كتاب الصلاة. د- قال الشيرازي في [المهذب] رحمه الله (¬1) : إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء عليه ذكر الله تعالى، فالمستحب أن ¬

_ (¬1) [المجموع] (2\ 80، 81) .

ينحيه؛ لما روى أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه، (¬1) » وإنما وضعه؛ لأنه كان عليه محمد رسول الله. وقال النووي رحمه الله: (الشرح) حديث أنس هذا مشهور، رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وغيرهم في كتاب الطهارة، والترمذي في اللباس، والنسائي في الزينة، وضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي، قال أبو داود: وهو منكر، وإنما يعرف عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه (¬2) » . وقال النسائي: هذا الحديث غير محفوظ، وخالفهم الترمذي فقال: حديث حسن صحيح غريب. وقوله: وإنما وضعه -إلى آخره- هو من كلام المصنف لا من الحديث ولكنه صحيح، ففي [الصحيحين] ، «أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم كان محمد رسول الله،» ويقال: خاتم، وخاتم بكسر التاء وفتحها وخاتام وخيتام أربع لغات، والخلاء: بالمد وهو الموضع الخالي، وقوله: كان إذا دخل الخلاء، أي: أراد الدخول. أما حكم المسألة فاتفق أصحابنا على استحباب تنحية ما فيه ذكر الله تعالى عند إرادة دخول الخلاء ولا تجب التنحية، وممن صرح بأنه مستحب المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب في تعليقه، والمحاملي في كتبه الثلاثة، وابن الصباغ، والشيخ نصر المقدسي في كتبه الثلاثة: [الانتخاب] و [التهذيب] و [الكافي] ، وآخرون. قال المتولي والرافعي وغيرهما: لا فرق في هذا بين أن يكون المكتوب عليه درهما أو دينارا أو خاتما أو غير ذلك، وكذا إذا كان معه عوذة، وهي الحروز المعروفة- استحب أن ينحيه صرح به المتولي وآخرون، وألحق الغزالي في [الإحياء] و [الوسيط] بذكر الله تعالى اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) . (¬2) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) .

وقال إمام الحرمين: لا يستصحب شيئا عليه اسم معظم ولم يتعرض الجمهور لغير ذكر الله تعالى، وفي اختصاص هذا الأدب بالبنيان وجهان، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: يختص، وقطع الجمهور بأنه يشترك في البنيان والصحراء، وهو ظاهر كلام المصنف وصرح به المحاملي وغيره وإذا كان معه خاتم فقد قلنا: ينزعه قبل الدخول فلو لم ينزعه سهوا أو عمدا ودخل فقيل: يضم عليه كفه لئلا يظهر. قال ابن المنذر: إن لم ينزعه جعل فصه مما يلي بطن كفه، وحكى ابن المنذر عن جماعة من التابعين: ابن المسيب والحسن وابن سيرين، الترخيص في استصحابه. والله أعلم. وقال أحمد بن إبراهيم الدمشقي الشهير بابن النحاس: فصل في بعض ما يشاهد في المساجد من البدع: قال: ومنها: كتابة القرآن في جدران المسجد، ومذهبنا أنه مكروه؛ لأنه تعريض له لوقوع الغبار عليه وقد صرح الحليمي في منهاجه أن من تعظيم الله تعالى وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ننفض الغبار عن المصحف وكتب السنن وألا يوضع عليها شيء من متاع البيت، وكذلك يكره كتابته في جدار غير المسجد، فإن كان في جدار يصعد فوقه إلى غرفة ونحوها كانت الكراهة أشد وربما حرم. والله أعلم (¬1) . هـ - قال ابن قدامة رحمه الله (¬2) : إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه. ¬

_ (¬1) [تنبيه الغافلين] ص 326. (¬2) [المغني] (1\ 167) .

وقال أنس بن مالك: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (¬1) » . رواه ابن ماجه وأبو داود، وقال: هذا حديث منكر. وقيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه؛ لأن فيه: محمد رسول الله ثلاثة أسطر، فإن احتفظ بما معه مما فيه ذكر الله تعالى واحترز عليه من السقوط أو أدار فص الخاتم إلى باطن كفه- فلا بأس. قال أحمد: الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء. وقال عكرمة: اقلبه هكذا في باطن كفك فاقبض عليه، وبه قال إسحاق، ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين. وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال المرداوي رحمه الله (¬2) : قوله: (ولا يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى) الصحيح من المذهب: كراهة دخوله الخلاء بشيء فيه ذكر الله تعالى، إذا لم تكن حاجة. جزم به في [الوجيز] ، و [مجمع البحرين] ، و [الحاوي الكبير] . وقدمه المجد في [شرحه] ، و [ابن تميم] ، و [ابن عبيدان] ، و [النظم] ، و [الفروع] و [الرعايتين] ، وغيرهم. وعنه: لا يكره. قال ابن رجب في [كتاب الخواتم] : والرواية الثانية: لا يكره. وهي اختيار علي بن أبي موسى، والسامري، وصاحب [المغني] . انتهى. قال في [الرعاية] : وقيل: يجوز استصحاب ما فيه ذكر الله تعالى مطلقا، وهو بعيد. انتهى. وقال في [المستوعب] : تركه أولى. قال في النكت: ولعله أقرب. انتهى. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي اللباس (1746) ، سنن النسائي الزينة (5213) ، سنن أبو داود الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (303) . (¬2) [الإنصاف] (1\ 94، 95) .

وقطع ابن عبدوس في [تذكرته] بالتحريم، وما هو ببعيد. قال في [الفروع] : وجزم بعضهم بتحريمه، كمصحف، وفي نسخ: لمصحف. قلت: أما دخول الخلاء بمصحف من غير حاجة فلا شك في تحريمه قطعا، ولا يتوقف في هذا عاقل. تنبيه: حيث دخل الخلاء بخاتم فيه ذكر الله تعالى، جعل فصه في باطن كفه، وإن كان في يساره أداره إلى يمينه، لأجل الاستنجاء. فائدة: لا بأس بحمل الدراهم ونحوها فيه. نص عليهما، وجزم به في [الفروع] وغيره. قال في [الفروع] : ويتوجه في حمل الحرز مثل حمل الدراهم. قال الناظم: بل أولى بالرخصة من حملها. قلت: وظاهر كلام المصنف هنا، وكثير من الأصحاب أن حمل الدراهم في الخلاء كغيرها في الكراهة وعدمها، ثم رأيت ابن رجب في ذكر كتاب الخواتم: أن أحمد نص على كراهة ذلك في رواية إسحاق بن هانئ. فقال في الدرهم: إذا كان فيه (اسم الله) أو مكتوبا عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1) يكره أن يدخل اسم الله الخلاء. انتهى. وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن جندي قال للصائغ: اعمل لي حياصة من ذهب، أو فضة، واكتب عليها (بسم الله الرحمن الرحيم) فهل يجوز ذلك ثم لا بد من إعادتها إلى النار لتمام عملها. وهل يجوز لأحد أن يلبس حياصة ذهب أو فضة؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما حياصة الذهب فمحرمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب والحرير هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها» . ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص الآية 1

وأما حياصة الفضة، ففيها نزاع بين العلماء: وقد أباحها الشافعي وأحمد، في إحدى الروايتين. وأما كتابة القرآن عليها: فيشبه كتابة القرآن على الدرهم والدينار. ولكن يمتاز هذا بأنها تعاد إلى النار بعد الكتابة، وهذا كله مكروه. فإنه يفضي إلى ابتذال القرآن وامتهانه، ووقوعه في المواضع التي ينزه القرآن عنها. فإن الحياصة (¬1) ، والدرهم والدينار ونحو ذلك. هو في معرض الابتذال، والامتهان. وإن كان من العلماء من رخص في حمل الدراهم المكتوب عليها القرآن، فذلك للحاجة، ولم يرخص في كتابة القرآن عليها. والله أعلم (¬2) . ¬

_ (¬1) الحياصة: سير في الحزام [لسان العرب] . (¬2) [مجموع فتاوى ابن تيمية] (25\ 66، 67) .

وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله عن حكم حلية من ذهب مكتوب عليها لفظ الجلالة يلبسها النساء في أعناقهن. فأجاب بما يأتي: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سعادة مدير عام الجمارك ... وفقه الله إلى ما فيه رضاه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: إجابة لكتابكم الكريم رقم (3006) في 20\ 8\ 1398 هـ ومرفقه عينة ذهب مكتوب عليها اسم الجلالة وهي مما يعلقه النساء في أعناقهن وردت إليكم عن طريق مؤسسة\....\ جمرك الرياض. وأفيد سعادتكم: أنه سبق أن صدرت الفتوى من اللجنة الدائمة

للبحوث العلمية والإفتاء بمناسبة ميدالية مفاتيح قدمت لها بما نصه: (إن كتابة آية أو سورة من القرآن على هذه الحلقة خروج بالقرآن عن المقصد الذي أنزل من أجله من الاهتداء به وتلاوته والعمل بما فيه من أحكام، ومخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر السلف الصالح، وفيه تعريض لآيات القرآن للامتهان بحمل الجنب لها وحملها وقت قضاء الحاجة والاستنجاء والجماع ونحو ذلك- وعلى هذا يجب محو ما كتب من القرآن على هذه الحلقة حتى لا يكون لهذه الكتابة أثر؛ صيانة لكتاب الله عن العبث والامتهان واستعماله في غير ما نزل من أجله من المقاصد المشروعة) انتهت الفتوى. وعليه تعلمون حفظكم الله: أن كتابة اسم الجلالة على حلي المرأة فيه تشبه بالكافرات في تعليقهن حليا فيه الصليب ونجمة داود واسم عزير بالإضافة إلى كونه ذريعة إلى اتخاذه حرزا وتميمة يرجى بها دفع الضرر وجلب النفع، وهذا لا يجوز. ومما تقدم يلزم المورد لها ولأمثالها بمحو اسم الجلالة وبعد التأكد من محوه في جميع الكمية المطلوب دخولها لا مانع من السماح لها. وفي حالة عدم محوه فيلزم منعها من الدخول للمملكة؛ حفاظا على عقيدة التوحيد، وسدا لذريعة الشرك، ومنعا للتشبه بالكافرات.. وتجدون برفقه قطعة الحلي المذكورة أعلاه. سائلا المولى جل وعلا أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، وأن يجنبنا جميع سخطه، وأن يثيبكم وجميع العاملين معكم على ما تقومون به في سبيل خدمة عقيدتنا الإسلامية في جميع ثغور المملكة الجوية والبرية

والبحرية، إنه سميع مجيب.

رابعا اتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى

رابعا: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر. إن تعليق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته، واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى- قد يكون ذريعة إلى التبرك به، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره، وتقيه شر الهزائم، وتكفل له النصر في ميادين القتال ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار. ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها وسد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها، وبناء الأحكام عليها. وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فقال: (الوجه الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم. ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه، أو كان الشيء

نفسه فسادا كالقتل والظلم- فإذا ليس من هذا الباب. فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء؛ لكونها في نفسها فسادا، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة، وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة. وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع متقاض لإفضائها. وأما إن كانت تفضي أحيانا، فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا. ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها. ومنها: ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم، فهذا (القسم الثاني) بجامع الحيل، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام (ثلاثة) . الأول: ما هو ذريعة، وهو مما يحتال به؛ كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى. وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ، وكقرض بني آدم. الثاني: ما هو ذريعة لا يحتال بها؛ كسب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن. الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل؛ كبيع النصاب في أثناء

الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة. والغرض من هذا: أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها المحرم؛ خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع. وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل: لم أقصد به ذلك. ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى، ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه. وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل- فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة. أما شواهد هذه القاعدة فاكثر من أن تحصر، فنذكر منها ما حضر: فالأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108

إلى سبهم لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم. الثاني: ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله؛ وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬1) » متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬2) » ، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام لكن قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر؛ لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام. الرابع: أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة، لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها. ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) . (¬2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .

بتخمير النبيذ فيها؛ حسما لمادة ذلك. وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين صلى الله عليه وسلم أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة، فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» يعني صلى الله عليه وسلم: أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا. الخامس: أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغيير الطباع وشبه الغير. السادس: أنه «نهى عن بناء المساجد على القبور، (¬1) » ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها. ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة. السابع: أنه «نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، (¬2) » وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس، أو أخذ بعض أحوال عابديها. الثامن: أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، مثل قوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم (¬3) » ، «إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (¬4) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع (¬5) » ، وقال في موضع: «لا تشبهوا بالأعاجم» ، وقال فيما رواه الترمذي: «ليس منا من تشبه بغيرنا (¬6) » حتى قال حذيفة بن اليمان: «من تشبه بقوم فهو منهم؛ (¬7) » وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1629) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (828) ، سنن النسائي المواقيت (563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/13) ، موطأ مالك النداء للصلاة (513) . (¬3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬4) سنن أبو داود الصلاة (652) . (¬5) صحيح مسلم الصيام (1134) ، سنن أبو داود الصوم (2445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) ، سنن الدارمي الصوم (1759) . (¬6) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) . (¬7) سنن أبو داود اللباس (4031) .

يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض. التاسع: أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، (¬1) » وبينها وبين خالتها، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك. وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك، لأن الطباع تتغير فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة. وكذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬2) وهذا نص في اعتبار الذريعة. العاشر: أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك. الحادي عشر: أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين؛ ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين. الثاني عشر: أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل: اشتراط إعلانه إما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن الترمذي النكاح (1126) ، سنن النسائي النكاح (3288) ، سنن أبو داود النكاح (2066) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) ، موطأ مالك النكاح (1129) ، سنن الدارمي النكاح (2179) . (¬2) سورة النساء الآية 3

بالشهادة. أو ترك الكتمان أو بهما. ومثل: اشتراط الولي فيه. ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة. وكان أصل ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (¬1) و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (¬2) وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش. ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاما من المصاهرة، وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم، كما جعل بينهما في قوله تعالى: {نَسَبًا وَصِهْرًا} (¬3) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين: أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه. ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 24 (¬2) سورة النساء الآية 25 (¬3) سورة الفرقان الآية 54

الثالث عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع، (¬1) » وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا. ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة ¬

_ (¬1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/205) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر، يقصد بذلك: أن هذا ذريعة إلى الربا وهذه علة صحيحة في مسألة مد عجوة، لكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له؟! . الرابع عشر: إن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا، وما ذاك إلا سدا للذريعة. الخامس عشر: أنه تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض؛ وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين، لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية، ومنع الشافع قبول الهدية فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية. السادس عشر: أن السنة مضت بأنه «ليس لقاتل من الميراث شيء، (¬1) » أما القاتل عمدا كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده - فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا؛ وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه الديات (2646) ، مسند أحمد بن حنبل (1/49) ، موطأ مالك العقول (1620) .

السابع عشر: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف - مأخذ الشارع في ذلك: أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين. الثامن عشر: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء. التاسع عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن إقامة الحدود بدار الحروب؛» لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار. العشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه (¬1) » «ونهى عن صوم يوم الشك، (¬2) » إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه من الخلاف المشهور؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم، تمييزا لوقت العبادة من غيره؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه، وأن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1914) ، صحيح مسلم الصيام (1082) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2173) ، سنن أبو داود الصوم (2335) ، سنن ابن ماجه الصيام (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1689) . (¬2) سنن ابن ماجه الصيام (1646) .

يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التبيين، ومن جملة فوائد ذلك: سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض. الحادي والعشرون: أنه «صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه،» وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا؛ قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه. الثاني والعشرون: أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا، مع قصدهم الصالح؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا. الثالث والعشرون: أنه أوجب الشفعة؛ لما فيه من رفع الشركة؛ وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة؛ سدا لهذه المفسدة بحسب الإمكان. الرابع والعشرون: أن الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحي إليه بالباطن، وأمره أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ضنين في قرابة، وإن وثق بتقواه، حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء؛ لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم كل ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم لغير الحق، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع لهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير.

الخامس والعشرون: أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به. السادس والعشرون: أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجر وإن كانت العقوبات من جنس الشر؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. السابع والعشرون: أنه صلى الله عليه وسلم سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك، من كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة، وصلاح ذات البين، وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات- لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال وزجر عن ذراع الفرقة وهي من الأفعال أيضا. الثامن والعشرون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد

الكفار وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع. التاسع والعشرون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم. الثلاثون: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره ويصبغ نعله الذي قلده بدمه، ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته. قالوا: وسبب ذلك: أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل، وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذرائع. والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم، إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول: لا يحتج بها، ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع، فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا. ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخر غير ما ذكرناه من الذرائع، وإنما

قصدنا: أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم، إما بأن يقصد به المحرم، أو بأن لا يقصد به يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما، وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله. والله الهادي إلى سواء الصراط.

وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله: فصل (¬1) : في سد الذرائع: لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود. لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم، وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\ 147- 153) .

الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه - لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه. وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء. ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره، ليزول الالتباس فيه، فنقول: الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان: أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها؛ كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها. والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب. فيتخذ وسيلة إلى المحرم، إما بقصده أو بغير قصد منه. فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك. والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله. ونحو ذلك.

ثم هذا القسم من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته. فهاهنا أربعة أقسام: الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها. فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم. ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم. وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها. وأمثال ذلك. ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (¬1) ويعاملها. وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة. بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ ¬

_ (¬1) قوله: يطؤها، كذا في الأصل، والصواب: يطبها.

فنقول: الدلالة على المنع من وجوه: الوجه الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين- مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم-؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز. الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (¬2) فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه؛ لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن. الوجه الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} (¬3) الآية. أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة. ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة، لندورها ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108 (¬2) سورة النور الآية 31 (¬3) سورة النور الآية 58

وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة (¬1) . الوجه الرابع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (¬2) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة - مع قصدهم بها الخير- لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب يقصدون فاعلا من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها؛ سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم؛ تشبها بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون. الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (¬3) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬4) فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى. الوجه السادس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإفضاء، واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة. الوجه السابع: أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة، لئلا يتخذ ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وصوابه كالمعدوم. (¬2) سورة البقرة الآية 104 (¬3) سورة طه الآية 43 (¬4) سورة طه الآية 44

ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها. والوجه الثامن: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬1) » متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬2) » فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده. الوجه التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين- مع كونه مصلحة- لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) . (¬2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .

الوجه العاشر: أن الله تعالى حرم الخمر؛ لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القطرة الواحدة منها، وحرم إمساكها للتخليل ونجسها؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب، ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به؛ حسما لمادة قربان المسكر، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بالعلة في تحريم القليل فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» .

الوجه الحادي عشر: أنه صلى الله عليه وسلم حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع. الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى أمر بغض البصر -وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله- سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور. الوجه الثالث عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بناء المساجد على القبور، (¬1) » ولعن من فعل ذلك، ونهى «عن تجصيص القبور وتشريفها، واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها، (¬2) » وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا. وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة. الوجه الرابع عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت؛ سدا للذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد، مح بعد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟! الوجه الخامس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة؛ كقوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم (¬3) » ، وقوله: «إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم (¬4) » ، وقوله في عاشوراء: «خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده» ، وقوله: «لا تشبهوا ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) . (¬2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2029) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1562) ، مسند أحمد بن حنبل (3/332) . (¬3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬4) سنن أبو داود الصلاة (652) .

بالأعاجم» ، وروى الترمذي عنه: «ليس منا من تشبه بغيرنا (¬1) » ، وروى الإمام أحمد عنه: «من تشبه بقوم فهو منهم (¬2) » ، وسر ذلك: أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل. الوجه السادس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم «حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، (¬3) » وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة، كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه: أنه ذريعة إلى كثرة المؤونة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع، وأباح الأربع -وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن- لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن، فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة. الوجه الثامن عشر: أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا. حتى حرم ذلك في عدة الوفاء وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها. الوجه التاسع عشر: أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة، وفي الإحرام، وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام، فإن زمنه قريب جدا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل. الوجه العشرون: أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) . (¬2) سنن أبو داود اللباس (4031) . (¬3) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن الترمذي النكاح (1126) ، سنن النسائي النكاح (3291) ، سنن أبو داود النكاح (2065) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) ، موطأ مالك النكاح (1129) ، سنن الدارمي النكاح (2179) .

أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة. هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع حتى أوصلها تسعة وتسعين دليلا..) ثم قال: باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه: أمر، ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين (¬1) اهـ. هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\ 147- 153) .

بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية

(3) بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة والمعجزة القرآنية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء المعجزة القرآنية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه وبعد: ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض يوم السبت الموافق 1\ 2 إلى يوم 7 منه 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بما سماه الأستاذ رشاد خليفة: المعجزة القرآنية، وعلى ما جاء فيها من أن كتابة المصحف بالرسم الإملائي ينافيها، واقترح إعداد بحث في الموضوع، فأعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك ضمنته ما يأتي: أولا: بيان ما يسمى معجزة محمد الخالدة، والمعجزة القرآنية المذهلة ومناقشتها. ثانيا: هل ما يقال من أنها معجزة قرآنية صحيح أو لا؟ وهل تمتنع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء، محافظة عليها أو لا..؟ وفيما يلي تفصيل ذلك بحول الله وقوته:

تمهيد

تمهيد: لقد عني الدكتور رشاد خليفة بإثبات إعجاز القرآن وحفظه من طريق سوى الطرق التي عهدها المسلمون من قبل، واهتم بإثبات استمرار ذلك ما دامت الحياة الدنيا؛ ليشاهد الناس جيلا بعد جيل كتاب الله معجزة خالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وآية بينة تدل على رسالته وصدقه فيما يوحى إليه من ربه سبحانه، وعلى بقاء ذلك محفوظا من التبديل، والتحريف، والزيادة والنقصان مدى الدهر، وتقوم به الحجة عليهم إلى جانب ما قامت به الحجة على من سبقهم من إخوانهم المسلمين الأولين من وجوه إعجاز القرآن وغيره، وهذا مما يدل -في ظاهره- على غيرته على دينه، وحرصه على مصلحة الأمة، فلفت نظر المسلمين إلى نواحي إعجاز أخرى لم يكن لهم ولا لمن سبقهم بها عهد ولا علم، فألقى محاضرة بين فيها ما اكتشفه من وجوه إعجاز القرآن وحفظه، ثم نشرت (جريدة اليوم السعودية) له مقالا في عددها رقم (2399) الصادر في 12\ 10\ 1389 هـ زاد به الموضوع شرحا وإيضاحا؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانا إلى إيمانهم، ويقينا إلى يقينهم بأن محمدا رسول الله حقا، وأن ما أوحي إليه إنما هو من عند الله، وأنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقص وأنه قد وصلنا كما نزل، ولتقوم به الحجة على الذين كفروا، تباعا أكثر فأكثر {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1) فجزاه الله عن اجتهاده خير الجزاء، وهدانا وإياه إلى الطريق المستقيم. ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية 31

وقد رأينا أن نثبت في إعداد هذا البحث نص محاضرته، وأن نشير إلى رقم (جريدة اليوم) وتاريخ صدورها لمن أراد أن يطلع على نص ما نشرت له، ثم نعلق على كل منهما بما يتيسر: ليعود القارئ بما وجده في التعليق إلى ما أثبت في أصل بيان الإعجاز من قريب. ومن بعد هذا ختمنا البحث بكلمة تحذيرية أعدها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عرف فيها المدعو الدكتور رشاد خليفة، وأورد بعض ما عرف عنه من بدع وأباطيل وناقشها ورد عليها، وأوضح سماحته مكانة السنة المطهرة. بسم الله الرحمن الرحيم Islamic Productions International. inc. 5937 EAST PIMA STREET - TUCSON، ARIZONA 85711 U.S.A. ROFTT ORGANIZATION SERVIG THE NEEDS OF ALL MUSLIMS IN THE ENGLIH SPEAKING WOLD معجزة محمد الخالدة THE PERPETUAL MIRICAL OF MUHAMMAD Written and narrated By Rashad Khalifa تقديم الدكتور رشاد خليفة NOW YOU CAN PHYSICALLY WITNEES THE MIRAGE OF MUHAMMAD 1369 - 1976 1976 - 1369

بسم الله الرحمن الرحيم. يعلمنا خالقنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة من (سورة الإسراء) : أن القرآن الكريم كتاب معجز لا يستطيع الإتيان بمثله إنس ولا جان ... ، وفي الدقائق الستين القادمة فإنك سترى وتلمس أدلة مادية ملموسة على أن هذه الآية حقيقة واقعة ... في الدقائق الـ 60 القادمة سترى وتسمع وتلمس أدلة دامغة لا تقبل الشك أو الجدال على أن القرآن الكريم هو رسالة الله عز وجل إلى البشرية كافة ... وأنه قد وصلنا سالما من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان. كما تعلمون جميعا فإن جميع الرسل الذين جاءوا برسالة الله سبحانه وتعالى، جاءوا أيضا مؤيدين بمعجزات ... ، ظواهر غير طبيعية تثبت للناس أن هؤلاء الرسل قد بعثوا فعلا من قبل الخالق العظيم سبحانه وتعالى ... ، فسيدنا موسى عليه السلام عندما ذهب إلى فرعون أيده الله بمعجزات مثل تحول العصا إلى حية ... ، كما أيد الله رسوله عيسى عليه السلام بمعجزات مثل: إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين بإذن الله ... ولما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين.. فإنه من الطبيعي أن تكون معجزته هي خاتمة المعجزات..، وأن تكون معجزة خالدة مستمرة، لكي يشهدها كل جيل من أجيال البشر منذ بعثته عليه السلام وحتى يوم القيامة ... وهذه المحاضرة سوف تبرهن لنا أن هذه فعلا هي الحقيقة ... أن معجزة المصطفى صلى الله عليه وسلم فعلا معجزة أبدية مستمرة فأنتم ستشهدون الآن معجزة محمد الخالدة ... ، بما لا يدع مجالا للشك ... وهذه حقيقة تختلف عن طبيعة المعجزات السابقة لجميع الرسل والأنبياء السابقين ...

فكما تعلمون معجزات الأنبياء السابقين كانت جميعها معجزات محدودة بالزمان والمكان ... ، فمثلا ليس بيننا من شهد سيدنا موسى وهو يلقي العصا فتتحول إلى حية ... ، ليس بيننا من شهد سيدنا عيسى يحيى الموتى ... ، لقد شهد هذه المعجزات فقط الناس الذين تواجدوا في مكان معين ... في زمان معين ... أما المعجزة الختامية التي جاء بها خاتم النبيين ... ، فسترون الآن أنها معجزة مستمرة لا يحدها مكان أو زمان ... وكما يشهدها الآن جيلنا فقد شهدتها الأجيال السابقة، وسوف تشهدها الأجيال القادمة حتى يوم القيامة.. ما هي معجزة محمد؟ يخبرنا القرآن الكريم في (سورة العنكبوت) الآية (49 و50) أن معجزة محمد هي القرآن ذاته ... ، وقد اتضح بالفعل أن القرآن الكريم معجزة دائمة مستمرة، واتضح أنه كلما اكتشف العلم حقائق جديدة عن عالمنا هذا فإننا نجد أن الاكتشافات الجديدة قديمة قدم القرآن الكريم، وهذا ما شهدته الأجيال السابقة ... ، فعلى سبيل المثال عندما اكتشف أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، وجد علماء القرآن أن هذه الحقيقة مذكورة في القرآن الكريم (سورة النمل) ، آية (88) ... وعندما اكتشف أن الشمس مصدر للضوء وأن القمر مجرد عاكس للضوء.. اكتشفت الأجيال السابقة أن هذا الاكتشاف الجديد ليس جديدا بالمرة، وأن القرآن قد بين هذه الحقيقة في (سورة يونس) ، الآية (5) . هذا الإعجاز العلمي الذي شهدته الأجيال السابقة في القرآن الكريم يستغرق الساعات الطوال لسرده كاملا ... ولكن الغرض من هذه المحاضرة هو دراسة نوع جديد من الإعجاز المادي الملموس الذي يشاء

الله سبحانه وتعالى أن يشهده جيلنا نحن.. في هذا الزمن المادي ... فنحن الآن وفي الدقائق القادمة سوف نشهد معجزة محمد بطريقة مادية ملموسة تماما، كما شهد فرعون والسحرة وبنو إسرائيل معجزات موسى ... ، وكما شهد الحواريون معجزات عيسى..، وهكذا سوف يتبين لنا استمرارية ودوام وخلود المعجزة الختامية لخاتم النبيين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه ...

إن مفتاح هذه المعجزة الختامية يوجد في الآية الأولى من القرآن الكريم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) فإنك إذا عددت حروف هذه الآية لوجدتها (19) ... هذه كما ترون حقيقة مادية ملمومسة لا يستطيع أحد أن يجادلك فيها ... وقد اكتشف أن كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم كله عددا من المرات، هو دائما من أضعاف الرقم (19) ... ، فنحن نجد أن كلمة اسم تتكرر في المصحف الشريف بالضبط (19) مرة ... وكلمة الله تتكرر (2698) مرة. . . 19 × 142. . .، وكلمة الرحمن تتكرر (57) مرة ... ثلاثة أضعاف الرقم (19) ، وكلمة الرحيم تتكرر في القرآن (114) مرة ... ستة أضعاف الرقم (19) ... ، وقبل أن نسأل أنفسنا: (ما معنى هذه الظاهرة التي لا نجدها في أي كتاب آخر في أي مكان في العالم؟) قبل أن نبحث هذا السؤال أود التنبيه أولا إلى أن الشيطان قد يتدخل في هذه اللحظة ويهمس في قلبك قائلا: (ما يدريك أن هذه الأرقام صحيحة؟ ما يدريك أن هذا الشخص لم يضع هذه الأرقام من نفسه؟) ..، ولكي نطرد الشيطان من أول المحاضرة وبطريقة نهائية ... أود أن أذكركم أن ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1

هذه الأرقام جميعا مسجلة في كتب كثيرة.. وقد سجلت حتى من قبل أن نولد ... فقد قام كثير من الناس بعد كلمات وحروف القرآن الكريم خلال القرون الأربعة عشر الماضية.. وسجلوا أرقامهم في كتب كثيرة ... ومن أمثلة هذه الكتب، كتاب أحمله معي في كل مكان واسمه [المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم] من وضع محمد فؤاد عبد الباقي وتنشره دار الشعب بالقاهرة ... ، هذا الكتاب يبين عدد كل كلمة من كلمات القرآن الكريم. والآن دعني أكرر هذه الملاحظات.. هذه الحقائق المادية الملموسة: الآية الأولى في القرآن الكريم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) تتكون من (19) حرف، هذه حقيقة مادية ملموسة لا تقبل الشك أو الجدال ... ويحسن بي أن أتوقف هنا قليلا لدراسة الرقم (19) .. فهذا رقم خاص يتميز بخاصيتين هامتين: أولهما: أن الرقم (19) يحتوي على البداية والنهاية. الرقم (1) الذي هو بداية النظام الحسابي ... ، والرقم (9) الذي نهاية النظام الحسابي ... ، والخاصية الثانية هي أن الرقم (19) لا يقبل القسمة بينما نجد أن الرقم (18) قابل للقسمة على (2، 3، 6، 9) ... وبينما نجد الرقم (20) قابل للقسمة على (2، 4، 5، 10) نجد أن الرقم (19) لا يقبل القسمة في الآية الأولى من القرآن، حيث تتركب من (19) حرفا، وكل كلمة في هذه الآية تتكرر أضعاف الرقم (19) ... فكلمة اسم تتكرر في القرآن الكريم كله بالضبط (19) ... مرة. وفي الوقت المناسب قبل انتهاء هذه المحاضرة سوف أشرح لماذا ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1

استعمل كلمة (اسم) وليس (بسم) .. وسترون أن كلمة بسم لها جانب إعجازي خاص بها ... وكلمة الله تتكرر في المصحف الشريف كله (2698) مرة، (142) ضعف الرقم (19) ... ، وكلمة الرحمة تتكرر (57) مرة.. 3 أضعاف الرقم (19) .. وكلمة الرحيم تتكرر (114) مرة ستة أضعاف الرقم (19) ... ، وكما ترون فإننا هنا نتحدث عن حقائق مادية لا تقبل الجدال ... الحقيقة المادية الأولى: هي أن الآية القرآنية الأولى تتركب من (19) حرفا..، ولا يستطيع أحد أن يجادلك في صحة هذه الحقيقة.. والحقيقة المادية الثانية: هي أن كل كلمة من كلمات هذه الآية تتكرر في القرآن كله عددا من المرات هو دائما من مكررات الرقم (19) ... ، ماذا تعني هذه الحقائق؟ هذه الملاحظات التي تتميز بأنها عادية واقعية وليست تفسيرا أو تخمينا أو اجتهادا ... ماذا تعني هذه الملاحظات؟ إن هناك ثلاثة احتمالات فقط تشرح لنا معنى هذه الحقائق القرآنية: الاحتمال الأول: هو أن هذه الحقائق حدثت عن طريق الصدفة ... عن طريق المصادفة البحتة ... ، ونستطيع بسهولة أن نرفض هذا الاحتمال..؛ لأن المصادفة تحدث مرة واحدة أو ربما مرتين ... ، ولكنها تحدث ثلاثة مرات ... أو أربع مرات كما نرى هنا ... فأنت إذا أمسكت بأي كتاب عادي ... وقمت بعد الحروف في جملته الأولى.. فإن احتمال أن كلمة واحدة من كلمات هذه الجملة تتكرر في الكتاب كله عددا من المرات له علاقة بعدد حروف الجملة ... هذا الاحتمال جائز ... ممكن عن طريق الصدفة أن يحدث ذلك ... أما أن تكون

كلمتان اثنتان من كلمات هذه الجملة تتكرران في الكتاب كله عددا من المرات هو من مضاعفات عدد حروف الجملة ... فهذا احتمال ضعيف جدا ... ونستطيع جميعا أن نتفق على أن احتمال تكرار ثلاث كلمات من كلمات الجملة الأولى في الكتاب كله بطريقة لها علاقة بعدد حروف الجملة.. هذا الاحتمال من قبيل المستحيل.. عن طريق المصادفة ... ونحن هنا نرى أن كل كلمة في الآية القرآنية الأولى عدد مكرراتها في القرآن كله له علاقة مباشرة بعدد حروف الآية ... الرقم (19) ... الاحتمال الثاني: هو أن سيدنا محمد هو الذي صمم القرآن وكتبه بهذه الطريقة الحسابية الخاصة ... ، وهذا طبعا ما يعتقده غير المسلمين..، إذ أنهم إذا علموا أو آمنوا بأن القرآن هو رسالة خالقهم إليهم جميعا لأصبحوا مسلمين..، وما يقوله هذا الاحتمال هو أن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم علوم الحساب المتقدم.. هذا الرجل الأمي الذي عاش في القرن السابع الميلادي قال لنفسه في يوم من الأيام: (إنني سأكتب كتابا كبيرا تتركب الجملة الأولى فيه من (19) حرفا.. وتتكرر كل كلمة من كلمات هذه الجملة في الكتاب كله عددا من المرات يكون من أضعاف الرقم (19) ... ) ثم مضى هذا الرجل الأمي يكتب هذا الكتاب.. متبعا هذا التصميم.. على مدى (23) سنة. ويتبين لنا في الحال استحالة هذا الاحتمال وحماقته، ولو أصر المكابرون.. والكفار المعاندون.. على أن هذا الاحتمال ممكن.. وأن محمدا هو كاتب القرآن.. وأنه كتب القرآن بهذا التصميم الحسابي النادر الذي لم نره في أي كتاب آخر في التاريخ.. فإنه يمكننا سؤالهم: إذا كان سيدنا محمد رجلا دجالا..، وإذا كان هو

الذي كتب القرآن الكريم بهذا التصميم.. فلماذا لم يفتخر بين صحابته؟.. لماذا لم يجن ثمار جهوده أو يخبر أبناء جيله عن هذا المجهود العبقري الجبار؟ إن هذه الحقائق جميعها لم تكن معروفة قبل شهر يونيه.. حزيران.. (1975 م) الموافق لجمادى الثانية عام (1395 هـ) .. إن جيلنا هذا هو الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يطلعه على هذه الحقائق الإعجازية.. كجزء من معجزة محمد الخالدة المستمرة..

الاحتمال الوحيد الذي يتبقى من دراسة هذه الظواهر القرآنية الإعجازية هو: أن الخالق القادر على كل شيء: الله سبحانه وتعالى هو كاتب القرآن الكريم، وليست هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تتبين لنا من دراسة هذه الملاحظات المادية الملموسة ... حقيقة أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.. وأنه حقا وصدقا رسالة الخالق عز وجل إلى الناس كافة..، بل إن هناك حقيقة أخرى يجب أن نتذكرها وهي: أن القرآن الكريم وصل إلينا سالما محفوظا من أي تحريف أو تحوير أو زيادة أو نقصان.. فأنت عندما تقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1) كلمة الله هنا معدودة ومحسوبة ومصممة ... إنها واحدة من الـ (2698) كلمات الله الموجودة في القرآن الكريم ... وعندما تستمر قائلا: {اللَّهُ الصَّمَدُ} (¬2) كلمة الله هنا أيضا محسوبة وموضوعة في مكانها بإحكام الخلاق العليم سبحانه وتعالى.. إنها أيضا واحدة من (2698) لفظ الله ... إذ إنه في خلال الأربعة عشر قرنا الماضية.. لو حدث أي تلاعب في كلمة واحدة مثل اسم ... أو الله ... أو الرحمة ... أو الرحيم بزيادة أو نقصان أو تحريف ... لأصبح عدد مكررات هذه الكلمات في ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص الآية 1 (¬2) سورة الإخلاص الآية 2

القرآن الكريم لا يقبل القسمة على (19) .. وتختفي بذلك هذه الظواهر القرآنية الحسابية الإعجازية.. هل للرقم (19) أي ذكر أو دلالة خاصة في القرآن الكريم نفسه؟ أي نعم. إننا نجد هذا الرقم في (سورة المدثر) آية رقم (30) .. ونجد أن هذا الرقم قد ذكر بخصوص أولئك الذين يزعمون أن القرآن الكريم من قول البشر.. (آيات من سورة المدثر) . هكذا نجد أن هذه الآيات الكريمة تقول: بأن أي شخص يقرر أن القرآن من قول البشر، هذا الشخص سيعاقب.. وسيكون عقابه تحت إشراف (19) .. والتفسير القديم لهذا الرقم (19) هو أنهم حفظة جهنم..!! إلا أننا في ضوء المعلومات الجديدة التي نراها هنا لا بد من الوصول إلى تفسير جديد.. هذا التفسير الجديد لهذه الآية الكريمة ... الآية 30 من سورة المدثر هو أن الـ (19) هي حروف البسملة ... الآية الأولى في كتاب الله العظيم ... ويؤيد هذا التفسير ما نكتشفه من مراجعة ترتيب نزول القرآن الكريم ... فنحن جميعا نعلم أن سيدنا جبريل عندما جاء بالوحي لأول مرة.. فإنه أحضر لخاتم النبيين محمد عليه الصلاة والسلام.. أحضر الآيات الأولى من سورة العلق.. {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬1) وهذه السورة -على فكرة- هي رقم (19) من نهاية القرآن وتتركب من (19) آية، وفي المرة الثانية أحضر الروح الأمين الآيات القليلة الأولى من (سورة القلم) .. {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (¬2) وفي الزيارة الثالثة ... جاء الوحي بـ (سورة المزمل) .. الآيات القليلة الأولى ... ، وفي المرة الرابعة أحضر جبريل عليه السلام الآيات الأولى من (سورة المدثر) .. حتى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة العلق الآية 1 (¬2) سورة القلم الآية 1

{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬1) لقد جاء الوحي الأمين بالتسعة عشر حرفا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬2) بإجماع العلماء.. جاء سيدنا جبريل في المرة الخامسة بـ (سورة الفاتحة) ... التي تبدأ بالتسعة عشر حرفا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬3) وبإجماع العلماء كانت الفاتحة هي أول سورة كاملة يأتي بها سيدنا جبريل ... بالإضافة إلى هذه الحقائق من ترتيب النزول التي تدل على أن الرقم (19) في (سورة المدثر) يرمز إلى التسعة عشر حرفا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬4) فإن الآية التالية لآية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬5) تعلمنا أسباب اختيار الرقم (19) بكل وضوح ... إذ تقول الآية (31) من (سورة المدثر) : {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} (¬6) تعني: أن الأسباب التي من أجلها اخترنا الرقم (19) هي خمسة أسباب: السبب الأول: {فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (¬7) أي: إزعاجا لهم.. ولا شك أن هذه الحقائق الإعجازية الكامنة في التسعة عشر حرف {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬8) سوف تزعج الكفار أيما إزعاج. السبب الثاني: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬9) فهناك المسيحيون الطيبون واليهود الطيبون كما يخبرنا القرآن الكريم في الآية (113) من (سورة آل عمران) ، وأهل الكتاب هؤلاء يرون أن القرآن الكريم كتاب عظيم لا غبار عليه، ولكنهم ليسوا متأكدين أنه كتاب من عند الله، فهذه الحقائق الكامنة في التسعة عشر سوف تساعدهم {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬10) ليتأكدوا أن القرآن العظيم هو بالفعل رسالة الله إليهم ... مصدقا لما بين يديهم ومهيمنا عليه ... ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية 30 (¬2) سورة الفاتحة الآية 1 (¬3) سورة الفاتحة الآية 1 (¬4) سورة الفاتحة الآية 1 (¬5) سورة المدثر الآية 30 (¬6) سورة المدثر الآية 31 (¬7) سورة المدثر الآية 31 (¬8) سورة الفاتحة الآية 1 (¬9) سورة المدثر الآية 31 (¬10) سورة المدثر الآية 31

السبب الثالث: كما توضح الآية (31) من (سورة المدثر) : {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (¬1) فنحن نؤمن وقبل أن تتبين لنا هذه الحقائق الإعجازية: أن القرآن هو رسالة الله عز وجل للناس كافة ... ولكن إيماننا لا شك يزداد ويقوى بظهور هذه المعجزات العظيمة. السبب الرابع: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} (¬2) بمحو أي آثار للشك أو الريبة فيما يتعلق بكون القرآن الكريم تنزيل من الرحمن الرحيم. السبب الخامس: والأخير؛ لكشف المنافقين والكافرين وإظهار حقيقتهم المتعصبة العمياء. وأخيرا فإن الآية (31) من (سورة المدثر) تقول لنا في نهايتها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (¬3) إذن فالرقم (19) ليس عدد حراس جهنم.. ويجدر بنا أن نتقبل تفسيرا جديدا لهذا الرقم في ضوء هذه الحقائق الجديدة التي تتكشف لنا في القرآن العظيم. ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية 31 (¬2) سورة المدثر الآية 31 (¬3) سورة المدثر الآية 31

وبالرغم من أن هذه الحقائق الإعجازية تكفي لإثبات أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر.. فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الدليل المدعم لرسالته دامغا بما لا يدع إلا للمكابرين ... إذ يتضح لنا أن هذه الحقائق ليست إلا جزءا ضئيلا من الإعجاز الحسابي المادي المرتبط بالآية القرآنية الأولى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) فالقرآن الكريم يتميز بخاصية هامة لا نجدها في أي كتاب آخر ... هذه الخاصية هي وجود الحروف الغامضة أو الحروف النورانية المعروفة أيضا باسم فواتح السور ... نجد أن بالضبط نصف الحروف الأبجدية ... ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1

أربعة عشر حرفا في تركيب أربع عشرة فاتحة من فواتح السور هي ق ون وص وطه ويس وحم والم والر وطسم وعسق والمر والمص وكهيعص ... وهذه الفواتح نحوها في (29) سورة ... (14) حرف يتركب منهم (14) فاتحة تتواجد في بداية (29) سورة ... فإذا جمعنا (14 + 14 + 29) نجد المجموعة (57) ثلاثة أضعاف الرقم (19) ، وسوف نجد الآن أن الرقم (19) هو القاسم المشترك الأعظم بين جميع فواتح السور بدون استثناء، وهنا أجد الفرصة المناسبة للحديث عن كلمة بسم وكلمة اسم فنحن إذا نظرنا إلى الآية القرآنية الأولى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) نجدها تتكون من حروف نورانية.. وهي الحروف التي تشترك في تركيب فواتح السور ... ماعدا الحرف (باء) فإنه ليس من الحروف النورانية، كما أننا نعلم أن كلمة (بسم) هي عبارة عن حرف الجر (باء) زائد كلمة (اسم) ... ولولا أن الحرفين (باء) و (ألف) قد دمجا في حرف واحد لأصبح عدد حروف الآية (20) ليس (19) . ولاختل كل هذا النظام ... ولما كان الحرف (ألف) هو الحرف الرسمي؛ لكونه من الحروف النورانية.. رغم عدم كتابته.. ولما كان حرف الباء ضروريا من أجل المعنى كان من اللازم النظر إلى مكررات كلمة (اسم) حيث نجدها بالضبط (19) وأيضا كلمة بسم حيث نجد عدد مكرراتها في المصحف الشريف (3) ... ونجد أن حاصل ضرب (19 × 3) يساوي عدد الحروف النورانية مضافا إلى عدد الفواتح التي تدخل هذه الحروف في ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1

تركيبها مضافا إلى عدد السور ذات الفواتح (14+ 14+ 29= 19 ×3= 57) وهكذا نجد الربط الكامل التام بين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) والحروف النورانية، فواتح السور ... فلننظر الآن إلى أحد هذه الفواتح.. ولنبدأ بالحرف (ق) إننا نجد هذا الحرف كفاتحة في (سورة ق) وفي (سورة الشورى) ... وإذا عددت مكررات الحرف ق في (سورة ق) لوجدتها 57 (19× 3) ... ثم إذا عددت مكررات الحرف ق في السورة الوحيدة الأخرى التي تحتوي على هذا الحرف كفاتحة وهي (سورة الشورى) ... لوجدت أن هذه السورة رغم أنها أطول من سورة ق مرتين ونصف فإنها تحتوي على نفس العدد من الحرف ق 57 (19 × 3) ... وإذا جمعنا عدد مكررات الحرف ق في هاتين السورتين (57+ 57) فإن النتيجة تساوي عدد سور القرآن الكريم 114 (19 × 6) إذا كان الحرف (ق) يرمز إلى القرآن المجيد فإن هذه الظاهرة المادية الملموسة تقول لنا بوضوح: إن الـ (114) سورة هي القرآن ... كل القرآن.. ولا شيء غير القرآن، من الذي صمم القرآن بهذه الطريقة؟ من الذي يمكن أن تتوفر لديه القدرة على معرفة توزيع الحروف الأبجدية في القرآن الكريم ومعرفة أن هناك سورتين فقط تحتويان على هذا العدد المتساوي، الذي يساوي مجموعه في السورتين بالضبط عدد سور القرآن؟ من الذي يمكنه أن يعرف ذلك حتى قبل اكتمال نزول القرآن؟ لا شك أن الإجابة واضحة ... فالله وحده هو الذي علم ويعلم توزيع الحروف الأبجدية في رسالته وهو سبحانه الذي وضع هذه الحروف في ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1

أوائل بعض السور كرموز لهذه المعرفة التي لا يستطيعها أي مخلوق ... وهو سبحانه الذي حفظ أسرار هذه الحروف لمدة أربعة عشر قرنا كمظهر من مظاهر استمرارية المعجزة القرآنية وخلودها ... إذ يشاء الخالق عز وجل أن يكون جيلنا هو الجيل الذي يطلع على أسرار هذه الحروف ... شاء سبحانه أن يكون هذا الزمان المادي هو الوقت الذي تنكشف فيه الدلائل المادية الملموسة الكامنة في هذه الحروف ... ولكي ندرك مدى الإحكام في التوزيع الحسابي لحروف القرآن دعنا ندرس آية قصيرة من آيات (سورة ق) -على سبيل المثال- وهي الآية رقم (13) {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} (¬1) هذه آية قصيرة نقرأها ونمر بها عادة مر الكرام، ولكنها تحتوي معجزة قرآنية بينة، فإخوان لوط هؤلاء مذكورون في القرآن الكريم (12) مرة: في (سورة الأعراف) آية رقم (80) ... في (سورة هود) الآيات (70 و 74 و 89) ... في (سورة الحج) الآية رقم (43) ... في (سورة الشعراء) آية (160) .. في (سورة النحل) آية (54 و 56) .. في (سورة العنكبوت) الآية (28) ... في (سورة ص) آية رقم (13) ... في (سورة ق) الآية رقم (13) ... وفي (سورة القمر) آية رقم (33) .. ونجد أن هؤلاء الناس الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما: قوم لوط، هذا هو الاستثناء الوحيد، نراهم يسمون: (قوم لوط ... قوم لوط ... قوم لوط) ... ما عدا في (سورة ق) فإنهم يسمون: {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} (¬2) وتستيطعون طبعا أن تتخيلوا ما يحدث لعدد مكررات الحرف (ق) في (سورة ق) لو أن التعبير قوم لوط استعمل بدلا من (إخوان لوط) ... طبعا سيزداد عدد الحرف (ق) ويصبح ¬

_ (¬1) سورة ق الآية 13 (¬2) سورة ق الآية 13

(58) بدلا من (57) .. والرقم (58) ليس من مكررات الرقم (19) .. لا يقبل القسمة على (19) ... كما أن هذا العدد (58) لن يساوي عدد الحرف (ق) في السورة الوحيدة الأخرى التي تفتتح بالحرف (ق) وهي (سورة الشورى) وبالإضافة إلى ذلك فإن مجموع الحرف (ق) في السورتين يصبح (115) وليس (114) عدد سورة+ القرآن الكريم ... وهكذا ترون بالدليل المادي الملموس أن تحريف كلمة واحدة يؤدي إلى اختلال واختفاء هذا النظام الحسابي المعجز الذي نراه في القرآن الكريم، والذي يكمن في الآية القرآنية الأولى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) وفي الحروف النورانية فواتح السور ... وترون بالدليل المادي الذي لا يقبل الشك أو الجدال أن أثناء الـ (1400) سنة الماضية.. لو حدث تحريف أو تحوير أو ضياع أو إضافة لكلمة واحدة ... كلمة واحدة تحتوي الحرف (ق) مثل (ق) .. (يقول) . (قال) ... (قوم) ... تحريف كلمة واحدة مثل هذه في (سورة ق) أو في (سورة الشورى) يؤدي إلى اختلال هذا الميزان الإلهي الحساس ... {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2) صدق الله العظيم. وهكذا ترون أن هناك حقيقتان واضحتان لا بد أن نذكرهما جيدا، وتظهران لنا من هذه الحقائق التي نلاحظها في القرآن: أولا: أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من قول البشر. ثانيا: أن القرآن الكريم قد حفظ بقدرة الله وضمانه من أي تحريف أو ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1 (¬2) سورة الحجر الآية 9

تحوير أو ضياع أو إضافة؛ ليكون رسالة الخالق سبحانه وتعالى إلى الناس كافة. أيها الإخوة والأخوات ... هذه العلاقة الوثيقة المباشرة التي بين الحرف (ق) والرقم (19) ، عدد حروف {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) تجدونها شاملة لجميع الحروف النورانية ... فواتح السور ... بدون استثناء.. إذا ننتقل الآن إلى الحرف (ن) نجد أن هذا الحرف تفتح به سورة واحدة في القرآن الكريم (سورة القلم) {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (¬2) وإذا عددت مكررات الحرف (ن) في هذه السورة لوجدت العدد 133= (19 × 7) .... كذلك الحرف ص ... ، نحن نجد هذا الحرف كفاتحة في (سورة الأعراف) {المص} (¬3) وفي (سورة مريم) {كهيعص} (¬4) وفي (سورة ص) ... ونجد أن مجموع مكررات الحرف (ص) في هذه السور الثلاث هو 152= (19 × 8) ، وهنا يجدر بي أن أتوقف قليلا لأضرب مثالا آخر يوضح الإحكام العظيم في توزيع كل حرف من حروف القرآن الكريم ... ففي سورة الأعراف ... الآية رقم (69) ... نجد التعبير وزادكم في الخلق بصطة، ونجد أن كلمة بصطة مكتوبة بالصاد ليس بالسين ... وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1 (¬2) سورة القلم الآية 1 (¬3) سورة الأعراف الآية 1 (¬4) سورة مريم الآية 1

(بصط) بالصاد ... كما أن المعروف أن كلمة بصطة بالصاد ... في هذه الآية (توقيفية) ، ومعنى توقيفية: هي أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية.. قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين) .. ومن الواضح الآن للجميع أهمية الحرف ص هنا ... إذ لو كتبت كلمة (بسطة) بالسين كما نعرفها لأصبح مجموع مكررات الحرف ص في السور الثلاث (151) وهذا الرقم ليس من مكررات الرقم (19) ... أي: أنه بتغيير حرف واحد نجد أن هذا الإحكام الحسابي المعجز يختل ويختفي وتصبح هذه الحروف النورانية عديمة المعنى وعديمة الدلالة. وعندما ننتقل إلى فواتح السور المركبة من أكثر من حرف نلاحظ حقيقة قرآنية غاية في الإعجاز ... إذ نجد أن هذه الحروف تتواجد في هذه السور -مكررات الرقم (19) - بل أيضا إذا عددت الحروف المتشابهة في السور ذات الفواتح المتشابهة فإنك تجد أن هذا العدد أيضا من مكررات الرقم (19) ... أي: سواء كان الجمع أفقيا داخل السورة الواحدة ... أو رأسيا شاملا لجميع السور التي تفتح بنفس الحرف ... فإن المجموع في الحالتين من مكررات الرقم (19) . ولتوضيح هذه الظاهرة الإعجازية.. دعنا ننظر إلى الفاتحة طه نجد هذين الحرفين النورانيين في أول (سورة طه) ، ونجد أن عدد مكررات الحرف (ط) + عدد مكررات الحرف (هـ) يساوي (342) ... (19× 18) ... وأيضا إذا أضفت مجموع مكررات الحرف (ط) في جميع السور التي تبدأ بهذا الحرف وهي (سور طه، والشعراء، والنمل،

والقصص) ... إلى مجموع مكررات الحرف هـ في السور التي تبدأ به وهي (سورتي مريم وطه) ... فإنك تجد هذا المجموع (589) = (19 × 31) ... ومثال أخير لهذا التشابك الإعجازي تجده في (سورة يس) ... إذا عددت الحرف (ي) والحرف (س) في هذه السورة تجد المجموع (ي) + (س) = (258) 00. (19 × 15) وفي نفس الوقت إذا أضفت مكررات الحرف (ي) في سورتي (مريم ويس) إلى مكررات الحرف (س) في جميع سوره، وهي: (الشعراء والقلم والقصص ويس والشورى) ؛ لوجدت المجموع (969) 00. (19× 15) .. هذا الإحكام الذي يعجز عن الإتيان بمثله أي مخلوق نجده في جميع الحروف النورانية بدون استثناء {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (¬1) صدق الله العظيم. وهكذا يشهد جيلنا.. كما شهدت الأجيال السابقة ... وكما ستشهد الأجيال المستقبلة ... معجزة دائمة مستمرة في القرآن الكريم ... معجزة محمد الخالدة. ¬

_ (¬1) سورة هود الآية 1

مناقشة المحاضرة

مناقشة المحاضرة: اقتضت حكمة الله تعالى وعدله أن يرسل إلى عباده رسلا مبشرين ومنذرين؛ ليخرج بهم الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم، إنذارا إليهم وإقامة الحجة عليهم، قال الله تعالى:

{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬1) ومضت سننه التي لا تتبدل في تأييد رسله بالآيات والمعجزات الباهرات؛ ليستيقن من أرسل إليهم بصدقه في دعوى الرسالة، ولا يختلج في قلوبهم منها ريبة وتقوم عليهم الحجة، ويلزمهم قبول ما يوحى إلى الرسل من أصول الدين وفروعه. ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كثير من المعجزات الحسية والروحية، إلا أن المعجزة الكبرى التي تحدى بها قومه هي القرآن ولا تزال الحجة به قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا بد أن تكون من وراء الأسباب العادية حتى لا تنالها قوى الخلق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وبذلك يكون بها الإيمان والاطمئنان وبها التكليف والإلزام. ولقد تحدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قومه بأمر يعرفون طريقه ولهم بجنسه عهد، بل نبغوا فيه، وبلغوا ذروته. أولا: تحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته وعلو أسلوبه وإحكامه ودقة تعبيره، ولذا تكلف بعض سفهاء الأحلام منهم أن يأتوا بسور خيل إليهم أنها على نمطه وشاكلته فأضحكوا على أنفسهم العقلاء، وأما ذوي العقل والرأي منهم، فأسلموا أنفسهم إلى العجز، وأيقنوا من قرارة نفوسهم أنه الحق، وأنه من عند الله لا من كلام البشر ولكن أكثرهم يجهلون فأبوا إلا الكفر أنفة واستكبارا. ثانيا: تحداهم بتشريعه الكامل الموافق لمقتضى العقل والفطرة، ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 165

الهادي جميع البشر إلى سواء السبيل في جوانب الحياة كلها عقيدة وعبادة واقتصادا وسياسة وأدبا وأخلاقا مع بقائه كذلك صالحا لهداية العالم وإصلاحه في جميع جوانب الحياة إلى يوم القيامة. ثالثا: تحداهم بما تضمنه القرآن من الأخبار الغيبية التفصيلية المسهبة، وبوقوف الرسول صلى الله عليه وسلم من إخوانه المرسلين السابقين موقف المصدق لهم، المبين لتحريف أقوامهم لشرائعهم، المعلن لخزاياهم وفضائحهم في خروجهم على أنبيائهم بيان الواثق بنفسه المؤمن بما أوحي إليه من ربه، وهو أمي عاش في أمة أمية، ومن أمته أهل الكتاب الذين فضحهم بسوء صنيعهم مع رسلهم وفي شرائعهم، ومع ذلك لاذوا بالصمت ولم يردوا عليه ما اتهمهم أو فضحهم به؛ تبرئة لأنفسهم، ودفعا للنقيصة والعار عنها، فكان ذلك إيذانا بأنه رسول الله الصادق الأمين، وأن ما جاء به إنما هو وحي من رب العالمين. هذه جوانب الإعجاز القرآني المعهودة التي عرفها الصحابة وسلفنا الصالح وهي التي عرفها الكفار وعجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن من جهتها. الإعجاز الحسابي الذي هول أمره المحاضر وجعله حقيقة مادية ملموسة، وهو لا يعدو أن يكون أمرا مبناه التقدير والاعتبار في الأعداد، وذلك مما يختلف فيه الناس، وكثير منه متكلف يلغي فيه صاحبه ما يختل معه حسابه، ويعتبر فيه ما ينتظم به حسابه؛ ليتم ما يريد من الخروج بظاهرة إعجاز جديدة وآية لم يعرفها الصحابة ولا العرب الأولون الذين تحداهم الله تعالى بالقرآن.

لا ينكر منصف أن يكون في القرآن جوانب أخرى من الإعجاز. وإنما ينكر العاقل الرشيد أن يكون منها ما ذكره الأستاذ خليفة واعتبره إعجازا حسيا ملموسا من عدد بعض الحروف وبعض الكلمات من بعض سور القرآن وحسابها، وجعل محور حسابها عدد حروف البسملة الـ (19) في نظره أو عدد كلماتها الأربع لما فيه من الفرض والتخمين، والخطأ الواضح، والتناقض البين، والاعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات، فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط، ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا. قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن تحزيب القرآن بالسور زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتحزيبه بالتجزئة زمن عبد الملك بن مروان: (فإنه قد علم أن أول ما جزئ القرآن بالحروف تجزئة: ثمانية، وعشرين، وثلاثين، وستين، هذه التي تكون رءوس الأجزاء والأحزاب في أثناء السورة وأثناء القصة ونحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده، وروي أن الحجاج أمر بذلك، ومن العراق فشا ذلك، ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك) . وإذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق، فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كان لهم تحزيب آخر، فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات فيقولون: خمسون آية، ستون آية، وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد ولا ذكره أحد فتعين التحزيب بالسور، ... ثم قال: وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن لوجوه -ثم ذكر الوجه الأول والثاني- وقال: الثالث: إن التجزئة المحدثة لا سبيل فيها إلى التسوية بين حروف الأجزاء؛ وذلك لأن الحروف في النطق

تخالف الحروف في الخط، في الزيادة والنقصان يزيد كل منهما على الآخر من وجه دون وجه. وتختلف الحروف من وجه، وبيان ذلك بأمور: أحدها: أن همزات الوصل ثابتة في الخط، وهي في اللفظ تثبت في القطع وتحذف في الوصل، فالعاد إن حسبها انتقض عليه بحال القارئ إذا وصل وهو الغالب فيها، وإن أسقطها انتقض عليه بحال القارئ القاطع وبالخط. ويتبين ما في محاضرة الأستاذ رشاد من الخطأ والتخمين والتناقض بالوجوه الآتية: الوجه الأول: إن البسملة خمس كلمات لا أربع، كما قال الأستاذ رشاد، إذ الباء فيها وهي كلمة ولم يعدها وهي في خط المصحف ومنطوق بها، وعد همزة الوصل في كلمة اسم وهي غير مخطوطة ولا ملفوظ بها، ليتم له ما يريد. الوجه الثاني: إن العلماء اتفقوا على أن البسملة بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا فيما بعد ذلك: فقيل: إنها آية من كل سورة كتبت في أولها، وقيل: آية مستقلة كتبت عند أول كل سورة لا آية منها، وقيل: إنها آية من (سورة الفاتحة) فقط، وقيل: إنها ليست آية من القرآن، وإنما كتبت عند أوائل السور للفصل بينهما. ثم على تقدير أنها آية من القرآن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أنها أول آية نزلت وحدها مستقلة، ولا أنها أول آية نزلت مع (سورة الفاتحة) ، ولا مع أول (سورة العلق أو المدثر) ، ولم يصح في ذلك حديث، وكون شيء من الكلام آية من القرآن أو أول ما نزل منه ليس

مما يحكم فيه العقل، بل من الأمور التوقيفية التي لا مجال فيها للعقول. وإذا لم يجتمع علماء الأمة على أن البسملة آية من القرآن، ولم يثبت نقلا أنها أول ما نزل من القرآن استقلالا أو مع غيرها منه- فكيف يجعل من هذا الاختلاف أصلا لإثبات ركن ركين في الدين وهو الرسالة، ويعتبر مكرر كل حرف من حروف فواتح السور في سورته مضاعفا له؛ ليجعل من ذلك دليلا على أن القرآن معجزة خالدة وأنه محفوظ إلى يوم القيامة لا يدخله تحريف ولا زيادة ولا نقصان؟!

الوجه الثالث: خطؤه في قوله: إن المراد بتسعة عشر في آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬1) هو الحروف (19) التي اشتملت عليها آية البسملة، واعترف بأن هذا التفسير جديد، وأنه لا بد منه في ضوء المعلومات الجديدة، وأيده بأن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬2) نزلت مع (سورة الفاتحة) كاملة عقب آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬3) فدل ذلك على أن المراد بهذا الرقم حروف البسملة (19) ، وهذا الذي اعتبره تحقيقا هو إلى الخرص والتخمين أقرب منه إلى التحقيق، فإنه بناه على نزول البسملة مع (الفاتحة) بعد آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬4) وهذا يحتاج إلى إثبات، بل لم يثبت في حديث صحيح: أن البسملة نزلت مع الفاتحة، ولا أن نزولها أو نزول إحداهما كان عقب آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬5) وعلى تقدير ثبوت هذا الترتيب لا يدل على ما زعمه في تفسيرها. ثم زعم أن الآية التي بعدها اشتملت على أسباب اختيار هذا الرقم، ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية 30 (¬2) سورة الفاتحة الآية 1 (¬3) سورة المدثر الآية 30 (¬4) سورة المدثر الآية 30 (¬5) سورة المدثر الآية 30

وفيما ذكر خرص، وتخمين ينافي سياق الكلام (ثم هو تفسير لا يعرف في لغة العرب التي بها نزل القرآن) ، والصحيح: أن المراد بتسعة عشر حفظة على النار من الملائكة، كما هو بين في نص الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1) الآية، وهو التفسير الذي قاله العلماء قديما وحديثا، وهو الذي يجب المصير إليه دون سواه. الوجه الرابع: ما وقع من الخطأ في عده بعض الكلمات في سور القرآن ومن الخطأ والتناقض في عده بعض الحروف في سوره أيضا، من ذلك قوله: الاعتماد في الحساب على عد الحروف اعتماد على أمر تقديري يزيد وينقص باعتبارات فيختلف باعتبار النطق عنه باعتبار الخط ويختلف عند اعتبار الخط بعد الحرف المشدد حرفين أو حرفا. ثم قد يقع الخطأ في عد الكلمات أو الحروف، ومن ذلك ما حصل في ص (14) من المحاضرة فإنه قال فيها: أ- إن عدد مكررات كلمة بسم في المصحف الشريف (3) والواقع أنها أكثر، إذ هي في كل من (سورة هود، والنمل، والحاقة، والعلق) مرة مرة وذكرت في (سورة الواقعة) مرتين، ثم نجد المحاضر بنى على تكرارها ثلاثا إعجازا قرآنيا عن طريق الحساب، فإذا ثبت خطؤه في العدد ثبت في الحكم بجعل ذلك معجزة فضلا عن كونها خالدة. ب- ومن ذلك: أنه اعتبر الألف من كلمة (بسم) وهي غير منطوقة، ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية 31

ولا مكتوبة فيها حسب رسم المصحف ليتم له نظامه الحسابي الإعجازي وترك الباء وهي منطوق بها في البسملة ومكتوبة فيها في رسم المصحف وغيره، ولم يعتبر الحرفين جميعا؛ لئلا يختل العدد الذي يراد بناء النظام الحسابي الإعجازي عليه، وقد اعترف في نفس الموضع بهذا التحايل في اعتبار العدد والمعدود. ج- ومن ذلك أنه أخطأ وتناقض في قوله ص (16) (إخوان لوط: هؤلاء مذكورون في القرآن (12) مرة ... ) إلى أن قال: (نجد أن هؤلاء الذين كذبوا لوطا يسمون في القرآن دائما قوم لوط، ماعدا في (سورة ق) فإنهم يسمون: (إخوان لوط) هذا هو الاستثناء الوحيد) اهـ. والواقع أن كلمة لوط تذكر أحيانا وكلمة (قوم لوط) أو (آل لوط) أحيانا، وأن لفظ لوط ذكر في القرآن أكثر من اثنتي عشرة مرة، وليس شيء من هذه الكلمات بعينه ذكر في القرآن اثنتي عشرة مرة، فكلامه في هذه الصفحة جامع بين التناقض والخطأ في العدد والمعدود. د - ومن ذلك أنه أخطأ في مكرر حرف نون في سورة القلم. ومن ذلك أن مكرر حرف (ص) في كل من (سورة الأعراف ومريم وص) لا يقبل القسمة على (19) باعترافه، فاحتال باعتبار مجموع مكرر حرف (ص) في السور الثلاث مضاعفا؛ لئلا تختل قاعدته، ولا يخفى ما في هذا من التكلف، بل التلاعب في اعتبار مكرر الحرف في السورة مرة باستقلال وإهمال استقلاله واعتباره مع غيره مرة أخرى. هـ- ومن ذلك قوله: إن كلمة بصطة من قوله تعالى في (سورة

الأعراف) وزادكم في الخلق بصطة مكتوبة بالصاد لا بالسين، وكلنا نعرف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة بصط بالصاد، كما أن المعروف أن كلمة بصطة بالصاد في هذه الآية توقيفية، ومعنى توقيفية هي: أن سيدنا جبريل عليه السلام عندما جاء بهذه الآية قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لكتاب الوحي يكتبوا هذه الكلمة بالصاد وليس بالسين. . اهـ ثم رتب على ذلك معجزة حسابية ترجع إلى عدد حروف (ص) في (سورة الأعراف) . وهذا الكلام خطأ من أوجه: الأول: أن مادة بصط عربية كمادة بسط. ففي [القاموس المحيط] ، البصط هو البسط في جميع معانيه. الثاني: أن بصطة بالصاد قراءة سبعية، قرأ بها نافع وابن كثير وخير فيها قالون بين الصاد والسين. الثالث: كون كتابتها بالصاد توقيفية بالخبر الذي ذكر يحتاج إلى إثبات وأنى له ذلك، فبناء إعجاز حسابي قرآني على ذلك يبعث في النفس ريبة، ويفتح ثغرة للملحدين وكل من يزعم أن القرآن من قول البشر لا وحي من عند الله؛ لبنائه على كذب واحتيال وتكلف وتخمين. وومن ذلك استدلاله بعدم حدوث أي تلاعب في عدد كل من الكلمات الأربع - بسم - الله - الرحمن - الرحيم - في القرآن بزيادة أو نقصان أو تحريف، على أن القرآن وصل إلينا سالما محفوظا، ولا شك في أن

القرآن وصل إلينا سالما محفوظا، لكن الاستدلال على ذلك بما ذكره غير مسلم، إذ لا يلزم من سلامة هذه الكلمات الأربع من التحريف ومن الزيادة أو النقص في عددها عدم الزيادة أو النقص أو التحريف فيما سواها. ثم على تقدير سلامة ما ذكره المحاضر من الأخطاء والتناقض لا يصح أن يعتبر أصلا في إثبات الرسالة، وأن القرآن وحي من عند الله؛ لأنه ميسور يمكن الحساب أن يأتوا بسورة، بل سور يتحرون فيها جوانب الحساب التي ذكرها المحاضر دون رعاية لجانب الفصاحة والتشريع وأنباء الغيب، كما يفعل من يذكر تاريخ ميلاد أو وفاة أو حادث في بيت من شعر أو نصف بيت ويتحرى فيه حروفا حسابها بالجمل يؤدي المطلوب، فهذا وأمثاله مما يدخل تحت الأسباب العادية ويقع في حدود طاقة البشر، فلا يصح أن يكون معجزة لنبي يتحدى بها أمته بما أنزل الله عليه من القرآن.

ونختم الحديث عن المحاضرة بأن المحاضر لم يكتف ببيان غرضه من محاضرته وهو إثبات إعجاز القرآن بطريقة رياضية حسابية جعل مفتاحها عدد حروف وكلمات - بسم الله الرحمن الرحيم -، بل زاد أمرين عد كلا منهما معجزة قرآنية، وافتتح بهما محاضرته فذكر: أولا: أن قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (¬1) ... دليل على دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وجعل إثبات ذلك بالقرآن معجزة خالدة. وهذا خطأ، بل تحريف للقرآن عن مواضعه، وتفسير له بغير ما قصد ¬

_ (¬1) سورة النمل الآية 88

منه ودل عليه سياق الكلام، فإن الآية نزلت بيانا لأهوال يوم القيامة عند النفخ في الصور، بدليل قوله تعالى في الآية التي قبلها: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (¬1) ثم قال بعدها: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (¬2) . . . ونظير ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} (¬3) {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} (¬4) {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (¬5) فتفسيرها بدوران الأرض لتكون معجزة، مخالف لسياق الكلام، وخروج بها عن نظائرها من آيات القرآن الواردة في نفس الموضوع، بل مخالف لظاهر الآية نفسها، فإن الدوران لا يقابل الجمود، بل الذي يقابل جمود الجبال وجعلها رواسي للأرض كونها هباء منبثا كالعهن المنفوش تطيرها الرياح فتمر مر السحاب بعد أن كانت أحجارا صلبة متماسكة مستقرة على الأرض أوتادا لها، فكيف يجعل الخطأ في بيان المراد من الآية معجزة يثبت بها أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن القرآن تنزيل من رب العالمين؟! ثانيا: أن قوله تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (¬6) الآية، وقوله تعالى في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} (¬7) دليل على أن ¬

_ (¬1) سورة النمل الآية 87 (¬2) سورة النمل الآية 88 (¬3) سورة الواقعة الآية 4 (¬4) سورة الواقعة الآية 5 (¬5) سورة الواقعة الآية 6 (¬6) سورة يونس الآية 5 (¬7) سورة الفرقان الآية 61

نور القمر مستفاد من نور الشمس وذلك دليل على إعجاز القرآن. وهذا استنباط باطل فإنه ليس في الآيتين دليل على ذلك، ولا فهم العرب منهما هذه النظرية العلمية، وهم أهل العربية، وأعرف باللغة التي بها نزل القرآن، وإعجاز القرآن لا يحتاج في إثباته إلى أمثال ما ذكر المحاضر، وكون نور القمر مستفاد من نور الشمس لا يتوقف ثبوته على القرآن، بل عرف من طريق آخر كحادث خسوف القمر المتكرر على مر الزمان، ومعرفة ذلك في متناول البشر؛ لكونه متصلا بعلم التسيير وهو من علم الفلك، فيعرفه من له دراية بعلم الفلك، فكيف يجعل ذلك دليلا تثبت به الرسالة وإعجاز القرآن؟! مناقشة ما نشرت له جريدة (اليوم السعودية) في عددها رقم (6399) وتاريخ 12\ 1\ 1399م: 1 - الآية القرآنية الأولى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) (19) حرفا ليست البسملة أول آية نزلت من القرآن، بل اختلف في أنها من القرآن إلا في (سورة النمل) ، وليست (19) حرفا كما تقدم. 2 - كل كلمة في هذه الآية تتكرر في القرآن الكريم عددا من المرات، هو دائما من مكررات الرقم (19) : أ- كلمة اسم تتكرر في المصحف الشريف (19) . ب- كلمة الله تتكرر في المصحف (2698) مرة = (19 ×142) . ج- كلمة الرحمن تتكرر في المصحف (57) مرة = (19 × 3) . د- كلمة الرحيم تتكرر في المصحف (114) مرة = (19 × 6) . ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1

ليس كل كلمة في البسملة ذكرت في القرآن 19 مرة، ولا مضاعفا للعدد (19) ، فإن من كلماتها اسم والرحيم لا تذكر كل منهما (19) مرة ولا مضاعفا لهذا العدد. 3 - رغم غياب البسملة من سورة التوبة فإن القرآن الكريم يحتوي على (114) بسملة؛ لأن سورة النمل فيها بسملتان. 4 - في كون البسملة من القرآن خلاف إلا في (سورة النمل) فهي منه، وما كان مختلفا فيه لا يبنى عليه إعجاز يثبت به ركن من أركان الإسلام. 5 - أول ما جاء به الوحي الأمين جبريل عليه السلام ونزل به على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان (19) كلمة. ليس أول ما نزل (19) كلمة، بل عشرين كلمة. 6 - الـ (19) كلمة من (سورة العلق) التي نزل بها جبريل عليه السلام من (76) حرف (19 × 4) طبقا للرسم العثماني الأصلي للقرآن الكريم. ليست الكلمات التي نزلت من سورة العلق (19) حرفا ولا مضاعفا لها. 7 - سورة العلق أول ما نزل من القرآن، هي السورة رقم (19) من الخلف وليست (سورة العلق) أول ما نزل من القرآن، وإنما أول ما نزل منه خمس آيات من أولها فقط، ثم ترتيب السور مختلف فيه. فقيل: توقيفي، وقيل: باجتهاد عثمان ووافقه عليه الصحابة رضي الله عنهم، وهناك مصاحف أخرى تختلف عن مصحف عثمان في الترتيب، وعلى كل حال فالمعروف عد السور من الفاتحة ثم البقرة. . . وهكذا، وليست سورة العلق (19) في الترتيب ولا مكررا له بهذا الاعتبار. 8 - في ترتيب نزول الوحي نزلت الآية القرآنية {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة الآية 1

مباشرة عقب الآية القرآنية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬1) من سورة المدثر. . والتي تعلمنا أن تسعة عشر فيها الإجابة الشافية على كل من يقول: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (¬2) ترتيب النزول إنما يعرف بالنقل الصحيح لا بالعقل، ولم يثبت أن البسملة نزلت عقب نزول آية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬3) وعليه لا يكون في ذلك رد على من يقول: إن القرآن من قول البشر، وعلى تقدير صحة ذلك لا يدل على أن المراد بكلمة -تسعة عشر- حروف البسملة كما لا يعتبر ردا على من يقول: إن هذا إلا قول البشر، ثم الاعتماد على هذا وأمثاله يفتح بابا للتهجم على القرآن والاستهتار به. 9 - الحروف القرآنية: (فواتح السور) (ق، ن، ص، يس، حم، الم ... إلخ) تتكرر في سورها دائما عددا من المرات هو من مكررات العدد (19) ويمكن لأي شخص أن يكتشف هذه الحقائق بنفسه. فمثلا على الحرف (ق) ، في (سورة ق) = 57= 19 × 3 وعن الحرف (ق) ، في (سورة الشورى) = 57 = 19 × 3 وعن الحرف (ن) ، في (سورة القلم) = 133- 19 × 7 وعدد الحرف (ص) ، في سوره الثلاث (ص، مريم، الأعراف) ، أي: المجموع في السور الثلاث 152= 19 × 8 وهكذا الحال في جميع الفواتح بدون استثناء. انتقض ما ذكره في سور مما مثل به كسورة القلم، وكل من سورة ص ومريم والأعراف على حدة؛ ولهذا احتال بجمع الحرف ص في السور الثلاث ليوافق ما أراد. ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية 30 (¬2) سورة المدثر الآية 25 (¬3) سورة المدثر الآية 30

مما تقدم من المناقشات يتبين أن ما ذكره الدكتور رشاد خليفة في محاضرته وسماه معجزة محمد الخالدة، وما نشرته له جريدة (اليوم السعودية) وسماه معجزة قرآنية مذهلة لا يصلح أن يكون معجزة تثبت بها الرسالة والصدق في دعوى النبوة؛ لما فيه من الخطأ والتناقض، ولأنه على فرض سلامته من ذلك فهو في متناول القوى البشرية، لإمكان اكتسابه عن طريق الأسباب العادية، فيستطيع البشر أن يأتوا بمثله فرادى وجماعات، أما المعجزات فسمتها التي تتميز بها عن المخترعات عجز البشر -على أي حال كانوا- عن أن يأتوا بمثلها؛ لكونها من وراء الأسباب العادية. وعلى هذا لا يصح أن يقال: إن كتابة القرآن حسب قواعد الإملاء ينافي معجزة القرآن الرياضية الحسابية، بل الذين يمنعون ذلك يبنون رأيهم على أسباب أخرى ذكرناها في بحث خاص بذلك. والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

كلمة تحذيرية حول إنكار رشاد خليفة للسنة المطهرة

كلمة تحذيرية حول إنكار رشاد خليفة للسنة المطهرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فالداعي لكتابة هذه الكلمة أنه ظهر في مدينة توسان التابعة لولاية أريزونا بأمريكا شخص يدعى رشاد خليفة مصري الأصل أمريكي الجنسية يقوم بالدعوة على أساس بعيد عن الإسلام، وينكر السنة، وينتقص من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحرف كلام الله بما يناسب مذهبه الباطل. والمذكور ليس له علم بأصول الشريعة الإسلامية؛ إذ هو يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الزراعية مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، وقد قام بالتغرير ببعض المسلمين الجدد والسذج من العامة باسم الإسلام في الوقت الذي يحارب فيه الإسلام بإنكاره السنة والتعاون مع المنكرين لها قولا وفعلا، فقد سجل في إذاعة ليبيا أثناء زيارته لها عام 1399 هـ أحاديث إذاعية، ولما سئل من قبل أحد أساتذة الجامعة الليبية قبيل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. أجاب باختصار: نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس) . ومن أقواله التي توضح رفضه للسنة وتأويله القرآن الكريم رأيه ما يلي: 1 - قوله: إنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ لأن ذلك لم يرد في القرآن. 2 - تبجحه بصورة مستمرة بما يروى (لا تكتبوا عني سوى القرآن) أنه لا تجوز كتابة الأحاديث.

3 - استدلاله على ما ذهب إليه من أنه لا حاجة للسنة ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬2) 4 - ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها وجمع الأحاديث في القرنين الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية. 5 - عدم التصديق بالمعراج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة؛ لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم عليه السلام. 6 - له تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول: هذه ليست الكتابة الصحيحة لها ففي قوله تعالى: الم يجب أن تكتب هكذا (ألف لام ميم) ، وقوله تعالى: {ن} (¬3) يجب أن تكتب هكذا (نون) ، وغير ذلك من الآراء الباطلة التي يفرق بها كلمة المسلمين مع ما فيها من محادة لله ورسوله. لذا فقد رأيت من الواجب توضيح أمره وكشف حقيقته للمسلمين؛ لئلا يغتر أحد بكلامه أو ينخدع بآرائه، وحتى يكون الجميع على معرفة بمكانة السنة المطهرة. فلا يخفى على كل مسلم أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي المصدر الثاني للتشريع، وقد أجمع على ذلك سلف الأمة وعلماؤها، وقد حفظ الله سنة ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 38 (¬2) سورة مريم الآية 64 (¬3) سورة القلم الآية 1

نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه فقيض لها رجالا مخلصين وعلماء عاملين وهبوا نفوسهم وكرسوا حياتهم لخدمتها وتمحيصها وتدقيقها ونقلها بأمانة وإخلاص، كما نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ. ولم يزل أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يؤمنون بهذا الأصل العظيم ويحتجون به ويعلمونه الأمة ويفسرون به كتاب الله، وقد ألفوا فيه المؤلفات الكثيرة وأوضحوا ذلك في كتب الأصول والفقه، وقد جاء في كتاب الله تعالى الأمر باتباع الرسول وطاعته حتى تقوم الساعة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المفسر لكتاب الله، والمبين لما أجمل فيه بأقواله وأفعاله وتقريره، ولولا السنة لم يعرف المسلمون عدد ركعات الصلوات وصفاتها وما يجب فيها، ولم يعرفوا تفصيل أحكام الصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعرفوا تفاصيل أحكام المعاملات والمحرمات وما أوجب الله فيها من حدود وعقوبات. ومما ورد في ذلك من الآيات قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬1) وقوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2) وقوله جل ثناؤه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (¬3) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران الآية 132 (¬2) سورة النساء الآية 59 (¬3) سورة النساء الآية 80

وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (¬1) وقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2) فهذه الآيات وغيرها جعلت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله ومتممة لها، وأناطت الهدى والرشاد والرحمة باتباع سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك مع عدم العمل بها وإنكارها والقول بعدم صحتها. وأن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة والقول بعدم الحاجة إليها كفر وردة عن الإسلام؛ لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولا يجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير مع فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (¬3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬4) وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى [مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة] ، فقال: (اعلموا رحمكم الله أن ¬

_ (¬1) سورة النور الآية 54 (¬2) سورة النور الآية 56 (¬3) سورة البقرة الآية 159 (¬4) سورة البقرة الآية 160

من أنكر أن كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة - كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة) انتهى المقصود. هذا ما أردت إيضاحه والتنبيه عليه من أمر هذا الرجل براءة للذمة، ونصحا للأمة. وأسأل الله أن يهدينا وإياه صراطه المستقيم، وأن يعصمنا وجميع إخواننا المسلمين من الضلال بعد الهدى ومن الكفر بعد الإيمان، كما أسأله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويكبت أعداء شرعه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. عبد العزيز بن عبد الله بن باز

خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي

خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة سعادة أمين عام المجلس الإسلامي الأوربي سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فحيث يوجد في مدينة (توسان) التابعة لولاية (أريزونا) مسجد يشرف عليه شخص يدعى (رشاد خليفة) مصري الأصل، أمريكي الجنسية، يقوم فيه بالدعوة الإسلامية على أساس بعيد عن الإسلام؛ لإنكاره السنة، واستنقاصه من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بما ثبت لدينا من التقارير بحقه من عدة جهات والتي ملخصها ما يلي: 1 - أن المذكور يقيم في مدينة (توسان) بولاية (أريزونا) إحدى الولايات المتحدة الأمريكية، ويحمل الدكتوراه في الهندسة الزراعية، مما لا يؤهله للقيام بالدعوة إلى الله على وجه صحيح، بل إن دعوته للإسلام يظهر منها المخادعة، والتغرير بالمسلمين الجدد، والسذج من العامة باسم الإسلام، في الوقت الذي هو يحارب الإسلام بإنكار السنة، وتعاونه مع المنكرين لها قولا وفعلا أمثال (محمد علي اللاهوري) وغيره، وقد قامت حوله ضجة علمية حول اكتشافه سر إعجاز القرآن حسب زعمه. 2 - في زيارته لليبيا عام 1399 هـ سجل في إذاعتها أحاديث، ووجد من يستمع إليه حول رأيه في السنة المطهرة، بل إنه حينما سئل من قبل أحد

أساتذة الجامعة، قبل صعوده للطائرة عن رأيه في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب باختصار نظرا لضيق الوقت قائلا: (الحديث من صنع إبليس) . ومن مواقفه التي توضح رفضه للسنة، وتأويل القرآن الكريم حسب ما يراه: أ- قوله: إنه لا يجوز رجم الزاني أو الزانية، سواء كانا محصنين أو غير محصنين؛ لأن ذلك لم يرد في القرآن. ب- تبجحه بصورة مستمرة بما يرويه (لا تكتبوا عني سوى القرآن) ، ليثبت أنه لا تجوز كتابة الأحاديث. ج- استدلاله على ما ذهب إليه من أنه لا حاجة للسنة، ولا لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬2) د- ادعاؤه أن الأخذ بالسنة وكتابتها، وجمع الأحاديث في القرنين: الثاني والثالث كان سببا في سقوط الدولة الإسلامية. هـ - عدم التصديق بالمعراج، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد في الصلاة؛ لأن العرب قد توارثوها بهذه الكيفية المعهودة عن جدهم إبراهيم. وله تأويلات في كيفية كتابة الحروف المقطعة الواردة في أول السور، ويقول: هذه ليست هي الكتابة الصحيحة لها، وفي قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 38 (¬2) سورة مريم الآية 64

{الم} (¬1) يجب أن تكتب هكذا (ألف لام ميم) ، وقوله تعالى: {ن} (¬2) يجب أن تكتب هكذا (نون) وغير ذلك من الشطحات التي يفرق بها كلمة المسلمين مع ما فيها من محادة لله ورسوله. لذا فقد رأينا من واجبنا توضيح أمره وكشف حقيقته، لوقف التعامل معه، والتنبه لمغالطاته، وبراءة للذمة، ونصحا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، راجيا تعميم كتابنا هذا على منسوبيكم والجهات ذات العلاقة، أعانكم الله على كل خير، وجعلنا وإياكم من أنصار السنة والكتاب، ومن دعاة الخير على بصيرة، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 1 (¬2) سورة القلم الآية 1

التقادم في مسألة وضع اليد

(4) التقادم في مسألة وضع اليد هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

التقادم في مسألة وضع اليد إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: بناء على الخطاب رقم 1994\ 2 وتاريخ 10\ 10\ 1398 هـ الموجه من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى سماحة رئيس الدورة الثالثة عشرة وأعضاء المجلس بخصوص اقتراح دراسة التقادم في مسألة وضع اليد، وبناء على موافقة المجلس في الدورة الثالثة عشرة على إدراج هذا الموضوع ضمن المسائل التي تبحث في الدورة الرابعة عشرة، وأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تكتب بحثا في ذلك. فقد جمعت ما يسر الله في ذلك تحت العناصر الآتية: 1 - الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا. 2 - أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس. 3 - تعريف الحيازة. 4 - موضوع البحث. 5 - ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة

والتعليل والمناقشة. وفيما يلي الكلام عليها بالقدر الذي تيسر وسنختم البحث بملخص مختصر تقريبا للموضوع.

أولا الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا

أولا: الأسباب الشرعية لنقل الملكية مع الأدلة إجمالا: من قواعد الشريعة أن نقل الملكية من المالك الشرعي لا يعتبر إلا إذا كان بسبب من الأسباب الشرعية؛ كالبيع والهبة والوصية والميراث والشفعة والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك على ما سيأتي تفصيله. وفيما يلي بيان هذه الأسباب باختصار مع الأدلة. أ- البيع: ومن أدلته قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬1) ب- الهبة بلا شرط: فإن كانت بشرط عوض فهي بيع وتدخل في عموم السبب الأول، ودليل الهبة قوله صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته كالعائد في قيئه (¬2) » ، وفي لفظ: «فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه يقيء ثم يعود فيه (¬3) » أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. ج- الوصية: ومن أدلتها قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬4) ثم أخرج الوارث بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث (¬5) » . د- الميراث: ومن أدلته قوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 275 (¬2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2621) ، صحيح مسلم الهبات (1622) ، سنن الترمذي البيوع (1298) ، سنن النسائي الرقبى (3710) ، سنن أبو داود البيوع (3538) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2385) ، مسند أحمد بن حنبل (1/250) . (¬3) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2589) ، صحيح مسلم الهبات (1622) ، سنن الترمذي البيوع (1298) ، سنن النسائي الهبة (3704) ، سنن أبو داود البيوع (3538) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2385) ، مسند أحمد بن حنبل (1/237) . (¬4) سورة البقرة الآية 180 (¬5) الفتح الكبير، (3\197) .

فلأولى رجل ذكر (¬1) » . هـ- الشفعة: ومن أدلتها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (جعل) وفي لفظ: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة له (¬2) » . أخرجه البخاري وغيره. والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك: ومما استدل به لذلك ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» ، وفي رواية أخرى: «من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به» (¬3) ، وفي رواية ثالثة: «من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به منه» (¬4) ، وقد ذكر الفقهاء أسبابا أخرى تركنا ذكرها اختصارا؛ لأن البحث لا يتوقف على ذكرها. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الفرائض (6737) ، صحيح مسلم الفرائض (1615) ، سنن الترمذي الفرائض (2098) ، سنن أبو داود الفرائض (2898) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2740) ، مسند أحمد بن حنبل (1/292) . (¬2) صحيح البخاري الشفعة (2257) ، صحيح مسلم المساقاة (1608) ، سنن الترمذي الأحكام (1370) ، سنن النسائي البيوع (4701) ، سنن أبو داود البيوع (3514) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2499) ، مسند أحمد بن حنبل (3/399) ، سنن الدارمي البيوع (2628) . (¬3) [شرح الخطاب] ، (6\229) . (¬4) [تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك] ، (2\362، 363) .

ثانيا أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس

ثانيا: أدلة تحريم الاعتداء على أموال الناس: سبق في الأمر الأول ذكر جملة من الأسباب الشرعية لنقل الملكية من المالك الشرعي، ونقل الملك بدون سبب شرعي لا يجوز؛ لأنه من الاعتداء على أموال الناس، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق. وفيما يلي ذكر بعض الأدلة: أ- من أدلة الكتاب: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 188

وجه الدلالة: أن الآية اشتملت على النهي عن أكل الأموال بالباطل، والنهي يقتضي التحريم فيكون أكلها محرما. قال القرطبي: والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار، والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه وحرمته الشريعة. وإن طابت به نفس مالكه؛ كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان الخمور، والخنازير، وغير ذلك. . إلى أن قال: وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه كما قال: تقتلون أنفسكم، وقال أيضا: «من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل» (¬1) . ب- من أدلة السنة: قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا (¬2) » إلخ الخطبة. وقد أخرجها مسلم وأبو داود وغيرهما. وهذا النص واضح في تحريم أموال الناس بعضهم على بعض. ج- أما الإجماع: فقد ذكره القرطبي في أثناء الكلام على الآية السابقة. ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] ، (2\331) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .

ثالثا تعريف الحيازة

ثالثا: تعريف الحيازة: للحيازة معنيان: لغوي، واصطلاحي، وفيما يلي بيان كل منهما: أ- معنى الحيازة: لغة: 1 - قال أحمد بن فارس بن زكريا: (حوز) الحاء والواو والزاي أصل

واحد، وهو الجمع والتجمع، يقال لكل مجمع وناحية: حوز وحوزة، وحي فلان الحوزة أي: المجمع والناحية. وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا. انتهى المقصود (¬1) . 2 - وقال الفيروزآبادي: (الحوز) الجمع، وضم الشيء بالحيازة والاحتياز. انتهى (¬2) . 3 - وقال ابن منظور: وقال سيبويه: هو تفعيل من حزت الشيء والحوز من الأرض أن يتخذها الرجل ويبين حدودها فيستحقها ولا يكون لأحد فيها حق معه فذلك الحوز. والحوز الجمع، وكل من ضم شيئا إلى نفسه من مال وغير ذلك فقد حازه حوزا وحيازة وحازه إليه واحتازه إليه. . . إلى أن قال ابن منظور: حازه ليحوزه إذا قبضه وملكه واستبد به. . . إلى أن قال: وحزت الأرض إذا أعلمتها وأحييت حدوده. انتهى المقصود (¬3) . ب- معنى الحيازة: اصطلاحا: يقول الدردير: هي وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف يكون بواحد من أمور مسكن وإسكان وزرع وغرس أو بيع وهدم وبناء وقطع شجر وعتق وكتابة ووطء في رقيق (¬4) ، وجاء هذا المعنى في النقول عن المذاهب الأخرى على ما يأتي تفصيله. ¬

_ (¬1) [معجم مقاييس اللغة] ، (2\ 117، 118) . (¬2) [القاموس] ، (2\172) . (¬3) [لسان العرب] ، (7\205) وما بعدها. (¬4) [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير] ، (4\207) .

رابعا موضوع البحث

رابعا: موضوع البحث: شيء معين طالت مدته بيد إنسان وليس لديه إثبات لملكيته سوى طول المدة وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية، فهل يحكم به لمن طالت مدة وجوده عنده وهو يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم مع عدم وجود مانع شرعي يمنع من بيده البينة من القيام على من بيده الملك ومطالبته به؟

خامسا ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة والتعليل والمناقشة

خامسا: ذكر آراء الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وشروط ذلك مع الأدلة والتعليل والمناقشة. تمهيد: هذا العنصر هو أهم عناصر الموضوع، وبتتبع اللجنة لما ذكره علماء الفقه الإسلامي وجدت أنهم خدموه خدمة واسعة ودقيقة اشتملت على تفصيل ما يوضحه من الأقوال ومداركها ومناقشة هذه المدارك مع ذكر الشروط المشترطة. وقد ذكرت اللجنة جملة من النقول في ذلك عن المذاهب الأربعة بدون تصرف فيها ليطلع أعضاء المجلس على كلام العلماء، وسيكون ترتيب ذكر النقول على حسب الترتيب الزمني للمذاهب الأربعة، فنذكر النقول عن المذهب الحنفي ثم المالكي ثم الشافعي ثم الحنبلي، ونذكر أمام كل مذهب تمهيدا يعطي صورة مختصرة له:

النقول عن المذهب الحنفي

1 - النقول عن المذهب الحنفي: تمهيد: الحنفية يبنون القول بإثبات الملكية بالتقادم على الاجتهاد، ومدته ست وثلاثون سنة وعلى الأمر السلطاني، فيحدد المدة التي لا تسمع الدعوى بعدها، وهذه المدة لا يمكن ضبطها نظرا لاختلاف السلاطين

واختلاف اجتهاد السلطان نفسه، فقد تكون المدة خمس عشرة سنة، وقد تكون عشر سنوات، وقد تكون أقل من ذلك على ما يأتي تفصيله في النقول، وقد وقع اختيار اللجنة على ثلاثة نقول من [الدر المختار وشرحه] ، ومن [مجلة الأحكام العدلية وشرحها] ، والثالث من [مرشد الحيران وشرحه] ، وقد ذكرناها على هذا الترتيب: أ- جاء في [الدر المختار ورد المحتار] : (قوله: بعد خمسة عشر سنة) المناسب خمس عشرة بتذكير الأول وتأنيث الثاني؛ لكون المعدود مؤنثا وهو سنة، وأجاب ط: بأنه على تأويل السنة بالعام أو الحول (قوله فلا تسمع الآن بعدها) أي: لنهي السلطان عن سماعها بعدها فقد قال السيد الحموي في [حاشية الأشباه] : أخبرني أستاذي شيخ الإسلام يحيى أفندي الشهير بالنقاري: أن السلاطين الآن يأمرون قضاتهم في جميع ولاياتهم أن يسمعوا دعوى بعد مضي خمس عشرة سنة سوى الوقف والإرث. اهـ. ونقل في [الحامدية] ، فتاوى من المذاهب الأربعة بعدم سماعها بعد النهي المذكور، لكن هل يبقى النهي بعد موت السلطان الذي نهى بحيث لا يحتاج من بعده إلى نهي جديد أفتى في الخيرية بأنه لا بد من تجديد النهي ولا يستمر النهي بعده، وبأنه إذا اختلف الخصمان في أنه منهي أو غير منهي فالقول للقاضي ما لم يثبت المحكوم عليه النهي، وأطال في ذلك وأطاب فراجعه، وأما ما ذكره السيد الحموي أيضا من أنه قد علم من عادته - يعني: سلاطين آل عثمان - نصرهم الرحمن - من أنه إذا تولى سلطان عرض عليه قانون من قبله وأخذ أمره باتباعه فلا يفيد هنا؛ لأن معناه: أن يلتزم قانون

أسلافه بأن يأمر بما أمر به وينهى عما نهوا عنه، ولا يلزم منه أنه إذا ولى قاضيا ولم ينهه عن سماع هذه الدعوى أن يصير قاضيه منهيا بمجرد ذلك، وإنما يلزم منه أنه إذا ولاه ينهاه صريحا؛ ليكون عاملا بما التزمه من القانون، كما اشتهر أنه حين يوليه الآن يأمره في منشوره بالحكم بأصح أقوال المذهب كعادة من قبله، وتمام الكلام على ذلك في كتابنا [تنقيح الحامدية] ، فراجعه، وأطلنا الكلام عليه أيضا في كتابنا [تنبيه الولاة والحكام] . (قوله: إلا في الوقف والإرث ووجود عذر شرعي) استثناء الإرث موافق لما مر عن الحموي، ولما في [الحامدية] عن فتاوى أحمد أفندي المهمنداري مفتي دمشق أنه كتب على ثلاثة أسئلة أنه تسمع دعوى الإرث ولا يمنعها طول المدة، ويخالفه ما في الخيرية حيث ذكر أن المستثنى ثلاثة: مال اليتيم والوقف والغائب، ومقتضاه: أن الإرث غير مستثنى فلا تسمع دعواه بعد هذه المدة، وقد نقل في [الحامدية] ، عن المهمنداري أيضا أنه كتب على سؤال آخر فيمن تركت دعواها الإرث بعد بلوغها خمس عشرة سنة بلا عذر أن الدعوى لا تسمع إلا بأمر سلطاني، ونقل أيضا مثله فتوى تركية عن المولى أبي السعود وتعريبها: إذا تركت دعوى الإرث بلا عذر شرعي خمس عشرة سنة فهل لا تسمع؟ الجواب: لا تسمع إلا إذا اعترف الخصم بالحق. ونقل مثله شيخ مشايخنا التركماني عن فتاوى علي أفندي مفتي الروم، ونقل مثله أيضا شيخ مشايخنا السائحاني عن فتاوى عبد الله أفندي مفتي الروم، وهذا الذي رأينا عليه عمل من قبلنا، فالظاهر: أنه ورد نهي جديد

بعدم سماع دعوى الإرث. والله سبحانه أعلم. (تنبيهات) الأول: قد استفيد من كلام الشارح أن عدم سماع الدعوى بعد هذه المدة إنما هو للنهي عنه من السلطان فيكون القاضي معزولا عن سماعها؛ لما علمت من أن القضاء يتخصص؛ فلذا قال: إلا بأمر، أي: فإذا أمر بسماعها بعد هذه المدة تسمع، وسبب النهي قطع الحيل والتزوير فلا ينافي ما في [الأشباه] ، وغيرها من أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان. اهـ. ولذا قال في [الأشباه] أيضا: ويجب عليه سماعها. اهـ. أي: يجب على السلطان الذي نهى قضاته عن سماع الدعوى بعد هذه المدة أن يسمعها بنفسه أو يأمر بسماعها كيلا يضيع حق المدعي، والظاهر أن هذا حيث لم يظهر من المدعي أمارة التزوير، وفي بعض نسخ [الأشباه] : ويجب عليه عدم سماعها، وعليه فالضمير يعود للقاضي المنهي عن سماعها، لكن الأول هو المذكور في معين المفتي. الثاني: أن النهي حيث كان للقاضي لا ينافي سماعها من المحكم، بل قال المصنف في [معين المفتي] : إن القاضي لا يسمعها من حيث كونه قاضيا، فلو حكمه الخصمان في تلك القضية التي مضى عليها المدة المذكورة فله أن يسمعها. الثالث: عدم سماع القاضي لها إنما هو عند إنكار الخصم، فلو اعترف تسمع كما علم مما قدمناه من فتوى المولى أبي السعود أفندي إذ لا تزوير مع الإقرار. الرابع: عدم سماعها حيث تحقق تركها هذه المدة، فلو ادعى في أثنائها لا يمنع، بل تسمع دعواه ثانيا ما لم يكن بين الدعوى الأولى والثانية هذه

المدة. ورأيت بخط شيخ مشايخنا التركماني في مجموعته أن شرطها - أي: شرط الدعوى - مجلس القاضي فلا تصح الدعوى في مجلس غيره، كالشهادة - تنوير وبحر ودرر - قال: واستفيد منه جواب حادثة الفتوى وهي: أن زيدا ترك دعواه على عمرو مدة خمس عشرة سنة، ولم يدع عند القاضي، بل طالبه بحقه مرارا في غير مجلس القاضي، فمقتضى ما مر لا تسمع؛ لعدم شرط الدعوى فليكن على ذكر منك. فإنه تكرر السؤال عنها، وصريح فتوى شيخ الإسلام علي أفندي: أنه إذا ادعى عند القاضي مرارا ولم يفصل القاضي الدعوى ومضت المدة المزبورة - تسمع؛ لأنه صدق عليه أنه لم يتركها عند القاضي. اهـ. ما في المجموعة. وبه أفتى في [الحامدية] ، ثم لا يخفى أن ترك الدعوى إنما يتحقق بعد ثبوت حق طلبها، فلو مات زوج المرأة أو طلقها بعد عشرين سنة مثلا من وقت النكاح - فلها مؤخر المهر؛ لأن حق طلبه إنما ثبت لها بعد الموت أو الطلاق لا من وقت النكاح، ومثله ما يأتي فيما لو أخر الدعوى هذه المدة لإعسار المديون ثم ثبت يساره بعدها، وبه يعلم جواب حادثة الفتوى سئلت عنها حين كتابتي لهذا المحل في رجل له دكان وقف مشتمل على منجور وغيره وضعه من ماله في الدكان بإذن ناظر الوقف نحو أربعين سنة وتصرف فيه هو وورثته من بعده في هذه المدة ثم أنكره الناظر الآن وأنكر وضعه بالإذن، وأراد الورثة إثباته وإثبات الإذن بوضعه، والذي ظهر لي في الجواب سماع البينة في ذلك؛ لأنه حيث كان في يدهم ويد مورثهم هذه المدة بدون معارض لم يكن ذلك تركا للدعوى، ونظير ذلك ما لو ادعى زيد على عمرو بدار في يده، فقال له عمرو: كنت اشتريتها منك من عشرين

سنة وهي في ملكي إلى الآن، وكذبه زيد في الشراء، فتسمع بينة عمرو على الشراء المذكور بعد هذه المدة؛ لأن الدعوى توجهت عليه الآن، وقبلها كان واضع اليد بلا معارض فلم يكن مطالبا بإثبات ملكيتها فلم يكن تاركا للدعوى، ومثله فيما يظهر أن مستأجر دار الوقف يعمرها بإذن الناظر وينفق عليها مبلغا من الدراهم يصير دينا له على الوقف ويسمى في زماننا: مرصدا ولا يطالب به ما دام في الدار، فإذا خرج منها فله الدعوى على الناظر بمرصده المذكور وإن طالت مدته حيث جرت العادة بأنه لا يطالب به قبل خروجه، ولا سيما إذا كان في كل سنة يقتطع بعضه من أجرة الدار فليتأمل. الخامس: استثناء الشارح العذر الشرعي أعم مما في الخيرية من الاقتصار على استثناء الوقف ومال اليتيم والغائب؛ لأن العذر يشمل ما لو كان المدعى عليه حاكما ظالما كما يأتي وما لو كان ثابت الإعسار في هذه المدة ثم أيسر بعدها فتسمع كما ذكره في [الحامدية] . السادس: استثناء مال اليتيم مقيد بما إذا لم يتركها بعد بلوغه هذه المدة وبما إذا لم يكن له ولي كما يأتي، وفي الحامدية لو كان أحد الورثة قاصرا والباقي بالغين تسمع الدعوى بالنظر إلى القاصر بقدر ما يخصه دون البالغين. السابع: استثنوا الغائب والوقف ولم يبينوا له مدة فتسمع من الغائب ولو بعد خمسين سنة، ويؤيده قوله في الخيرية: من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه؛ لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة، والعلة خشية التزوير ولا يتأتى بالغيبة الدعوى عليه فلا فرق فيه بين غيبة المدعي والمدعى عليه.

اهـ. وكذا الظاهر في باقي الأعذار أنه لا مدة لها؛ لأن بقاء العذر وإن طالت مدته يؤكد عدم التزوير بخلاف الوقف فإنه لو طالت مدة دعواه بلا عذر ثلاثا وثلاثين سنة لا تسمع كما أفتى به في [الحامدية] ، أخذا مما ذكره في [البحر] ، في كتاب الدعوى عن ابن الغرس عن [المبسوط] ، إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين سنة ولم يكن مانع من الدعوى ثم ادعى لا تسمع دعواه؛ لأن ترك الدعوى مع التمكن يدل على عدم الحق ظاهرا. اهـ. وفي [جامع الفتوى] عن فتاوى العتابي، قال المتأخرون من أهل الفتوى: لا تسمع الدعوى بعد ست وثلاثين سنة إلا أن يكون المدعي غائبا أو صبيا أو مجنونا وليس لهما ولي أو المدعى عليه أميرا جائرا. اهـ. ونقل ط عن الخلاصة: لا تسمع بعد ثلاثين سنة. اهـ. ثم لا يخفى أن هذا ليس مبنيا على المنع السلطاني، بل هو منع من الفقهاء فلا تسمع الدعوى بعده وإن أمر السلطان بسماعها. الثامن: سماع الدعوى قبل مضي المدة المحدودة مقيد بما إذا لم يمنع منه مانع آخر يدل على عدم الحق ظاهرا لما سيأتي في مسائل شتى آخر الكتاب، من أنه لو باع عقارا أو غيره وامرأته أو أحد أقاربه حاضر يعلم به ثم ادعى ابنه مثلا أنه ملكه - لا تسمع دعواه، وجعل سكوته كالإفصاح قطعا للتزوير والحيل، بخلاف الأجنبي، فإن سكوته ولو جارا لا يكون رضا إلا إذا سكت الجار وقت البيع والتسليم وتصرف المشتري فيه زرعا وبناء فلا تسمع دعواه على ما عليه الفتوى، قطعا للأطماع الفاسدة. اهـ. وأطال في تحقيقه في الخيرية من كتاب الدعوى فقد جعلوا مجرد سكوت القريب أو الزوجة عند البيع مانعا من دعواه بلا تقييد باطلاعه على تصرف المشتري

كما أطلقه في [الكنز] ، و [الملتقى] ، وأما دعوى الأجنبي ولو جارا فلا بد في منعها من السكوت بعد الاطلاع على تصرف المشتري ولم يقيدوه بمدة، وقد أجاب المصنف في فتاواه فيمن له بيت يسكنه مدة تزيد على ثلاث سنين ويتصرف فيه هدما وعمارة مع اطلاع جاره على ذلك بأنه لا تسمع دعوى الجار عليه البيت أو بعضه على ما عليه الفتوى. وسيأتي تمام الكلام على ذلك آخر الكتاب في مسائل شتى قبيل الفرائض إن شاء الله تعالى، فانظره هناك فإنه مهم (¬1) . ¬

_ (¬1) [حاشية ابن عابدين] (4\377-379) .

ب- وجاء في [مجلة الأحكام العدلية وشرطها] أ- أنواع مرور الزمن: إن مرور الزمن على نوعين: النوع الأول: مرور الزمن الذي حكمه اجتهادي ومدته ست وثلاثون سنة، ولذلك فالدعوى التي تترك ستا وثلاثين سنة بلا عذر لا تسمع مطلقا، حيث إن ترك الدعوى تلك المدة مع الاقتدار عليها وفقدان العذر يدل على عدم الحق. إن اعتبار نهاية مدة مرور الزمن ستا وثلاثين سنة بني على المادة الـ (661) (علي أفندي و [رد المحتار] بزيادة) . النوع الثاني: مرور الزمن المعين من قبل السلطان. أن عدم استماع الدعوى في مرور الزمن الذي هو من هذا النوع مبني على المادة الـ (1801) من المجلة، فلذلك إذا تحقق في دعوى مرور زمن من هذا النوع وأمر من قبل السلطان باستماع تلك الدعوى فتسمع.

وللسلطان أن يمنع قاضيا من استماع الدعوى التي يقع فيها مرور زمن من هذا النوع وأن يأذن قاض آخر بسماع مثل هذه الدعوى؛ ولذلك فالفتاوى التي أفتى بها مشايخ الإسلام بعدم استماع الدعوى في مثل هذا النوع من مرور الزمن قد ذكر فيها بأنها لا تسمع بلا أمر (علي أفندي) . إن هذا النهي هو في حق القاضي وليس في حق الحكم فلذلك إذا فصل الحكم دعوى مر عليها خمس عشرة سنة فصحيح وينفذ حكمه (الحموي) حتى لو أن شخصين عينا القاضي حكما بفصل دعوى، فللحكم المذكور أن يفصل تلك الدعوى ولو مر عليها خمس عشرة سنة [رد المحتار] . إن مرور الزمن لا يثبت حقا: يعني: أن العقود كالبيع والإجارة مع كونها مثبتة وموجودة لكل واحد من العاقدين منفعة ومضرة إلا أن مرور الزمن لا يثبت حقا للطرف الذي يريد الاستفادة منه. فلذلك إذا رد القاضي دعوى دائن بسبب وقوع مرور الزمن فيها يبقى المدعى عليه مدينا للمدعي ويكون قد هضم حق المدعي. ب- الدعاوى الممنوع استماعها: 1 - الدعاوى الواقع فيها مرور زمن وهي المبينة في هذا الباب. 2 - دعوى المواضعة والاسم المستعار في الأموال الغير المنقولة. 3 - قد منع بتاريخ 27 جمادى الآخرة سنة 1320 وفي 17 أيلول سنة 1318 هـ دعاوى بيع وشراء العقار ما لم يكن البيع والشراء وقعا بمعاملة رسمية، أي: في دوائر التمليك (دفتر خاقاني) . 4 - قد منع سماع دعوى الرهن والشرط والوفاء والاستغلال غير المندرجة في السند بتاريخ 28 رجب سنة 91 و 28 أغسطس سنة 90.

5 - قد منع بتاريخ 18 صفر سنة 1306 هـ و 12 تشرين الأول سنة 1304 هـ سماع دعوى فراغ الأراضي الأميرية بشرط الإعاشة الغير المندرج بسند الطابو. 6 - قد منع استماع دعوى فراغ المستغلات الموقوفة مجانا بشرط الإعاشة الغير المندرج في سند التصرف. 7 - قد منع في 26 صفر سنة 78 سماع دعوى الفراغ وفاء الذي لم يندرج في سند الطابو. 8 - لا تسمع دعوى الخليط والشريك بحق الرجحان بعد خمس سنوات حسب قانون الأراضي. 9 - إذا تفرغ متصرف الأرض بالأراضي الأميرية التي عليها أبنية أو أشجار لآخر - فلا تسمع دعوى صاحب الأبنية والأشجار بحق الرجحان بتلك الأراضي بعد مرور عشر سنوات على الفراغ. 10 - إذا تفرغ أحد بالأرض التي بتصرفه بموجب سند طابو الواقعة في حدود القرية لآخر من أهالي قرية أخرى فلمن كان له احتياج للأرض من أهالي تلك القرية أن يدعي تلك الأرض إلى سنة ببدل المثل، ولا تسمع دعواه بعد مرور سنة حسب قانون الأراضي. 11 - إن الأراضي الأميرية التي تصبح مملوكة كعدم وجود أصحاب انتقال لها - لا تسمع فيها دعوى حق الطابو الذي يثبت لصاحب الأبنية والأشجار في تلك الأرض بعد مرور عشر سنوات. 12 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو بالأراضي المذكورة من الخليط والشريك بعد مرور خمس سنوات.

13 - كذلك لا تسمع دعوى حق الطابو في الأراضي المذكورة من الأشخاص المحتاجين للأراضي بعد مرور سنة. 14 - لا تسمع دعوى الربح الملزم زيادة عن تسعة في المئة سنويا. 15 - إذا وجد بين ورثة المتوفى شخص لم يبلغ خمس عشرة سنة فلا تسمع دعواه البلوغ قد منع حكام الشرع من استماع دعواه. السنة التي تعتبر في مرور الزمن: تعتبر في مرور الزمن السنة العربية - أي: القمرية - وليست السنة الشمسية فلذلك يجب حساب مدة مرور الزمن بالسنة القمرية، مثلا إذا كان السند المحتوي الدين مؤرخا بتاريخ السنة الشمسية ولم يؤرخ بالسنة القمرية فيحسب مرور ذلك بالسنة القمرية. مبدأ ومنتهى مرور الزمن: إن مبدأ مرور الزمن يبتدئ من ثبوب الحق ومنتهاه إقامة الدعوى في حضور القاضي فلذلك يجب حساب مبدئه ومنتهاه على الوجه المشروح. إذا أثبت من ادعى مرور الزمن مدعاه بالبينة فبها، أما إذا لم يثبت فهل له تحليف خصمه اليمين؛ أي: إذا قال المدعى عليه: إنني متصرف في هذا العقار ست عشرة سنة بلا نزاع وأنت سكت، وأنكر المدعي تصرف المدعى عليه هذه المدة ولم يثبت المدعى عليه بالبينة تصرفه هذا فهل للمدعى عليه أن يحلف خصمه اليمين على عدم العلم بتصرفه ست عشرة سنة؟ لم أر صراحة في هذه المسألة إلا أن الفقهاء قد بينوا تحت قاعدة عمومية المسائل التي يجب فيها اليمين وهي: 4 - كل موضع يلزم فيه الخصم إذا أقر يستحلف إذا أنكر. ويستثنى من

هذه القاعدة ثلاث مسائل ومرور الزمن ليس منها (صرة الفتاوى في الدعوى) فعلى ذلك يلزم اليمين في هذه المسألة حسب هذه القاعدة أن بينة مرور الزمن مرجحة. ترجح بينة مرور الزمن على بينة أن المدة التي مرت أقل من مدة مرور الزمن سواء كان المدعى به ملكا أو وقفا أو أرضا أميرية. مثلا إذا ادعى ذو اليد بأن الملك العقار المدعى به هو في تصرفه بلا نزاع زيادة عن خمس عشرة سنة وأن دعوى المدعي غير مسموعة وادعى المدعي الخارج بأن مدة تصرف المدعى عليه هي عشر سنوات وأن دعواه مسموعة وأقام البينة على ذلك فترجح بينة ذي اليد (الطريقة الواضحة) . إذا أقام زيد على عمرو دعوى فادعى عمرو أنه مر خمس عشرة سنة وادعى زيد بأنه لم تمر خمس عشرة سنة وأقام البينة على ذلك، فأيهما كان مشهورا ومعروفا يعمل بها؟ أما إذا أثبت زيد أنه قدم الدعوى قبل مرور خمس عشرة فيعمل بها (أبو السعود) .

وإن صدور الحكم بالمدعي به لا يمنع وقوع مرور الزمن فلذلك لو استحصل أحد حكما بمطلوبه ولم يطلبه مدة خمس عشرة سنة ولم يضع أعلام الحكم، لأجل تنفيذه في الإجراء يحصل مرور الزمن في حالة تصرف المدعى عليه بلا نزاع، أما إذا كان معروفا ومشهورا أن تصرف المدعى عليه في ذلك العقار بالوكالة عن المدعي فلا يتحقق مرور الزمن. مثلا: إذا ادعى المدعي قائلا: إن العقار الفلاني الذي في يدك هو ملكي وبعد أن أنكر المدعى عليه ادعى أنه متصرف في العقار المذكور منذ خمس عشرة سنة بلا نزاع فأجابه المدعي: نعم، إنك متصرف منذ خمس عشرة

سنة ولكن إن تصرفكم هذا بالوكالة عني وكان مشهورا ومعروفا أن تصرفه بالوكالة عن المدعي فيسقط ادعاء المدعى عليه بمرور الزمن؛ لأن التصرف كما يكون أصالة يكون نيابة كالوكالة (البحر وأبو السعود) . المادة (1660) - (لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين والوديعة والعقار الملك والميراث والمقاطعة في العقارات الموقوفة أو التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد تركها خمس عشرة سنة) . لا تسمع الدعاوى الغير العائدة لأصل الوقف أو للعموم كالدين ولو كان دية والوديعة والعارية والعقار الملك والملك الذي لم يكن عقارا كالحيوان والأمتعة الأخرى والميراث والقصاص والمقاطعة في العقارات الموقوفة ودعوى التصرف بالمقاطعة ودعوى التصرف بالإجارتين والتولية المشروطة والغلة بعد أن تركت خمس عشرة سنة. أما مدة مرور الزمن في الدعاوى الأخرى كالطلاق والنكاح والوصية فالتفصيلات عنها مفقودة. ولكن يمكن أن يقال: إن الخصومات التي لم يمنع استماع الدعاوى فيها بمرور الزمن يجب استماعها ما لم يقع مرور زمن اجتهادي. مدد مرور الزمان: إن مدد مرور الزمن في الدعاوى الحقوقية في هذا الحال على خمسة أقسام: القسم الأول: مرور زمن الست والثلاثين سنة، وهذا يكون في دعوى أصل الوقف وفي دعوى صاحب الأرض برقبة الأرض. انظر المادة الـ (1661) وشرح المادة الـ (1662) .

القسم الثاني: مرور زمن الخمس عشرة سنة، وهذا قد عدد قسم منه آنفا: وقسم منه مذكور في المادة الـ (1662) . القسم الثالث: مرور زمن العشر سنوات، وهذا مذكور في المادة الـ (1662) . القسم الرابع: مرور زمن السنتين، فحسب ذيل قانون الأراضي لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الخالية والمحلولة التي فوضت من طرف الحكومة للمهاجرين والتي زرعت منهم أو أنشئت عليها أبنية بعد مرور سنتين بلا عذر. القسم الخامس: مرور زمن شهر. انظر المادة الـ (134) . ولنبحث الآن في تفصيل مدد مرور الزمن في الأمور البينة آنفا: الدين: مثلا: لو ادعى أحد على آخر قائلا: أطلب منك أن تؤدي لي كذا مبلغا الذي أخذ أو ثمن المبيع الذي بعته لك فلا تسمع دعواه. ويفهم من ذكر الدين مطلقا أنه يشمل جميع الديون، سواء كان عائدا للآحاد، أي: ديون الناس مع بعضهم البعض أو كان ديون بيت المال من الآحاد أو ديون الآحاد من بيت المال خمس عشرة سنة على هذه الديون يحصل فيه مرور الزمن؛ فلذلك قد صدرت إرادة سنية بتاريخ سنة 1300 هـ وتشرين الثاني سنة 1898 م بعدم سماع دعوى دين بيت المال بعد مرور خمس عشرة سنة. الوديعة: إذا ادعى أحد على آخر قائلا: إنني أطلب منك الوديعة التي أودعتها لك قبل خمس عشرة سنة وأنكر المدعى عليه فلا تسمع الدعوى. العارية: إذا توفيت امرأة وادعت أمها على زوجها قائلة: إنني أعرت

ابنتي المتوفاة كذا وكذا وأنكر الزوج - فلا تسمع دعواها. الميراث: إذا ادعى أحد الورثة على آخر قائلا: إنه قد بقي عندك كذا أشياء من مال مورثنا المتوفى قبل خمس عشرة سنة فأطلب حصتي من تلك الأشياء وأنكر المدعى عليه ذلك - فلا تسمع دعواه. العقار الملك: إذا ادعى أحد بأن العقار كالدار والكرم الذي في تصرف شخص آخر مدة خمس عشرة سنة بلا نزاع بأنه ملكه أو أن له حصة فيه - فلا تسمع دعواه. كذلك إذا تصرف اثنان بكرم مدة خمس عشرة سنة بالاشتراك ولم يدعيا على بعضهما البعض في تلك المدة ثم ادعى أحدهما أن ذلك الكرم ملكه مستقلا - فلا تسمع دعواه. المقاطعة في العقارات الموقوفة: المقاطعة: وهي العقار الذي يكون عرصته وقفا وتكون الأبنية والأشجار والكروم التي عليها العرصة ملكا ويدفع من المتصرف فيها إجارة مقطوعة سنويا لجانب الوقف، وتسمى هذه أيضا: إجارة الأرض، ويجوز وقف هذا الملك أيضا، يعني: إذا وقف أحد بإذن المتولي الذي أحدثه على العرصة الموقوفة أو الشجر الذي غرسه عليها لنفسه فيصح الوقف سواء كان موقوفا في الجهة الموقوفة عليه العرصة الموقوفة أو وقف على جهة أخرى؛ لأنه وإن كانت جهة القرب مختلفة إلا أنهم يجمعان في أصل القرب واختلاف الجهة لا أوجب اختلاف الحكم (علي أفندي) . ويمكن تصوير دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بمقاطعة على أربعة أوجه:

الوجه الأول: أن يكون المدعى به ملكا: مثلا: لو ادعى أحد قائلا: إن داري المملوكة المنشأة على عرصة الوقف الفلاني والمربوطة بكذا مبلغا مقاطعة للوقف يتصرف بها هذا المدعى عليه منذ خمس عشرة سنة وحيث إنها ملكي فأطلب تسليمها، فإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعي هذه فلا تسمع دعواه وتكون هذه الدعوى دعوى العقار الملك. الوجه الثاني: يكون المدعى به وقفا، وهذا إما أن يكون بإجارة واحدة فلا يتصور فيه إقامة دعوى التصرف والدعوى التي تقام من متولي الوقف تكون عائدة إلى أصل الوقف ويكون مرور زمن فيها ستا وثلاثين سنة. وإما أن تكون بإجارتين، وهذه تدخل تحت فقرة (أو التصرف بالإجارتين) . الوجه الثالث: تكون صورة الدعوى على الوجه الآتي يربط كلمة التصرف بكلمة المقاطعة وهو إن ادعى زيد على عمرو قائلا: إن عرصة هذا الوقف هي تحت التصرف بالمقاطعة بكذا درهما. فإذا لم يمر خمس عشرة سنة فتسمع الدعوى وإلا فلا. أما إذا ادعى أحد قائلا: إن العرصة التي أخذتها من المتولي زيد هي للوقف الفلاني الذي أنا متول عليه وهي بتصرفك بمقاطعة، وادعى أن العرصة ملكه وأنكر المقاطعة فيما أن هذه الدعوى في هذه الصورة تتعلق برقبة الوقف فتسمع الدعوى فيها إلى ست وثلاثين سنة. الوجه الرابع: إذا لم تربط كلمة تصرف بكلمة مقاطعة فتكون صورة الدعوى على هذا الوجه: أن العرصة الفلانية التي أخذتها من المتولي زيد التي هي من مستغلات

الوقف الذي تحت توليتي هي تحت تصرفك وبما أنه يطلب للوقف منك كذا مبلغا بدل مقاطعة فأطلب منك أداء ذلك. وحقيقة هذه الدعوى دعوى دين وتدخل في الدين، فلذلك يجب أن يكون مقصودا من عبارة (دعوى التصرف في العقارات الموقوفة بالمقاطعة) - الوجه الثالث.

دعوى التصرف بالإجارتين في العقارات الموقوفة - تكون هذه الدعوى على وجهين: الوجه الأول: تكون بين المتصرفين، مثلا: إذا تصرف أحد بالإجارتين في عقار وقف في مواجهة آخر خمس عشرة سنة وسكت بلا عذر هذه المدة ثم ادعى بعد ذلك أن العقار المذكور في تصرفه بالإجارتين قبل المدة المذكورة - فلا تسمع دعواه، وكما أنه لا تسمع دعواه التصرف مرور خمس عشرة سنة لا تسمع دعواه الفراغ وفاء (جامع الإجارتين) . كذلك إذا تصرف اثنان بالاشتراك في عقار وقف بالإجارتين مدة خمس عشرة سنة ولم يدع في هذه المدة أحدهما على الآخر وقام أحدهما وادعى على الآخر أن ذلك العقار كان في تصرفه بالإجارتين قبل السنين المذكورة مستقلا - فلا تسمع دعواه. الوجه الثاني: تكون بين المتصرف والمتولي، مثلا: إذا تصرف أحد في عقار وقف بطريق الإجارتين مدة خمس عشرة سنة في مواجهة متولي ذلك الوقف وسكت المتولي تلك المدة بلا عذر: فإذا ادعى المتولي بعد ذلك قائلا للمدعى عليه: إن العقار المذكور لم يؤجر لك وإنك ضبطت ذلك العقار فضولا - فلا تسمع دعواه. دعوى التولية المشروطة: إذا تصرف أحد بوقف بصفته متوليا

بالمشروطة مدة خمس عشرة سنة ثم ظهر شخص آخر وادعى بأن المتولي لذلك الوقف بالمشروطة هو نفسه لا تسمع دعواه. والمتولي: هو الشخص الذي عين بإدارة ورؤية أمور ومصالح الوقف حسب شروط الوقفية، وهو على قسمين: القسم الأول: المتولي الذي تكون توليته من اقتضاء شروط الوقفية ويقال له: متول بالمشروطة. القسم الثاني: المتولي الذي لم يشرط من طرف الواقف شرط بأن يكون متوليا، بل هو متول بنصب القاضي له متوليا. دعاوى الغلة: ومعنى غلة الوقف: هي فائدة ومحصول الوقف كربح النقود الموقوفة، وبدل إيجار العقار الموقوف، ومحصول المزرعة الموقوفة، وثمر الروضة الموقوفة - فعليه إذا تصرف عمرو بعد وفاة ولده بكر من أولاد أولاد الواقف في المزرعة الموقوفة المشروطة غلتها على أولاد الواقف وأولاد أولاده في مواجهة بشر أربعين سنة مستقلا وسكت بشر هذه المدة بلا عذر، وبعد ذلك ادعى بشر على بكر قائلا في دعواه: إنني من أولاد الواقف وإن لي حق المشاركة في غلة المزرعة معك - فلا تسمع دعواه (علي أفندي) . فإذا استمع القاضي الدعوى التي وقع فيها - مرور زمن على هذا الوجه وحكم فيها فلا ينفذ حكمه؛ لأن الحكم والقضاء المخالف لأمر إمام المسلمين المشروع مردود (جامع الإجارتين) . المادة (1661) : (تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ستة وثلاثين سنة، ولا تسمع بعد مرور ست وثلاثين سنة: مثلا: إذا

تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة ثم ادعى متولي وقف قائلا: إن ذلك العقار هو من مستغلات وقفي - فلا تسمع دعواه) . تسمع دعوى المتولي والمرازقة في حق أصل الوقف إلى ست وثلاثين سنة، وكل شيء يتعلق به صحة الوقف هو من أصل الوقف، وكل شيء لا يتوقف عليه صحة الوقف هو من شروط الوقف (جامع الإجارتين) . والمتولي كما بينا آنفا؛ إما أن يكون بالمشروطة، أو بنصب القاضي، والدعوى صحيحة من أيهما كان. والمرازقة: هم الذين يأخذون معاشا وراتبا من غلة الوقف، ويسمى هؤلاء: أهل الوظائف أيضا كإمام الجامع وخدمته. يفهم من ظاهر المجلة بأن المرازقة هم خصم في دعوى الوقف إلا أن هذه المسألة مختلف فيها بين الفقهاء، وبيان ذلك أن حق الدعوى في الأوقاف هو للمتولي عند بعض الفقهاء، ولا يكون المرازقة مدعين مدعى عليهم في الوقف، والقول المفتى به في ذلك الحين هو هذا القول، مثلا: إذا ادعى أحد على العقار الذي في يد آخر قائلا: إن سكن هذا العقار وغلته هي وقف مشروطة لي وادعى ذو اليد بأن العقار المذكور ملكه؛ فإذا كان ذلك المدعي هو متولي الوقف فتعتبر خصومته ودعواه، وإذا كان غير ذلك فلا تعتبر على القول المختار [جامع الإجارتين] و [النتيجة] ، و [البحر في الدعوى والإسعاف] ، و [رد المحتار] ، و [أوائل الشهاد في الوقف] . أما إذا أولت هذه الفقرة (بأنه تسمع دعوى المرتزقة برأي القاضي فتكون موافقة للرأي المختار) مثلا: إذا كان المتولي غائبا أو لم يدع كما أنه لم يوكل الموقوف عليه - فتسمع دعوى الموقوف عليه بإذن القاضي.

وعند بعض الفقهاء: إن للموقوف عليه أن يكون مدعيا في الأوقاف، كما للمتولي حق بذلك فلذلك إذا كان الوقف على معين فدعوى الموقوف عليه المعين صحيحة (الحموي) . ويرى أن المجلة قد اختارت هذا القول. وأصل دعوى الوقف سواء كان عقارا، وقد ذكر في المجلة، أو كان منقولا كالنقود والدعاية التي تتعلق بأصل النقود الموقوفة تسمع إلى ست وثلاثين سنة. مثلا: إذا أتلف أحد كذا دينارا من النقود الموقوفة التي تحت توليته بصرفها على نفسه ثم عين متول آخر على ذلك الوقف ولم يدع ذلك المتولي تلك النقود وبعد مرور خمس عشرة سنة نصب على الوقف متول آخر وادعى على المتولي الأول بتلك النقود - فليس للمتولي الأول أن يقول للمتولي: لا تسمع دعواك حيث قد مر خمس عشرة سنة (علي أفندي) . أما الدعوى المتعلقة بربح النقود الموقوفة فتسمع إلى خمس عشرة سنة فقط، ولا تسمع دعوى المتولي والمرتزقة في حق أصل الوقف بعد مرور ست وثلاثين سنة، ومرور الزمن في ذلك هو مرور الزمن الذي هو حكم اجتهادي. والدعوى في حق أصل الوقف تكون على صورتين: الصورة الأولى: تكون بين الملكية والوقفية، مثلا: إذا تصرف أحد في عقار ستا وثلاثين سنة على وجه الملكية ثم ادعى متولي وقف قائلا: إنه من مستغلات وقفي - فلا تسمع دعواه. أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من ست وثلاثين سنة فتسمع الدعوى -

فعليه لو ضبط أحد بضعة حوانيت وتصرف فيها على وجه الملكية مدة خمس وعشرين سنة ثم ادعى متولي وقف أن تلك الحوانيت هي وقف فلان - فتسمع دعواه (علي أفندي) . الصورة الثانية: تكون بين وقفين، مثلا: لو أجر متولي وقف عقارا على أنه من مستغلات الوقف الذي تحت توليته مدة ست وثلاثين سنة في مواجهة متولي وقف آخر وسكت متولي الوقف الثاني في هذه المدة بلا عذر ثم ادعى على متولي الوقف الأول أن العقار المذكور من مستغلات وقفه - فلا تسمع دعواه. المادة (1662) - (إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك - فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة، وإن كانت في عقار الوقف للمتولي أن يدعيها إلى ست وثلاثين سنة، وكما لا تسمع دعاوى الأرض الأميرية بعد مرور عشر سنوات كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات) . إن كانت دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في عقار الملك فلا تسمع بعد مرور خمس عشرة سنة. ويستعمل الطريق الخاص والمسيل في معنيين: أولهما: بمعنى رقبة الطريق ورقبة المسيل، وقد مر في شرح المادة الـ (1213) والـ (1143) تعريف الطريق الخاص كما أنه قد ذكر في المادة الـ (1220) بأنه كالملك المشترك لمن لهم فيه حق المرور. قد ذكر في الـ (144) أن المسيل: هو محل جريان الماء والسيل

(الهندية في باب البيع الفاسد في قوله: وبيع الطريق وهبته) . وعلى هذا المعنى: إذا كان الطريق والمسيل لعقار الملك فمدة مرور الزمن فيها خمس عشرة سنة، إذا كانا لعقار وقف فمدة مرور الزمن فيها ست وثلاثون سنة وقد ذكر ذلك في مادتي الـ (1660) والـ (1661) فإذا كان يقصد في هذه المادة هذا المعنى فيكون تكرارا، كما أن عبارة (في العقار الملك) مانعة من إرادة هذا المعنى؛ لأنه لا يصح أن يكون الشيء ظرفا لنفسه. ثانيا: معنى حق المرور، حق المسيل وهذا المعنى مناسب لتعبير حق الشرب وإذا قصد هذا المعنى فلا يكون الكلام تأكيدا، بل يكون تأسيسا، والتأسيس أولى من التأكيد. مثال للمعنى الثاني: إذا ادعى أحد بأن له حق مرور في العرصة التي في تصرف آخر مستقلا مدة خمس عشرة سنة وأنه كان يمر منها قبل خمس عشرة سنة - فلا تسمع دعواه. وإذا كانت في العقارات الموقوفة فللمتولي أن يدعي ذلك لست وثلاثين سنة. مثلا: لو كان لحانوت وقف حق مسيل في عرصة موقوفة لجهة أخرى - فلمتولي الوقف الأول أن يدعي على متولي الوقف الثاني إلى ست وثلاثين سنة: وفي ذلك ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات الموقوفة، وأن يكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا، كما في المثال المذكور آنفا. الصورة الثانية: أن يكون حق الطريق واقعا في عقارات موقوفة ويكون

العقار الذي يرجع إليه حق الطريق ملكا؛ كادعاء أحد على متولي عرصة بقوله: إن لداري الملك حق طريق في العرصة التي أنت متول عليها ومدة مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر هي خمس عشرة سنة، تبعا للعقار الملك التي هي عائدة إليه. الصورة الثالثة: أن يكون حق الطريق واقعا في العقارات المملوكة ويكون العقار الذي يرجع إليه حق الطريق وقفا كادعاء متولي وقف عقارا على آخر بقوله: إن للعقار الذي تحت توليتي حق مرور في العرصة التي هي ملكك ومدة مرور الزمن في هذه الدعوى على الظاهر ست وثلاثون سنة، تبعا للعقار الموقف التي هي عائدة إليه. وكما أنه لا تسمع دعوى التصرف في الأراضي الأميرية بعد مرور عشر سنوات قمرية، كذلك لا تسمع دعاوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في الأراضي الأميرية بعد أن تركت عشر سنوات. يوجد في هذه الفقرة أربع مسائل ويفصل كل منها على الوجه الآتي: المسألة الأولى: دعاوى الأراضي الأميرية. والمقصد منها دعاوى التصرف في الأراضي الأميرية سواء كانت الأميرية أميرية صرفة أو أميرية موقوفة. مثلا: إذا تصرف أحد في مزرعة في الأراضي الأميرية عشر سنوات في مواجهة آخر وسكت ذلك الآخر تلك المدة بلا عذر فأقام الدعوى قائلا: إن تلك المزرعة هي بتصرفي بموجب سند طابو قبل السنين المذكورة وأنكر المدعى عليه - فلا تسمع دعواه. وقد جاء في [جامع الفصولين] : رجل تصرف في الأراضي الأميرية عشر سنين يثبت له حق القرار ولا تؤخذ من يديه.

تكون دعوى التصرف في الأراضي الأميرية على صورتين: الصورة الأولى: تكون بإقامة الدعوى من شخص على آخر وهو كما في المثال المتقدم الذكر. الصورة الثانية: تكون بإقامة صاحب الأرض على شخص. مثلا: إذا ادعى صاحب الأرض الأراضي التي بتصرف أحد بموجب طابو محلولة من عهدة فلان أو أنها من الأراضي الأميرية الخالية وطلب ضبطها لبيت المال، مبينا أن تصرف المدعى عليه بها تصرف فضولي، فأنكر المدعى عليه التصرف الفضولي وادعى تصرفه بها على كونها أراضي أميرية منذ عشر سنوات وأثبت مدعاه - فلا تسمع دعوى صاحب الأرض، أما إذا كانت المدة التي مرت أقل من عشر سنوات - فتسمع الدعوى. مثلا: لو ترك أحد دعواه على آخر المتعلقة بأرض مسجلة بالطابو تسع سنوات وأحد عشر شهرا - فلا يمنع هذا الإهمال استماع دعواه، كما أنه لو تركها تسع سنوات وأحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما بلا عذر ولم تتم السنوات العشر - تسمع دعواه. كذلك لو تصرف أحد مع آخر في مزرعة من الأراضي الأميرية بالاشتراك السنوي عشر سنوات وسكت ذلك الشخص هذه المدة بلا عذر وادعى بعد مرور السنوات العشر بأن جميع المزرعة هي بتصرفه بموجب طابو فلا تسمع دعواه. وقد صدرت إرادة سلطانية بتاريخ 22 المحرم سنة 1300هـ و 22 تشرين الثاني سنة 1298 بسماع دعوى مأمور الأرض المتعلقة برقبة الأرض الأميرية إلى ست وثلاثين سنة.

مثلا: إذا تصرف أحد في أرض على كونها ملكه فتسمع دعوى مأمور الأراضي بأنها أراض أميرية إلى ست وثلاثين سنة. كذلك إذا ادعى صاحب الأرض بأن الأرض من الأراضي الأميرية وادعى المتولي ذي اليد بأنها وقف - فتسمع دعوى صاحب الأرض إذا لم يمر ست وثلاثون سنة، أما إذا مر ست وثلاثون سنة فلا تسمع دعواه. المسألة الثانية: دعاوى الطريق الخاص في الأراضي الأميرية. إذا ادعى أحد قائلا: إن لمزرعتي التي تحت تصرفي بموجب طابو طريقا خاصا في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مر عشر سنوات. المسألة الثالثة: دعاوى المسيل في الأراضي الأميرية. إذا ادعى أحد قائلا: إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق مسيل في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات. إن الصور الثلاث التي ذكرت في شرح الفقرة الثانية من المادة الآنفة تلاحظ في هاتين المسألتين. المسألة الرابعة: دعاوى حق الشرب في الأراضي الأميرية: إذا ادعى أحد قائلا إن لهذه المزرعة التي تحت تصرفي بموجب طابو حق شرب في النهر الموجود في المزرعة التي تحت تصرفك بموجب طابو - فلا تسمع الدعوى فيها إذا مرت عشر سنوات، وإلا فتسمع. المادة (1663) - (والمعتبر في هذا الباب - أي: في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى - هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط، وأما مرور الزمن

الحاصل بأحد الأعذار الشرعية ككون المدعي صغيرا أو مجنونا أو معتوها، سواء كان له وصي أو لم يكن له أو كونه في ديار أخرى مدة السفر أو كان خصمه من المتغلبة فلا اعتبار له، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر. مثلا: لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر المدعي، بل يعتبر مرور الزمن من تاريخ وصوله حد البلوغ. كذلك إذا كان لأحد مع أحد المتغلبة دعوى ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمن تغلب خصمه وحصل مرور زمن لا يكون مانعا لاستماع الدعوى، وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب) . والمعتبر في هذا الباب - أي: في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى - هو مرور الزمن الواقع بلا عذر. أما الزمن الذي مر بعذر شرعي ككون المدعي، أي: صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها، سواء كان له وصي أو لم يكن أو كان المدعي أو المدعى عليه في ديار أخرى مدة السفر أو كان خصمه - أي: المدعى عليه - من المتغلبة فلا يعتبر، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن من تاريخ زوال واندفاع العذر (علي أفندي) . فعلى هذه الصورة: لو كان لزيد حق ثابت في ذمة عمرو فتغيب عمرو بعد ثبوت ذلك الحق أربع عشرة سنة ثم حضر فمبدأ مرور الزمن يعتبر من تاريخ حضور عمرو، فلو أقام زيد الدعوى بعد التاريخ المذكور بثلاث عشرة سنة - تسمع دعواه. والمدة التي تمر بأعذار كهذه لو بلغت أربعين أو خمسين سنة فتسمع الدعوى؛ لأن من المقرر أن الترك لا يتأتى من الغائب له أو عليه؛ لعدم تأتي الجواب منه بالغيبة، والعلة خشية التزوير، ولا لتالي بالغيبة الدعوى عليه

[رد المحتار] . الأعذار الثلاثة: يطلق على الأعذار المبينة في هذه المادة الأعذار الثلاثة. الأول: القاصرية: وهو عبارة عن كون صاحب الحق صغيرا أو مجنونا أو معتوها، فالمدة التي تمر أثناء القاصرية لا تدخل في حساب مرور الزمن، سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ. مثلا: لو دامت القاصرية خمس سنوات وزالت في ابتداء السنة السادسة فيبتدئ مرور الزمن اعتبارا من السنة السادسة، كما أنه لو دامت القاصرية خمس عشرة سنة وزالت في ابتداء السنة السادسة عشرة فيحسب مرور الزمن من ابتداء السنة السادسة عشرة. أما إذا بدأ مرور الزمن حينما لم تكن القاصرية موجودة، وقبل اكتمال مرور الزمن حصلت القاصرية، ثم زالت بعد مدة، فهل يجب تنزيل المدة التي كان فيها في حالة القاصرية من مدة مرور الزمن؟ يعني: مثلا: لو باع زيد وهو أهل للتصرف مالا لعمرو بعشرين دينارا وبعد خمس سنوات طرأ على عمرو قاصرية دامت عشر سنوات ثم زالت ثم ادعى بعد زوال القاصرية بثماني سنوات؛ فإذا نزلت من المدة مدة القاصرية فيكون مجموع المدة ثلاث عشرة سنة، ويجب سماع الدعوى، وفي حالة عدم تنزيلها تكون المدة ثلاثا وعشرين سنة، ويجب عدم سماع الدعوى. إن هذه المسألة محتاجة للحل ومن الموافق استماع الدعوى لحين وجود مسألتها الصريحة. الثاني: الغيبة: وهي أعم من غيبة المدعي أو المدعى عليه، فالمدة التي

تمر في حالة الغيبة سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ فلا تأثير لها في مرور الزمن إذا كان ثبوت الحق المدعى به في حالة الغياب. مثال على كونه بالغا مدة مرور الزمن: إذا كان لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار بعيدة مدة السفر وتحقق في ذمة الغائب بطريق البيع أو الإجارة أو الإقراض بطريق المكاتبة أو المراسلة أو بإتلاف المال ولم يتمكن من الادعاء بمطلوبه ثم بعد مرور خمس عشرة سنة حضر ذلك الشخص ثم بعد مرور أربع عشرة سنة من حضوره أقام صاحب الحق عليه الدعوى - فتسمع دعواه. مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن: إذا ثبت لأحد في ذمة آخر حق وهو مقيم في ديار أخرى بعيدة مدة السفر ودامت غيبة المدين مدة خمس سنوات إلا أنه حضر في ابتداء السنة السادسة فبما أنه يبتدئ مرور الزمن من السنة السادسة فللمدعي أن يقيم الدعوى بعد تسع عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق. يوجد بعض مسائل تحتاج للحل في عذر الغيبة: 1 - إذا بدأ مرور الزمن في عدم وجود الغيبة وقبل أن يتم مرور الزمن تخللته الغيبة ثم زالت الغيبة بعد مدة، فهل يجب تنزيل مدة الغيبة من مرور الزمن أو لا يجب؟ فالظاهر أنه يجب تنزيلها. يعني: لو أقرض زيد لعمرو عشرة دنانير وسلمها إياه ثم أقام الاثنان في بلدة واحدة خمس سنوات ثم غاب عمرو وسافر إلى ديار بعيدة مدة السفر مدة عشر سنوات ثم حضر فادعى المدعي بعد حضوره بأربع سنوات؛ فإذا نزلت مدة الغيبة يكون مر تسع سنوات فقط، وإذا لم تنزل يكون قد مر تسع عشرة سنة، والظاهر: أنه

يجب تنزيل مدة الغيبة. 2 - إذا كان للمدعى عليه الغائب وكيل بالخصومة أو نائب له، يعني: لو وكل المدعى عليه قبل غيبته وكيلا في الخصومة في الدعاوى التي تقام له أو عليه وكانت هذه الجهة معلومة للمدعي إلا أن المدعي لم يقم الدعوى، لغيبة المدعى عليه، فهل يقع مرور الزمن؟ بما أنه في حالة غيبة المدعى عليه لا يمكن فصل بعض الدعاوى كأن لا يوجد لدى المدعي شهود ويتوجه اليمين فيها على المدعى عليه فالظاهر بأنه لا يحصل مرور الزمن في هذه المسألة. 3 - إذا كان للمدعي مطلوب في تركة وكان بعض الورثة غائبا وبعضهم حاضرا فلم يقم المدعي الدعوى على الحاضرين ورجع الغائب بعد مرور خمس عشرة سنة فأقام المدعي الدعوى عليه فهل يقع مرور الزمن؟ فالظاهر: أنه لا يقع مرور زمن في حصة هذا الغائب. الثالث: التغلب: وهو أن يكون المدعي عليه من المتغلبة، فالمدة التي تمر في حالة التغلب، سواء بلغت حد مرور الزمن أو لم تبلغ فلا تأثير لها على مرور الزمن ما دام ثبوت الحق كان في زمن التغلب. مثال على بلوغ مدة مرور الزمن: إذا غصب أحد - في حالة غلبة - أغنام شخص آخر وامتد تغلبه خمس عشرة سنة وزال في السنة السادسة عشرة وادعى المدعي بعد مرور ثماني سنوات من تاريخ زوال التغلب - فتسمع دعواه.

مثال على عدم بلوغ مدة مرور الزمن: لو غصب أحد - في حالة تغلبه - مزرعة آخر وامتد تغلبه خمس سنوات وزال تغلبه في السنة السادسة وادعى

بعد ثماني سنوات من زوال التغلب - فتسمع دعواه. أما إذا ابتدأ مرور الزمن قبل وجود التغلب وتخلل ذلك التغلب قبل انقضاء مدة مرور الزمن ثم زاد التغلب بعد مدة فهل يجب تنزيل مدة التغلب؟ . . يعني: مثلا: لو غصب أحد قبل أن يكون متغلبا عشرة دنانير من آخر ثم بعد مرور ثماني سنوات أصبح متغلبا ودام تغلبه سبع سنوات ثم زال تغلبه فأقام المدعي بعد سنتين من زوال التغلب فإذا تنزلت مدة التغلب تكون الدعوى مسموعة، وإذا لم تنزل فتكون غير مسموعة، والظاهر: أنه يجب تنزيلها. قيل في المجلة: (ككون المدعي صغيرا. . . إلخ) ؛ لأنه يوجد عذر رابع حيث إذا منع الزوج زوجته صاحبة الحق من إقامة الدعوى منعا أكيدا ولم تدع من أجل ذلك فهذا العذر معدود عذرا شرعيا ولها إقامة الدعوى بعد زوال المنع ولا تعتبر المدة التي مرت أثناء المنع، إلا أنه يجب أن يثبت منع الزوج لها. (علي أفندي) . مثال على القاصرية: مثلا: لا يعتبر الزمن الذي مر حال جنون أو عته أو صغر أحد، وإنما يعتبر من تاريخ وصوله إلى حد البلوغ أو تاريخ زوال الجنون أو العته، ففي هذه الصورة لو بلغ الصغير ومر تسع سنوات فلا يمنع ذلك من سماع الدعوى. كذلك لو ترك المجنون أو المعتوه الدعوى تسع سنوات ونصفا فلا يمنع ذلك من استماع دعواه، مثال لمدة السفر البعيدة: لو سافر أحد إلى ديار بعيدة مدة السفر ولم يدع دائنه بالعشرة الدنانير المطلوبة له من ذمة الغائب ثم عاد الغائب بعد أربع عشرة سنة وبعد عودته بثماني سنوات أقام صاحب

الدين عليه الدعوى - فليس للمدعى عليه أن يقول: إن الدعوى غير مسموعة، لمرور الزمن. مثال للتغلب: كذلك إذا كان لرجل مع أحد المتغلبة دعوى ولم يمكنه الادعاء لامتداد زمان تغلب خصمه ووجد مرور الزمن بترك الدعوى الأرض الأميرية خمس عشرة سنة فلا يكون ذلك مانعا لاستماع الدعوى وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب. أما عدم العلم فليس من الأعذار الشرعية. [فتاوى أبي السعود] . مثلا: لو ضبط أحد مزرعة من الأراضي الأميرية وتصرف بها مدة عشر سنوات في مواجهة آخر وسكت الآخر تلك المدة ثم ادعى بقوله: إن المزرعة هي في تصرف والدي المتوفى بموجب طابو قبل السنين المذكورة وبوفاته قد انتقلت المزرعة المذكورة حصرا لي ولكن كنت أجهل بأن تلك المزرعة هي في تصرف والدي فلذلك لم أقم الدعوى قبلا والآن علمت ذلك، فأدعي، فلا تسمع دعواه. والحكم على هذا المنوال في التصرف بالإجارتين. مثلا: لو تصرف أحد في دكان وقف بالإجارتين مدة عشرين سنة في مواجهة آخر وسكت المذكور تلك المدة بلا عذر ثم ادعى أن الدكان المذكورة هي لوالده المتوفى بكر وقد انتقلت إليه بالانتقال العادي وأنه سمع ذلك من بعض الناس إلا أنه كان يجهل أن الحال كما ذكر فلم يتقدم للدعوى وأنه يتقدم إليها الآن - فلا تسمع دعواه. [جامع الإجارتين] . ترجح بين مرور الزمن الحاصل بعذر: مثلا: لو ادعى طرف بأن مرور زمن حصل بعذر وأقام البينة على ذلك وادعى الطرف الآخر بأنه وقع بغير

عذر فترجح بينة كونه واقعا بعذر. المادة (1664) : (مدة السفر هي ثلاثة أيام، أي: مسافة ثماني عشرة ساعة بالسير المعتدل) . مدة السفر البعيدة هي ثلاثة أيام بالسير المعتدل، أي: راجلا أو راكبا حيوانا سيرا متوسطا مع الاستراحة المعتادة، وهو في الأيام القصيرة ثلاثة أيام، أي: مسافة ثماني عشرة ساعة. فلذلك إذا وصل إلى بلدة يسير البريد في يومين مع كونه يصل إليها بالسير المعتاد بثلاثة أيام فتعتبر أيضا مسافة سفر. كذلك إذا وصل إلى بلدة بالقطار بيوم واحد أو بأقل من يوم وكانت مسافتها بالسير المعتدل ثلاثة أيام - فتعد البلدة المذكورة بعيدة مدة السفر [الفتاوى الجديدة] . إذا ذهب المدعى عليه إلى بلدة من البلاد الأجنبية وكانت بالنسبة إلى البلدة التي يوجد فيها المدعي غير بعيد مدة السفر فحيث إنه لا يمكن للمدعي أن يذهب إلى البلدة التي يقيم فيها المدعى عليه لاستحصال حقه حسب الأحكام المشروعة، فهل يعد ذلك عذرا في مرور الزمن؟ فالظاهر أنه يعد عذرا. المادة (1665) : (إذا اجتمع ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر مرة واحدة في بلدة في كل بضع سنوات ولم يدع أحدهما على الآخر شيئا مع أن محاكمتها كانت ممكنة وبعدها وجد مرور الزمن بهذا الوجه لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة) . ساكنا بلدتين بينهما مسافة سفر اجتمعا في بلدة وبتعبير آخر أن المدعي

قد علم بعودة خصمه ولم يدع أحدهما على الآخر وكانت محاكمتها ممكنة فبعد ما وجد مرور الزمن المعتبر في نوع المدعى به - لا تسمع دعوى أحدهما على الآخر بتاريخ أقدم من المدة المذكورة. وبهذه الصورة لو تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات في السنة الحادية عشرة اجتمع بزيد مرة واحدة وفي الثانية عشرة مرة أخرى وفي الثالثة عشرة مرة ثالثة؛ فإذا مر خمس عشرة سنة على مبدأ ثبوت الحق - فلا تسمع دعوى زيد. فعليه إذا أنكر المدعى عليه المدعى به وادعى أنه قد اجتمع بالمدعي بضعة مرات في ظرف الخمس عشرة سنة، وأنه كان ممكنا جريان المحاكمة بينهما وأقر المدعي بذلك أو أنكر وأثبت المدعى عليه ذلك - فلا تسمع دعواه. وقد ذكر في [فتاوى علي أفندي] ، في هذا المقام عبارة: (مرة في كل سنتين أو ثلاث سنوات) ويفهم من ظاهر هذه العبارة بأنه يجب التكرر في الاجتماع ولا يكفي اجتماع واحد وفي هذا الحال يجب حل أسئلة ثلاثة. 1 - كم مرة يجب أن يتكرر هذا الاجتماع، بما أنه يكون الاجتماع الثاني تكرر فهل يكفي ذلك أو يجب تكرره ثلاث أو أربع مرات؟ . 2 - ما هو السبب في اختلاف الحكم بين الاجتماع الواحد وبين الاجتماعين أو الأكثر؟ . 3 - إذا غاب أحد الطرفين في محل سفر بعيد تسع سنوات واجتمع الطرفان في السنة العاشرة وبعد ذلك غاب أحدهما في ديار بعيدة مدة السفر، مدة أربع سنوات ثم اجتمعا فبموجب المادة الـ (1663) يكون

مرور التسع سنوات الأولى بعذر ومرور الزمن يبتدئ من بعدها، ويجب استماع الدعوى في الاجتماع الثالث، وفي هذا الحال تكون هذه المادة منافية لأحكام المادة الـ (1663) ؟ وإذا أجيب على ذلك بأن المقصود من مرور الزمن في المادة الـ (1663) هو حد مرور زمن العشر سنوات أو الخمس عشرة سنة أو الست والثلاثين سنة التي تمت. أما في هذه المسألة فالتسع سنوات الأولى لم تصل إلى حد مرور الزمن ولا يكون صحيحا، والحقيقة: أن حكم هذه المادة مناف لحكم المادة الـ (1663) ؛ لأن مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى حسب المادة الـ (1663) هو مرور الزمن الواقع بلا عذر. مثلا: إذا تغيب عمرو بعد أن ثبت في ذمته حق لزيد مدة عشر سنوات واجتمع بزيد في السنة الحادية عشرة مرة وفي السنة الثانية عشرة مرة أخرى وفي السنة الثالثة عشرة مرة ثالثة ومر خمس عشرة سنة اعتبارا من مبدأ ثبوت الحق - فحسب هذه المادة لا تسمع الدعوى، والحال أنها تسمع بحسب المادة الـ (1663) ؛ لأن المانع من سماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر. وعلى ذلك فالعشر سنوات الأولى في المسألة الآنفة قد مرت بعذر. ويرد إلى الخاطر أن يجاب على هذا السؤال الجواب الآتي وهو: إذا تكرر الاجتماع أثناء الغيبة فالغيبة الأولى لا تعد عذرا فلا تنزل من المدة؛ لأنه لو جرى تنزيل مدة الغيبة الأولى يجب تنزيل الغيبة الثانية والثالثة والرابعة وما بعد ذلك، وفي هذا الحال لا يتحقق في هذه الدعاوى مرور الزمن مطلقا (وهو أنه لا يتحقق إذ لا ضرورة لتحققه) .

أما إذا لم يتكرر الاجتماع وكان الاجتماع واحدا فيجب تنزيل مدة الغيبة الأولى؛ لأنه في هذه الصورة لا يوجد المحذور الذي بين.

المادة الـ (1666) : (إذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي في كل بضعة سنوات مرة ولم تفصل دعواه ومر على هذا الوجه خمس عشرة سنة فلا يكون مانعا من استماع الدعوى، وأما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي فلا تدفع مرور الزمن، بناء عليه إذا ادعى أحد خصوصا في غير مجلس القاضي وطلب به، وعلى هذا الوجه وجد مرور الزمن فلا تسمع دعواه) . وإذا ادعى أحد على آخر خصوصا في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم الشرعي في كل بضع سنوات مرة ولم تفصل دعواه، وبقيت معطلة في المحاكم وحصل أثناء ذلك مرور الزمن المعين لذلك المدعي به كمرور خمس عشرة سنة في دعوى الدين - فلا يمنع ذلك استماع الدعوى. إلا أنه إذا بلغت المدة بين الدعويين إلى حد خمس عشرة سنة فيمنع ذلك استماع الدعوى. مثلا: إذا مرت بين دعوى الدين مدة خمس عشرة سنة وبين دعوى الأراضي الأميرية عشر سنوات - فيمنع ذلك سماع الدعوى. أما الادعاء والمطالبة التي لم تكن في حضور القاضي واللذان حصلا في مجالس الإدارة أو غرف التجارة أو نقابة الصناع أو غيرها مما لم يكن لها صلاحية الفصل والحكم في الدعوى فلا يدفع ذلك مرور الزمن، فعليه لو ادعى أحد بخصوص في غير حضور القاضي وحصل مرور الزمن المعين لنوع تلك الدعوى - فلا تسمع دعوى المدعي. إن تقديم الاستدعاء والمعروض للقاضي، ولو اقترن بإرسال ورقة

جلب - لا يقطع مرور الزمن حسب الأحكام الفقهية. وبتعبير آخر: إن الاستدعاء الذي يقدمه المدعي للمحكمة يطلب الحكم له على خصمه بحقه وطلب جلب خصمه للمحكمة لا يقوم مقام الدعوى ولا يكفي لقطع مرور الزمن. مثلا: لو قدم المدعي قبل انتهاء مدة الخمس عشرة سنة بثمانية أيام استدعاء على هذا الوجه ودعا خصمه للمحاكمة وعند انتهاء مدة الثمانية أيام ترافعا أمام القاضي - فإذا كانت مدة الخمس عشرة سنة قد تمت يوم المرافعة في حضور القاضي فلا تسمع الدعوى، ولو كانت مدة مرور الزمن لم تتم حين تقديم الاستدعاء أو وقت تبليغ جلب المحكمة؛ لأنه كما هو مصرح في متن هذه المادة أن الذي يدفع مرور الزمن هو الدعوى. والدعوى حسب مادتي (1613 و 1618) تقال للطلب الذي يقع في حضور القاضي وفي مواجهة الخصم، وعليه فالطلب الذي لا يكون في مواجهة الخصم غير معدود من الدعوى. المادة الـ (1667) : (يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل، لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى ذلك الدين، ومطالبته قبل حلول الأجل. مثلا: لو ادعى أحد على آخر بقوله: لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه قبل خمس عشرة سنة مؤجلا لثلاث سنين - تسمع دعواه، كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني في الوقف المشروط للأولاد بطنا بعد بطن إلا من تاريخ انقراض البطن الأول؛ لأنه

ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا. وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق ومن تاريخ موت أحد الزوجين؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة) . يعتبر مرور الزمن من تاريخ وجود صلاحية الادعاء في المدعي وصلاحية أخذه، فمرور الزمن في دعوى الدين المؤجل إنما يعتبر من حلول الأجل؛ لأنه ليس للمدعي صلاحية دعوى وأخذ ذلك الدين أو المطالبة به قبل حلول الأجل حتى إنه لا يحبس المدين من أجل الدين المؤجل [رد المحتار] . إلا أنه يجوز إثبات الدين المؤجل قبل حلول الأجل وبما أن الإثبات وإقامة البينة مشروط بسبق الدعوى بحكم المادة الـ (1697) فعلى هذه الصورة يجوز الادعاء بالدين المؤجل قبل حلول الأجل. مثلا: يصح لأحد أن يثبت مطلوبه من ذمة آخر المؤجل لخمسة أشهر مثلا إلا أنه يؤخر الأخذ والاستيفاء لحلول الأجل (الأنقروي) . كذلك تقبل دعوى الزوجة بإثبات مهرها المؤجل على زوجها (الهندية) . أما إذا لم يثبت المدعي الدين المؤجل بالبينة فلا يحلف المدعى عليه قبل حلول الأجل على أظهر القولين حيث لم يكن للمدعي حق بالمطالبة والأخذ فلا يترتب على المدعى عليه اليمين في حالة إنكاره. مثلا: لو ادعى أحد على آخر بقوله: لي عليك كذا دراهم من ثمن الشيء الفلاني الذي بعتك إياه أو أجرته لك قبل خمس عشرة سنة مؤجلا

لثلاث سنين - تسمع دعواه؛ لأنه لم يمر سوى اثنتي عشرة سنة من حلول الأجل والحالة أن دعوى الدين تسمع إلى خمس عشرة سنة. انظر المادة الـ (1660) . كذلك لا يعتبر مرور الزمن في دعوى البطن الثاني بالوقف المشروطة توليته وغلته للأولاد بطنا بعد بطن. مثلا: لو شرط الواقف قائلا: قد شرطت تولية وغلة وقفي لأولادي وأولاد أولادي بطنا بعد بطن - فلا تسمع دعوى البطن الثاني إلا من تاريخ انقراض البطن الأول، فعلى هذه الصورة لو باع أحد أولاد الواقف من البطن الأول عقار الوقف لآخر وسلمه إياه وتصرف المشتري في ذلك العقار خمسا وثلاثين سنة وانقرض البطن الأول بالكلية ونصب أحد الأولاد من البطن الثاني متوليا وبعد مرور سنة ادعى العقار المذكور من المشتري على كونه وقفا - فتسمع دعواه حيث لم يمر على انقراض البطن الأول إلا سنة واحدة والمدة التي مرت قبل ذلك لا تحسب في مرور الزمن حيث إنه ليس للبطن الثاني صلاحية الدعوى ما دام البطن الأول موجودا؛ لأن أمثال هذا الوقف إذا كان البطن الأول موجودا لا يعطى حصة لأولاد البطن الثاني، ولا يكون لهم تولية، كما أنه إذا كان البطن الثاني موجودا فلا يعطى لأولاد البطن الثالث حصة، ولا يكون لهم تولية على الوقف. كذلك لو ضبط أجنبي تولية الوقف المشروطة لأولاد الواقف وأولاد أولاده بطنا بعد بطن في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول مدة أربع عشرة سنة وانقرض البطن الأول فادعى أحد أولاد الواقف من البطن الثاني التولية المذكورة من ذلك الأجنبي - فليس للأجنبي أن يدفع دعواه بقوله:

إن دعوى المدعي غير مسموعة لمرور خمس عشرة سنة. سؤال: لو تصرف المشتري في مواجهة أولاد الواقف من البطن الأول خمسا وثلاثين سنة، وتصرف سنة في مواجهة أولاد البطن الثاني فتبلغ مدة تصرفه ستا وثلاثين سنة وبما أنه حسب المادة الـ (1620) لو ترك الدعوى الوارث مدة والموروث مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فيجب عدم استماع الدعوى؟ الجواب: إن توجيه التولية للبطن الثاني لم يكن بطريق الإرث، بل هو بمقتضى شرط الواقف فإذا انتقلت التولية إلى البطن الثاني قبل تمام مدة مرور الزمن في مواجهة البطن الأول - فللبطن الثاني حق الدعوى إلى انتهاء مدة مرور الزمن اعتبارا من تاريخ انتقال التولية له، مع أن المدة التي تمر في زمن البطن الأول والبطن الثاني لا تضم إلى بعضها البعض إلا أنه إذا بلغت المدة في زمن البطن الأول حد مرور الزمن انتقلت التولية إلى البطن الثاني فهل للبطن الثاني حق الدعوى؟ فنظرا إلى المثال الثاني وإلى دليله يجب أن يكون له حق الدعوى إلا أن دليل الفقهاء لا يثبت المسألة بالكلية، فيجب العثور على صراحة المسألة، والمناسب أن تستمع الدعوى لحين العثور على صراحتها. مثلا: لو تصرف أحد في عقار على وجه الملكية ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الأول فانقرض البطن الأول فتصرف أيضا بالعقار المذكور ستا وثلاثين سنة في مواجهة البطن الثاني ثم انقرض البطن الثاني فراجع البطن الثالث المحكمة وادعى عليه بأن تولية وغلة ذلك العقار مشروطة لأولاد الواقف بطنا بعد بطن وأنه وإن تصرف في العقار المذكور مدة اثنتين

وسبعين سنة في مواجهة أولاد البطن الأول والبطن الثاني إلا أنهما انقرضا وأصبحت تولية وغلة العقار المذكور عائدة له - فهل تسمع دعواه؟ فإذا استمعت دعواه فلا يمكن أن يتحقق مرور زمن في نوع هذه الأوقاف. وإن يكن بموجب المادة الـ (1675) لا يجري مرور الزمن في بعض الدعاوى إلا أن دعاوى التولية ليست من قبيل الدعاوى (وقد ورد في البهجة في هامش كتاب الشهادة أنه إذا استمع زيد القاضي دعوة التولية المشروطة التي تركت أربعين سنة بلا عذر وحرر حجة بذلك فلا ينفذ حكمه ولا تعتبر حجته) وإن يكن أنه يفهم أن هذه الفتوى: أنه إذا مر أربعون سنة على البطن الأول فلا تسمع دعوى البطن الأول إلا أن هذه الفتوى لا تدل صراحة على عدم جواز استماع دعوى البطن الثاني. وكذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن في دعوى المهر المؤجل من وقت الطلاق أو من تاريخ موت أحد الزوجين؛ لأن المهر المؤجل لا يكون معجلا إلا بالطلاق أو الوفاة وقد بين بأنه يجوز إثبات المهر المؤجل قبل حلول الأجل. وكذلك لو ادعى أحد الأراضي التي تحت يد آخر بقوله: إن هذه الأراضي هي بتصرفي، فأجابه المدعى عليه بقوله: إنك تفرغت لي بهذه الأراضي قبل عشر سنوات بإذن صاحب الأرض، فإذا أثبت الفراغ له على هذا الوجه فيمنع المدعي من معارضته ولا يقال: بأنه حيث لم يثبت التفرغ بإذن صاحب الأرض منذ سنوات أنه وقع مرور زمن؛ لأنه لم يكن يوجد معارض له أثناء تصرفه بلا نزاع فهو غير مطالب بإثبات الحق، فلا يكون قد ترك الدعوى.

المادة (1668) : (لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس. مثلا: لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة وتحقق يساره بعد ذلك بقوله: بأنه قبل خمس عشرة سنة كان لي في ذمتك كذا دراهم من الجهة الفلانية ولم أستطع الادعاء عليك، لكونك كنت مفلسا مع ذلك التاريخ ولاقتدارك الآن على أداء الدين أدعي عليك به - تسمع دعواه) . لا يعتبر مرور الزمن في دعوى الطلب من المفلس إلا من تاريخ زوال الإفلاس؛ لأنه لا يمكن استحصال المطلوب من الشخص المفلس كما أنه لا يحبس المدين الثابت إفلاسه. مثلا: لو ادعى أحد على من تمادى إفلاسه خمس عشرة سنة وتحقق يساره بعد ذلك بقوله: إنه قبل خمس عشرة سنة كان لي عليك من الجهة الفلانية كذا دراهم طلبي منك ولم أستطع الادعاء عليك حيث كنت مفلسا من ذلك التاريخ وحيث أصبحت الآن قادرا على أداء الدين فأدعي عليك به - تسمع دعواه. أما إذا ثبت في ذمة أحد دين في حال يساره ثم أفلس بعد ثماني سنوات ودام إفلاسه ست سنوات وبعدها أصبح في حالة يسار وبعد مرور سنة ادعى الدائن عليه - فهل تسمع الدعوى بتنزيل مدة الإفلاس كالمدة التي تمر أثناء الصغر؟

المادة (1669) : (إذا ترك أحد الدعوى بلا عذر على الوجه الآنف ووجد مرور الزمن فكما لا تسمع الدعوى في حياته لا تسمع من ورثته بعد مماته أيضا) .

أي: إذا ادعى الورثة أن المال المدعى به هو موروث عن المورث؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث بماله أو عليه، وحيث إنه ليس للمورث حق الدعوى فليس للوارث أيضا حق فيها. مثلا: لو ادعى أحد على آخر قائلا: إن لمورثي الذي توفي هذه المدة كذا دراهم قد أقرضها لك قبل خمس عشرة سنة فأطلبها منك - فلا تسمع دعواه. والحكم في المسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية على هذا الوجه. مثلا: لو ترك أحد دعواه المتعلقة بالأراضي الأميرية أو بالمسقفات الموقوفة بلا عذر على الوجه السالف الذكر ووجد مرور زمن - فلا تسمع تلك الدعوى منه في حياته وكذلك لا تسمع من أصحاب حق الانتقال بعد وفاته. مثلا: لو ادعى أحد قائلا: إنك قد تصرفت بالأراضي الأميرية عشر سنوات بلا نزاع التي هي في تصرف مورثي بموجب طابو قبل تلك المدة وبوفاة والدي قد انتقلت تلك الأراضي لي - فلا تسمع دعواه. المادة (1670) : (إذا ترك المورث الدعوى مدة وتركها الوارث أيضا مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع) . تضم مدة ترك المورث والوارث والمنتقل منه والمنتقل إليه إلى بعضها فلذلك إذا ترك المورث الدعوى مدة وتركها الوارث أيضا مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى الوارث. مثلا: لو ترك أحد الدعوى بمطلوبه الذي في ذمة آخر مدة ثماني سنوات وترك بعد وفاته وارثه الدعوى سبع سنوات - فلا تسمع الدعوى بعد ذلك.

كذلك لو ترك أحد مطلوبه الذي في ذمة آخر خمس سنوات ثم توفي وترك وارثه - بالحصر ابنه - الدعوى خمس سنوات أخرى ثم توفي وترك وارثه - بالحصر بنته - الدعوى خمس سنوات أيضا ثم ادعت بعد ذلك فلا تسمع دعواها، كذلك لو ضبط أحد روضة مدة عشر سنوات على وجه الملكية في مواجهة زيد وسكت زيد هذه المدة بلا عذر ثم توفي زيد وترك بنتا فتصرف المذكور أيضا في الروضة تسع سنوات في مواجهة البنت وسكتت تلك المدة بلا عذر فادعت البنت بأن الروضة المذكورة هي ملك لوالدها زيد وقد باعها لك وفاء - فلا تسمع دعواها (علي أفندي) . كذلك إذا تصرف أحد مدة في عقار وقف بالإجارتين ثم توفي وتصرف فيه ورثته الذين هم من أصحاب الانتقال بالإجارتين وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المدعي الذي سكت في تلك المدة بلا عذر والأراضي الأميرية تقاس عليها. المادة (1671) : (البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث والوارث، مثلا: إذا تصرف أحد في عرصة مدة خمس عشرة سنة وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة ثم باع الدار لآخر، فإذا ادعى المشتري أن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها - فلا تسمع دعواه. كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المشتري) . البائع والمشتري والواهب والموهوب له كالمورث وبتعبير آخر تجري في حقهم أحكام مادتي (1669 و1670) السالفتي الذكر. كذلك الفارغ والمفروغ له كالمنتقل منه والمنتقل إليه.

مثال للبائع والمشتري: مثلا: إذا تصرف أحد في عرصة ملك خمس عشرة سنة وسكت صاحب الدار المتصلة بتلك العرصة تلك المدة بلا عذر، ثم باعها من آخر؛ فإذا ادعى المشتري بأن تلك العرصة هي طريق خاص للدار التي اشتراها فلا تسمع دعواه، كما لا تسمع في المادة الـ (1669) . كذلك إذا سكت البائع مدة وسكت المشتري مدة وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا تسمع دعوى المشتري، كما لا تسمع في المادة الـ (1670) . مثال للفارغ والمفروغ له في الأراضي الأميرية: مثلا: إذا تصرف أحد في مزرعة عشر سنوات وسكت صاحب المزرعة المتصلة بالمزرعة المذكورة تلك المدة بلا عذر ثم تفرغ بمزرعته لآخر - فإذا ادعى المتفرغ له أن تلك المزرعة هي طريق خاص للمزرعة التي تفرغت إليه فلا تسمع دعواه. مثال للفارغ والمفروغ له في المسقفات الموقوفة. مثلا: لو تصرف أحد بالإجارتين مستقلا في دار وقف في مواجهة بنته هند خمس عشرة سنة وسكتت هذه المدة بلا عذر ثم توفي ذلك الشخص وترك هندا المذكورة وبنته زينب من زوجة أخرى، وأرادت زينب أن تتصرف في تلك الدار بناء على الانتقال العادي مع هند بالسوية؛ فإذا ادعت هند بأن نصف الدار المذكورة قبل السنين المذكورة هي في تصرف والدتها خديجة بالإجارتين فانتقل النصف لها، وإنه لذلك لها ثلاثة أرباع الدار - فلا تسمع دعواها [جامع الإجارتين] .

إذا ضم مدة تصرف الوارث والمورث والبائع والمشتري والواهب والموهوب له والفارغ والمفروغ له إلى بعضهما وبلغ مجموع المدتين حد مرور الزمن - فلا يجوز إقامة الدعوى عليهم من آخر. مثلا: إذا تصرف المورث في عقار ملك مدة ثماني سنوات وتصرف الوارث مدة ثماني سنوات أخرى بلا نزاع - فإذا ادعى من سكت هذه المدة بلا عذر أن ذلك العقار هو ملكه - فلا تسمع دعواه. كذلك إذا تصرف البائع في عقار مدة تسع سنوات بلا نزاع ثم باعه لآخر وسلمه وتصرف المشتري ست سنوات بلا نزاع، فإذا ظهر أحد وادعى على المشتري أن ذلك العقار ملكه - فلا تسمع دعواه. ويقاس الواهب الموهوب له على ذلك. كذلك إذا تصرف أحد مدة ثماني سنوات بلا نزاع في عقار موقوف ثم أفرغه لآخر وتصرف المتفرغ له في ذلك مدة ثماني سنوات بلا نزاع، فإذا ادعى من سكت بلا عذر في هاتين المدتين على المتفرغ له بأن ذلك العقار تحت تصرفه بالإجارتين - فلا تسمع دعواه. كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية ثماني سنوات بلا نزاع ثم توفي فتصرف من أصحاب الانتقال ولده في تلك المزرعة مدة سنتين بلا نزاع ثم ظهر شخص سكت في تينك المدتين بلا عذر وادعى على الولد قائلا: إن المزرعة في تصرفي - فلا تسمع دعواه. كذلك إذا تصرف أحد بلا نزاع في أرض أميرية سبع سنين ثم تفرغ بها لآخر بإذن صاحب الأرض وتصرف المتفرغ له بها ثلاث سنوات ثم ظهر شخص وادعى على المتفرغ له بأن تلك المزرعة هي في تصرفه قبل تلك

السنين - فلا تسمع دعواه. المادة (1672) : (لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر كالصغر، وادعى به وأثبته - يحكم بحصته في المدعى به ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة) . يقبل مرور الزمن التجزئة فلذلك لو وجد مرور الزمن في حق بعض الورثة في دعوى مال الميت الذي هو عند آخر ولم يوجد في حق بعض الورثة لعذر؛ كالصغر والجنون والعته والغيبة مدة السفر وادعى به وأثبته - يحكم بحصته في المدعى به، ولا يسري هذا الحكم إلى سائر الورثة. مثلا: لو كان لأحد في ذمة آخر عشرة دنانير ثم توفي وترك ولدين أحدهما بالغ والآخر صغير في السنة الأولى من عمره ولم يدع ولده البالغ مدة ست عشرة سنة وعندما بلغ الولد الصغير - أي: بعد تاريخ وفاة والده بست عشرة سنة - ادعى بحصته فللولد المذكور أن يأخذ حصته الخمسة دنانير وليس للولد الآخر أن يدعي بمشاركته فيما أخذه توفيقا للمادة الـ (110) . إذا كان المدعى به دينا ولم يكن عينا فالحكم على هذا المنوال أيضا. فلذلك لو كان لرجلين بالغين مائة دينار في ذمة آخر ولم يمر الزمن في حق أحدهما بسبب وجوده في ديار بعيدة مدة السفر فادعى بمطلوبه وأثبته - يحكم له بحصته في المدعى به، ولا يسري هذا الحكم على حصة الشريك الآخر. المادة (1673) : (وليس لمن كان مقرا بكونه مستأجرا في عقارات

يملكه لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة، وأما إذا كان منكرا وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين وما زلت - أقبض أجرته فتسمع دعواه إن كان إيجاره معروفا بين الناس وإلا فلا) . ليس من كان مقرا بكونه مستأجرا أو مستعيرا أو مستودعا أو مرتهنا أو غاصبا أو مزارعا أو مساقيا في عقار أن يملكه لمرور زمن أزيد من خمس عشرة سنة؛ لأنه لا يسقط الحق بتقادم الزمان حسب المادة الـ (1674) ، كما أن مرور الزمن ووضع اليد على مال مدة طويلة ليست معدودة من أسباب الملك، كما أن الاستئجار هو مانع لدعوى التملك، كما جاء في المادة الـ (1583) . وأما إذا كان ذلك الشخص منكرا كونه مستأجرا ذلك العقار وادعى المالك بأنه ملكي وكنت أجرتك إياه قبل سنين وما زلت أقبض أجرته - نظر، فإذا كان إيجاره معروفا بين الناس -فتسمع دعواه، وإذا كان غير معروف فلا تسمع، والمعروف بضم العين من العرف. والعرف هو ضد النكر. ومعنى معروف حسب هذه الإيضاحات، أي: إذا كان معلوما ولا يفيد هذا التعبير لزوم إثبات الإيجار بالتواتر والشهرة وعدم جواز إثباته ودفع مرور الزمن بالبينة العادية ومع ذلك لو اعتبر معنى معروف، يعني: مشهور هنا، فالمشهور على قسمين: أحدهما: أن يكون مشهورا بالشهرة الحقيقية ويدعى ذلك بالتواتر. والآخر: أن يكون مشهورا شهرة حكمية، والشهرة الحكمية تحصل بإخبار شهود بنصاب الشهادة على طريق الشهادة، والاشتهار يطلق على العلم الذي يكون بالتواتر والشهرة أو بإخبار مخبرين عدلين أو بمخبر عدل (التهتاني) .

وهل أن هذا الحكم الذي يجري في حال معروفية الإيجار بين الناس يجري أيضا في الإعارة والإيداع أو الرهن المعروف بين الناس؟ فالظاهر أنه يجري. انظر مادة (1583) . والحكم على هذا المنوال أيضا في المسقفات والمستغلات الموقوفة وفي الأراضي الأميرية، فلذلك إذا تصرف أحد في عقار أكثر من ست وثلاثين سنة وادعى بعد ذلك متولي وقف قائلا: إن هذا العقار هو من مستغلات الوقف الذي هو تحت توليتي، وقد أجرتك إياه في المدة المذكورة وأنكر ذلك الشخص دعوى المتولي مدعيا ملكية ذلك العقار - فينظر: فإذا كان معروفا بين الناس أن العقار المذكور كان يؤجر من طرف الوقف لذلك الشخص- فتسمع دعوى المتولي وإلا فلا. كذلك إذا تصرف أحد في مزرعة من الأراضي الأميرية أكثر من عشر سنوات ثم ادعى شخص آخر قائلا: إن تلك الأرض هي في تصرفي بموجب طابو وقد أجرتها لك المدة المذكورة، وأنكر ذلك الشخص دعوى المدعي -ينظر؛ فإذا كان معروفا بين الناس أن تلك الأرض قد أجرت لذلك الشخص- فتسمع دعواه وإلا فلا.

المادة (1674) : لا يسقط الحق بتقادم الزمن بناء عليه إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي- فلا يعتبر مرور الزمن، ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه، وأما إذا لم يقر المدعى عليه في حضور القاضي وادعى المدعي بكونه أقر في محل آخر- فكما لا تسمع دعواه الأصلية كذلك لا تسمع دعوى الإقرار. ولكن الإقرار الذي

ادعى أنه كان قد ربط بسند حاو لخط المدعى عليه المعروف سابقا أو ختمه ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى -تسمع دعوى الإقرار على هذه الصورة) . لا يسقط الحق بتقادم الزمن ولو تقادم الزمن أحقابا كثيرة وإن عدم استماع الدعوى بمرور الزمن المبين آنفا مبني على الأمر السلطاني بسبب امتناع الحكم عن سماع الدعوى خوف وقوع التزوير ولقطع الحيل والتزوير والأطماع الفاسدة الفاشية بين الناس. انظر شرح عنوان الباب الثاني. فلذلك لو أقام أحد الدعوى بمطلوبه الذي هو على آخر بعد مرور خمس عشرة سنة ورد القاضي الدعوى بسبب مرور الزمن، فيبقى المدين مدينا ديانة، ولا يخلص من حق غرمائه ما لم يؤد دينه أو يرض مدينه. فلذلك إذا أقر واعترف المدعى عليه صراحة في حضور القاضي بأن للمدعي عنده حقا في الحال في دعوى وجد فيها مرور الزمن بالوجه الذي ادعاه المدعي، فلا يعتبر مرور الزمن، ويحكم بموجب إقرار المدعى عليه. والإقرار إما أن يكون شفاهيا وقد بين، وإما أن يكون بالإقرار بأن إمضاء أو ختم السند المبرز هو إمضاؤه وختمه، ويقال لهذا: الإقرار بالكتابة. مثلا: إذا ادعى أحد دينا من آخر مر عليه خمس عشرة سنة استنادا إلى سند معنون ومرسوم فأقر المدعى عليه الإمضاء والختم الذي في السند وادعى وجود مرور الزمن في الدعوى فيلزمه، كما بين في المادة الـ (1610) أن يؤدي المبلغ الذي يحتويه السند (الخالية في كتاب

الدعوى) . وبما أنه لا يسقط الحق بمرور الزمن فلا يكفي أن يكون جواب المدعى عليه على دعوى المدعي بقوله: إن في الدعوى مرور زمن. أما لو أجاب المدعى عليه على دعوى الدين بأنني لست مدينا وفي دعوى العين: أن هذه العين لي وأضاف إلى ذلك الادعاء بمرور الزمن -فيصح دفعه. إن ذكر عبارة في الحال الواردة في هذه الفقرة هي لكونها وردت في فتاوى مشائخ الإسلام، ولا يقصد بها الاحتراز من الإقرار للمدعي حقا عنده في الماضي؛ فلذلك لو ادعى المدعى عليه بأن المال المدعى به كان قبل ثلاثين سنة للمدعي ولمورثه وأنه اشتراه منه -فيكون قد أقر بحق المدعي، فلذلك إذا لم يثبت المدعى عليه الشراء وحلف المدعي اليمين عند تكليفه للحلف يسلم المدعى به للمدعي؛ لأن من أقر بشيء لغيره أخذ بإقراره ولو كان في يده أحقابا كثيرة لا تعد، وهذا مما لا يتوقف فيه (الخيرية في الدعوى) والحكم في الدين وهو على هذا المنوال فلو ادعى المدعي على المدعى عليه قائلا: إن لي العشرين دينارا التي أقرضتها لك قبل خمس عشرة سنة، فإذا ادعى المدعى عليه أنه اقترض منه هذا المبلغ قبل خمس عشرة سنة إلا أنه قد أدى ذلك للمدعي فعليه إثبات ذلك، فإذا عجز عن الإثبات وحلف المدعي على عدم استيفائه الدين -فله أخذ ذلك المبلغ من المدعى عليه. والمسقفات الموقوفة والأراضي الأميرية والموقوفة: هي كالأملاك، فلذلك لو ادعى أحد على عقار وقف بالإجارتين أو أرض أميرية جارية في تصرف آخر بلا نزاع مدة خمس عشرة سنة بأن العقار المذكور هو تحت

تصرفه من الوقف المذكور، أو أن الأرض تحت تصرفه وأجاب المدعى عليه بأن العقار المذكور أو الأرض المذكورة كانت تحت تصرفك إلا أنك قد تفرغت بها لي قبل خمس عشرة سنة بإذن المتولي أو بإذن صاحب الأرض وأنني متصرف بذلك العقار أو تلك الأرض من ذلك الوقت - فإذا أثبت المدعى عليه حصول الفراغ له أو نكل المدعي عن حلف اليمين تندفع دعوى المدعي، أما إذا لم يثبت المدعى عليه الفراغ وحلف المدعي اليمين فيحكم على المدعى عليه بالرد. أن هذه المسألة قد كتبها أمين الفتوى الأسبق (عمر حلمي أفندي) في كتاب الأوقاف بغير هذا الوجه إلا أنه لما كان ما كتبه بهذه المسألة مخالفا للشرع فهو غير معتبر. وأما إذا لم يقر المدعى عليه في حضور القاضي وادعى بكونه أقر في محل آخر وأنه لا يوجد مرور زمن اعتبارا من تاريخ الإقرار فكما لا تسمع دعواه الأصلية، كذلك لا تسمع دعوى الإقرار حيث إنه يوجد في هذه الصورة شبهة تزوير وتصنيع. ولكن الإقرار الذي ادعى به كان قد ربط بسند حاو لخط وختم المدعى عليه المعروف سابقا بين التجار وأهل البلدة ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى ففي تلك الصورة تسمع دعوى الإقرار؛ لأنه يثبت الإقرار في هذا الحال بريئا من شبهة التزوير والتصنيع. والإيضاحات عن كلمة وختمه قد مر ذكرها في المادة الـ (1609) . المادة الـ (1675) : (لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم كالطريق العام والنهر والمرعى. مثلا: لو ضبط أحد

المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع ثم ادعاه أهل القرية تسمع دعواهم) . لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين ويوجد غائبون، وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم؛ فلذلك لا يجري في المحال التي يعود نفعها للعموم مرور الزمن: مثلا: أن لأهالي بغداد حقا في الطريق العام الكائنة في دمشق. فلذلك لو ضبط أحد المرعى المخصوص بقرية وتصرف فيه خمسين سنة بلا نزاع ثم ادعاه أهل القرية - تسمع دعواهم. أما إذا لم يكن المرعى عائدا للعموم، أي: عائدا لأهالي قرية أو قصبة أو عائدا لأهالي قرى أو قصبات متعددة، بل كان عائدا لشخص مخصوص - فإذا كان ملكا فلا تسمع الدعوى فيه بعد خمس عشرة سنة، وإذا كان من الأراضي الأميرية فلا تسمع الدعوى فيه بعد مرور عشر سنوات. كذلك لو أخذ أحد مقدارا من الطريق العام وألحقه بداره، فإذا ادعى أحد العامة بعد مرور خمسين سنة وأثبت دعواه فله تفريغ الطريق. والمقصود من النهر في المجلة هو النهر العائد لأهالي قرية أو قرى متعددة، أما النهر المملوك لشخص فمرور الزمن فيه قد مر ذكره في المادة الـ (1661) . تاريخ الإدارة السنية 9 جمادى الآخرة سنة 1293 هـ. (تم بألطافه تعالى كتاب الدعوى ويليه كتاب البينات والتحليف) ويرجع إلى كتاب [قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات

الأوقاف] 224 وما بعدها، وكتاب [إتحاف الأخلاق في أحكام الأوقاف] 224 وما بعدها، وكتاب [المعاملات في الشريعة الإسلامية] (1\ 107) وما بعدها. ج- وجاء في [مرشد الحيران وشرحه] باب في وضع اليد وعدم سماع الدعوى بمرور الزمن: الأصل في هذا المبحث أن الولاية تتخصص بالزمان والمكان والخصومة وتقبل التقييد والتعليق بالشرط كقول الإمام لمن يريد توليته: إذا وصلت إلى بلد كذا فأنت قاضيه وتقبل الإضافة إلى زمن معلوم كقوله: جعلتك قاضيا على جهة كذا من أول سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعد الألف؛ لأن السلطة مستمدة منه فلا يتجاوز المستمد قدر ما أمده به ولي الأمر، واستدل على أن الولاية تقبل التعليق بقوله عليه الصلاة والسلام حين بعث البعثة إلى مؤتة: قرية من قرى البلقاء في حدود الشام من جهة بلاد العرب شمال معان، وأمر عليهم زيد بن حارثة: «إن قتل زيد بن حارثة فجعفر أميركم، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة (¬1) » . وقد ورد نهي سلطاني للقضاة بعدم سماع الدعوى في غير الإرث والوقف بعد مضي خمس عشرة سنة والمدعى عليه واضع يده على ما يدعيه المدعي وهو حاضر ولم يكن عنده عذر شرعي يمنعه من الخصومة؛ لأن تركه تلك المدة أمارة على كونه غير محق، وأن الشيء المتنازع فيه ملك لواضع اليد إذ العرف والعادة يقتضيان أن الشخص لا يسكت عن ملكه هذا الزمن الطويل. ولكن مضي المدة لا يكسب واضع اليد الملك فيما وضع يده عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» ، ولذلك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المغازي (4261) .

لو أقر به للمدعى عليه تسمع الدعوى ولو تمسك بالمدة الطويلة ولا يلتفت إليه. وينبغي لولي الأمر أن ينظر في مثل هذه القضايا بنفسه أو يعين من يختاره للفصل فيها كي لا تضيع الحقوق، نعم، لو كان بعض المدعين مشهورا بالحيل والتزوير لا يلتفت إلى قضيته أصلا؛ لأن شهرته بالتزوير تدل على أنه مبطل في دعواه، وإنما الواجب عليه النظر في قضايا من لم يشتهروا بالتزوير والاحتيال لاغتيال حقوق الناس بالباطل. وينبني على ذلك أنه إذا كان شخص واضعا يده على عين من الأعيان عقارا كانت أو منقولا والحال أنه يتصرف فيها تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض مدة خمس عشرة سنة - فلا تسمع عليه دعوى الملك بغير الإرث والوقف من أحد ليس عنده عذر شرعي كسفر أو مرض أو جنون أو صغر كما سيبين قريبا، ومحل ذلك ما إذا أنكر المدعى عليه، فإن أقر للمدعي وجب على القاضي سماعها، ولذلك ينبغي للقاضي أن لا يرفض القضية من أول الأمر، بل ينبغي له أن يوجه إلى المدعى عليه بعض أسئلة لجواز أن يقر وإذ ذاك يبتدئ في سماعها ليفصل فيها. انظر مادة (151) . فمما تقدم علمت أن النهي السلطاني خاص بغير الإرث والوقف، فلا يسري حكم النهي إليهما، بل تسمع فيهما الدعوى ولو بعد مضي خمس عشرة سنة، ولكن نص الفقهاء على أن الخصم لو ترك الخصومة مدة ثلاث وثلاثين سنة في الإرث والوقف وهو يشاهد واضع اليد يتصرف في العين

التي تحت يده تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض ولم يكن له من عذر شرعي يمنعه من الخصومة - فلا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن ترك الخصومة هذا الزمن الطويل يدل على أنه غير مالك لما يدعيه، وهذا الحكم ليس مبنيا على نهي سلطاني، بل على اجتهاد الفقهاء؛ ولذا لا تسمع الدعوى بعدها ولو أمر ولي الأمر بسماعها. وصرح بعضهم بأن المدة في الإرث والوقف ثلاثون سنة. وصرح آخرون بأنها ست وثلاثون سنة، وقال بعضهم: المستثنى من النهي السلطاني إنما هو الوقف ومال اليتيم والغائب في الإرث، والمشهور الأول. انظر مادة (152) .

وليس المدة المانعة من سماع الدعوى قاصرة على الزمن الذي وضع يده المدعى عليه فيه، بل لواضع اليد المدعى عليه أن يضم إلى مدة وضع يده وضع يد من تلقى الملك عنه مطلقا، سواء كان ذلك التلقي بطريقة الشراء أو الهبة أو الوصية أو الإرث أو غير ذلك، كالأخذ بالشفعة فإذا ضمت المدتان إلى بعضهما وصار المجموع مساويا للمدة المانعة من سماع الدعوى، فلا تسمع على واضع اليد دعوى الملك المطلق ولا دعوى الإرث والوقف؛ لأن علة منع سماعها الترك وقد حصل في مجموع المدتين. انظر مادة (153) .

ومحل منع سماع الدعوى بعد مضي المدة إذا لم يكن وضع اليد بطريق الإجارة أو الإعارة، فإن كان واضع اليد مستأجرا أو مستعيرا أو معترفا بالإجارة أو الإعارة - فليس له أن يتمسك بمضي المدة وهو واضع اليد لاعترافه بأنه ليس بمالك وأن الملك للمؤجر أو للمعير. فلو أنكر الإجارة أو الإعارة في جميع مدة وضع يده ومضت المدة المقررة لمنع سماع الدعوى والمدعي حاضر ولم يخاصم مع تمكنه من المخاصمة ووجود الداعي لها، وهو إنكاره الإجارة أو الإعارة - فلا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن سكوته المدة الطويلة يدل على أنه غير محق في دعواه، كما تقدم، انظر مادة (155) . وهذا إذا ترك مدعي الملك أو الإرث أو الوقف الدعوى في المدة الطويلة وهي خمس عشرة سنة في الملك المطلق وثلاث وثلاثون في الإرث والوقف بدون عذر شرعي فإن كان عنده عذر من الأعذار الشرعية يمنعه من الدعوى؛ كأن كان مريضا أو مسافرا أو قاصرا أو مجنونا وليس لهما ولي أو وصي - جاز سماع الدعوى، ولا عبرة بوضع اليد في تلك المدة؛ لأن العلة ترك الخصومة مع التمكن وهو لم يتمكن لوجود العذر. ومن المقرر أن المعلول يدور مع علته وجودا أو عدما. ولهذا لو حضر المسافر وبلغ الصبي وعقل المجنون وترك كل منهم

الدعوى بعد زوال العذر مدة خمس عشرة سنة في الملك المطلق ومدة ثلاثا وثلاثين في الإرث والوقف - لا تسمع منهم الدعوى. انظر مادتي (156، 157) . ولو خاصم المدعي واضع اليد عند القاضي في مجلس القضاء قبل مضي المدة المانعة من سماع الدعوى ولم يفصل القاضي في الخصومة وأهملت الدعوى حتى مضى على وضع اليد المدة الكافية للمنع من سماع الدعوى - جاز للقاضي سماعها، ولكن محل ذلك ما لم يمض بين الدعوى الأولى والثانية المدة المقررة لعدم سماع الدعوى، فإن مضت المدة بعد الدعوى الأولى ولم يكن عنده عذر يمنعه من الدعوى - فلا يجوز للقاضي سماعها. هذا إذا كانت المخاصمة أمام القاضي كما تقدم، فإن طلب المدعي العين من واضع اليد عليها في غير مجلس القضاء - فلا تعتبر تلك المطالبة، ولو حصلت، وحينئذ لا تكون تلك المطالبة قاطعة للمدة، بل لواضع اليد أن يضم المدة التي بعد المطالبة إلى التي قبلها، فإن بلغت المدتان المدة المحدودة ثم ادعى أحد على واضع اليد بعد ذلك - فلا تسمع منه الدعوى. انظر مادتي (158، 159) وليس عدم سماع الدعوى

قاصرا على مضي المدة الطويلة المتقدم بيانها، بل يمنع المدعي من سماع دعواه إذا وجد منه ما يدل على اعترافه بالملك لواضع اليد ولو لم يمض على ذلك المدة الطويلة؛ لأنه بدعواه الملك بعد اعترافه يعد ساعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته، فسعيه مردود عليه، وينبني على ذلك ما يأتي: الأول: أنه إذا ساوم شخص آخر في العين التي تحت يده بطريق البيع أو الإجارة ليبيعها له أو يؤجرها له أو طلب منه أن يعيرها إياه ثم ادعى بعد ذلك أن العين ملكه - فلا تسمع دعواه بعد المساومة أو طلب الإيداع أو الإجارة أو الإعارة؛ لاعترافه ضمنا بالملك للمدعي عليه فلا تقبل دعواه. انظر مادة (154) . الثاني: إذا باع أحد لآخر عينا من الأعيان، سواء كانت عقارا أو منقولا أمام شخص فاستلم المشتري المبيع بحضرته وتصرف فيه تصرف الملاك وهو حاضر كأن بنى في العقار أو غرس فيه أشجارا أو زرعه أو كان المبيع من الأقمشة فجعله ثوبا ثم أراد بعد ذلك مخاصمة المشتري - فلا تسمع دعواه؛ لأن حضوره وقت البيع ومشاهدته للتصرف، ولم ينكر على

المشتري، ولم يخاصمه في ذلك الوقت بدون عذر يعد اعترافا منه بالمالك، ولو مات ذلك الشخص وأراد وارثه أن يدعي فليس له ذلك؛ لاعتراف مورثه بالملك للمشتري ضمنا. انظر مادة (160) . الثالث: أنه إذا باع شخص عقارا أو حيوانا أو ثوبا لآخر وكان أحد أقاربه يعلم ذلك كولده أو أبيه أو أخيه أو زوجته ثم ادعى أنه ملكه - فلا تسمع دعواه بعد ذلك إذا لم يكن عنده عذر يمنعه من إقامة الدعوى وقت البيع؛ لأن سكوته وقت البيع يعد اعترافا منه بالملك للبائع وأنه ليس له حق فدعواه بعد ذلك تعد سعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه كما سبق. ولا يشترط في عدم سماع دعوى القريب مشاهدته لتصرف المشتري، كما تقدم في الأجنبي على الصحيح، بل مجرد اطلاعه على بيع قريبه بدون مخاصمة لمنعه من سماع الدعوى. انظر مادة (161) . فائدة: قال الإمام مالك: من حاز عقار غيره عشر سنين منع الغير من سماع الدعوى، وهذا إذا كان أجنبيا فإن كان قريبا - سواء كان شريكا في العقار أو

غير شريك- فلا تعتبر الحيازة إلا إذا طال تصرف الحائز بالهدم والبناء ونحوهما مدة طويلة نحو ستين سنة وتختلف الحيازة في المنقول باختلاف حالته، ففي دابة الركوب وفي نحو أثاث المنزل ثلاث سنين وفي نحو ثوب سنة. وأما الديون الثابتة في الذمة فقيل: تسقط بمضي عشرين سنة بدون عذر. وقيل: لا تسقط إلا بمضي ثلاثين سنة، واختار ابن رشد: أنها متى كانت ثابتة لا تسقط وإن طال الزمان وكان ربه حاضرا ساكتا قادرا على الطلب لخبر «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» ، وفوض بعضهم الأمر لاجتهاد القاضي لينظر في حال الزمن وحال الناس وهو ظاهر. اهـ. من [الشرح الكبير] (4\ 217، 218) (¬1) . ¬

_ (¬1) [مرشد الحيران وشرحه] ص (114) وما بعدها.

النقول عن المذهب المالكي

2 - النقول عن المذهب المالكي تمهيد: بنى الإمام مالك القول بإثبات الحكم بالتقادم على اجتهاد الحاكم، ولم يحدد له مدة معينة، وذكر بعضهم عنه تحديده بعشر سنوات، ومن المالكية من بنى قوله في ذلك على حديثين أحدهما: «لا يبطل حق امرئ وإن قدم» ، والثاني: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» . ولقد اعتنى المالكية في تفصيل الكلام على هذه النقطة في [مدونة الإمام مالك] رحمه الله، وفي [تبصرة الحكام] لابن فرحون، و [مختصر خليل وشرحه] للحطاب وغيرها، وقد رأت اللجنة الاقتصار على النقول الثلاثة المشار إليها فقط وتركت البقية اختصارا.

وفيما يلي ذكر هذه النقول: أ- شهادة السماع في الدور المتقادم حيازتها: قلت (¬1) : أرأيت إن كانت الدار في يدي رجل قد أنسئ له في العمر أقام فيها خمسين سنة أو ستين سنة ثم قدم رجل فأعادها وأثبت الأصل؟ فقال الذي الدار في يده: اشتريتها من قوم قد انقرضوا وانقرضت البينة، وجاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشتراها (قال) : سمعت مالكا يقول: إذا جاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشترى ولم يقل لي مالك من صاحبه الذي ادعاها كان أو من غيره وقد أخبرتك بالذي سمعت منه وليس وجه السماع الذي يجوز على المدعي، والذي حملنا عن مالك إلا أن يشهدوا على سماع شراء من أهل هذا المدعي الذي يدعي الدار بسببهم أو يكون في ذلك قطع لدعوى هذا المدعي بمنزلة السماع في الأحباس فيما فسر لنا مالك (قال) : ومعنى قول مالك: حتى يشهدوا على سماع يكون فيه قطعا لدعوى هذا المدعي إنما هو أن يشهدوا أنا سمعنا أن هذا الذي الدار في يديه أو أباه أو جده اشترى هذه الدار من هذا المدعي أو من أبيه أو من جده أو من رجل يدعي هذا المدعي أنه ورث هذه الدار من قبله (قال) : نعم، أو أشتري ممن اشترى من جد هذا المدعي، وقد بينا لك ذلك من قول مالك (قال) : وقال مالك: هاهنا دور تعرف لمن أولها بالمدينة قد تداولها قوم بعد قوم في الاشتراء وهي اليوم لغير أهلها فإذا كان على مثل هذا فالسماع جائز على ما وصفت لك وإن لم تكن شهادة قاطعة (قال) ابن القاسم: وكان مالك يرى ¬

_ (¬1) [المدونة الكبرى] (4\ 89) .

الشهادة على السماع أمرا قويا (قلت) : أرأيت إن أتى الذي الدار في يده ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يديه الدار اشترى هذه الدار، أو اشتراها جده، أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو؟ (قال) : لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك يجوز حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أب هذا المدعي أو جده. ب- في الشهادة على السماع في الدار القريبة حيازتها: قلت (¬1) : أرأيت إن أتى رجل فادعى دارا في يدي رجل وثبت ذلك فقال الذي في يديه الدار: أنا آتي بقوم يشهدون على السماع أن أبي اشتراها من خمس سنين أو ما أشبه ذلك أتقبل البينة في تقارب مثل هذا على السماع؟ (قال) : لا أرى أن ينفع السماع في مثل هذا ولا تنفعه شهادة السماع إلا أن يقيم بينة تقطع على الشراء وإنما تكون شهادة السماع جائزة فيما كثر من السنين وتطاول من الزمن ولقد قال مالك في الرجل يقر لقوم أن أباهم كان أسلفه مالا وأنه قد قضاه والدهم - (قال) مالك: وكان الذي من ذلك أمرا حديثا من الزمان والسنين لم يتطاول ذلك لم ينفعه قوله: قد قضيت إلا ببينة قاطعة على القضاء، وإن كان تطاول زمان ذلك أحلف المقر وكان القول قوله فهذا يدلك أيضا على تطاول الزمان في شهادة السماع أنها جائزة وما قرب الزمان أنها ليست على الغائب؛ لأنه غائب لم يجز عليه شيء دونه فتكون الحيازة دونه إلا أن مالكا قال في الذي يقر بالدين فيما بلغني عنه ولم ¬

_ (¬1) المدونة الكبرى] (4\ 90) .

أسمعه منه: لو كان إقراره ذلك على وجه الشكر مثل ما يقول الرجل للرجل: جزى الله فلانا خيرا قد جئته مرة فأسلفني وقضيته، فالله يجزيه خيرا على نشر الجميل والشكر له، لم أر أن يلزمه في هذا شيء مما أقر به قرب زمان ذلك أو بعد. ج- في الشهادة على الحيازة: (قلت) (¬1) : أرأيت أن شهدوا على دار أنها في يد رجل منذ عشر سنين يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني وأقام آخر البينة أن الدار داره أيجعل مالك الذي أقام البينة على الحيازة وهي في يديه بمنزلة الذي يقيم البينة وهي في يديه أنها له فيكون أولى بها في قول مالك ويجعل مالك الحيازة وإذا شهدوا له بها بمنزلة الملك (قال) : قال مالك: إذا كان حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له، وإن كان غائبا سئل الذي الدار في يديه، فإن أتى ببينة أو سماع قد سمعوا أن أباه أو جده قد اشترى هذه الدار إذا كان أمرا قد تقادم فأراها له دون الذي أقام البينة أنها له (قال) مالك: لأن هاهنا دورا قد عرفت لمن أولها قد بيعت وتداولتها المواريث وحيزت منذ زمان، فلو سئل أهلها البينة على أصل الشراء لم يجدوا إلا السماع فإذا كان مثل ما وصفت لك في تطاول الزمان فأتى بالسماع مع الحيازة فأراها له كذلك. قال مالك: وإن لم يأت بالسماع ولا بالشهادة وكان الذي يطلب الدار غائبا فقدم فأقام البينة أنها له رأيتها له (قال) مالك: وإن كان حاضرا إذ حازها المشتري دونه فلا شيء للذي يدعيها (قلت) : هل كان مالك يوقت في الحيازة عشر ¬

_ (¬1) [المدونة الكبرى] (4\ 99) .

سنين؟ (قال) : ما سمعت مالكا يحد فيه عشر سنين ولا غير ذلك ولكن على قدر ما يرى أن هذا قد حازها دون الآخر فيما يكري ويهدم ويبني ويسكن (قلت) : أرأيت الدواب والثياب والعروض كلها والحيوان كله هل كان مالك يرى أنها إذا حازها رجل بمحضر من رجل فادعاها الذي حيزت عليه أنه لا حق له فيها؛ لأن هذا قد حازها دونه، وهل كان يقول في هذه الأشياء مثل ما يقول في الدور والحيازة؟ (قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئا إلا أن ذلك عندي مثل ما قال مالك في الدور إذا كانت الثياب تلبس وتمتهن والدواب تكرى وتركب (ابن وهب) عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» قال عبد الجبار: وحدثني عبد العزيز بن المطلب عن زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله (قال) عبد الجبار عن ربيعة أنه قال: إذا كان الرجل حاضرا وماله في يد غيره فمضت له عشر سنين وهو على ذلك كان المال الذي هو في يديه بحيازته إياه عشر سنين إلا أن يأتي الآخر ببينة على أنه أكرى أو أسكن أو أعار عارية أو صنع شيئا من هذا وإلا فلا شيء له قال) ربيعة: ولا حيازة على غائب.

د- ما جاء في الشهادات في المواريث: (قلت) (¬1) : أرأيت إن مات عندنا ميت فجاء رجل فأقام البينة أنه ابن الميت ولم يشهد الشهود أنهم لا يعلمون له وارثا غيره أتجيز شهادتهم ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] (2\ 86) .

وتعطي هذا الميراث أم لا تعطيه من الميراث شيئا، وهل تحفظ قول مالك في هذا؟ (قال) : وجه الشهادة عند مالك في هذا أن يقولوا: إنه ابنه لا يعلمون له وارثا غيره فأرى أن تبطل الشهادة في ذلك ويسأل وينظر (قلت) : أرأيت إن أقمت البينة أن هذه الدار دار أبي وجدي ولم يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لي أيقضي لي بها السلطان في قول مالك أم لا؟ (قال) : لا، حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون أنه أحدث فيها شيئا ولا خرجت عن يده، وجل الدور تعرف لمن كان أولها ثم تداولها أقوام بعد ذلك فهم إن شهدوا يشهدون ولا علم لهم بما كان فيها ولا تجوز شهادتهم حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون له وارثا غيره إذا شهدوا أن هذا وارث جده أو وارث أبيه (قلت) : أرأيت إن شهدوا أن هذا وارث أبيه أو جده مع ورثة آخرين (قال) : لا يعطي هذا إلا حظه (قلت) : فحظوظ إخوته أتؤخذ من يد هذا الذي هي في يديه فيضعها السلطان على يدي عدل؟ (قال) : أرى أن لا يعطى لهذا منها إلا بمقدار حظه وما استحق من ذلك ويترك السلطان ما سوى ذلك في يدي المدعى عليه حتى يأتي من يستحقه ولا يخرجه من يديه (قال) سحنون: وقد كان يقول غير هذا وروى أشهب عن مالك أنه قال: ينتزع من يد المطلوب ويوقف (قلت) : أرأيت لو أن قوما شهدوا على أن هذه الدار دار جدي وأن هذا المولى مولى جدي ولم يحددوا المواريث لم يشهدوا أن جدي مات فورثه أبي، وأن أبي مات فورثته أنا (قال) : سأل مالكا بعض أصحابنا وسمعته يسأل عن الرجل يقيم البينة: أن هذه الدار دار جده ويكون فيها رجل قد حازها منذ سنين ذوات عدد (قال) : قال مالك: أما إن كان الرجل المدعي حاضرا فلا أرى له فيها حقا لأجل حيازته إياها إذا

كان قد حازها سنين ذوات عدد، وأما إذا كان المدعي غائبا وثبتت المواريث حتى صارت له -فإني أرى أن يسأل الذي هي في يديه من أين صارت له، فإن أتى ببينة على شراء أو سماع على الاشتراء، وإن لم يكن أحد يشهد على معاينة الشراء ولا من يشهد على البتات إلا على السماع فأرى الشهادة جائزة للذي هي في يديه بالسماع بالاشتراء، وإن لم يكن في أصل الشهادة شهادة تقطع على البيع (قال) مالك: لأن هاهنا دورا يعرف لمن أولها قد بيعت ولا يوجد من يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع ثم قال لنا: تلك منها هذه الدار التي أنا فيها قد باعها أهلها وليس أحد يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع فإذا أتى الذي في يديه الدار بأصل الشراء أو بقوم يشهدون على سماع الاشتراء فذلك قلت، فإن لم يأت الذي في يديه الدار بشيء من هذا لا بقوم يشهدون على السماع ولا بقوم يشهدون على الشراء أتجعلها للذي أقام البينة أنها لجده على ما ثبت في قول مالك؟ (قال) : قال مالك: نعم، تكون للذي أقام بالبينة أنها لجده إذا كان غائبا (قلت) : وشهادة السماع هاهنا إنما هو أن يشهدوا أنهم سمعوا أن هذا اشترى هذه الدار من جد هذا المدعي (قال) : إذا تقادم ذلك جازت شهادتهم على السماع وإن كان المشتري حيا؛ لأن المشتري يشتري ويتقادم ذلك حتى يكون لشرائه هذا أربعون سنة أو خمسون سنة أو ستون سنة أو نحو ذلك ولم أوقف مالكا على أنه هو اشتراه بعينه إلا أن الذي ذكر لي مالك إنما هو في الشراء الذي يتقادم (قال) : وأما في الولاء فإن مالكا قال: أقضي بالسماع إذا شهدت الشهود على السماع أنه مولاه بالمال ولا أقضي له بالولاء (قلت) : أرأيت إن أقام البينة أن الدار دار أبيه، وقالت البينة: لا

نعرف كم الورثة أيقضي له بشيء من الدار في قول مالك، وكيف إن قال الابن: إنما أنا وأخي ليس معنا وارث غيرنا أو قال: أنا وحدي الوارث ليس معي وارث غير أيصدق في قول مالك؟ (قال) : لا أقوم على حفظ قول مالك في هذا، ولا أرى أن يقضي له السلطان بشيء حتى يقيم البينة على هذه الورثة. (قلت) : أرأيت إن أقمت البينة على دار أنها دار جدي ولم يشهد الشهود أن جدي مات وتركها ميراثا لأبي، وأن أبي مات وتركها ميراثا لورثته ولم يحددوا المواريث بحال ما وصفت لك (قال) : سألنا مالكا عنها (فقال) : ينظر في ذلك فإن كان المدعي حاضرا بالبلدة التي الدار فيها وقد حيزت دونه السنين يراهم يسكنون ويحوزون بما تحاز به الدور -فلا حق له فيها وإن كان لم يكن بالبلد التي الدار بها وإنما قدم من بلاد أخرى فأقام البينة على أنها دار أبيه أو دار جده وثبتت المواريث سئل من الذي الدار في يديه، فإن أتى ببينة على أصل الشراء أو الوجه الذي صارت به إليه أو سماع من جيرانه أو من غير جيرانه أن جده أو والده كان اشترى هذه الدار أو هو بنفسه إذا طال الزمان فقالوا: سمعنا أنه اشتراها وهاهنا دور تعرف لمن أولها وقد تقادم الزمان وليس على أصل الشراء بينة وإنما هو سماع من الناس أن فلانا اشترى هذه الدار، وإن لم تثبت - يعني: المواريث - لم يسأل الذي الدار في يديه عن شيء (قلت) : أرأيت إن أتى الذي في يديه الدار ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يديه الدار أنه اشترى هذه الدار أو اشتراها جده أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا: سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو (قال) : لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أبي هذا المدعي

أو جده. هـ- قال ابن فرحون: (فصل في حيازة الأجنبي الحيوان والعروض) (¬1) . قال ابن حبيب: قال لي مطرف وأصبغ: ما حازه الأجنبي على الأجنبي من العبيد والإماء والدواب والحيوان كله والعروض كلها فأقام ذلك في يديه يختدم الرقيق ويركب الدواب ويجلب الماشية ويمتهن العروض -فذلك كله كالحائز والحيازة في ذلك أقل من عشر سنين قطع لحجة مدعيه ومثبت أصله بعد أن يحلف بالله أنه له دون مدعيه ومثبت أصله، قالا: والحيوان والعروض أقصر مدة وأقوى في الحيازة من الدور والأرضين التي إنما تحاز بالعمارة والسكنى. قال أصبغ: ونرى في الثياب السنة والسنتين حيازة إذا كانت تحاز على وجه الملك واللبس، ونرى حيازة الدابة السنتين والثلاث حيازة إذا ملكها وركبها واغتلها وأعملها على وجه الملك بعلم صاحبها ونرى الأمة شبه ذلك والعبد والعروض فوق ذلك شيئا إذا حاز ذلك بالملك وأسبابه ولا يلتفت في مثل هذا وأشباهه إلى عشر سنين فيما بين الأجنبيين، يعني: لا يبلغ في شيء من ذلك بين الأجانب إلى عشر سنين كما يصنع في الأصول. قاله ابن رشد. قال ابن حبيب: قال لي مطرف وأصبغ: وما أحدث الحائز فيه بيعا أو عتقا أو تدبيرا أو كتابة أو صداقا أو وطئا في الإماء بحضرة مدعيه وبعلمه وإن لم يطل زمان ذلك قبل الوطء فذلك يوجبه لحائزه ويوهن حجة مدعيه قبل حدثان ذلك أو بعد حدثانه إذ ترك التغمير والإنكار والتكلم عند علمه بهذا الإحداث، ولا يلتفت ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] (2\ 86) .

في هذا إلى عشر سنين وإلى ما دونها. (تنبيه) : وذكر ابن رشد في البيان في باب الاستحقاق أنه لا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق في حيازة الأجنبي على الأجنبي كما تقدم في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحيوان والعروض فلو حاز الورثة بعضهم على بعض الإماء بالوطء والهبة وما أشبه ذلك فلا يقطع حق الورثة في ذلك طول الزمان إلا أن يطول جدا ولم نر الأربعين يطول جدا بين الورثة خاصة على ما يأتي في حيازة بعضهم على بعض، ذكره في سماع ابن القاسم وبعضه في سماع يحيى فانظره.

وفصل في سؤال الحائز الأجنبي على الأجنبي من أين صار إليه الملك (¬1) . قال ابن رشد: يختلف الجواب في ذلك حسب اختلاف الوجوه: فوجه لا يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه وتبطل دعوى المدعي فيه بكل حال فلا يوجب يمينا على الحائز المدعي فيه إلا أن يدعي عليه أنه أعاره إياه، فتجب عليه اليمين على ذلك، وهذا الوجه هو إذا لم يثبت الأصل للمدعي، وأقر به الحائز الذي حاز في وجهه العشرة أعوام ونحوها، ولو ادعى عليه ما في يديه أنه ماله وملكه قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه في وجهيه لوجبت عليه اليمين، ووجه يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه يصدق في ذلك مع يمينه ويكلف البينة على ذلك وهو إذا ثبت الأصل ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] (2\ 87) .

للمدعي، أو أقر له به الحائز قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه -فيجب أن يسأل من أين صار إليه ويكلف البينة على ذلك، ووجه يختلف فيه: فقيل: إنه لا يلزم المطلوب أكثر من أن يوقف على الإقرار أو الإنكار، وقيل: إنه يوقف ويسأل من أين صار إليه وهو إذا ثبتت المواريث ولم يثبت أنها لأبيه وجده. (مسألة) : واختلف إذا كان الحائز وارثا فقيل: إنه بمنزلة وارثه الذي ورث ذلك عنه في مدة الحيازة، وفي أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي تصير به إلى مورثه، وقيل: يكون الوارث في الحيازة أقصر وليس عليه أن يسأل عن شيء؛ لأنه يقول: ورثت ذلك ولا أدري بم تصير ذلك إلى الذي ورثت عنه، وهو ظاهر قول ابن القاسم وقول ابن الماجشون وهو عندي بين في أنه ليس عليه أن يسأل عن شيء، وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث. (فرع) وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث مثل أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة على الحاضر. ز- قال ابن فرحون: (فصل في صفة الحيازات ومراتبها) (¬1) . وهي على ستة أقسام؛ لأنها على مراتب ست: الأولى: وهي أضعفها حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه. الثانية: حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث بعضهم على بعض، وهذه المرتبة تلي التي قبلها. الثالثة: وهي تلي التي قبلها حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة فيه بينهم. الرابعة: حيازة الموالي والأختان. الخامسة: حيازة الأجنبيين ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] (2\ 90) .

الأشراك بعضهم على بعض. السادسة: حيازة الأجنبيين بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه وهي أقواها، والحيازة تكون بثلاثة أشياء: أضعفها السكنى والازدراع، ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال، ويليها التفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله، والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى والغرس في الدور والأرضين ونتكلم في الأقسام الستة. (فأما القسم الأول) : وهو حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع، قال ابن راشد: ولا باستخدام العبد فلو بقي العبد بيد الابن زمانا طويلا فلما مات الأب قال: هو لي بوجه كذا من أبي فقال ابن القاسم: لا ينتفع بطول الحيازة حتى يأتي ببينة على ما ادعاه والاتفاق على أنها تكون بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء، واختلف: هل يحوز كل واحد منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس أم لا؟ على قولين: المشهور أنه لا يحوز عليه بذلك إن ادعاه ملكا لنفسه قام عليه في حياته أو بعد وفاته. وقال ابن رشد: يريد والله سبحانه وتعالى أعلم إلا أن يطول الأمر جدا إلى ما يهلك فيه البينات وينقطع العلم. والقول الثاني: أنه يحوز عليه بذلك إن قام عليه في حياته أو على سائر ورثته بعد وفاته إذا ادعاه ملكا لنفسه ومثل الأب والابن الجد وابن الابن. (وأما القسم الثاني) : وهو حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث فلا اختلاف أيضا في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع وإن طالت السنون، قال مطرف: إلا أن يكون مثل الخمسين سنة ونحوها وإن كان بعضهم يقبل الثمار فهو كالسكنى وأبناؤهم وأبناء أبنائهم

بمنزلتهم لا حق لهم فيما عمر الأب والجد إلا أن يطول الزمان جدا ولا ينفعه أن يقول: ورثت عن أبي وأبي عن جدي لا أدري كيف كان هذا الحق في أيديهم إلا أن يأتي ببينة على شراء الأصل أو عطيته، وكذلك الصهر والمولى على اختلاف قول ابن القاسم فيهم، ولا خلاف في أنها تكون حيازة بالتفويت من البيع والهبة والصدقة والعتق والكتابة والوطء وإن لم تطل المدة، واختلف قول ابن القاسم في حيازة بعضهم على بعض بالهدم والبنيان: فقال مرة: إن العشر سنين حيازة، وقال مرة: إنها لا تكون حيازة إلا أن يطول الأمر؛ كحيازة الابن على أبيه أزيد من أربعين سنة، وما حازه بالكراء كالرجل يكري ذلك لنفسه ويقبضه بحضرة إخوته وعلمهم فهم في ذلك كالأجانب. (وأما القسم الثالث) : وهو حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فمرة جعلهم ابن القاسم كالقرابة الأشراك، ورجع عن قوله بأن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان، إلا أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير، ومرة رآهم بخلاف الأشراك فجعل الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان حيازة فيهما جميعا. والثاني: أنها ليست بحيازة فيهما إلا مع طول المدة. والثالث: الفرق بينهما فتكون حيازة في غير الشركاء. (وأما القسم الرابع) : وهو حيازة الموالي والأختان والأصهار فيما لا شركة بينهم فيه، فمرة جعلهم ابن القاسم كالأجنبيين، العشرة الأعوام بينهم حيازة، وإن لم يكن هدم ولا بناء، ومرة جعلهم كالقرابة الذين لا شركة بينهم فيتحصل فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بناء. والثاني: أنها لا تكون بينهم في العشرة الأعوام إلا مع

الهدم والبناء. والثالث: أنها لا تكون بينهم بالهدم والبناء إلا أن يطول الزمان جدا. قال ابن القاسم، وإليه رجع. وقال أصبغ: هم كالأجانب إلا من كان منهم مخالطا جدا أو وكيلا. قال ابن رشد: ينبغي أن يكون الخلاف في حال فمن علم منه المسامحة أو أشكل أمره فهو على حقه وإن طالت السنون، ومن علم منه المشاحة فيكون كالأجنبي، وما قاله ابن رشد ذكره ابن العطار فقال: وقد قيل أيضا في الأقارب: إن ذلك يكون في البلدان التي يعرف من أهلها أنهم يوسعون فيها لأقاربهم وأصهارهم ومواليهم، وإن كانوا بموضع لا يعرف هذا فيه انقطعت الحجة باعتبار دون هذه المدة وكانوا كالأجنبيين، وذكره ابن رشد في الاستحقاق أوضح من هذا، وقال: إنما الاختلاف المذكور إذا جهل حالهم على ماذا يحمل أمرهم، فمرة حملهم محل القرابة، ومرة حملهم محل الأجنبيين، وهذا خلاف ما قاله ابن راشد وهم في البيع وما ذكره معه كالأجانب. (وأما القسم الخامس) : وهو حيازة الأجنبيين الأشراك، فلا حيازة بينهم في العشرة الأعوام إذا لم يكن هدم ولا بناء وتكون مع الهدم والبناء ولا يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك، وقيل: إنه يدخل في ذلك. (وأما القسم السادس) : وهو حيازة الأجانب بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه، فقد تقدم فيه الكلام والمشهور أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان، ولابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان. (تنبيه) : ذكرهم الهدم والبنيان ظاهر، سواء كان بناء ترميم وإصلاح أو بناء توسع، وكذا الهدم سواء كان هدم ما يخشى سقوطه، أو هدم ما لا

يخشى سقوطه ليوسع ويبني مسكنا أو مساكن وليس كذلك، والذي ينفع في الحيازة هو الهدم والبناء والتوسع وإزالة ما لا يخشى سقوطه؛ لأن عرف الناس وعادتهم أنهم يأذنون للسكان في الرم وإصلاح ما وهي من الكراء، ولا يأذنون في زيادة المسكن. (من اللخمي) . ح- وقال ابن فرحون: (فصل في صفة الشهادة على الحيازة) (¬1) . وفي فقه وثائق ابن العطار: وإذا قام رجل في دار وأملاك يدعيها لنفسه أو لمورثه، وأثبت الملك لها، وكانت في يد معترض لها، فإن توافق الطالب والمطلوب على حدودها وجب الإعذار إلى المعترض في الشهود والقضاء عليه. وإن عجز والتسجيل دون حيازة الشهود لها وإن سأل الطالب من القاضي الإنزال فيها أو وقع تخالف في بعض حدودها حازها الشهود المقبولون، ولا يكلف القاضي شهود الحيازة أن يحوزوا ما شهدوا به من الرباع، ولو كان الموضع قريبا، ولكن يأمر الشهود له بالرغبة إليهما في ذلك (من [معين الحكام] ) وإذا توجه شهود الحيازة ليحوزوا الملك بعث القاضي معهم شاهدي عدل يحضران حيازة الشهود وفي (الطرر) وإنما احتيج إلى موجهي القاضي في الحيازة مخافة أن يموت شهود الحق ويعزل القاضي أو يموت فيشهد المواجهان على الحيازة فيتم القول بهما، ولا تعمل الحيازة شيئا حتى يقول الشاهدان بحضرة الحائز: هذا الذي شهدنا فيه عند فلان قاضي الجماعة، وإن وقفا على العقار وعيناه ولم يقولا هذا كان جهلا منهما ومن الحاضرين لحيازتهما ولم تعمل الحيازة والشهادة ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] (2\ 90) .

شيئا حتى يوقفا على هذا ويقولا به وتتبين به الشهادة، وقال في موضع آخر: ولا يحضر حيازة الشهيدين في الملك الذي شهدا فيه إلا شاهدان يعرفان عين ذلك الملك وحدوده أو يكون الملك المشهود به له حدود مشهورة لا تخفى معرفتها، مثل أن يكون في القبلة منه أو ناحية غيرها فرن أو حمام أو درب أو حوانيت أو رحبة شرع بابه إليها وما أشبه ذلك من الأعلام المثبتة التي يعلم الشاهدان الحيازة بالنظر فيها أنها الحدود التي قال الشاهدان في الملك عند القاضي: إنه المحدود به؛ لأن شهادة الحاضرين للحيازة لا تتم حتى يقولا: إن شهيدي الملك حازا بمحضرهما هذا الملك، وعينا هذه الحدود، فإذا لم يعرفا الملك ولا عينا الحدود لم ينفع بمحضرهما للحيازة؛ لأنه إذا قال الشهيدان في الملك: هذا الملك الذي شهدنا فيه عند القاضي والحاضران للحيازة لا يعرفانه فهو كشهادتهما أولا عند القاضي وتكون شهادة الحاضرين زورا؛ لأنهما يشهدان أن الشهيدين في أصل الملك حاز الدار والملك الذي شهدا فيه عند القاضي وهما لا يعرفان إن كان ذلك هو الملك أم لا، ولو قالا: إن الشهيدين في الملك عينا بحضرتهما دارا قالا: إنها التي شهدنا فيها عند القاضي لم تعمل شهادتهما في الحيازة شيئا حتى يقطعا أنهما حازا بحضرتهما الشيء الذي شهدا فيه عند القاضي لمعرفتهما لعين الشيء المحوز، وإن كانا لا يعرفان ملك المشهود له فهما على صحة حدوده وباشتهار أعلامه، قال: وهذا من دقيق الفقه، وقل من يعرفه. (مسألة) وفي [الطرر] الموجه من قبل القاضي للحيازة بمنزلة الموجه من قبله للأعذار يجزئ فيه واحد عدل.

(تنبيه) : الغائب وإن كانت غيبته قريبة فهو محمول على عدم العلم حتى يثبت عليه العلم، والحاضر محمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم. قاله ابن راشد.

ط- وقال ابن فرحون: (مسألة في الحيازة على الغائب) (¬1) . وفي [مختصر الواضحة] قال ابن حبيب: وأخبرني حسين عن ابن القاسم وابن وهب وابن نافع وأصبغ ومطرف في الغائب يحاز عليه من ماله فلم يقدم، ولم يوكل حتى طال زمان ذلك فهو كالحاضر إلا أن يكون له عذر مثل أن يكون في يد عدو أو من وراء بحر أو يكون ضعيفا أو مختلا أو امرأة محجوبة أو غير محجوبة وما أشبه ذلك من العذر، فيكون على حقه أبدا وإن أشهد في غيبته على عذره وأنه غير تارك لحقه إلا لما يذكره من عذره كان ذلك أوثق له عندنا، وقد يكون للغائب وإن قربت غيبته معاذير يعذر بها إذا ظهرت. قال ابن حبيب: ثم رجع ابن القاسم فقال: أرى الغائب على مسيرة الثلاثة الأيام والأربعة معذورا في غيبته وإن علم بما حيز عليه وإن لم يكن ضعيفا في بدنه ولا مختلا في عقله، وأراه على حقه أبدا ما زال غائبا؛ لأنه قد يكون للغائب معاذير لا تعرف، وقوله الأول عندي أحسن، وهو الذي اجتمع عليه كبار أصحاب مالك، وفي العتبية رواية عن ابن القاسم: أن الثمانية أيام في حكم القريب. (فرع) وفي الطرر لابن عات: ومغيب المرأة على مسيرة اليوم لا يقطع حجتها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا معها ¬

_ (¬1) [تبصرة الحكام] (2\ 84) .

ذو محرم منها (¬1) » قاله بعض الشيوخ المتأخرين. (فرع) وإن كان غير عالم فهو على حقه إذا قدم ولا حيازة عليه، وإن طالت الحيازة فيه كانت الغيبة قريبة أو بعيدة. (تنبيه) : وهو محمول على غير العلم حتى يقيم الحائز بينة أنه كان عالما في غيبته بحيازته لماله. (فرع) وقال مطرف وأصبغ: ونرى السبعة الأيام والثمانية وما أشبه ذلك طولا من الغيبة وعذرا في ترك القدوم والطلب والتوكيل. وإن كان عالما إلا أنا نستحب له أن يشهد في غيبته إذا علم بحيازة ماله عنه وإن ترك الإشهاد لم يوهن ذلك حجته، إلا أن يطول الزمان جدا مثل السبعين سنة أو الثمانين وما قاربها، ويكون مع ذلك سماع مستفيض بأنها ملك للذين هي بأيديهم تداولوها هم ومن كان قبلهم بما يحاز به الملك فيكون ذلك كالحيازة على الحاضر وإن كانت الغيبة بعيدة. قال ابن حبيب: وبقولهما أقول. ي- وقال ابن فرحون (¬2) : (فصل في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحاضر الرباع والعقار) . وفي [مختصر الواضحة] قال أصبغ: ما حازه الأجنبي على الأجنبي بحضرته وعلمه، أي: الحيازات كانت من سكنى فقط أو ازدراع أو هدم أو بنيان صغر شأنه أو عظم أو غير ذلك من وجوه الحيازات كلها فذلك يوجبه لحائزه ويقطع حجة صاحبه، وهي كالشهادة على الملك كما يكون الرهن شاهدا لصاحبه بحيازته إياه وكما يكون الستر شاهدا للمرأة بإرخائه عليها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1088) ، صحيح مسلم الحج (1339) ، سنن الترمذي الرضاع (1170) ، سنن أبو داود المناسك (1723) ، سنن ابن ماجه المناسك (2899) ، مسند أحمد بن حنبل (2/506) ، موطأ مالك الجامع (1833) . (¬2) [تبصرة الحكام] (2\85) .

وكذلك أجمع أهل العلم عليه إذا كان على هذا التفسير الذي فسرنا ورأوا العشر سنين وما قاربها -يعني: كالثمان والتسع- حيازة فيما بين المتداعيين قال ابن القاسم: وكان مالك لا يوقت الحيازة لا عشر سنين ولا غيرها، وكان يرى ذلك على قدر ما ينزل من الأمر ورأى فيه الإمام رأيه، وتابعه ابن الماجشون على ذلك، وإن ذلك قد يكون بعضه أقوى من بعض مثل أن يكون الطالب مجاورا لحائزه مقيما معه ببلده عالما بإحداثه في ذلك، وبما هدم وبنى لا ينكر ولا يدفع، فإن هذه حالة إقرار لا شيء له معها فيما ادعى من ذلك وأثبت أصله، وإن لم يكن على ما وصفنا وكان غائبا عنه أو كان المطلوب مدعيا لشراء لم يثبته وما أشبه هذا -فذلك للطالب الذي له البينة على أنه له أو لأبيه أو لمن أخذ ذلك عنه إذا حلف أنه لم يخرج منه ولم يزل من يده أو من أخذ عنه بما يخرج به بالمال ومن يدريه يحلف على نفسه بالبت وفيما سواه بعلمه، وذهب ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكيم، وأصبغ إلى توقيت ذلك بعشر سنين وما قارب العشر، وهذا في العقار والرباع والأرضين، وسيأتي الكلام على الحيوان والعروض إن شاء الله تعالى. والدليل على ما ذهب إليه ابن القاسم قوله صلى الله عليه وسلم: «من حاز على خصمه شيئا عشر سنين فهو أحق به» واستدل أئمتنا رحمهم الله تعالى بالعرف والعادة، ويشترط في الحيازة أن يكون المحوز عليه غير خائف من الحائز ولا بينه وبينه قرابة ولا مصاهرة ولا مصادقة ولا شركة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : وفي [الطرر على التهذيب] لأبي الحسن الطنجي عن أبي الحسن الصغير قال عند قوله في التهذيب: ومن أقامت بيده دار سنين

ذوات عدد يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني فأقام رجل بينة أن الدار داره وأنها لأبيه أو جده وثبتت المواريث فإن كان المدعي حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له وذلك يقطع دعواه. قوله: حاضرا يراه لا بد هنا من العلم بشيئين وهما العلم بأنه ملكه والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر؛ لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول ما علمت أنه ملكي، كما يقول الرجل: الآن قد وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف، والعلم بهذين الوصفين قاله في [الوثائق المجموعة] وابن أبي جمراء (مسألة) وفي [فقه وثائق ابن العطار] : ولا يقطع قيام البكر غير العانس، ولا قيام الصغير، ولا قيام المولى عليه في رقاب الأملاك، ولا في أحداث الاعتمار بحضرتهم إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه من الولي عليه، وتعنس الجارية، ويحاز عليهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر فينقطع حينئذ قيامهم وما لم يعوقوا بحقوقهم لم ينقطع قيامهم. ك- وجاء في [مختصر خليل وشرحه] للحطاب: (وإن حاز أجنبي (¬1) غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينة إلا بإسكان ونحوه) . ش: ختم رحمه الله كتاب الشهادات بالكلام على الحيازة؛ لأنها كالشاهد على الملك، قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: الحيازة لا تنقل الملك عن المحوز عنه إلى الحائز ¬

_ (¬1) [مواهب الجليل شرح مختصر خليل] (6\ 221) وما بعدها.

باتفاق، ولكنها تدل على الملك كإرخاء الستور ومعرفة العفاص والوكاء وما أشبه ذلك فيكون القول معها قول الحائز مع يمينه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» ؛ لأن المعنى عند أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: وهو له أي: أن الحكم يوجبه له بدعواه، فإذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيها الحيازة عاملة، وهي عشرة أعوام دون هدم ولا بنيان، أو مع الهدم والبنيان على ما نذكره من الخلاف في ذلك بعد هذا وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة - وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه. انتهى. وسواء ادعى صيرورة ذلك من غير المدعي أو ادعى أنه صار إليه من المدعي، أما في البيع فلا أعلم فيه خلافا، وأما إن أقر أنه ملك المدعي وصار إليه بصدقة أو هبة -ففيه خلاف ذكره في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق. وقول ابن رشد: فيكون القول قول الحائز مع يمينه هو أحد القولين، قال في [الشامل] : وفي يمين الحائز حينئذ قولان، والقول بنفي اليمين عزاه في [التوضيح] لظاهر نقل ابن يونس وغيره، والقول باليمين عزاه لصريح كلام ابن رشد فهو أقوى وهو الظاهر، والله أعلم. ثم قال ابن رشد: والحيازة تنقسم إلى ستة أقسام: أضعفها حيازة الأب عن ابنه، ويليها حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغيره، ويليها حيازة القرابة فيما لا شرك بينهم فيه والموالي والأختان الشركاء بمنزلتهم، ويليها حيازة الموالي والأختان فيما لا شرك بينهم فيه، ويليها حيازة الأجنبيين الشركاء، وتليها حيازة الأجانب فيما لا شرك بينهم فيه، وهي أقواها، والحيازة تكون بثلاثة أشياء: أضعفها السكنى والازدراع، ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال، ويليها التفويت بالبيع والهبة والصدقة

والنحلة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله، والاستخدام في الرقيق والركوب في الدابة كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور والغرس في الأرضين. انتهى. فبدأ المصنف بالكلام على القسم السادس وهي حيازة الأجنبي غير الشريك، فقال: وإن حاز أجنبي غير شريك واحترز بقوله: أجنبي من القريب فإنه سيأتي حكمه، وبقوله: غير شريك من الأجنبي الشريك فإنه سيأتي أيضا حكمه، ومفعول قوله حاز محذوف، أي: حاز عقارا من دار أو أرض، وأما غير العقار فلا يفتقر في الحيازة إلى عشرة أعوام، كما سيأتي بيانه، وقوله: وتصرف بمعنى أنه يشترط في الحيازة أن يكون الحائز يتصرف في العقار المحوز. وأطلق التصرف لينبه على أن حيازة الأجنبي غير الشريك يكفي فيها مطلق التصرف ولو كان ذلك السكنى والازدراع الذي هو أضعف أنواع الحيازة وهذا هو المشهور، وقال في الرسم المذكور: المشهور في المذهب: أن الحيازة بينهم -يعني: بين الأجانب غير الشركاء- تكون في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان، وعن ابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان ولا خلاف أنها تكون حيازة مع الهدم والبنيان. انتهى. وقوله: ثم ادعى حاضر، يعني: أنه يشترط في كون الحيازة مانعة من سماع دعوى المدعي أن يكون المدعي حاضرا، واحترز بذلك مما لو كان المدعي غائبا، فإن له القيام وإن طالت المدة، إذا كانت غيبته بعيدة كالسبعة الأيام، قال في [التوضيح] . وإن كانت الغيبة قريبة كأربعة أيام وثبت عذره عن القدوم والتوكيل من عجز

ونحوه فلا حجة عليه، وإن أشكل أمره فظاهر المذهب أنه على قولين، قال ابن القاسم: لا يسقط حقه؛ لأنه قد يضعف عند القدوم، قيل له: فإن لم يتبين عجزه عن ذلك قال: قد يكون معذورا من لا يتبين عذره، وذكر ابن حبيب: أنه يسقط حقه إلا أن يتبين عذره. انتهى. وانظر رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، وقوله: ساكت، يعني: أنه اشترط أيضا في الحيازة أن يكون المدعي ساكتا في مدة الحيازة، واحترز بذلك مما لو تكلم قبل مضي مدة الحيازة فإن حقه لا يبطل، وقوله: بلا مانع، يعني: أن سكوت المدعي في المدة المذكورة إنما يبطل حقه إذا لم يكن له مانع يمنعه من الكلام، فلو كان هناك مانع يمنعه من الكلام فإن حقه لا يبطل، وفسر ابن الحاجب المانع بالخوف والقرابة والصهر، وقد احترز المصنف من القرابة والصهر بقوله أولا: أجنبي، فيكون المراد بالمانع في كلامه الخوف، أي: خوف المدعي من الذي في يده العقار؛ لكونه ذا سلطان أو مستندا لذي سلطان، فإن كان سكوته لذلك لم يطلب حقه، قال الجزولي: وكذلك إذا كان للحائز على المدعي دين ويخاف إن نازعه أن يطلبه ولا يجد من أين يعطيه. انتهى. فتأمله، ويدخل في المانع ما إذا كان المدعي صغيرا أو سفيها فإن سكوته لا يقطع دعواه، قال ابن فرحون في [تبصرته] في الباب السادس والستين قال: قال ابن العطار: ولا يقطع قيام البكر غير المعنسة ولا قيام الصغير ولا قيام المولى عليه الاعتماد المذكور بحضرته إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه المولى عليه وتعنس الجارية وتحاز عنهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر. انتهى.

ويدخل في المانع أيضا ما إذا لم يعلم المدعي بالحيازة أو لم يعلم بأن العقار المحوز ملكه، قال في [الرسالة] : ومن حاز دارا على حاضر عشر سنين تنسب إليه وصاحبها حاضر عالم، قال الشيخ أبو الحسن الصغير في أواخر كتاب الشهادات لما تكلم على الحيازة في [الرسالة] وصاحبها حاضر عالم. الشيخ: أي: عالم بالمعلومين بتصرف الحائز وبأنها ملكه قال في [الوثائق المجموعة] : حاضر عالم بأنها ملكه، وإذا كان وارثا ويدعي أنه لم يعلم فيحلف ويقضى له. انتهى. ونقله ابن فرحون في [تبصرته] عن الطخيخي عن أبي الحسن الصغير بلفظ: لا بد هنا من العلم بشيئين: وهما العلم بأنه ملكه، والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر؛ لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول: ما علمت أنه ملكي كما يقول الرجل: الآن وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف، والعلم بهذين الوصفين قاله في [الوثائق المجموعة] وابن أبي زيد. انتهى. (فرع) قال ابن ناجي في [شرح الرسالة] : قال ابن العربي: وانظر إذا قال: علمت الملك ولم أجد ما أقوم به ووجدته الآن هل يعذر أم لا؟ (قلت) : اختار شيخنا أبو مهدي أنه يقبل وذلك عذر سواء كانت البينة التي وجد بينة استرعاء أم لا، والصواب عندي أنه لا يقبل منه؛ لأنه كالمقر والمعترف بأنه لا حق له فيه مدع رفعه. انتهى. زاد في شرح المدونة: ثم وقعت بالقيروان بعد عشرة أعوام فكتب فيها لشيخنا أبي مهدي فأفتى بما صوبت. انتهى. قال الشيخ يوسف بن عمر في [شرح قول الرسالة] : لا يدعي شيئا: هذا إذا لم يمنعه مانع من القيام، وأما إن خاف سطوة الحائز وأثبت ذلك فهو على قيامه وإن ادعى مغيب البينة وقال: ما سكت إلا لانتظار بينتي فلا يقبل

قوله والدعوة التي تنفعه إذا كان يخاصمه عند القاضي، وأما غير ذلك فلا ينفعه. انتهى. ونحوه للجزولي ونصه: وأما إذا قال: علمت أنها ملكي ولكن منعني من القيام عدم البينة والآن وجدت البينة فإنه لا ينفعه ذلك ويقضى بها للحائز بعد يمينه إذ لا بد من يمين القضاء ثم قال بعد ذلك: وأما إن قال: علمت بأنها ملكي ولم أعلم بالحيازة فإنه لا يقبل قوله؛ لأن العرف يكذبه وكذلك إن قال: منعني من القيام عدم البينة والآن وجدتها فإنه لا ينفعه ولا قيام له. انتهى. وفي أول مسألة من سماع أشهب من كتاب الاستحقاق ما يدل على أنه إذا ادعى عدم العلم بالحيازة ينفعه ذلك ويحلف، وأنه محمول على عدم العلم، وقال ابن ناجي في [شرح قول الرسالة] : وصاحبها حاضر عالم: ظاهر كلام الشيخ أن الحاضر محمول على عدم العلم بالملكية حتى يثبت، وعزاه بعض من لقيناه لابن سهل، وهو ظاهر التهذيب، وقيل: إنه محمول على العلم حتى يتبين خلافه، وهو قول ابن رشد، وقيل: بالأول إن كان وارثا، وبالثاني إن لم يكن قاله في [الوثائق المجموعة] وبه القضاء عندنا، هكذا كان يتقدم لنا أنها ثلاثة أقوال، والحق أن الذي في [الوثائق المجموعة] إنما هو التنبيه على فرع متفق عليه وهو إذا ادعى الوارث الجهل بملكية موروثه فإنه يقبل قوله مع يمينه، ثم قال بعده: قال ابن العربي: وانظر إذا قال: علمت المالك إلى آخر الفرع المتقدم، ويشير بالفرع المتفق عليه إلى ما نقله أبو الحسن وابن فرحون عن [الوثائق المجموعة] في كلامهما المتقدم وقوله: عشر سنين يعني: أن مدة الحيازة التي تبطل دعوى المدعي عشر سنين، وهذا التحديد يذكره في [المدونة] عن ربيعة، ونصه: ولم يحدد مالك في الحيازة في

الريع عشر سنين ولا غير ذلك، وقال ربيعة: حوز عشر سنين يقطع دعوى الحاضر إلا أن يقيم بينة أنه إنما أكرى أو أسكن أو أخدم أو أعار ونحوه ولا حيازة على غائب، وذكر ابن المسيب وزيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» انتهى. قال في [التوضيح] : وبهذا أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، ودليله ما رواه أبو داود في [مراسيله] عن زيد بن أسلم وذكر الحديث ثم قال: ولابن القاسم في الموازية السبع والثمان وما قارب العشرة مثل العشرة. انتهى. فتحصل في مدة الحيازة ثلاثة أقوال: الأول: قول مالك في [المدونة] : أنها لا تحدد بسنين مقدرة، بل باجتهاد الإمام، وهكذا نقل ابن يونس فقال: ولم يحد مالك في الرباع عشر سنين ولا غير ذلك، ولكن على قدر ما يرى أن بهذا قد حازها دون الآخر فيما يهدم ويبنى ويسكن ويكرى. اهـ، وهكذا نقله ابن شاس وابن عرفة، وسيأتي لفظه. والقول الثاني: أن مدة الحيازة عشر سنين، وهو القول الذي مشى عليه المصنف في كتاب الشهادات، وعليه اقتصر في [الرسالة] قال في [النوادر] : وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، وهكذا عزاه ابن يونس وابن شاس، وتقدم نحوه عن [التوضيح] ونقله ابن عرفة عن [النوادر] وقال ابن يونس: قال ابن سحنون: لما أمر الله نبيه بالقتال بعد عشر سنين كانت أبلغ شيء في الإعذار، واعتمد أهل المذهب على الحديث المتقدم، وعلى أن كل دعوى يكذبها العرف فإنها غير مقبولة، ولا شك أن بقاء ملك الإنسان بيد الغير يتصرف فيه عشر سنين

دليل على انتقاله عنه. والله أعلم. والقول الثالث: أن مدة الحيازة سبع سنين فأكثر، وهو قول ابن القاسم الثاني، وقد ذكر ابن عرفة هذه الثلاثة الأقوال فقال: وفي تحديد مدة الحيازة بعشر أو سبع. ثالثها لا تحديد بعدة، بل باجتهاد الإمام، وقال في [المسائل الملقوطة] : (مسألة) في قناة تجري منذ سنة في أرض رجل والذي تجري عليه ساكت لا تكون السنة حيازة للتغافل عن مثلها وسكوت أربع سنين طول وحوز من كتاب الشهادات لابن يونس. انتهى. فتأمله مع ما تقدم، وهل يكون قولا رابعا أو لا؟ والله أعلم. وقوله: لم تسمع ولا بينة هو جواب الشرط، يعني: أن الحيازة إذا وقعت على الوجه المذكور فهي مانعة من سماع دعوى المدعي، والظاهر: أن المراد بعدم سماعها عدم العمل بها وبمقتضاها من أنه لا يتوجه على المدعى عليه يمين إذا أنكر. أنه لا تسمع ابتداء، ولا يسأل المدعى عليه عن جوابها، فإن ذلك غير ظاهر لاحتمال أن يقر المدعي ويعتقد أن مجرد حوزه يوجب له الملك، وقد تقدم: أن الحوز وحده لا ينقل الملك، وإنما هو دليل على انتقال الملك، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» . قال ابن رشد في آخر الكلام على المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق: وأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل في الحكم بالحيازة. انتهى. وسيأتي كلامه برمته في التنبيه الخامس في قول المصنف: وإنما تفترق الدار من غيرها. وقوله: ولا بينة، يعني: أن الحيازة المذكورة مانعة من سماع دعوى المدعي ومن سماع بينته أيضا فإن قيل: قوله: لم تسمع دعواه يغني عن قوله ولا بينته؛ لأنه إذا لم تسمع

الدعوى لم تسمع البينة. فالجواب والله أعلم: إنما قال: ولا بينته خشية أن يتوهم أن الدعوى المجردة عن البينة هي التي لا تسمع، وأما إذا قامت بها البينة فتسمع، كما تقول في دعوى العبد على سيده العتق والمرأة على زوجها الطلاق، فإن دعواهما لا تسمع إذا كانت مجردة عن البينة، أعني: أنه لا يتوجه على السيد ولا على الزوج بسببهما يمين، إن أقاما البينة على دعواهما سمعت وأيضا فإنما قال: ولا بينة ليفرع عليه قوله إلا بإسكان ونحوه، والمعنى: أنه لا تسمع بينة المدعي إلا أن تشهد البينة للمدعي بأنه أسكن الحائز أو أعمره أو ساقاه أو زارعه أو ما أشبه ذلك، فإنه إذا أقام البينة على ذلك حلف المدعي على رد دعوى الحائز وقضى له، هذا إن ادعى الحائز أن المالك باعه أو نحو ذلك، وأما من لم يدع نقل الملك وإنما تمسك بمجرد الحيازة فلا يحتاج إلى يمين قاله في [التوضيح] وغيره. (تنبيهات) : الأول: الهدم والبناء مقيدان بما إذا لم يهدم ما يخشى سقوطه فإن ذلك لا ينقل الملك وكذا الإصلاح اليسير قاله في [التوضيح] . الثاني: الحيازة على النساء عاملة إن كن في البلد، ذكره ابن بطال في المقنع. الثالث: تقدم أنه لا حيازة على الغائب، قال ابن بطال: إلا أنه يستحب له إذا علم أن يشهد أنه على حقه وقاله الرجراجي. الرابع: قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» ، وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث، مثل: أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام ما كان مورثه قد حازه خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة عن الحاضر. انتهى.

الخامس: اختلف هل يطالب الحائز ببيان سبب ملكه. قال في التوضيح: قال ابن أبي زمنين: لا يطالب، وقال غيره: يطالب، وقيل: إن لم يثبت أصل الملك المدعي فلا يسأل الحائز عن بيان أصل ملكه وإن ثبت الأصل للمدعي ببينة أو بإقرار الحائز سئل عن سبب ذلك، وقال ابن عتاب وابن القطان: لا يطالب إلا أن يكون معروفا بالغصب والاستطالة والقدرة على ذلك. انتهى باختصار. وظاهر كلام ابن راشد في رسم سلف الحائز يطالب ببيان سبب ملكه؛ لأنه حينئذ قال إذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيه الحيازة عاملة وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه. واختلف إذا كان هذا الحائز وارثا: فقيل: إنه بمنزلة الذي ورث ذلك عنه في أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي يصير به ذلك إلى موروثه، وهو قول مطرف وأصبغ. وقيل: ليس عليه أن يسأل عن شيء؛ لأنه يقول: ورثنا ذلك ولا أدري بماذا صار ذلك إليه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم أن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب، وقول ابن الماجشون: وقوله عندي بين، فإنه ليس عليه أن يسأل عن شيء. انتهى. وأفتى في نوازله بأن الحائز لا يطالب بشيء حتى يثبت القائم عليه الملك وسيأتي كلامه في التنبيه السادس، وجزم في شرح آخر مسألة من نوازل عيسى بأنه إذا ثبت أصل الملك لغيره فلا بد من بيان سبب ملكه قال: بأن يقول: اشتريته منه أو وهب لي أو تصدق به علي أو يقول: ورثته عن أبي أو عن فلان ولا أدري بأي وجه يصير إلى الذي ورثته منه، وقال: أما مجرد دعوى الملك دون أن يدعي شيئا من هذا فلا ينتفع به مع الحيازة إذا ثبت أصل

الملك لغيره. انتهى. (فرع) قال ابن سهل في مسائل الأقضية: من ادعي عليه بأملاك فقال: عندي وثائق غائبة ثم طولب عند حاكم آخر فأنكر تلك المقالة فقال ابن العطار: ليس عليه إحضار الوثائق. انتهى. انظر تمامها فيه.

الثالث: لا تسقط الحيازة ولو طالت الدعوى في الحبس، بذلك أفتى ابن رشد في نوازله في جواب المسألة الخامسة من مسائل الوقف وهي مسألة تتضمن السؤال عن جماعة واضعين أيديهم على أملاكهم ومورثهم ومورث مورثهم نحوا من سبعين عاما يتصرفون فيها بالبناء والغرس والتعويض والقسمة وكثيرا من وجوه التفويت فادعى عليهم بوقفيتها شخص حاضر عالم بالتفويت المذكور والتصرف هو ومورثه من قبله. ونصه: ولا يجب القضاء بالحبس إلا بعد أن يثبت التحبيس وملك المحبس لم حبسه يوم التحبيس وبعد أن تتعين الأملاك المحبسة بالحيازة لها على ما تصح فيه الحيازة، فإذا ثبت ذلك كله على وجهه وأعذر إلى المقوم عليهم فلم يكن لهم حجة إلا من ترك القائم وأبيه قبله عليهم وطول سكوتهما عن طلب حقهما مع علمهما بتفويت الأملاك فالقضاء بالحبس واجب والحكم به لازم. انتهى. وأفتى بذلك أيضا في المسألة السادسة من مسائل الدعوى والخصومات في مسألة ابن زهر، وهي مسألة تتضمن أن رجلا في ملكه ضيعة ورثها عن سلفه منذ سبعين عاما هو وأبوه، وهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه فقام عليه رجل وادعى أن الضيعة رهن بيده وبذلك ملكها سلفه قبله واستدعى عقد السماع بالرهن، فأثبت الذي بيده الضيعة أن جده ابتاعها من جد القائم عليه فيها فأفتى أن شهادة الشراء أعمل، ثم قام ذلك الرجل المشتري المدعي الرهنية بعينه وادعى

أنها حبس عليه وأثبت عقد التحبيس بالشهادة على خطوط شهدائه فهل ترى قيامه أولا بالرهن يبطل قيامه بالحبس أم لا؟ فأجاب: كان من وجه الحكم أن لا يكلف الذي بيده الضيعة من أين صارت إليه حتى يثبت القائم ملك الراهن لها ورهنه إياها وموته، وأنه وارثه أو وارث وارثه، وكذلك الحكم في قيامه بالحبس سواء في مذهب مالك وجميع أصحابه، غير أن قول المقوم عليه: أن جده ابتاعها من جد القائم عليه إقرار منه له بملكها، فإن كان هو المحبس، وأثبت حفيده عقد التحبيس، وأنه من عقبه لا عقب له غيره بالسماع إن عجز عن البينة القاطعة وأعذر إلى المقوم عليه فيما ثبت من ذلك فلم يكن عنده فيه مدفع، فالواجب أن يسأل المقوم عليه، فإن أقر أنها هي التي وقع ذكرها في كتاب التحبيس لم يجب على القائم فيها حيازة لاتفاقهما عليه، وانظر إلى تاريخ كتب صاحب التحبيس وتاريخ السماع بشراء جد المقوم عليه من جد القائم، فإن وجد تاريخ الحبس أقدم قضي به وبطل الشراء ووجب الرجوع بالثمن، وإن وجد تاريخ السماع بالشراء أقدم أو لم يعلم أيهما أقدم قبل صاحبه قضي بالشراء وبطل التحبيس، وهكذا الرواية في ذلك. ثم قال في جواب ثان على المسألة بعينها إثر الجواب الأول: ما تضمنه عقد التحبيس الثابت لا يوجب أن يسأل من بيده شيء من ذلك من أين صار له ولا يعقل عليه ولا يكلف إثباتا ولا عقلا إلا من بعد أن يثبت القائم بالتحبيس ملك المحبس لما حبسه ويحوز ما أثبت تحبيسه حيازة صحيحة على الوجه الذي ذكرناه، وهذا أصل لا اختلاف فيه، أعني: أن من بيده ملك لا يدعيه يكلف إثبات من أين صار له حتى يثبت المدعي ما ادعاه ويحوزه ولا يلزم المقوم عليه إذا أفضى ببقاء الملك بيده

وحكم بقطع الاعتراض عنه بشيء من ثمن ما ادعى شراءه إذا مضى من طول المدة ما صدق فيه المبتاع على أداء ثمن ما ابتاعه في قول مالك وجميع أصحابه، ولو لم يمض لم يحكم للمدعي أيضا بالثمن حتى يرجع عما ادعاه من التحبيس إلى تصديق دعوى المشتري على اختلاف أصحابنا المتقدمين، أي: واستفيد من هذه المسألة فوائد: منها: أنه مشى على أنه لا يسأل واضع اليد عن شيء حتى يثبت القائم الملك. ومنها: حكم شهادة السماع في الرهن. ومنها: القضاء بالتاريخ السابق. ومنها: إذا جهل السابق من تاريخ الشراء أو الحبس قضي بتاريخ الشراء وبطل الحبس. وأفتى غيره: أنه إذا جهل التاريخ قدم الحبس. والله أعلم. ص: (وفي الشريك القريب معهما قولان) ش. يعني: أنه اختلف في الشريك القريب إذا حاز العقار بالبناء والهدم هل تكون مدة الحيازة في حقه عشر سنين كالأجنبي أو لا يكفي في ذلك عشر سنين؟ ولم يبين المصنف قدر مدة الحيازة على القول الثاني والقولان لابن القاسم ذكرهما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق فكان أولا يقول: إن العشر سنين حيازة، ثم رجع إلى أن ذلك لا يكون حيازة إلا أن يطول الأمر أزيد من أربعين سنة. (تنبيهات) : الأول: ظاهر كلام المصنف وغيره: أن القولين متساويان، وقد علمت أن القول الذي رجع إليه ابن القاسم أن ذلك لا يكون حيازة، ولا شك أن العمل على القول المرجوع إليه فتأمله. الثاني: علم من قول المصنف معهما أنه لا تحصل الحيازة بين القرابة الشركاء إذا لم يكن هدم ولا بنيان وهو كذلك كما سيأتي في كلام ابن راشد في شرح قول المصنف: وإنما تفترق الدار من غيرها، ويأتي أيضا هناك

بيان حكم الحيازة بين القرابة الشركاء في غير العقار. والله أعلم. الثالث: لم يذكر المصنف حكم القريب الذي ليس بشريك، وذكر ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم أن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فجعله مرة كالقريب الشريك فيكون قد رجع عن قوله أن الحيازة لا تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان إلى أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير، وهو نص قوله في سماع يحيى المذكور، ومرة رآهم بخلاف ذلك فلم يرجع عن قوله: أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان وهو دليل قوله في السماع المذكور. انتهى. (قلت) : فعلم من كلام ابن رشد هذا أن القول بأن حكم القريب الذي ليس بشريك كحكم القريب الشريك هو الراجح؛ لقوله: إنه نص قول ابن القاسم، وأن الثاني إنما هو مفهوم من كلام ابن القاسم فتأمله، وتحصل من هذا: أن الحيازة بين القرابة سواء كانوا شركاء أو غير شركاء لا تكون بالسكنى والازدراع، وإنما تكون بالهدم والبناء في الأمد الطويل الذي يزيد على أربعين سنة على الأرجح من القولين. والله أعلم. الرابع: محصل كلام ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، وأن الحيازة لا تكون بين أب وابنه بالسكنى والازدراع والاستخدام والركوب اتفاقا، وكذلك الأقارب الشركاء بميراث وغيره على الأظهر، وكذا الشركاء الأجانب الذين الشركة بينهم فتكفي الحيازة عشرة أعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان على الشهود وإن حصل هدم وبناء وغرس فتكفي العشرة الأعوام في الشريك الأجنبي، وفي الشريك القريب مع ذلك قولان، وفي كون ذلك القريب غير الشريك والمولى والصهر الشريكان،

ثالثها في الصهر والمولى دون القريب، وفي كون السكنى والازدراع في العشرة حيازة لمولى وصهر غير شريكين أو إن هدم وبنى أو إن طال جدا أقوال. والله أعلم. ص: (لا بين أب وابنه إلا بكهبة) ش: قال ابن راشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: وتحصل الحيازة في كل شيء، بالبيع والهبة والصدقة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والولاء ولو بين أب وابنه، ولو قصرت المدة إلا أنه إن حضر مجلس البيع فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع في حصته وكان له الثمن، وإن سكت بعد العام ونحوه حتى استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه، وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين علم أخذ منه، وإن سكت العام ونحوه ولم يكن له إلا الثمن، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء واستحقه الحائز، وإن حضر مجلس الهبة والصدقة والتدبير والعتق فسكت حتى انقضى المجلس -لم يكن له شيء، وإن لم يحضر ثم علم فإن قام حينئذ كان له حقه، وإن سكت العام ونحوه فلا شيء له، ويختلف في الكتابة هل تحمل على البيع أو على العتق؟ قولان. انتهى مختصرا. ص: (وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي ففي الدابة وأمة الخدمة السنتان ويزاد في عبد وعرض) ش: يعني: أنه إنما يفترق بين الدور وغيرها في مدة الحيازة إذا كانت الحيازة بين الأجانب، وأما في حيازة القرابة بعضهم على بعض فلا يفرق بين الدور وغيرها، قال ابن رشد في رسم سلف من سمع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق: إن الأقارب والشركاء بالميراث أو بغير الميراث لا خلاف أن الحيازة بينهم لا تكون بالسكنى والازدراع ولا خلاف أنها تكون بالتفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء

وإن لم تطل المدة والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع قال: والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور وكالغرس في الأرضين ثم قال: ولا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي بالاعتمار والسكنى والازدراع في الأصول والاستخدام والركوب واللباس في الرقيق والدواب والثياب، فقد قال أصبغ: إن السنة والسنتين في الثياب حيازة وإذا كانت تلبس وتمتهن، وإن السنتين والثلاثة حيازة في الدواب إذا كانت تركب، وفي الإماء إذا كن يستخدمن، وفي العبيد والعروض فوق ذلك، ولا يبلغ في شيء من ذلك كله بين الأجنبيين إلى العشرة الأعوام كما يصنع في الأصول. انتهى.

(تنبيهات) : الأولى: علم من كلام ابن رشد أن اللباس في الثياب كالسكنى في الدور وأنه لا تحصل حيازة بين الأقارب ولو طالت المدة وأن الاستقلال في الرقيق والدواب والثياب بمعنى قبض أجرة العبيد والدواب والثياب؛ كالهدم والبنيان في العقار فلا تحصل الحيازة بين الأقارب في الرقيق والثياب والعروض إلا بالاستغلال ويختلف في مدتها على القولين السابقين اللذين أشار إليهما المصنف بقوله: وفي الشريك القريب معهما قولان أو بالأمور المفوتة؛ كالبيع والهبة والصدقة والعتق والوطء ويعلم هذا من كلام المصنف؛ لأنه لما جعل ذلك مفوتا بين الأب وابنه علم أنه مفوت في حق غيرهما من باب أحرى. والله أعلم. الثاني: فهم من قول المصنف في الأجنبي أن القريب لا تفترق الدار من غيرها في حقه سواء كان شريكا أو غير شريك ففيه إشارة إلى ترجيح القول بتساويهما كما تقدم

ذلك. الثالث: تقدم في كلام ابن رشد الثياب يكفي في حيازتها السنة والسنتان ولم يتعرض لها المصنف، بل قد يفهم من كلامه دخولها في العروض فتنبه لذلك. الرابع: التفصيل الذي ذكرناه عن ابن راشد لا يؤخذ من كلام المصنف ولم ينقله في التوضيح وهو أتم فائدة فتأمله. والله أعلم. الخامس: في المدة التي يسقط بها طلب الدين قال في المسائل الملقوطة من الكتب المبسوطة المنسوب لولد ابن فرحون: الساكت عن طلب الدين ثلاثين سنة لا قول له ويصدق الغريم في دعوى الدفع ولا يكلف الغريم ببينة لا مكان موتهم أو نسيانهم للشهادة. انتهى من [منتخب الحكام] لابن أبي زمنين. وفي كتاب محمد بن ياسين في مدعي دين سلف بعد عشرين سنة أن المدعى عليه مصدق في القضاء إذ الغالب أن لا يؤخر السلف مثل هذه المدة كالبيوعات. انتهى كلام المسائل الملقوطة، وقال والده ابن فرحون في [تبصرته] في الباب الثاني والستين في القضاء في شهادة الوثيقة والرهن على استيفاء الحق: (فرع) وفي [مختصر الواضحة] في آخر باب الحيازة قال عبد الملك: وقال لي مطرف وأصبغ: إذا ادعى رجل على رجل حقا قديما وقام عليه بذكر حقه وذلك القيام بعد العشرين سنة أخذ به وعلى الآخر البراءة منه. وفي [مفيد الحكام] : أن ذكر الحق المشهود فيه لا يبطل إلا بطول الزمان كالثلاثين سنة والأربعين وكذلك الدين وإن كانت معروفة في الأصل إذا طال زمانها هكذا ومن هي له وعليه حضور فلا يقوم عليه بدينه إلا بعد هذا بطول الزمان فيقول: قد قضيتك وباد شهودي بذلك فلا شيء على المدين غير اليمين، قال: وكذلك الوصي يقوم عليه اليتيم بعد طول الزمان وينكر قبض ماله من الوصي فإن كانت مدة يهلك في مثلها

شهود الوصي فلا شيء عليه وإلا فعليه البينة بالدفع. انتهى. وقال البرزلي في أثناء مسائل البيوع: رأيت جوابا وأظنه للمازري في الديون فقال: إذا طال الزمان على الطالب وبيده وثائق وأحكام وهو حاضر مع المطلوب ولا عذر له يمنعه من الطلب من ظلم ونحوه وسكت عن الطلب فاختلف المذهب في حد السكوت القاطع لطلب الديون الثابتة في الوثائق والأحكام هل حد ذلك عشرون سنة، وهو قول مطرف أو ثلاثون سنة، وهو قول مالك واتفقا جميعا على أن ذلك دلالة قاطعة لطلب الطالب، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» معلل بوجود الأسباب المانعة من الطلب بالغيبة البعيدة وعدم القدرة على الطلب مع الحضور، حتى إذا ارتفعت هذه الأسباب من الطلب كان طول المدة مع السكوت والحضور دلالة يقوى بها سبب المطلوب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به» ، فأطلق عليه الصلاة والسلام ذكر الحيازة، فهو عام في كل ما يحاز من ريع ومال معين وغيره، ومن اجتهد فحد في الرياع العشر سنين وحد في الدين العشرين والثلاثين - رأى أن ذلك راجع إلى حال الطالب مع المطلوب، فمن غلب على حاله كثرة المشاحنة، وأنه لا يمكن أن يسكت عن خصمه عشر سنين -جعلها حدا قاطعا، ومن جعلها عشرين سنة أو ثلاثين، أي: أنها أقصى ما يمكن السكوت في بيع المتحمل فجعلها حدا قاطعا لأعذار الطالبين؛ لأن الغالب من الحال أنه قضاء، وقد قضى بتغليب الأحوال عمر بن الخطاب، وقاله مالك فيمن له شيء وترك غيره يتصرف فيه ويفعل فيه ما يفعل المالك الدهر الطويل، فإن ذلك مما يسقط الملك ويمنع الطالب من الطلب، قاله مالك

وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ، وإذا كان وطول المدة مع حضور الطالب وسكوته مانعا له من الطلب فالطلب ممنوع في سائر المطالب دون وثائق وأحكام وأرباع، بدليل أن السكوت في ذلك يعد كالإقرار المنطوق به من الطالب للمطلوب بأنه لا حق له عليه ولا تباعة ولا طلب. قلت: هذا الجواب يقتضي، أن ما بعد الثلاثين مجمع عليه، وإذا أجراه على مسائل الحيازة ففيها قريب القرابة والبعيد والمتوسط والمقاطع لقريب والمواصل له فيجرى عليها، وفي بعضها ما يبلغ الخمسين وأكثر مع أني أحفظ لابن رشد في [شرحه] أنه إذا تقرر الدين وثبت لا يبطل وإن طال؛ لعموم الحديث المتقدم، واختاره التونسي إذا كان ذلك بوثيقة مكتوبة وهي في يد الطالب والطلب بسببها؛ لأن بقاءها بيد ربها دليل على أنه لم يقبض دينه إذ العادة إذا قبض دينه أخذ عقده أو مزقه بخلاف إذا كانت الديون بغير عقود، ولو وجدت بغير المطلوب، وإلا ففيها قولان حكاهما ابن رشد وخرجهما على القولين في الرهن إذا وجد بيد الراهن، هل هو إبراء له أم لا لجواز وقوعه وسقوطه أو التسور عليه ونحو ذلك، وقياسه على باب الحيازة فيه نظر؛ لما أصل ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله، وأما إذا ثبت أصله بكراء أو إعارة أو إعمار أو غير ذلك، فلا يزال الحكم كذلك وإن طال الزمن، والدين إن ثبت أصله أيضا، وإن كان في هذه الأصل خلاف في كتاب الولاء من [المدونة] ، لكن مذهب ابن القاسم ما ذكره خلافا لقول الغير، وعليه جرى عمل القضاة في هذا الزمان بتونس، ما لم تقترن قرائن تدل على دفع الدين مع طول الزمان فيعمل عليها في البراءة. والله أعلم. انتهى. ويشير والله أعلم بقوله: وقياسه على باب الحيازة فيه نظر لما أصل

ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله إلى ما قاله في شرح المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق، ولتذكر المسألة وكلامه عليها ونصها: مسألة: قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل أصدق امرأة عن ابنه منزلا فلما دخل ابنه بالمرأة أخذت المنزل إلا حقولا يسيرة تركتها في يد حميها، فلم تزل في يده حتى مات بعد طول زمان ثم أرادت المرأة أخذها فمنعها ورثة الحمو، وقالوا: قد عاينتها زمان من دهرك وهي في يده ولا تشهدي عليه بعارية ولا كراء، ولا ندري لعلك أرضاك من حقك، أترى للمرأة في ذلك حقا؟ قال: نعم، لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه، ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو؛ لأنها ليست بالصدقة فتلزم حيازته، وإنما الصداق ثمن من الأثمان، وكذلك لو تركت كل ما أصدقها في يد الحمو لم يضرها ذلك، قال ابن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف؛ لأن حقها تركته في يد حموها فلا يضرها ذلك، طال الزمان أو قصر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا يبطل حق امرئ مسلم، وإن قدم» وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع بها الحائز، ويفرق بين القرابة والأجنبيين والأصهار فيها إذ قد عرف وجه كون الأحقاب بيد الحمو، فهي على ذلك محمولة حتى يعرف مصيرها إليه بوجه صحيح؛ لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها، وهذا أصل الحكم بالحيازة. وبالله التوفيق.

النقول عن المذهب الشافعي

3 - النقول عن المذهب الشافعي يقرر المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الأخرى: أن اليد دليل الملك من حيث الجملة ما لم يعارضها ما هو أقوى منها، وليس فيما

أوردناه من النقول ما يدل على تحديد مدة معينة، ويكون مضيها مثبتا الملكية لصاحبه اليد، كما هو مقرر في كتب الحنفية والمالكية، وفيما يلي نقول عن الإمام الشافعي وبعض أتباعه: أ- جاء في [الأم] (¬1) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا كان الشيء في يد اثنين عبدا كان أو دارا أو غيره فادعى كل واحد منهما كله فهو في الظاهر بينهما نصفان، ويكلف كل واحد منهما البينة على ما في يد صاحبه، فإن لم يجد واحد منهما بينة أحلفنا كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فأيهما حلف بريء، وأيهما نكل رددنا اليمين على المدعي، فإن حلف أخذ، وإن نكل لم يأخذ شيئا، ودعواه النصف الذي في يد صاحبه كدعواه الكل ليس في يديه منه شيء؛ لأن ما في يد غيره خارج من يديه. ب- وجاء فيها أيضا (¬2) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدار في يد رجلين فأقام أحدهما البينة أنها كلها له منذ سنة والآخر البينة أن له كلها منذ سنتين فيه بينهما نصفان - أقبل بينة كل واحد منهما على ما في يده وأطرحها عما في يد غيره إذا شهد شهود له بخلافها. قال أبو يعقوب: يقضى بها لأقدمهما ملكا لها. قال الربيع: هي بينهما نصفان. ج- وجاء فيها: (¬3) قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان العبد في يدي رجل فادعاه آخر وأقام البينة أنه كان في يديه أمس - فإنه لا يقبل منه البينة على هذا؛ لأنه قد يكون في يديه ما ليس له، ولو أقام البينة أن هذا ¬

_ (¬1) [الأم] (6\ 227) . (¬2) [الأم] (6\232) . (¬3) [الأم] (6\ 230) .

العبد أخذ هذا منه أو انتزع منه العبد أو اغتصبه منه أو غلبه على العبد وأخذه منه أو شهدوا أنه أرسله في حاجته فاعترضه هذا من الطريق فذهب به أو شهدوا أنه أبق من هذا فأخذه هذا - فإن هذه الشهادة جائزة ويقضى له بالعبد، فإن لم تكن له بينة فعلى الذي في يديه العبد اليمين، فإن حلف بريء، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي، فإن حلف أخذ ما ادعى، وإن أنكل سقط دعواه، وإنما حلفه على ما ادعى صاحبه. قال أبو يعقوب رحمه الله تعالى: تقبل بينته ويترك في يديه كما كان. د- وجاء فيها أيضا (¬1) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدابة في يدي رجل فأقام البينة أنها له، فأقام رجل أجنبي بينة أنها له - فهي للذي هي في يديه. وسواء أقام الذي هي في يديه بينة على أنها له بميراث أو شراء أو غير ذلك من الملك أو لم يقمها. وسواء أقام الأجنبي البينة على ملك أقدم من ملك هذا أو أحدث أو معه أم لم يقمها. إنما أنظر إلى الشهود حين يشهدون فأجعلها للذي هو أحق في تلك الحال. هـ- وجاء فيها أيضا (¬2) : أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن أبي يحيى عن إسحاق بن أبي فروة عن عمر بن الحكم عن جابر بن عبد الله: «أن رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه،» وهذا قول كل من حفظت عنه ممن لقيت في النتاج وفيما لا يكون إلا مرة، وخالفنا بعض المشرقيين ¬

_ (¬1) انظر [الأم] (6\235، 236) . (¬2) [الأم] (6\237) .

فيما سوى النتاج وفيما يكون مرتين. ووجاء فيها أيضا (¬1) : قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا تداعى الرجلان الشيء وهو في يد أحدهما دون الآخر فأقاما معا بينة - فالبينة بينة الذي هو في يديه، إذا كانت البينة مما يقضى بمثله مثل شاهد وامرأتين أو شاهدين فأقام الآخر عشرة أو أكثر- فسواء. ز- وجاء فيها أيضا تحت عنوان (¬2) : (باب الدعويين إحداهما في وقت قبل صاحبه) . قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان العبد في يد رجل فأقام الرجل البينة أنه له منذ سنتين، وأقام الذي هو في يديه البينة أنه له منذ سنة، فهو للذي هو في يديه، والوقت الأول والوقت الآخر سواء، وكذلك لو كان في أيديهما فأقاما جميعا البينة على الملك إنما أنظر إلى الحال التي يتنازعان فيها. ح- جاء في مختصر [المزني] (¬3) : قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «البينة على المدعي» قال الشافعي: أحسبه قال: ولا أثبته قال: واليمين على المدعى عليه. قال: وإذا ادعى الرجل الشيء في يدي الرجل فالظاهر أنه لمن هو في يديه مع يمينه؛ لأنه أقوى سببا. فإن استوى سببهما فهما فيه سواء، فإن أقام الذي ليس في يديه البينة قال لصاحب اليد: البينة ¬

_ (¬1) [الأم] (6\238) . (¬2) [الأم] (6\235) . (¬3) انظر [الأم] (8\314) من مختصر المزني.

التي لا تجر إلى أنفسها بشهادتها أقوى من كينونة الشيء في يديك، وقد يكون في يديك ما لا تملكه فهو له لفضل قوة سببه على سببك. فإن أقام الآخر بينة قيل: قد استويتما في الدعوى والبينة، والذي الشيء في يديه أقوى سببا فهو له لفضل قوة سببه. وهذا معتدل على أصل القياس والسنة على ما قلنا في رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه. ط- يقول الشيرازي (¬1) : (وإن تداعيا عينا ولأحدهما بينة وهي في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما -حكم لمن له البينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه (¬2) » ، فبدأ الحكم بالشهادة، ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره، والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها، وإن كان لكل واحد فيهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما قضى لمن له اليد من غير يمين. ومن أصحابنا من قال: لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين؛ لأن بينته تعارضها بينة المدعي فتسقطها، ويبقى له اليد، ولا يقضى بها من غير يمين. والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين؛ لأن معه بينة معها ترجيح وهو اليد. ومع الآخر بينة لا ترجيح معها. والحجتان إذا تعارضتا ومع أحدهما ترجيح قضي بالتي معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا رفع أحدهما قياس. وإن كانت العين في يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضي له وسلمت العين إليه، ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه؛ لأنا حكمنا ¬

_ (¬1) انظر [المهذب] (2\311) . (¬2) صحيح البخاري الرهن (2516) .

للآخر ظنا منا أنه لا بينة له، فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر) . ي- ويقول الشيرازي في [المهذب] (¬1) : (وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده، وأقام الذي في يده الدار بينته أنها له قدمت بينة الخارج الذي لا يد له؛ لأن الدار المستأجرة في ملك للمؤجر وبيده، وليس للمستأجر إلا الانتفاع، فتصير كما لو كانت في يده دارا، وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده وأقام البينة- فإنه يحكم بها للمغصوب منه) . ¬

_ (¬1) [المهذب] (2\ 313) .

ك- جاء في [نهاية المحتاج] للرملي (¬1) : (ولو كانت) العين (بيده) تصرفا أو إمساكا (فأقام غيره بها) أي: بملكها، من غير زيادة (بينة) وأقام (هو) بها (بينة) بينت سبب ملكه أم لا أو قالت: كل اشتراها أو غصبها من الآخر، (قدم) من غير يمين (صاحب اليد) ويسمى: الداخل؛ لأن صلى الله عليه وسلم قضى بذلك، كما رواه أبو داود وغيره، ولترجيح بينته وإن كانت شاهدا ويمينا على الأخرى وإن كانت شاهدين، ومن ثم لو شهدت بينة المدعي بأنه اشتراه منه، أو من بائعه مثلا أو أن أحدهما غصبها قدم لبطلان اليد حينئذ. ل- ويقول الرملي في [نهاية المحتاج] : أما إذا كان لأحدهما يد وشاهدان وللآخر شاهد ويمين فتقدم اليد والشاهدان (و) المذهب (أنه لو كان لصاحب متأخرة التاريخ يد قدمت) ؛ لأنهما متساويان في إثبات الملك ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (8\ 340) .

في الحال، فيتساقطان فيه، وتبقى اليد فيه مقابلة الملك السابق وهي أقوى من الشهادة على الملك السابق، بدليل أنها لا تزال، بها وقيل العكس يتساويان؛ لأن لكل جهة ترجيح. م- جاء في [شرح منهج الطلاب] لزكريا الأنصاري (¬1) تحت عنوان: (فصل في تعارض البينتين) . لو (ادعى كل منهما) أي من الاثنين (شيئا وأقام بينة به وهو بيد ثالث سقطتا) لتناقض موجبهما، فيحلف لكل منهما يمينا.. (أو بيدهما أو لا بيد أحد فهو لهما) إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر (أو بيد أحدهما) ويسمى الداخل (رجحت بينته) ، وإن تأخر تاريخها، أو كانت شاهدا ويمينا وبينة الخارج شاهدين، أو لم تبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينته بيده. هذا (وإن أقامها بعد بينة الخارج) ولو قبل تعديلها بخلاف ما لو أقامها قبلها؛ لأنها إنما تسمع بعدها؛ لأن الأصل في جانبه اليمين فلا تعدل عنها مادامت كافية (ولو أزيلت يده ببينة وأسندت بينته) الملك (إلى ما قبل إزالة يده واعتذر بغيبتها) مثلا فإنها ترجح؛ لأن يده إنما أزيلت لعدم الحجة، وقد ظهرت فينقض القضاء، بخلاف ما إذا لم تسند بينته إلى ذلك، أو لم يعتذر بما ذكر فلا ترجح؛ لأنه الآن مدع خارج واشتراط الاعتذار ذكره الأصل كالروضة. وأصلها قال البلقيني: وعندي أنه ليس بشرط والعذر إنما يطلب إذا ظهر من صاحبه ما يخالفه كمسألة الرابحة ... ويجاب بأنه إنما شرط هنا وإن لم ¬

_ (¬1) انظر [فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب] لزكريا الأنصاري (2\232) .

يظهر من صاحبه ما يخالفه لتقدم الحكم بالملك لغيره فاحتيط بذلك ليسهل نقض الحكم بخلاف ما مر. ن- وجاء في [حاشية الباجوري (¬1) على شرح ابن قاسم الغزي] تعليقا على قول ابن قاسم: (وإذا تداعيا) أي: اثنان شيئا في يد أحدهما فالقول قول صاحب اليد بيمينه) أن الذي في يده له. قال الباجوري: ( ... قوله: شيئا، أي: عينا، وقوله: في يد أحدهما، أي: ولا بينة لواحد منهما، فإن كان لكل منهما بينة رجحت بينة صاحب اليد، ويسمى الداخل على بينة الآخر، ويسمى: الخارج بشرط أن يقيم الداخل بينته بعد بينة الخارج ولو قبل تعديلها؛ لأن الأصل في جانب الداخل اليمين ما لم يقم الخارج بينته، فلا يعدل عنها مادامت كافية، فلو أقامها قبلها لم تسمع فيعيدها بعدها وترجح بينة الداخل، ولو كانت شاهدا ويمينا وكانت بينة الخارج شاهدين، وإن تأخر تاريخها أو لم تبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينة بيده نعم لو قال الخارج: هو ملكي اشتريته منك ولم تدفعه لي أو غصبته مني واكتريته أو استعرته، فقال الداخل: بل هو ملكي وأقاما بينتين بما قالاه - رجحت بينة الخارج؛ لزيادة علمها بما ذكر، ولو أزيلت يد الداخل ببينة أقامها الخارج ثم أقام الداخل بينته وأسندت ملكه إلى ما قبل إزالة يده - رجحت بينته، وإن لم يعتذر بغيبتها مثلا على المعتمد خلافا للبلقيني، وتبعه شيخ الإسلام في شرح منهجه فينقض القضاء السابق؛ لأن يده إنما أزيلت بعدم الحجة وقد ظهرت ¬

_ (¬1) انظر [حاشية الباجوري] (3\ 584) .

بخلاف ما إذا لم تسند ملكه إلى ذلك فلا ترجح؛ لأنه الآن مدع خارج. وعلم مما تقرر من أن بينة الداخل ترجح إذا أزيلت يده ببينة، وأسندت بينة ملكه ما قبل إزالة يده أن دعواه تسمع، ولو بغير ذكر انتقال بخلاف ما لو أزيلت يده بإقرار حقيقة أو حكما، وهو اليمين المردودة - فلا تسمع دعواه ثانيا بغير ذكر انتقال؛ لأنه مؤاخذ بإقراره. س- قال العز بن عبد السلام: (فائدة) (¬1) : اليد عبارة عن القرب والاتصال، وللقرب والاتصال مراتب بعضها أقوى من بعض في الدلالة: أعلاها: ما اشتد اتصآله بالإنسان كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي في كمه أو جيبه أو يده، فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوه منها. المرتبة الثانية: البساط الذي هو جالس عليه، أو البغل الذي هو راكب عليه، فهذا في المرتبة الثانية. المرتبة الثالثة: الدابة التي هو سائقها أو قائدها، فإن يده في ذلك أضعف من يد راكبها. المرتبة الرابعة: الدار التي هو ساكنها ودلالتها دون دلالة الراكب والسائق والقائد؛ لأنه غير مسئول على جميعها، ويقدم أقوى اليدين على أضعفهما، فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار وفي ما هما لابسانه جعلت الدار بينهما بأيمانهما، لاستوائهما في الاتصال، وجعل القول قول كل ¬

_ (¬1) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام] ص 141.

واحد منهما في ما هو لباسه المختص به؛ لقوة القرب والاتصال، ولو اختلف الراكبان في مركوبهما حلفا وجعل بينهما لاستوائهما، ولو اختلف الراكب مع القائد أو السائق قدم الراكب عليهما بيمينه. ع- وجاء في [الفتاوى الكبرى] لابن حجر الهيتمي (¬1) : سئل رحمه الله عن امرأة بيدها مستند شرعي مضمونه: أن فلانة الفلانية اشترت من أختها فلانة الفلانية بيتا بيعا مطلقا بثمن كذا وكذا وقبضت البائعة الثمن باعترافها وحكم حاكم شافعي بالتبايع المذكور. ومؤرخ التبايع والحكم بعام سنة عشرين وتسعمائة (920) ، والشاهد لم يكتب في المستند معرفته للبائعة ولا عرفه بها أحد. والحالة أن البائعة منكرة للبيع المذكور، وأنها لم تقبض الثمن المذكور، وأنها لم تكن أختا لها كما كتب في المستند. ثم إن البائعة جاءت عند حاكم شرعي مخالف للحاكم المثبت، وادعت على المشترية المذكورة أنها واضعة يدها على بيتها بمقتضى أنهما جعلته تحت يدها في مبلغ اثني عشرة أشرفيا هو ومستندات شرعية تشهد لها بذلك، فأجابت بأنها صار إليها ذلك بالشراء الشرعي منها كما ذكر أعلاه، وأنني تقابلت وإياك التبايع الصادر منك كما ذكر. فهل تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع ولم تقبل الثمن؟ وهل حكم الحاكم الشافعي يمنعها من الدعوى بذلك؟ وهل طول المدة مع تصرفها في البيت بالهدم والبناء مسقط للطلب أيضا أم لا؟ وهل للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة والبيع وبقبض الثمن ¬

_ (¬1) [الفتاوى الكبرى] ، لابن حجر الهيتمي (4\ 374) وما بعدها.

أم لا؟ فأجاب: نفع الله تعالى بعلومه - قوله: لا تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع حيث ثبت عند الحاكم وليس للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة؛ لأن من لازم حكم الحاكم بصحة البيع استيفاء مسوغاته الشرعية، ومنها أن الشهادة لا تكون إلا على عينها أو باسمها ونسبها، ولا نظر لطول المدة المذكورة ولا لقصرها، وأما دعواها أنها لم تقبض الثمن فإن كانت الشهادة عليها بطريق المعاينة لم تسمع دعواها وإن كانت بطريق الشهادة على إقرارها سمعت دعواها أنها لم تقر إلا على رسم القيالة فتحلف المشترية أنها أقبضتها الثمن، فإن نكلت حلفت البائعة أنها لم تقبض واستحق الثمن ... والله أعلم.

النقول من مذهب الحنابلة

4 - النقول من مذهب الحنابلة: تمهيد: يقرر المذهب الحنبلي القول في الحكم بمرور الزمان من حيث الجملة بناء على قاعدة سد الذرائع، وأنه إذا تعارض أصل وظاهر قدم الظاهر، ولم يذكر الحنابلة من تحديد المدة كما ذكره الأحناف، بل يردون ذلك إلى اجتهاد القاضي، وقد وردنا بعض النقول عن ابن قدامة وصاحب [مطالب أولي النهى] ، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وجملة من فتاوى أئمة الدعوة. قال ابن قدامة (¬1) : فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة والإجارة والعمارة والهدم والبناء من غير منازع، ¬

_ (¬1) [المغني] لابن قدامة (9\162) .

فقال أبو عبد الله بن حامد: يجوز أن يشهد له بملكها. وهو قول أبي حنيفة والإصطخري من أصحاب الشافعي. قال القاضي: ويحتمل أن لا يشهد إلا بما شاهده من الملك واليد والتصرف؛ لأن اليد ليست منحصرة في الملك قد تكون بإجارة أو إعارة أو غصب. وهذا قول بعض أصحاب الشافعي. ووجه الأول: أن اليد دليل الملك، واستمرارها من غير منازع يقويها، فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة، واحتمال كونها عن غصب أو إجارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع، فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد، فإن احتمال كون البائع غير مالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا هاهنا. فإن قيل: فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم. قلنا: الظن يسمى علما. قال الله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (¬1) ولا سبيل إلى العلم اليقين هاهنا فجاءت بالظن. وجاء في [مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى] (¬2) : (ومن رأى شيئا بيد إنسان يتصرف فيه مدة طويلة كتصرف مالك من نقض وبناء وإجارة وإعارة فله الشهادة بالملك) ؛ لأن تصرفه فيه على هذا الوجه بلا منازع دليل صحة الملك (كمعاينة السبب) أي: سبب الملك (من بيع وإرث) ولا نظر لاحتمال كون البائع والمورث ليس مالكا (وإلا) يره يتصرف كما ذكر فإنه ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة الآية 10 (¬2) انظر [مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى] للشيخ مصطفى السيوطي الرجيباني (6\599) .

يشهد (باليد والتصرف) ؛ لأن ذلك لا يدل على الملك غالبا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) : ومن ادعى على خصمه أن بيده عقارا استغله مدة معينة وعينه، وأنه استحقه فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعى عليه بينة باستيلائه لا باستحقاقه، لزم الحاكم إثباته والشهادة به كما يلزم البينة أن تشهد به؛ لأنه كفرع مع أصل، وما لزم أصل الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل، ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادة ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور بخلاف الحكم وهو الأمر بإعطائه ما ادعاه إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح. ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته، ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه - لا ينزع منه بذلك، لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق. قال ابن القيم: فصل: الطريق الثالث (¬2) : أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عينا في يده، فأنكر فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد؛ ولهذا شرعت اليمين في جهته، فإن اليمين تنتزع في جنبة أقوى المتداعيين، هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة. ¬

_ (¬1) [الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية] . (¬2) [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية] ص (113) ويرجع إلى ص (88) .

وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة، وعلى رأسه عمامة، وآخر خلفه حاسر الرأس، ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس، فإنا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر، ولا يلتفت إلى تلك اليد. ويجب العمل قطعا بهذه القرائن. فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظنا البتة. فكيف تقدم على ما هو مقطوع به، أو كالمقطوع به؟ وكذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبة في العادة، ووراءه أمير ماش، أو من ليس من عادته المشي- فإنا نقطع أن يده مبطلة. وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها، كما إذا رؤي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه وادعى أنها ملكه وفي يده - لم يلتفت إلى ملك اليد. وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد: أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها. فإذا قضينا باليد، فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها. وإذا كانت اليد ترفع بالنكول، وبالشاهد الواحد مع اليمين، وباليمين المردودة. فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى. فهذا مما لا يرتاب فيه: أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووضعه بين عباده. فالأيدي ثلاثة: الأولى: يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها.

الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة، فلا تسمع الدعوى عليها؛ كمن يشاهد في يده دارا يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب، مع عدم سطوته وشوكته. فجاء من ادعى أنه غصبها منه، واستولى عليها بغير حق - وهو يشاهد في هذا المدة الطويلة، ويمكنه طلب خلاصها منه. ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة. هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة. وهو الصواب. قالوا: إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة: بالهدم والبناء والإجارة والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك، مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريا عن ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينته، وتبقى الدار في يد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة. قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬1) وأوجبت ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 199

الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك في هذا الموضع. وليس ذلك خلاف العادات، فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر. قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة، فقد حدها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ بعشر سنين. وربما احتج بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» وهذا لا يثبت. وأما مالك رحمه الله: فلم يوقت في ذلك حدا، ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام. الثالثة: يد محتمل أن تكون محقة، وأن تكون مبطلة، فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها. فالشارع لا يقر يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة. واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى. والله أعلم. فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها. قال الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد رحمهم الله: جرى بين رجلين خصومة في عقد بيع نخل متقدم، ودخل عليه عقد ثان وقام بعض الناس على بعض يتنازعون في عقود ماضية في أموال قد استولى عليها أهلها وحضروا عند آل الشيخ، واتفق رأيهم أن ما أفتى به الشيخ رحمه الله وغيره من قضاة المسلمين، واستغله الذي هو في يده مدة والمدعي موجود ولا أنكر

وادعى - فلا له طريق، إلا إن تبين مقالة فيها نص صريح، أو إجماع أهل العلم، أو اتفق عليه قضاة المسلمين الموجودين، وإلا ما يثبت له دعوى بفتيا الواحد في مثل هذه المقالة التي يقضي فيها قاض من قضاة المسلمين، فلا يتعرضها الآخر إلا بإجماع القضاة: أن هذه الفتيا مخالفة للشرع، فإن نقضها واحد ما صح نقضه، فإن تقوى أمير أو مأمور على مسلم وأكل ماله بظلم أو بيع فاسد فيأتي وأقوم له إن شاء الله تعالى. ويذكر لنا بعض الناس الذي حضروا الشيخ رحمه الله أنه إذا عرض عليه حفيظة بخط مطوع من مطاوعة الجاهلية (¬1) أمضاها ولا ينكثها، فإذا استدام ملك واحد في يد الآخر واستغله ثلاث سنين أو أربع سنين، وصاحب الدعوى حاضر ولا ادعى في هذه المدة سد عليه الباب. ¬

_ (¬1) أي: ما قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ سموا بذلك لما كانوا عليه من أعمال الجاهلية.

سئل الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد: عن أخوين بينهما شركة في أرض تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادعى أنه اشتراها من أخيه ولكن الشهود ماتوا. فأجاب: الذي نفهم أن هذا على الأصل يلزم مدعي الشراء بينة، فإن لم يجد بينة حلف المنكر أنه لم يبعها عليه، وأنها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأما كونها في يد أحدهما ويتصرف فيها من قدر ثمان سنين فمثل هذا ما يصير بينة ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة؛ لكونه يدعى أنه اشتراها والآخر منكر ولم يدع أنها ملكه لا حق

للآخر فيها، بل هو مقر بملك أخيه فيها لكنه يدعي بالشراء وهذا الذي تقرر عندنا وعند الأخ حمد بن ناصر. سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: عن مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرفون فيها تصرف الملاك فأجاب: الذي استقر عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام الدعوة الإسلامية أن العقار ونحوه إذا كان في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك من نحو ثلاث سنين فأكثر ليس فيه منازع في تلك المدة أن القول قوله أنه ملكه إلا أن تقوم بينة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنه مستعير أو مستأجر ونحو ذلك، وأما الأصل فلا يلتفت إليه مع هذا الظاهر فقدم شيخنا رحمه الله الظاهر هنا على الأصل؛ لقوته وعدم المعارض. وسئل أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ رحمهم الله: عن بستان ادعاه اثنان أصله لجدهما من قبل الأم وليس مع أحدهما بينة بانتقال ملك مورثه عنهما. فأجاب: قد أفاد ابن القيم رحمه الله تعالى في [الطرق] ، ما يؤخذ منه حكم هذه القضية فقال: وأما المرتبة الثالثة: فمثالها: أن يكون رجل حائزا لدار يتصرف فيها السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة، وينسبها إلى نفسه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع من مطالبته من خوف سلطان أو ما أشبه ذلك، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة أو شركة في ميراث ونحوه، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بينة بذلك - فدعواه غير مسموعة أصلا. انتهى. فمفاد هذا

الكلام أنه إذا كان بين المتنازعين قرابة أو شركة في ميراث ونحو ذلك أن الدعوى تسمع ولا يثبت حكم اليد لمن هي في يده؛ لأجل القرابة وغيبة الشريك فتقسم على الميراث الذي هو في الأصل. والله أعلم. سئل الشيخ حسن بن حسين ابن الشيخ رحمهم الله: إذا ادعى رجل أن أباه اشترى هذا الملك. وأحضر وثيقة وكان بيد آخر وورثه عن أبيه والوثيقة من مدة خمس سنين. فأجاب: اعلم أن العلماء قرروا أنه إذا تعارض الأصل والظاهر قدم الظاهر ولم يعمل بالأصل، وهذا فيما إذا كان العقار بيد إنسان قدر خمس سنين يتصرف فيه تصرف المالك ولم يدعه صاحب الأصل في هذه المدة، ولم يكن بينهما شركة ولا قرابة بينهما، فالذي أرى في هذه المسألة إذا كان الملك بيد أب من هو في يده أو ولده مع وجود أبي المدعي يتصرف فيه ولم يدعه الأب فدعوى ابنه اليوم ساقطة، وإن كان أبو المدعي مات من حين الشراء المذكور في الوثيقة وأحضر ابنه بينة أنه لم يعلم بالوثيقة ولم يجدها إلا في هذا الزمان عمل بها وإلا لم تقبل دعواه عدم وجودها إلا ببينة مرضية. سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا ادعى إنسان عقارا فقال المدعى عليه: ورثته من أبي ولم أعلم لك فيه حقا هل تقبل يمينه؟ وإذا ادعى إنسان شيئا أنه يملكه الآن وشهدت البينة أنه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات هل تسمع أو لا؟ فأجاب: لا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك، فإذا لم يكن للمدعي بينة فعلى المدعى عليه اليمين على حسب

جوابه، فإن قال المدعي: غصبتني، حلف أني ما غصبتك هذا، وإن قال المدعي: أودعتك هذا، حلف أنك ما أودعتني إياه ونحو ذلك، فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئا، أو أنك لا تستحق شيئا فيما ادعيته صار جوابا صحيحا ولا يكلف سواه، والحال الثاني: أن يدعي على من هو في يده بأن أباك غصبني هذا أو أنه وديعة عنده ونحو ذلك، فيمين المدعى عليه على نفي العلم، فيحلف في دعوى الغصب بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك، وفي دعوى الوديعة ما علمت أنك أودعته إياه ونحو ذلك. وفي [سنن أبي داود] : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: «ألك بينة؟ قال: لا ولكن أحلفه، والله يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه (¬1) » فتهيأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لا تمكنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلف اليمين على البت. وأما إذا ادعى أن هذه اليمين له الآن وشهدت البينة بأنها كانت له أمس، وأنها كانت في يده أمس لم تسمع بينته لعدم تطابق البينة والدعوى، قال في [الإنصاف] : في أصح الوجهين حتى يتبين سبب يد الثاني نحو غصبه بخلاف ما لو شهدت أنها ملكه اشتراه من رب اليد فإنها تقبل. اهـ. وأما إذا شهدت البينة أن هذه العين لهذا المدعي بهذه الصيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن، وأما إذا ادعى أن هذه العين كانت ملكا لأبيه أو أمه أو أخيه ومات وهي في ملكه فصارت لي بالميراث، فإن شهدت بأن هذه العين كانت ملكا لأبيه ومات وهي في ملكه سمعت البينة بذلك، وإن قالت البينة كانت ملكا لأبيه ونحوه، ولم تشهد بأنها خلفه تركة لم تسمع هذه البينة. وفي [الفروع] و [الإنصاف] ، عن الشيخ تقي الدين أنه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند الحاكم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الرهن (2516) ، صحيح مسلم الإيمان (138) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2996) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3244) ، سنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2322) ، مسند أحمد بن حنبل (5/213) .

أنه كان لجده إلى موته ثم لورثته ولم يثبت أنه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك؛ لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث، ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق (¬1) . ¬

_ (¬1) [الدرر السنية] (6\512) وما بعدها.

الخلاصة

مما تقدم يتبين ما يأتي: أولا: من الأسباب الشرعية لنقل الملكية البيع والهبة والوصية والميراث والشفعة والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك. انظر الإعداد، ص 2. ثانيا: دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق. انظر الإعداد ص 3. ثالثا: معنى الحيازة في اللغة الجمع والتجمع، وجميع فروع هذه المادة ترجع إلى هذا الأصل، وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا. والحيازة اصطلاحا: وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم. انظر الإعداد، ص 4. رابعا: محل البحث: هو الشيء الذي طالت مدته بيد إنسان وليس لديه ما يثبت ملكيته سوى طول المدة فأقام شخص آخر الدعوى عليه وادعى أنه ملكه وأحضر البينة على ذلك وليس لديه في السابق ما يمنعه من إقامة الدعوى. خامسا: ذكر أقوال الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم، وبيان المدد

وشروط ذلك مع الأدلة. المعتمد في هذا الباب في جميع تفاصيله من جهة اختلاف مقدار المدة على الاجتهاد السلطاني واجتهاد القضاة. أ- يرى الإمام مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه من أهل العلم: عدم تحديد المدة بمقدار معين يكون قاعدة يطبق عليها تصرف القضاة فلا يتجاوزونها ولا ينقصون عنها شيئا، وهذا مبني على أن لكل مسألة ظروفها وملابساتها، فيجتهد القاضي الذي ينظر في المسألة والاعتماد على اجتهاد القاضي له أصل في الشرع. ب- يرى الحنفية ومن يوافقهم من المالكية وغيرهم: تحديد المدة، ومن هنا يتشعب الخلاف في مقدار هذه المدة. 1 - التقادم الذي مدته ست وثلاثون سنة، وهذا عند الحنفية ومن يوافقهم، وهو في: أ- دعوى المتولي والمرازقة في الأصل والوقف وغلته. ب- دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقارات الموقوفة. ج- الدعاوى المتعلقة بأصل النقود الموقوفة. د- العقار الراجع من الطريق إذا كان موقوفا. هـ- العقار الذي يرجع من طريق العقارات المملوكة. ودعاوى رقبة الأراضي الأميرية التي يقيمها مأمور الأراضي. والقول بهذه المدة كما ذكر مبني على الاجتهاد. 2 - التقادم الذي مدته خمس عشرة سنة، وهذا يقول به الحنفية ومن يوافقهم، وهو مبني على الأمر السلطاني، فإذا أمر السلطان أن الدعوى

لا تنظر بعد مضي هذه المدة - وجب على القضاة الامتناع عن النظر فيها، فيكون القاضي معزولا عن سماعها، ويذكر ابن عابدين أن سبب النهي قطع الحيل والتزوير، مع العلم أن هذا يمنع النظر ولا يسقط الحق، ويحددون المسائل التي تدخل تحت هذه المدة في: أ- دعاوى الدين، الوديعة العارية، العقار الملك، الميراث، القصاص، دعوى التولية والغلة في العقارات الموقوفة والمقاطعة والمشروطة التصرف فيها بالإجارتين. ب- الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقار الملك. انظر الإعداد، 6، 11، 12، 34. 3 - التقادم الذي مدته عشر سنوات، وهذا عند من قال به من الحنفية ومن يوافقهم، ويحددون ما لا تقبل فيه الدعوى بعد هذه المدة في دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب التي هي الأرض الأميرية، وهذا أيضا يبنونه على الأمر السلطاني، فإذا أمر أنها لا تسمع الدعوى بعد هذه المدة وجب طاعته ولو أمر بسماعها بعد مضيها سمعت. 4 - مضى في الإعداد تحديد مدة التقادم عدد غير ذلك كما هو مبين في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا. 5 - هناك تفاصيل في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا ويمكن الرجوع إليها؛ لأن المقصود بالقصد الأول هو أصل الموضوع. 6 - الشروط التي يشترطها العلماء للقول بالتقادم والحكم بمقتضاه هي: أ - البلوغ. ب - العقل. جـ- العلم بملكيته وبوضع اليد عليه.

د- الحضور. هـ - أن لا يكون ممنوعا من إقامة الدعوى خوفا من ذي سلطان إذا كان الحائز هو السلطان أو الحائز شخصا له علاقة بالسلطان. 7 - المعتبر في مرور الزمان المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط، وأما مرور الزمن الواقع بعذر شرعي من صغر وجنون وعته أو غيبة المدعي والمدعى عليه من المتقلبة فهذه المدة غير معتبرة لكن إذا زال العذر بدأت المدة. 8 - لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم كالطريق العام والنهر والمرعى؛ لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين، ويوجد أيضا غائبون، وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم، فلذلك لا يجرى في المحال التي يعود نفعها للعموم. هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء رقم 68 بشأن التقادم في مسألة وضع اليد

قرار هيئة كبار العلماء رقم (68) وتاريخ 21\10\ 1399هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وبعد: ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399هـ إلى الحادي والعشرين منه نظر المجلس في موضوع [التقادم في مسألة وضع اليد] . واطلع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، بناء على ما تقرر في الدورة الثالثة عشرة ... واستعرض أقوال أهل العلم في مختلف المذاهب، وكان من أوضحها ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه [الطرق الحكمية] حين قال: فصل: الطريق الثالث: أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عينا في يده فأنكر، فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد؛ ولهذا شرعت اليمين في جهته، فإن اليمين تشرع في جنبة أقوى المتداعيين هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة، وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة وآخر خلفه حاسر الرأس ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس - فإننا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر ولا يلتفت إلى تلك اليد، ويجب العمل قطعا بهذه القرائن، فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظنا البتة فكيف تقدم على

ما هو مقطوع به أو كالمقطوع به؟ كذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبه في العادة ووراءه أمير ماش أو من ليس من عادته المشي فإننا نقطع أن يده مبطلة، وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها. كما إذا رؤي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه، وادعى أنها ملكه وفي يديه لم يلتفت إلى ملك اليد. وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها، فإذا قضينا باليد فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها، وإذا كانت اليد ترفع بالنكول وبالشاهد الواحد مع اليمين وباليمين المردودة فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى. فهذا مما لا يرتاب فيه أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه ووضعهم بين عباده، فالأيدي ثلاث: يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها. الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة فلا تسمع الدعوى عليها، كمن يشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب مع عدم سطوته وشوكته، فجاء من ادعى أنه غصبها منه واستولى عليها بغير حق وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه، ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة. هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة وهو الصواب. قالوا: إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء والإجارة

والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته من خوف سلطان أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريا عن ذلك أجمع ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينته، وتبقى الدار في يد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة. قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬1) وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره، وكذلك في هذا الموضوع وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر. قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة فقد حددها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم. وأصبغ بعشر سنين، وربما احتج لهم بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» وهذا لا يثبت. وأما مالك رحمه الله فلم يوقت في ذلك حدا ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام. الثالثة: يد محتمل أن تكون محقة وأن تكون مبطلة ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية 199

فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها، فالشارع لا يغير يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة. واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى، والله أعلم. فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها. وما ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- هو قول كثيرين من أهل العلم رحمهم الله. وحيث إن المجلس لا يعلم نصا شرعيا خاصا في تحديد مدة تملك الشيء المعين الذي بيد إنسان وليس لديه إثبات الملكية سوى طول المدة، وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية. ونظرا لأن هذه المسألة من المسائل التي تبنى على العرف، وعلى قاعدة سد الذرائع، وأن الحكم في كل صورة من صورها يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال - فإن المجلس يرى عدم تحديد مدة معينة تكون أساسا يبني عليها القضاة أحكامهم، بل يترك الحكم لاجتهادهم، فإذا عرضت صورة من الصور لواحد منهم اجتهد فيها على حسب اختلاف ظروفها وملابساتها، وبناها على القاعدة الشرعية التي يمكن أن تنطبق عليها.

هذا وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة . ... . ... عبد الله بن محمد بن حميد عبد الله خياط ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... سليمان بن عبيد عبد الرزاق عفيفي ... راشد بن خنين ... محمد بن علي الحركان عبد الله بن غديان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب ... صالح بن لحيدان محمد بن جبير ... . ... عبد الله بن قعود عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون عبد الله بن منيع ... . ... .

كتابه المصحف حسب قواعد الإملاء

(5) كتابه المصحف حسب قواعد الإملاء هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: ففي الدورة الاستثنائية الثالثة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض من غرة صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ اطلع المجلس على المعاملة المتعلقة بكتابة المصحف حسب قواعد الإملاء، وإن خالف ذلك الرسم العثماني، واقترح إعداد بحث في ذلك، وبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في هذا الموضوع، مشتملا على ما يأتي: أولا: تمهيد يشتمل على أمرين: أ- بيان نوع الكتابة التي كانت عند العرب وقت نزول القرآن. ب- ذكر أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث عند كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء. ثانيا: نقول عن العلماء الأولين يتبين منها رأيهم في ذلك مع ما استدلوا أو عللوا به. ثالثا: الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول بالمصحف عن الرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء، ومناقشة ذلك. رابعا: الموانع التي تمنع من ذلك، وبيان ما قد يترتب عليه من تحريف ونحوه. وفيما يلي تفصيل ذلك: والله الموفق.

أولا التمهيد

كتابة المصحف أولا: التمهيد ويشتمل عل أمرين: أ - بيان نوع الكتابة التي كانت معهودة عند العرب وقت نزول القرآن الكريم إن الكتابة في العرب كانت قليلة جدا، وقد تعلموها من أهل الأنبار، وكان الذي يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة إلى أن هذبها أبو علي بن مقلة، ثم قربها علي بن هلال البغدادي، وسلك الناس طريقته، ولم تكن محكمة جدا في ذلك الزمان، ولهذا وقع اختلاف في كتابة المصاحف من جهة الصناعة لا من جهة المعنى، وألف العلماء في ذلك واعتنوا به. قال ابن كثير: وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدا، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي وغيره: أن بشر بن عبد الملك أخا أكيدر دومة تعلم الخط من الأنبار، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، وتعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان، وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية، وتعلمه معاوية من عمه سفيان بن حرب، وقيل: إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيء من قرية هناك يقال لها: بقة، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود: ثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال: سألنا المهاجرين: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار.

قال ابن كثير (¬1) : والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المتكوفة، ثم هذبها أبو علي بن مقلة الوزير، وصار له في ذلك نهج وأسلوب في الكتابة، ثم قربها علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب، وسلك الناس وراءه، وطريقته في ذلك واضحة جيدة، والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك الزمان لم تحكم جيدا وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى، وصنف الناس في ذلك. واعتنى بذلك الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه [فضائل القرآن] ، والحافظ أبو بكر بن أبي داود رحمه الله، فبوبا على ذلك، وذكرا قطعة صالحة هي من صناعة القرآن ليست مقصدنا هاهنا؛ ولهذا نص الإمام مالك على أنه لا توضع المصاحف إلا على وضع كتابة الإمام، ورخص غيره في ذلك. واختلفوا في الشكل والنقط: فمن مرخص ومن مانع. وذكر ابن كثير (¬2) : أن عثمان رضي الله عنه عهد إلى زيد بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي، وسعيد بن العاص بن أمية القرشي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي: أن يكتبوا القرآن حينما اختلف الناس في القراءة بالحروف التي بها نزل القرآن، وتنازعوا فيما بينهم، فأمر هؤلاء أن يكتبوا القرآن على حرف واحد من الحروف التي بها نزل القرآن؛ منعا للاختلاف، فجلس هؤلاء الأربعة ¬

_ (¬1) ص (15) من كتاب [فضائل القرآن] المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره. (¬2) من كتاب [فضائل القرآن] المطبوع مع الجزء الرابع من تفسيره.

يكتبون القرآن نسخا وإذا اختلفوا في موضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان رضي الله عنهم كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء أم بالهاء، فقال زيد بن ثابت: إنما هو التابوه، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، فرجعوا إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم. اهـ. والذي يعنينا هنا أن الكتابة كانت معروفة عند العرب قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند نزول الوحي وإن كان ذلك قليلا، وأنها كانت تختلف من حيث الصناعة، وأنها كتب بها القرآن عند نزوله، وأن عثمان رضي الله عنه أمر الذين أسند إليهم جمع القرآن إذا اختلفوا في صناعة الكتابة أن يكتبوه بلغة قريش؛ لأن القرآن بها نزل، وقد علم الله ذلك من كتبة الوحي، ولم ينكر على رسوله ولا على كتبته، وعلم الصحابة صنيع عثمان ومن جمع القرآن بأمره، ولم ينكروا عليه ولا عليهم رضي الله عنهم أجمعين، فكانت كتابته على هذا النحو دون غيره سنة متبعة.

أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث من كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء

ب- أمثلة يتبين منها مدى التغيير الذي يحدث من كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء.

الرسم العثماني ... موضع التغيير ... الرسم الإملائي ... وضع التغيير ... السورة 1. ... الصلاة ... كتبت بالواو بعد اللام ... الصلاة ... كتبت بالألف بعد اللام ... في سور كثيرة 2. ... الزكاة ... كتب بالواو بعد الكاف ... الزكاة كتبت بالألف بعد الكاف ... ،،،، 3. ... الحياة ... كتب بالواو بعد الياء ... الحياة كتبت بالألف بعد الياء ... ،،،، 4. ... شفعاؤنا ... كتبت بلا ألف بعد العين ... شفعاؤنا ... كتبت بالألف بعد العين ... يونس 5. ... أم لهم شركاء ... كتبت بلا ألف بعد الكاف وبهمزة على واو بعدها ألف ... أم لهم شركاء ... كتبت بالألف بعد الكاف ثم همزة مفردة فقط ... الشورى 6. ... يبدؤا الخلق ... همزة على واو بعدها ألف ... يبدأ الخلق ... همزة على ألف ... يونس 7. ... ويدرؤا عنها ... همزة على واو بعدها ألف (بلا ألف بعد اللام) ... ويدرأ ... همزة على ألف ... النور 8. ... لهو البلاء ... وزيادة واو بعد الهمزة (وزيادة ألف بعد الواو) ... البلاء ... بألف بعد اللام وهمزة مفردة ... الصافات 9. ... نبوء الخصم ... بزيادة واو بعدها ألف ... نبأ ... بهمزة على الألف فقط ... ص 10. ... الربا ... بواو بعد الباء بعدها ألف ... الربا ... بألف بعد الباء فقط ... البقرة وغيرها 11. ... أرى ... بزيادة ألف قبل الذال ... لأذبحنه ... بلا زيادة ألف ... النمل 12. ... وتمت كلمة ربك ... بتاء مفتوحة ... كلمة ربك ... بتاء مربوطة ... الأنعام 13. ... إن رحمة الله ... بتاء مفتوحة ... رحمة الله ... بتاء مربوطة ... الأعراف 14. ... لعنت ... بتاء مفتوحة ... لعنة ... بتاء مربوطة ... النور 15. ... ورحمت ربك ... بتاء مفتوحة ... ورحمة ربك ... بتاء مربوطة ... الزخرف 16. ... الكتاب ... بلا ألف بعد التاء ... الكتاب ... بألف بعد التاء ... في سور كثيرة 17. ... الإنسان ... بلا ألف بعد السين ... الإنسان ... بألف بعد السين ... في سور كثيرة 18. ... لا يهدي من هو ... بلا ألف بعد الكاف ... كاذب ... بألف بعد الكاف ... الزمر 19. ... الجاهلين ... بلا ألف بعد الجيم ... الجاهلين ... بألف بعد الجيم ... الأنعام وغيرها 20. ... أتاهم ... بلا ألف بعد التاء ... أتاهم ... بألف بعد التاء ... غافر 21. ... السبيلا ... بألف بعد اللام ... السبيل ... بلا ألف بعد اللام ... الأحزاب 22. ... سلاسلا ... بألف بعد اللام الثانية وبدونها بعد الأولى ... سلاسل ... بلا ألف بعد اللام الثانية وبألف بعد الأولى ... الدهر 23. ... قواريرا ... بألف بعد الراء الثانية ... قوارير ... بلا ألف بعد الراء ... الدهر 24. ... الشيطان ... بلا ألف بعد الطاء ... الشيطان ... بألف بعد الطاء ... في سور كثيرة 25. ... وأغلالا ... بلا ألف بعد اللام الأولى ... أغلالا ... بألف بعد اللام الأولى ... الدهر 26. ... من نبأ المرسلين ... بياء بعد الهمزة ... من نبأ المرسلين ... بلا ياء بعد الهمزة ... الأنعام 27. ... بأييد ... ياءين قبل الدال ... بأيد ... ... بياء فقط قبل الدال ... الذاريات وسيأتي كثير من الأمثلة في النقل عن [المقنع] لأبي عمرو الداني، والنقل عن كتاب [الإتقان] للسيوطي إن شاء الله.

ثانيا نقول عن العلماء يتبين منها رأيهم في كتابة المصحف بغير الرسم العثماني

ثانيا: نقول عن العلماء يتبين منها رأيهم في كتابة المصحف بغير الرسم العثماني: إن الحديث عن كتابة المصحف بغير الرسم العثماني قديم، فقد بحثه أئمة السلف قبل أكثر من ألف سنة، وألف فيه علماء القراءة والرسم كتبا وحكموا فيه بما ظهر لهم من الكراهة أو التحريم، وقد جمع الجلال السيوطي نقولا عنهم في الموضوع يتبين منها ما حكموا به في ذلك، فرأينا إثباتها فيما يلي: قال الجلال السيوطي: (فصل) القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء به والوقوف عليه، وقد مهد له النحاة أصولا وقواعد، وقد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام، وقال أشهب: سئل مالك هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا إلا على الكتبة الأولى. رواه الداني في [المقنع] ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة. وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولوا. وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك. وقال البيهقي في [شعب الإيمان] : من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما

كتبوا شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم. قلت: وينحصر أمر الرسم في ست قواعد: الحذف والزيادة والهمز والبدل والوصل والفصل وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما. القاعدة الأولى: في الحذف: تحذف: الألف من ياء النداء نحو: يا أيها الناس، وهاء التنبيه نحو: هؤلاء، وهاأنتم ومن ذلك: أولئك، ولكن، وتبارك وفروع الأربعة، والله وإله، كيف وقع، والرحمن وسبحان، كيف وقع إلا قل سبحان ربي. وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو: باغ ولا عاد والمضاف لها إذا نودي إلا يا عبادي الذين أسرفوا يا عبادي الذين آمنوا، في العنكبوت أو لم يناد. إلا قل لعبادي أسر بعبادي في (طه) و (حم) ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي، ومع مثلها نحو إن ولي، والحواريين. وتحذف الواو مع أخرى نحو: لا يستون، وإذا المؤدة، يؤسا وتحذف اللام مدغمة في مثلها نحو: الليل، والذي، إلا الله، واللهم، واللعنة، وفروعه، واللهو، واللغو، واللؤلؤ، واللات، واللهم، واللعب، واللطيف، واللوامة،.. وساق كثيرا من الأمثلة للحذف. القاعدة الثانية: في الزيادة زيدت ألف بعد الواو آخر اسم مجموع نحو: بنو إسرائيل، ملاقو ربهم، أولو الألباب بخلاف المفرد لذو علم إلا الربا، وإن امرؤ هلك.... وساق أمثلة كثيرة في الهمزة. القاعدة الثالثة: في (الهمزة) يكتب الساكن بحرف حركة ما قبله أولا

ووسطا وآخرا نحو: إئذن واؤتمن والبأساء واقرأ وجئناك ووهئ والمؤتون وتسؤهم وإلا وفادارأتم ورئيا والرياء وشطئه، فحذف فيها، وكذا أول الأمر بعد فاء، نحو: فأتوا، أو واو نحو: واشربوا، والمتحرك إن كان أولا أو اتصل به حرف زائد بألف مطلقا، أي: سواء كان فتحا أو ضما أو كسرا، نحو: أيوب، إذا، أولو، سأصرف، فبأي، سأنزل، إلا مواضع أئنكم لتكفرون، أئنا لمخرجون في (النمل) أئنا لتاركو آلهتنا، أئن لنا في (الشعراء) أئذا متنا وأئن ذكرتم أئنا وأئمة ولئلا ولئن ويومئذ ويفرح، فيكتب فيها بالياء قل أؤنبئكم ووهؤلاء فكتب بالواو، وإن كان وسطا فبحرف حركته، نحو: سأل وسئل ونقرؤه، إلا جزاؤه الثلاثة. (يوسف) . . . . وساق أمثلة كثيرة للهمزة. القاعدة الرابعة: في البدل تكتب (بالواو) للتفخيم: ألف الصلاة، والزكاة والحياة والربا غير مضافات والغاء ومشكاة والنجاة، ومناة، (وبالياء) كل ألف منقبلة عنها، نحو: يتوفاكم في اسم أو فعل اتصل به ضمير أم لا بقي ساكنا أم لا، ومنه يا حسرتا، يا أسفا، إلا وتترى وكلتا وهداني وعصاني والأقصى ووأقصى المدينة وطغا الماء وسيماهم وإلا ما قبلها ياء، والحوايا إلا يحيى اسما وفعلا، ويكتب بها إلى وعلى وأنى بمعنى: كيف، ومتى، وبلى، وحتى، ولدى، إلا لدى الباب وكتب بالألف الثلاثي الواوي اسما أو فعلا، نحو: الصفا

وشفا وعفا والأضحى، كيف وقع وما زكى منكم ودحاها وتلاها وطحاها وسجا، ... ) وساق أمثلة كثيرة للبدل. القاعدة الخامسة: في الوصل والفصل توصل (ألا) بالفتح إلا عشرة: أن لا أقول أن لا يقولوا في (الأعراف) أن لا ملجأ، وفي (هود) : أن لا إله أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف أن لا تشرك في (الحج) : أن لا تعبدوا، في (يس) : أن لا تعلوا، في (الدخان) : أن لا يشركن في (الممتحنة) أن لا يدخلنها، في (ن) (ومما) إلا من ما ملكت في (النساء) و (الروم) ومن ما رزقناكم، في (المنافقين) (وممن) مطلقا، و (عما) إلا عن ما نهوا عنه، و (إما) بالكسر إلا: وإما نرينك في (الرعد) . وأما بالفتح مطلقا، و (عمن) إلا ويصرفه عن من يشاء في (النور) : عن من تولى في (النجم) : وأمن إلا أم من يكون في (النساء) أم من أسس أمن من خلقنا في (الصافات) أم من يأتي آمنا ووإلم بالكسرة إلا فإن لم يستجيبوا لك في (القصص) ، و (فيما) إلا أحد عشر: في ما فعلن الثاني في (البقرة) ليبلوكم في ما، في (المائدة) و (الأنعام) قل لا أجد في ما أوحى وفي ما اشتهت، في (الأنبياء) في ما أفضتم وفي ما هاهنا في (الشعراء) في ما رزقناكم في (الروم) في ما هم فيه وفي ما كانوا فيه كلاهما في (الزمر) وننشئكم في ما لا تعلمون، و (إنما) إلا: إن ما توعدون لآت في (الأنعام) ، (وأنما) بالفتح إلا: وأن ما يوعدون في (الحج) ، و (لقمان) و (كلما) إلا: كل ما ردوا إلى الفتنة

ومن كل ما سألتموه وئسما إلا مع اللام، ونعما، ومهما، وربما، وكأنما، ويكأن، وتقطع (حيثما) و (أن لم) بالفتح و (أن لن) إلا في (الكهف) و (القيامة) و (أين مالا) ، إلا: فأينما تولوا أينما يوجهه واختلف في أينما تكونوا يدرككم أينما كنتم تعبدون في (الشعراء) أينما ثقفوا في (الأحزاب) ولكي لا إلا في (آل عمران) و (الحج) و (الحديد) ، والثاني في (الأحزاب) و (يوم هم) ، ونحو: فمال وولات حين وابن أم، إلا في (طه) فكتبت الهمزة حينئذ واوا، وحذفت همزة ابن، فصارت هكذا يا ابن أم ... وساق أمثلة كثيرة للوصل والفصل. القاعدة السادسة: فيما فيه قراءتان فكتبت على إحداهما: ومرادنا غير الشاذ، من ذلك: مالك يوم الدين ويخادعون واعدنا والصاعقة والرياح وتفادوهم وتظاهرون ولا تقاتلوهم ونحوها. ولولا دفاع وفرهان وطائرا في (آل عمران) و (المائدة) : مضاعفة، ونحوه عاقدت أيمانكم والأوليان، لامستم، ... (فائدة) كتبت فواتح السور على صورة الحروف أنفسها لا على صورة النطق بها اكتفاء بشهرتها وقطعت حم عسق دون المص وكهيعص طردا للأولى بأخواتها الستة) ... إلى أن قال: وأخرج ابن أشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله إذا كتب أحدكم (بسم الله الرحمن الرحيم) فليمد الرحمن (وأخرج) عن زيد بن ثابت: أنه كان يكره أن تكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ليس لها سين (وأخرج) عن يزيد بن أبي

حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب بسم الله ولم يكتب لها سينا فضربه عمر فقيل له: فيم ضربك أمير المؤمنين؟ قال: ضربني في سين (وأخرج) عن ابن سيرين أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين (وأخرج) ابن أبي داود في المصاحف عن ابن سيرين: أنه كره أن يكتب المصحف مشقا قيل: لم؟ قال: لأن فيه نقصا) ... إلى أن قال: (وأخرج أبو عبيدة عن عمر بن عبد العزيز قال: لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ. وهل تجوز كتابته بقلم غير العربي؟ قال الزركشي: لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء. قال: ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرأ بالعربية، والأقرب المنع كما تحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي، وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬1) اهـ (¬2) . (فائدة) : أخرج ابن أبي داود عن إبراهيم التيمي قال: قال عبد الله: لا يكتب المصاحف إلا مضري. قال ابن أبي داود: هذا من أجل اللغات. (مسألة) اختلف في نقط المصحف وشكله: ويقال: أول من فعل ذلك أبو الأسود الدؤلي بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصري ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثي، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام الخليل، وقال قتادة: بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا. وقال غيره: أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآي ثم الفواتح ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 195 (¬2) [مجموع الفتاوى] (12\ 420) .

والخواتم. وقال يحيى بن أبي كثير: ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث في المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآي. أخرجه ابن أبي داود، وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، وأخرج عن النخعي أنه كره نقط المصاحف، وعن ابن سيرين أنه كره النقط والفواتح والخواتم.

وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير. (وأخرج) ابن أبي داود عن النخعي أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف، وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا. (وأخرج) عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية فقال: امح هذا، فإن ابن مسعود كان يكرهه. (وأخرج) عن أبي العالية أنه كان يكره الجمل في المصحف وفاتحة سورة كذا وخاتمة سورة كذا. وقال مالك: لا بأس بالنقط في المصاحف التي تتعلم فيها العلماء، أما الأمهات فلا. وقال الحليمي: تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه؛ لقوله: جردوا القرآن. وأما النقط فيجوز؛ لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء، فلا يظهر إثباتها لمن يحتاج إليها. قال البيهقي: من آداب القرآن: أن يفخم فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا يقرمط حروفه ولا يخط به ما ليس منه، كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعاني الآيات. وقد أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف. (وأخرج) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: لا بأس بشكله. وقال النووي: نقط المصحف وشكله مستحب؛ لأنه صيانة له من

اللحن والتحريف. وقال ابن مجاهد: ينبغي أن لا يشكل إلا ما يشكل، وقال: إلا أني لا أستجيز النقط بالسواد؛ لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا أستجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة؛ لأنه من أعظم التخليط والتغيير المرسوم. وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة والهمزات بالصفرة. وقال الجرجاني من أصحابنا في الشافي: (من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره) . (فائدة) كان الشكل في الصدر الأول نقطا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الداني. والذي اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف والكسر كذلك تحته، والضم واو صغرى فوقه والتنوين زيادة مثلها، فإن كان مظهرا وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها وإلا جعلت بينهما، وتكتب الألف المحذوفة والبدل منها في محلها حمراء، والهمزة المحذوفة تكتب همزة بلا حرف حمراء أيضا، وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق سكون وتعرى عند الإدغام والإخفاء ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم، ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء فيكتب عليها السكون نحو: فرطت، ومطة الممدود لا تجاوزه. (فائدة) قال الحربي في [غريب الحديث] : قول ابن مسعود: (جردوا القرآن) . يحتمل وجهين: أحدهما: جردوه في التلاوة ولا تخلطوا به غيره.

والثاني: جردوه في الخط من النقط والتعشير. وقال البيهقي: الأبين أن أراد لا تخلطوا به غيره من الكتب؛ لأن ما خلا القرآن من كتب الله إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى وليسوا بمأمونين عليها) اهـ. من [الإتقان] . وسئل أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عمن يقول عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: من كتب مصحفا على غير رسم المصحف العثماني فقد أثم، أو قال: كفر فهل هذا صحيح؟ وأكثر المصاحف اليوم على غير المصحف العثماني، فهل يحل لأحد كتابته على غير المصحف العثماني بشرط ألا يبدل لفظا ولا يغير معنى أو لا؟ (¬1) فأجاب: أما هذا النقل عن مالك في تكفير من فعل ذلك فهو كذب على مالك، سواء أريد منه رسم الخط أم رسم اللفظ، فإن مالكا كان يقول عن أهل الشورى: إن لكل منهم مصحفا يخالف رسم مصحف عثمان، وهم أجل من أن يقال فيهم مثل هذا الكلام، وهم علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعثمان رضي الله عنهم، وأيضا فلو قرأ رجل بحرف من حروفهم التي تخرج عن مصحف عثمان ففيه روايتان عن مالك وأحمد، وأكثر العلماء يحتجون بما ثبت من ذلك عنهم، فكيف يكفر فاعل ذلك. وأما اتباع رسم الخط بحيث يكتبه بالكوفي فلا يجب عند أحد من المسلمين، وكذلك اتباعه فيما كتبه بالواو والألف هو حسن لفظ رسم خط الصحابة (¬2) . ¬

_ (¬1) [مجموع الفتاوى] (13\ 42) . (¬2) هكذا بالأصل المطبوع.

وأما تكفير من كتب ألفاظ المصحف بالخط الذي اعتاده فلا أعلم أحدا قال بتكفير من فعل ذلك، لكن متابعة خطهم أحسن هكذا نقل عن مالك وغيره.. والله أعلم. وسئل أبو العباس ابن تيمية أيضا رحمه الله عمن يقول: إن الشكل والنقط من كلام الله تعالى هل ذلك حق أو باطل؟ إلخ (¬1) . فأجاب: الحمد لله رب العالمين، المصاحف التي كتبها الصحابة لم يشكلوا حروفها ولم ينقطوها فإنهم كانوا عربا لا يلحنون، ثم بعد ذلك في آخر عصر الصحابة لما نشأ اللحن صاروا ينقطون المصاحف ويشكلونها، وذلك جائز عند أكثر العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وكرهه بعضهم، والصحيح أنه لا يكره؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك ولا نزاع بين العلماء أن حكم الشكل والنقط حكم الحروف المكتوبة، فإن النقط تميز بين الحروف كما أن الشكل يبين الإعراب؛ لأنه كلام من تمام الكلام، ويروى عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإذا قرأ القارئ: الحمد لله رب العالمين كانت الضمة والفتحة والكسرة من تمام لفظ القرآن. اهـ المقصود. يتبين مما ذكر ما يأتي: 1 - ضابط ما يحذف مما يزاد في رسم المصحف العثماني من الحروف، وما يستثنى من ذلك وما يبدل من غيره، وما يرسم ألفا من ذلك، وما يرسم ياء، ومنع التغيير فيما ثبت من الرسم العثماني. ¬

_ (¬1) ص (100- 102، 576) وغيرها.

2 - نقط المصحف وشكله وكيفيته، وكراهة العلماء ذلك مطلقا أو جوازه في غير الأمهات، ثم ثبوت الإجماع على جوازه واستمرار العمل عليه إلى عصرنا. 3 - تخميس القرآن وتعشيره وكتابة أسماء السور وعدد الآيات، ورسم علامة بين كل آية وما بعدها وعلامات الوقف، وخلاف العلماء في كراهة ذلك وجوازه، ثم ثبوت الإجماع على جوازه بعد استمرار العمل به إلى عصرنا. 4 - تحريم كتابته بغير اللغة العربية، كما يحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي (¬1) ، وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬2) وكتب رئيس اللجنة المتشكلة لتفتيش رسم المصاحف المطبوعة ببلدة قزان ملا صادق الايمانقولي القزاني إلى الشيخ محمد رشيد رضا ما يأتي: (بسم الله الرحمن الرحيم. حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا حفظه الله ومتعنا وسائر المسلمين بعلومه الشريفة. أما بعد: فإن من المسائل التي تدور بيننا الآن مسألة رسم المصاحف المطبوعة في بلدة قزان حيث إن العلماء صرحوا بأن رسم المصاحف يجب فيه الاتباع لرسم المصاحف التي كتبت بأمر سيدنا عثمان رضي الله عنه، ¬

_ (¬1) من كلام الزركشي في ص 7 من الأعداد. (¬2) سورة الشعراء الآية 195

وفي رسم المصاحف القزانية مخالفة كثيرة لرسم تلك المصاحف. فتشكلت بقزان لجنة من العلماء والقراء لتفتيش رسم هذه المصاحف ونصوص العلماء فيه، وتكلموا في وجوب الاتباع وعدمه فذهب كثير منهم إلى أنه ينبغي اتباع رسم المصاحف العثمانية وأن الرسم سنة متبعة، على ما نص عليه أبو عمرو الداني والشاطبي وابن الجزري والسيوطي والزمخشري وغيرهم. وبعضهم قالوا: إنه لا يجب اتباع الرسم محتجين بقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث قال: (أما الآن فلا يجوز كتابة المصاحف على المرسوم الأول خشية الالتباس، ولئلا يوقع في تغيير من الجهال) . ويجيب الفريق الأول عن هذا بأن المواضع التي يتوهم فيها الالتباس يمكن التخلص منها بالنقط والأشكال. ثم فتشوا المصاحف المطبوعة في الديار الإسلامية من الأستانة ومصر والهند وغيرها، فوجدوا فيها أيضا مخالفة كثيرة لرسم المصاحف العثمانية فما ندري ما سبب عدم اعتنائهم في هذا الباب؟ أأهملوا في رسم كتابنا المقدس، أم لا يقولون بلزوم الاتباع؟ وإذا كان الاتباع واجبا كما يقول به أكثر الأئمة فما ينبغي أن نصنع لنقرأ برواية حفص المعروفة في بلادنا في مثل كلمة آتان في (سورة النمل) آية (36) ، فإنه كتب في مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه كلها بغير (ياء) بعد (النون) في مثل هذه المواضع تخلصا من الالتباس والتلفيق في القراءة. وهل يجوز مخالفة الرسم لأجل الضرورة في مثل تلك الضرورة؟

وما نصنع في الكلمات التي حذفت فيها الألفات في بعض المصاحف المطبوعة والمكتوبة القديمة مثل كلمة الأعلام والأحلام والأقلام والأزلام والأولاد، وتلك الكلمات كتبت في بعض المصاحف (الأعلم والأحلم والأقلم) بحذف (الألف) بعد (اللام) والحال أن قاعدة الخط العربي تقتضي إثبات الألف في مثلها: وليس فيها نص صريح من علماء الرسم في حق الحذف أو الإثبات هل ينبغي فيها اتباع قاعدة رسم الخط العربي وإثبات الألفات أم نقول: كانوا يعتبرون الظهور وعدم الالتباس ولهذا كانوا يحذفون الألفات فيما ظهر المراد (منه) مثل الكلمات المذكورة فنحذف الألفات فيهن. ورسم المصاحف المطبوعة هنا ليس على نسق واحد، وفي بعضها يحذف الألفات. وأن المصحف الذي يحفظ في بلدة بترسبورغ عاصمة الروسية في المكتبة الإمبراطورية ويظن كونه واحدا من مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه قد حذف فيه الألفات في مثل هذه المواضع. والعلامة شهاب الدين المرجاني القزاني الذي أفنى عمره في خدمة العلم وصنف كتابا مفيدا في رسم المصحف، وكان مأمورا بتصحيح المصاحف المطبوعة من جهة الحكومة قد حذف الألفات قصدا في مثل هذه الكلمات، ولزيادة الاطمئنان ولكون المسألة عامة مهمة ومتعلقة بعموم أهل الإسلام اتفقنا على المراجعة إلى جنابكم المحترم بالاستفسار في تلك المسألة رجاء أن تتفضلوا بإبداء ملاحظاتكم العالية في صفحات المنار. والسلام والإكرام. فأجاب: إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله منذ الصدر الأول، فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله (صلى الله عليه وسلم) حفظوه وكتبوه

وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين، وتسلسل ذلك جيلا بعد جيل. وقد أحسن التابعون وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما استحدث الناس من فن الرسم، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية، إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها. فالاتباع في رسم المصحف يفيد مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو يبعد الشبهات أن تحوم حوله، وفيه فائدة أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو. نعم، إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب خاصة بمن يتلقاه عن القراء؛ ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة. ثم إنه يجعل تعليم الصغار عسرا؛ ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم المعتاد كما نقل. قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي: قال أشهب - رحمه الله -: سئل مالك رضي الله عنه أرأيت من استكتبته مصحفا أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى. قال مالك: ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن، فأقول له: أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان والألواح فلا أرى بأسا. ثم قال أشهب: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها

الآخر، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم. وقال أبو عمرو الداني في كتابه المسمى [الحكم في النقط] عقيب قول مالك هذا: ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمة، اهـ. فالذي أراه هو أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان حفظا لهذا الأثر التاريخي العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو، لكن مع النقط والشكل للضبط. ولو كان لمثل الأمة الإنكليزية هذا الأثر؛ لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر، ولا أسطول الألمان الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم. وأما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب، فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من كل وجه تسهيلا للتعليم، ومتى كبر الصغير وكان متعلما للقرآن بالرسم المشهور لا يغلط إذا هو قرأ في المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط والشكل. وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي ليقرأه كل أحد على وجه الصواب. وبهذا تجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا، وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين. أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء؛ لأن الاتباع إذا لم يكن واجبا من الأصل، فإن فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال، وبين ما قبله وما بعده، بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون عليه من الرسم، وإذا كان واجبا في الأصل وهو ما لا ينكره فترك الناس له لا يجعله حراما أو غير جائز، لما ذكره من الالتباس، بل يزال هذا الالتباس في أنه لا يسلم له.

وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الأستانة وقزان ومصر وغيرها من البلاد غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات، فسببه التهاون والجهل والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة، فرسم فيها بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها إذا هم كتبوها كما كتبها الصحابة كلفظ (الكتاب) بالألف بعد التاء، وهو في المصحف الإمام بغير ألف، ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف. ولم أر مصحفا كتب أو طبع كله بالرسم المعتاد. ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم الصحابة المتبع، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطا وموافقة للمصحف الإمام المتبع - هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد أبي زيد بمصر سنة 1308 هـ، إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان بن محمد المخللاتي أحد علماء هذا الشأن وصاحب المصنفات فيه. وقد وضع له مقدمة بين فيها ما يحتاج إليه في ذلك. فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القرآنية: أن تراجع هذا المصحف، فإنها تجد فيه حل عقد المشكلات كلها إن شاء الله تعالى، ككلمة الأقلام وأمثالها، وهي بغير ألف، وكلمة (أتاني) التي رسمت في المصحف الإمام (اتن) فيرون أن هذا المصحف وضع فوق (النون) (ياء) صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل؛ لتوافق قراءة حفص، فهي فيه هكذا (اتن) .

وجملة القول: أننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه، هو: أن تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي؛ لتسهيل التعليم، هو ما جرت عليه الجمعية الخيرية

الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي وتوزعها على التلاميذ في مدارسها. وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم المصحف الإمام كالمصحف الذي ذكرناه آنفا. وإذا جرى المسلمون على هذا في الأستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية، فلا يمضي جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي وبعضها برسم الصحابة. ولا ضرر من وجودها الآن إذ هي مضبوطة بالشكل كغيرها، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف، ولله الحمد. وسئل أيضا (¬1) : هل هناك مانع شرعا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية: 1 - أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف وفروعه وجميع معاهد العلم بالديار المصرية وبغيرها من البلاد العربية وغير العربية. 2 - أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات، بدلا من وضعها فوق الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته وكثير ما هم. 3 - أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد، بمعرفة لجنة من كبار العلماء، وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من عامة الناس وخاصتهم. ومنعهم من الخطأ في التلاوة ¬

_ (¬1) (6\2514) .

بسبب تعقيد الكتابة طبقا لقواعد مضى عليها كثير من القرون، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال. ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم. وذلك تنفيذا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬1) هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة. ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة ولكم الشكر من المخلص. فأجاب بقوله: من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف الشريف (أي: رسمه) سماعي توقيفي، يجب فيه اتباع الكتبة الأولى (بالكسر، أي: هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم ونشروها بالمصاحف الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ؛ ولهذا الاتباع فوائد ودلائل مبسوطة في محلها: أولها: أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته ولهجاته ورسم خطه، وأنه بهذا كله حفظ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان. حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم ودون عددها في الكتب، ومن فروع ذلك أن لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابا تتعلق بقراءاته ويدخل في هذا ترك نقطه، وشرح ذلك كله يطول. وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية ¬

_ (¬1) سورة القمر الآية 17

والحفظ من الألواح التي يكتبونها ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها، ليكتبوا غيره فيها، ثم رأوا أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ فاستحدثوا النقط، لمنع ذلك، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط، ثم وضعوا علامات وقف للحاجة إليها وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطا بالفهم، وما كل قارئ يفهم، وجعلوا لهذه العلامات أشكالا بحسب درجاتها، ثم وضعوا لضبط التلاوة وتجويدها فنا وللوقف والابتداء فنا أفردوا كلا منهما بالتدوين، وجروا عليهما في التلقين وفي كتابة المصاحف، فالغرض من كل هذه المستحدثات ضبط تلاوة القرآن واتقاء الخطأ فيها. ولكن لا يزال فيه كلام كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة حروف ونقص أخرى، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين، فكثر الخطأ في القراءة وفي الوقف والابتداء، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة للترقيم فاستغني بها عن علامات الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم فهم الجمهور لها ولاستغناء الحفاظ عنها، ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون بالقرآن أنها منه ككلمتي صلي وقلي فإنني أستنكر وضعهما في المصاحف أشد الاستنكار. ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بـ[تفسير المنار] ظهر علي التزام رسم الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع علامات الترقيم العصرية، ثم رسم الآيات في أثناء

تفسيرها بالرسم العرفي الذي يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها، وأخالف الطريقة المتبعة في وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما كانت ألفا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في بنائه للمعلوم والمجهول. فعلم بهذا أنني لا أرى مانعا شرعيا يمنع مما سأل عنه السائل، بل أرى أنه واجب، ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن، فإن الخط والطبع صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداء صحيحا. وتصحيح أداء القرآن واجب شرعا، وتحريفه بالنطق محرم شرعا. وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم على كتابة القرآن بالرسم العرفي، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخلفاء الراشدين، لكثرة المصاحف فيه، بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها الجمهور منذ قرون ولم أقف على تاريخها، وهذا ليس بحجة وإنما الحجة وجوب صيانة القرآن من الخطأ في قراءته، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر الجمع بينهما ولا تعذر. وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة مناسب لحاجة العصر فهو واجب لا معارض له، وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي المصحف، وهو تفسير دقيق وجيز وضع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر التفاسير، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخل قلما يستفيد منه الدهماء، وقد تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات

الفنية والعلمية في [تفسير المنار] ولكنه مطول، وقد كثر اقتراح الناس على أن أختصره أو أكتب تفسيرا مختصرا، فشرعت وعلى الله توكلت.

ثالثا الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول عن كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء

ثالثا: الضرورة أو الحاجة التي دعت إلى العدول عن كتابة المصحف بالرسم العثماني إلى كتابته حسب قواعد الإملاء: أ- إن القرآن هو الأصل الذي يرجع إليه المسلمون في معرفة عقائدهم وعباداتهم وقد حث الله على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه، وتحكيمه في جميع الشئون والأحوال، وبينت السنة النبوية فضائله، وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل بما فيه من أحكام، وقد كان السلف رحمهم الله يعرفون الرسم العثماني، فيسهل عليهم قراءة القرآن بذلك الرسم، وقاموا بما وجب عليهم من تدبره وأخذ الأحكام منه وتحكيمه فيما شجر بينهم - خير قيام. ولما طال الأمد، ووضعت قواعد جديدة للإملاء وسار عليها الكتاب، وألفها القراء بكثرة استعمالها كتابة وقراءة، شق عليهم أن يقرءوا القرآن بالرسم الذي كتبت به المصاحف العثمانية، فتيسيرا عليهم، ودفعا للحرج عنهم يجوز أن يكتب القرآن بالمصاحف وغيرها حسب قواعد الإملاء؛ لتمكن الجمهور من تلاوته بسهولة تلاوة صحيحة، ويتعبدوا بقراءته دون تحريف، ويتحفظوه على طريق مستقيم، فإن الشريعة سمحة سهلة، جاءت بالتيسير ورفع الحرج، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2) ومن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 185 (¬2) سورة الحج الآية 78

القواعد الثابتة في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير. ب- في عهد بني أمية كثر دخول الأعاجم في الإسلام، واختلط بهم مسلمو العرب، وكثر اللحن، وخيف على كثير من المسلمين أن يلحنوا في قراءة القرآن، فأمر الخليفة عبد الملك بن مروان بنقط المصحف وشكله؛ صيانة له من اللحن والتحريف في القراءة، وتصدى لذلك الحجاج بن يوسف الثقفي، فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر فقاما بنقطه وشكله، ولم يكن ذلك بدعا من القول ولا ابتداعا في الدين؛ لبنائه على مقاصد الشريعة في حفظ القرآن وتيسير تعلمه وتعليمه وإبلاغه للناس، هداية لهم وإقامة للحجة عليهم، ثم ثبت إجماع الأمة على نقط المصحف وشكله، واستمر العمل على ذلك إلى عصرنا فلم يعرف من أنكر ذلك مع طول العهد. وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على أن جمع أبي بكر الصديق القرآن أولا وجمع عثمان بن عفان له ثانيا من محامدهما رضي الله عنهما. ولا شك أن كتابة المصحف حسب القواعد الإملائية من جنس جمع القرآن أولا وثانيا ومن جنس نقطه وشكله، من جهة البناء على مقاصد الشريعة والاعتماد على المصالح العامة، إذ كل منها يرجع في حكمه إلى المصالح العامة التي شهدت لها أدلة الشريعة جملة وإن لم يدل عليها بخصوصها دليل معين. فكانت كتابته حسب القواعد الإملائية مشروعة. إن القرآن لم ينزل مكتوبا، وإنما نزل وحيا متلوا، فأملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا، فكتبوه بالرسم المعهود عندهم، وكانوا ضعافا في صناعة

الكتابة، ولذا حصل بعض الاختلاف في رسم كتابتهم، بل في رسم بعض الكلمات في مصاحف الأمصار المنتسخة من المصحف العثماني، فيجوز أن يكتب أيضا بالرسم الإملائي. وقد ذكر ذلك الاختلاف الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه [المقنع] ، وبين سبب هذا الاختلاف فقال:

باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الأمصار بالإثبات والحذف أخبرني الخاقاني قال: حدثنا الأصبهاني قال: حدثنا الكسائي عن ابن الصباح قال: قال محمد بن عيسى عن نصير: وهذا ما اختلف فيه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل المدينة وأهل مدينة السلام وأهل الشام في كتابة المصاحف. كتبوا في سورة (البقرة) إلى آخرها في بعض المصاحف (إبرهم) بغير ياء، وفي بعضها بالياء، قال أبو عمرو: وبغير ياء وجدت أنا ذلك في مصاحف أهل العراق في البقرة خاصة، وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام، وقال معلى بن عيسى الوراق عن عاصم الجحدري (إبرهم) في (البقرة) بغير ياء، كذلك وجد في الإمام وحدثنا الخاقاني شيخنا قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو عبيد قال: تتبعت رسمه في المصاحف فوجدته كتب في البقرة خاصة (إبرهم) بغير ياء، قال نصير: وفي بعضها (فيضاعفه) (245) بالألف، وفي بعضها بغير ألف، وفي بعضها (قل بئس ما يأمركم به) (92) مقطوع، وفي بعضها (بئسما) موصولة، وفي بعضها (ملئكة) وكتابه (285) بالألف، وفي

بعضها (وكتبه) بغير ألف. وفي (آل عمران) في بعض المصاحف (ويقاتلون الذين) (21) بالألف، وفي بعضها (ويقتلون) بغير ألف، وفي (المائدة) في بعض المصاحف (نحن أبنؤا الله) (18) بالواو والألف، وفي بعضها (أبناء الله) بغير واو، وفي بعضها (نخشا أن تصيبنا دائرة) (52) بالألف، وفي بعضها بالياء، وفي بعضها (فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا ساحر مبين) (110) بالألف، وفي بعضها (سحر) بغير ألف، وفي بعضها أو كفارة طعام مساكين (95) بالألف، وفي بعضها (مسكين) بغير ألف. وفي (الأنعام) في بعض المصاحف فالق الحب (95) بالألف، وفي بعضها (فلق) بغير ألف، وفي بعض المصاحف وجعل الليل سكنا (96) بغير ألف، وفي بعضها (وجاعل) بالألف، وفي بعضها لئن أنجيتنا (63) بالياء والتاء والنون، وفي بعضها (أنجينا) بالياء والنون. وفي (الأعراف) في بعض المصاحف (كل ما دخلت أمة) (38) مقطوعة، وفي بعضها (كلما) موصولة، وفي بعضها يأتوك بكل سحار عليم (112) الألف بعد الحاء، وفي بعضها (ساحر) الألف قبل الحاء، وفي بعضها (إذا مسهم طيف) (201) بغير ألف، وفي بعضها (طائف) بألف، وفي بعضها وريشا ولباس التقوى (26) بغير ألف، وفي بعضها (ورياشا) بالألف، قال أبو عمرو: ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة العامة إلا ما رويناه عن المفضل بن محمد الضبي عن عاصم، وبذلك قرأنا من طريقه. وفي (براءة) كتبوا في بعض المصاحف (ولأوضعوا) (47) بغير

ألف، وفي بعضها (ولا أوضعوا) بألف. وفي (يونس) في بعض المصاحف (إن هذا لساحر) (76) بالألف، وفي بعضها (لسحر مبين) بغير ألف، وفي بعضها (وقال فرعون ائتوني بكل سحار) (79) الألف بعد الحاء، وفي بعضها (سحر) بغير ألف. وفي (إبراهيم) في بعض المصاحف (وذكرهم بأيم الله) (5) قال أبو عمرو: يعني: بياء من غير ألف، وقد رأيته أنا في بعض مصاحف أهل المدينة والعراق، وكذلك ذكره الغازي بن قيس في كتابه بياءين من غير ألف، قال نصير: وفي بعضها بأيام الله بألف وياء واحدة. وفي (الحجر) في بعض المصاحف وأرسلنا الرياح لواقح بألف على الإجماع، وبعضها (الريح) ، بغير ألف على واحدة. وفي (بني إسرائيل) في بعض المصاحف (أو كلهما) (23) بغير ألف، وفي بعضها (أو كلاهما) بألف وليس في شيء من المصاحف فيها ياء، وفي بعضها سبحان ربي (93) بالألف، وفي بعضها (سبحن) بغير ألف، ولا يكتب في جميع القرآن بألف غير هذا الحرف اختلفوا فيه. وفي (الكهف) في بعض المصاحف فله جزاء الحسنى (88) بغير واو، في بعضها (جزؤا) بالواو، وفي بعض المصاحف (فهل نجعل لك خراجا) (94) بألف، وفي بعضها (خرجا) بغير ألف، وفي بعض المصاحف (تذروه الريح) (45) بغير ألف، وفي بعضها (الرياح) بألف. وفي (طه) في بعض المصاحف (لا تخف دركا) (77) بغير ألف، وفي بعضها (لا تخاف) بألف.

وفي (الأنبياء) كتبوا في بعض المصاحف (قال ربي) (4) بالألف، وفي بعضها (قل ربي) بغير ألف، وفي بعضها أن لا إله إلا أنت (87) ، وفي بعضها بغير نون، وفي بعضها في ما اشتهت أنفسهم (102) مقطوع، وفي بعضها موصول. وفي (الحج) في بعض المصاحف (إن الله يدافع) (38) بالألف، وفي بعضها بغير ألف. وفي (المؤمنون) في بعض المصاحف قال كم لبثتم (112) بألف، وفي بعضها (قل) بغير ألف، وفي بعضها (قل إن لبثتم إلا قليلا) (114) بألف، وفي بعضها (قال) بالألف، وفي بعضها (سيقولون لله لله لله) (85، 87، 89) ثلاثتها بغير ألف، وفي بعضها: الأول (لله) بغير ألف، والاثنان بعده (الله الله) ، وفي بعض المصاحف كل ما جاء أمة رسولها (44) مقطوع، وفي بعضها (كلما) موصولة، وفي بعضها (أم تسئلهم خراجا) (72) بألف، وفي بعضها (خرجا) بغير ألف، وكتبوا فخراج ربك (72) في جميع المصاحف بالألف. وفي (الفرقان) في بعض المصاحف (فيها سرجا) (61) بغير ألف، وفي بعضها (سراجا) بالألف. وفي (الشعراء) في بعض المصاحف (أتتركون فيما ههنا آمنين) (146) موصولة، وفي بعضها في ما مقطوعة، وفي بعضها (فارهين) (149) بألف، وفي بعضها (فرهين) بغير ألف، وكذلك (حاذرون) (56) و (حذرون) . وفي (النمل) في بعض المصاحف (تهدي العمي) (81) بالتاء بغير

ألف، وفي بعضها (بهادي) بألف وياء بعد الدال، وفي بعضها (فناظرة) (35) بالألف، وفي بعضها (فنظرة) بغير ألف. وفي (القصص) في بعض المصاحف (قالوا ساحران تظاهرا) (48) بألف، وفي بعضها (سحران) بغير ألف بعد السين. وفي (الروم) في بعض المصاحف (وما أنت تهد العمي) (53) بغير ألف ولم يثبتوا فيها ياء، وفي بعضها (بهاد) بألف وليس فيها ياء. التي في (الروم) ليس فيها في شيء من المصاحف ياء، والتي في (النمل) (81) فيها ياء في جميع المصاحف، وفي بعضها وما آتيتم من ربا (39) بالألف بغير واو، وفي بعضها (ربوا) بالواو. وفي (الأحزاب) في بعض المصاحف (يسئلون عن أنبائكم) (20) بغير ألف، وفي بعضها (يسألون) بالألف، قال أبو عمرو: ولم يقرأ بذلك أحد من أئمة القراء إلا ما رويناه من طريق محمد بن المتوكل ورويس عن يعقوب الحضرمي، وبذلك قرأنا في مذهبه، وحدثنا أحمد بن عمر قال: حدثنا ابن منير قال: حدثنا عبد الله بن عيسى، قال: حدثنا ابن مينا قالون عن نافع: أن ذلك في الكتاب بغير ألف. وفي (يس) في بعض المصاحف (وما عملت أيديهم) (35) بالتاء من غير هاء، وفي بعضها (وما عملته) بالهاء، وفي بعضها في شغل فاكهون (55) بالألف، وفي بعضها (فكهون) بغير ألف. وفي (المؤمن) في بعض المصاحف (وكذلك حقت كلمت ربك) (6) بالتاء، وفي بعضها (كلمة) بالهاء، وفي بعضها (إذ القلوب لدا الحناجر) (18) بالألف، وفي بعضها (لدى) بالياء.

وفي (الدخان) في بعض المصاحف (فيها فاكهين) (27) بالألف، وفي بعضها (فكهين) بغير ألف. وفي (الأحقاف) في بعض المصاحف (ووصينا الإنسان بوالديه إحسنا) (15) يجعلون أمام الحاء ألفا كذا قال، وصوابه: قبل الحاء، وفي بعضها (حسنا) بغير ألف. وفي (الطور) في بعض المصاحف (فاكهين) (18) بالألف، وفي بعضها (فكهين) بغير ألف. وفي (اقتربت) في بعض المصاحف (خاشعا) (7) بالألف، وفي بعضها (خشعا) بغير ألف. وفي (الرحمن) كتبوا في بعض المصاحف (فبأي آلاء ربكما تكذبان) بالألف، وفي بعضها (تكذبن) بغير ألف من أول السورة إلى آخرها، وفي بعض المصاحف (وجنا الجنتين دان) (54) بالألف، وفي بعضها (وجنى) بالياء. وفي (الواقعة) في بعض المصاحف (فلا أقسم بمواقع النجوم) (75) بغير ألف، وفي بعضها (بمواقع) بالألف. وفي (الحديد) في بعض المصاحف (فيضعفه) (11) بغير ألف، وفي بعضها (فيضاعفه) بالألف، وفي بعضها (يضاعف لهم) (18) بالألف، وفي بعضها (يضعف) بغير ألف. وفي (المنافقون) في بعض المصاحف (وأنفقوا من ما رزقنكم) (10) مقطوع، وفي بعضها (مما) موصول. وفي (الملك) في بعض المصاحف (كل ما ألقي فيها فوج) (8)

مقطوع، وفي بعضها (كلما) موصول. وفي (قل أوحي) في بعض المصاحف قل إنما أدعو ربي (20) بغير ألف، وقال أبو عمرو: قال الكسائي: قال الجحدري: هو في الإمام (قل) قاف لام. وفي (المرسلات) في بعض المصاحف (جمالت) (33) بألف بعد الميم، وفي بعضه (جملت) بغير ألف، قال أبو عمرو: وليس في شيء منها ألف قبل التاء. وفي (المطففين) في بعض المصاحف (فكهين) (31) بغير ألف، وفي بعضها (فاكهين) بالألف. وفي (أرأيت) في بعض المصاحف (أريت) (1) بغير ألف، وفي بعضها (أرأيت) بالألف، وفي بعض المصاحف (أرأيتم) بالألف، وفي بعضها (أريتم) بغير ألف في جميع القرآن. قال أبو عمرو: ورأيت أبا حاتم قد حكى عن أيوب بن المتوكل: أنه رأى في مصاحف أهل المدينة (إنا لنصر رسلنا) (51) في (غافر) بنون واحدة، ولم نجد ذلك كذلك في شيء من المصاحف، وبالله التوفيق.

باب ذكر ما اختلفت فيه مصاحف أهل الحجاز والعراق والشام المنتسخة من الإمام بالزيادة والنقصان وهذا الباب سمعناه من غير واحد من شيوخنا من ذلك: في (البقرة) في مصاحف أهل الشام (قالوا اتخذ الله ولدا) (116) بغير

واو قبل (قالوا) وفي سائر المصاحف (وقالوا) بالواو، وفي مصاحف أهل المدينة والشام (وأوصى بها) (132) بألف بين الواوين، قال أبو عبيد: وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفي سائر المصاحف (ووصى) بغير ألف. وفي (آل عمران) في مصاحف أهل المدينة والشام (سارعوا إلى مغفرة) (133) بغير واو قبل السين، وفي سائر المصاحف (وسارعوا) بالواو، وفيها في مصاحف أهل الشام (وبالزبر وبالكتب) (184) بزيادة باء في الكلمتين، كذا رواه لي خلف بن إبراهيم عن أحمد بن محمد عن علي عن أبي عبيد عن هشام بن عمار عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن ابن عامر، وعن هشام عن سويد بن عبد العزيز عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن مصاحف أهل الشام، وكذلك حكى أبو حاتم أنهما مرسومان بالباء في مصحف أهل حمص الذي بعث عثمان به إلى الشام وقال هارون بن موسى الأخفش الدمشقي إن الباء زيدت في الإمام يعني: الذي وجه به إلى الشام في (وبالزبر) وحدها، وروى الكسائي عن أبي حيوة شريح بن يزيد أن ذلك كذلك في المصحف الذي بعث به عثمان إلى الشام والأول أعلى إسنادا، وهما في سائر المصاحف بغير باء. وفي (النساء) قال الكسائي والفراء: في بعض مصاحف أهل الكوفة (والجار ذا القربى) (36) بألف، ولم نجد ذلك كذلك في شيء من مصاحفهم ولا قرأ به أحد منهم، وفي مصاحف أهل الشام (ما فعلوه إلا قليلا منهم) (66) بالنصب، وفي سائر المصاحف (إلا قليل) بالرفع.

وفي (المائدة) في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام (يقول الذين آمنوا) (53) بغير واو قبل (يقول) وفي مصاحف أهل الكوفة والبصرة وسائر العراق (ويقول) بالواو، وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام (من يرتدد منكم) (54) بدالين قال أبو عبيد: وكذا رأيتها في الإمام بدالين وفي سائر المصاحف (يرتد) بدال واحدة. وفي (الأنعام) في مصاحف أهل الشام (ولدار الآخرة) (32) بلام واحدة، وفي سائر المصاحف بلامين، وفيها في مصاحف أهل الكوفة (لئن أنجينا من هذه) (63) بياء من غير تاء، وفي سائر المصاحف (لئن أنجيتنا) بالياء والتاء، وليس في شيء منها ألف بعد الجيم، وفيها في مصاحف أهل الشام (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركائهم) (137) بالياء، وفي سائر المصاحف (شركاؤهم) بالواو. وفي (الأعراف) في مصاحف أهل الشام (قليلا ما يتذكرون) (3) بالياء والتاء، وفي سائر المصاحف (تذكرون) بالتاء من غير ياء، وفيها في مصاحف أهل الشام (ما كنا لنهتدي) (43) بغير واو قبل (ما) وفي سائر المصاحف (وما) بالواو، وفيها في مصاحف أهل الشام في قصة صالح (وقال الملأ الذين استكبروا) (75) بزيادة واو قبل (قال) وفي سائر المصاحف (قال) بغير واو، وفيها في مصاحف أهل الشام (وإذ أنجاكم من آل فرعون) (141) بألف من غير ياء ولا نون، وفي سائر المصاحف (أنجينكم) بالياء والنون من غير ألف. وفي (براءة) في مصاحف أهل المدينة والشام (الذين اتخذوا مسجدا ضرارا) (107) بغير واو قبل (الذين) وفي سائر المصاحف (والذين)

بالواو، وفيها في مصاحف أهل مكة (تجري من تحتها الأنهار) بزيادة (من) وفي سائر المصاحف بغير (من) . وفي (يونس) في مصاحف أهل الشام (هو الذي ينشركم في البر والبحر) (22) بالنون والشين، وفي سائر المصاحف (يسيركم) بالسين والياء. وفي (سبحان) في مصاحف أهل مكة والشام (قال سبحان ربي هل كنت) (93) بألف، وفي سائر المصاحف (قل) بغير ألف. وفي (الكهف) في مصاحف أهل المدينة ومكة والشام (خيرا منهما منقلبا) (36) بزيادة ميم بعد الهاء على التثنية، وفي سائر مصاحف أهل العراق (منها) بغير ميم على التوحيدة، وفيها في مصاحف أهل مكة (ما مكنني فيه ربي) (95) بنونين، وفي سائر المصاحف (مكني) بنون واحدة. وفي (الأنبياء) في مصاحف أهل الكوفة (قال ربي يعلم القول) (4) بألف، وفي سائر المصاحف (قل ربي) بغير ألف، وفيها في مصاحف أهل مكة (ألم ير الذين كفروا) (30) بغير واو بين الهمزة واللام، وفي سائر المصاحف (أو لم ير الذين) بالواو. وفي (المؤمنون) في مصاحف أهل البصرة (سيقولون الله قل أفلا تتقون) (87) (سيقولون الله قل فأنى تسحرون) (89) بالألف في الاسمين الأخيرين، وفي سائر المصاحف (لله) فيهما قال أبو عبيد: وكذلك رأيت ذلك في الإمام، وقال هارون الأعور عن عاصم الجحدري: كانت في الإمام (لله) (لله) وأول من ألحق هاتين الألفين نصر بن

عاصم الليثي، وقال أبو عمرو: كان الحسن يقول: الفاسق عبيد الله بن زياد زاد فيهما ألفا، وقال يعقوب الحضرمي: أمر عبيد الله بن زياد أن يزاد فيهما ألف.

قال أبو عمرو: وهذه الأخبار عندنا لا تصح لضعف نقلتها واضطرابها وخروجها عن العادة إذ غير جائز أن يقدم نصر وعبيد الله هذا الإقدام من الزيادة في المصاحف مع علمهما بأن الأمة لا تسوغ لهما ذلك، بل تنكره وترده وتحذر منه ولا تعمل عليه، وإذا كان ذلك بطل إضافة زيادة هاتين الألفين إليهما، وصح أن إثباتهما من قبل عثمان والجماعة رضوان الله عليهم على حسب ما نزل به من عند الله تعالى، وما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعت المصاحف على أن الحرف الأول (سيقولون لله) (58) بغير ألف قبل اللام، وفيها في مصاحف أهل الكوفة (قل كم لبثتم) (112) و (قل إن لبثتم) (114) بغير ألف في الحرفين، وفي سائر المصاحف (قال) بالألف في الحرفين، وينبغي أن يكون الحرف الأول في مصاحف أهل مكة بغير ألف والثاني بالألف؛ لأن قراءتهم فيهما كذلك، ولا خبر عندنا في ذلك عن مصاحفهم إلا ما رويناه عن أبي عبيد أنه قال: ولا أعلم مصاحف أهل مكة إلا عليها - يعني: على إثبات الألف في الحرفين -. وفي (الفرقان) في مصاحف أهل مكة (وننزل الملائكة تنزيلا) (25) بنونين وفي سائر المصاحف (ونزل) بنون واحدة. وفي (الشعراء) في مصاحف أهل المدينة والشام (فتوكل على العزيز الرحيم) (217) بالفاء، وفي سائر المصاحف (وتوكل) بالواو. وفي (النمل) في مصاحف أهل مكة (وليأتينني بسلطان مبين) (21)

بنونين، وفي سائر المصاحف بنون واحدة. وفي (القصص) في مصاحف أهل مكة (قال موسى ربي أعلم) (37) بغير واو قبل (قال) وفي سائر المصاحف (وقال) بالواو. وفي (يس) في مصاحف أهل الكوفة (وما عملت أيديهم) (35) بغير هاء بعد التاء، وفي سائر المصاحف (وما عملته) بالهاء، وفي الزمر في مصاحف أهل الشام (تأمرونني أعبد) (64) بنونين، وفي سائر المصاحف (تأمروني أعبد) بنون واحدة. وفي (المؤمن) في مصاحف أهل الشام (كانوا هم أشد منكم) (21) بالكاف، وفي سائر المصاحف (أشد منهم) بالهاء، وفيها في مصاحف أهل الكوفة (أو أن يظهر في الأرض الفساد) بزيادة الألف قبل الواو، وروى هارون عن صخر بن جويرية وبشار الناقط عن أسيد: أن ذلك كذلك في الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفى سائر المصاحف (وأن يظهر) بغير ألف. وفي (الشورى) في مصاحف أهل المدينة والشام (بما كسبت أيديكم) (30) بغير فاء قبل الباء، وفي سائر المصاحف (فبما كسبت) بزيادة فاء. وفي (الزخرف) في مصاحف أهل المدينة والشام (يا عبادي لا خوف عليكم) (68) بالياء، وفي مصاحف أهل العراق (يا عباد) بغير الياء، وكذا ينبغي أن يكون في مصاحف أهل مكة؛ لأن قراءتهم فيه كذلك، ولا نص عندنا في ذلك في مصاحفهم، إلا ما حكاه ابن مجاهد: أن ذلك في مصاحفهم بغير ياء، ورأيت بعض شيوخنا يقول: إن ذلك في مصاحفهم

بالياء، وأحسبه أخذ ذلك من قول أبي عمرو إذ حكى أنه رأى الياء في ذلك ثابتة في مصاحف أهل الحجاز، ومكة من الحجاز. والله أعلم. وحدثنا محمد بن علي، قال: حدثنا محمد بن قطن، قال: حدثنا سليمان بن خلاد، قال: حدثنا اليزيدي، قال أبو عمرو: (يا عبادي) رأيتها في مصاحف أهل المدينة والحجاز بالياء، وفيها في مصاحف أهل المدينة والشام (ما تشتهيه الأنفس) (71) بهائين، ورأيت بعض شيوخنا يقول: إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة، وهو غلط، قال أبو عبيد: وبهاءين رأيته في الإمام، وفي سائر المصاحف (تشتهي) بهاء واحدة. وفي (الأحقاف) في مصاحف أهل الكوفة (بوالديه إحسانا) (15) بزيادة ألف قبل الحاء وبعد السين، وفي سائر المصاحف (حسنا) بغير ألف. وفي (القتال) قال خلف بن هشام البزار: في مصاحف أهل مكة والكوفيين (فهل ينظرون إلا الساعة إن تأتهم) (18) بالكسر مع الجزم. وفي (الرحمن) في مصاحف أهل الشام (والحب ذا العصف والريحان) (12) بالألف والنصب، وفي سائر المصاحف (ذو العصف) بالواو والرفع، قال أبو عبيد: وكذلك رأيتها في الذي يقال له الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه، وفيها في مصاحف أهل الشام (ذو الجلال والإكرام) (78) آخر السورة بالواو، وفي سائر المصاحف (ذي الجلال والإكرام) بالياء، والحرف الأول (27) في كل المصاحف بالواو. وفي (الحديد) في مصاحف أهل الشام (وكل وعد الله الحسنى) (10) بالرفع، وفي سائر المصاحف (وكلا) بالنصب، وفيها في مصاحف أهل

المدينة والشام (فإن الله الغني الحميد) بغير (هو) . وفي سائر المصاحف (هو الغني) بزيادة (هو) ، وفي (والشمس) في مصاحف أهل المدينة والشام (فلا يخاف عقبها) (15) بالفاء، وفي سائر المصاحف (ولا يخاف) بالواو حدثنا ابن خاقان قال: حدثنا أحمد المكي قال: حدثنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: هذه الحروف التي اختلفت في مصاحف الأمصار مثبتة بين اللوحين وهي كلها منسوخة من الإمام الذي كتبه عثمان ثم بعث إلى كل أفق مما نسخ بمصحف، وهي كلها كلام الله عز وجل. حدثنا خلف بن إبراهيم قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا القاسم بن سلام قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني أن أهل الحجاز وأهل العراق اختلفت مصاحفهم في هذه الحروف قال القاسم: وهي اثنا عشر حرفا: كتب أهل المدينة في (سورة البقرة) (وأوصى بها إبراهيم بنيه) (132) بألف، وكتب أهل العراق (ووصى) بغير ألف. وفي (آل عمران) كتب أهل المدينة (سارعوا إلى مغفرة) (133) بغير واو، وأهل العراق (وسارعوا) بالواو. وفي (المائدة) كتب أهل المدينة (يقول الذين آمنوا) (53) بغير واو، وأهل العراق (ويقول) بالواو وفيها أيضا كتب أهل المدينة (من يرتدد منكم) (54) بدالين، وأهل العراق (من يرتد) بدال واحدة. وفي (براءة) أهل المدينة (الذين اتخذوا مسجدا) (107) بغير واو، وأهل العراق (والذين) بالواو.

وفي (الكهف) أهل المدينة (خيرا منهما منقلبا) (36) على اثنين، وأهل العراق (خيرا منها) على واحدة. وفي (الشعراء) أهل المدينة (فتوكل على العزيز الرحيم) (217) بالفاء، وأهل العراق (وتوكل) بالواو. وفي (المؤمن) أهل المدينة (وأن يظهر في الأرض الفساد) (26) بغير ألف، وأهل العراق (أو أن) بألف. وفي (عسق) أهل المدينة (بما كسبت أيديكم) (30) بغير فاء، وأهل العراق (فبما) بالفاء. وفي (الزخرف) أهل المدينة (تشتهيه الأنفس) (71) بهاءين، وأهل العراق (تشتهي) بهاء واحدة. وفي (الحديد) أهل المدينة (فإن الله الغني الحميد) (24) بغير (هو) . وفي (والشمس وضحاها) أهل المدينة (فلا يخاف عقباها) (15) بالفاء، وأهل العراق (ولا يخاف) بالواو، حدثنا أحمد بن عمر قال: حدثنا محمد بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن عيسى قال: حدثنا قالون عن نافع: أن الحروف المذكورة في مصاحف أهل المدينة على ما ذكر إسماعيل سواء. حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا ابن مجاهد قال: في مصاحف أهل مكة في (التوبة) (تجري من تحتها الأنهار) بزيادة (من) . وفي (سبحان) (قال سبحان ربي) (93) بألف. وفي (الكهف) (ما مكنني فيه) (95) بنونين.

وفي (الأنبياء) (ألم ير الذين كفروا) (35) بغير واو. وفي (الفرقان) (وننزل الملائكة) (25) بنونين. وفي (النمل) (أو ليأتينن) (21) بنونين. وفي (القصص) (قال موسى ربي أعلم) (37) بغير واو. وحدثنا ابن غلبون قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن أنس قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا سويد بن عبد العزيز وأيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر (ح) وحدثنا الخاقاني قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشام بن عمار عن أيوب بن تميم عن يحيى بن الحارث عن عبد الله بن عامر، قال أبو عبيد واللفظ له: قال هشام (ح) وحدثنا سويد بن عبد العزيز أيضا عن الحسن بن عمران عن عطية بن قيس عن أم الدرداء: عن أبي الدرداء: أن هذه الحروف في مصاحف أهل الشام، وهي ثمانية وعشرون حرفا في مصاحف أهل الشام: في (البقرة) (قالوا اتخذ الله ولدا) (116) بغير واو. وفي (آل عمران) (سارعوا) (133) بغير واو، وفيها (بالبينات وبالزبر وبالكتب) (84) ثلاثتهن بالباء. وفي (النساء) (إلا قليلا منهم) (66) بالنصب. وفي (المائدة) (يقول الذين آمنوا) (53) بغير واو، وفيها (من يرتدد منكم عن دينه) (54) بدالين. وفي (الأنعام) (والدار الآخرة) (32) بلام واحدة، وفيها (قتل أولادهم شركائهم) (137) بنصب (الأولاد) وخفض (الشركاء) . وفي (الأعراف) (قليلا ما يتذكرون) (3) ، وفيها (ما كنا لنهتدي)

(43) بغير واو، وفيها في قصة صالح (وقال الملأ) (75) بالواو وفيها (وإذ أنجكم) (141) بغير نون. وفي (براءة) (الذين اتخذوا) (107) بغير واو. وفي (يونس) (هو الذي ينشركم) (22) بالنون والشين وفيها (إن الذين حقت عليهم كلمت ربك) (96) على الجمع. وفي (بني إسرائيل) (قال سبحان ربي) (93) على الخبر. وفي (الكهف) (خيرا منهما) (36) على اثنين. وفي (المؤمنون) (سيقولون لله) (85، 87، 89) ، ثلاثتهن بغير ألف. وفي (الشعراء) (فتوكل على العزيز) (217) بالفاء. وفي (النمل) (إننا لمخرجون) (67) على نونين. وفي (المؤمن) (أشد منكم) (21) بالكاف، وفيها (وأن يظهر في الأرض) (26) بغير ألف. وفي (عسق) (بما كسبت أيديكم) (30) بغير فاء. وفي (الرحمن) (والحب ذا العصف والريحان) (12) بالنصب، وفيها (تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) (87) بالرفع. وفي (الحديد) (فإن الله الغني الحميد) (24) بغير (هو) . وفي (والشمس) (فلا يخاف عقباها) (15) بالفاء. حدثنا الخافاقني قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا علي قال: قال أبو عبيد: اختلفت مصاحف أهل العراق والكوفة والبصرة في خمسة أحرف: كتب الكوفيون في (الأنعام) (لئن أنجينا) (63) بغير تاء. وفي (الأنبياء) (قال ربي يعلم) (4) بالألف.

وفي (المؤمنون) (قل كم لبثتم) (112) (قل إن لبثتم) (114) بغير ألف فيهما. وفي (الأحقاف) (بوالديه إحسانا) (15) بألف قبل الحاء، وأخرى بعد السين، وكتبها المصريون (لئن أنجيتنا) بالتاء (قل ربي يعلم) بغير ألف (قال كم لبثتم) (قال إن لبثتم) بالألف (بوالديه حسنا) بغير ألف. قال أبو عمرو: وروي لنا عن ابن القاسم وأشهب وابن وهب: أنهم رأوا في مصحف جد مالك بن أنس الذي كتبه حين كتب عثمان بن عفان رضي الله عنه المصاحف أخرجه إليهم مالك في (حم عسق) (فبما كسبت) (30) بالفاء. وفي (الزخرف) (ما تشتهي الأنفس) (71) . وفي (الحديد) (فإن الله هو الغني الحميد) (24) بزيادة (هو) . وفي (والشمس) (ولا يخاف) (15) بالواو، وسائر الحروف على ما رواه إسماعيل عن مصاحف أهل المدينة، وروى خارجة بن مصعب عن نافع أنه قال: في الإمام في (الحديد) (هو الغني) بزيادة (هو) . وفي (والشمس) (ولا يخاف) بالواو، وقد ذكرنا حكاية أبي عبيد عن الإمام في رسم هذه الحروف وغيرها فأغنى ذلك عن الإعادة.

وقال أبو حاتم في مصحف أهل المدينة في (يوسف) (وقال الملك اتون) (54) بنقصان ياء، وفي مصحف أهل مكة في آخر النساء (فآمنوا بالله ورسوله) (171) ، وفي مصحف أهل حمص الذي بعث به في المصحف الذي بعث به عثمان إلى (الشام) (ثم كيدوني) بالياء (وما كان للنبي) بلامين.

وفي (الكهف) (للتخذت عليه) . قال أبو عمرو: فهذا جميع ما انتهى إلينا بالروايات من الاختلاف بين مصاحف أهل الأمصار، وقد مضى من ذلك حروف كثيرة في الأبواب المتقدمة والقطع عندنا على كيفية ذلك في مصاحف أهل الأمصار على قراءة أئمتهم غير جائز إلا برواية صحيحة عن مصاحفهم بذلك إذ قراءتهم في كثير من ذلك قد تكون على غير مرسوم مصحفهم، ألا ترى أن أبا عمرو قرأ (يا عبادي لا خوف عليكم) (168) في (الزخرف) بالياء، وهو في مصاحف أهل البصرة بغير ياء؟ ! فسئل عن ذلك فقال: إني رأيته في مصاحف أهل المدينة بالياء فترك ما في مصحف أهل بلده، واتبع في ذلك مصاحف أهل المدينة. وكذلك قراءته في (الحجرات) (لا يألتكم من أعمالكم شيئا) (14) بالهمزة التي صورتها ألف وذلك مرسوم في جميع المصاحف بغير ألف. وكذلك قراءته أيضا في (المنافقون) (وأكون من الصالحين) (10) بالواو والنصب، وذلك في كل المصاحف بغير واو مع الجزم، قال أبو عبيد: وكذا رأيته في الإمام قال: واتفقت على ذلك المصاحف. وكذلك أيضا قراءته في (المرسلات) (وإذا الرسل وقتت) (11) بالواو من الوقت، وذلك في الإمام، وفي كل المصاحف بالألف، وكذلك قراءته. وقراءة ابن كثير في (البقرة) (أو ننسأها) (106) بهمزة ساكنة بين السين والهاء وصورتها ألف، وليست كذلك في مصاحف أهل مكة ولا في غيرها وكذلك قراءة ابن عامر وعاصم من رواية حفص بن سليمان في (الزخرف) (قال أولو جئتكم) (24) بالألف، ولا خبر عندنا إن ذلك

كذلك مرسوم في مصاحف أهل الشام ولا في غيرها. وكذلك أيضا قراءة عاصم من الطريق المذكور في (الأنبياء) (قال رب احكم بالحق) (112) بالألف، ولا رواية عندنا كذلك أن ذلك مرسوم في شيء من المصاحف في نظائر لذلك كثيرة ترد عن أئمة القراءة، بخلاف مرسوم مصحفهم، وإنما بينت هذا الفصل ونبهت عليه؛ لأني رأيت بعض من أشار إلى جمع شيء من هجاء المصاحف من منتحلي القراءة من أهل عصرنا قد قصد هذا المعنى وجعله أصلا، فأضاف بذلك ما قرأ به كل واحد من الأئمة من الزيادة والنقصان في الحروف المتقدمة وغيرها إلى مصاحف أهل بلده وذلك من الخطأ الذي يقود إليه إهمال الرواية وإفراط الغباوة وقلة التحصيل، إذ غير جائز القطع على كيفية ذلك إلا بخبر منقول عن الأئمة السالفين رواية صحيحة عن العلماء المختصين بعلم ذلك المؤتمنين على نقله وإيراده لما بيناه من الدلالة. وبالله التوفيق. قال أبو عمرو: فإن سأل سائل عن السبب الموجب لاختلاف مرسوم هذه الحروف الزوائد في المصاحف قلت: السبب في ذلك عندنا أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لما جمع القرآن في المصاحف ونسخها على صورة واحدة وآثر في رسمها لغة قريش دون غيرها مما لا يصح ولا يثبت نظرا للأمة واحتياطا على أهل الملة، وثبت عنده أن هذه الحروف من عند الله عز وجل كذلك منزلة، ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسموعة، وعلم أن جمعها في مصحف واحد على تلك الحال غير ممكن إلا بإعادة الكلمة مرتين وفي رسم ذلك، كذلك من التخليط والتغيير للمرسوم ما لا خفاء به ففرقها في المصاحف لذلك، فجاءت مثبتة في بعضها، ومحذوفة في بعضها لكي

تحفظها الأمة كما نزلت من عند الله عز وجل، وعلى ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سبب اختلاف مرسومها في مصاحف أهل الأمصار. فإن قال قائل: فما تقول في الخبر الذي رويتموه عن يحيى بن يعمر وعكرمة مولى ابن عباس عن عثمان رضي الله عنه: أن المصاحف لما نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفا من اللحن فقال: اتركوها فإن العرب ستقيمها أو ستعربها بلسانها، إذ ظاهره يدل على خطأ في الرسم. قلت: هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة، ولا يصح به دليل من جهتين: إحداهما: أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه - مرسل؛ لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئا ولا رأياه، وأيضا فإن ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه؛ لما فيه من الطعن عليه مع محله من الدين ومكانه من الإسلام وشدة اجتهاده في بذل النصيحة واهتمامه بما فيه الصلاح للأمة، فغير ممكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقياء الأبرار نظرا لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده ممن لا شك أنه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده، هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله، ولا يحل لأحد أن يعتقده. فإن قال: فما وجه ذلك عندك لو صح عن عثمان رضي الله عنه؟ قلت: وجهه أن يكون عثمان رضي الله عنه أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم إذ كان كثير منه لو تلي على حال رسمه لانقلب ذلك معنى التلاوة وتغيرت ألفاظها ألا ترى قوله: (أولأ اذبحنه) و (لا أوضعوا) و (من نباءى المرسلين) و (سأوريكم) و (الربوا) وشبهه مما زيدت الألف

والياء والواو في رسمه لو تلاه تال لا معرفة له بحقيقة الرسم على حال صورته في الخط لصير الإيجاب نفيا ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه مع كون رسم ذلك كذلك جائزا مستعملا، فأعلم عثمان رضي الله عنه إذ وقف على ذلك: أن من فاته تمييز ذلك وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده سيأخذ ذلك عن العرب إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم فيعرفونه بحقيقة تلاوته ويدلونه على صواب رسمه، فهذا وجهه عندي. والله أعلم. فإن قيل: فما معنى قول عثمان رضي الله عنه في آخر هذا الخبر لو كان - الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف؟ قلت: معناه، أي: لم توجد فيه مرسومة بتلك الصور المبنية على المعاني دون الألفاظ المخالفة لذلك، إذ كانت قريش ومن ولي نسخ المصاحف من غيرها قد استعملوا ذلك في كثير من الكتابة، ولسلكوا فيها تلك الطريقة ولم تكن ثقيف وهذيل مع فصاحتهما يستعملان ذلك فلو أنهما وليتا من أمر المصاحف ما وليه من تقدم من المهاجرين والأنصار لرسمتا جميع تلك الحروف على حال استقرارها في اللفظ ووجودها في المنطق دون المعاني والوجوه إذ ذلك هو المعهود عندهما والذي جرى عليه استعمالها هذا تأويل قول عثمان عندي لو ثبت وجاء مجيء الحجة. وبالله التوفيق. حدثنا خلف بن إبراهيم المقرئ قال: حدثنا أحمد بن محمد المكي قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا القاسم بن سلام قال: حدثنا حجاج عن هارون قال: أخبرني الزبير بن الخريت عن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه فوجد فيها حروفا من

اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال: ستعربها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف. حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا عمرو بن مرزوق قال: حدثنا عمران القطان عن قتادة عن نصير بن عاصم عن عبد الله بن أبي فطيمة عن يحيى بن يعمر قال: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: في القرآن لحن تقيمه العرب بألسنتها. قال: قيل: فما تأويل الخبر الذي رويتموه أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه: أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن عن قوله: إن هذان لساحران (20- 63) وعن والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة (4- 162) وعن إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى (5- 69) ؟ فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتابة. قلت: تأويله ظاهر، وذلك أن عروة لم يسأل عائشة فيها عن حروف الرسم التي تزاد فيها لمعنى وتنقص منها لآخر، تأكيدا للبيان، وطلبا للخفة، وإنما سألها فيه عن حروف من القراءة المختلفة الألفاظ المحتملة الوجوه على اختلاف اللغات التي أذن الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ولأمته في القراءة بها واللزوم على ما شاءت منها تيسيرا لها وتوسعة عليها، وما هذا سبيله وتلك حاله فعن اللحن والخطأ والوهم والزلل بمعزل؛ لفشوه في اللغة، ووضوحه في قياس العربية، وإذا كان الأمر في ذلك كذلك فليس ما قصدته فيه بداخل في معنى المرسوم ولا هو من سببه في شيء، وإنما سمى عروة ذلك لحنا وأطلقت عائشة على مرسومه كذلك الخطأ على جهة الاتساع في الأخبار وطريق المجاز في العبارة إذا كان ذلك مخالفا

لمذهبهما وخارجا عن اختيارهما، وكان الأوجه والأولى عندهما والآكثر والأفشى لديهما لا على وجه الحقيقة والتحصيل والقطع؛ لما بيناه قبل من جواز ذلك وفشوه في اللغة، واستعمال مثله في قياس العربية، مع انعقاد الإجماع على تلاوته كذلك، دون ما ذهبا إليه إلا ما كان من شذوذ أبي عمرو بن العلاء في إن هذين (20-63) خاصة هذا الذي يحمل عليه هذا الخبر ويتأول فيه دون أن يقطع به على أن أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها لحنت الصحابة وخطأت الكتبة وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة موضعهم الذي لا يجهل ولا ينكر هذا ما لا يسوغ ولا يجوز، قد تأول بعض علمائنا قول أم المؤمنين أخطأوا في الكتاب، أي: أخطأوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز؛ لأن ما لا يجوز مردود بإجماع، وإن طالت مدة وقوعه، وعظم قدر موقعه وتأول اللحن أنه القراءة واللغة، كقول عمر رضي الله عنه: أبي أقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه، أي: قراءته ولغته، فهذا بين. وبالله التوفيق.

حدثنا الخاقاني: قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن عن قول الله عز وجل: إن هذان لساحران، وعن قوله: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة، وعن قوله تبارك وتعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب. فإن قال قائل: فإذ قد أوضحت ما سئلت عنه من تأويل هذين الخبرين

فعرفنا بالسبب الذي دعا عثمان رضي الله عنه إلى جمع القرآن في المصاحف وقد كان مجموعا في الصحف على ما رويته لنا في حديث زيد بن ثابت المتقدم قلت: السبب في ذلك بين فذلك الخبر على قول بعض العلماء، وهو أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد جمعه أولا على السبعة الأحرف التي أذن الله عز وجل للأمة في التلاوة بها ولم يخص حرفا بعينه، فلما كان زمان عثمان ووقع الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشام في القراءة وأعلمه حذيفة بذلك- رأى هو ومن بالحضرة من الصحابة أن يجمع الناس على حرف واحد من تلك الأحرف، وأن يسقط ما سواه فيكون ذلك مما يرتفع به الاختلاف ويوجب الاتفاق إذا كانت الأمة لم تؤمر بحفظ الأحرف السبعة، وإنما خيرت في أيها شاءت لزمته وأجزأها كتخييرها في كفارة اليمين بالله بين الإطعام والكسوة والعتق، لا أن يجمع ذلك كلا فكذلك السبعة الأحرف. وقيل: إنما جمع الصحف في مصحف واحد، لما في ذلك من حياطة القرآن وصيانته وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحدا متفقا عليه وأسقط ما لا يصح من القراءات ولا يثبت من اللغات وذلك من مناقبه وفضائله رضي الله عنه) . اهـ. وإذا ثبت ذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بالرسم الإملائي بعد إحكامه وضبط قواعده، بل هو أولى منه وأدق وأحسن نظاما وأوضح قراءة وأسهل تلاوة؟ ونوقش ذلك بما يأتي: أ- وقد يقال: لا حرج في قراءة القرآن بالرسم العثماني: فإن سهولة القراءة تدور على معرفة الرسم والتمرين على القراءة به أيا كان، فإذا عني

الإنسان بالرسم العثماني وتعهده بالقراءة سهلت عليه القراءة به كالقراءة حسب قواعد الإملاء، فإنها سهلت بمعرفة الرسم الإملائي وتطبيقه كتابة وقراءة، وهذا أمر عام في جميع اللغات، فإن مبناها المعرفة والمحاكاة والتلقي. ويشهد لذلك سهولة القراءة في المصحف بالرسم العثماني على من تعلموا طوال القرون الماضية في الكتاتيب إلى العصر الحاضر مع انتشار قواعد الإملاء والعمل بها تأليفا وقراءة، فالسهولة والصعوبة والوضوح والاشتباه ليس ذاتيا لهذا أو ذاك، وإنما يرجع ذلك إلى التعهد والعناية، والإهمال والإعراض. ب- على أن هناك كلمات تكتب في الرسم الإملائي على طريقة الرسم العثماني مستثناة من القواعد الإملائية ولم يعق ذلك العصريين عن قراءتها أو كتابتها ولم يشق عليهم متابعة الرسم العثماني فيها مثل حذف الألف من ذلك، وهذا، وهؤلاء، ولكن، وأولئك. . . إلخ، ومثل زيادة الواو في أولئك، وأولو الألباب، وأولي أجنحة، وزيادة الألف في مائة. ج- إن المشقة التي يعانيها من لم يعرف الرسم العثماني في تلاوة القرآن ليست من جنس الضرورة إلى جمع القرآن ولا من جنس الحاجة إلى نقطه وشكله، فإنه يمكن القضاء على تلك المشقة بمعرفة الرسم العثماني والتمرس بالقراءة على مقتضاه كما تقدم بيانه، بخلاف الضرورة إلى جمع القرآن أولا وثانيا: فإنها لا ترتفع إلا بجمعه ولا يقضى عليها إلا به، وكذا الحال في الحاجة إلى نقطه وشكله، فإنها لا تزول إلا بذلك ولا تندفع إلا به، إذ العجمة تتزايد بدخول الأعاجم في الإسلام، وضعف اللسان

العربي، وكثرة اللحن تتزايد أيضا مع طول الزمن وكثرة الاختلاط بالأعاجم، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل؛ لعدم وجود بديل يقوم مقام ذلك. د- نعم، إن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكتوب، ولكن نوعا من الكتابة كان معهودا عند العرب وكتب به القرآن حين نزوله، ولم ينكر الله على رسوله ولا على كتبته تقييده بهذا النوع من الكتابة، بل تحرى عثمان رضي الله عنه أن يكتب في الجمع الثاني بلغة قريش خاصة؛ لكونه نزل بلغتهم واستمر العمل على ذلك قبل وضع قواعد الإملاء وبعد وضعها، فكان ذلك تقريرا لأمر عثمان وطبقه كتبة المصحف حينما كتبوه في عهده، وإجماع عصور من الأمة على ذلك وصار بذلك سنة متبعة.

رابعا بيان ما يوجب بقاء كتابة المصاحف بالرسم العثماني

رابعا: بيان ما يوجب بقاء كتابة المصاحف بالرسم العثماني، وما قد يترتب على العدول عنه من تحريف ونحوه: أولا: ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في خلافة عثمان رضي الله عنه بأمره، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوا ما اختلفوا فيه بلغة قريش وذلك مما يدل على القصد إلى رسم معين، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وضع قواعد الإملاء، والعمل بمقتضاها في التأليف والقراءة وكتابة الرسائل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (¬1) » ، فكانت المحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم واجبة أو سنة متبعة، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وعملا بالإجماع. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .

ثانيا: إن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح في الخط فهو قابل للتغيير والتبديل باصطلاح آخر مرة بعد أخرى كسائر رسوم الخطوط في اللغة العربية وغيرها، فإذا عدلنا عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغير الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن، بتبديل بعض الحروف من بعض، والزيادة فيها والنقص فيها، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها التخليط على مر الأيام والسنين. ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد الذرائع والقضاء عليها؛ محافظة على الدين، ومنعا للشر والفساد. ثالثا: يخشى إذا وقع ذلك أن يصير كتاب الله- القرآن- ألعوبة بأيدي الناس، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية وآخرون كتابته بالعبرية. . وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من اقترح كتابته حسب قواعد الإملاء من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع وإقامة الحجة وفي هذا ما فيه من الخطر وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم الكعبة ليعيدها إلى بنائها الذي قام به عبد الله بن الزبير حيث بناها على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بين أيدي الولاة. قال تقي الدين الفاسي في كتابه [شفاء الغرام] : ويروى (¬1) أن الخليفة ¬

_ (¬1) [شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام] (1\ 100) .

الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة، وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير - فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس. انتهى بالمعنى، ثم قال: وكان مالك لحظ في ذلك أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة معتمدة. اهـ.

خلاصة القول

وخلاصة القول: أن لكل من القول بجواز كتابة المصحف- القرآن - على مقتضى قواعد الإملاء والمنع من ذلك وحرمته وجهة نظر، غير أن مبررات الجواز فيها مآخذ ومناقشات تقدم بيانها، وقد لا تنهض معها لدعم القول بالجواز، ومع ذلك قد عارضها ما تقدم ذكره من الموانع، وجريا على القاعدة المعروفة من تقديم الحظر على الإباحة. وترجيح جانب درء المفاسد على جلب المصالح عند التعادل أو رجحان جانب المفسدة قد يقال: إن البقاء على ما كان عليه المصحف من الرسم العثماني أولى وأحوط على الأقل، وعلى كل حال فالمسألة محل نظر واجتهاد والخير في اتباع ما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء بشأن كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء

قرار هيئة كبار العلماء رقم (71) وتاريخ 21\10\1399 هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال إلى الحادي والعشرين فيه نظر المجلس فيما رفعه حسين حمزة صالح مدرس العلوم الدينية بمدرسة الإمام أبي حنيفة الابتدائية بمكة. . إلى جلالة الملك المعظم يطلب فيه المعونة في كتابة المصحف بطريقة الإملاء العادية، والمحال إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 3\ ص\ 22035 في 22\ 9\ 1398 هـ. واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في [حكم كتابة القرآن بطريقة الإملاء العادية وإن خالف ذلك الرسم العثماني] . وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه. . تبين للمجلس أن هناك أسبابا تقتضي بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني وهي: 1 - ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين ووافقه الصحابة وتابعهم التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (¬1) » فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هو المتعين، اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة، وعملا بإجماعهم. 2 - إن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا ¬

_ (¬1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .

بقصد تسهيل القراءة يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر. . وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف أو زيادتها أو نقصها فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين ويجد أعداء الإسلام مجالا للطعن في القرآن الكريم. وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر ومنع أسباب الفتن. 3 - ما يخشى من أنه إذا لم يلتزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية أو غيرها، وفي هذا ما فيه من الخطر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح. وبناء على هذه الأسباب اتخذ المجلس القرار التالي: يرى مجلس هيئة كبار العلماء أن يبقى رسم المصحف على ما كان بالرسم العثماني، ولا ينبغي تغييره ليوافق قواعد الإملاء الحديثة؛ محافظة على كتاب الله من التحريف، واتباعا لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين. والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء محمد بن علي الحركان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح غائب راشد بن خنين ... محمد بن جبير له وجهة نظر ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن غائب عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح اللحيدان

وجهة نظر لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير

وجهة نظر لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير وجهة نظر عضو هيئة كبار العلماء محمد بن إبراهيم بن جبير حول موضوع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء الحديثة - الذي بحثه مجلس الهيئة في دورته الرابعة عشرة المنعقدة في مدينة الطائف شهر شوال عام 1399 هـ. بعد اطلاعي على البحث القيم الذي استوفى جميع أطرافه الموضوع، والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أثابها الله وبارك في جهودها. وبعد المناقشة التي تمت في مجلس الهيئة برئاسة سماحة الشيخ \ عبد الله بن حميد حول موضوع: (كتابة المصحف بغير الرسم العثماني) وحيث إن الحديث عن هذا الموضوع قديم، بحثه الأئمة رحمهم الله قبل أكثر من ألف سنة، وحكموا بما ظهر لهم من التحريم أو الكراهية أو الجواز، وصنفوا في ذلك المصنفات العديدة، ولا زال بحث هذا الموضوع يتكرر بين آونة وأخرى إلى يومنا هذا. وحيث إن قراءة القرآن من المصحف المكتوب بالرسم العثماني على وجه الصواب ستكون خاصة بمن يتلقاه عن القراء، أما الصغار فسوف يكون تعليمهم من تلك المصاحف عسيرا. لذلك فإنني أرى أن تطبع المصاحف بالرسم العثماني، حفظا لهذا الأثر

العظيم الذي هو أصل ديننا، على أن يعاد طبع الكلمات بالرسم الإملائي المعتاد على الهامش في حيز خاص، وذلك تسهيلا لتعلم الصغار وقراءة الكبار الذين لم يتلقوا القرآن عن قارئ. وبهذا نجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين. والله الموفق، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. عضو هيئة كبار العلماء محمد بن إبراهيم بن جبير

كتابة المصحف باللاتينية

(6) كتابة المصحف باللاتينية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

كتابة المصحف باللاتينية إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثالثة المنعقدة بمدينة الرياض في المدة من شهر صفر إلى السابع منه عام 1399 هـ على مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينية، أرسله الملحق الديني بسفارة المملكة العربية السعودية بجاكرتا الشيخ إبراهيم يوسف خان، وذكر أنه من كتابة المدعو بحر العلوم وطباعة مطبعة سومطرة للطباعة والنشر في مدينة تابعة لمحافظة جاوا الغربية، وأن جماعة من المغرضين قاموا بدعاية له والترغيب في اقتنائه، فانتشر هناك في بلاد إندونيسيا، وفي نفس الدورة اقترح المجلس إعداد بحث في حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية، على أن يشترك مع لجنة الإعداد من يجيد بعض اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية ليكون معينا لها في تحقيق الغرض المقصود. وبناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع مع إشراك بعض من يجيد اللغة الإنجليزية والإندونيسية لترجمة بعض الكلمات أو الجمل، وللمساعدة في فهم المصطلحات التي كتبت مقدمة لكتابة القرآن بالأحرف اللاتينية.

ويشتمل البحث على ما يأتي: 1 - مقدمة في تصوير الموضوع. 2 - مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في زعم من فعل ذلك ومناقشتها. 3 - الموانع من كتابته بالأحرف اللاتينية، مع بيان ما في ذلك من الخطر. 4 - خلاصة البحث.

أولا مقدمة في تكييف الموضوع وتصويره

أولا: مقدمة في تكييف الموضوع وتصويره: تمهيد: لما كان الحكم على كتابة المصحف بالحروف اللاتينية بالجواز أو المنع قد يتوقف على معرفة كيفية كتابته بها بدلا من الحروف العربية، وعلى معرفة رسم ما يتبع ذلك من شكل ومد وتنوين وغنة ونحو ذلك كان لزاما علينا أن نثبت أولا. . . التعليمات التي وضعت لتراعى في كتابته وقراءته بالحروف اللاتينية، وأن نثبت صورة للحروف والرموز التي تستعمل في الكتابة وتراعى في القراءة، وأن نذكر البديل من الحروف اللاتينية عن الحروف العربية التي ليس لها بديل مقابل في الحروف اللاتينية، وأن نذكر ثانيا أمثلة لبعض الفروق في كتابة الحروف والكلمات في النسخة الهندية التي نشرها محمد عبد الحليم الياسي، والنسخة الإندونيسية الأولى التي نشرها بحر العلوم والنسخة الثانية له؛ ليتبين مدى ما في ذلك من تسهيل قراءة القرآن على كثير من الأعاجم أو صعوبتها، وليتبين أيضا مدى ما في ذلك من الخطر في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية، وبذلك يمكن ذكر دواعي الجواز ودواعي المنع، وترجيح

ما يقتضي النظر ترجيحه، ولنبدأ بعرض ما ذكر فيما يأتي: 1 - تعليمات وإرشادات النسخ: أ- إرشادات النسخة الإندونيسية التي نشرها بحر العلوم والحروف والرموز التي اعتمدها فيها. كيفية قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية يكون ابتداء تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف العربية غالبا من جزء (عم) والأكثر بالنسبة للأطفال يحتاج تعلمه إلى ثلاث أو أربع سنوات، وللحصول على قراءة أجود يحتاج الأطفال أحيانا إلى وقت أطول من ذلك. ونجد كثيرا في الكلمات العربية حروفا مكتوبة في الخط ولا تنطق باللسان عند القراءة، وعند كتابة تلك الكلمات بالحروف اللاتينية نتخذ رموزا خاصة لها. انظر الرموز: 1 - رموز الحروف الهجائية. 2 - رموز العلامات. 3 - رموز الوقف. 4 - رموز الشدة (التشديد) . ورموز العلامات هذه نعتبرها دراسة تكميلية لا نحتاج إلى قراءتها. ويمكن لك تعلم قراءة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية في أقصر وقت، إذا كان اهتمامك له اهتماما جديا وصل إلى درجة الحب والشغف. والطريق الوحيد الذي لا مثيل له لمثل هذا التعلم هو طريق الاستماع.

بمعنى؛ أنك تستمع لقراءة أستاذك الذي يجيد قراءة القرآن الكريم. وتنظر في نفس الوقت إلى مصحفك اللاتيني (المكتوب بالحروف اللاتينية) وكذلك بالعكس. تقرأ القرآن الكريم عن طريق مصحفك اللاتيني، والأستاذ يستمع لقراءتك وينظر إلى مصحفه العربي. وبذلك تجد كيفية تعلم قراءة القرآن الكريم الجيدة، وطريقته الموصلة المنتجة، والله نسأل أن يكون هذا المصحف نافعا لك، وشكرا. المؤلف

3 - أضف إلى ما تقدم اقتراحا في كتابة القرآن بالحروف اللاتينية، فإن الكاتب في محاولته لضبط القراءة وتسهيل النطق بالكلمات قد جزأ بعض الكلمات العربية إلى مقطعين بينهما خط أفقي كالفتحة، وجعل حروف المقطع الأول مع حروف الكلمة السابقة أو بعضها وحروف المقطع الثاني مع الكلمة اللاحقة أو بعضها، مثال ذلك ما اقترحه في كتابة قوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (¬1) الآية [الآية 50 من سورة الأنعام] فإنه كتبها بالحروف اللاتينية على النحو الآتي: 50 - Qul - laaa aquulu lakum indii khazaaa - inul - laahi wa laaa a - lamul - gayba wa laaa aquulu lakum innii malak. Inattabi - u illaa maa youhaa ilayy. Qul hal yasta - wil - a - maa wal - basiir ? Afalaa tatafak - karuun ? (Section 6) . وفيما سبق من صور كتابة السور السبع بالحروف اللاتينية كثيرة من الأمثلة لذلك. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 50

ثانيا مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في نظر من فعل ذلك ومناقشتها

ثانيا: مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية في نظر من فعل ذلك ومناقشتها: 1 - أن القرآن هو الأصل الذي يرجع المسلمون إليه في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، وقد حث الله تعالى على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه، وأمر بتحكيمه في جميع الشئون والأحوال، وبينت السنة النبوية فضائله، وحثت على تعلمه وتعليمه، والتعبد بتلاوته، والعمل بما فيه من أحكام، وقد عرف العرب ومن خالطهم وعاش بين أظهرهم الحروف العربية وما يتألف منها من كلمات، ومرنوا على قراءتها فسهل عليهم أن يقرءوا بها القرآن ويتعبدوا بتلاوته، ويتدبروا آياته، ويتعرفوا أحكامه ليعملوا بها. أما من لغتهم غير عربية وكتابتهم وقراءتهم وتعلمهم بغير الحروف العربية، وما يتألف منها من الكلام - فيشق عليهم قراءة القرآن بالحروف العربية، فلكي تسهل عليهم قراءة القرآن، وتتضح أمامهم أبواب فهمه وتدبر آياته ومعرفة أحكامه - يرخص لهم في كتابة القرآن بالحروف التي عهدوا الكتابة بها في بلادهم، كاللاتينية، إن لم يكن ذلك واجبا لكونه وسيلة إلى واجب، فإن التيسير من مقاصد الشريعة، وقد جاءت به نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1) وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬2) وقال: ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 78 (¬2) سورة البقرة الآية 185

{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬1) وثبت عن النبي أنه قال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا (¬2) » رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي، وثبت عنه أنه قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا (¬3) » . . رواه البخاري والنسائي، ولا شك أن كتابه القرآن بحروف اللغة التي يتكلم بها الأعاجم فيه تيسير لتلاوة القرآن عليهم، ورفع للحرج عنهم وتعميم للبلاغ، وإقامة الحجة عليهم. وليس ذلك بدعا، بل هو مناسب لمقاصد الشريعة، وله نظائر، فقد جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن خشية ضياعه بموت القراء، وجمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن؛ منعا للاختلاف، ونقط المصحف وشكل في عهد بني أمية حينما أسلم كثير من الأعاجم، واختلطوا بمسلمي العرب، فاستعجم كثير من ألسنة أبناء العرب وخيف عليهم اللحن في التلاوة، فمحافظة على القرآن وعليهم من اللحن فيه نقط القرآن وشكل، ولم يكن ذلك منكرا، بل انتهى الأمر فيه إلى الإجماع؛ لما فيه من تحقيق مقاصد الشريعة والعمل بمقتضاها، فليس ببعيد في حكمة المشرع أن يرخص لغير العرب في كتابة القرآن بحروف لغتهم وكلماتها رحمة بهم. إن القرآن لم ينزل مكتوبا بالعربية أو بغيرها حتى نلتزم الحروف التي نزل مكتوبا بها، وإنما نزل وحيا متلوا، فأملاه النبي صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا، فكتبوه بما كان معهودا لديهم من الحروف، ولم يكن هناك نص من الكتاب ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 28 (¬2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1732) ، سنن أبو داود الأدب (4835) ، مسند أحمد بن حنبل (4/412) . (¬3) صحيح البخاري الإيمان (39) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2816) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) ، سنن ابن ماجه الزهد (4201) ، مسند أحمد بن حنبل (2/390) .

أو السنة يلزمهم بذلك، إنما هو واقع لغتهم الذي التزموا من أجله كتابة القرآن بحروف لسانهم مع اختلاف منهم في رسم بعض الحروف، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف بحروف غير عربية كاللاتينية، لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر؟ ونوقش ذلك بأمور: الأول: أن تعلم الإنسان للغة غير لغته نطقا وقراءة وكتابة أمر عادي معهود عند الناس قد درجوا عليه قديما وحديثا؟ إشباعا لغريزة حب الاستطلاع ونهمة العلم، ورغبة في نيل الشهادات، وحرصا على تبادل المنافع وتعرف الصناعات إلى غير هذا من الدواعي التي تحفز الناس إلى تعلم غير لغتهم، فلا حرج على الأعاجم في أن يتعلموا اللغة العربية كتابة وقراءة، فإن ذلك في متناول الأيدي ومستوى الطاقة البشرية، بل يجب على المسلمين أن يتعلموها ليقرءوا بها القرآن ويطلعوا على السنة النبوية ويأخذوا منها أحكام الإسلام، بل هذا أحق من تعلم الإنسان غير لغته لنيل شهادة، أو تعلم طب أو صناعة، أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية، ومن رجع إلى ماضي المسلمين وجد من أسلم من الأعاجم قد تعلموا اللغة العربية، وأسهموا كثيرا في خدمة العلوم الدينية والعربية، وألفوا فيها كثيرا باللغة العربية، فألفوا في تفسير القرآن وتدوين الحديث وشرحه، بل في البلاغة والنحو والصرف ومعاجم اللغة وفقهها. الثاني: أن الحاجة إلى كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها إذا ارتفعت، أمكن الأعاجم تعلم اللغة العربية وانتفى الحرج عنهم والمشقة بذلك، فلا تكون كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها من جنس جمع

أبي بكر رضي الله عنه القرآن، ولا جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن. فإن الحاجة إلى كتابته بغير اللغة العربية، وذلك في متناول البشر، بخلاف ما قام به أبو بكر وعثمان رضي الله عنهما فإن الضرورة التي ألجأت كلا منهما إلى ما قام به لحفظ القرآن ومنع الاختلاف فيه لا تذهب إلا بما فعلاه، وكذا القول في نقط القرآن وشكله، فلم يكن هناك مناص من الجمع والنقط والشكل، لعدم وجود البديل عن ذلك. الثالث: أنه كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير اللسان العربي ويعرف الكتابة بغير اللغة العربية، والرسالة عامة للبشر عربهم وعجمهم، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم أن يكتب الوحي حين ينزل بلغة غير العربية؛ ليسهل على من أسلم ومن سيسلم من الأعاجم قراءته ولا اتخذ كاتبا للوحي منهم، بل اتخذ من الكتاب من يكتبه باللغة العربية التي بها نزل، وسار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على هذا النهج القويم فاختار من يكتبه باللغة العربية، بل بلغة قريش ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم فكانت كتابته باللغة العربية سنة متبعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (¬1) » . . . . الرابع: أن الذين كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية أحسوا بأن الذين يعرفون الحروف اللاتينية واعتادوا القراءة بها يشق عليهم أن يقرءوا القرآن بها؛ لوجود حروف في اللغة العربية ليس لها نظير في اللاتينية، فاضطروا أن يضعوا لها مقابلا، واضطروا لذلك أن يضعوا تعليمات تتكون من عشر صفحات جعلوها مقدمة لما كتبوه من القرآن بالحروف اللاتينية، لتسهل ¬

_ (¬1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .

قراءته بها على من يعرف تلك الحروف وتعود القراءة بها، وهذه التعليمات يحتاج تعلمها والمران عليها إلى مدة وجهد إن لم يزد ذلك على تعلم الحروف العربية والقراءة بها - فهو لا ينقص عنه، وعلى ذلك تكون كتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم؛ لكونها اللغة التي بها نزل، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل. الخامس: أن التجزئة في كتابة كلمات الآية، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض، ليعرف البحر الذي هو منه، ويتبع ذلك صفة نطق للقارئ. وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم. السادس: أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي. فمثلا: نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية، وأحيانا يتركه. ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه، من ذلك ما وقع منه في كتابه (سورة الناس) بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الأندونيسية الثانية إلى غير ذلك مما ينذر بالخطر، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم، وتحريفه والإلحاد فيه، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله، ويشبهون على المسلمين، ويصاب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغيير والتبديل، وتحريف الكلم عن مواضعه.

ثالثا بيان الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر

ثالثا: بيان الموانع التي تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها وبيان ما فيها من الخطر: أ - ثبت أن كتابة المصحف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي جمعه في عهد أبي بكر، وجمعه في عهد عثمان رضي الله عنهما - كانت بالحروف العربية، بل قصد عثمان رضي الله عنه رسما معينا أمر بكتابته به عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشيين في رسم الحروف، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا، رغم وجود لغات وحروف غير عربية، ووجود كتبة مسلمين من غير العرب، ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة في المصحف بحروف غير عربية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (¬1) » فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة؛ عملا بما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وسائر الصحابة رضي الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير، وعملا بإجماع الأمة. ب - أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها، فهي قابلة للتغيير والتبديل بحروف لغة أخرى، بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة، فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة، واختلف الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة، وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض، والزيادة عليها والنقص منها، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين، ويجد عدو الإسلام مدخلا ¬

_ (¬1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .

للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها؛ محافظة على الدين، ومنعا للشر والفساد. ج - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله - القرآن - ألعوبة بأيدي الناس، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه، فيقترح بعضهم كتابته بالعبرية، وآخرون كتابته بالسريانية، وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع والبلاغ وإقامة الحجة، وفي هذا ما فيه من الخطر العظيم. وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور: ألا يهدم بناء الكعبة الذي أقامه عبد الملك بن مروان ليعيدها إلى بنائها الذي بناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بأيدي الولاة. قال تقي الدين الفاسي في كتابه [شفاء الغرام] : (ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير - فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس. انتهى بالمعنى، ثم قال: وكأنه في ذلك لحظ أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة معتمدة) . . اهـ.

ولبعض العلماء كلام في بيان حكم كتابة القرآن بغير العربية نثبته فيما يلي: ذكر جلال الدين السيوطي في [الإتقان] (¬1) : مسألة كتابة القرآن بغير العربية ونقل فيها عن الزركشي احتمال الجواز، وترجيح المنع من كتابة القرآن بغير الحروف العربية، قال: قال الزركشي (¬2) : هل تجوز كتابته بقلم غير عربي؟ هذا مما لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء، ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية، والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي، وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬3) اهـ، ولم يعلق السيوطي على ذلك، فكأنه رده. وقد ذكر الشيخ محمد رشيد رضا في [مجلة المنار] (¬4) : أن بعض المسلمين في الترنسفال كتب إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لعرضها على بعض علماء الأزهر فعرضتها على الشيخ محمد بخيت، فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبته: أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة. وجوابه معروف وهو: أنه لا يحرم على الرجل إلا من رضعت هي وإياه من امرأة، وأما أخت الرضيعة فلا تحرم. ¬

_ (¬1) [الإتقان] (2 \ 171) . (¬2) [البرهان في علوم القرآن] لبدر الدين الزركشي (1 \ 380) . (¬3) سورة الشعراء الآية 195 (¬4) ص (247 - 277) ، من العدد السادس من المجلة تحت عنوان: كتابة القرآن بالحروف الإنجليزية) .

والسؤال الثاني: يتعلق بالاقتداء بالمخالف، وبينا الراجح فيه عندنا في آخر الجزء الماضي، وأن في المسألة قولين مصححين، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف ما رجحناه، وهو المذكور في كتب الفقه، وهم أسرى تلك الكتب. وأما السؤال المهم: فهو ما جعلناه عنوانا لهذه النبذة (أي: كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية) وقد أجاب عنه الشيخ بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال، ثم نبين رأينا فيه وهو: سؤال: ما قولكم - علماء الإسلام ومصابيح الظلام - أدام الله وجودكم - هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والفرنسية مع أن الحروف الإنكليزية ناقصة عن الحروف العربية، ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش، فالإنكليزي مثلا إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تقرأ (مسر) ، أو أحمد تكتب (أهمد) ، ويكتب (شيك) بمعنى: شيخ، لا سيما وإخواننا المسلمون في مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها، وبعض المسلمين في جنوبي أفريقية في جدال عنيف: منهم من يجوز، ومنهم من يقول غير جائز. أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى. جواب: اعلم أن القرآن هو النظم، أي: اللفظ الدال؛ لأنه الموصوف بالإنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ. وأما المعنى، وحده فليس بقرآن حقيقة. وقيل: إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازا. والحق هو الأول (¬1) . ¬

_ (¬1) الحق: أنه حقيقة فيهما (اللجنة الدائمة) .

وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها، وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها، بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى فقد كان تاج المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية. وفي [النهاية والدراية] : أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية، فكتب فكانوا يقرءون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم، وقد عرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. وفي [النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية] ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقا. وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن، بل يعتبر تفسيرا له. وفي [الإتقان] للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلاما لعلماء مذهبه في كتابة القرآن بالقلم الأعجمي، وأنه يحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية، والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير العربية، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي، وقد قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬1) فتلخص من ذلك: أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها، وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية، ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها، كالإنكليزية. اهـ. (المنار) : عندنا مسألتان: ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 195

إحداهما: ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية، أي: التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي، وهذه هي التي سألنا عنها الفاصل الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء. والثانية: كتابة القرآن العربي بحروف غير عربية وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنفالي، وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة؛ لذلك رأينا أن ننقله، ونحرر القول في المسألة تحريرا. المقصود من الكتابة: أداء الكلام بالقراءة، فإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة الإنكليزية - فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها؛ لما فيها من تحريف كلمة، ومن رضي بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر. وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ: محمد، فينطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين) ، فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر، ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام لعلة العجز - لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة، ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر. وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا - ففي المسألة تفصيل: والذي نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا

بأصل الدين ولا تلاعبا به، وإن هو خالف الخط العربي فالفرق بين الخط العربي المعروف والخط الكوفي أبعد من الفرق بين الخطين العربي والفارسي، ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها، ولكنهم يعتقدونها عربية. وإذا قيل: إنها مختلفة اختلافا لا يكفي لمتعلم، أحدها: أن يقرأ الآخر كالكوفي والفارسي: نقول: قصارى ما يدل عليه ذلك: أن كل خط جائز بشرطه، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق على خط واحد. فهم المسلمون هذا من روح الإسلام، فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. وذلك من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب، فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين، والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين، ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها، وكذا يقال في سائر الشعوب. وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي، وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه. ولقائل أن يقول: إن في هذا الرأي تضييقا على نشر القرآن. وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة، وكتبوها بكل قلم، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة. فما بال المسلمين، وغيرهم يتوسعون، ولنا أن نقول في الجواب: إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها. ولكن المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة واحدة، وهي تسهيل

تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية. وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا بقواعد الضرورات، ككونها تبيح المحظورات، وكونها تقدر بقدرها، فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه، فليكتبوه ما داموا في حاجة إليه، ثم ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك؛ ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين. وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم. فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذا في كلمها وخطها ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا؟ ؟ ! ! وفي جواب الشيخ بخيت مباحث ليس من غرضنا التوسع فيها، ونكتفي بأن نقول: إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف، فأثر سلمان إن أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم، وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم. وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي قريب من العربي، ولا دخل له أيضا بلين الألسنة. والصواب: أن الأثر غير صحيح، وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد الفرس الحنفية، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله؟ ! على أن فيه ما في الذي قبله وهو أن القراءة بالفارسية

لا يلين بها اللسان للعربية، إلا أن يقال: كان يقرأ الترجمة حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها. انتهى كلام الشيخ محمد رشيد.

رابعا الخلاصة

رابعا: الخلاصة: 1 - ذكر ناشرو نسخ المصاحف التي كتبوها بالحروف اللاتينية: مقدمات بينوا فيها الحروف اللاتينية، ورمزوا لما يتبعها من شكل ومد وغنة ووقف ووصل، وذكروا معها توجيهات لكيفية استعمالها كتابة وقراءة، تسهيلا - في نظرهم - على من يريد كتابة القرآن وقراءته على هذه الطريقة، ومحافظة على القرآن من دخول أي تغيير عليه. 2 - يتبين بالمقارنة بين النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الأولى والثانية أن بينهما اختلافا فيما يأتي: أ - في الحروف اللاتينية التي اقترحت لتكون بديلا عن الحروف العربية التي ليس لها مقابل في اللاتينية. ب - في حذف (أل) القمرية و (أل) الشمسية من النسخة الهندية وإثباتهما في الإندونيسية، وحذف الحرفين اللذين جعلا علامة على التنوين مطلقا من آخر الكلمة الأخيرة من كل آية من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في النسخة الإندونيسية الأولى، وحذف بديل النون والتنوين في بعض أنواع الإدغام من النسخة الهندية والإندونيسية الثانية وإثباتهما في الإندونيسية الأولى. . إلى غير ذلك من الحذف في بعضها والإثبات في الآخر. ج - في رسم الكلمة بتجزئتها إلى مقطعين وعدم تجزئتها، والفصل بين

حرفي المضعف بخط كالفتحة وعدم الفصل. . . إلخ. وكل ذلك يتبين بمراجعة السور السبع في النسخ الثلاث المكتوبة بالحروف اللاتينية والمقارنة بينهما. 3 - لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية مبررات: أ - منها: تسهيل كتابته وقراءته على كثير من الأعاجم، وتيسير طريق البلاغ، والدعوة إلى الإسلام، وإقامة الحجج، وتعميم ذلك في السواد الأعظم من غير العرب، ولا شك أن هذا من مقاصد الشريعة، ونظيره جمع أبي بكر رضي الله عنه القرآن، خشية ضياعه بموت القراء وجمع عثمان رضي الله عنه القرآن على قراءة واحدة من السبع التي بها نزل القرآن، خشية الاختلاف، ونقط القرآن وشكله في عهد بني أمية، تسهيلا لقراءته على من استعجمت ألسنتهم من أبناء العرب وصيانة لهم من اللحن في التلاوة، وكل ذلك ليس بمنكر، بل فيه تحقيق مقاصد الشريعة، تسهيلا ودعوة وبلاغا وحفظا للقرآن وصيانة له، فليرخص في كتابته بالحروف اللاتينية لمثل ذلك. ب - ومنها: أن القرآن لم ينزل مكتوبا، بل نزل وحيا متلوا، فكتبه الصحابة بما كان معهودا لديهم من الحروف، وليس هنا نص من الكتاب أو السنة يلزم الأمة بذلك، فلم لا تجوز كتابة المصحف بحروف لاتينية مثلا؛ لوجود الداعي إلى ذلك مع عدم الضرر. ونوقش ذلك بأمور: أ - منها: أن تعلم الأعاجم اللغة العربية سهل لا حرج فيه ولا خطر، فإنه عهد أن كثيرا من الناس يتعلمون غير لغتهم حبا للاستطلاع ووسيلة

لدراسة بعض العلوم، وحرصا على تبادل المنافع، وأن كثيرا من الأعاجم الذين أسلموا تعلموا اللغة العربية وخدموا الإسلام، بل تحولت دول عن لغتها إلى اللغة العربية. بخلاف ما ذكر من جمع القرآن ونقطه وشكله، فإن المصلحة لا تتحقق إلا بذلك، ولا يدفع الخطر المتوقع إلا به، وعلى هذا لا اعتبار بما ادعي أنه نظائر، ولا للاستشهاد به للترخيص في كتابة القرآن بحروف غير عربية؛ لوجود الفارق. ب - كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف غير العربية والوحي ينزل ولم يتخذ منهم من يكتب القرآن بغير العربية من الفارسية والحبشية والسريانية ونحوها، تيسيرا على الأمة وإعانة على تعميم البلاغ وإقامة الحجة، مع علمه بعموم الرسالة وعلم الله تعالى بأحوال الأمم واختلاف لغاتها، فإعراضه صلى الله عليه وسلم عما سمي دواعي ومبررات لكتابة القرآن بالحروف اللاتينية، وتقرير الله له على ذلك فيه إلغاء لتلك المبررات وإهدار لها فلا يصح بناء الترخيص عليها. ج - أن الذين كتبوا المصحف بالحروف اللاتينية أحسوا بأن مجرد كتابته بها لا يحقق التسهيل؛ لوجود حروف عربية ليس لها مقابل الحروف اللاتينية، فاضطروا أن يقترحوا لها مقابلا، واضطروا أن يقارنوا بين الحروف العربية وتوابعها من الشكل والمد ونحوها وبين الحروف اللاتينية والرموز التي وضعت للتوابع، واضطروا أن يضعوا إرشادات قد وصلت في بعض النسخ أربع عشرة صفحة، وهذا يحتاج تعليمه والمران عليه كتابة وقراءة إلى جهد، إن لم يزد على العربية كتابة وقراءة فهو لا ينقص عنه، وإذن فكتابة القرآن بالعربية أرجح وأسلم؛ لكونها اللغة التي

بها نزل، ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل. د - أن التجزئة في كتابة كلمات الآية، وضم جزء من حروفها إلى ما سبق وآخر إلى ما لحق - تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض؛ ليعرف البحر الذي هو منه، ويتبع ذلك صفة نطق القارئ. وتشبه أيضا النوتة الموسيقية التي يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقي وهذا من البدع التي تسيء إلى القرآن الكريم. هـ - أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به في تعليماته في كيفية الرسم الكتابي. فمثلا: نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتيني الذي جعله عوضا عن الحركة في الكتابة العربية، وأحيانا يتركه. ونجده أحيانا يثبت خطا أفقيا بين حرفي المضعف وأحيانا يتركه، من ذلك ما وقع منه في كتابته سورة الناس بالحروف اللاتينية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية، إلى غير ذلك مما ينذر بخطر، ويفضي إلى التلاعب بالقرآن الكريم، وتحريفه والإلحاد فيه، ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن في كتاب الله، ويشبهون على المسلمين، ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغيير والتبديل، وتحريف الكلام عن مواضعه. 4 - هناك أمور تقتضي كتابة القرآن بالحروف العربية خاصة منها: أ - أنه كتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما إياه - بالحروف العربية، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم،

وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا، رغم وجود الأعاجم وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (¬1) » . . الحديث. فوجبت المحافظة على ذلك؛ عملا بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وعملا بإجماع الأمة. ب - أن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها، فهي قابلة للتغيير عدة مرات بحروف أخرى، فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك، ويحصل الخلط على مر الأيام، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب، كما حصل بالنسبة للكتب السابقة، فوجب أن يمنع ذلك، محافظة على أصل الإسلام، وسدا لذريعة الشر والفساد. ج - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي الناس، فيقترح كل أن يكتب بلغته وبما يجد من اللغات، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع، فيجب أن يصان كتاب الله عن ذلك؛ صيانة للإسلام، وقد تنبه علماء الإسلام لذلك فحرموا كتابته بغير العربية، حفظا للقرآن وصيانة له من العبث والاضطراب. وليس فيما ذكر استقصاء لمكامن الشر، ومثار الخطر، وإنما هي نماذج مما وقع من الاختلاف والخلط والأخطاء وتمثيل لما يخشى منه وقوع البلاء. هذا ولم تتعرض اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لما جاء في مقدمة النسخة الهندية من الكذب في الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفضيل حبر العالم على دم الشهيد، ومن الغلو في الثناء على محمد ¬

_ (¬1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .

عبد الحليم الياسي بجعل ما اقترحه ونشره من كتابة القرآن بالحروف اللاتينية مما يتحدى به كما يتحدى بالقرآن، كما لم تتعرض اللجنة لما قد يكون من أخطاء في ترجمة معاني القرآن المطبوعة مع الترجمة الصوتية في النسخة الهندية والنسخة الإندونيسية الثانية، فإن ذلك ليس من موضوع بحثها الذي كلفت به، ثم إن ترجمة معاني القرآن موضوع مستقل يحتاج إلى بحث خاص في حكمه وفي طريق تطبيقه وفيما وقع منه، وقد خاض العلماء فيه من قبل، ونرجو أن يوفقهم الله تعالى لإكمال ما بدءوه. والله المستعان. وأخيرا: فالبحث في هذا الموضوع للكشف عن جوانبه وإيضاح الحق فيه وإن كان مهما فأهم منه اللقاء بمن نشروا نسخا من الترجمة الصوتية للقرآن، ومن أثنوا عليها من العلماء والبحث معهم في الموضوع، وأهم من الأمرين قيام الحكام في الدول الإسلامية بواجبهم نحو حفظ كتاب الله بعد ظهور الحق. . والله الموفق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء بشأن كتابة المصحف باللغة اللاتينية

قرار هيئة كبار العلماء رقم (67) وتاريخ 21 \ 10 \ 1399هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399 هـ. إلى الحادي والعشرين منه اطلع المجلس على الخطاب الوارد من مبعوث الرئاسة بسفارة المملكة العربية السعودية بجاكرتا إلى مدير إدارة الدعوة في الخارج برقم 9 \ 1 \ 15 \ 155 وبدون تاريخ، المتضمن: أنه ظهر في أسواق إندونيسيا مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينية. وسؤاله عما ينبغي اتخاذه حياله والذي أحيل إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بخطابه رقم 255 \ 1 \ د وتاريخ 27 \ 1 \ 1399 هـ. . واطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في [حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية] . . بناء على طلب المجلس في الدورة الاستثنائية الثالثة لما عرض الخطاب في تلك الدورة. وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه - قرر المجلس بالإجماع: تحريم كتابة القرآن بالحروف اللاتينية أو غيرها من حروف اللغات الأخرى، وذلك للأسباب التالية: 1 - أن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين حروفه ومعانيه، قال تعالى:

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (¬2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (¬3) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬4) والمكتوب بالحروف اللاتينية لا يسمى قرآنا؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬5) وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (¬6) 2 - أن القرآن كتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما إياه بالحروف العربية، ووافق على ذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وجود الأعاجم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (¬7) » . . الحديث، فوجبت المحافظة على ذلك؛ عملا بما كان في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وعملا بإجماع الأمة. 3 - أن حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها فهي قابلة للتغيير مرات بحروف أخرى فيخشى إذا فتح هذا الباب أن يفضي إلى التغيير كلما اختلف الاصطلاح، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويحصل التخليط على مر الأيام ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن للاختلاف والاضطراب كما حصل بالنسبة للكتب السابقة، فوجب أن يمنع ذلك محافظة على أصل الإسلام وسدا لذريعة الشر والفساد. 4 - يخشى إذا رخص في ذلك أو أقر أن يصير القرآن ألعوبة بأيدي ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآية 192 (¬2) سورة الشعراء الآية 193 (¬3) سورة الشعراء الآية 194 (¬4) سورة الشعراء الآية 195 (¬5) سورة الشورى الآية 7 (¬6) سورة النحل الآية 103 (¬7) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .

الناس فيقترح كل أن يكتبه بلغته وبما يجد من اللغات، ولا شك أن ذلك مثار اختلاف وضياع، فيجب أن يصان القرآن عن ذلك؛ صيانة للإسلام، وحفظا لكتاب الله من العبث والاضطراب. 5 - أن كتابة القرآن بغير الحروف العربية يثبط المسلمين عن معرفة اللغة العربية التي بواسطتها يعبدون ربهم، ويفهمون دينهم، ويتفقهون فيه. هذا وبالله التوفيق. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء رئيس الدورة عبد الله بن محمد بن حميد محمد بن علي الحركان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... عبد الله خياط ... عبد العزيز بن صالح راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... غائب عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن قعود ... عبد المجيد حسن ... غائب ... ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

حكم طواف الوداع

(7) حكم طواف الوداع هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

حكم طواف الوداع إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فبناء على المحضر رقم (11) من محاضر دورة مجلس هيئة كبار العلماء الثالثة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين 14 \ 10 إلى 21 \ 10 \ 1398 هـ المتضمن اقتراح إعداد بحث في (حكم طواف الوداع) للخارج من مكة، سواء كان حاجا أو معتمرا أو غيرهما، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر ومن كان دون ذلك. .؟ وهل يفرق بين من أراد الرجوع لأداء طواف الوداع وبين غيره. . .؟ أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك يشمل ما يلي: أولا: طواف الوداع نسك مستقل أو من مناسك الحج. ثانيا: الخلاف في حكمه مع الأدلة وما يترتب على ذلك. ثالثا: هل يطلب من كل من نفر عن البيت بعد النسك أو ممن ينفر خارج الحرم أو خارج المواقيت أو خارج مسافة القصر؟ رابعا: متى يطالب بالرجوع من ترك الوداع وهل يرجع محرما أم لا؟ خامسا: هل يجوز لمن أدى النسك أن ينفر مؤقتا من أجل شدة الزحام ثم

يعود ليودع؟ ونظرا لترابط وتداخل نصوص العلماء ومناقشتهم لهذه الأمور رأينا ذكر ما تيسر نقله فيها مجتمعا، وأتبعناه بخلاصة لما تضمنته هذه النقول، وبالله التوفيق. وفيما يلي ذكر ذلك:

نقول عن الطواف من كتب الحديث وشروحها

1 - النقول من كتب الحديث وشروحها: أ - قال البخاري رحمه الله: (حدثنا مسدد حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض (¬1) » . حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به (¬2) » ، تابعه الليث حدثني خالد عن سعيد عن قتادة: أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: (باب طواف الوداع) قال النووي: (طواف الوداع واجب يلزم بتركه دم على الصحيح عندنا، وهو قول أكثر العلماء، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه) انتهى. والذي رأيته في [الأوسط] لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء. قوله: (أمر الناس) كذا في رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه على البناء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1756) ، سنن الدارمي المناسك (1873) .

لما لم يسم فاعله والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله: (خفف) ، وقد رواه سفيان أيضا عن سليمان الأحول عن طاوس فصرح فيه بالرفع، ولفظه عن ابن عباس قال: «كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » أخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما، فكأن طاوسا حدث به على الوجهين؛ ولهذا وقع في رواية كل من الراويين عنه ما لم يقع في رواية الآخر، وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده. قوله: (عن قتادة) سيأتي بعد باب من وجه آخر عن ابن وهب التصريح بتحديث قتادة، ويأتي الكلام هناك، والمقصود منه هنا قوله في آخره: (ثم ركب إلى البيت فطاف به) . قوله: (تابعه الليث) أي: تابع عمرو بن الحارث في روايته لهذا الحديث عن قتادة بطريق أخرى إلى قتادة، وقد وصله البزار والطبراني من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث، وخالد شيخ الليث هو ابن يزيد، وذكر البزار والطبراني أنه تفرد بهذا الحديث عن سعيد، وأن الليث تفرد به عن خالد، وأن سعيد بن أبي هلال لم يرو عن قتادة عن أنس غير هذا الحديث) (¬2) . قال البخاري أيضا: (باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) [فتح الباري] (3 \ 585، 586) .

الوداع؟) . حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مهلين بالحج في أشهر الحج وحرم الحج، فنزلنا بسرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا. وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجال من الصحابة ذوي قوة الهدي، فلم تكن لهم عمرة، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: " ما يبكيك؟ " قلت: سمعتك تقول لأصحابك ما قلت، فمنعت العمرة. قال: " وما شأنك؟ " قلت: لا أصلي. قال: " فلا يضرك أنت من بنات آدم كتب عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك عسى الله أن يرزقكها " قالت: فكنت حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب، فدعا عبد الرحمن فقال: " اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما أنتظركما هاهنا " فأتينا في جوف الليل، فقال: " فرغتما؟ " قلت: نعم، فنادى بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس، ومن طاف بالبيت قبل صلاة الصبح، ثم خرج موجها إلى المدينة (¬1) » . وقال الحافظ: قوله: (باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع) أورد فيه حديث عائشة في عمرتها من التنعيم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: «اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما (¬2) » . . الحديث. قال ابن بطال: (لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع كما فعلت عائشة) انتهى. وكأن البخاري لما لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1788) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) .

للوداع بعد طواف العمرة لم يبت الحكم في الترجمة، وأيضا فإن قياس من يقول: إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا، ويستفاد من قصة عائشة أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن - إن قلنا: إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع - أن تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع إجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معا. قوله في الحديث: «فنزلنا بسرف (¬1) » في رواية أبي ذر وأبي الوقت (سرف) بحذف الباء، وكذا لمسلم من طريق إسحاق بن عيسى بن الطباع عن أفلح قوله لأصحابه: «من لم يكن معه هدي (¬2) » ظاهره أن أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بفسخ الحج إلى العمرة كان بسرف قبل دخولهم مكة، والمعروف في غير هذه الرواية أن قوله لهم ذلك بعد دخول مكة، ويحتمل التعدد. قوله: «قلت: لا أصلي (¬3) » كنت بذلك عن الحيض وهي من لطيف الكنايات. قوله: «كتب عليك (¬4) » كذا للأكثر على البناء لما لم يسم فاعله، ولأبي ذر: «كتب الله عليك (¬5) » ، وكذا لمسلم. قوله: «فكوني في حجتك (¬6) » ، وفي رواية أبي ذر: «في حجك (¬7) » ، وكذا لمسلم. قوله: «حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب (¬8) » في هذا السياق اختصار بينته رواية مسلم بلفظ: «حتى نزلنا منى فتطهرت ثم طفت بالبيت فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب (¬9) » . قوله: (فدعا عبد الرحمن) ، وفي رواية مسلم: (عبد الرحمن بن أبي بكر) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1709) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/266) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬4) صحيح البخاري الحج (1788) . (¬5) صحيح البخاري الحج (1788) . (¬6) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬7) سنن أبو داود المناسك (1989) . (¬8) صحيح البخاري الحج (1788) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬9) صحيح البخاري الحج (1643) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) .

قوله: «اخرج بأختك الحرم (¬1) » ، في رواية الكشميهني: " من الحرم " وهي أوضح، وكذا لمسلم. قوله: «فأتينا في جوف الليل (¬2) » في رواية الإسماعيلي: «من آخر الليل (¬3) » وهي أوفق لبقية الروايات، وظاهرها أنها أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم قبل أبواب أنها قالت: «فلقيته وأنا منهبطة وهو مصعد (¬4) » ) (¬5) . ب - وقال مسلم رحمه الله: حدثنا سعيد بن منصور، وزهير بن حرب قالا: حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬6) » . قال زهير: (ينصرفون كل وجه) . ولم يقل: (في) . حدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة: (واللفظ لسعيد) ، قالا: حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (¬7) » . حدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج، أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس، قال: (كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟) فقال له ابن عباس: إما لا، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: (ما أراك إلا قد صدقت) . حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث (ح) ، وحدثنا محمد بن رمح، حدثنا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1788) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1711) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1589) ، سنن أبو داود الضحايا (2811) ، سنن ابن ماجه الأضاحي (3161) ، مسند أحمد بن حنبل (2/152) . (¬4) صحيح البخاري الحج (1561) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، سنن الدارمي المناسك (1862) . (¬5) [فتح الباري] (3 \ 612) . (¬6) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬7) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

الليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة وعروة أن عائشة قالت: حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟ " قالت: فقلت: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلتنفر (¬1) » . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المغازي (4401) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك الحج (822) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

حدثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى، قال أحمد: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب بهذا الإسناد، قالت: (طمثت صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد ما أفاضت طاهرا) بمثل حديث الليث. وحدثنا قتيبة، يعني: ابن سعيد، حدثنا ليث (ح) ، وحدثنا زهير بن حرب، حدثنا سفيان (ح) ، وحدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة: (أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفية قد حاضت) ، بمعنى حديث الزهري، وحدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا أفلح عن القاسم بن محمد عن عائشة، قالت: «كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أحابستنا صفية؟ " قلنا: قد أفاضت، قال: فلا إذن (¬1) » . حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله، إن صفية بنت حيي قد حاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعلها تحبسنا، ألم تكن قد طافت معكن بالبيت؟ ! " قالوا: بلى: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

قال: فاخرجن (¬1) » . حدثني الحكم بن موسى، حدثني يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي - لعله قال - عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإنها لحابستنا، فقالوا: يا رسول الله إنها قد زارت يوم النحر، قال: " فلتنفر معكم (¬2) » . حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة (ح) ، وحدثنا عبيد الله بن معاذ - واللفظ له - حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: «لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال: " عقرى حلقى، إنك لحابستنا " ثم قال لها: " أكنت أفضت يوم النحر؟ " قالت: نعم. قال: " فانفري (¬3) » . وحدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش (ح) ، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن منصور - جميعا - عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث الحكم غير أنهما لا يذكران (كئيبة حزينة) . قال النووي رحمه الله (¬4) : (باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض) . قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬5) » فيه دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع، وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) . (¬2) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) . (¬4) [صحيح مسلم بشرح النووي] (9 \ 78 - 82) . (¬5) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين. قوله: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (¬1) » هذا دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها، ولا يلزمها دم بتركه، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع، دليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية المذكور بعده. قوله: (فقال ابن عباس: إما لا فسل فلانة الأنصارية) هو بكسر الهمزة وفتح اللام وبالإمالة الخفيفة هذا هو الصواب المشهور، وقال القاضي: ضبطه الطبري والأصيلي (أما لي) بكسر اللام، قال: والمعروف من كلام العرب فتحها إلا أن تكون على لغة من يميل، قال المازري: قال ابن الأنباري: قولهم: افعل هذا إما لا فمعناه افعله إن كنت لا تفعل غيره فدخلت ما زائدة لأن، كما قال الله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (¬2) فاكتفوا بـ (لا) عن الفعل، كما تقول العرب: (إن زارك فزره وإلا فلا) ، هذا ما ذكره القاضي، وقال ابن الأثير في [نهاية الغريب] : (أصل هذه الكلمة إن وما فأدغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها، وقد أمالت العرب (لا) إمالة خفيفة - قال - والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياء، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) سورة مريم الآية 26

وهو خطأ ومعناه إن لم تفعل هذا فليكن هذا) والله أعلم. قولها: (صفية بنت حيي) بضم الحاء وكسرها، الضم أشهر، وفي حديثها دليل لسقوط طواف الوداع عن الحائض، وأن طواف الإفاضة ركن لا بد منه، وأنه لا يسقط عن الحائض ولا غيرها، وأن الحائض تقيم له حتى تطهر، فإن ذهبت إلى وطنها قبل طواف الإفاضة بقيت محرمة، وقد سبق حديث صفية هذا وبيان إحرامه وضبطه ومعناه وفقهه في أوائل كتاب الحج في باب (بيان وجوه الإحرام بالحج) . قوله: (حدثني الحكم بن موسى حدثنا يحيى بن حمزة عن الأوزاعي لعله قال عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن عائشة) هكذا وقع في معظم النسخ، وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ، قال: وسقط عند الطبري. قوله: (لعله) قال عن يحيى بن أبي كثير، قال: وسقط لعله، قال: فقط لابن الحذاء، قال القاضي: وأظن أن الاسم كله سقط من كتب بعضهم أو شك فيه فألحقه على المحفوظ الصواب ونبه على إلحاقه بقوله: لعله. قوله: (قالوا: يا رسول الله، إنها قد زارت يوم النحر) فيه دليل لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأهل العراق أنه لا يكره أن يقال لطواف الإفاضة طواف الزيارة، وقال مالك: يكره، وليس للكراهة حجة تعتمد. قولها: (تنفر) بكسر الفاء وضمها، الكسر أفصح، وبه جاء القرآن. والله أعلم. ج - قال الزيلعي رحمه الله (¬1) : ¬

_ (¬1) [نصب الراية] (3 \ 123) .

الحديث الحادي عشر: روي أنه عليه السلام رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر، قلت: أخرج البخاري ومسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (¬1) » ، وأخرج البخاري في الحيض عن ابن عباس قال: «رخص للحائض أن تنفر بعد الإفاضة (¬2) » . قال: وكان ابن عمر يقول أولا: أنها لا تنفر، ثم رجع. وقال: (تنفر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن) . انتهى. وأخرج الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: «من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض ورخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3) » . انتهى. وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في [المستدرك] ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. د - قال الترمذي رحمه الله (¬4) : (باب ما جاء أن مكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثا) . حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد، سمعت السائب بن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي - يعني: مرفوعا - قال: «يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا (¬5) » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير هذا. قال صاحب [تحفة الأحوذي] : باب ما جاء أن مكث المهاجر بعد الصدر ثلاثا، قال في [النهاية] : (الصدر بالتحريك رجوع المسافر من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1933) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) . (¬4) [تحفة الأحوذي] (4 \ 20، 21) . (¬5) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .

مقصد، والشاربة من الورد، يقال: أصدر يصدر صدورا وصدرا. انتهى. وقال في [المجمع] : (أي: بعد الرجوع من منى وكان إقامة المهاجر بمكة حراما ثم أبيح بعد قضاء النسك ثلاثة أيام) . انتهى. قوله: (يمكث) بضم الكاف من باب نصر ينصر، أي: يقيم (المهاجر بعد قضاء نسكه) أي: بعد رجوعه من منى، كما قال في الرواية الأخرى: بعد الصدر، أي: الصدر من منى، قال النووي: (بمكة ثلاثا) أي: يجوز له مكث هذه المدة لقضاء حوائجه، ولا يجوز له الزيادة عليها، لأنها بلدة تركها لله تعالى فلا يقيم فيها أكثر من هذه المدة؛ لأنه يشبه العود إلى ما تركه لله تعالى. قال النووي: (معنى الحديث: أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة) . انتهى. قوله: (هذا حديث حسن صحيح) ، وأخرجه البخاري في الهجرة، ومسلم في الحج، وأبو داود أيضا في الحج، وأخرجه النسائي أيضا في الحج وفي الصلاة، وابن ماجه في الصلاة (وقد روي من غير هذا الوجه بهذا الإسناد مرفوعا) إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى [الصحيحين] والسنن وقد ذكرنا مواقع الحديث فيها. هـ - قال الشوكاني رحمه الله (¬1) : ¬

_ (¬1) [نيل الأوطار] (5 \ 170 - 172) .

عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وفي رواية: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (¬2) » متفق عليه، وعن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة (¬3) » رواه أحمد، وعن عائشة قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: " أحابستنا هي؟ " قلت: يا رسول الله، إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: " فلتنفر إذن (¬4) » متفق عليه. قوله: " لا ينفر أحد. . . " إلخ. فيه دليل على وجوب طواف الوداع، قال النووي: وهو قول أكثر العلماء، ويلزم بتركه دم، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، قال الحافظ: والذي رأيته لابن المنذر في [الأوسط] أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء. انتهى، وقد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وآله وسلم به ونهيه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب. قوله: (أمر الناس) بالبناء على ما لم يسم فاعله، وكذا قوله: (خفف) . قوله: " إذا كانت قد طافت طواف الإفاضة ". قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع، وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (1/370) . (¬4) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

حائضا لطوافي الوداع، فكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر فخالفناه؛ لثبوت حديث عائشة، وروى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد: (كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت قبل أن تحيض فقد فرغت، إلا عمر) . وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي عن عمر أنه قال: «ليكن آخر عهدها بالبيت (¬1) » . وفي رواية كذلك: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث عمر في حق الحائض، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت: «حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنفر، وحاضت صفية فقالت لها عائشة: حبستنا، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تنفر (¬2) » ورواه سعيد بن منصور في كتاب المناسك، وإسحاق في مسنده، والطحاوي، وأصله في البخاري، ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي، والترمذي، وصححه الحاكم، عن ابن عمر قال: «من حج فليكن آخر عهده البيت إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (¬3) » . قوله: " فلتنفر إذن " أي: فلا حبس علينا حينئذ، لأنها قد أفاضت فلا مانع من التوجه والذي يجب عليها قد فعلته، وفي رواية للبخاري: " فلا بأس انفري "، وفي رواية له: " اخرجي "، وفي رواية: " فلتنفر ". ومعانيها متقاربة، والمراد بها الرحيل من منى إلى جهة المدينة، واستدل بقوله: " أحابستنا " على أن أمير الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل من تحيض ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .

ممن لم تطف للإفاضة، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد بتأخير الرحيل إكرام صفية كما احتبس بالناس على عقد عائشة، وأما ما أخرجه البزار من حديث جابر، والثقفي في فوائده من حديث أبي هريرة مرفوعا: «أميران وليسا بأميرين: من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتى تدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تحج أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الركن فليس لهم أن ينصرفوا حتى تطهر أو تأذن لهم» ففي إسناد كل واحد منها ضعيف شديد الضعف كما قال الحافظ.

نقول عن الطواف من كتب الفقهاء

2 - النقول من كتب الفقهاء: أ - الحنفية: قال صاحب [المبسوط] (¬1) : الثالث: طواف الصدر: وهو واجب عندنا، سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى، قال: لأنه بمنزلة طواف القدوم ألا ترى أن كل واحد منها يأتي به الآفاقي دون المكي، وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء. (ولنا) في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف (¬2) » ورخص للنساء الحيض، والأمر دليل الوجوب، وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب أيضا، وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل من إحرام الحج، فطواف الصدر لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهي مقامه بها، وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر، ويسمى هذا: طواف ¬

_ (¬1) [المبسوط] (4 \ 34، 35) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .

الوداع، فإنما يجب على من يودع البيت دون من لا يودعه. فأما الطواف الرابع: فهو طواف العمرة: وهو الركن في العمرة، وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم، أما طواف القدوم فلأنه كما وصل إلى البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك - فلا يشتغل بغيره بخلاف الحج، فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن يجيء وقت الطواف الذي هو ركن، وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى في العمرة: طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج، ولكنا نقول: إن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر، كالوقوف في الحج؛ لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك، وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك، ولأن ما هو معظم الركن مقصود، وطواف الصدر تبع يجب لقصد توديع البيت والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا. وقال صاحب [بدائع الصنائع] (¬1) : (فصل) : وأما طواف الصدر: فالكلام فيه يقع في مواضع، في بيان وجوبه، وفي بيان شرائطه، وفي بيان قدره وكيفيته، وما يسن له أن يفعله بعد فراغه منه، وفي بيان وقته، وفي بيان مكانه وحكمه إذا نفر ولم يطف. أما الأول: فطواف الصدر واجب عندنا، وقال الشافعي: سنة، وجه قوله مبني على أنه لا يفرق بين الفرض والواجب، وليس بفرض بالإجماع ¬

_ (¬1) [بدائع الصنائع] (2 \ 142، 143) .

فلا يكون واجبا لكنه لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على المواظبة، وأنه دليل السنة، ثم دليل عدم الوجوب أنا أجمعنا على أنه لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجبا لوجب عليهما، كطواف الزيارة، ونحن نفرق بين الفرض والواجب على ما عرف، ودليل الوجوب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (¬1) » ومطلق الأمر لوجوب العمل، إلا أن الحائض خصت عن هذا العموم بدليل، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء الحيض ترك طواف الصدر لعذر الحيض ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركه لعذر أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة. والله أعلم. (فصل) : وأما شرائطه: فبعضها شرائط الوجوب، وبعضها شرائط الجواز. أما شرائط الوجوب فمنها: أن يكون من أهل الآفاق فليس على أهل مكة، ولا من كان منزله داخل المواقيت إلى مكة طواف الصدر إذا حجوا؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعا للبيت، ولهذا يسمى: طواف الوداع، ويسمى طواف الصدر لوجوده عند صدور الحجاج ورجوعهم إلى وطنهم، وهذا لا يوجد في أهل مكة؛ لأنهم في وطنهم، وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة، وقال أبو يوسف: أحب إلي أن يطوف المكي طواف الصدر؛ لأنه وضع لختم أفعال الحج، وهذا المعنى يوجد في أهل مكة، ولو نوى الآفاقي الإقامة بمكة أبدا بأن توطن بها واتخذها دارا فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن نوى الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول، وإما أن نوى بعدما حل النفر الأول، فإن نوى الإقامة قبل أن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .

أي: لا يجب عليه بالإجماع، وإن نوى بعدما حل النفر الأول لا يسقط، وعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يسقط عنه إلا إذا كان شرع فيه، ووجه قوله: إنه لما نوى الإقامة صار كواحد من أهل مكة، وليس على أهل مكة طواف الصدر، إلا إذا شرع فيه؛ لأنه وجب عليه بالشروع فلا يجوز له تركه، بل يجب عليه المضي فيه، ووجه قول أبي حنيفة: أنه إذا حل له النفر فقد وجب عليه الطواف لدخول وقته، إلا أنه مرتب على طواف الزيارة، كالوتر مع العشاء، فنية الإقامة بعد ذلك لا تعمل، كما إذا نوى الإقامة بعد خروج وقت الصلاة. ومنها: الطهارة من الحيض والنفاس، فلا يجب على الحائض والنفساء حتى لا يجب عليهما الدم بالترك، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للحيض ترك هذا الطواف لا إلى بدل، فدل أنه غير واجب عليهن، إذ لو كان واجبا لما جاز تركه إلا إلى بدل وهو الدم، فأما الطهارة عن الحدث والجنابة فليست بشرط للوجوب، ويجب على المحدث والجنب؛ لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك عذرا. والله أعلم. (فصل) : وأما شرائط جوازه، فمنها: النية، لأنه عبادة فلا بد له من النية، فأما تعيين النية فليس شرطا حتى لو طاف بعد طواف الزيارة لا يعين شيئا، أو نوى تطوعا كان للصدر؛ لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه، كما في صوم رمضان، ومنها: أن يكون بعد طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوي شيئا، أو نوى تطوعا، أو الصدر يقع عن الزيارة لا عن الصدر؛ لأن الوقت له طواف، وطواف الصدر مرتب عليه فأما النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف

الصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر، فإن قيل: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (¬1) » ، فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت، ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به، فيجب أن لا يجوزان إذ لم يأت بالمأمور به، فالجواب: أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة، والطواف آخر مناسكه بالبيت وإن تشاغل بغيره، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل، وكذا الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه، فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به، والأفضل: أن يعيد طاهرا، فإن لم يعد جاز وعليه شاة إن كان جنبا؛ لأن النقص كثير فيجبر بالشاة، كما لو ترك أكثر الأشواط، وإن كان محدثا ففيه روايتان عن أبي حنيفة: في رواية: عليه صدقة وهي الرواية الصحيحة، وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن النقص يسير فصار كشوط أو شوطين، وفي رواية عليه شاة؛ لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة، وكذا ستر عورته ليس بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز، ولكن يجب عليه الدم، وكذا الطهارة عن النجاسة إلا أنه يكره ولا شيء عليه، والفرق ما ذكرنا في طواف الزيارة. والله أعلم. (فصل) وأما قدره وكيفيته فمثل سائر الأطوفة، ونذكر السنن التي تتعلق به في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى. (فصل) : وأما وقته فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: ينبغي للإنسان إذا أراد السفر أن يطوف طواف الصدر حين يريد أن ينفر، وهذا بيان الوقت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .

المستحب لا بيان أصل الوقت، ويجوز في أيام النحر وبعدها ويكون أداء لا قضاء، حتى لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا - جاز طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف، إلا أن الأصل أن يكون طوافه عند الصدر؛ لما قلنا، ولا يلزمه شيء بالتأخير عن أيام النحر بالإجماع. (فصل) : وأما مكانه فحول البيت لا يجوز إلا به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (¬1) » والطواف بالبيت هو: الطواف حوله، فإن نفر ولم يطف، يجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات، لأنه ترك طوافا واجبا، وأمكنه أن يأتي به من غير الحاجة إلى تجديد الإحرام، فيجب عليه أن يرجع ويأتي به، وإن جاوز الميقات لا يجب عليه الرجوع، لأنه لا يمكنه الرجوع إلا بالتزام عمرة بالتزام إحرامها، ثم إذا أراد أن يمضي مضى وعليه دم، وإن أراد أن يرجع أحرم بعمرة ثم رجع، وإذا رجع يبتدئ بطواف العمرة ثم بطواف الصدر ولا شيء عليه لتأخيره عن مكانه. وقالوا: الأولى أن لا يرجع ويريق دما مكان الطواف؛ لأن هذا أنفع للفقراء وأيسر عليه، لما فيه من دفع مشقة السفر وضرر التزام الإحرام. والله أعلم. اهـ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .

المالكية

ب - فقهاء المالكية: قال ابن رشد رحمه الله (¬1) : القول في أعداده وأحكامه: ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد] (1 \ 273) .

وأما أعداده: فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الوداع، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة، وأنه المعني بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1) وأنه لا يجزئ عنه دم، وجمهورهم على: أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة؛ لكونه قبل يوم النحر، وقالت طائفة من أصحاب مالك: إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة، كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد، وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة، وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر: أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج إلا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة على سنة طواف القدوم من الرمل، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة، كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم، وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين، طواف للعمرة لحله منها، وطواف للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور، وأما المفرد فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر، واختلفوا في القارن: فقال مالك ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 29

والشافعي وأحمد وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى: على القارن طوافان وسعيان، ورووا هذا عن علي وابن مسعود؛ لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه، فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا. وقال الدسوقي (¬1) رحمه الله: حاصل المسألة: أن الخارج إلى مكة إذا قصد التردد لها فلا وداع عليه مطلقا وصل للميقات أم لا، وإن قصد مسكنه أو الإقامة طويلا فعليه الوداع مطلقا، وإن خرج لاقتضاء دين أو زيارة أهل نظر؛ فإن خرج لنحو أحد المواقيت ودع، وإن خرج لدونها كالتنعيم فلا وداع، هذا محصل كلام (ح) . قوله: (لا لقريب كالتنعيم والجعرانة) أي: ما لم يخرج ليقيم فيه؛ لكونه مسكنه، أو ليقيم فيه طويلا وإلا طلب منه. قوله: (وإن صغيرا) مبالغة في قوله وندب طواف الوداع إن خرج لكالجحفة، أي: وإن كان ذلك الخارج صغيرا، وظاهره ولو كان غير مميز فيفعله عنه وليه. قوله: (وتأدى. . إلخ) الحاصل أن طواف الوداع ليس مقصودا لذاته، بل يكون آخر عهده من البيت الطواف، فلذلك يتأدى بطواف الإفاضة أو ¬

_ (¬1) [حاشية الدسوقي] (2 \ 47) .

العمرة، ولا يكون سعيه لها طولا حيث لم يقم عندها إقامة تقطع حكم التوديع، والمراد بتأديه بهما: أنه لا يستحب لمن طاف للإفاضة أو للعمرة، ثم خرج من فوره أن يطوف للوداع، بل يسقط عنه الطلب بما ذكر، ويحصل له فضل الوداع إن نواه بما ذكر، قياسا على تحية المسجد.

الشافعية

ج - فقهاء الشافعية: قال النووي رحمه الله (¬1) : قال المصنف رحمه الله: (إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع، فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف، وهل يجب طواف الوداع أم لا؟ فيه قولان: (أحدهما) : أنه يجب، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬2) » . (والثاني) : لا يجب؛ لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه، فإن قلنا: إنه واجب وجب بتركه الدم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك نسكا فعليه دم» . وإن قلنا: لا يجب، لم يجب بتركه دم؛ لأنه سنة فلا يجب بتركه دم، كسائر سنن الحج، وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد بطوافه عن الوداع؛ لأنه لا توديع مع المقام، فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع، وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا - لم يعد الطواف؛ لأنه لا يصير بذلك مقيما، وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكره (فإن قلنا) : إنه واجب نظرت، فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه الدم، فإن عاد ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (8 \ 253 - 257) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

وطاف لم يسقط الدم؛ لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول، فإن ذكر ذلك وهو في مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم؛ لأنه في حكم المقيم، ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض (¬1) » ، فإن نفرت الحائض ثم طهرت، فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف) . (الشرح) حديث ابن عباس الأول: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده (¬2) » رواه مسلم، وحديثه الآخر: (أمر الناس. .) إلى آخره، رواه البخاري ومسلم، وحديث: «من ترك نسكا فعليه دم» سبق بيانه في هذا الباب مرات. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال: " عقرى، حلقى، إنك لحابستنا " ثم قال لها: " أكنت أفضت يوم النحر؟ " قالت: نعم. قال: " فانفري (¬3) » رواه البخاري ومسلم. والوداع بفتح الواو، وتنفر بكسر الفاء. أما الأحكام ففيها مسائل: (إحداها) : قال أصحابنا: من فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه سواء كان من أهلها أو غريبا، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما سبق، وإذا طاف صلى ركعتي الطواف، وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما: أصحهما: أنه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬3) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

واجب، والثاني: سنة، وحكي طريق آخر أنه سنة قولا واحدا، حكاه الرافعي وهو ضعيف غريب. والمذهب: أنه واجب. قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما هذا نصه في [الأم] والقديم، والاستحباب هو نصه في الإملاء، فإن تركه أراق دما (فإن قلنا) : سنة فالدم سنة، ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع إن قلنا هو واجب. والله أعلم. (الثانية) : إذا خرج بلا وداع وقلنا يجب طواف الوداع عصى، ولزمه العود للطواف ما لم يبلغ مسافة القصر من مكة، فإن بلغها لم يجب العود بعد ذلك، ومتى لم يعد لزمه الدم، فإن عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم، وإن عاد بعد بلوغها فطريقان: (أصحهما) وبه قطع الجمهور: لا يسقط. (والثاني) : حكاه الخراسانيون وجهان: (أصحهما) : لا يسقط، (والثاني) : يسقط. (الثالثة) : ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع ولا دم عليها لتركه؛ لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام، وتدعو بما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع؛ لزوال عذرها، وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف، وإن كان بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر فقد نص الشافعي: أنه لا يلزمها، ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه العود. وللأصحاب طريقان: (المذهب) الفرق كما نص عليه وبه قطع المصنف والجمهور؛

لأنه مقصر بخلاف الحائض. (والطريق الثاني) : حكاه الخراسانيون فيهما قولان: (أحدهما) : يلزمهما، (والثاني) : لا يلزمهما. (فإن قلنا) : لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم؟ فيه طريقان: المذهب وبه قطع المصنف والجمهور بنفس مكة، والثاني: حكاه جماعة من الخراسانيين، فيه وجهان أصحهما هذا، والثاني الحرم، وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها، وإن نفرت في يوم طهرها لزمها طواف الوداع. (الرابعة) : ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال، ويعقبه الخروج بلا مكث، فإن مكث نظر: إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض لزمه إعادة الطواف، وإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما، فهل يحتاج إلى إعادته؟ فيه طريقان: قطع الجمهور بأنه لا يحتاج، وذكر إمام الحرمين فيه وجهين، ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم يعد الطواف، نص عليه الشافعي في الإملاء، واتفق عليه الأصحاب. والله أعلم. (الخامسة) : حكم طواف الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط، وفيه وجه لأبي يعقوب الأيبوردي أنه يصح بلا طهارة وتجبر الطهارة بالدم، وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم، وهو غلط ظاهر. والله تعالى أعلم. (السادسة) : هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة؟ فيه خلاف، فقال إمام الحرمين والغزالي: هو من المناسك وليس على الحاج

والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه، وقال البغوي والمتولي وغيرهما: ليس طواف الوداع من المناسك، بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر سواء كان مكيا أو آفاقيا، وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام، قال الرافعي: ولأن الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع، وكذا الآفاقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه، ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج، هذا كلام الرافعي، ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك ما ثبت في [صحيح مسلم] وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا (¬1) » وجه الدلالة أن طواف الوداع يكون عند الرجوع وسماه قبله قاضيا للمناسك، وحقيقته أن يكون قضاها كلها. والله أعلم. (فرع) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي: أن طواف الوداع يتوجه على كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، قال: ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه، والصحيح المشهور: أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة؛ لعموم الأحاديث وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره. (فرع) قد ذكرنا أنه لا يجوز أن ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه، فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع، ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه؟ قال صاحب البيان: اختلف أصحابنا المتأخرون فيه، فقال ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .

الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا قد أرادها، ومنهم من قال: لا يجزئه، وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الحديث؛ لأن الشافعي قال: وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله، هذا كلام صاحب البيان، وهذا الثاني هو الصحيح وهو مقتضى كلام الأصحاب. والله أعلم. (فرع) قال صاحب البيان: قال الشيخ أبو نصر في المعتمد: ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا، وقال سفيان الثوري: يلزمه الدم. دليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع. والله أعلم. (فرع) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم، ثم أراد أن يعود إليه وقلنا: دخول الحرم يوجب الإحرام. قال الدارمي: يلزم الإحرام؛ لأنه دخول جديد - قال - ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام. والله أعلم.

الحنابلة

د - فقهاء الحنابلة: قال ابن قدامة رحمه الله (¬1) : (مسألة) قال: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت) . وجملة ذلك: أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها، أو ¬

_ (¬1) [المغني] (3 \ 458 - 462) .

الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه؛ لأن الوداع من المفارق لا من الملازم، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف، ولا يصح؛ لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » وهذا ليس بنافر، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحسن والحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور، وقال الشافعي في قول له: لا يجب بتركه شيء؛ لأنه يسقط عن الحائض، فلم يكن واجبا كطواف القدوم، ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم. (ولنا) ما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (¬2) » متفق عليه، ولمسلم قال: كان الناس ينصرفون كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬3) » . وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى، وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف، ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة، ويسمى طواف الوداع؛ لأنه لتوديع البيت، وطواف الصدر؛ لأنه عند صدور الناس من مكة، ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » . (فصل) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور، وقياس قول مالك، ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر، وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام، بدليل سقوط دم المتعة عنهم. (ولنا) عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬2) » ، ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد. (فصل) فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه، كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة، وعنه: لا يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى، كالصلاتين الواجبتين. (مسألة) قال: (فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع) . قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه؛ ليكون آخر عهده بالبيت، فإن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع، أو طاف تطوعا بعد ما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع، وإن أقام شهرا أو أكثر؛ لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته، كما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

لو نفر عقيبه. (ولنا) قوله عليه السلام: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » ، ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه، كما لو طافه قبل حل النفر، فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما. (مسألة) قال: (فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم.) . هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد: من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب، ومن خرج منه فهو بعيد. ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام، وقد روي أن عمر (رد رجلا من مر إلى مكة؛ ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه، والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف للوداع. فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

فلم تسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب. (فصل) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما؛ لأنه ليس من أهل الأعذار، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله: إنه لا يلزمه إحرام؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك، وإنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها. (مسألة) قال: (والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت، ولا وداع عليها ولا فدية) . هذا قول عامة فقهاء الأمصار، وقد روي عن عمر وابنه أنهما (أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع) وكان زيد بن ثابت يقول به، ثم رجع عنه: فروى مسلم (أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا) قال طاوس: كنت مع ابن عباس إذ قال: (زيد بن ثابت يفتي أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت، فقال له ابن عباس: أما لا تسأل فلانة الأنصارية، هل

أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قال: فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت) . وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا: «يا رسول الله، إنها حائض، فقال: " أحابستنا هي؟ " قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذن (¬1) » ، ولا أمرها بفدية ولا غيرها، وفي حديث ابن عباس: (إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) . والحكم في النفساء كالحكم في الحائض؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط. (فصل) وإذا نفرت الحائض بغير وداع، فطهرت قبل مفارقة البنيان، رجعت فاغتسلت وودعت؛ لأنها في حكم الإقامة، بدليل أنها لا تستبيح الرخص، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت، أو مضت لغير عذر فعليها دم، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة، كالخارج من غير عذر. قلنا: هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر؛ لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول، وهاهنا لم يكن واجبا، ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ثم إذا نفر من منى، فإن بات بالمحصب - وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة - ثم نفر بعد ذلك فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات، وخرج، ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى، لكنه ودع البيت، وقال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬2) » فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت، فيطوف ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (942) ، سنن الدارمي المناسك (1917) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

طواف الوداع، حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه. وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه؛ ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، لكن يسقط عن الحائض. وقال ابن جاسر (¬1) وفقه الله: فإذا أتى مكة متعجل، أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره، لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف، إذا فرغ من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬2) » إن لم يقم بمكة أو حرمها، فإن أقام بمكة أو حرمها فلا وداع عليه، وهو على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، سواء كان حرا، أو عبدا، ذكرا، أو أنثى، صغيرا، أو كبيرا، وتقدم في أول فصل من هذا الكتاب حكم طواف الصغير، فليراجع عند الاحتياج إليه، ودليل ذلك ما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (¬3) » متفق عليه، وفي رواية عنه قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال ¬

_ (¬1) [مفيد الأنام ونور الظلام] (2 \ 127 - 137) . (¬2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وعن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة (¬2) » رواه أحمد، وعن عائشة قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أحابستنا هي؟ " قلت: يا رسول الله، إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال: فلتنفر إذن (¬3) » متفق عليه، ومن كان خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع، سواء أراد الرجوع إلى بلده أو غيره؛ لما تقدم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف الوداع حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه، وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة، حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها، ولكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه؛ ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك، مما هو من أسباب الرحيل فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، ولكن يسقط عن الحائض) انتهى كلامه. ومن مفهومه يؤخذ: أنه لو دخل منزله بعد طواف الوداع فاشتغل فيه بغير ما هو من أسباب الرحيل - أنه يلزمه إعادة الوداع، وبالأولى لو ودع في الليل ونام في بيته أو غيره من مساكن مكة أو ما يدخل في مسماها؛ لأن هذا يعد إقامة، وينافي مقتضى الحديث الذي نص فيه بأن يكون آخر عهده بالبيت، أما لو ودع البيت ثم انتظر وداع رفقته حتى يسافروا جميعا، فإنه لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (1/370) . (¬3) صحيح البخاري الحج (1757) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، موطأ مالك الحج (822) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

يضر هذا الانتظار إذا لم يشتغل بعد الوداع بما هو ممنوع منه. والله أعلم. وقال في [الترغيب والتلخيص] : لا يجب طواف الوداع على غير الحاج، قال في [الفروع] : (وإن خرج غير حاج فظاهر كلام شيخنا لا يودع) انتهى. قلت: كلام شيخ الإسلام يخالف ما استظهره في [الفروع] ، قال شيخ الإسلام: (وطواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة) انتهى. والمذهب: وجوبه على كل من أراد الخروج من مكة وبلده في غير الحرم. (هذا بحث نفيس مهم لا تجده في غير هذا الكتاب) وهو أن يقال: هل يجوز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بعده بمنى والبيع والشراء فيه أم لا؟ فنقول وبالله التوفيق: قال في [المنتهى وشرحه] : (فإذا أتى مكة متعجل أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى ملخصا، قال الشيخ عثمان النجدي: (فهم منه أنه لو سافر إلى بلده من منى ولم يأت مكة لا وداع عليه، صرح به في [الإقناع] عن الشيخ تقي الدين في موضع) انتهى. قلت: ألم أجد ذلك في [الإقناع] بعد المراجعة مرارا، اللهم إلا أن يكون مراده بذلك قوله الآتي: وطواف الوداع ليس من الحج. . إلى آخره. وهذا ليس بصريح فيما قاله عن الشيخ تقي الدين) . وقال النووي الشافعي: (ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع) انتهى، قال ابن حجر المكي: (أي: بعد نفره

وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى كما في [المجموع] ) انتهى، وقال ابن نصر الله البغدادي الحنبلي في حواشي الكافي: (وظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولم يصرحوا به) . وقال ابن نصر أيضا: (وقوة الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه ولم أجد به تصريحا، ويؤخذ ذلك من قولهم: من أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الزيارة والوداع، ولم يقولوا من اكتفى بطواف الزيارة يوم النحر عن طواف الوداع ولم يعد إلى مكة) انتهى. قلت: (بل قد صرح به [المغني] حيث قال: فيما يأتي كما لو طافه قبل حل النفر، أي: فإنه لا يجزئه) قال في [المغني] : (ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » انتهى، قال في [الإنصاف] : (وظاهر كلام المصنف - يعني: الموفق - أن طواف الوداع يجب ولو لم يكن بمكة، قال في [الفروع] : وهو ظاهر كلامهم، قال الآجري: يطوف من أراد الخروج من مكة أو من منى أو من نفر آخر) انتهى، وفي أثناء كلام للشيخ يحيى بن عطوة النجدي تلميذ الشيخ العسكري قال: (وأخبرنا جماعة: أن الشويكي أفتاهم بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر، والفراغ من واجبات الحج، والبيع والشراء والإقامة بعده بمنى، ونقلوا عنه أنه بالغ حتى نسب ذلك إلى جميع الأصحاب، ولو تحقق ما صرح به الزركشي و [المغني] و [الشرح الكبير] ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

وغيرها من كتب الأصحاب ما قال ما قال) ، قال الخرقي: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، قال الزركشي: والمراد الخروج من الحرم، قال في الشرح: ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت، وكذا قال في [المغني] ، قال: ولقد كشفت قريبا من خمسين كتابا من كتب المذهب فلم أظفر فيها بما نسبه هذا المتفقه إليهم، وأفتى به عنهم، وأنا أتعجب منه كيف صدرت منه هذه النسبة إلى جميع الأصحاب؟ ! والصريح عنهم العكس، ولعله دخل عليه اللبس من لفظ الخروج في كلام الخرقي، وتوهم أنه الخروج من مكة وليس كذلك، فقد صرح الزركشي أن مراد الخرقي الخروج من الحرم، ولعله ذهل عن وقت الطواف: أعني: طواف الوداع، ولو حقق النظر في [المغني] و [الشرح الكبير] وغيرهما لزالت عنه ضبابة الشك، ولعله اعتمد على ما وجهه ابن مفلح في [فروعه] قال: فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه، ومراده بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، هذا مع تسليم جواز الإفتاء بالتوجيه المذكور، وجواز اعتماد المقلد عليه من غير نظر في الترجيح) انتهى كلام ابن عطوة. قلت: أما لفظ الخروج فهو صريح في كلام الأصحاب أنه الخروج من مكة، خلافا لما فهمه الشيخ ابن عطوة، قال الخرقي: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت، قال الموفق في [المغني] : وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو: إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم) انتهى ملخصا، ومثله

في [الشرح الكبير] ، قال في [الإقناع وشرحه] : (فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف. . . إلى أن قال: وهو على كل خارج من مكة) انتهى ملخصا، قال في [المنتهى وشرحه] : (فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى، وقال في [الإقناع] أيضا: (قال الشيخ: وطواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة، قال في [المستوعب] : ومتى أراد الحاج الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع) انتهى، وأما فتوى الشيخ الشويكي بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة في منى - فلا تسلم له صحة فتواه هذه؛ لما تقدم عن ابن نصر الله أن ظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها، لوجوب طواف الوداع عليه، ولما تقدم عنه أيضا: أن قوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه، قال في [المغني] بعد كلام سبق: (ولأنه إذا أقام بعده أي: طواف الوداع خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزئه، كما لو طافه قبل حل النفر. . إلخ) فجعل صاحب [المغني] ما إذا طاف للوداع قبل حل النفر أصلا في عدم الإجزاء، وقاس عليه من ودع بعد حل النفر، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة، فعلم منه أنه لو طاف للوداع قبل حل النفر وهو ثاني عشر ذي الحجة أنه لا يجزئه؛ لأن وقت طواف الوداع لا يدخل إلا بعد حل النفر. والله أعلم، ومثله في [الشرح الكبير] ، وأما توجيه صاحب [الفروع] الذي نصه: (فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه) فمراده - والله أعلم - إذا

كان طاف للوداع بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، وقد نص العلماء: أن وقت طواف الوداع إذا فرغ من جميع أموره، ومن كان بقي عليه المبيت ليالي منى ورمي الجمار، فإنه لا يكون قد فرغ من جميع أموره، بل بقي عليه شيء من واجبات الحج، أما إذا نفر من منى النفر الأول أو الآخر، ثم ودع البيت وسافر ونزل خارجا عن بنيان مكة للبيتوتة أو المقيل أو غيرهما، سواء كان ذلك النزول بمنى أو غيرها من بقاع الحرم المنفصلة عن مسمى بنيان مكة، فلا يلزمه إعادة طواف الوداع؛ لأنه قد سافر من مكة وليس مقيما بها بعد الوداع، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة التي طال فيها النزاع قديما وحديثا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفي [التحفة] للشافعية: (وإذا أراد الحاج أو المعتمر المكي وغيره الخروج من مكة أو منى عقب نفره منها، وإن كان طاف للوداع عقب طواف الإفاضة عند عوده إليها طاف وجوبا للوداع إذ لا يعتد به، ولا يسمى طواف وداع إلا بعد فراغ جميع النسك) انتهى ملخصا بتصرف في التقديم والتأخير. قال في [المغني] : (فصل) : ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك، ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع؛ لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام، بدليل سقوط دم المتعة عنهم، ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » ، ولأنه خارج عن الحرم فلزمه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .

التوديع كالبعيد) انتهى، وكذا في [الشرح الكبير] ، قال في [الإقناع وشرحه] : (ومن كان خارجه: أي: خارج الحرم، ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع، وهو على كل خارج من مكة) انتهى ملخصا، وتقدم أول الفصل أنه إذا أقام بمكة أو حرمها لا وداع عليه، وأنه على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، ثم بعد طواف الوداع يصلي ركعتين خلف المقام كسائر الطوافات، قال في [المنتهى] و [الإقناع] وغيرهما: ويأتي الحطيم نصا أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو) انتهى. قال في [الإقناع وشرحه] : (فإن خرج قبله: أي: قبل الوداع فعليه الرجوع إليه، أي: إلى الوداع لفعله إن كان قريبا دون مسافة القصر ولم يخف على نفسه أو ماله أو فوات رفقته أو غير ذلك من الأعذار ولا شيء عليه إذا رجع قريبا سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا؛ لأن الدم لم يستقر عليه؛ لكونه في حكم الحاضر، فإن لم يمكنه الرجوع لعذر مما تقدم أو لغيره أو أمكنه الرجوع للوداع ولم يرجع، أو بعد مسافة قصر عن مكة - فعليه دم رجع إلى مكة وطاف للوداع أو لا؛ لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم ثم رجع إلى الميقات، وسواء تركه أي: طواف الوداع عمدا أو خطأ أو نسيانا لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره، كسائر واجبات الحج، ومتى رجع مع القرب لم يلزمه إحرام؛ لأنه في حكم الحاضر ويلزمه مع البعد الإحرام بعمرة يأتي بها فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم يطوف للوداع إذا فرغ من أموره) انتهى.

قال الخرقي: (مسألة) فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن بعد بعث بدم، قال في [المغني] : هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد، ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام. وقد روي (أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة؛ ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف الوداع، فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم؛ لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه، سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا؛ لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه؛ لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب. (فصل) : إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما؛ لأنه ليس من أهل الأعذار، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من

الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله: أنه لا يلزمه إحرام؛ لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما، وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف؛ وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك، إنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها) انتهى كلام صاحب [المغني] . ومثله في [الشرح الكبير] ونصه: (وإن أخر طواف الزيارة أو القدوم فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الوداع) . قال الشيخ مرعي في [الغاية] : (ويتجه من تعليلهم ولو لم ينو طواف الوداع حال شروعه في طواف الزيارة أو القدوم) انتهى؛ لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأنهما عبادتان من جنس فأجزأت إحداهما عن الأخرى، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه؛ كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد، وكإجزاء المكتوبة أيضا عن ركعتي الطواف، وعن ركعتي الإحرام، وكغسل الجنابة عن غسل الجمعة، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولو كان ناسيا لطواف الزيارة؛ لأنه لم ينوه، وفي الحديث: «وإنما لكل امرئ ما نوى (¬1) » . فإن قيل: كيف يتصور إجزاء طواف القدوم عن طواف الوداع، وقد قال الأصحاب: ثم يفيض إلى مكة فيطوف مفرد وقارن لم يدخلاها قبل للقدوم برمل ثم للزيارة؟ قلنا: يتصور فيما إذا لم يكن دخل مكة لضيق وقت الوقوف بعرفة مثلا، وقصد عرفات فلما رجع منها طاف للزيارة أولا، ثم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .

طاف للقدوم إما نسيانا أو غيره، فطواف القدوم هذا وإن كان متأخرا عن طواف الزيارة يكفيه عن طواف الوداع، وهذا على القول بسنية طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة للمتمتع، وللمفرد والقارن اللذين لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة، وهو نص الإمام أحمد، اختاره الخرقي، أما على اختيار الموفق، والشارح، وشيخ الإسلام، وابن القيم، وابن رجب، فلا يسن طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة، وهو الذي تدل عليه السنة، كما تقدم في فصل: (ثم يفيض إلى مكة، ويكتفي بطواف الزيارة الذي هو ركن في الحج) والله أعلم. ولا وداع على حائض ونفساء لحديث ابن عباس وفيه: (إلا أنه خفف عن الحائض) وتقدم، والنفساء في معناها؛ لأن حكمه حكم الحيض فيما يمنعه وغيره، ولا فدية على الحائض والنفساء؛ لظاهر حديث صفية المتقدم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بفدية إلا أن تطهر الحائض والنفساء قبل مفارقة بنيان مكة فيلزمهما العود، ويغتسلان للحيض والنفاس؛ لأنهما في حكم المقيم بدليل أنهما لا يستبيحان الرخص قبل مفارقة البنيان ثم يودعان، فإن لم تعودا للوداع مع طهرهما قبل مفارقة البنيان ولو لعذر فعليهما دم؛ لتركهما نسكا واجبا، فأما إن فارقت الحائض والنفساء البنيان قبل طهرهما لم يجب عليهما الرجوع لخروجهما عن حكم الحاضر، فإن قيل: فلم لا يجب الرجوع عليهما مع القرب كما يجب على الخارج لغير عذر؟ قلنا: هناك ترك واجبا فلم يقسط بخروجه مع القرب كما تقدم تفصيله، وهاهنا لم يكن واجبا عليهما ولم يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما وهما حين الإقامة لا يجب عليهما لحصول الحيض والنفاس. والله أعلم، وأما المعذور غير الحائض والنفساء، كالمريض

ونحوه فعليه دم إذا ترك طواف الوداع؛ لأن الواجب لا يسقط جبرانه بالعذر) وتقدم. 3 - قال ابن حزم رحمه الله: (وأما قولنا: من أراد أن يخرج من مكة من معتمر أو قارن أو متمتع بالعمرة إلى الحج ففرض عليه أن يجعل آخر عمله الطواف بالبيت، فإن تردد بمكة بعد ذلك أعاد الطواف ولا بد، فإن خرج ولم يطف بالبيت ففرض عليه الرجوع ولو كان بلده بأقصى الدنيا حتى يطوف بالبيت، فإن خرج عن منازل مكة فتردد خارجا ماشيا فليس عليه أن يعيد الطواف، إلا التي تحيض بعد أن تطوف طواف الإفاضة فليس عليها أن تنتظر طهرها لتطوف لكن تخرج كما هي. فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فلا بد لها أن تنتظر حتى تطهر وتطوف وتحبس عليها الكرى والرفقة، فلما رويناه من طريق مسلم قال: نا سعيد بن منصور، نا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (¬1) » . ومن طريق مسلم، نا محمد بن رمح، نا الليث عن ابن شهاب، عن أبي سلمة -وهو عبد الرحمن بن عوف - أن عائشة أم المؤمنين قالت: - «حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت، فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: أحابستنا هي؟ فقلت: يا رسول الله، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلتنفر (¬2) » . قال أبو محمد: فمن خرج ولم يودع من غير الحائض فقد ترك فرضا لازما فعليه أن يؤديه، روينا من طريق وكيع عن إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير بن عبد الله: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) . (¬2) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .

(أن قوما نفروا ولم يودعوا فردهم عمر بن الخطاب حتى ودعوا) . قال علي: ولم يخص عمر موضعا عن موضع، وقال مالك: بتحديد مكان إذا بلغه لم يرجع منه، وهذا قول لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، ومن طريق عبد الرزاق، نا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن نافع قال: (رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشي كن أفضن يوم النحر، ثم حضن فنفرن، فردهن حتى يطهرن، ويطفن بالبيت، ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول) . قال أبو محمد: هرشي هي نصف الطريق من المدينة إلى مكة بين الأبواء والجحفة على فرسخين من الأبواء، وبها علمان مبنيان علامة؛ لأنه نصف الطريق، وقد روي أثر من طريق أبي عوانة عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن أوسي: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر بن الخطاب أفتياه في المرأة تطوف بالبيت يوم النحر، ثم تحيض أن يكون آخر عهدها بالبيت (¬1) » . قال أبو محمد: الوليد بن عبد الرحمن غير معروف، ثم لو صح لكان داخلا في جملة أمره عليه السلام أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وعمومه، وكأن يكون أمره عليه السلام: الحائض التي أفاضت بأن تنفر حكما زائدا مبنيا على النهي المذكور مستثنى منه ليستعمل الخبران معا ولا يخالف شيء منهما. وبالله تعالى التوفيق. وأما قولنا: من ترك عمدا أو بنسيان شيئا من طواف الإفاضة أو من السعي الواجب بين الصفا والمروة - فليرجع أيضا كما ذكرنا ممتنعا من النساء حتى يطوف بالبيت ما بقي عليه، فإن خرج ذو الحجة قبل أن يطوف ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .

فقد بطل حجه، وليس عليه في رجوعه لطواف الوداع أن يمتنع من النساء، فلأن طواف الإفاضة فرض. وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬1) وقد ذكرنا أنها: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فإذ هو كذلك فلا يحل لأحد أن يعمل شيئا من أعمال الحج في غير أشهر الحج فيكون مخالفا لأمر الله تعالى. وأما امتناعه عن النساء؛ فلقول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬2) فهو ما لم يتم فرائض الحج فهو في الحج بعد، وأما رجوعه لطواف الوداع فليس هو في حج ولا في عمرة، فليس عليه أن يحرم ولا أن يمتنع من النساء؛ لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا إحرام إلا بحج أو عمرة، وأما لطواف مجرد فلا) (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 197 (¬2) سورة البقرة الآية 197 (¬3) [المحلى] (7\ 241- 244) فقه عام.

الخلاصة

الخلاصة: مما تقدم يتلخص ما يأتي: 1 - قال جماعة من العلماء: إن طواف الوداع من المناسك، منهم: إمام الحرمين والغزالي، وهو مذهب أحمد والشافعي. وقال آخرون: هو عبادة مستقلة، منهم: البغوي والمتولي وابن تيمية في أحد قوليه؛ تعظيما للحرم، وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام، ولأنه لو كان من جملة المناسك لعم الحجيج، لكنه سقط عن المكي إذا لم يخرج، وعن الآفاقي إذا نوى الإقامة بمكة، ولحديث:

«يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا (¬1) » فسماه قاضيا نسكه قبل الوداع عند نفره، وعلى الأول: يطلب ممن نفر بعد نسك فقط، وعلى الثاني: يطلب ممن نفر من مكة مطلقا. 2 - قال الحنفية والحنابلة: إن طواف الوداع واجب. وهو قول عند الشافعية؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، ونهيه عن النفر قبله، فمن تركه عمدا أو جهلا أو نسيانا لزمه دم، وأثم إن كان متعمدا، وقال المالكية: بأنه سنة وهو قول للشافعية، وعليه لا يأثم من تركه، ولا دم عليه. وعلم مما سبق أن وقت طواف الوداع إنما يكون بعد فراغ الحاج من جميع نسكه. 3 - قيل: يطلب طواف الوداع ممن نفر بعد نسكه من مكة، ولو كان ذلك إلى حدود الحرم فقط؛ لعموم الأمر به والنهي عن تركه عند النفر. وقيل: يطلب من كل من نفر بعد نسكه إلى خارج حدود الحرم، ولو كان دون المواقيت، ودون مسافة القصر، لا ممن نفر من مكة إلى داخل حدود الحرم. وقيل: لا يطلب ممن نفر بعد نسكه إلى المواقيت فما دونها. وقيل: لا يطلب ممن نفر إلى ما دون مسافة القصر؛ لأنه في حكم المقيم بمكة، ولخروج عائشة مع أخيها عبد الرحمن - رضي الله عنهما - إلى التنعيم لتحرم منه بعمرة، وذلك على علم منه صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهما بوداع، والتنعيم من الحل. ولا يطلب ممن حج أو اعتمر من أهل مكة والمقيمين بها، ولا من آفاقي حج، أو اعتمر ونوى الإقامة بمكة مطلقا أو قبل النفر الأول، وقال أبو ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .

يوسف: يستحب لأهل مكة إذا حجوا أو اعتمروا أن يطوفوا طواف الوداع. 4 - قال الحنفية: من ترك طواف الوداع عمدا أو نسيانا، وجب عليه أن يرجع ليطوفه ما لم يتجاوز الميقات، ومن قال بوجوبه من الشافعية، قال: يجب عليه الرجوع ما لم يبلغ مسافة القصر، وإلا لم يجب عليه الرجوع وعليه دم وعصى الله إن كان عامدا، وهكذا عند الحنابلة. فإن رجع بعد بلوغ مسافة القصر وطاف، فقيل: يسقط عنه الدم، لإتيانه بما وجب عليه، وقيل: لا يسقط لتقرر وجوبه في ذمته بمجاوزته المسافة، ويكون رجوعه بإحرام، وإن رجع قبل بلوغ مسافة القصر وطاف، فلا دم عليه ولا إحرام عليه في رجوعه، ومن قال: إن طواف الوداع سنة لم يلزم من نفر من مكة بعد نسكه دون الوداع أن يرجع ليطوف ولم يؤثمه ولم يوجب عليه دما. وقال ابن حزم: على من ترك طواف الوداع أن يرجع ليطوفه ولو بلغ أقصى الأرض في سفره. 5 - على القول بوجوب طواف الوداع: لا يجوز لمن أدى النسك أن ينفر من مكة ولو مؤقتا دون طواف وداع لمرض أو زحام، ولو مع نيته أن يعود لطوافه بعد شفائه أو زوال الزحام. هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

قرار هيئة كبار العلماء بشأن حكم الطواف

قرار هيئة كبار العلماء رقم (70) وتاريخ 21\10\ 1399هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيه محمد، وآله وصحبه، وبعد: فقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من 10\10\1399هـ حتى 21\10\1399هـ في حكم طواف الوداع للخارج من مكة المكرمة سواء كان حاجا أو معتمرا أو غيرهما، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر ومن كان دون ذلك؟ واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع بناء على طلب المجلس في دورته الثالثة عشرة، وقد تبين له أن العلماء مختلفون في تلك المسائل تبعا لاختلاف اجتهادهم والخلاف فيها معروف بين العلماء، ومدون في كتب الأحاديث، وكتب الفقه والمناسك، وما زال عمل العلماء جاريا على الأخذ بما يترجح لهم دليله، وينبغي للحاج وغيره أن يحرص على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (¬1) » ؛ لذلك يرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته، ومذهب العامي مذهب من يفتيه من أهل العلم. ¬

_ (¬1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .

وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة . ... . ... عبد الله بن محمد بن حميد عبد الله بن خياط ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين ... محمد بن علي الحركان عبد الله بن غديان ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ غائب ... عبد الله بن قعود محمد بن جبير ... . ... صالح بن لحيدان عبد المجيد حسن ... عبد العزيز بن صالح غائب ... صالح بن غصون عبد الله بن منيع ... . ... .

الحاجز بين المصلي والمقبرة

(8) الحاجز بين المصلي والمقبرة هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

الحاجز بين المصلي والمقبرة إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه، وبعد: فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة عشرة من إعداد بحث في الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه. وحيث إن الموضوع يتطلب البحث في أمرين:

سد الذرائع

أحدهما: سد الذرائع. والثاني: الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة. أعدت اللجنة بحثا مختصرا فيهما، وفيما يلي الحديث عنهما، وبالله التوفيق. أولا: سد الذرائع: سبق أن كتبت اللجنة الدائمة بحثا في سد الذرائع في موضوع الأسورة المغناطيسية، وموضوع شارات الطيارين، وهذا نصه: قد يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذه عوذة للحفظ والنصر. إن تطبيق شارات على الجنود أو عدد الحرب من سور القرآن أو آياته،

واتخاذ أوسمة مكتوب عليها آية أو آيات من كتاب الله تعالى - قد يكون ذريعة إلى التبرك به، والاعتقاد بأنه سبب النصر والتغلب على الأعداء، وينتهي الأمر فيه إلى اتخاذه عوذة وتميمة يعتقد أنها تحفظه من المكاره وتقيه شر الهزائم، وتكفل له النصر في ميادين القتال ثم يتوسع في استعمالها لجلب المنافع ودفع المضار. . ولا شك أن ذلك مما يتنافى مع مقاصد الشريعة من حفظ العقيدة وسلامتها مما يهدمها أو يضعفها، وسد الذرائع من القواعد الإسلامية الكلية اليقينية التي دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اعتبارها، وبناء الأحكام عليها. وممن عني بإقامة الأدلة عليها شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله فقال: (الوجه الرابع العشرون) (¬1) : أن الله سبحانه ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها. والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء: عبارة عما أفضت إلى فعل محرم. ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة: الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم. أما إذا أفضت إلى فساد ليس هو فعلا؛ كإفضاء شرب الخمر إلى السكر، وإفضاء الزنا إلى اختلاط المياه أو كان الشيء نفسه فسادا كالقتل والظلم - فهذا ليس من هذا الباب. فإنا نعلم إنما حرمت الأشياء؛ لكونها في نفسها فسادا، بحيث تكون ضررا لا منفعة فيه، أو ¬

_ (¬1) [الفتاوى الكبرى] (3\ 256- 295) .

لكونها مفضية إلى فساد، بحيث تكون هي في نفسها فيها منفعة، وهي مفضية إلى ضرر أكثر منه فتحرم، فإن كان ذلك الفساد فعل محظور سميت ذريعة. وإلا سميت سببا ومقتضيا، ونحو ذلك من الأسماء المشهورة. ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالبا فإنه يحرمها مطلقا، وكذلك إن كانت قد تفضي، وقد لا تفضي، لكن الطبع متقاض لإفضائها. وأما إن كانت تفضي أحيانا، فإن يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل، وإلا حرمها أيضا. ثم هذه الذرائع منها ما يفضي إلى المكروه بدون قصد فاعلها. ومنها: ما تكون إباحتها مفضية للتوسل بها إلى المحارم فهذا (القسم الثاني) بجامع الحيل، بحيث قد يقترن به الاحتيال تارة، وقد لا يقترن، كما أن الحيل قد تكون بالذرائع، وقد تكون بأسباب مباحة في الأصل ليست ذرائع، فصارت الأقسام (ثلاثة) . أولا: ما هو ذريعة، وهو مما يحتال به كالجمع بين البيع والسلف، وكاشتراء البائع السلعة من مشتريها بأقل من الثمن تارة وبأكثر أخرى. وكالاعتياض عن ثمن الربوي بربوي لا يباع بالأول نسأ، وكقرض بني آدم. الثاني: ما هو ذريعة لا يحتال بها، كسب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هذا لا يقصدهما مؤمن. الثالث: ما يحتال به من المباحات في الأصل؛ كبيع النصاب في أثناء الحول فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة. والغرض من هذا: أن الذرائع حرمها الشارع، وإن لم يقصد بها

المحرم، خشية إفضائها إلى المحرم، فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع. وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها، وإن لم يقصد البائع الربا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا، ويقول القائل: لم أقصد به ذلك. ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه، ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه. وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، وبما يخفى على الناس من خفي هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا، وتلك العلة مقصودة فيها فاستباحه بهذا التأويل - فهو ظلوم لنفسه، جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة. أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر فنذكر منها ما حضر: فالأول: قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) حرم سب الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله سبحانه وتعالى؛ لأن مصلحة تركهم سب الله سبحانه راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108

(الثاني) : ما روى حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬1) » متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬2) » ، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما، وإن لم يقصده، وبين هذا والذي قبله فرق؛ لأن سب آباء الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر؛ لكونه شتما لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره. (الثالث) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل فيه وهذا النفور حرام. (الرابع) : أن الله سبحانه حرم الخمر؛ لما فيه من الفساد المترتب على زوال العقل، وهذا في الأصل ليس من هذا الباب. ثم إنه حرم قليل الخمر وحرم اقتناءها للتخليل، وجعلها نجسة؛ لئلا تفضي إباحته مقاربتها بوجه من الوجوه لا لإتلافها على شاربها. ثم إنه قد نهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا نعلم بتخمير النبيذ فيها؛ حسما لمادة ذلك، وإن كان في بقاء بعض هذه الأحكام خلاف. وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما نهى عن بعض ذلك لئلا يتخذ ذريعة، فقال: «لو ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) . (¬2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .

رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» يعني صلى الله عليه وسلم: أن النفوس لا تقف عند الحد المباح في مثل هذا. (الخامس) : أنه حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها ولو في مصلحة دينية؛ حسما لمادة ما يحاذر من تغير الطباع وشبه الغير. (السادس) : أنه نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها، وأمر بتسويتها. ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا. وحرم ذلك على من قصد هذا، ومن لم يقصده، بل قصد خلافه؛ سدا للذريعة. (السابع) : أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وكان من حكمة ذلك: أنها وقت سجود الكفار للشمس، ففي ذلك تشبه بهم، ومشابهة الشيء لغيره ذريعة إلى أن يعطى بعض أحكامه، فقد يفضي ذلك إلى السجود للشمس، أو أخذ أحوال بعض عابديها. (الثامن) : أنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، مثل قوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم (¬1) » ، «إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم (¬2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع (¬3) » ، وقال في موضع: «لا تشبهوا بالأعاجم» ، وقال فيما رواه الترمذي: «ليس منا من تشبه بغيرنا (¬4) » حتى قال حذيفة بن اليمان: من تشبه بقوم فهو منهم؛ وما ذاك إلا لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬2) سنن أبو داود الصلاة (652) . (¬3) صحيح مسلم الصيام (1134) ، سنن أبو داود الصوم (2445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/236) ، سنن الدارمي الصوم (1759) . (¬4) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) .

(التاسع) : أنه - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها (¬1) » ، وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ، حتى ولو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك، وإن زعمتا أنهما لا يتباغضان بذلك؛ لأن الطباع تتغير؛ فيكون ذريعة إلى فعل المحرم من القطيعة، كذلك حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن الزيادة على ذلك ذريعة إلى الجور بينهن في القسم، وإن زعم أن العلة إفضاء ذلك إلى كثرة المئونة المفضية إلى أكل الحرام من مال اليتامى وغيرهن، وقد بين العلة الأولى بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬2) وهذا نص في اعتبار الذريعة. (العاشر) : أن الله سبحانه حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة، وإن كان المرجع في انقضائها ليس هو إلى المرأة، فإن إباحته الخطبة قد يجر إلى ما هو أكبر من ذلك. (الحادي عشر) : أن الله سبحانه حرم عقد النكاح في حال العدة وفي حال الإحرام؛ حسما لمادة دواعي النكاح في هاتين الحالتين؛ ولهذا حرم التطيب في هاتين الحالتين. (الثاني عشر) : أن الله سبحانه اشترط للنكاح شروطا زائدة على حقيقة العقد تقطع عنه شبهة بعض أنواع السفاح به، مثل: اشتراط إعلانه إما بالشهادة أو ترك الكتمان أو بهما. ومثل: اشتراط الولي فيه. ومنع المرأة أن تليه. وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن الترمذي النكاح (1126) ، سنن النسائي النكاح (3288) ، سنن أبو داود النكاح (2066) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) ، موطأ مالك النكاح (1129) ، سنن الدارمي النكاح (2179) . (¬2) سورة النساء الآية 3

وكان أصل ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (¬1) و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (¬2) وإنما ذلك لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة نكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من حجر الفراش. ثم إنه وكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة الزائدة على مجرد مقصود الاستمتاع، فعلم أن الشارع جعله سببا وصلة بين الناس بمنزلة الرحم كما جعل بينهما في قوله تعالى: {نَسَبًا وَصِهْرًا} (¬3) وهذه المقاصد تمنع اشتباهه بالسفاح، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه. (الثالث عشر) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع (¬4) » ، وهو حديث صحيح ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح؛ وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة، ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا. ومن العجب أن بعض من أراد أن يحتج للبطلان في مسألة مد عجوة قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار ومنديلا بألف وخمسمائة دينار تبر، يقصد بذلك: أن هذا ذريعة إلى الربا، وهذه علة ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية 24 (¬2) سورة النساء الآية 25 (¬3) سورة الفرقان الآية 54 (¬4) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/205) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .

صحيحة في مسألة مد عجوة، ولكن المحتج بها ممن يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة، وهي بعينها الصورة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعلة المتقدمة بعينها موجودة فيها فكيف ينكر على غيره ما هو مرتكب له. (الرابع عشر) : أن الآثار المتقدمة في العينة فيها ما يدل على المنع من عودة السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا وما ذاك إلا سدا للذريعة. (الخامس عشر) : أنه تقدم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منع المقرض قبول هدية المقترض، إلا أن يحسبها له أو يكون قد جرى ذلك بينهما قبل القرض. وما ذاك إلا لئلا تتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا إذا استعاد ماله بعد أن أخذ فضلا. وكذلك ما ذكر من منع الوالي والقاضي قبول الهدية ومنع الشافع قبول الهدية، فإن فتح هذا الباب ذريعة إلى فساد عريض في الولاية الشرعية. (السادس عشر) : أن السنة مضت بأنه ليس لقاتل من ميراث شيء، أما القاتل عمدا، كما قال مالك، والقاتل مباشرة كما قاله أبو حنيفة على تفصيل لهما، أو القاتل قتلا مضمونا بقود أو دية أو كفارة، أو القاتل بغير حق أو القاتل مطلقا في هذه الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده - فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسدت الذريعة بالمنع بالكلية مع ما فيه من علل أخر. (السابع عشر) : أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها من الميراث

بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان؛ لأن الطلاق ذريعة، وأما حيث لا يتهم ففيه خلاف معروف - مأخذ الشارع في ذلك: أن المورث أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سد الباب بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين. (الثامن عشر) : أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجمع بالواحد، وإن كان قياس القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء. (التاسع عشر) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن إقامة الحدود بدار الحرب» ؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار. (العشرون) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون صوما كان يصومه أحدكم فليصمه (¬1) » ، «ونهى عن صوم يوم الشك (¬2) » ، إما مع كون طلوع الهلال مرجوحا وهو حال الصحو، وإما سواء كان راجحا أو مرجوحا أو مساويا على ما فيه الخلاف المشهور؛ وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، وكذلك حرم صوم اليوم الذي يلي آخر الصوم، وهو يوم العيد، وعلل بأنه يوم فطركم من صومكم، تمييزا لوقت العبادة من غيره؛ لئلا يفضي الصوم المتواصل إلى التساوي، وراعى هذا المقصود في استحباب تعجيل الفطور وتأخير السحور، واستحباب الأكل يوم الفطر قبل الصلاة، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها وعن غيرها، فكره للإمام أن يتطوع في مكانه، وأن يستديم استقبال القبلة، وندب المأموم إلى هذا التبيين، ومن جملة فوائد ذلك: سد الباب الذي قد يفضي إلى الزيادة في الفرائض. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الصوم (1914) ، صحيح مسلم الصيام (1082) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2173) ، سنن أبو داود الصوم (2335) ، سنن ابن ماجه الصيام (1650) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1689) . (¬2) سنن ابن ماجه الصيام (1646) .

(الحادي والعشرون) : أنه - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله سبحانه، وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود ونحوه أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد إليه صمدا، قطعا لذريعة التشبيه بالسجود لغير الله سبحانه. (الثاني والعشرون) : أنه سبحانه منع المسلمين من أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (راعنا) مع قصدهم الصالح؛ لئلا تتخذه اليهود ذريعة إلى سبه - صلى الله عليه وسلم - ولئلا يتشبه بهم، ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا. (الثالث والعشرون) : أنه أوجب الشفعة؛ لما فيه من رفع الشركة، وما ذاك إلا لما يفضي إليه من المعاصي المعلقة بالشركة والقسمة؛ سدا لهذه المفاسد بحسب الإمكان. (الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بالظاهر مع إمكان أن يوحى إليه بالباطن، وأمر أن يسوي الدعاوى بين العدل والفاسق، وألا يقبل شهادة ظنين في قرابة، وإن وثق بتقواه. حتى لم يجز للحاكم أن يحكم بعلمه عند أكثر الفقهاء؛ لينضبط طريق الحكم، فإن التمييز بين الخصوم والشهود يدخل فيه من الجهل والظلم ما لا يزول إلا بحسم هذه المادة، وإن أفضت في آحاد الصور إلى الحكم بغير الحق، فإن فساد ذلك قليل إذا لم يتعمد في جنب فساد الحكم بغير طريق مضبوط من قرائن أو فراسة أو صلاح خصم أو غير ذلك، وإن كان قد يقع بهذا صلاح قليل مغمور بفساد كثير. (الخامس والعشرون) : أن الله سبحانه منع رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة من الجهر بالقرآن، حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله

ومن جاء به. (السادس والعشرون) : أن الله سبحانه أوجب إقامة الحدود؛ سدا للتذرع إلى المعاصي إذا لم يكن عليها زاجرا، وإن كان العقوبات من جنس الشر؛ ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع؛ كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رفعت إليه الجريمة، وإن تاب العاصي عند ذلك، وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها لئلا يفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود، مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. (السابع والعشرون) : أنه - صلى الله عليه وسلم - سن الاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وفي صلاة الخوف وغير ذلك، مع كون إمامين في صلاة الخوف أقرب إلى حصول الصلاة الأصلية؛ لما في التفريق من خوف تفريق القلوب وتشتت الهمم، ثم إن محافظة الشارع على قاعدة الاعتصام بالجماعة وصلاح ذات البين وزجره عما قد يفضي إلى ضد ذلك في جميع التصرفات - لا يكاد ينضبط، وكل ذلك يشرع لوسائل الألفة وهي من الأفعال، وزجر من ذرائع الفرقة وهي من الأفعال أيضا. (الثامن والعشرون) : أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة، وجاء عن السلف ما يدل على كراهة صوم أيام أعياد الكفار، وإن كان الصوم نفسه عملا صالحا؛ لئلا يكون ذريعة إلى مشابهة الكفار، وتعظيم الشيء تعظيما غير مشروع.

(التاسع والعشرون) : أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها؛ لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم. (الثلاثون) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره، ويصبغ نعله الذي قلده بدمه، ويخلي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته. قالوا: وسبب ذلك: أنه إذا جاز له أن يأكل أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعته نفسه إلى أن يقصر في علفها وحفظها مما يؤذيها؛ لحصول غرضه بعطبها دون المحل، كحصوله ببلوغها المحل من الأكل والإهداء، فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى إبلاغها المحل، وأحسم لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف سد الذراع. والكلام في سد الذرائع واسع لا يكاد ينضبط، ولم نذكر من شواهد هذا الأصل إلا ما هو متفق عليه أو منصوص عليه أو مأثور عن الصدر الأول شائع عنهم؛ إذ الفروع المختلف فيها يحتج لها بهذه الأصول - لا يحتج بها ولم يذكر الحيل التي يقصد بها الحرام كاحتيال اليهود، ولا ما كان وسيلة إلى مفسدة ليست هي فعلا محرما، وإن أفضت إليه كما فعل من استشهد للذرائع فإن هذا يوجب أن يدخل عامة المحرمات في الذرائع، وهذا وإن كان صحيحا من وجه فليس هو المقصود هنا. ثم هذه الأحكام في بعضها حكم أخر غير ما ذكرناه من الذرائع، وإنما قصدنا: أن الذرائع مما اعتبرها الشارع إما مفردة أو مع غيرها، فإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم، إما بأن يقصد به المحرم،

أو بأن لا يقصد به - يحرمه الشارع بحسب الإمكان، ما لم يعارض ذلك مصلحة توجب حله أو وجوبه فنفس التذرع إلى المحرمات بالاحتيال أولى أن يكون حراما وأولى بإبطال ما يمكن إبطاله منه إذا عرف قصد فاعله، وأولى بأن لا يعان صاحبه عليه، وهذا بين لمن تأمله. والله الهادي إلى سواء الصراط. وقد اتبع ابن القيم شيخه ابن تيمية رحمهما الله في إثبات قاعدة سد الذرائع بأدلة الاستقراء من الكتاب والسنة فقال رحمه الله: فصل: في سد الذرائع (¬1) : لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود. لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها؛ تحقيقا لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه. ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كله كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع ¬

_ (¬1) [إعلام الموقعين] (3\ 147- 153) .

الموصلة إليه لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء. ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره، ليزول الالتباس فيه، فنقول: الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان: أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها؛ كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها. والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب. فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه. فالأول: كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدا به الربا، أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك. والثاني: كمن يصلي تطوعا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر لله. ونحو ذلك. ثم هذا القسم من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.

والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته. فهاهنا أربعة أقسام: الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة. الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح، وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها. فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم. ومثال الثالث: الصلاة في أوقات النهي، وسبه آلهة المشركين بين ظهرانيهم. وتزين المتوفى عنها في زمن عدتها، وأمثال ذلك. ومثال الرابع: النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها (¬1) ويعاملها. وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر، ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة. وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة. بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ فنقول: الدلالة على المنع من وجوه: الوجه الأول: قوله تعالى: ¬

_ (¬1) قوله: يطؤها في الأصل، والصواب يطأها.

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم؛ لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى. وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز. الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (¬2) فمنعن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزا في نفسه، لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن. الوجه الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} (¬3) الآية. أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقائهم ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة. ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة؛ لندورها، وقلة الإفضاء إليها، فجعلت (¬4) كالمقدمة. الوجه الرابع: قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 108 (¬2) سورة النور الآية 31 (¬3) سورة النور الآية 58 (¬4) كذا بالأصل، وصوابه كالمعدوم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} (¬1) نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقصدون بها السب، يقصدون فاعلا من الرعونة: فنهي المسلمون عن قولها؛ سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم؛ تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون. الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (¬2) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬3) فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه، لئلا يكون إغلاظ القول له - مع أنه حقيق به - ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى. الوجه السادس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإفضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة. الوجه السابع: أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها. الوجه الثامن: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو، أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 104 (¬2) سورة طه الآية 43 (¬3) سورة طه الآية 44

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه (¬1) » متفق عليه. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه. قيل: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (¬2) » فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده. الوجه التاسع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنهم وقولهم: إن محمدا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخلوا فيه، ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل. الوجه العاشر: أن الله تعالى حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القطرة الواحدة منها. وحرم إمساكها للتخليل ونجسها؛ لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب. ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث. وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم بها؛ حسما لمادة قربان المسكر، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالعلة في تحريم القليل فقال: «لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه» . الوجه الحادي عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الخلوة بالأجنبية، ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج، وزيارة الوالدين؛ سدا لذريعة ما يحاذر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) . (¬2) صحيح البخاري الأدب (5973) ، صحيح مسلم الإيمان (90) ، سنن الترمذي البر والصلة (1902) ، سنن أبو داود الأدب (5141) ، مسند أحمد بن حنبل (2/216) .

من الفتنة وتقلبات الطباع. الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى أمر بغض البصر، وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله؛ سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور. الوجه الثالث عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيدا. وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها. وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه، سدا للذريعة. الوجه الرابع عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وكان من حكمة ذلك: أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟ ! الوجه الخامس عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، كقوله: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (¬1) » ، وقوله: «إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم (¬2) » ، وقوله في عاشوراء: «خالفوا اليهود، صوموا يوما قبله ويوما بعده» ، وقوله: «لا تشبهوا بالأعاجم» ، وروى الترمذي عنه: «ليس منا من تشبه بغيرنا (¬3) » ، وروى الإمام أحمد عنه: «من تشبه بقوم فهو منهم (¬4) » ، وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) . (¬2) سنن أبو داود الصلاة (652) . (¬3) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2695) . (¬4) سنن أبو داود اللباس (4031) .

إلى الموافقة في القصد والعمل. الوجه السادس عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام. وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع. وأباح الأربع، وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن؛ لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة. الوجه الثامن عشر: أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها. الوجه التاسع عشر: أن الله تعالى حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل؛ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام، فإن زمنه قريب جدا، فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل. الوجه العشرون: أن الشارع حرم الطيب على المحرم؛ لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من باب سد الذريعة. هذا فقد استمر رحمه الله في ذكر أدلة المنع، حتى أوصلها تسعة

وتسعين دليلا ... ) ثم قال: باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف: فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة به فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. اهـ.

الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه

ثانيا: الحاجز الذي ينبغي أن يكون بين المصلي والمقبرة التي تكون أمامه: 1 - نقول عن بعض شراح الحديث والفقهاء: بحث شراح الحديث والفقهاء هذا الموضوع، وفيما يلي نقول عنهم: أ- روى الإمام مسلم رحمه الله في [صحيحه] عن أبي مرثد الغنوي رحمه الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها (¬1) » . قال النووي رحمه الله على هذا الحديث: فيه تصريح بالنهي عن الصلاة إلى القبر. قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. اهـ (¬2) . ب- وقال السنوسي رحمه الله على هذا الحديث: ولا تصلوا إليها، أي: لا تجعل قبلة؛ سدا للذريعة إلى عبادتها، واعتقاد الجهال التقرب بذلك قاله (ع) قال الأبي: وما علل به النهي والجواب عن إجازته في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) . (¬2) [شرح النووي على صحيح مسلم] (7\38) .

المدونة أن يصلي وبين يديه قبر أو مرحاض. ابن العربي: تكره الصلاة في القبور وتحرم الصلاة إليها وهو كفر من فاعله (¬1) . ج- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: (وما يكره من الصلاة في القبور) يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو إلى القبر أو بين القبرين، وفي ذلك حديث رواه مسلم، عن طريق أبي مرثد الغنوي مرفوعا: «ولا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها أو عليها (¬2) » ، قلت: وليس هو على شرط البخاري، فأشار إليه في الترجمة، وأورد معه أثر عمر الدال على أن النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة، والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في [كتاب الصلاة] لأبي نعيم شيخ البخاري، ولفظه، بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر: القبر القبر، فظن أنه يعني: القمر، فلما رأى أنه يعني القبر جاز القبر وصلى، وله طرق أخرى بينتها في [تغليق التعليق] منها: من طريق حميد عن أنس نحوه وزاد فيه: فقال بعض من يليني: إنما يعني القبر فتنحيت عنه، وقوله: القبر القبر، بالنصب فيهما على التحذير. وقوله: (ولم يأمره بالإعادة) استنبطه من تمادي أنس على الصلاة، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف (¬3) . ¬

_ (¬1) [شرح الأبي والسنوسي على صحيح مسلم] (3\100) . (¬2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) . (¬3) [فتح الباري] (1\ 523) .

نقول عن بعض الفقهاء

2 - نقول عن بعض الفقهاء: أ- قال النووي رحمه الله: قال أصحابنا: ويكره أن يصلى إلى قبر،

هكذا قالوا: يكره ولو قيل: يحرم؛ لحديث أبي مرثد وغيره مما سبق لم يبعد، قال صاحب التتمة: وأما الصلاة عند رأس قبر رسول الله متوجها إليه فحرام. ب- قال ابن قدامة رحمه الله: وقال أبو عبد الله بن حامد: إن صلى إلى المقبرة والحش فحكمه حكم المصلي فيهما إذا لم يكن بينه وبينهما حائل، لما روى أبو مرثد الغنوي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا إليها (¬1) » متفق عليه. وقال الأثرم: ذكر أحمد حديث أبي مرثد، ثم قال: إسناده جيد. وقال أنس: رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر فجعل يشير إلي: القبر القبر، قال القاضي: وفي هذا تنبيه على نظائره من المواضع التي نهى عن الصلاة فيها، والصحيح: أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: «جعلت الأرض مسجدا (¬2) » يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته. وقياس ذلك على الصلاة إلى المقبرة لا يصح؛ لأن النهي إن كان تعبدا غير معقول المعنى امتنع تعديته ودخول القياس فيه، وإن كان لمعنى مختص بها وهو اتخاذ القبور مسجدا أو والتشبه بمن يعظمها ويصلي إليها؛ فلا يتعداها الحكم؛ لعدم وجود المعنى في غيرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك (¬3) » ، وقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (¬4) » يحذر ما صنعوا، متفق عليهما. فعلى هذا لا تصح الصلاة إلى القبور؛ للنهي عنها، ويصح إلى غيرها؛ لبقائها في عموم الإباحة وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) . (¬2) سنن الترمذي السير (1553) ، مسند أحمد بن حنبل (5/256) . (¬3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) . (¬4) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .

والله أعلم (¬1) . ج- وقال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله: ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك، وذكر طائفة من أصحابنا: أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة؛ لأنه لا يتناول اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا، وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة: كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر. وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه، فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه. وذكر الآمدي وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه، أي: المسجد الذي قبلته إلى القبر، حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد (¬2) . د- وقال ابن مفلح رحمه الله: وتصح الصلاة إليها مع الكراهة، وقيل: لا تصح، وقيل: إلى مقبرة، اختاره صاحب المغني والمحرر وهو أظهر، وعنه: وحش، اختاره ابن حامد، وقيل: وحمام ولا حائل، ولو كمؤخرة الرحل، وظاهره ليس كسترة صلاة، فيكفي الخط، بل كسترة المتخلي، كما سبق، ويتوجه أن ¬

_ (¬1) [المغني والشرح] (1\ 724) . (¬2) [الفتاوى المصرية] (4\411) .

مرادهم لا يضر بعد كثير عرفا، كما لا أثر له في مار مبطل، وعنه لا يكفي حائط المسجد، جزم به صاحب المحرر وغيره؛ لكراهة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش (¬1) . هـ- وقال العنقري رحمه الله: قوله: (وتصح إليها) وقيل: لا تصح الصلاة إلى المقبرة، اختاره الموفق، والمجد وصاحب النظم والفائق. قال في [الفروع] : وهو أظهر، وعنه: لا تصح إلى المقبرة والحش، اختاره ابن حامد والشيخ تقي الدين. اهـ. وعنه لا يكفي حائط المسجد، جزم به صاحب [المحرر] وغيره، لكراهة السلف الصلاة في المسجد في قبلته حش. اهـ. واختلفت نسخ [الإقناع] ؛ ففي بعضها: لا يكفي الخط، ولعلها أصح، وفي أخرى: لا يكفي حائط المسجد. اهـ (م ص) (¬2) . ووقال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا. قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لاتصلوا إلى القبور (¬3) » ، وقال: إسناده جيد. انتهى. ¬

_ (¬1) [الفروع] (1\374) . (¬2) [الروض المربع] (1\154) حاشية العنقري. (¬3) رواه مسلم.

ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق. فتبين بهذا: أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك: من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع. والله المستعان. وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر - في أبواب العلم بالله - اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيروا بها ما قصده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وأراد. فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم. وحرام بنص الكتاب. ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله. ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين العلة وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا؛ لما يلزم عليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم. ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد

عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (¬1) . ز- وقال عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله: وأجاب الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ سليمان بن سحمان: مسجد الطائف الذي في شقه الشمالي قبر ابن عباس - رضي الله عنهما - الصلاة في المسجد إذا جعل بين القبر وبين المسجد جدار يرفع يخرج القبر عن مسمى المسجد فلا تكره الصلاة فيه، وأما القبر إذا هدمت القبة التي عليه فيترك على حاله، ولا ينبش، ولكن يزال ما عليه من بناء وغيره، ويسوى حتى يصير كأحد قبور المسلمين (¬2) . ح- وقال ابن حزم رحمه الله: قال علي: وكره الصلاة إلى القبر وفي المقبرة وعلى القبر أبو حنيفة والأوزاعي وسفيان، ولم ير مالك بذلك بأسا، واحتج له بعض مقلديه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر المسكينة السوداء. قال علي: وهذا عجب ناهيك به، أن يكون هؤلاء القوم يخالفون هذا الخبر فيما جاء فيه، فلا يجيزون أن تصلى صلاة الجنازة على من قد دفن ثم يستبيحون بما ليس فيه منه أثر ولا إشارة مخالفة السنن الثابتة، ونعوذ بالله من الخذلان. ¬

_ (¬1) [فتح المجيد] ص190. (¬2) [الدرر] (3\133) ط. المكتب الإسلامي.

قال علي: وكل هذه الآثار حق، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا، إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحرم ما نهى عنه، ونعد من القرب إلى الله تعالى أن نفعل مثل ما فعل فأمره ونهيه حق، وفعله حق، وما عدا ذلك فباطل، والحمد لله رب العالمين (¬1) . ط- وقال علي محفوظ رحمه الله: ومن البدع: اتخاذ المقابر مساجد بالصلاة إليها، فعن أبي مرثد كناز بن الحصين - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها (¬2) » رواه مسلم وأبو مرثد: بفتح الميم واسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (¬3) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. وقال صلوات الله وسلامه عليه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (¬4) » متفق عليه. والسر في ذلك أن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن ودا وسواعا وإخوانهما كانوا قوما صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وكان هذا مبدأ عبادة الأصنام، أخرجه ابن جرير؛ ولهذه المفسدة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد الصلاة عندها. ¬

_ (¬1) [المحلى] (4\32) . (¬2) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) . (¬3) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) . (¬4) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .

ووقت طلوع الشمس وعند استوائها وعند غروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها فنهى أمته عن الصلاة، وإن لم يقصد ما قصد المشركون، سدا للذريعة وبعدا عن التشبه بعبدة الأوثان. وعلى الجملة: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما، وكذا الصلاة عليها للتبرك والإعظام، كما صرح به الإمام النووي في [شرح المهذب] ، وليس معنى الإعظام أن تقصد أرباب القبور بالسجود، فإنه كفر صراح، بل المعنى أنه بتحريه الصلاة لله تعالى: على هذا الوجه زاعما أنه أرجى للقبول عند الله تعالى ببركة صاحب الضريح يكون قد أعظم من شأن هذا الولي، وهذا يقع كثيرا من العامة (¬1) . هذا ما تيسر جمعه. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) [الإبداع في مضار الابتداع] ص190.

قرار هيئة كبار العلماء بشأن السترة بين المصلي وبين المقبرة التي أمامه

قرار هيئة كبار العلماء رقم (79) وتاريخ 21\10\1400هـ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف، ابتداء من يوم السبت الموافق للثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400 هـ حتى الحادي والعشرين منه - بحث المجلس موضوع السترة التي ينبغي أن تكون بين المصلي والمقبرة التي أمامه، بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة؛ لما نظر المجلس في خطاب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الموجه للأمين العام لهيئة كبار العلماء برقم (3084\1\5) وتاريخ 12\10\1399هـ. والذي جاء فيه ما نصه: (نظرا لكون النصف الشمالي من مسجد ابن عباس بالطائف لا يفصله عن المقبرة الواقعة عنه غربا سوى جدار المسجد، وأبوابه ونوافذه الغربية مشرعة على المقبرة، فاعتمدوا عرض الموضوع على المجلس؛ لتبادل الرأي في الكتابة إلى الحكومة لفتح شارع يفصل المسجد عن المقبرة. اهـ) . وكان المجلس في تلك الدورة رأى أن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيما يكفي من السترة التي يجب أن تكون بين المصلي والمقبرة التي أمامه. ولما اطلع المجلس على البحث المذكور واستمع إلى كلام أهل العلم وآرائهم في المسألة، واستعرض الواقع الحالي لمسجد ابن عباس في الطائف والمقبرة التي تقع في قبلة المصلي

من الجزء الشمالي منه رأى بعض أعضاء المجلس أن جدار المسجد لا يكفي سترة للمصلي فيه؛ ولذلك ينبغي إقامة جدار آخر خاص بالمقبرة وفتح طريق للراجل بينهما وتنبش القبور التي تقع في مكان هذا الطريق إن كان فيها بقية من رفات الموتى. ورأى الآخرون أنه يكتفى بجدار المسجد القبلي سترة للمصلي فيه؛ لأن المصلي يستقبل جدار المسجد وهو مضاف إليه لا إلى المقبرة، ولأن إنشاء جدار آخر وفتح طريق بينه وبين جدار المسجد يترتب عليه نبش القبور دون ضرورة توجب ذلك، ولكن ينبغي أن يسد البابان اللذان في ذلك الجدار، وترفع النوافذ التي فيه إلى حيث لا يتمكن المصلي من رؤية المقبرة من خلالها، ويفتح باب في أدنى جزء من الجدار ليس أمامه مقبرة ليدخل منه الإمام يوم الجمعة، وتقدم معه الجنائز للصلاة عليها. وحيث كان الرأي الأخير للأكثرية من أعضاء المجلس فقد صدر القرار برأيهم. والله الموفق. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد. هيئة كبار العلماء . . رئيس الدورة عبد الرزاق عفيفي عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

بحث في نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم

(9) بحث في نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

بحث في نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء من تأجيل البت في موضوع نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم مطلقا، وعند استغناء فقراء الحرم، وأن يعد بحث في الموضوع ليتمكن من مناقشة الموضوع في الدورة السادسة عشرة، بناء على ذلك فقد جمعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية نقولا عن بعض فقهاء المذاهب الأربعة، وهذه النقول مشتملة على بيان مذاهب الفقهاء فيمن يجب صرف اللحم لهم، وحكم نقله للفقراء خارج الحرم. وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب المذاهب، وبالله التوفيق.

نقول من الفقه الحنفي

أولا: الفقه الحنفي 1 - قال في [بدائع الصنائع] : وأما مكان هذا الدم فالحرم، لا يجوز في غيره؛ لقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬1) ومحله: الحرم، ¬

_ (¬1) سورة الفتح الآية 25

والمراد منه هدي المتعة؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) والهدي: اسم لما يهدى إلى بيت الله الحرام، أي: يبعث وينقل إليه (¬2) . 2 - ذكر في [فتح القدير] : (وقوله: (إليه) مرجع الضمير التوقف بالحرم، المفهوم من قوله: (يذبح في الحرم) ، مع قوله: والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان، والآية وهي قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬3) إما في الإحصار بخصوصه أو فيه وفي غيره أو هو من عموم اللفظ الوارد على سبب خاص - فيتناول منع الحلق قبل الإعمال في الحصر وبعدها في غيره إلى أن يبلغ الهدي محله، ويبين محله بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬4)) . 3 - قوله: (ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم) ، سواء كان تطوعا أو غيره، قال تعالى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬5) فكان أصلا في كل دم وجب كفارة، وقال تعالى في دم الإحصار: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬6) وقال في الهدايا مطلقا: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬7) ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان، فالإضافة ثابتة ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) [بدائع الصنائع] (3\ 1205) ، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى عام 587 هـ. (¬3) سورة البقرة الآية 196 (¬4) سورة الحج الآية 33 (¬5) سورة المائدة الآية 95 (¬6) سورة البقرة الآية 196 (¬7) سورة الحج الآية 33

في مفهومه وهو الحرم بالإجماع، ويجوز الذبح في أي موضع شاء من الحرم ولا يختص بمنى، ومن الناس من قال: لا يجوز إلا بمنى، والصحيح ما قلنا. قال عليه الصلاة والسلام: «كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر (¬1) » رواه أبو داود وابن ماجه من حديث جابر، فتحصل أن الدماء قسمان: ما يختص بالزمان والمكان، وما يختص بالمكان فقط (¬2) . 4 - قال السرخسي - رحمه الله - في جزاء الصيد: (وإذا قتل المحرم صيدا فعليه قيمة الصيد في الموضع الذي قتله فيه إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك الموضع، وإلا ففي أقرب المواضع من ذلك الموضع مما يباع ذلك الصيد ويشترى في ذلك الموضع، مما له نظير من النعم أو لا نظير له في قولي أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى -، وقال محمد والشافعي - رحمهما الله تعالى - فيما له نظير: إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر لا إلى القيمة) (¬3) . 5 - فإن اختار التكفير بالهدي فعليه الذبح في الحرم والتصدق بلحمه على الفقراء؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬4) فالهدي: اسم لما يهدى إلى موضع معين، وإن اختار الإطعام اشترى بالقيمة طعاما، فيطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة (¬5) . 6 - قال السرخسي - رحمه الله - في [المبسوط] : الأصل في حكم ¬

_ (¬1) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) . (¬2) [شرح فتح القدير] (2\ 323، 324) . (¬3) [المبسوط] (2\ 82) . (¬4) سورة المائدة الآية 95 (¬5) [المبسوط] (2\ 82) .

الإحصار قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (¬1) أي: منعتم من إتمامها، {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح، ثم تحلقون، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬3) فعلى المحصر إذا كان محرما بالحج أن يبعث بثمن هدي يشترى له بمكة فيذبح عنه يوم النحر فيحل من إحرامه، وهذا قول علمائنا - رحمهم الله تعالى - أن هدي الإحصار مختص بالحرم، وعلى قول الشافعي - رحمه الله - لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدي في الموضع الذي يحصر فيه، وحجته في ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه رضي الله عنهم معتمرا فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام بغير سلاح فيقضي عمرته (¬4) » فإنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي في الموضع الذي أحصر فيه، ولأنه لو بعث بالهدي لا يأمن ألا يفي المبعوث على يده، أو يهلك الهدي في الطريق، وإذا ذبحه في موضعه يتيقن بوصول الهدي إلى محله وخروجه من الإحرام بعد إراقة دمه فكان هذا أولى، وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬5) والمراد به: الحرم بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬6) بعد ما ذكر الهدايا، ولأن التحلل بإراقة دم هو قربة، وإراقة الدم لا يكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم، أو زمان مخصوص وهو أيام النحر، ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة، ونقيس هذا الدم بدم المتعة من حيث إنه تحلل به عن الإحرام، وذلك ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 196 (¬2) سورة البقرة الآية 196 (¬3) سورة البقرة الآية 196 (¬4) صحيح البخاري الصلح (2701) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) . (¬5) سورة البقرة الآية 196 (¬6) سورة الحج الآية 33

يختص بالحرم فكذا هذا، وأما ما روي فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا حين أحصر، فروي «أنه بعث الهدايا على يدي ناجية، لينحرها في الحرم حتى قال ناجية: ماذا أصنع فيما يعطب منها؟ قال: انحرها، واصبغ نعلها بدمها، واضرب بها صفحة سنامها، وخل بينها وبين الناس، ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا (¬1) » وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬2) فأما الرواية الثانية إن صحت فنقول: الحديبية من الحرم فإن نصفها من الحل، ونصفها من الحرم، ومضارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاه كان في الحرم، فإنما سيقت الهدايا إلى جانب الحرم منها ونحرت في الحرم، فلا يكون للخصم فيه حجة، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك؛ لأنه ما كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى الحرم (¬3) . 7 - وقال ابن عابدين: قوله: (ما يهدى) مأخوذ من الهدية التي هي أعم من الهدي لا من الهدي، وإلا لزم ذكر المعرف في التعريف فيلزم تعريف الشيء بنفسه، قلت: (لو أخذ من الهدي يكون تعريفا لفظيا وهو سائغ) واحترز بقوله: (إلى الحرم) عما يهدى إلى غيره نعما كان أو غيره، وبقوله: (من النعم) عما يهدى إلى الحرم من غير النعم، فإطلاق الفقهاء في باب الأيمان ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الحج (1325) ، سنن أبو داود المناسك (1763) ، مسند أحمد بن حنبل (1/279) . (¬2) سورة الفتح الآية 25 (¬3) [المبسوط] للسرخسي (4\ 106، 107) .

والنذور والهدي على غيره مجاز، وبقوله: (ليتقرب به) أي: بإراقة دمه فيه، أي: في الحرم عما يهدى من النعم إلى الحرم هدية لرجل، وأفاد به أنه لا بد فيه من النية، أي: ولو دلالة (¬1) . 8 - قال الجصاص في تفسيره: [أحكام القرآن] : باب المحصر أين يذبح الهدي؟ قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) واختلف السلف في المحل ما هو؟ فقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعطاء وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين: هو الحرم. وهو قول أصحابنا والثوري. وقال مالك والشافعي: محله الموضع الذي أحصر فيه فيذبحه ويحل. والدليل على صحة القول الأول: أن المحل اسم لشيئين: يحتمل أن يراد به الوقت، ويحتمل أن يراد به المكان. ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: «اشترطي في الحج وقولي: محلي حيث حبستني (¬3) » فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة مؤقتا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية - وجب أن يكون مراده المكان، فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ مكانا غير مكان الإحصار؛ لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله بوقوع الإحصار، ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية، فدل ذلك على أن المراد بالمحل: هو الحرم؛ لأن كل من لا يجعل موضع ¬

_ (¬1) [رد المحتار على الدر المختار] لابن عابدين (2\ 614) . (¬2) سورة البقرة الآية 196 (¬3) صحيح البخاري النكاح (5089) ، صحيح مسلم الحج (1207) ، سنن النسائي مناسك الحج (2768) ، مسند أحمد بن حنبل (6/202) .

الإحصار محلا للهدي فإنما يجعل المحل الحرم، ومن جعل محل الهدي موضع الإحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناه، ومن جهة أخرى وهو أن قوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (¬1) إلى قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2) ودلالته على صحة قولنا في الحل من وجهين: أحدهما: عمومه في سائر الهدايا، والآخر: ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬3) فإذا كان الله قد جعل للمحل البيت العتيق فغير جائز لأحد أن يجعل المحل غيره، ويدل عليه قوله تعالى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬4) فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه، كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (¬5) فقيدها بفعل التتابع لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه، وكذلك قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬6) لا يجوز إلا على الصفة المشروطة، وكذلك قال أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح أنها لا تجوز إلا في الحرم. ويدل عليه أيضا قوله تعالى في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬7) فأوجب على المحصر دما، ونهاه عن الحلق حتى ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 30 (¬2) سورة الحج الآية 33 (¬3) سورة البقرة الآية 196 (¬4) سورة المائدة الآية 95 (¬5) سورة النساء الآية 92 (¬6) سورة النساء الآية 92 (¬7) سورة البقرة الآية 196

يذبح هديه، فلو كان ذبحه في الحل جائزا لذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى، فدل على أن الحل ليس بمحل الهدي، فإن قيل: هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار. قيل له: لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم؛ لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك، ولا يكون مخيرا بين الأشياء الثلاثة إلا وهو واجد لها؛ لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين ما لا يجد، فثبت بذلك أن محل الهدي هو الحرم دون محل الإحصار. ومن جهة النظر لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزئ في غيره - وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام، والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام، فإن قيل: قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬1) وذلك في شأن الحديبية، وفيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم، لولا ذلك لكان بالغا محله، قيل له: هذا من أول شيء على أن محله الحرم؛ لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬2) فلما أخبر عن منعهم الهدي عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له، فإن قيل: فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذبحوا الهدي في الحل فما معنى قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬3) قيل له: لما حصل أدنى منع جاز أن يقال: إنهم منعوا، وليس يقتضي ذلك أن يكون أبدا ممنوعا، ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقه جاز ¬

_ (¬1) سورة الفتح الآية 25 (¬2) سورة الفتح الآية 25 (¬3) سورة الفتح الآية 25

أن يقال: منعه حقه، كما يقال: حبسه، ولا يقتضي ذلك أن يكون أبدا محبوسا، فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم جاز إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا، ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام، وإن كانوا قد أطلقوا إليهم بعد ذلك الوصول إليه في العام القابل، وقال الله عز وجل: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} (¬1) وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر، فكذلك منعوا الهدي بديا، ثم لما وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ساق البدن؛ ليذبحها بعد الطواف بالبيت فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬2) ؛ لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه، ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح وهو عند المروة أو بمنى فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت. وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وأن مضرب النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحل، ومصلاه كان في الحرم، فإذا أمكنه أن يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه، وقد روي أن ناجية بن جندب الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «ابعث معي الهدي حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة ففعل» ، وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم. والله أعلم (¬3) . ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية 63 (¬2) سورة الفتح الآية 25 (¬3) [أحكام القرآن] للجصاص (1\ 339 - 341) .

نقول من الفقه المالكي

ثانيا: الفقه المالكي 1 - قال مالك في [المدونة الكبرى] : رسم في الدم ما يصنع به؟ قلت: فهذا الدم كيف يصنع به في قول مالك؟ قال: قال مالك: يقلده ويشعره ويقف به في عرفة مع هدي تمتعه فإن لم يقف به بعرفة لم يجزه إن اشتراه في الحرم إلا أن يخرجه إلى الحل فيسوقه من الحل إلى مكة ويصير منحره بمكة، قلت لابن القاسم: ولم أمره مالك أن يقف بهذا الهدي الذي جعله عليه لتأخير الحلاق بعرفة، وهو إن حلق من أذى لم يأمره بأن يقف بهديه؟ قال: قال مالك: ليس من وجب عليه الهدي لترك الحلاقة مثل من وجب عليه النسك من إماطة الأذى؛ لأن الهدي إذا وجب لترك الحلاقة فإنما هو هدي، وكل ما هو هدي فسبيله سبيل هدي المتمتع والصيام فيه إن لم يجد، ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد ذلك، ولا يكون فيه الطعام، وأما نسك الأذى فهو مخير: إن شاء أطعم، وإن شاء صام، وإن شاء نسك، والصيام فيه ثلاثة أيام، والنسك فيه شاة، والطعام فيه لستة مساكين مدين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا فرق ما بينهما (¬1) . 2 - فيمن أحصر بمرض ومعه هدي: قلت: أرأيت من أحصر بمرض معه هدي أينحره قبل يوم النحر أم يؤخره حتى يوم النحر، وهل له أن يبعث به ويقيم هو حراما؟ قال: إن خاف على هديه لطول مرضه بعث به فنحر بمكة وأقام هو على إحرامه. قال: وإن كان لا يخاف الهدي وكان أمرا قريبا حبسه حتى يسوقه معه. قال: ¬

_ (¬1) [المدونة الكبرى] للإمام مالك (1\ 393) .

وهذا رأيي. قلت: أرأيت إن فاته الحج متى ينحر هدي فوات الحج في قول مالك. قال: في القضاء من قابل. قلت: فإن بعث به قبل أن يقضي حجه يجزئه، فقال: سألت مالكا عن ذلك فقال: لا يقدم هديه ولا ينحره إلا في حج قابل، قال: فقلت له: فإنه يخاف الموت قال: وإن خاف الموت فلا ينحره إلا في حج قابل. قلت: فإن اعتمر بعد ما فاته حجه فنحر هدي فوات حجه في عمرته هل يجزئه؟ قال: أرى أن يجزئه في رأيي، وإنما رأيت ذلك؛ لأنه لو هلك قبل أن يحج أهدي عنه لمكان ذلك ولو كان ذلك لا يجزئه إلا بعد القضاء ما أهدي عنه بعد الموت، قال ابن القاسم: وقد بلغني أن مالكا قد كان خففه ثم استثقله بعد، وأنا لا أحب أن يفعل إلا بعد، فإن فعل وحج أجزأ عنه، قلت: أرأيت المحصر بمرض إذا أصابه أذى فحلق رأسه فأراد أن يفتدي، أفينحر هدي الأذى الذي أماط عنه بموضعه حيث هو أم يؤخر ذلك حتى يأتي مكة في قول مالك؟ قال: قال مالك: ينحره حيث أحب (¬1) . 3 - رسم في الكفارة بالصيام وفي جزاء الصيد: قلت: أرأيت جزاء الصيد في قول مالك أن يكون بغير مكة. قال: قال لي مالك: كل من ترك من نسكه شيئا يجب عليه فيه الدم وجزاء الصيد أيضا، فإن ذلك لا ينحر ولا يذبح إلا بمكة أو بمنى، فإن وقف به بعرفة نحر بمنى وإن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة. قلت له: وإن كان قد ¬

_ (¬1) [المدونة] (1\ 450) .

وقف به بعرفة نحر بمنى وإن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة. قلت له: وإن كان قد وقف به بعرفة ولم ينحره أيام النحر بمنى نحره بمكة، ولا يخرجه إلى الحل ثانية. قال: نعم، قلت: وهذا قول مالك. قال: نعم (¬1) . 4 - قال في [جواهر الإكليل شرح مختصر خليل] : والجزاء بحكم عدلين فقيهين بذلك مثله من النعم أو إطعام بقيمة الصيد يوم التلف بمحله، وإلا فبقربه ولا يجزئ بغيره. وذكر في الشرح (بمحله) أي: التلف إن كان له قيمة فيه ووجد به مساكين (وإلا) أي: وإن لم يكن له قيمة بمحله أو لم يوجد به مساكين فيقوم أو يطعم (بقربه) أي: محل التلف ولا يجزئ الإطعام بغيره، أي: محل التلف أو قربه مع الإمكان. سند جملة ذلك أنه إن أخرج الجزاء هديا اختص بالحرم، أو صياما فحيث شاء أو طعاما اختص بمحل التقويم (¬2) . 5 - قال ابن رشد في [بداية المجتهد] : وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه، فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه عام الحديبية، فقال ابن إسحاق: نحره في الحرم، وقال غيره: إنما نحره في الحل، واحتج بقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬3) وإنما ذهب أبو حنيفة إلى ¬

_ (¬1) [المدونة] (1\ 431) . (¬2) [جواهر الإكليل شرح مختصر خليل] لصالح الأزهري (1\ 198، 199) . (¬3) سورة الفتح الآية 25

أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة؛ لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما فهذا هو حكم المحصر بعد، وعند الفقهاء (¬1) . وقال في جزاء الصيد: وأما اختلافهم في الموضع فسببه الإطلاق، أعني: أنه لم يشترط فيه موضع، فمن شبهه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال: لا ينقل من موضعه، وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال: لا يطعم إلا مساكين مكة، ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال: يطعم حيث شاء (¬2) . 6 - قال ابن عبد البر في [الكافي] : ولا ينحر الهدي إلا بمنى ومكة، ولا ينحر منه بمنى إلا ما وقف بعرفة، وإن فاته أن يقف بعرفة ساقه من الحل فينحره بمكة بعد خروجه من منى، وإن نحره بمكة في أيام منى أجزأه (¬3) . 7 - جزاء الصيد والحكم فيه: وعند اختيار المثل يذبح في منى أو مكة، أما في غيرهما فلا يجزئ؛ لأنه يصير في حكم الهدي، وتصح القيمة طعاما من غالب قوت أهل البلد الذي يخرج فيه، وتعين القيمة والإخراج بمحل التلف ولا تجزئ الدراهم ولا يجزئ أكثر من مد ولا أقل ويعطى لمسكين (¬4) . 8 - الحكم في الصيد: قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد] لابن رشد (1\ 384) المتوفى سنة 595 هـ. (¬2) [بداية المجتهد] لابن رشد (1\ 389) . (¬3) [الكافي] لابن عبد البر، (1\ 404) ، المتوفى سنة 463 هـ. (¬4) [مرشد السالك في القرب من ملك الممالك] لعبد الوهاب السيد رضوان ص 130، 131.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (¬1) قال مالك - رحمه الله -: فالذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يقتله وهو محرم بمنزلة الذي يبتاعه وهو محرم ثم يقتله، وقد نهى الله عن قتله فعليه جزاؤه والأمر عندنا أن من أصاب الصيد وهو محرم حكم عليه بالجزاء، قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي أصاب، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم كل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما، وينظر كم عدة المساكين فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام، وإن كانوا عشرين مسكينا صام عشرين يوما عددهم ما كانوا، وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا. قال مالك: سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل الصيد في الحرم وهو محرم (¬2) . 9 - ما جاء فيمن أحصر بعدو: حدثني يحيى عن مالك، قال: من حبس بعدو، فحال بينه وبين البيت، فإنه يحل من كل شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء. وحدثني عن مالك: أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية 95 (¬2) [تنوير الحوالك شرح موطأ مالك] (1\ 326، 327) لجلال الدين السيوطي.

يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي، ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه، ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا يعودوا لشيء. وحدثني عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال حيث خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة عام الحديبية. ثم إن عبد الله نظر في أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد، ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة، ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف طوافا واحدا، ورأى ذلك مجزيا عنه وأهدى، قال مالك: فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو. كما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت (¬1) . 10 - قال الله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره عن هذه الآية: الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى، ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، أي: لا تتحللوا من الإحرام حتى ينحر الهدي، والمحل: الموضع الذي يحل فيه ذبحه. فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي موضع الحصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬3) قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق. وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار الحرم؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬4) وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن ¬

_ (¬1) [تنوير الحوالك شرح الموطأ] والكتابة من نص الموطأ، (1\ 329، 330) . (¬2) سورة البقرة الآية 196 (¬3) سورة الفتح الآية 25 (¬4) سورة الحج الآية 33

الذي يجد الوصول إلى البيت، فأما المحصر فخارج من قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1) بدليل نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هديهم بالحديبية، وليست من الحرم، واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم قال: " فكيف تصنع به؟ " فقال: أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه فأنطلق به حتى أنحره في الحرم» وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما ينحر حيث حل؛ اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وهو الصحيح الذي رواه الأئمة، ولأن الهدي تابع للمهدي، والمهدي حل بموضعه فالمهدي أيضا يحل معه (¬2) . ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 33 (¬2) [تفسير القرطبي] ص 379، المتوفى سنة 671 هـ.

نقول من الفقه الشافعي

ثالثا: الفقه الشافعي 1 - قال الشافعي في [الأم] : وحيثما نحره من منى أو مكة إذا أعطاه مساكين الحرم أجزأه وقال: (ولو أن رجلا نحر هديه فمنع المساكين دفعه إليهم أو نحره بناحية ولم يخل بين المساكين وبينه حتى ينتن - كان عليه أن يبدله، والنحر يوم النحر وأيام منى كلها حتى تغيب الشمس من آخر أيامها، فإذا غابت الشمس فلا نحر إلا إن كان عليه هدي واجب نحره وأعطاه مساكين الحرم قضاء) انتهى. وقال: (وفي أي الحرم ذبحه ثم أبلغه مساكين الحرم أجزأه وإن كان ذبحه إياه في غير موضع ناس. . .) . وقال: (ومتى أصابه أذى وهو يرجو أن يخلى، نحاه عنه وافتدى في موضعه كما يفتدي المحصر إذا خلي عنه في غير الحرم، وكان مخالفا لما

سواه لمن قدر على الحرم، ذلك لا يجزيه إلا أن يبلغ هديه الحرم) . وقال في الإحصار بالمرض وغيره: (وإن احتاج إلى دواء عليه فيه فدية تنحية أذى، فعله وافتدى، ويفتدي في الحرم بأن يفعله ويبعث بهدي إلى الحرم) (¬1) . 2 - (باب أين محل هدي الصيد) قال الشافعي - رحمه الله -: قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬2) قال الشافعي: (فلما كان كلما أريد به هدي من ملك ابن آدم هديا كانت الأنعام كلها وكل ما أهدي فهو بمكة - والله أعلم - ولو خفي عن أحد أن هذا هكذا ما انبغى - والله أعلم - أن يخفى عليه إذا كان الصيد إذا جزي بشيء من النعم لا يجزئ فيه، إلا أن يجرى بمكة، فعلم أن مكة أعظم أرض الله تعالى حرمة وأولى أن تنزه عن الدماء لولا ما عقلنا من حكم الله في أنه للمساكين الحاضرين بمكة، فإذا عقلنا هذا عن الله عز وجل فكان جزاء الصيد الطعام لم يجز - والله أعلم - إلا بمكة. فلو أطعم في كفارة صيد بغير مكة لم يجز عنه، وأعاد الإطعام بمكة أو بمنى فهو من مكة؛ لأنه كحاضر الحرم، ومثل هذا كل ما وجب على محرم بوجه من الوجوه من فدية أذى أو طيب أو لبس أو غيره، لا يخالفه في شيء؛ لأنه كله من جهة النسك والنسك إلى الحرم ومنافعه للمساكين الحاضرين الحرم. وقال: (ومن حضر الكعبة حين يبلغها الهدي من النعم أو الطعام من مسكين كان له أهل بها أو غريب؛ لأنهم إنما أعطوا بحضرتها وإن قل، ¬

_ (¬1) [الأم] للشافعي - رحمه الله - (2\ 184، 185) . (¬2) سورة المائدة الآية 95

فكان يعطي بعضهم دون بعض، أجزأه أن يعطي مساكين الغرباء دون أهل مكة ومساكين أهل مكة دون مساكين الغرباء وأن يخلط بينهم ولو آثر به أهل مكة؛ لأنهم يجمعون الحضور والمقام لكان كأنه أسرى إلى القلب. والله أعلم (¬1) . 3 - قال المصنف - رحمه الله - تعالى: (إذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام كدم التمتع والقران، ودم الطيب وجزاء الصيد وجب عليه صرفه لمساكين الحرم؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬2) فإن ذبحه في الحل وأدخله الحرم، نظرت، فإن تغير وأنتن لم يجزئه؛ لأن المستحق لحم كامل غير متغير فلا يجزئه المنتن والمتغير، وإن لم يتغير ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأن الذبح أمر مقصود به الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة. الثاني: يجزئه؛ لأن المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم، وإن وجب عليه طعام لزمه صرفه إلى مساكين الحرم قياسا على الهدي، وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم في الصيام. وإن وجب عليه هدي وأحصر عن الحرم جاز له أن يذبح ويفرق حيث أحصر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال (¬3) » ، ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل ¬

_ (¬1) [الأم] للشافعي، ص 157. (¬2) سورة المائدة الآية 95 (¬3) صحيح البخاري الصلح (2701) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) .

لأجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع الهدي، فكما قال الأصحاب: الدماء الواجبة في الحج لها زمان ومكان. وأما المكان: فالدماء الواجبة على المحرم ضربان: واجب على المحصر بالإحصار، أو بفعل محظور أو الضرب واجب على غير المحصر، فيختص بالحرم، ويجب تفريقه على مساكين الحرم سواء الغرباء الطارئون والمستوطنون، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل، وله أن يخص به أحد الصنفين، نص عليه الشافعي واتفقوا عليه وفي اختصاص ذبحه بالحرم خلاف، حكاه المصنف وآخرون وجهين، وحكاه آخرون قولين: (أصحهما) : يختص، فلو ذبحه في طرف الحل ونقله في الحال طريا إلى الحرم - لم يجزئه والثاني: لا يختص، فيجوز ذبحه خارج الحرم بشرط أن ينقله ويفرقه في الحرم قبل تغير اللحم، وسواء في هذا كله دم التمتع والقران وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم، أو بسبب مباح كالحلق للأذى، أو بسبب محرم. وهذا هو الصحيح. وفي القديم قول: أن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفرقته في الحل قياسا على دم الإحصار، وممن حكى هذا القول وفي وجه ضعيف: أن ما وجب بسبب مباح لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم. وفيه وجه أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث حلق جاز وكل هذا شاذ ضعيف، والمذهب ما سبق. قال الشافعي والأصحاب: ويجوز الذبح في بقاع الحرم قريبها وبعيدها، لكن الأفضل في حق الحاج الذبح بمنى وفي حق المعتمر المروة؛ لأنهما محل تحللهما، وكذا حكم ما يسوقانه من

الهدي (¬1) . 4 - قال القاضي حسين في [الفتاوى] : لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا؛ لأنه وجب لمساكين الحرم، كمن نذر الصدقة على مساكين بلد فلم يجد فيه مساكين، يصبر حتى يجدهم، ولا يجوز نقله بخلاف الزكاة على أحد القولين؛ لأنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد لها بخلاف الهدي (¬2) . 5 - (ويجب صرف لحمه) وجلده وبقية أجزائه من شعره وغيره، فاقتصاره على اللحم؛ لأنه الأصل فيما يقصد منه، فهو مثال لا قيد (إلى مساكينه) أي: الحرم وفقرائه القاطنين منهم والغرباء والصرف إلى الأول أولى إلا أن تشتد حاجة الثاني فيكون أولى، وعلم من كلامه عدم جواز أكله شيئا منه، وبه صرح الرافعي في كتاب الأضحية، وأنه لا فرق بين أن يفرق المذبوح عليهم أو يعطيه بجملته لهم، وبه صرح الرافعي أيضا في الكلام على تحريم الصيد، ويكفي الاقتصار على ثلاثة من فقرائه أو مساكينه وإن انحصروا؛ لأن الثلاثة أقل الجمع، فلو دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن له أقل متمول كنظيره من الزكاة، وإنما لم يجب استيعابهم عند الانحصار كما في الزكاة؛ لأن المقصود هنا حرمة البلد وثم سد الخلة وتجب النية عند التفرقة، كما قاله الروياني وغيره، ويؤخذ من التشبيه بالزكاة الاكتفاء بالمتقدمة عليها واقتصاره فيما مر على الدم الواجب بفعل ¬

_ (¬1) [المجموع شرح المهذب] (7\ 411 - 413) . (¬2) [المجموع شرح المهذب] (7\ 413) .

حرام أو ترك واجب مثال إذ دم التمتع والقران كذلك. . . ودفع الطعام لمساكين الحرم لا يتعين لكل منهم مد في دم التمتع ونحوه مما ليس دمه دم تخيير وتقدير، أما دم الاستمتاعات ونحوها مما دمه دم تخيير وتقدير فلكل واحد من ستة مساكين نصف صاع من ثلاثة آصع كما مر. ولو ذبح الدم الواجب بالحرم ثم سرق أو غصب منه قبل التفرقة لم يجزئه. نعم، هو مخير بين ذبح آخر وهو أولى، أو شراء بدله لحما والتصدق به؛ لأن الذبح قد وجد، وإنما لم يتقيد ذلك بما لو قصر في التفرقة وإلا فلا يضمن، كما لو سرق المال المتعلق به الزكاة؛ لأن الدم متعلق بالذمة والزكاة بعين المال، ولو عدم المساكين في الحرم أخر الواجب المالي حتى يجدهم وامتنع النقل، بخلاف الزكاة حيث جاز النقل فيها إلا أنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها، بخلاف هذا. وقوله: (إلى مساكينه) عبارة العباب: ويجب تفريق لحوم وجلود هذه الدماء وبدلها من الطعام على المساكين في الحرم، قال الشارح في شرحه: وقضيته أنه لا يجوز إعطاؤهم خارجه، والأوجه خلافه كما مر، لكن يؤيده تعليل الكفاية وغيرها؛ ذلك بأن القصد من الذبح هو إعظام الحرم بتفرقة اللحم فيه لا لتلويثه بالدم والفرث إذ هو مكروه. اهـ. ويجاب: بأن المراد بتفرقة اللحم فيه صرفه لأهله وخالفهم - ر فصمم على أنه لا يجوز صرفه خارجه ولا لمن هو فيه بأن خرج هو وهم عنه ثم فرقه عليهم خارجه ثم دخلوه. اهـ. سم على حج. وقضية قول المصنف صرف لحمه إلى مساكينه أن المدار على صرفه لهم ولو في غير الحرم، لكن قول الشارح الآتي قبيل الباب، وكل هذه الدماء وبدلها تختص تفرقته بالحرم على مساكينه يوافق ما نقله - سم - عنه وصمم

عليه (¬1) . ¬

_ (¬1) [نهاية المحتاج] (3\ 437) .

نقول من الفقه الحنبلي

رابعا: الفقه الحنبلي 1 - قال ابن قدامة في [المغني] : وإذا نحر الهدي فرقه على المساكين من أهل الحرم، وهو من كان في الحرم، فإن أطلقها لهم جاز، كما روى أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ثم قال: " من شاء فليقتطع» رواه أبو داود. وإن قسمها فهو أحسن وأفضل، ولا يعطى الجازر بأجرته شيئا منها؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال: «أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئا، وقال: نحن نعطيه من عندنا (¬1) » . متفق على معناه ولأنه بقسمها يكون على يقين من إفضائها إلى مستحقها، ويكفي المساكين مؤونة النهب والزحام عليها، وإنما لم يعط الجازر أجرته منها؛ لأنه ذبحها فعوضه عليه، دون المساكين، ولأن دفع جزء منها عوضا عن الجزارة كبيعه ولا يجوز بيع شيء منها (¬2) . 2 - قال ابن قدامة في [المقنع] : وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم، إلا فدية الأذى واللبس ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر (¬3) . 3 - وقال في الحاشية على قوله: (إلا فدية الأذى) أي: لأنه صلى الله عليه وسلم أمر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1717) ، صحيح مسلم الحج (1317) ، سنن أبو داود المناسك (1769) ، سنن ابن ماجه المناسك (3099) ، مسند أحمد بن حنبل (1/154) ، سنن الدارمي المناسك (1940) . (¬2) [المغني] (3\ 433) . (¬3) [المقنع] (1\ 430) .

كعبا بها بالحديبية، وهي من الحل، واشتكى الحسين بن علي رضي الله عنهما رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا، رواه مالك، ووقت ذبحه حين فعله، وله الذبح قبله لعذر. 4 - وعلى قوله: (ودم الإحصار. . إلخ) أي: من حل أو حرم نص عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية نحروا هديهم وحلوا، لكن إن كان قادرا على أطراف الحرم فوجهان، وعنه ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلا على نحره في وقت تحلله، روي عن ابن مسعود (¬1) . 5 - قال شيخ الإسلام: وكما أن المعتمر في أشهر الحج إذا أراد أن يحج في عامه مخير بين أن ينشئ للحج سفرا وبين أن يتركه لهدي التمتع، فهو مخير في إكمال الحج بالسفر أو بالهدي؛ ولهذا قلنا: ليس جبرانا؛ لأن دم الجبران لا يخير في سببه كترك الواجبات، وإنما هو هدي واجب، كأنه مخير بين العبادة البدنية المحضة والبدنية المالية وهو الهدي، ولكن قد يقال: إذا كان واجبا فلا يؤكل منه بخلاف التطوع، قلنا: هدي النذر أيضا فيه خلاف، وما وجب معينا يأكل منه باتفاق؛ لأن نفس الذابح لله مهديا إلى بيته أعظم المقصودين؛ ولهذا اختلف العلماء في وجوب تفرقته في الحرم، وإن كنا نحن نوجب ذلك فيما هو هدي دون ما هو نسك، ليظهر تحقيقه بتسميته هديا وهو الإهداء إلى الكعبة (¬2) . ¬

_ (¬1) المقنع (1\ 430) حاشية ابن الشيخ. (¬2) [الفتاوى] لشيخ الإسلام (35\ 321، 322) .

6 - وكل هدي أو إطعام يتعلق بحرم أو إحرام: كجزاء صيد، وما وجب لترك واجب، أو فوات، أو بفعل محظور في الحرم، وهدي تمتع وقران ومنذور ونحوهما، يلزم ذبحه في الحرم، وتفرقة لحمه فيه، أو إطلاقه بعد ذبحه لمساكينه من المسلمين إن قدر على إيصاله إليهم بنفسه، أو بمن يرسله معه، وهم: من كان به، أو واردا إليه من حاج وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة، فإن دفع إلى فقير في ظنه فبان غنيا أجزأه، ويجزئ نحره في أي نواحي الحرم كان، قال أحمد: مكة ومنى واحد، ومراده: في الإجزاء لا في التساوي، ومنى كلها منحر، والأفضل: أن ينحر في الحج بمنى وفي العمرة بالمروة، وإن سلمه إليهم فنحروه أجزأه، وإلا استرده ونحره، فإن أبى وعجز ضمنه، فإن لم يقدر على إيصاله إليهم جاز نحره في غير الحرم وتفرقته هو والطعام حيث نحره، وفدية الأذى واللبس ونحوهما؛ كطيب، ودم المباشرة دون الفرج إذا لم ينزل، وما وجب بفعل محظور خارج الحرم ولو لغير عذر فله تفرقتها حيث وجد سببها، وفي الحرم أيضا، ووقت ذبح فدية الأذى واللبس ونحوهما وما ألحق به حين فعله، وله الذبح قبله لعذر، وكذلك ما وجب لترك واجب ولو أمسك صيدا أو جرحه ثم أخرج جزاءه ثم تلف المجروح أو الممسك أو قدم من أبيح له الحلق فديته قبل الحلق ثم حلق أجزأ، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر، وأما الصيام والحلق وهدي التطوع وما يسمى نسكا فيجزئه بكل مكان كأضحيته (¬1) . 7 - قال ابن هبيرة: اختلفوا في الدماء المتعلقة بالإحرام بم يختص ¬

_ (¬1) [الإقناع] (1\ 372) .

تفريقها، فقال أبو حنيفة: الذبح كله يتعلق بالحرم ولا يختص تفريقه بأهله، وقال مالك: ما كان من فدية الأذى وفدية لبس المخيط فإنه نسك ينحره حيث شاء، ما عدا ذلك فإنه هدي ينحره ويختص بأهل الحرم، وقال الشافعي: الدماء المتعلقة بالإحرام تفرقتها بالحرم إلا دم الإحصار، وقال أحمد مثله وزاد عليه في الاستثناء دم الحلق (¬1) . هذا ما تيسر ذكره من النقول. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ¬

_ (¬1) [الإفصاح] لابن هبيرة ص 291.

قرار هيئة كبار العلماء بشأن حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم

قرار هيئة كبار العلماء رقم (77) وتاريخ 21\10\1400 هـ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بالطائف ابتداء من يوم السبت الموافق 12\10\1400 هـ حسب تقويم أم القرى حتى الحادي والعشرين منه بحث المجلس [حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم] . بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة من دراسة هذا الموضوع بعد أن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيه يوضح حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات ونحوها إلى أماكن تقع خارج الحرم، وهل يجوز توزيعها خارج الحرم مطلقا أو عند استغناء فقراء الحرم، وهل يفرق بين الهدايا الواجبة من أجل التمتع والقران وبين الواجبة بفعل محظور أو ترك واجب؟ وقد درس المجلس البحث المذكور ورجع إلى قراره رقم (76) الذي أصدره في الدورة الاستثنائية الرابعة، المتضمن عدة مقترحات للاستفادة من اللحوم التي تكون في منى أيام الحج وهي: 1 - تطوير المسالخ الحالية لتستوعب أعدادا كبيرة من الذبائح، وإنشاء مسالخ متعددة على مداخل ومخارج منى وفي أماكن متفرقة من الحرم بالقدر الذي يكفي مع استمرار تمكين الحجاج من مباشرة ذبح هداياهم، إذا رغبوا في ذلك، وأخذ ما يشاءون من لحومها.

2 - العمل على إيجاد المجالب المناسبة بجوار كل مسلخ، ومنع الناس من بيع ما لا يجزئ شرعا؛ من الهزيل والمريض ونحوهما. 3 - إيجاد البرادات الكافية لحفظ اللحوم الصالحة التي يستغني عنها الحجاج إلى أن توزع على فقراء الحرم حسب الإمكان. 4 - أن تقوم الجهات المعنية بتوعية الحجاج في داخل المملكة وخارجها في أحكام الهدي، وما يجب أن يكون عليه، وما يلزمهم نحوه. 5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل الجلد والعظام والصوف، ونحو ذلك مما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم، مما يتركه أهله رغبة عنه. وبعد مناقشة الموضوع وتداول الرأي فيه رأى المجلس بالأكثرية إصدار قرار يوضح الحكم في نقل اللحوم من الحرم إلى خارجه، حيث كان القرار السابق مختصا باللحوم التي تبقى فيه. وبناء على هذا فإن ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع: 1 - هدي التمتع والقران، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم، وقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم من لحوم هداياهم إلى المدينة، ففي [صحيح البخاري] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كلوا وتزودوا " فأكلنا وتزودنا (¬1) » . 2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد، أو فدية لإزالة أذى، أو ارتكاب محظور أو ترك واجب - فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه؛ لأنه كله لفقراء الحرم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الحج (1719) ، صحيح مسلم الأضاحي (1972) ، سنن النسائي الضحايا (4426) ، مسند أحمد بن حنبل (3/317) ، موطأ مالك الضحايا (1046) ، سنن الدارمي الأضاحي (1961) .

3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزاء، أو هدي الإحصار، أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم - فهذا يوزع حيث ذبح، ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر. وإن المجلس يوصي جميع الحجاج بأن يختاروا الجيد الطيب لهداياهم وذبائحهم، وأن يعلموا أنه يجب عليهم توزيعها حسب ما شرع الله ورسوله، ولا يجوز لهم ذبحها وتركها دون أن ينتفع بها أحد من المسلمين. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة . ... . ... عبد الرزاق عفيفي عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن عبد الله بن قعود متوقف ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها

(10) حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. فبناء على البرقية الخطية العاجلة رقم 5334 \ 4 \ 2 وتاريخ 29 \ 6 \ 1400 هـ الواردة من وكيل وزارة الأشغال العامة بالنيابة، والتي يطلب فيها موافاته إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها، وبناء على موافقة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على عرض الموضوع على هيئة كبار العلماء في الدورة السادسة عشرة؛ لما له من صفة العموم وذلك من اختصاص الهيئة. ونظرا إلى الرغبة في إطلاع مجلس الهيئة على ما ذكره أهل العلم من حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها. . إلخ - جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن الجصاص ومحمد بن الحسن الشيباني والقرطبي وابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والبرسوي ومحمد رشيد رضا وابن حزم والشوكاني، وفي هذه النقول مذاهب الفقهاء، وخاصة الأئمة الأربعة وأدلتهم.

نقول عن المفسرين والفقهاء في حكم دخول الكافر المساجد

وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب ترتيب الناقلين لها. وبالله التوفيق. 1 - النقول عن الجصاص [أحكام القرآن] : قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬1) قال الجصاص: إطلاق اسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه، كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار، فلذلك سماهم نجسا، والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين: أحدهما: نجاسة الأعيان، والآخر: نجاسة الذنوب، وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬2) وقال في وصف المنافقين: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} (¬3) فسماهم رجسا، كما سمى المشركين نجسا، وقد أفاد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬4) منعهم من دخول المسجد إلا لعذر، إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس، وقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬5) قد تنازع معناه أهل العلم: فقال مالك والشافعي: لا يدخل المشرك المسجد الحرام، قال مالك: ولا غيره من المساجد إلا لحاجة، من نحو الذمي يدخل إلى ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) سورة المائدة الآية 90 (¬3) سورة التوبة الآية 95 (¬4) سورة التوبة الآية 28 (¬5) سورة التوبة الآية 28

الحاكم في المسجد؛ للخصومة. وقال الشافعي: يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة. وقال أصحابنا: يجوز للذمي دخول سائر المساجد، وإنما معنى الآية على أحد وجهين: إما أن يكون النهي خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد؛ لأنهم لم تكن لهم ذمة، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وهم مشركو العرب، أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر، فيما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك، فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬1) الآية، وفي حديث علي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ عنه (سورة براءة) نادى: ولا يحج بعد العام مشرك، وفي ذلك دليل على المراد بقوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬2) ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (¬3) وإنما كانت خشية العيلة؛ لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج؛ لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج، فدل ذلك على أن مراد الآية: الحج، ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أفعال الحج، وإن لم يكن في المسجد، ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع - ثبت أن مراد الآية هو: الحج دون قرب المسجد لغير الحج؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) سورة التوبة الآية 28 (¬3) سورة التوبة الآية 28

في سائر المشركين، وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون قرب المسجد، والذي في الآية: النهي عن قرب المسجد فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص: «أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا: يا رسول الله، قوم أنجاس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم» وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام؛ لقول الله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬1) قال أبو بكر: فأما وفد ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر، وهي سنة تسع، فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا تمنع الكافر من دخول المسجد، وأما أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة، وذلك قبل الفتح، وكان أبو سفيان مشركا حينئذ، والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام، ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المسجد فإن قيل: لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك؛ لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬2) ولما روى زيد بن يثيع عن علي رضي الله عنه: أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الحرم مشرك» ، قيل له: إن صح هذا اللفظ فالمراد: أن لا يدخله للحج وقد روي في إخبار عن علي أنه نادى: أن لا يحج بعد ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) سورة التوبة الآية 28

العام مشرك، وكذلك في حديث أبي هريرة، فثبت أن المراد: دخول الحرم للحج وقد روى شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا، إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة» فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر، وإنما خص العبد والأمة - والله أعلم - بالذكر؛ لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬1) إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة، فوقفه أبو الزبير على جابر، وجائز أن يكونا صحيحين، فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى بها أخرى وروى ابن جريج عن عطاء قال: لا يدخل المسجد مشرك، وتلا قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2) قال عطاء: المسجد الحرام: الحرم كله، قال ابن جريج: وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك قال أبو بكر: والحرم كله يعبر عنه بالمسجد، إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد، وقال الله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬3) والحرم كله مراد به، وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬4) قد أريد به الحرم كله؛ لأنه في أي الحرم ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) سورة التوبة الآية 28 (¬3) سورة الحج الآية 25 (¬4) سورة الحج الآية 33

نحر البدن أجزأه، فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬1) الحرم كله للحج، إذ كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم والحرم كله في حكم المسجد لما وصفنا، فعبر عن الحرم بالمسجد، وعبر عن الحج بالحرم ويدل على أن المراد بالمسجد هاهنا الحرم قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (¬2) ومعلوم أن ذلك كان بالحديبية، وهي على شفير الحرم، وذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم، فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام، وإنما هي عند الحرم، وإطلاقه تعالى اسم النجس على المشركين يقتضي اجتنابهم وترك مخالطتهم إذ كنا مأمورين باجتناب الأنجاس وقوله تعالى: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬3) فإن قتادة ذكر أن المراد: العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق فتلا علي (سورة براءة) وهو لتسع مضين من الهجرة، وكان بعده حجة الوداع سنة عشر (¬4) . قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} (¬5) عمارة المسجد تكون بمعنيين: أحدهما: زيارته والسكون فيه، والآخر: ببنائه وتجديد ما استرم منه؛ وذلك لأنه يقال: اعتمر إذا زار ومنه العمرة؛ لأنها زيارة البيت، وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والسكون ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) سورة التوبة الآية 7 (¬3) سورة التوبة الآية 28 (¬4) [أحكام القرآن] للجصاص (3\87 - 89) ، المتوفى سنة 370 هـ. طبعة \ دار الكتاب العربي - بيروت. (¬5) سورة التوبة الآية 17

فيها، وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد، ومن بنائها، وتولي مصالحها، والقيام بها؛ لانتظام اللفظ للأمرين (¬1) . 2 - النقول عن الشيباني [الجامع شرح السير الكبير] : ذكر عن الزهري: أن أبا سفيان بن حرب كان يدخل المسجد في الهدنة وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬2) الآية. والمراد بالهدنة: الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يوم الحديبية، وقد جاء أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد بعد ما نقضوا هم العهود، وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد لذلك، فهذا دليل لنا على مالك رضي الله عنه فإنه يقول: لا يمكن المشرك من أن يدخل شيئا في المساجد والدليل على ذلك: «أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد فقيل: هم أنجاس. قال: " ليس على الأرض من نجاستهم شيء» . ثم أخذ الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري فقال: يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة للآية. فأما عندنا فلا يمنعون من ذلك كما لا يمنعون من سائر المساجد، ويستوي في ذلك الحربي والذمي، وتأويل الآية: الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا في الجاهلية ما روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة. ¬

_ (¬1) [أحكام القرآن] للجصاص (4\278) المتوفى سنة 370 هـ. (¬2) سورة التوبة الآية 28

والمراد: القرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام، وبه نقول: إن ذلك ليس إليهم ولا يمكنون منه بحال (¬1) . 3 - النقول عن القرطبي [الجامع لأحكام القرآن] : قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2) فيه سبع مسائل: الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬3) ابتداء وخبر، واختلف العلماء في وصف المشرك بالنجس: فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري: من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم، إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد: وأسقطه الشافعي وقال: أحب إلي أن يغتسل ونحوه لابن القاسم، ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس، وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال، رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده. «وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد حسن إسلام صاحبكم (¬4) » ، وأخرجه مسلم بمعناه، وفيه: أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد ¬

_ (¬1) [شرح السير الكبير] لمحمد بن الحسن الشيباني (14\ 135) . (¬2) سورة التوبة الآية 28 (¬3) سورة التوبة الآية 28 (¬4) مسند أحمد بن حنبل (2/483) .

فاغتسل، وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر، فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب، ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة، هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه، إذا اعتقد الإسلام بقلبه، وهو قول ضعيف في النظر، مخالف للأثر، وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول، هذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان: إنه قول باللسان، وتصديق بالقلب، ويزكو بالعمل، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1) انتهى. الثانية: قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا} (¬2) نهي؛ ولذلك حذفت منه النون {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬3) هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم، وهو مذهب عطاء؛ فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع، فإذا جاءنا رسول منهم خرج الإمام إلى الحل، ليسمع ما يقول، ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه، فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز ¬

_ (¬1) سورة فاطر الآية 10 (¬2) سورة التوبة الآية 28 (¬3) سورة البقرة الآية 144

وأما جزيرة العرب وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين، وكذلك قال الشافعي - رحمه الله -، غير أنه استثنى من ذلك اليمن، ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم، ولا يدفنون فيها ويلجأون إلى الحل. انتهى.

الثالثة: واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال: 1 - فقال أهل المدينة: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله، ونزع في كتابه بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (¬1) ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها وفي [صحيح مسلم] وغيره: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر» الحديث. والكافر لا يخلو عن ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب (¬2) » والكافر جنب، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬3) فسماه الله تعالى نجسا، فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم. وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب؛ لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد، يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنه مصدر فأما النجس (بكسر النون وجزم الجيم) فلا يقال إلا إذا قيل معه: رجس، فإذا أفرد قيل: نجس (بفتح النون وكسر الجيم) ونجس (بضم الجيم) ، وقال الشافعي - رحمه الله -: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر؛ لأن قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬4) تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة. فإن قيل: فقد ربط ¬

_ (¬1) سورة النور الآية 36 (¬2) سنن أبو داود الطهارة (232) . (¬3) سورة التوبة الآية 28 (¬4) سورة التوبة الآية 28

النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وهو مشرك. قيل له: أجاب علماؤنا عن هذا الحديث - وإن كان صحيحا - بأجوبة: أحدها: أنه كان متقدما على نزول الآية. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه. الثالث: أن ذلك قضية عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة التي ذكرناها؛ لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية، وقد يمكن أن يقال: إنما ربطه في المسجد، لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في جلوسهم في المسجد، فيستأنس بذلك ويسلم، وكذلك كان. ويمكن أن يقال: إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان، وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها. قال الكيا الطبري: ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة، وقال الشافعي: تعتبر الحاجة. ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام. وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم؛ لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) وإنما رفع من بيت أم هانئ وقال قتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية، أو عبدا كافرا لمسلم، وروى إسماعيل بن إسحاق، حدثنا يحيى بن عبد ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية 1

الحميد قال: حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقرب المسجد مشرك، إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة» ، وبهذا قال جابر بن عبد الله، فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد والأمة (¬1) . 4 - النقول من ابن كثير [تفسير القرآن العظيم] : قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2) أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين، الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بصحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين: «أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (¬3) » فأتم الله ذلك، وحكم به شرعا وقدرا وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬4) إلا أن يكون عبدا، أو أحدا من أهل الذمة، وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حسين، حدثنا شريك عن الأشعث - يعني: ابن سوار - عن الحسن عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم (¬5) » تفرد به الإمام أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا وقال الإمام أبو ¬

_ (¬1) [تفسير القرطبي] (8\ 103 ـ 106) ، المتوفى سنة 671 هـ. (¬2) سورة التوبة الآية 28 (¬3) صحيح البخاري الصلاة (369) ، صحيح مسلم الحج (1347) ، سنن النسائي مناسك الحج (2957) ، سنن أبو داود المناسك (1946) ، مسند أحمد بن حنبل (2/299) ، سنن الدارمي الصلاة (1430) . (¬4) سورة التوبة الآية 28 (¬5) مسند أحمد بن حنبل (3/392) .

عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬1) وقال عطاء: الحرم كله مسجد؛ لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2) ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك، كما ورد في الصحيح «المؤمن لا ينجس (¬3) » ، وأما نجاسة بدنه: فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث، عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير (¬4) . 5 - قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في [الفتاوى] : وأما إذا كان دخله ذمي لمصلحة فهذا فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد - رحمه الله -: أحدهما: لا يجوز، وهو مذهب مالك؛ لأن ذلك هو الذي استقر عليه عمل الصحابة. والثاني: يجوز وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وفي اشتراط إذن المسلم وجهان في مذهب أحمد وغيره (¬5) . 6 - قدوم وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: «لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 28 (¬2) سورة التوبة الآية 28 (¬3) صحيح البخاري الغسل (285) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) . (¬4) [تفسير ابن كثير] (2\346) ، المتوفى سنة 774 هـ. (¬5) [الفتاوى] لشيخ الإسلام (22\194) .

مسجده فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوهم " فاستقبلوا الشرق فصلوا صلاتهم (¬1) » . قال ابن القيم في [زاد المعاد] : إنه يؤخذ من هذه القصة أمور منها: جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين (¬2) . 7 - قال البرسوي في تفسيره المسمى بـ[تفسير روح البيان] : قال الواحدي: دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين. ويمنع من دخول المساجد، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذنه لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد ومنعها منهم (¬3) . والآية هي قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (¬4) وقال البرسوي: واعلم أن عمارة المساجد تعم أنواعا منها البناء وتجديد ما تهدم منها (¬5) . 8 - قال رضا في [تفسير المنار] : وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام: وقد لخص أقوالهم البغوي في تفسير الآية، ونقله عنه الخازن ببعض ¬

_ (¬1) [زاد المعاد] (3\79) ، لابن القيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ. (¬2) [زاد المعاد] (3\79) ، لابن القيم الجوزية المتوفى سنة 752 هـ. (¬3) تفسير البرسوي المسمى [تفسير روح البيان] (3\398) ، المتوفى سنة 1137 هـ. (¬4) سورة التوبة الآية 18 (¬5) تفسير البرسوي المسمى [تفسير روح البيان] (3\398) ، المتوفى سنة 1137 هـ.

تصرف وبغير عزو، فقال: وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: أحدها: الحرم، فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا؛ لظاهر هذه الآية، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك، فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم، بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم. الثاني: من بلاد الإسلام الحجاز، وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل: نصفها تهامي ونصفها حجازي، وقيل: كلها حجازي. وقال الكلبي: حد الحجاز ما بين جبلي طيئ وطريق العراق، سمي الحجاز؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل: لأنه حجز بين نجد والسراة، وقيل: لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام. قال الحربي: وتبوك من الحجاز، فيجوز للكافر دخول أرض الحجاز بالإذن، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام.

روى مسلم عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلما (¬1) » زاد فيه رواية لغير مسلم وأوصى فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (¬2) » فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم على تجارة ثلاثا. عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب (¬3) » أخرجه مالك في [الموطأ] مرسلا. وروى مسلم، عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1767) ، سنن الترمذي السير (1607) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3030) ، مسند أحمد بن حنبل (1/29) . (¬2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3053) ، صحيح مسلم الوصية (1637) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) . (¬3) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3007) ، موطأ مالك الجامع (1651) .

جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم (¬1) » قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب: ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر، وقال غيره: حد جزيرة العرب: من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا. الثالث: سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم. وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين وأهل الكتاب من جزيرة العرب، وأن لا يبقى فيها دينان مع بيان حكمة ذلك في خاتمة الكلام على معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في السلم والحرب، وإجلائهم من جواره في المدينة، وإجلاء عمر ليهود خيبر وغيرهم ونصارى نجران، عملا بوصيته في مرض موته صلى الله عليه وسلم (¬2) . 9 - قال ابن حزم في [المحلى] : ودخول المشركين في جميع المساجد جائز. حاشا حرم مكة كله - المسجد وغيره - فلا يحل البتة أن يدخله كافر. وهو قول الشافعي وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يدخله اليهودي والنصراني ومنع منه سائر الأديان. وكره مالك دخول أحد من الكفار في شيء من المساجد. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬3) الآية. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2812) ، سنن الترمذي كتاب البر والصلة (1937) ، مسند أحمد بن حنبل (3/313) . (¬2) [تفسير المنار] لمحمد رشيد رضا (10\ 275 - 277) . (¬3) سورة التوبة الآية 28

قال علي: فخص الله المسجد الحرام، فلا يجوز تعديه إلى غيره بغير نص وقد كان المحرم قبل بنيان المسجد وقد زيد فيه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (¬1) » . فصح أن حرم مكة هو المسجد الحرام. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الغريري، ثنا البخاري، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، ثنا سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: " ما عندك يا ثمامة؟ " قال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت؟ (¬2) » ذكر الحديث. وأنه عليه السلام أمر بإطلاقه في اليوم الثالث، «فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي (¬3) » . . . وذكر الحديث. . . فنص قول مالك. وأما قول أبي حنيفة فإنه قال: إن الله تعالى قد فرق بين المشركين وسائر الكفار فقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي المساجد (736) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) . (¬2) صحيح البخاري المغازي (4372) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1764) ، سنن أبو داود الجهاد (2679) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) . (¬3) صحيح البخاري المغازي (4372) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1764) ، سنن النسائي الطهارة (189) ، سنن أبو داود الجهاد (2679) ، مسند أحمد بن حنبل (2/452) . (¬4) سورة البينة الآية 1

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} (¬1) قال: والمشرك هو من جعل لله شريكا، لا من لم يجعل له شريكا. قال علي: لا صحة له غير ما ذكرنا. فأما ما تعلق في الآيتين فلا صحة له فيهما؛ لأن الله تعالى قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (¬2) والرمان من الفاكهة. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬3) وهما من الملائكة. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} (¬4) وهؤلاء من النبيين (¬5) . 10 - قال الإمام الشوكاني في [نيل الأوطار] : قوله: «إن المسلم لا ينجس (¬6) » تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر، وحكاه في [البحر] عن الهادي والقاسم والناصر ومالك، فقالوا: إن الكافر نجس عين، وقووا ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬7) وأجاب عن ذلك الجمهور: بأن المراد منه: أن المسلم طاهر الأعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة بخلاف المشرك؛ لعدم تحفظه عن النجاسة، وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، وحجتهم على ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 17 (¬2) سورة الرحمن الآية 68 (¬3) سورة البقرة الآية 98 (¬4) سورة الأحزاب الآية 7 (¬5) ابن حزم [المحلى] (4\ 245 - 247) ، المتوفى سنة 456 هـ. (¬6) صحيح البخاري الغسل (283) ، صحيح مسلم الحيض (371) ، سنن الترمذي الطهارة (121) ، سنن النسائي الطهارة (269) ، سنن أبو داود الطهارة (231) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534) ، مسند أحمد بن حنبل (2/471) . (¬7) سورة التوبة الآية 28

صحة هذا التأويل: أن الله أباح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة ومن جملة ما استدل به القائلون بنجاسة الكافر: حديث إنزاله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف المسجد وتقريره لقول الصحابة: قوم أنجاس لما رأوه أنزلهم المسجد، وقوله لأبي ثعلبة لما قال له: «يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها (¬1) » وسيأتي في باب آنية الكفار. وأجاب الجمهور عن حديث إنزال وفد ثقيف: بأنه حجة عليهم لا لهم؛ لأن قوله: «ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء، إنما أنجاس القوم على أنفسهم» ، بعد قول الصحابة: قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل نزاع، ودليل على أن المراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار. وعن حديث أبي ثعلبة بأن الأمر بغسل الآنية ليس لتلوثها برطوباتهم، بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها، يدل على ذلك ما عند أحمد وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضا بلفظ: «إن أرضنا أرض أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم (¬2) » ؟ وسيأتي. ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم، وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في [الصحيحين] من «أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة» ، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد، وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر، وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى، كما أخرجه أحمد وأبو داود من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5478) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، سنن الدارمي السير (2499) . (¬2) سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، مسند أحمد بن حنبل (4/194) .

حديث ابن عمر، وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إلى ذلك يهودي، وسيأتي في باب آنية الكفار، وما سلف من مباشرة الكتابيات والإجماع على جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها، وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة، وهي آخر ما نزل، وإطعامه صلى الله عليه وسلم وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل للآنية ولا أمر به، ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح، ولو توقوها لشاع. قال ابن عبد السلام: ليس من التقشف أن يقول: أشتري من سمن المسلم لا من سمن الكافر؛ لأن الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك، وقد زعم المقبلي في [المنار] : أن الاستدلال في الآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم؛ لأنه حمل لكلام الله ورسوله على اصطلاح حادث، وبين النجس في اللغة وبين النجس في عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه، فالأعمال السيئة نجسة لغة لا عرفا، والخمر نجس عرفا، وهو أحد الأطيبين عند أهل اللغة، والعذرة نجس في العرفين فلا دليل في الآية. انتهى. ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الأفراد لا يستلزم عدم صحة الاستدلال بالآية على المطلوب، والذي في كتب اللغة: أن النجس ضد الطاهر. قال في [القاموس] : النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك، وككتف وعضد ضد الطاهر. انتهى (¬1) . هذا ما تيسر إيراده من النقول، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. . ¬

_ (¬1) [نيل الأوطار] للشوكاني (1\ 25، 26) ، المتوفى سنة 1255 هـ.

قرار هيئة كبار العلماء بشأن حكم دخول الكفار مساجد المسلمين والاستعانة بهم في عمارتها

قرار هيئة كبار العلماء رقم (78) وتاريخ 21 \10 \1400 هـ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400 هـ. حتى الحادي والعشرين منه - نظر المجلس في حكم دخول الكفار مساجد المسلمين والاستعانة بهم في عمارتها. . . بناء على البرقية الخطية الواردة لسماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من سعادة وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان لشؤون الأشغال العامة بالنيابة برقم 5334 / 2 وتاريخ 29 / 6 / 1400 هـ ونصها ما يلي: (نفيدكم أن أحد المقاولين قد تقدم إلينا لاعتماد المهندس المنفذ من قبله لأحد المساجد؛ ونظرا لأن المهندس المذكور مسيحي الديانة، فإننا نأمل موافاتنا إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشاريع المساجد والإشراف عليها) اهـ. ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، واستمع إلى كلام أهل العلم فيه - رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، وأن لا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره؛ تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لا يجتمع في الجزيرة دينان، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد

دينها وأمنها واستقرارها، وإبعادا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها، وتوليهم لكثير من أمورها؛ ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخططات المساجد أو تنفيذها- فقد يصمموها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس، كما حدث من بعضهم، وقد يغشون كذلك في التنفيذ والبناء؛ لأنهم أعداء لهذا الدين، ولمن يدين به من المسلمين. ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها - أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية، وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين: أن لا يستعينوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هيئة كبار العلماء . ... . ... رئيس الدورة . ... . ... عبد الرزاق عفيفي عبد الله خياط ... عبد الله بن محمد بن حميد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح ... محمد بن علي الحركان راشد بن خنين ... محمد بن جبير ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون ... عبد المجيد حسن عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع ... صالح بن لحيدان

إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر

(11) حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية

حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وآله وصحبه وبعد: فبناء على محضر مجلس هيئة كبار العلماء رقم (10) المتخذ في الدورة الخامس الاستثنائية المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع أول عام 1401 هـ المتضمن طلب جمع ما تيسر من أقوال العلماء في حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر. أعدت اللجنة الدائمة بحثا مختصرا في الموضوع شمل نقولا عن بعض العلماء. وفيما يلي تلك النقول. . . والله المستعان:

نقول بعض العلماء

1 - قال البخاري رحمه الله في [صحيحه] : (باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر) 1080 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا (¬1) » (الحديث 1080- طرفاه في: 4298، 4299) . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1080) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .

1081 - حدثنا أبو معمر قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسا يقول: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا (¬1) » . (الحديث 1081 - طرفه في: 4297) وقال ابن حجر رحمه الله في شرح ذلك (¬2) : (باب ما جاء في التقصير) تقول: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا، وقصرتها بالتشديد تقصيرا، وأقصرتها إقصارا والأول أشهر في الاستعمال، والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب، وقال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح. وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة والثوري في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية، قوله: (وكم يقيم حتى يقصر) في هذه الترجمة إشكال؛ لأن الإقامة ليست سببا للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، قاله الكرماني وأجاب بأن عدد الأيام المذكورة سبب لمعرفة جواز القصر فيها ومنع الزيادة عليها، وأجاب غيره بأن المعنى: وكم إقامته المغياة بالقصر؟ وحاصله كم يقيم مقصرا؟ وقيل: المراد كم يقصر حتى يقيم؟ أي: (حتى) يسمى مقيما فانقلب اللفظ، أو حتى هنا بمعنى حين، أي: كم يقيم حين يقصر؟ وقيل: فاعل يقيم هو المسافر، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/282) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) . (¬2) [فتح الباري] (2\561- 563) .

والمراد إقامته في بلد ما غايتها التي إذا حصلت يقصر. قوله: (عن عاصم) هو ابن سليمان، وحصين بالضم هو ابن عبد الرحمن. قوله: (تسعة عشر) أي: يوما بليلته، زاد في [المغازي] من وجه آخر عن عاصم وحده (بمكة) ، وكذا رواه ابن المنذر عن طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ (سبعة عشر) بتقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم قال: وقال عباد بن منصور عن عكرمة (تسع عشرة) كذا ذكرها معلقة وقد وصلها البيهقي. ولأبي داود أيضا من حديث (عمران بن حصين) «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، (¬1) » وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس «أقام رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يقصر الصلاة، (¬2) » وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسع عشرة عد يومي الدخول الخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال: ثماني عشرة عد أحدهما. وأما رواية (خمسة عشر) فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر، فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر؛ لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا. وأخذ ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) . (¬2) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) .

الشافعي بحديث عمران بن حصين لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها أولا، وحجته حديث أنس الذي يليه. قوله: «فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا (¬1) » ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظه: «إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر» ويؤيده صدر الحديث وهو قوله: «أقام (¬2) » وللترمذي من وجه آخر عن عاصم «فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا (¬3) » . قوله في حديث أنس: «خرجنا من المدينة في رواية شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق عند مسلم إلى الحج (¬4) » ، قوله: «فكان يصلي ركعتين ركعتين (¬5) » في رواية البيهقي من طريق علي بن عاصم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس: «إلا في المغرب» ، قوله: «أقمنا بها عشرا (¬6) » ، لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور؛ لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة وحديث أنس في حجة الوداع، وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس «قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة (¬7) » الحديث. ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن؛ فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلده قصر أربعة أيام، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة. وأما قول ابن رشيد: أراد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1080) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬2) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) . (¬3) سنن الترمذي الجمعة (549) . (¬4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) . (¬5) صحيح البخاري الجمعة (1081) . (¬6) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/282) . (¬7) صحيح البخاري الجمعة (1085) ، سنن النسائي مناسك الحج (2870) ، مسند أحمد بن حنبل (1/290) .

البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن إقامة عشر داخل في إقامة تسع عشرة- فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين- ففيه نظر؛ لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفان، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس لما كان الأصل في المقيم الإتمام. فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر. وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة كما سيأتي، وفيه: أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها؛ لأن منى وعرفة ليستا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم فليست من مكة قطعا، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست مكة إلا إن قلنا: إن اسم مكة يشمل جميع الحرم، قال أحمد بن حنبل: ليس لحديث أنس وجه إلا أنه حسب أيام إقامته صلى الله عليه وسلم في حجته منذ دخل مكة إلى أن خرج منها لا وجه له إلا هذا. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة؛ لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع لمكة؛ لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك، كما قال الإمام أحمد. والله أعلم. وزعم الطحاوي: أن الشافعي لم يسبق إلى أن المسافر يصير بنية إقامته أربعة أيام مقيما، وقد قال أحمد نحو ما قال الشافعي، وهي رواية عن مالك.

قول النووي رحمه الله

2 - قال النووي رحمه الله في شرحه للأحاديث الواردة في [صحيح مسلم] : في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، قولها: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر) . اختلف العلماء في القصر في السفر: فقال الشافعي ومالك بن أنس وأكثر العلماء: يجوز القصر والإتمام، والقصر أفضل، ولنا قول: أن الإتمام أفضل، ووجه أنهما سواء، والصحيح المشهور: أن القصر أفضل، وقال أبو حنيفة وكثيرون: القصر واجب ولا يجوز الإتمام، ويحتجون بهذا الحديث وبأن أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان القصر واحتج الشافعي وموافقوه بالأحاديث المشهورة في [صحيح مسلم] وغيره: «أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتمم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض، (¬1) » وبأن عثمان كان يتم، وكذلك عائشة وغيرها، وهو ظاهر قول الله عز وجل: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬2) وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة. وأما حديث «فرضت الصلاة ركعتين (¬3) » فمعناه فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وثبتت دلائل جواز الإتمام فوجب المصير إليها والجمع بين دلائل الشرع قوله: (فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم الصيام (1117) ، سنن الترمذي الصوم (713) ، سنن النسائي الصيام (2312) ، مسند أحمد بن حنبل (3/45) . (¬2) سورة النساء الآية 101 (¬3) صحيح البخاري المناقب (3935) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685) ، سنن النسائي الصلاة (455) ، سنن أبو داود الصلاة (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (337) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .

السفر فقال: إنها تأولت كما تأول عثمان) اختلف العلماء في تأويلهما: فالصحيح الذي عليه المحققون: أنهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام، وقيل: لأن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في منازلهما. وأبطله المحققون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: لأن عثمان تأهل بمكة. وأبطلوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم سافر بأزواجه وقصر، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه؛ لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا، وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان، وقيل: لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج. وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث، وقيل: كان لعثمان أرض بمنى. أبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة، والصواب: الأول، ثم مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور: أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونه سفر طاعة، قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون: ولا يجوز في سفر المعصية وجوزه أبو حنيفة والثوري، ثم قال الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربع وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل، وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة، وقال داود وأهل الظاهر: يجوز في السفر

الطويل والقصير حتى لو كان ثلاثة أميال قصر. قوله: (عن عبد الله بن بابيه) هو بباء موحدة ثم ألف موحدة أخرى مفتوحة ثم مثناة تحت، ويقال فيه: ابن باباه وابن بابي بكسر الباء الثانية. قوله: «عجبت ما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم، فاقبلوا صدقته (¬1) » هكذا هو في بعض الأصول: «ما عجبت، (¬2) » وفي بعضها: «عجبت مما عجبت، (¬3) » وهو المشهور المعروف، وفيه: جواز قول: تصدق الله علينا، واللهم تصدق علينا، وقد كرهه بعض السلف وهو غلط ظاهر، وقد أوضحته في أواخر كتاب [الأذكار] ، وفيه: جواز القصر في غير الخوف وفيه: أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئا يشكل عليه يسأله عنه. والله أعلم) . قوله: في الحضر ركعة، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد جميعا عن القاسم بن مالك قال عمرو: حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: «إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا وفي الخوف ركعة (¬4) » . حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس: «كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (¬5) » (¬6) . ¬

_ (¬1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3034) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433) ، سنن أبو داود الصلاة (1199) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065) ، مسند أحمد بن حنبل (1/36) ، سنن الدارمي الصلاة (1505) . (¬2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3034) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433) ، سنن أبو داود الصلاة (1199) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065) ، مسند أحمد بن حنبل (1/36) ، سنن الدارمي الصلاة (1505) . (¬3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3034) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433) ، سنن أبو داود الصلاة (1199) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065) ، مسند أحمد بن حنبل (1/36) ، سنن الدارمي الصلاة (1505) . (¬4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (687) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1442) ، سنن أبو داود الصلاة (1247) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1068) . (¬5) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (688) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1444) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) . (¬6) [شرح النووي على صحيح مسلم] (5\194-197) .

قول الترمذي رحمه الله

3 - قال الترمذي رحمه الله: باب ما جاء في كم تقصر الصلاة؟ حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا هشيم، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، أخبرنا أنس بن مالك قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين، قال: قلت لأنس: كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال: عشرا (¬1) » . وفي الباب عن ابن عباس وجابر. قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حسن صحيح. وقد روي عن ابن عباس «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين، (¬2) » قال ابن عباس: «فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة (¬3) » . وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة. وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة. وروي عنه ثنتي عشرة. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقام أربعا صلى أربعا. وروى ذلك عنه قتادة وعطاء الخراساني وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا. واختلف أهل العلم بعد في ذلك: فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة. وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة. وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، سنن الدارمي الصلاة (1510) . (¬2) سنن الترمذي الجمعة (548) . (¬3) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) .

وأما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس، قال: لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجمع على إقامة تسع عشرة أتم الصلاة. ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون. حدثنا هناد أخبرنا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا فصلى تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا (¬1) » . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال صاحب [تحفة الأحوذي] في شرح ذلك. [باب ما جاء في كم تقصر الصلاة) ؟! يريد بيان المدة التي إذا أراد المسافر الإقامة في موضع إلى تلك المدة يتم الصلاة، وإذا أراد الإقامة إلى أقل منها يقصر. وقد عقد البخاري في صحيحه بابا بلفظ: (باب في كم تقصر الصلاة) . لكنه أراد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها جاز له القصر ولا يجوز له في أقل منها. قوله: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة) أي: متوجهين إلى مكة لحجة الوداع (فصلى ركعتين (¬2) » أي: في الرباعية، وفي رواية الصحيحين على ما في المشكاة «فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (¬3) » (قال: عشرا) أي: أقام بمكة عشرا، قال القاري في [المرقاة] : الحديث بظاهره ينافي مذهب الشافعي من أنه إذا أقام أربعة أيام يجب ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/190) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) . (¬3) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) .

الإتمام. انتهى. قال صاحب [تحفة الأحوذي] رحمه الله في شرحه لذلك: قلت: قد نقل القاري عن ابن حجر الهيثمي ما لفظه: لم يقم العشر التي أقامها لحجة الوداع بموضع واحد؛ لأنه دخلها يوم الأحد وخرج منها صبيحة الخميس، فأقام بمنى، والجمعة بنمرة وعرفات، ثم عاد السبت بمنى لقضاء نسكه، ثم بمكة لطواف الإفاضة، ثم بمنى يومه فأقام بها بقيته، والأحد والاثنين والثلاثاء إلى الزوال، ثم نفر فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع، ثم رحل قبل صلاة الصبح. فلتفرق إقامته قصر في الكل، وبهذا أخذنا أن للمسافر إذا دخل محلا أن يقصر فيه ما لم يصر مقيما أو ينو إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج أو يقيمهما، واستدلوا لذلك بخبر [الصحيحين] ، «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا، (¬1) » وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار كما روياه أيضا. فالإذن في الثلاثة يدل على بقاء حكم السفر فيها بخلاف الأربعة. انتهى. وقال الحافظ في [فتح الباري] : «قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة (¬2) » كما في حديث ابن عباس، ولاشك أنه خرج صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس رضي الله عنه، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة. انتهى كلام الحافظ. قوله: (وفي الباب عن ابن عباس وجابر) أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه، وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1085) ، سنن النسائي مناسك الحج (2870) ، مسند أحمد بن حنبل (1/290) .

حديث جابر فأخرجه أبو داود. قوله: (حديث أنس حديث حسن صحيح) وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. قوله: (وقد روي عن ابن عباس «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره (¬1) » أي: في فتح مكة، وأما حديث أنس المتقدم فكان في حجة الوداع، قاله الحافظ ابن حجر، وحديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في [صحيحه] (تسع عشرة يصلي ركعتين) ، وفي لفظ للبخاري تسعة عشر يوما، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس سبع عشرة، وفي أخرى له عنه خمس عشرة، وفي حديث عمران بن حصين «شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد، صلوا أربعا، فإنا قوم سفر (¬2) » رواه أبو داود. (قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة) ، هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، ومنه أخذ إسحاق بن راهويه ورآه أقوى المذاهب. (وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة) أخرجه عبد الرزاق بلفظ: إذا أقمت بأرض عشرا فأتمم. فإن قلت: أخرج اليوم أو غدا فصل ركعتين، وإن أقمت شهرا (وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة) أخرجه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، أخبرنا أبو حنيفة حدثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوما فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فاقصر الصلاة، وأخرج الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الجمعة (548) . (¬2) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) .

خمسة عشر يوما أتم الصلاة، وروي عنه ثنتي عشرة، أخرجه عبد الرزاق. كذا في [شرح الترمذي] لسراج أحمد السرهندي. (وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا) روى محمد بن الحسن في الحجج عن سعيد بن المسيب قال: إذا قدمت بلدة فأقمت خمسة عشر يوما فأتم الصلاة، (واختلف أهل العلم بعد) بالبناء على الضم، أي: بعد ذلك (في ذلك) أي: فيما ذكر من مدة الإقامة (فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع) أي: نوى (على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة) وهو قول أبي حنيفة، واستدلوا بما رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح (¬1) » خمس عشرة يقصر الصلاة، قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه وأخرجه النسائي بنحوه وفي إسناده محمد بن إسحاق واختلف على ابن إسحاق فيه فروى عنه مسندا ومرسلا وروى عنه عن الزهري من قوله انتهى، وقد ضعف النووي هذه الرواية، لكن تعقبه الحافظ في [فتح الباري] حيث قال: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في [الخلاصة] وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك فهي صحيحة.. انتهى كلام الحافظ. واستدلوا أيضا بأثر ابن عمر المذكور، وقد روي عنه توقيت ثنتي عشرة كما حكاه الترمذي (وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة) . قال الشوكاني في [النيل] : لا يعرف له مستند فرعي، وإنما ذلك اجتهاد ¬

_ (¬1) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) .

من نفسه. انتهى. قلت: لعله استند بما روي عن ابن عمر توقيت ثنتي عشرة. (وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة) قال في [السبل] صفحة 156: وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا «بمنعه صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا على ثلاثة أيام في مكة،» فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيما. انتهى. قلت: ورد هذا الاستدلال بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة، واستدلوا أيضا بما روى مالك عن نافع عن أسلم عن عمر: أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثة أيام، قال الحافظ في [التلخيص] : صححه أبو زرعة. (أما إسحاق) يعني: ابن راهويه (فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين (¬1) » (قال) أي: إسحاق: (لأنه) أي: ابن عباس (روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم أي: أخذ به وعمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامته وإن أتى عليه سنون) ، جمع سنة أخرج البيهقي عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، قال النووي: إسناده صحيح وفيه عكرمة بن عمار. واختلفوا في الاحتجاج به، واحتج به مسلم في [صحيحه] . انتهى، وأخرج عبد الرزاق في [مصنفه] : أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة. انتهى. وأخرج البيهقي في المعرفة عن عبيد الله بن عمر عن نافع: أن ابن عمر ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الجمعة (548) .

قال: ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة وكنا نصلي ركعتين. انتهى. قال النووي: وهذا سند على شرط [الصحيحين] ، كذا في أنصب الراية،، وذكر الزيلعي فيه آثارا أخرى. قول: «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا، أي: في فتح مكة كما تقدم (فصلى) ، أي: فأقام فصلى (تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين (¬1) » ، وفي رواية للبخاري: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، (¬2) » قال الحافظ في [الفتح] : أي: يوما بليلة، زاد في المغازي بمكة، وأخرجه أبو داود بلفظ: سبعة عشر. بتقديم السين، وله أيضا من حديث عمران بن حصين: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، (¬3) » وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، (¬4) » وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما. وأما رواية «خمسة عشر (¬5) » فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى كلام الحافظ، وقال في [التلخيص] بعد ذكر الروايات المذكورة: ورواية عبد بن حميد عن ابن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1080) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1080) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬3) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) . (¬4) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) . (¬5) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) .

عباس بلفظ: أن «النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة أقام عشرين يوما يقصر الصلاة» ما لفظه: قال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري، وهي رواية «تسع عشرة، (¬1) » وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج، وهي رواية سبعة عشر وعدها في بعضها، وهي رواية تسع عشرة وعد يوم الدخول، ولم يعد الخروج، وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ: وهو جمع متين، وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها، ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد، إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد. انتهى. قوله: (هذا حديث حسن غريب صحيح) ، وأخرجه البخاري وابن ماجه وأحمد (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬2) [تحفة الأحوذي] (2\110- 116) .

قول الكاساني رحمه الله

4 - قال الكاساني رحمه الله: (وأما بيان ما يصير المسافر به مقيما، فالمسافر يصير مقيما بوجود الإقامة، والإقامة تثبت بأربعة أشياء. أحدها: صريح نية الإقامة وهو أن ينوي الإقامة خمسة عشر يوما في مكان واحد صالح للإقامة فلا بد من أربعة أشياء: نية الإقامة ونية مدة الإقامة واتحاد المكان وصلاحيته للإقامة (أما) نية الإقامة فأمر لا بد منه عندنا، حتى لو دخل مصرا أو مكث فيه شهرا أو أكثر لانتظار القافلة أو لحاجة أخرى يقول: أخرج اليوم أو غدا ولم ينو الإقامة- لا يصير مقيما، وللشافعي فيه قولان: في قول: إذا أقام أكثر مما أقام رسول

الله صلى الله عليه وسلم بتبوك كان مقيما، وإن لم ينو الإقامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما أو عشرين يوما، وفي قول: إذا أقام أربعة أيام كان مقيما، ولا يباح له القصر (احتج) لقوله الأول: إن الإقامة متى وجدت حقيقة ينبغي أن تكمل الصلاة قلت الإقامة أو كثرت؛ لأنها ضد السفر والشيء يبطل بما يضاده إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما وقصر الصلاة، فتركنا هذا القدر بالنص، فنأخذ بالقياس فيما وراءه، ووجه قوله الآخر على النحو الذي ذكرنا: أن القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة؛ لأن الإقامة قرار والسفر انتقال والشيء ينعدم بما يضاده فينعدم حكمه ضرورة، إلا أن قليل الإقامة لا يمكن اعتباره؛ لأن المسافر لا يخلو عن ذلك عادة، فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة ولا ضرورة في الكثير والأربعة في حد الكثرة؛ لأن أدنى درجات الكثير أن يكون جمعا، والثلاثة وإن كانت جمعا لكنها أقل الجمع، فكانت في حد القلة من وجه فلم تثبت الكثرة المطلقة، فإذا صارت أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق؛ لزوال معنى القلة من جميع الوجوه. (ولنا) : إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان شهرا وكان يصلي ركعتين، وعن علقمة: أنه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر، وروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا الركعتين، ثم قال لأهل مكة: «صلوا أربعا فإنا قوم سفر (¬1) » والقياس بمقابلة النص والإجماع باطل، ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الصلاة (1229) .

وأما مدة الإقامة فأقلها خمسة عشر يوما عندنا، وقال مالك والشافعي: أقلها أربعة أيام، وحجتهما ما ذكرنا، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم «رخص للمهاجرين المقام بمكة بعد قضاء النسك ثلاثة أيام (¬1) » فهذه إشارة إلى أن الزيادة على الثلاث توجب حكم الإقامة. (ولنا) : ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوما- فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر. وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد؛ لأنه من جملة المقادير ولا يظن بهما التكلم جزافا، فالظاهر أنهما قالاه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عبد الله بن عباس وجابر وأنس رضي الله عنهم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم واليوم الخامس واليوم السادس واليوم السابع، فلما كان صبيحة اليوم الثامن وهو يوم التروية خرجوا إلى منى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ركعتين وقد وطنوا أنفسهم على إقامة أربعة أيام» دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح، وما روي من الحديث فليس فيه ما يشير إلى تقدير أدنى مدة الإقامة بالأربعة؛ لأنه يحتمل أنه علم أن حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص بالمقام ثلاثا لهذا التقدير الإقامة (وأما) اتحاد المكان، فالشرط نية مدة الإقامة في مكان واحد؛ لأن الإقامة قرار والانتقال يضاده ولا بد من الانتقال في مكانين. وإذا عرف هذا فنقول: إذا نوى المسافر الإقامة خمسة عشر يوما في موضعين؛ فإن كانا مصرا واحدا أو قرية واحدة صار مقيما؛ لأنهما متحدان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .

حكما ألا يرى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر فقد وجد الشرط وهو نية كمال مدة الإقامة في مكان واحد فصار مقيما، وإن كانا مصرين نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة أو قريتين أو أحدهما مصر والآخر قرية- لا يصير مقيما؛ لأنهما مكانان متباينان حقيقة وحكما، ألا ترى أنه لو خرج إليه المسافر يقصر فلم يوجد الشرط وهو نية الإقامة في موضع واحد خمسة عشر يوما فلغت نيته، فإن نوى المسافر أن يقيم بالليالي في أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر؛ فإن دخل أولا الموضع الذي نوى المقام فيه بالنهار لا يصير مقيما، وإن دخل الموضع الذي نوى الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا؛ لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه ألا ترى أنه إذا قيل للسوقي: أين تسكن يقول: في محلة كذا، وهو بالنهار يكون بالسوق. وذكر في كتاب المناسك: أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة خمسة عشر يوما أو دخل قبل أيام العشر لكن بقي إلى يوم التروية أقل من خمسة عشر يوما ونوى الإقامة، لا يصح؛ لأنه لا بد له من الخروج إلى عرفات فلا تتحقق نية إقامته خمسة عشر يوما فلا يصح، وقيل: كان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة، وذلك أنه كان مشغولا يطلب الحديث قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة فقال: أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت على أن أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة، فقال لي صاحب أبي حنيفة: أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا

تصير مسافرا فقلت: أخطأت في مسألة في موضعين فدخلت مجلس محمد واشتغلت بالفقه وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ علم الفقه فيصير مبعثة للطلبة على طلبه. (وأما) المكان الصالح للإقامة فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة أو السفينة فليست موضع الإقامة، حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما لا يصير مقيما. كذا روي عن أبي حنيفة وروي عن أبي يوسف في الأعراب والأكراد والتركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع ونووا الإقامة خمسة عشر يوما صاروا مقيمين. فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوما يصير مقيما كما في القرية، وروي عنه أيضا أنهم لم يصيروا مقيمين. فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه لا يصح، ذكر الروايتين عن أبي يوسف في العيون فصار الحاصل أن عند أبي حنيفة لا يصير مقيما في المفازة وإن كان ثمة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام والفساطيط، وعن أبي يوسف روايتان وعلى هذا الإمام إذا دخل دار الحرب مع الجند ومعهم أخبية وفساطيط فنووا الإقامة خمسة عشر يوما في المفازة، والصحيح قول أبي حنيفة؛ لأن موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النية لغوا، ولو حاصر المسلمون مدينة من مدائن أهل الحرب ووطنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوما لم تصح نية الإقامة ويقصرون، وكذا إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها في الحصن، وقال أبو يوسف: إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة، فكذلك وإن كانوا في الأبنية صحت نيتهم. وقال زفر في الفصلين جميعا: إن كانت الشوكة والغلبة للمسلمين

صحت نيتهم وإن كانت للعدو لم تصح. وجه قول زفر: أن الشوكة إذا كانت للمسلمين يقع الأمن لهم من إزعاج العدو إياهم، فيمكنهم القرار ظاهرا فنية الإقامة صادفت محلها فصحت، وأبو يوسف يقول: الأبنية موضع الإقامة فتصح نية الإقامة فيها بخلاف الصحراء. (ولنا) : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن رجلا سأله وقال: إنا نطيل الثواء في أرض الحرب فقال: صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك، ولأن نية الإقامة نية القرار، وإنما تصح في محل صالح للقرار ودار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين؛ لجواز أن يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر لهم؛ لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين حيلة؛ لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها فلغت، ولأن غرضهم من المكث هنالك فتح الحصن دون التوطن وتوهم انفتاح الحصن في كل ساعة قائم فلا تتحقق نيتهم إقامة خمسة عشر يوما، فقد خرج الجواب عما قالا، وعلى هذا الخلاف إذا حارب أهل العدل البغاة في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم ونووا الإقامة خمسة عشر يوما، واختلف المتأخرون في الأعراب والأكراد والتركمان الذين يسكنون في بيوت الشعر والصوف: قال بعضهم: لا يكونون مقيمين أبدا وإن نووا الإقامة مدة الإقامة؛ لأن المفازة ليست موضع الإقامة، والأصح أنهم مقيمون؛ لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى فكانت المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها، ولأن الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر، بل ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم وقصدوا موضعا آخر بينهما مدة سفر صاروا مسافرين

في الطريق (¬1) . ¬

_ (¬1) [البدائع] (1\97- 99) .

قول ابن القاسم رحمه الله

5 - قال ابن القاسم رحمه الله: قلت لمالك: الرجل المسافر يمر بقرية من قراه في سفره وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته وفيها عبيده وبقره وجواريه وليس له بها أهل ولا ولد (قال) : يقصر الصلاة إلا أن يكون نوى أن يقيم فيها أربعة أيام أو يكون فيها أهله وولده، فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة وإن أقام أربعة أيام أتم الصلاة. (قلت) : أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بها في سفره وقد هلك أهله وبقي فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر؟ (قال) : يقصر، قال: إنما محمل هذا عند مالك إذا كانت له مسكنا أتم الصلاة وإن لم تكن له مسكنا لم يتم الصلاة. (قال) : وقال مالك: صلاة الأسير في دار الحرب أربع ركعات إلا أن يسافر به فيصلي ركعتين (قال) : وقال مالك: لو أن عسكرا دخل دار الحرب فأقام في موضع واحد شهرا أو شهرين أو أكثر من ذلك فإنهم يقصرون الصلاة. قال: ليس دار الحرب كغيرها (قال) : وإذا كانوا في غير دار الحرب فنووا إقامة أربعة أيام أتموا الصلاة. (قلت) له: وإن كانوا في غير قرية ولا مصر كان مالك يأمرهم أن يتموا؛ قال: نعم، (قلت) : أرأيت إن أقاموا على حصن حاصروه في أرض العدو شهرين أو ثلاثة أيقصرون الصلاة؟ (قال) : قال مالك: نعم، يقصرون الصلاة (قال) وكيع بن الجراح: عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إنا نطيل المقام بخراسان في الغزو قال: صل ركعتين، وإن أقمت عشر سنين، من حديث وكيع عن المثنى بن

سعيد الضبعي عن أبي جمرة (قال) مالك: إن عائشة قالت: «فرضت الصلاة ركعتين فأتمت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى (¬1) » . (قال) ابن وهب: عن يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن رجل عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة ليلة يصلي ركعتين وهو محاصر للطائف» قال: (وكان عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب يقولان: إذا أجمع المسافر على مقام أربعة أيام أتم الصلاة) . (وقال) ابن شهاب ويحيى بن سعيد في الأسير في أرض العدو: إنه يتم الصلاة ما كان محبوسا (¬2) انتهى. قال ابن رشد: وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: مذهب مالك والشافعي: أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم. والثاني: مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري: أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم. والثالث: مذهب أحمد وداود: أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. وسبب الخلاف: أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع؛ ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه جعل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3935) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685) ، سنن النسائي الصلاة (455) ، سنن أبو داود الصلاة (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (337) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) . (¬2) [المدونة] ص 114- 117.

لها حكم المسافر. فالفريق الأول: احتجوا لمذهبهم بما روي «أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته» وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير، وإنما فيه حجة على أن يقصر في الثلاثة فما دونها. والفريق الثاني: احتجوا لمذهبهم بما «روي أنه أقام بمكة عام الفتح مقصرا، وذلك نحو من خمسة عشر يوما (¬1) » في بعض الروايات، وقد روي «سبعة عشر يوما» «وثمانية عشر يوما» «وتسعة عشر يوما، (¬2) » رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق. والفريق الثالث: احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقاما بعد قضاء نسكه (¬3) » فدل هذا عندهم على أن إقامته ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام: أعني: متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا وإن أقام ما شاء الله. ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة، فقالت المالكية مثلا: إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي ألا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه. والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1076) . (¬2) صحيح البخاري المغازي (4298) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬3) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) .

عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول: إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من «أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا» أكثر من ذلك الزمان. فيحتمل أن يكون إقامة؛ لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون إقامة بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق فعرض له أن أقام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم المسافر واقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر (¬1) . 6 - قال النووي رحمه الله: قال المصنف رحمه الله: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، صار مقيما وانقطعت رخص السفر؛ لأنه بالثلاث لا يصير مقيما؛ لأن المهاجرين رضي الله عنهم حرم عليهم الإقامة بمكة، ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام، فقال صلى الله عليه وسلم: «يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (¬2) » وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب؛ لأنه مسافر فيه إقامته في بعضه لا تمنع من كونه مسافرا؛ لأنه ما من مسافر إلا ويقيم بعض اليوم، ولأن مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم. ¬

_ (¬1) [بداية المجتهد] ص 122، 123 (¬2) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .

وإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان: (أحدهما) : يقصر؛ لما روى أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة. (والثاني) : لا يقصر؛ لأنه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلم يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب، وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا انتجزت رحل، ولم ينو مدة ففيه قولان: (أحدهما) : يقصر سبعة عشر يوما؛ لأن الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة. وقد روى ابن عباس قال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة» ، وبقي فيما زاد على حكم الأصل. و (الثاني) : يقصر أبدا؛ لأنه إقامة على حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر، وخرج أبو إسحاق قولا ثالثا: إنه يقصر إلى أربعة أيام الإقامة أبلغ في نية الإقامة؛ لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ، والنية يلحقها الفسخ، ثم ثبت أنه لو نوى الإقامة أربعة أيام لم يقصر، فلأن يقصر إذا أقام أولى، (الشرح) حديث "" رواه البخاري ومسلم، وحديث: «يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (¬1) » رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه. وحديث عمر رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، صحيح رواه مالك في [الموطأ] بإسناده الصحيح، فرواه عن نافع عن أسلم مولى عمر، وحديث «إقامة الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة» رواه البيهقي بإسناد صحيح، إلا أن فيه عكرمة بن عمار، وهو مختلف في الاحتجاج به، وقد روى له مسلم في [صحيحه] . ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .

وأما حديث ابن عباس فرواه البخاري في [صحيحه] ، لكن في رواية البخاري تسعة عشر بنقصان واحد من عشرين، ووقع في بعض روايات أبي داود والبيهقي سبعة عشر بنقصان ثلاثة من عشرين، وكذا وقع في [المهذب] . أما ألفاظ الفصل فقوله: أجلى عمر اليهود: معناه أخرجهم من ديارهم، قال أهل اللغة: يقال: جلا القوم خرجوا من منازلهم، وأجليتهم وجلوتهم أخرجتهم. ورامهرمز - بفتح الميم الأولى وضم الهاء وإسكان الراء وآخره زاي- وهي بلاد معروفة، وقوله: تسعة أشهر هو بالتاء. في أول تسعة، وقوله: الإقامة لا يلحقها الفسخ هو بالفاء، أي: لا ترفع بعد وجودها، والنية يمكن قطعها وإبطالها. أما الأحاديث الواردة بالإقامة المقيدة ففي حديث ابن عباس تسعة عشر يوما كما ذكرنا عن رواية البخاري. وفي رواية لأبي داود والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري سبعة عشر وفي رواية أخرى لأبي داود والبيهقي عن ابن عباس خمسة عشر، ولكنها ضعيفة مرسلة، وكان حديث ابن عباس هذا في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لحرب هوازن في عام الفتح، وروى أبو داود والبيهقي عن عمران بن حصين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثمان عشرة ليلة يقصر الصلاة،» إلا أن في إسناده من لا يحتج به. قال البيهقي: أصح الروايات في حديث ابن عباس تسعة عشر، وهي التي ذكرها البخاري، قال: ويمكن الجمع بين رواية ثمان عشرة وتسع عشرة وسبع عشرة، فإن من روى تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج ومن روى سبع عشرة لم يعدهما، ومن روى ثمان عشرة عد أحدهما. وروى أبو داود والبيهقي عن جابر «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما

يقصر الصلاة، (¬1) » لكن روي مسندا ومرسلا، قال بعضهم: ورواية المرسل أصح (قلت) : ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام يجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح؛ لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند. أما حكم الفصل: فقال الشافعي والأصحاب: إذا نوى في أثناء طريقه الإقامة مطلقا انقطع سفره فلا يجوز الترخص بشيء بالاتفاق، فلو جدد السير بعد ذلك فهو سفر جديد، فلا يجوز القصر إلا أن يقصد مرحلتين هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلد أو قرية أو واد يمكن البدوي الإقامة به ونحو ذلك، فأما المفازة ونحوها ففي انقطاع السفر والرخص بنية الإقامة فيها قولان مشهوران: أصحهما عند الجمهور: انقطاعه؛ لأنه ليس بمسافر، فلا يترخص حتى يفارقها. والثاني: لا ينقطع، وله الترخص؛ لأنه لا يصلح للإقامة، فنيته لغو، هذا كله إذا نوى الإقامة وهو ماكث، أما إذا نواها وهو سائر فلا يصير مقيما بلا خلاف، صرح به البندنيجي وغيره؛ لأن سبب القصر السفر، وهو موجود حقيقة، أما إذا نوى الإقامة في بلد ثلاثة أيام فأقل فلا ينقطع الترخص بلا خلاف وإن نوى إقامة أكثر من ثلاثة أيام. قال الشافعي والأصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام صار مقيما وانقطعت الرخص، وهذا يقتضي أن نية دون أربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون من أصحابنا. ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الصلاة (1235) ، مسند أحمد بن حنبل (3/295) .

وفي كيفية احتساب الأربعة وجهان حكاهما البغوي وآخرون: (إحداهما: يحسب منها يوما الدخول والخروج، كما يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح. (وأصحهما) وبه قطع المصنف والجمهور: لا يحسبان لما ذكره المصنف. فعلى الأول لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيما، وعلى الثاني: لا يصير، وإن دخل ضحوة السبت بنية الخروج عشية الأربعاء. وأما قول إمام الحرمين والغزالي: متى نوى إقامة زيادة على ثلاثة أيام صار مقيما- فموافق لما قاله الأصحاب؛ لأنه لا يمكن زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج بحيث لا يبلغ الأربعة. ثم الأيام المحتملة معدودة بلياليها ومتى نوى أربعة صار مقيما في الحال ولو دخل في الليل لم يحسب بقية الليل، ويحسب الغد، هذا كله في غير المحارب. أما المحارب، وهو: المقيم على القتال بحق ففيه قولان مشهوران: (أحدهما) : يقصر أبدا؛ لما ذكره المصنف وهو اختيار المزني، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وعلى هذا يقصر أبدا، وإن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام. (وأصحهما) عند الأصحاب: أنه كغيره فلا يقصر إذا نوى إقامة أربعة أيام، وممن صححه القاضي أبو الطيب والماوردي والرافعي وآخرون. قال الشيخ أبو حامد والمحاملي: وهو اختيار الشافعي، وأجابوا عن حديث أنس بأنهم لم يقيموا تسعة أشهر في مكان واحد، بل كانوا يتنقلون

في تلك الناحية، أما إذا أقام في بلد أو قرية لشغل فله حالان: (أحدهما) : أن يتوقع انقضاء شغله قبل أربعة أيام، ونوى الارتحال عند فراغه فله القصر إلى أربعة أيام بلا خلاف، وفيما زاد عليها طريقان: (الصحيح) منهما، وقول الجمهور: أنه على ثلاثة أقوال: (أحدها) : يجوز القصر أبدا سواء فيه المقيم لقتال أو لخوف من القتال أو لتجارة وغيرها. (والثاني) : لا يجوز القصر أصلا. (والثالث) : وهو الأصح عند الأصحاب: يجوز القصر ثمانية عشر يوما فقط، وقيل: على هذا يجوز سبعة عشر، وقيل: تسعة عشر، وقيل: عشرين، وسمى إمام الحرمين هذه أقوالا. والطريق الثاني: أن هذه الأقوال في المحارب، وأما غيره فلا يجوز له القصر بعد أربعة أيام قولا واحدا، وبه قال أبو إسحاق: كما حكاه المصنف عنه، وإذا جمعت هذه الأقوال والأوجه وسميت أقوالا كانت سبعة. (أحدها) : لا يجوز القصر بعد أربعة أيام. (والثاني) : يجوز إلى سبعة عشر يوما (وأصحها) إلى ثمانية عشر، و (الرابع) : إلى تسعة عشر، و (الخامس) : إلى عشرين، و (السادس) : أبدا، و (السابع) : للمحارب مجاوزة أربعة وليس لغيره، ودليل الجميع يعرف مما ذكره المصنف، وذكرناه. (الحال الثاني) : أن يعلم أن شغله لا يفرغ قبل أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج- كالمتفقه والمقيم لتجارة كبيرة ولصلاة الجمعة ونحوها، وبينه وبينها أربعة أيام فأكثر- فإن كان محاربا وقلنا في الحال:

الأول: لا يقصر فهاهنا أولى، وإلا فقولان: (أحدهما) : يترخص أبدا (وأصحهما) : لا يتجاوز ثمانية عشر، إن كان غير محارب، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا، وبه قطع الجمهور. (والثاني) : أنه كالمحارب حكاه الرافعي وآخرون وقالوا: هو غلط (فإن قيل) : ثبت في [صحيحي البخاري ومسلم] ، عن أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصر حتى أتى مكة فأقمنا بها عشرا فلم يزل يقصر حتى رجع، (¬1) » فهذا كان في حجة الوداع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نوى إقامة هذه المدة، (فالجواب) ما أجاب به البيهقي وأصحابنا في كتب المذهب. قالوا: ليس مراد أنس أنهم أقاموا في نفس مكة عشرة أيام، بل طرق الأحاديث الصحيحة من روايات جماعة من الصحابة متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثة ولم يحسب يوم الدخول ولا الثامن؛ لأنه خرج فيه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر وبات بها، وسار منها يوم التاسع إلى عرفات، ورجع فبات بمزدلفة، ثم أصبح فسار إلى منى فقضى نسكه، ثم أفاض إلى مكة فطاف للإفاضة ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثا يقصر ثم نفر فيها بعد الزوال في ثالث أيام التشريق فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع ثم رحل من مكة قبل صلاة الصبح فلم يقم صلى الله عليه وسلم أربعا في موضع واحد، والله أعلم. (فرع) لو سافر عبد مع سيده وامرأة مع زوجها، فنوى العبد والمرأة إقامة أربعة أيام ولم ينو السيد والزوج فوجهان حكاهما صاحب [البيان] وغيره: (أحدهما) : ينقطع رخصهما كغيرهما، و (الثاني) : لا ينقطع؛ لأنه لا اختيار لهما في الإقامة فلغت نيتهما. قال صاحب البيان: ولو نوى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1438) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/145) ، سنن الدارمي الصلاة (1510) .

الجيش الإقامة مع الأمير ولم ينو هو فيحتمل أنه على الوجهين (قلت) : الأصح في الجميع أنهم يترخصون؛ لأنه لا يتصور منهم الجزم بالإقامة.

قول ابن قدامة رحمه الله

7 - قال ابن قدامة رحمه الله (¬1) : مسألة: (وإذا نوى الإقامة ببلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر) . المشهور عن أحمد رحمه الله: أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام إذا نوى الإقامة فيها: ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة. رواه الأثرم وغيره وهو الذي ذكره الخرقي، وعنه: إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام أتم، حكى هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل. وعنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر، وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور، وروي عن عثمان رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعا فصل أربعا؛ لأن الثالث حد القلة؛ «لقوله عليه الصلاة والسلام: يقيم المسافر بعد قضاء نسكه ثلاثا (¬2) » فدل أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة. وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، فإن نوى دونه قصر، ويروى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة، ولا يعرف لهما مخالف، وروي عن علي رضي الله عنه قال: يتم الصلاة الذي يقيم عشرا، ويقصر الذي يقول: أخرج اليوم أخرج غدا. شهرا، وعن ابن عباس أنه ¬

_ (¬1) [الشرح الكبير مع المغني] (2\107، 108) المكتبة السلفية (¬2) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) .

قال: يقصر إذا أقام تسعة عشر يوما ويتم إذا زاد؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين، (¬1) » قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا. رواه البخاري، وقال الحسن: صل ركعتين ركعتين إلا أن تقدم مصرا فأتم الصلاة وصم، وقالت عائشة: إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة، وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا. ولنا ما روى أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة (¬2) » . متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام» وقد أجمع على إقامتها قال: فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم، قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال: هو كلام ليس يفقهه كل أحد، فقوله: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة، (¬3) » وقال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسابعة، ثم قال: ثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة،» فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر، وهي تزيد على أربعة أيام وهو صريح في خلاف قول من حده بأربعة أيام، وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف في الصحابة لا يصح؛ لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم، وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المغازي (4298) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/282) . (¬3) صحيح البخاري المغازي (4297) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/190) .

وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة. قال أحمد: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة: زمن الفتح ثماني عشرة؛ لأنه أراد حنينا ولم يكن تم إجماع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس، وهو دليل على خلاف قول عائشة والحسن. والله أعلم. وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لما سئل عن رجل مسافر إلى بلد، ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهل يتم الصلاة أم لا؟ فأجاب: إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة، كما «فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة. فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة» . وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم الصلاة. وأما إن قال: غدا أسافر، أو بعد غد أسافر. ولم ينو المقام فإنه يقصر أبدا، فإن «النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يوما يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة (¬1) » . والله أعلم. وسئل عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين، فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟ فأجاب: الحمد لله.. هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم من يوجب القصر، والصحيح: أن كلاهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه، ومن أتم لا ينكر عليه. وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل، وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة أيضا بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الصلاة (1235) ، مسند أحمد بن حنبل (3/295) .

خمسة عشر، فإنه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها، فأقام سنين يقصر الصلاة. وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما «أقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان» . وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فمادام المسافر مسافرا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورا. والله أعلم. كتبه أحمد بن تيمية (¬1) . وقال (¬2) : وتقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا، سواء قل أو كثر. ولا يتقدر بمدة، وهو مذهب الظاهرية، ونصره صاحب [المغني] فيه، وسواء كان مباحا أو محرما، ونصره ابن عقيل في موضع. وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي، وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو لا. وروي هذا عن جماعة من الصحابة. وقرر أبو العباس قاعدة نافعة: وهي أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسماه ووجوده. ولم يجز تقديره وتحديده بمدة. فلهذا كان الماء قسمين: طاهرا طهورا أو نجسا. ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة، ولا لأقل سنة وأكثره، ولا لأقل السفر. ¬

_ (¬1) [مجموعة الفتاوى] (24\17، 18) (¬2) [الاختيارات الفقهية] ص72، 73

أما خروجه إلى بعض عمل أرضه وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى قباء فلا يسمى سفرا. ولو كان بريدا. ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر. هذا مع قصر المدة. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر، لا البعيدة في المدة القليلة. ولا حد للدرهم والدينار، فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصا أو مغشوشا قل غشه أو كثر، لا درهما أسود- عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما. ولا تأجيل في الدية وأنه نص أحمد فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤجلها. وإن رأى الإمام تأجيلها فعل؛ لأن عمر أجلها، فأيهما رأى الإمام فعل. وإلا فإيجاب أحد الأمرين لا يسوغ والخلع فسخ مطلقا.. والكفارة في كل أيمان المسلمين. وقال ابن القيم رحمه الله بعد كلامه على هديه صلى الله عليه وسلم لسفره: «وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة،» ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم (¬1) » - فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقد روى كان يقصر ويتم الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم، أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل، ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها: «أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689) ، سنن الترمذي الجمعة (544) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) .

صلاة السفر (¬1) » فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه؟! قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس وغيره: أنها تأولت كما تأول عثمان، وأن «النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما (¬2) » فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي فغلط بعض الرواة، فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل: ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر. وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه بالشفاء وإن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته: أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له، وقد يقال: أن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصر فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها، إن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3935) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685) ، سنن النسائي الصلاة (454) ، سنن أبو داود الصلاة (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/241) ، موطأ مالك النداء للصلاة (337) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689) ، سنن الترمذي الجمعة (544) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) .

وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول: اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني: يدل عليه كلام الصحابة؛ كعائشة وابن عباس وغيرهما قالت عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر (¬1) » - فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك وأن فرض المسافر ركعتان. وقال ابن عباس: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، (¬2) » متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس. وقال عمر بن الخطاب: «صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى (¬3) » . وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر وقد أمنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق بها الله عليكم، فاقبلوا صدقته (¬4) » ، ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر. وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله، وإن شاء أتم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى. وقال أنس: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3935) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685) ، سنن النسائي الصلاة (455) ، سنن أبو داود الصلاة (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (337) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) . (¬2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (687) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1442) ، سنن أبو داود الصلاة (1247) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1068) . (¬3) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1063) ، مسند أحمد بن حنبل (1/37) . (¬4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3034) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433) ، سنن أبو داود الصلاة (1199) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065) ، مسند أحمد بن حنبل (1/36) ، سنن الدارمي الصلاة (1505) .

ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (¬1) » متفق عليه، «ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (¬2) » متفق عليه. ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان، (¬3) » يعني: في صدر خلافة عثمان وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه وقد خرج لفعله تأويلات: أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا حديثي عهد بالإسلام والعهد بالصلاة قريب ومع هذا فلم يربع لهم النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنه كان إماما للناس والإمام حيثما نزل فهو عمله ومحل ولايته فكأنه وطنه. ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك وكان هو الإمام المطلق ولم يربع. التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانت فضاء؛ ولهذا «قيل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/187) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1084) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (695) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1449) ، سنن أبو داود المناسك (1960) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) ، سنن الدارمي المناسك (1874) . (¬3) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، سنن الترمذي الجمعة (544) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) ، مسند أحمد بن حنبل (2/140) ، سنن الدارمي المناسك (1875) .

له: يا رسول الله، ألا تبني لك بمنى بيتا يظللك من الحر؟ فقال: لا، منى مناخ من سبق (¬1) » فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر. ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم «أقام بمكة عشرا يقصر في الصلاة (¬2) » . التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثا. وقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (¬3) » فسماه مقيما والمقيم غير مسافر، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر. وقد «أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة (¬4) » . التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة. فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة. وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين وقد «منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكه، ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط (¬5) » فلم يكن عثمان ليقيم بها، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، إنما رخص فيها ثلاثا؛ وذلك لأنهم تركوها لله، وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع؛ ولهذا «منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته، وقال لعمر: لا تشترها ولا تعد في صدقتك (¬6) » فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن. التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال: «صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس، لما قدمت تأهلت بها، وإني ¬

_ (¬1) سنن الترمذي الحج (881) ، سنن أبو داود المناسك (2019) ، سنن ابن ماجه المناسك (3007) ، مسند أحمد بن حنبل (6/187) ، سنن الدارمي المناسك (1937) . (¬2) صحيح البخاري المغازي (4297) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/190) . (¬3) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) . (¬4) صحيح البخاري المغازي (4297) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/190) . (¬5) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) . (¬6) صحيح البخاري الزكاة (1489) ، صحيح مسلم الهبات (1621) ، سنن النسائي الزكاة (2617) ، سنن أبو داود الزكاة (1593) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) ، موطأ مالك الزكاة (625) .

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم (¬1) » رواه الإمام أحمد رحمه الله في [مسنده] ، وعبد الله بن الزبير الحميدي في [مسنده] أيضا. وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في [تاريخه] ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك وأصحابهما، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان. وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت فكان وطنها، وهو أيضا اعتذار ضعيف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضا وأمومة أزواجه فرع عن أبوته، ولم يكن يتم لهذا السبب، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي، إنه لا يشق علي، قال الشافعي رحمه الله: لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم،. وقد قالت عائشة: كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وقصر، ثم روي عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة «قالت: كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في السفر وأتم،» قال البيهقي: وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي عن الدارقطني عن المحاملي، حدثنا سعيد ابن محمد بن أيوب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ويفطر ويصوم» . قال ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل (1/62) .

الدارقطني: وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري، أنبأنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير، حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة: «أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت قال: أحسنت يا عائشة، (¬1) » وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة «فرضت الصلاة ركعتين: فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، (¬2) » فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! قال الزهري لعروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك: فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر (¬3) » أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له، والله أعلم. وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال له ابن عمر: يا أخي، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل. وقد قال أنس: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فكان يصلي ¬

_ (¬1) سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1456) . (¬2) صحيح البخاري المناقب (3935) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685) ، سنن النسائي الصلاة (455) ، سنن أبو داود الصلاة (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (337) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) . (¬3) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (689) ، سنن الترمذي الجمعة (544) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) .

ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، (¬1) » وقال ابن عمر: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، (¬2) » وهذه كلها أحاديث صحيحة (¬3) . مسألة: وقال الأثرم عنه: إذا أجمع أن يقيم إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم واحتج بحديث جابر وابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وكذا نقل ابن الحكم ونقل المروزي إذا عزم على مقام إحدى وعشرين صلاة فليتم؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم صلى الغداة يوم التروية بمكة، وكذلك نقل حرب إذا دخل إلى قرية نوى أن يقيم أربعة أيام وزيادة صلاة أتم،» وكذا نقل ابن أصرم وصالح والكوسج إذا أزمع على إقامة أربعة أيام وزيادة يتم في أول يوم. واحتج بحديث جابر، قال أبو حفص: هذه الرواية ليست مستقصاة والأدلة مستقصاة أنه لا يلزمه الإتمام بالعزيمة على إقامة أربعة أيام وزيادة صلاة حتى ينوي أكثر من ذلك فكيف يقول: إذا أزمع على إقامة أربع وزيادة صلاة أتم. ويحتج بحديث جابر في هذا المقدار وقد كشف هذا في رواية الفضل بن عبد الصمد قيل له: يا أبا عبد الله، يحكون أنك تقول: إذا أجمع على إقامة أكثر من أربعة وصلاة أتم، فقال: لا يفهمون، النبي صلى الله عليه وسلم أجمع على إقامة أربع وصلاة فقصر. ونقل عنه أيوب بن إسحاق بن سافري: أنه قال: إن أزمع على إقامة خمسة أيام يتم وما دون ذلك يقصر، قال أبو حفص: ليس في هذا خلاف لذلك؛ لأنه إذا أوجب الإتمام بإقامة أكثر من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، سنن الترمذي الجمعة (544) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) ، مسند أحمد بن حنبل (2/140) ، سنن الدارمي المناسك (1875) . (¬3) [زاد المعاد] (1\128ـ 130)

أربعة أيام وزيادة صلاة فبخمسة أيام أولى أن يوجب الإتمام. وقوله: ما دون ذلك يقصر يحتمل أن يكون أراد به الأربعة أيام وزيادة صلاة؛ لأنها دون الخمسة أيام، ويحتمل أن يكون ذكره لليوم الخامس؛ لأن الصلاتين بعد الأربعة أيام من اليوم الخامس لا أنه أراد إكمال اليوم الخامس. وقد بين ذلك في رواية طاهر بن محمد التميمي فقال: إذا نوى إقامة أربعة أيام وأكثر من صلاة من اليوم الخامس أتم فقد بين مراده من ذكر اليوم الخامس أنه بعضه؛ لأنه أكثر من مقام النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الذي قصر فيه الصلاة. قال القاضي: وظاهر كلام أبي حفص هذا أن المسألة على رواية واحدة، وأن مدة الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة وتأول بقية الروايات. واحتج في ذلك بحديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبح رابعة فصلى بها الغداة وخامسة وسادسة وسابعة أربعة أيام كوامل وزاد صلاة؛ لأنه صلى الغداة يوم التروية بمكة بالأبطح وخرج يوم الخامس إلى منى فصلى الظهر بمنى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها» . ويجوز أن يحمل كلام أحمد على ظاهره، فيكون في قدر الإقامة ثلاث روايات: (إحداها) : ما زاد على إحدى وعشرين، اختارها الخرقي وأبو حفص. (الثانية) : ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة؛ لأنها مدة تزيد على الأربعة فكان بها مقيما. دليله: إذا نوى زيادة على إحدى وعشرين. (الثالثة) : ما نقص عن خمسة أيام ولو بوقت صلاة؛ لأنها مدة تنقص

عن خمسة أيام، فكان في حكم السفر دليله مدة إحدى وعشرين أو عشرين (¬1) . ¬

_ (¬1) مسائل فقهية عن الإمام أحمد بن حنبل ص 116-118 [بدائع الفوائد]

قول ابن حزم رحمه الله

8 - وقال ابن حزم رحمه الله: قال علي: واختلف الناس في هذا فروينا عن ابن عمر: أنه كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة، ورويناه أيضا عن سعيد بن المسيب، وبه يقول: أبو حنيفة وأصحابه. وروينا عن طريق أبي داود ثنا محمد بن العلاء، ثنا حفص بن غياث، ثنا عاصم عن عكرمة عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة سبع عشرة يقصر الصلاة (¬1) » قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة يقصر الصلاة قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة بمكة قصر ومن أقام فزاد أتم. وروي عن الأوزاعي إذا أجمع إقامة ثلاث عشرة ليلة أتم فإن نوى أقل قصر. وعن ابن عمر قول آخر: أنه كان يقول: إذا أجمعت إقامة ثنتي عشرة ليلة، فأتم الصلاة. وعن علي بن أبي طالب: إذا أقمت عشرا فأتم الصلاة، وبه يأخذ سفيان الثوري والحسن بن حيي وحميد الرواسي صاحبه. وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت أربعا فصل أربعا، وبه يأخذ مالك والشافعي والليث، إلا أنهم يشترطون أن ينوي إقامة أربع، فإن لم ينوها قصر وإن بقي حولا. وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت ثلاثا فأتم. ومن طريق وكيع عن شعبة عن أبي بشر- هو جعفر بن أبي وحشية - عن ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الصلاة (1230) .

سعيد بن جبير: إذا أراد أن يقيم أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة. وعن سعيد بن جبير قول آخر: إذا وضعت رجلك بأرض فأتم الصلاة. وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها، فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف. وعن وكيع عن شعبة عن أبي التياح الضبعي عن أبي المنهال العنزي قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على المسير؟ قال: صل ركعتين. وعن وكيع عن العمري عن نافع عن ابن عمر: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر ارتج عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين قال علي: الوالي لا ينوي رحيلا قبل خمس عشرة ليلة بلا شك وكذلك من ارتج عليه الثلج فقد أيقن أنه لا ينحل إلى أول الصيف. وقد أمر ابن عباس من أخبره أنه مقيم سنة لا ينوي سيرا بالقصر. وعن الحسن وقتادة: يقصر المسافر ما لم يرجع إلى منزله إلا أن يدخل مصرا من أمصار المسلمين. قال علي: احتج أصحاب أبي حنيفة بأن قولهم أكثر ما قيل: وأنه مجمع عليه أنه إذا نوى المسافر إقامة ذلك المقدار أتم ولا يخرج عن حكم القصر إلا بإجماع. قال علي: وهذا باطل. وقد أوردنا عن سعيد بن جبير أنه يقصر حين ينوي أكثر من خمسة عشر يوما، وقد اختلف عن ابن عمر نفسه، وخالفه ابن عباس كما أوردنا وغيره فبطل قولهم عن أن يكون له حجة، واحتج لمالك والشافعي مقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق

العلاء بن الحضرمي: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا (¬1) » قالوا: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك. قالوا: فكانت الثلاث خارجة عن الإقامة المكروهة لهم، وكان ما زاد عنها داخلا في الإقامة المكروهة ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا. وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر أتم، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أن يقاس المسافر يقيم على المهاجر يقيم، هذا لو كان القياس حقا، وكيف وكله باطل؟ وأيضا فإن المسافر يباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث فأما نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة لو أنصفوا أنفسهم؟ وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا لا مقيما، وما زاد على الثلاثة للمسافر، فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم، بخلاف قولهم. وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام وهكذا قال أبو ثور، فبطل قولهم على كل حال، وعريت الأقوال كلها عن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .

حجة، فوجب أن نبين البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى وقوته. قال علي: أما الإقامة في الجهاد والحج والعمرة فإن الله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض. ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر إلا مع السفر لا مع الإقامة، وبالضرورة ندري أن حال السفر غير حال الإقامة، وأن السفر إنما هو التنقل في غير دار الإقامة، وأن الإقامة هي السكون وترك النقلة والتنقل في دار الإقامة. هذا حكم الشريعة والطبيعة معا. فإن ذلك كذلك، فالمقيم في مكان واحد مقيم غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والإتمام إلا بنص، وقد صح بإجماع أهل النقل أن «رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في حال سفره فأقام باقي نهاره وليلته ثم رحل في اليوم الثاني، وأنه عليه الصلاة والسلام قصر في باقي يومه ذلك وفي ليلته التي بين يومي نقلته،» فخرجت هذه الإقامة عن حكم الإقامة في الإتمام والصيام، ولولا ذلك لكان مقيم ساعة له حكم الإقامة. كذلك من ورد على ضيعة له أو ماشية أو عقار فنزل هنالك فهو مقيم، فله حكم الإقامة كما قال ابن عباس، إذ لم نجد نصا في مثل هذه الحال ينقلها عن حكم الإقامة وهو أيضا قول الزهري وأحمد بن حنبل. ولم نجد عنه عليه السلام أنه أقام يوما وليلة لم يرحل فيهما فقصر وأفطر إلا في الحج والعمرة والجهاد فقط، فوجب بذلك ما ذكرنا من أن من أقام في خلال سفره يوما وليلة لم يظعن في أحدهما فإنه يتم ويصوم، وكذلك من مشى ليلا وينزل نهارا فإنه يقصر باقي ليلته ويومه الذي بين ليلتي حركته، وهذا قول روي عن ربيعة.

ونسأل من أبى هذا عمن مشى في سفر تقصر فيه الصلاة عندهم نوى إقامة وهو سائر لا ينزل ولا يثبت اضطر لشدة الخوف إلى أن يصلي فرضه راكبا ناهضا أو ينزل لصلاة فرضه ثم يرجع إلى المشي: أيقصر أو يتم؟ فمن قولهم يقصر، فصح أن السفر هو المشي. ثم نسألهم عمن نوى إقامة وهو نازل غير ماش: أيتم أم يقصر؟ فمن قولهم يتم. فقد صح أن الإقامة هي السكون لا المشي متنقلا، وهذا نفس قولنا، ولله تعالى الحمد. وأما الجهاد والحج فإن عبد الله بن ربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم، ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة (¬1) » . قال علي: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وباقي رواة الخبر أشهر من أن يسأل عنهم. وهذا أكثر ما «روي عنه عليه السلام في إقامته بتبوك،» فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بهذا الخبر، وقال أبو حنيفة ومالك: يقصر مادام مقيما في دار الحرب. قال علي: وهذا خطأ لما ذكرنا من أن الله تعالى لم يجعل ولا رسوله عليه السلام الصلاة ركعتين إلا في السفر، وأن الإقامة خلاف السفر، لما ذكرنا. وقال الشافعي وأبو سليمان كقولنا في الجهاد. وروينا عن ابن عباس، مثل قولنا نصا إلا أنه خالف في المدة. وأما الحج والعمرة فلما حدثناه عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح، ¬

_ (¬1) سنن أبو داود الصلاة (1235) ، مسند أحمد بن حنبل (3/295) .

حدثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، حدثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا يحيى بن يحيى، أنا هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قال: كم أقام بمكة؟ قال: عشرا (¬1) » . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، حدثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفريري، ثنا البخاري، ثنا موسى، ثنا وهب عن أيوب السختياني عن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج (¬2) » وذكر الحديث. قال علي: فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة، فبالضرورة نعلم أنه أقام بمكة ذلك اليوم الرابع من ذي الحجة، والثاني وهو الخامس من ذي الحجة، والثالث وهو السادس من ذي الحجة، والرابع وهو السابع من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الظهر من اليوم الثامن من الحجة، وأنه خرج عليه السلام إلى منى قبل صلاة الظهر من اليوم الثامن من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة، فتمت له بمكة أربعة أيام وأربع ليال كملا، أقامها عليه السلام ناويا للإقامة هذه المدة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة، كما ذكرنا. وهذا يبطل قول من قال: إن نوى إقامة أربعة أيام أتم؛ لأنه عليه السلام نوى بلا شك إقامة هذه المدة ولم يتم، ثم كان عليه السلام بمنى اليوم الثامن من ذي الحجة وبات بها ليلة يوم عرفة، ثم أتى إلى عرفة بلا شك في اليوم التاسع من ذي الحجة، فبقي هنالك إلى أول الليلة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/190) . (¬2) صحيح البخاري الجمعة (1085) ، صحيح مسلم الحج (1240) ، سنن النسائي مناسك الحج (2870) .

العاشرة (¬1) إلى منى فكان بها. ونهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة. إما في اليوم العاشر وإما في الليلة الحادية عشرة بلا شك في أحد الأمرين ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثة أيام ودفع منها في آخر اليوم الرابع بعد رمي الجمار بعد زوال الشمس، وكانت إقامته عليه السلام بمنى أربعة أيام غير نصف يوم، ثم أتى إلى مكة فبات الليلة الرابعة عشرة بالأبطح، وطاف بها طواف الوداع، ثم نهض في آخر ليلته تلك إلى المدينة، فكمل له عليه السلام بمكة ومنى وعرفة ومزدلفة عشر ليال كملا كما قال أنس فصح قولنا، وكان معه عليه السلام متمتعون، وكان هو عليه السلام قارنا، فصح ما قلناه في الحج والعمرة، ولله الحمد، فخرجت هذه الإقامة بهذا الأثر في الحج والعمرة حيث أقام عن حكم سائر الإقامات، ولله تعالى الحمد. فإن قيل: أليس قد رويتم من طريق ابن عباس وعمران بن الحصين روايات مختلفة في بعضها، «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسع عشرة، (¬2) » وفي بعضها «ثمان عشرة (¬3) » وفي بعضها «سبع عشرة، (¬4) » وفي بعضها «خمس عشرة يقصر الصلاة؟ (¬5) » قلنا: نعم، وقد بين ابن عباس إن هذا كان في عام الفتح، وكان عليه السلام في جهاد وفي دار حرب؛ لأن جماعة من أهل مكة كصفوان وغيره لهم مدة موادعة لم تنقض بعد، ومالك بن عوف في هوازن قد جمعت له العساكر بحنين على بضعة عشر ميلا، وخالد بن سفيان الهذلي على أقل من ذلك يجمع هذيلا لحربه، والكفار محيطون به محاربون له، فالقصر ¬

_ (¬1) ثم نهض إلى مزدلفة فبات بها الليلة العاشرة ثم نهض في صباح اليوم العاشر (¬2) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬3) سنن أبو داود الصلاة (1229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) . (¬4) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1230) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) . (¬5) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .

واجب بعد في أكثر من هذه الإقامة، وهو عليه السلام يتردد من مكة إلى حنين ثم إلى مكة معتمرا ثم إلى الطائف، وهو عليه السلام يوجه السرايا إلى من حول مكة من قبائل العرب، كبني كنانة وغيرهم، فهذا قولنا، وما دخل عليه السلام مكة قط من حين خرج عنها مهاجرا إلا في عمرة القضاء أقام بها ثلاثة أيام فقط، ثم حين فتحها كما ذكرنا محاربا، ثم في حجة الوداع أقام بها كما وصفنا ولا مزيد. قال علي: وأما قولنا: إن هذه الإقامة لا تكون إلا بعد الدخول في أول دار الحرب وبعد الإحرام فلأن القاصد إلى الجهاد مادام في دار الإسلام فليس في حال جهاد، ولكنه مريد للجهاد وقاصد إليه، وإنما هو مسافر كسائر المسافرين، إلا أجر نيته فقط، وهو ما لم يحرم فليس يعد في عمل حج ولا عمل عمرة، لكنه مريد لأن يحج أو لأن يعتمر، فهو كسائر من يسافر ولا فرق. قال علي: وكل هذا لا حجة لهم فيه؛ لأن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إذ أقام بمكة أياما: إني إنما قصرت أربعا؛ لأني في حج ولا لأني في مكة، ولا قال إذ أقام بتبوك عشرين يوما يقصر: إني إنما قصرت؛ لأني في جهاد، فمن قال شيئا من هذا فقد قوله عليه الصلاة والسلام ما لم يقل. وهذا لا يحل. فصح يقينا أنه لولا مقام النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين يوما يقصر وبمكة دون ذلك يقصر لكان لا يجوز القصر إلا في يوم يكون فيه المرء مسافرا ولكان مقيم يومه يلزمه الإتمام. لكن لما أقام عليه الصلاة والسلام عشرين يوما بتبوك يقصر صح بذلك أن عشرين يوما إذا أقامها المسافر، فله فيها حكم السفر. فإن أقام أكثر أو نوى إقامة أكثر فلا برهان

يخرج ذلك عن حكم الإقامة أصلا. ولا فرق بين من خص الإقامة في الجهاد بعشرين يوما يقصر فيها وبين من خص ذلك بتبوك دون سائر الأماكن، وهذا كله باطل لا يجوز القول به إذ لم يأت به نص قرآن ولا سنة، وبالله التوفيق. ووجب أن يكون الصوم بخلاف ذلك؛ لأنه لم يأت فيه نص أصلا. فمن نوى إقامة يوم في رمضان فإنه يصوم، وبالله التوفيق. قال علي: وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أقام في مكان ينوي خروجا غدا أو اليوم، فإنه يقصر ويفطر ولو أقام كذلك أعواما. قال أبو حنيفة: وكذلك لو نوى خروجا ما بينه وبين خمسة عشر يوما، ونوى إقامة أربعة عشر يوما فإنه يفطر ويقصر. وقال مالك: يقصر ويفطر وإن نوى إقامة ثلاثة أيام فإنه يفطر ويقصر، وإن نوى أخرج اليوم أخرج غدا قصر ولو بقي كذلك أعواما. قال علي: ومن العجب العجيب إسقاط أبي حنيفة النية حيث افترضها الله تعالى من الوضوء للصلاة وغسل الجنابة والحيض وبقائه في رمضان ينوي الفطر إلى قبل زوال الشمس، ويجيز كل ذلك بلا نية، ثم يوجب النية فرضا في الإقامة، حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أوجبها برهان نظري. قال علي: وبرهان صحة قولنا أن الحكم لإقامة المدد التي ذكرنا- كانت هنالك نية لإقامة أو لم تكن- فهو أن النيات إنما تجب فرضا في الأعمال التي أمر الله تعالى بها فلا يجوز أن تؤدى بلا نية، وأما عمل لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فلا معنى للنية فيه، إذ لم يوجبها هنالك قرآن ولا سنة

ولا نظر ولا إجماع، والإقامة ليست عملا مأمورا به، وكذلك السفر، وإنما هما حالان أوجب الله تعالى فيهما العمل الذي أمر الله تعالى به فيهما، فذلك العمل هو المحتاج إلى النية لا الحال، وهم موافقون لنا أن السفر لا يحتاج إلى نية، ولو أن امرءا خرج لا يريد سفرا فدفعته ضرورات لم يقصد لها حتى صار من منزله على ثلاث ليال، أو سير به مأسورا أو مكرها محمولا مجبرا فإنه يقصر ويفطر، وكذلك يقولون فيمن أقيم به كرها فطالت به مدته فإنه يتم ويصوم. وكذلك يقولون فيمن اضطر للخوف إلى الصلاة راكبا أو ماشيا، فذلك الخوف وتلك الضرورة لا يحتاج فيها إلى نية. وكذلك النوم لا يحتاج إلى نية وله حكم في إسقاط الوضوء وإيجاب تجديده وغير ذلك. وكذلك الإجناب لا يحتاج إلى نية وهو يوجب الغسل. وكذلك الحدث لا يحتاج إلى نية وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء، فكل عمل لم يؤمر به لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، ومن جملة هذه الأعمال هي الإقامة والسفر، فلا يحتاج فيهما إلى نية أصلا، لكن متى وجدا وجب لكل واحد منهما الحكم الذي أمر الله تعالى به فيه ولا مزيد. وبالله تعالى التوفيق وهذا قول الشافعي وأصحابنا. هذا ما تيسر لنا جمعه، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز

§1/1