أبجد العلوم

صديق حسن خان

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل العلم سلما إلى معارج المعلوم. والمعلوم فضلا مسلما عند عصابة المنطوق والمفهوم وسرح أبصار البصائر في رياض الفنون والمعارف رياض زهت فيها أزهار المعاني والبيان فتفتحت بنسائمها أنوار الفضل التالد والطارف. فاجتنت منها أيدي المنى فواكه القلوب وأقوات الأرواح واقتطفت منها جني الحقائق والدقائق من بين أقاحي الصباح فهو قوت الفؤاد ومراح الأشباح وروح جثمان الكمال وحادي النفوس إلى بلاد الأفراح. به فضل الذوق الروحاني على الماق الجسماني فضلا لا يعرفه إلا من تضلع منه أو ذاق ولا يدرك كنهه إلا من غاص في قعر بحاره وسبح في ثبج1 أنهاره ثم برع وفاق. والصلاة والسلام على سيد العلماء سند الفضلاء تاج الكملاء محمد النبي المصطفى أحمد الأمي المجتبى المؤيد من السماء الموحى إليه بالقرآن الذي فيه هدى وشفاء. الذي أكمل الله تعالى به علوم الأوائل والأواخر وخصه من بين خلقه بمزايا المعارف وخبايا المفاخر. فيا له من نبي رفيع القدر ما ترقى رقيه الأنبياء ورفيع كريم الذكر ما طاولته السماء. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وحزبه المتأدبين بآدابه الذين تفتحت لهم كمائم المنقول والمعقول. وتحلت بعقود علومهم أجياد الفحول حتى اشتفت نفوس الإسلام والمسلمين من داء الأعداء وزال كلب الكفر ومرض الإشراك بما أريق من دمائهم تحت أديم السماء على وجه الغبراء. فهم مخازن الفضائل والعوائد ومعادن الفواضل والفوائد ومجامع المكارم والمحامد ومناحي المعارف والمقاصد. لا زالت سحب الرحمة هاطلة على مراقدهم وتحايا الرضوان نازلة على معاهدهم. ما طلعت شموس العلوم من أفلاك الدواوين والدفاتر وسطعت نجوم الفنون من مشارق الأقلام والمحابر. وبعد: فهذا بث لما وقر في صدري من أحوال العلوم العالية وتراجم الفنون الفاخرة وأثر بعد عين في تحصيل ما نيطت به سعادة الدنيا والآخرة وردت من بحارها الطامية ماء عذبا فراتا حاليا وكرعت من

_ 1 ثبج كل شيء: معظمه ووسطه وأعلاه.

أنهارها الصافية ما كان عن القذى طاهرا وعن الأكدار خاليا. حررته إحرازا لما تشتت من أحوال العلوم وتراجم أسمائها وسماتها وجمعته إفرازا للفنون مع بيان مباديها وأغراضها وغاياتها. مستمدا في ذلك من كتب الأئمة السادة وصحف الكبراء القادة بعد أن عرفت مجاريها وتعلمت الرمي من القوس وقد كنت باريها. لأني لما وقفت على كتاب عنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر1 لقاضي القضاة مؤيد الدين أبي زيد عبد الرحمن ابن خلدون الأندلسي وجدت مؤلفه رحمه الله تعالى قد عقد في الكتاب الأول2 منه فصلا سادسا في العلوم وأنواعها وسائر طرقها وأنحائها وما يعرض في ذلك كله من الأحوال ثم رأيت خواجه خليفة زاده ملا كاتب الجلبي3 لخص منه تلك العلوم وأحوالها في مقدمة كتابه كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون وأضاف إليه أشياء من مفتاح السعادة4 لأبي الخير ثم اطلعت على كتاب مدينة العلوم للأرنيقي5 تلميذ قاضي زاده موسى بن محمود الرومي شارح جغميني6 وفيه بيان أنواع العلوم وتراجم بعض علماء الفنون ثم عثرت على كتاب كشاف اصطلاحات الفنون للشيخ الفاضل محمد علي بن علي التهانوي الهندي وقد ذكر فيه أنواعا من العلوم المتداولة وطرقا من الفنون المتناولة. ورأيت المترفين قد عجزت هممهم عن معرفة هذه العلوم والفنون ووجدت العلماء قد قنعوا بالطل من الوابل الهتون فكل واحدة من هاتين القبيلتين في غنى عن جباتها وقصور عن بلوغ غايتها إلا ما شاء الله تعالى من شواذ القبائل وأفراد الإنسان. موضوع الكتاب الأول7 تاريخ أحوال العالم. وموضوع الكتاب الثاني8 جمع أسامي الكتب التي صفنها بنو آدم. فالأول ليس فيه ما خلا ذكر تلك العلوم في فصول خاصة إلا أحوال العمران وأمم الإنسان ووقائع الدهور والأزمان. والثاني9 ليس فيه ما عدا تراجم تلك العلوم والخطب إلا الكشف عن أسامي الكتب. والثالث مقتصر على ذكر أنواع العلوم وتراجم المصنفين فيها. والرابع10 مختص بذكر اصطلاحاتها المتداولة في كتب الفنون.

_ 1 عنوانه الكامل: العبر وديوان الميتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر. وتوفي مؤلفة ابن خلدون سنة 808هـ =1406م. 2 يريد به مقدمة ابن خلدون. 3 اسمه: مصطفى بن عبد الله، كاتب جلبي، المعروف بحاجي خليفة، تركي الأصل، مستعرب وهو مؤرخ بّحاثة، مولده ووفاته بالقسطنطينية: 1017-1067هـ = 1609-1657م. 4 عنوان الكتاب مفتاح السعادة ومصباح السيادة، وهو في موضوعات العلوم. مؤلفة هو المولى أبو الخير أحمد بن مصطفى المعروف بطاشا كبري زاده المتوفي سنة 968هـ - 1561م. 5 هو: محمد بن قطب الدين الأزنيقي الرومي، محيي الدين، عالم مشارك في بعض العلوم، توفي سنة 885هـ = 1480م. 6 هو كتاب الملخص في الهيئة البسيطة لمحمود بن محمد الجغميني. 7 أي العبر لابن خلدون. 8 أي الكشف لحاجي خليفة. 9 أي مدينة العلوم للأزنيقى. 10 أي كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.

فأردت أن أفرد منها أحوال العلوم وتراجم الفنون في تأليف مختصر تقريبا للبعيد وتحصيلا للتجريد مضيفا إليه ما حصل الوقوف عليه في أثناء ملاحظة الكتب الشاذة وعطفها واجتناء ثمار الفوائد من الصحف الفاذة وقطفها. ليكون هذا السفر التام المقصود وكوكب المراد الطالع من أفق السعود سهل الحصول لمن رام الوصول إليه ويسير النتاج لمن أراد الحصول منه والتعويل عليه لأنه دراسات عديدة في كراريس محدودة وفراسات سديدة في قراطيس مشهودة تحلت بعون الله وحسن توفيقه بكل زين ورتبت على قسمين: الأول: في بيان أحوال العلوم. والثاني: في تراجمها المنطوق منها والمفهوم وكل قسم من هذين القسمين اشتمل على مقدمة وخاتمة وأبواب على أكمل وضع وأجمل أسلوب تسوق ناظريها من طلبة العلوم إلى أعز مقصود وأعز مطلوب وأنت تعلم إن كنت ممن طالع الكتب المشار إليها واطلع عليها أن بعد هذا التجريد مما فيها لم يبق من المقاصد العلمية إلا القليل من تراجم الكتب وأهليها لكن الذي أهمني أني رأيت أبناء هذا الزمان لا تتوجه طبائعهم إلى إدراك العلوم ومبانيها واقتباس فوائد الفنون ولو بفهم بعض معانيها. فضلا عن أن يحيطوا بجميع المقاصد والغايات ويبلغوا من معرفتها وضبطها إلى النهايات. إلا واحدا من الألوف المؤلفة وفردا من الأحزاب المتحزبة ممن لهم همة شامخة وروية دارية في كسب المعارف والعلوم. أو دولة باذخة وقدرة سارية في جمع المقسوم. فإنه قد يرفع الرأس إلى معرفة العلم بدء وغاية وينحو إلى استعلام أمر الأول والنهاية وكل الخلق وجلهم مغمورون في اللذات العاجلة الخاطئة الكاذبة الفانية. ويؤثرونها ولو كان بهم خصاصة على النعم الآجلة الدائمة الباقية. إلا من عصمه الله تعالى. فكأن الناس كلهم قد صاروا أجناسا بلا فصول أو إناثا بلا فحول. مع أن الإنسان إنما تميز عن الحيوان بالنطق والعلم والعرفان. ولو لم يكن العلم في البشر لكان هو وجميع الحيوانات سواسية في كل شان. فإنا لله على ذهاب العلم وأهليه وفشو الجهل وعلو ذويه. وبالجملة: فهذا المؤلف الذي جمع أحوال العلوم وتراجمها في كن1 واحد وأوعى أشتات الفنون في وعاء صامد. قد تجلى نوره في آخر الزمان من عمر الدنيا حين ولى شبابها ولم يبق من بحار حياتها إلا سرابها وتوالت فيها الآفات والفتن وعمت بأهلها البلوى والمحن. ولذلك كان أثرا بعد عين أو حديثا من خفي حنين. ومع ذلك قد جاء بحمد الله تعالى في بابه بديع المثال منيع المنال مبدئ العجب العجاب. إذا سئل أعطى وإذا دعي أجاب كأنه سماء علوم شرفت كواكبها عجائبها وأرض فنون أمطرت بالغرائب سحائبها شامة في وجنات النكات تميمة في أجياد الفحول الأثبات جنة أشجارها مورقة حديقة أزهارها مونقة أكلها دائم وظلها قائم نعيمها مقيم ومزاجها من تسنيم. سفينة نجاة يعبر بها الأبرار بحارا بعيدة الأغوار وفلك مشحون يسيح العابرون في قاموسه المحيط التيار وحسبك به مطية يصل بها الراكب إلى رياض

_ 1 الكن: البيت.

الجنان ويشرب هنالك الشارب من حياض العرفان. جمعته لتفنن خواطر الولدين الكريمين السعيدين وتمرن ضمائر الابنين الشريفين الحميدين: السيد نور الحسن الطيب والسيد على حسن الطاهر بارك الله لهم وفيهم وعليهم في الدنيا والدين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين وسلك بهم مسلك السلف الصالحين خصوصا ولمن عداهم من أهل العلم والفضل عموماً. وسميت القسم الأول من هذا الكتاب: الوشي المرقوم. والقسم الآخر السحاب المركوم والكتاب نفسه أبجد العلوم. وكان وضعه وجمعه في بلدة بهوبال المحمية في سنة تسعين ومائتين وألف الهجرية وطبعة وينعه في سنة خمس وتسعين ومائتين وألف القدسية في المطبعة المنسوبة إلى ذات المحامد السنية والمكارم العلية من أخجلت بجودها السحاب فصب عرقا وأرعدت بسياستها الرعد فارتعد فرقا لاح نور رأفتها من سواد بلاد مالوة الدكن كما لاح نور الباصرة من سواد البصر. فوصل كذلك إلى القريب والبعيد من أهل الوبر والمدر. من نزل بأعتابها نسي الأوطان والأصحاب ومن لاذ ببابها أتاه المطالب من كل باب قد جمعت بين الصورة الملكية والسيرة الملكية وقرنت بين الحكمة الأيمانية والحكومة اليمانية. وهنا أنشدت مخاطبا للصبا والشمال على ما هو دأب أرباب الوجد والحال: وصلت حمى بهوبال يا نفس فانزلي ... فقد نلت مأمول الفوائد المعول ويا حبذا ساحاتها نلت إنها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل تذكرت عهدا بالحمى وبمن به ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وما هو إلا حضرة العزة التي ... تخاطب تاج الهند عند الأماثل معاذة أهل الفضل من كل حادث ... ملاذة أعيان العلاة الأفاضل مغيثة أرباب الفواضل والحجى ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل هي البحر جودا فيضها شمل الورى ... وقد نال من معروفها كل سائل هي الشمس إفضالا يعم نوالها ... جميع الرعايا من صنوف القبائل أفادت كرامات بهمتها التي ... لها ليس مثلا عند كل مماثل أفاضت فيوضا أخجلت جود حاتم ... أسالت إلينا هاطلا بعد هاطل قفوا أخبرونا من يقوم مقامه ... ومن ذا يرد الآن لهفة سائل قفوا أخبرونا هل لها من مشابه ... قفوا أخبرونا هل لها من مشاكل فما هي إلا رحمة مستطابة ... تعم البرايا من غني وعائل أدام لها رب البرايا مكارما ... تقصر عنها لك حاف وناعل وزاد لها الإقبال إقبال عزة ... وكان لها عونا لدى كل نازل أعني بها ملكية العالم أهل بيتي نواب شاهجان بيكم طابت أيامها ولياليها ونامت عيون الدواهي عن معاليها. هذا والله أسأل أن يصعد هذا الكتاب ذروة القبول ويجعله خالصا لذاته الكريمة وينفع به أهل العلم

ومن أخلفه من السادة الفحول ويرخي على زلات جامعة من عفوه وعافيته وغفرانه ورضوانه أطول الذيول. وحين بلغ القول مني إلى هذا المبلغ أخذت في سرد مقاصد الكتاب أبوابا ورفعت عن وجوه عرائس العلوم وتراجمها حجابا وأبديت فيه عللا وأسبابا ونزعت عن محيا فنونه جلبابا وسلكت فيه مسلكا غريبا واخترت من بين المناحي منهجا عجيبا وبالله الاستعانة ومنه التوفيق في كل ما أحرر وأقول وعليه التعويل وله الحمد على كل حال وهو خير مسئول ومأمول.

القسم الأول: الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم

القسم الأول: الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم المقدمة: في بيان ما يطلق عليه اسم العلم ونسبته ومحله وبقائه وعلم الله تعالى ... القسم الأول: من كتاب أبجد العلوم في أحوالها المسمى بالوشي المرقوم المقدمة: في بيان ما يطلق عليه اسم العلم ونسبته ومحله وبقائه وعلم الله تعالى العلم بالكسر وسكون اللام: في عرف العلماء يطلق على معان منها الإدراك مطلقا تصورا كان أو تصديقا يقينيا أو غير يقيني وإليه ذهب الحكماء. ومنها التصديق مطلقا يقينيا كان أو غيره. قال السيد السند1 في حواشي العضدي: لفظ العلم يطلق على المقسم وهو مطلق الإدراك وعلى قسم منه وهو التصديق. إما بالاشتراك بأن يوضع بإزائه أيضا وإما بغلبة استعماله فيه لكونه مقصودا في الأكثر وإنما يقصد التصور لأجله ومنها التصديق اليقيني في الخيالي. العلم عند المتكلمين لا معنى له سوى اليقين وفي الأطول في باب التشبيه: العلم بمعنى اليقين في اللغة لأنه من باب أفعال القلوب انتهى. ومنها ما يتناول اليقين والتصور مطلقا في شرح التجريد2: العلم يطلق تارة يراد به الصورة الحاصلة في الذهن ويطلق تارة ويراد به اليقين فقط. ويطلق تارة ويراد به ما يتناول اليقين والتصور مطلقا انتهى. قيل: هذا هو مذهب المتكلمين ومنها التعقل. ومنها التوهم والتخيل. في تهذيب الكلام: أنواع الإدراك إحساس وتخيل وتوهم وتعقل والعلم قد يقال لمطلق الإدراك وللثلاثة الأخيرة وللأخير وللتصديق الجازم المطابق الثابت.

_ 1 هو علي بن محمد بن علي، المعروف بالسيد الشريف الجرجاني، من الفلاسفة وكبار علماء العربية، له مؤلفات كثيرة توفي سنة 816هـ = 1413م. 2 المراد بالتجريد كتاب تجريد الكلام أو تجريد العقائد للنصير الطوسي المتوفى سنة 672هـ، وعلى التجريد شروح كثيرة وحواش، أهمها حاشية السيد الشريف الجرجاني وهي المعتمدة لدى علماء الروم والهند.

ومنها: إدراك الكلي مفهوما أو حكما. ومنها: إدراك المركب تصورا كان أو تصديقا. ومنها: إدراك المسائل عن دليل. ومنها: نفس المسائل المبرهنة. ومنها: الملكة الحاصلة من إدراك تلك المسائل وبعضهم لم يشترط كون المسائل مبرهنة وقال: العلم يطلق على إدراك المسائل وعلى نفسها وعلى الملكة الحاصلة منها. والعلوم المدونة تطلق أيضا على هذه المعاني الثلاثة الأخيرة. ومنها: ملكة يقتدر بها على استعمال موضوعات ما نحو غرض من الأغراض صادرا عن البصيرة بحسب ما يمكن فيها ويقال لها الصناعة أيضا كذا في المطول1. في بحث التشبيه. ورده السيد السند بأن الملكة المذكورة المسماة بالصناعة إنما هي في العلوم العملية أي: المتعلقة بكيفية العمل كالطب والمنطق وتخصيص العلم بإزائها غير محقق كيف وقد يذكر العلم في مقابلة الصناعة. نعم إطلاقه على ملكة الإدراك بحيث يتناول العلوم النظرية والعملية غير بعيد مناسب للعرف انتهى. قال المتكلمون: لا بد في العلم من إضافة ونسبة مخصوصة بين العالم والمعلوم بها. ويكون العالم عالما بذلك المعلوم والمعلوم معلوما لذلك العالم. وهذه الإضافة هي المسماة عندهم بالتعلق فجمهور المتكلمين على أن العلم هو هذا التعلق إذ لم يثبت غيره بدليل فيتعدد العلم بتعدد المعلومات كتعدد الإضافة بتعدد المضاف إليه. وقال قوم من الأشاعرة: هو صفة حقيقية ذات تعلق. وعند هؤلاء فثمة أمران: العلم وهو تلك الصفة. والعالمية أي: ذلك التعلق. فعلى هذا لا يتعدد العلم بتعدد المعلومات إذ لا يلزم من تعلق الصفة بأمور كثيرة تكثر الصفة إذ يجوز أن يكون لشيء واحد تعلقات بأمور متعددة. وأثبت القاضي الباقلاني العلم الذي هو صفة موجودة والعالمية التي هي من قبيل الأحوال عنده. وأثبت معها تعلقا فإما للعلم فقط أو للعالمية فقط فهذه ثلاثة أمور: العلم والعالمية والتعلق الثابت لأحدهما وإما لهما معا فها هنا أربعة أمور: العلم والعالمية وتعلقاتهما. وقال الحكماء: العلم هو الموجود الذهني إذ لا يعقل ما هو عدم صرف بحسب الخارج كالممتنعات. والتعلق إنما يتصور بين شيئين متمايزين ولا تمايز إلا بأن يكون لكل منهما ثبوت في الجملة ولا ثبوت للمعدوم في الخارج فلا حقيقة له إلا الأمر الموجود في الذهن وذلك الأمر هو العلم وأما التعلق فلازم له. والمعلوم أيضا فإنه باعتبار قيامه بالقوة العاقلة علم وباعتباره في نفسه من حيث هو هو معلوم. فالعلم والمعلوم متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار. وإذا كان العلم بالمعدومات كذلك وجب أن يكون سائر المعلومات أيضا كذلك إذ لا اختلاف بين أفراد حقيقة واحدة نوعية. كذا في شرح المواقف قال مرزا

_ 1 هو الشرح المبسوط لكتاب تلخيص المفتاح للجلال القزويني المتوفي سنة 739هـ. ومؤلف المطول هذا هو سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة 792هـ.

زاهد: هذا في العلم الحصولي. وأما في الحضوري فالعلم والمعلوم متحدان ذاتا واعتبارا ومن ظن أن التغاير بينهما في الحضوري أيضا اعتباري كتغاير المعالج والمعالج فقد اشتبه عليه التغاير الذي هو مصداق تحققهما بالتغاير الذي هو بعد تحققهما. فإنه لو كان بينهما تغاير سابق لكان العلم الحضوري صورة منتزعة من المعلوم وكان علما حصوليا. ثم اعلم أن محل العلم الحادث سواء كان متعلقا بالكليات أو بالجزئيات عند أهل الحق غير متعين عقلا بل يجوز عندهم عقلا أن يخلقه الله تعالى في أي جوهر أراد من جواهر البدن لكن السمع دل على أنه القلب قال الله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . هذا وقال الحكماء: محل العلم الحادث النفس الناطقة أو المشاعر العشر الظاهرة والباطنة. وقد اختلف المتكلمون في بقاء العلم والعقل بعد الموت في الجنة فالأشاعرة قضوا باستحالة بقائهما كسائر الأعراض عندهم. وأما المعتزلة فقد أجمعوا على بقاء العلوم الضرورية والمكتسبة التي لا يتعلق بها التكليف. واختلفوا في العلوم المكتسبة المكلف بها فقال الجبائي1: إنها ليست باقية وإلا لزم أن لا يكون المكلف بها حال بقائها مطيعا ولا عاصيا ولا مثابا ولا معاقبا مع تحقق التكليف وهو باطل بناء على أن لزوم الثواب أو العقاب على من كلف به. وخالفه أبو هاشم2 في ذلك وأوجب بقاء العلوم مطلقا قال شيخنا العلامة المجتهد المطلق قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني3 في فتاواه المسماة بالفتح الرباني: إنه وصل السؤال عن الكلام للحافظ الذهبي4 من أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة ولا يبقى لهم شعور بشيء منها فاقشعر جلدي عند الاطلاع على هذا الكلام من مثل الحافظ الذي أفنى عمره في خدمة الكتاب والسنة والتراجم لعلماء هذا الشأن. وقد كنت قديما وقفت على شيء من هذا لكن لفرد شاذ من أفراد الحكماء قاله لا عن دراية ولا رواية فلم أعبأ به لجهله بالكتاب والسنة فياليت شعري كيف يجري قلم أحقر عالم من علماء الشريعة بمثل هذا. وعجبت ما أدخل هذا الحافظ في مثل هذه المداخل المقفرة المكفهرة التي يتلون الخريف في شعابها وهضابها ويتحمل هذا النقل الثقيل والعبئ الجليل. والحاصل أن الطوائف الإسلامية على اختلاف مذاهبهم وتباين طرقهم متفقون على أن عقول أهل الجنة

_ 1 هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي، من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره وإليه نسبة الطائفة الجبائية، نسبته إلى جبى من قرى البصرة، توفي سنة 303هـ = 916م. 2 هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، من كبار المعتزلة وعالم بالكلام، تبعته فرقة سميت البهشمية، توفي سنة 321هـ = 933م. 3 هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ففيه مجتهد من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء كان يرى تحريم التقليد، له 114 مولفا 1173 - 1250هـ = 1760 - 1834م. 4 هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، شمس الدين، حافظ مؤرخ علامة محقق، تركماني الأصل من أهل ميافارقين مولده ووفاته بدمشق. له كثير من التصانيف قد تبلغ المائة: 673-748هـ = 1274- 1348م.

تزداد صفاء وإدراكا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية. وكيف يسلبون ما هو عندهم من أوفر النعم وأوفر القسم وهم في دار فيها ما تشتهيه النفس وتلذ به الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فكأن هذا القائل لم يقرأ القرآن الكريم وما اشتمل عليه من تحاور أهل الجنة وأهل النار وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلا وأوفر الخلائق فهما وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم بل ما يودونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعيم قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 1وورد مثل هذا المعنى في القرآن الذي رفع لفظه من المصحف كما ثبت في الصحاح من كتب الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ: بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا وكذلك ما ذكر من اجتماع أهل الجنة ومذاكرتهم بما كانوا فيه في الدنيا وما صاروا إليه في الجنة كما في الآيات المشتملة على ما في الجنة مما أعده الله لهم حيث يقول: وفيها وفيها وفيها في آيات كثيرة. وذكر أن أهلها على سرر متقابلين وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون. وثبت أنهم يدخلون الجنة على تلك الصفات من الجمال والشباب وكمال الخلق وحسن الهيئة مردا جردا أبناء ثلاث وثلاثين سنة. وأنهم يتخيرون في الجنة ما يشتهون. وكم يعد العاد من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة. ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذوو عقول صحيحة بالضرورة العقلية كما ثبت بالضرورة الدينية. ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوي عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تجدد لها من العلوم ذاكرة لما حصل لها منها من قبل هذا مالا يحتاج إلى بيان ولا يفتقر إلى برهان ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة وصاروا مشابهين للدواب وأي نعمة لمن لا عقل له كما هو مشاهد من المصابين بالجنون في الدنيا وأي فائدة للمبالغة في نعيم من كان ذاهب العقل بما ثبت في الكتاب والسنة من أنهم على صفات فوق صفاتهم في الدنيا بمسافات لا يقدر قدرها ولا يحاط بكنهها وكذلك لا يتم نعيمهم إلا بوجود الحواس الظاهرة والباطنة ولو فقدوها لما تنعموا كما ينبغي. وكذا لو فقدوا بعضها لم يكن لهم شعور بالتنعيم الذي وصفه الله سبحانه وبالغ فيه. وأي فائدة لفاقد العقل وأي شعور له بكونه على صفة كمالية في جماله ولباسه الحرير والديباج وتحليته بالذهب والجواهر وأكله من أطيب المأكل وشربه من أنفس المشروب. وكذا لا نعمة تامة فضلا عن أن تكون فاضلة لمن كان أعمى أو أصم أو لا يفهم شيئا أو لا يذكر ما مضى له ولا يفكر فيما هو فيه وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة بنسبة الدنيا شبابا وجمالا وقوة وفهما وذكرا وحفظا وسلامة من كل نقص ولو لم يكن الأمر هكذا لم تكن لهم فائدة بما بولغ به في شأنهم من الصفات بل يعود ذلك بالنقص لما أثبت لهم منها في الجنة هذا معلوم بالعقل والشرع لا يتمارى فيه قط. وأقل الحال أن يكون النعيم المحكوم لهم به في الجنة كتابا وسنة ناقصا. والمفروض أنه بالغ في الكمال إلى غاية فوق كل غاية وهذا خلف يدافع نصوص الكتاب والسنة مدافعة يفهمها كل من له عقل وإدراك. فيا عجبا كل العجب من التجري على أهل هذه الدار التي هي دار النعيم المقيم على الحقيقة بما ينغص نعيمهم ويشوش حالهم ويكدر صفوهم ويمحق ما أعد الله لهم ومن التجري على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما يستلزم عدم ثبوت ما أثبته الكتاب والسنة لهم

_ 1 سورة يس، الآية: 27.

وتكديره وذهاب أثره ومحق بركته وأنت تعلم أن مثل هذا الكتاب يستلزم الكفر الصراح. فأين هذا القادح الفادح من نعيم دار يعدل موضع سوط أحدهم فيها الدنيا بأسرها وجميع ما فيها ومن دار نصيف إحدى زوجاتهم يعدل الدنيا وما فيها ومن دار لو أشرفت إحدى الجواري المعدة لهم على أهل الدنيا لفتنتهم أجمعين كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. ومع هذا فقد ثبت قرآنا أنهم على سرر متقابلين وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون. وثبت سنة أنهم يجتمعون ويتزاورون. فليت شعري ما فائدة هذا الاجتماع والتزاور لمن لا عقل له ولا فهم ولا فكر ولا ذكر. والحاصل أن التقول بمثل هذا القول هو من التقول على الله سبحانه بما لم يقل وعلى رسوله وعلى شريعته. بما لم يكن منها وقد ثبت في القرآن الكريم الحكم على المتقولين بما هو معلوم لكل من يعرف القرآن وإذا ثبت أن مثل هذا باطل في الدار الآخرة فانظر إلى هذه الدار دار الدنيا التي ليست بشيء بالنسبة إلى الدار الآخرة لو قيل لأحدهم: إنه سيكون لك ما تريد من جمال الهيئة وكمالها ومن النعيم البالغ ومن الرياسة التامة ولكن ستصاب بالجنون أو تفقد جميع المشاعر لقال: لا ولا كرامة دعوني أعش صعلوكا فقيرا فهو أطيب لي مما عرضتموه علي وأحب إلي مما جئتموني به: خذوا رفدكم لا قدس الله رفدكم ... سأذهب عنه لا علي ولا ليا وإنما أوردنا لك هذه الأمور لتعلم أن الروح للإنسان إذا كان ساذجا كان كله ساذجا إذ الروح هو الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن الدواب وجميع ما ذكرنا من العقل والحواس الباطنة والظاهرة هو له لا للحم ولا لدم ولا لعظم. فإذا كان الروح ساذجا فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وهو المقصود بقولهم في بيان ماهية الإنسان إنه حيوان ناطق أي: مدرك للمعقولات وليس ذلك للقالب الذي هو فيه وكما أن ما ذكرناه وقررناه هو إجماع الطوائف الإسلامية على اختلاف أنواعهم فهو أيضا إجماع أهل الشرائع كلها كما يحكى ذلك عن كتب الله المنزلة على رسله وتحكيه أيضا كتبهم المؤلفة من أحبارهم ورهبانهم فإنه لا خلاف بينهم في المعاد وفي النعيم المعد لأهل الجنة كما حكاه الكتاب العزيز وقد أوردنا من ذلك في المقالة الفاخرة في إثبات الدار الآخرة وفي إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على إثبات التوحيد والمعاد والنبوات كثيرا من نصوص التوارة والإنجيل والزبور وسائر كتب نبوات بني إسرائيل. ولم يشذ منهم إلا اليهودي الزنديق موسى بن ميمون الأندلسي1 وقد تبرأ منه قدماء اليهود وأخرجوه من دينهم. بل وكذلك النصارى وإن لم يكن من أهل ملتهم فقد صرحوا بخذلانه وزندقته قال النصراني في تاريخه: ورأيت كثيرا من يهود بلاد الإفرنج بإنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافرا انتهى. قلت: وقد وقع لهذا الملعون من تحريف كثير من التوراة ما يدل على إلحاده وزندقته وقد رددت ما حرفه وأوضحته بأتم إيضاح وأما يهود عصرنا فصاروا يعظمونه وذلك لجهلهم بحقيقة الحال. وقد ذكرت لجماعة من أحبارهم بعض تحريفاته فلعنوه وتبرؤوا منه وكما أن هذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل الملل التابعين لأنبيائهم،

_ 1 هو موسى بن ميمون بن يوسف بن إسحاق القرطبي، طبيب فيلسوف يهودي، ولد وتعلم في قرطبة وتظاهر بالإسلام، ودخل مصر، فعاد الى يهوديته وأقام في القاهرة 37 عاماً كان فيها من سنة 567هـ رئيساً روحياً لليهود، ومات بها ودفن بطبرية في فلسطين 529-601هـ = 1135 - 1204م.

فهو أيضا مجمع عليه بين المشتغلين بالعقل والنظر كالكلدانيين والصابئين أتباع صاب بن إدريس كما رأيناه في حكاية مذاهبهم التي ذهبوا إليها في شأن المعاد ومنهم اليونانيون فإنهم جميعهم من عند أسقلينوس إلى عهد جالينوس مصرحة كتبهم بمعاد الأرواح عليه في دار المعاد وهكذا المشتغلون بالحكمة الإلهية من أهل الإسلام كالكندي ومن جاء بعده كالفارابي ومن جاء بعده منهم كابن سينا فإن كتبهم مصرحة بذلك تصريحا لا شك فيه ولا ريب. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية انتهى كلام الشوكاني رحمه الله. وإنما أوردناه ههنا بطوله لاشتماله على الفوائد الجليلة والشيء بالشيء يذكر. ثم اعلم أن علم الله سبحانه بذاته نفس ذاته فالعالم والمعلوم واحد وهو الوجود الخاص. كذا في شرح الطوالع أي: واحد بالذات أما بالاعتبار فلا بد من التغاير. ثم قال: وعلم غير الله تعالى بذاته وبما ليس بخارج عن ذاته هو حصول نفس المعلوم ففي العلم بذاته العالم والمعلوم واحد والعلم وجود العالم والمعلوم والوجود زائد. فالعلم غير العالم والمعلوم والعلم بما ليس بخارج عن العالم من أحواله غير العالم والمعلوم والمعلوم أيضا غير العالم فيتحقق في الأول أمر واحد. وفي الثاني اثنان. وفي الثالث ثلاثة. والعلم بالشيء الذي هو خارج عن العالم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم. فيتحقق أمور أربعة: عالم ومعلوم وعلم وصورة. فالعلم حصول صورة المعلوم في العالم ففي العلم بالأشياء الخارجة عن العالم صورة وحصول تلك الصورة وإضافة الصورة إلى الشيء المعلوم وإضافة الحصول إلى الصورة وفي العلم بالأشياء الغير الخارجة عن العالم حصول نفس ذلك الشيء الحاصل وإضافة الحصول إلى نفس ذلك الشيء ولا شك أن الإضافة في جميع الصور عرض وأما نفس حقيقة الشيء في العلم بالأشياء الغير الخارجة عن العالم فإنه يكون جوهرا إن كان المعلوم ذات العالم لأنه تكون تلك الحقيقة موجودة لا في موضوع ضرورة كون ذات الموضوع العالم كذلك وإن كان المعلوم حال العالم يكون عرضا. وأما الصورة في العلم بالأشياء الخارجة عن العالم فإن كانت صورة لعرض بأن يكون المعلوم عرضا فهو عرض بلا شك وإن كانت صورة لجوهر بأن يكون المعلوم جوهرا فعرض أيضا انتهى. وهذا مبني على القول بالشبح. وأما على القول بحصول ماهيات الأشياء في الذهن فجوهر. وقال الصوفية: علم الله سبحانه صفة نفسية أزلية. فعلمه سبحانه بنفسه وعلمه بخلقه علم واحد غير منقسم ولا متعدد لكنه يعلم نفسه بما هو له ويعلم خلقه بما هم عليه. ولا يجوز أن يقال: إن معلوماته أعطته العلم من أنفسها - كما قال الشيخ محيي الدين ابن عربي - لئلا يلزم كونه استفاد شيئا من غيره ولكنا وجدناه سبحانه بعد هذا يعلمها بعلم أصلي منه غير مستفاد مما هي عليه فيما اقتضته بحسب ذواتها غير أنها اقتضت في نفسها ما علمه سبحانه عليها فحكم له ثانيا بما اقتضته وهو ما علمها عليه. ولما رأى الإمام المذكور أن الحق حكم للمعلومات بما اقتضته من نفسها ظن أن علم الحق مستفاد من اقتضاء المعلومات فقال: إن المعلومات أعطت الحق العلم من نفسها. وفاته أنها إنما اقتضت ما علمها عليه بالعلم الكلي الأصلي النفسي قبل خلقها وإيجادها فإنها ما تعينت في العلم الإلهي إلا بما علمها لا بما اقتضته ذواتها ثم اقتضت ذواتها. بعد ذلك من نفسها أمورا هي عين ما علمها عليه أولا فحكم لها ثانيا بما اقتضته وما

حكم إلا بما علمها عليه فتأمل فيسمى الحق عليما بنسبة العلم إليه مطلقا وعالما بنسبة معلومية الأشياء إليه وعلاما بنسبة العلم ومعلومية الأشياء إليه معا. فالعليم اسم صفة نفسية لعدم النظر فيه إلى شيء مما سواه إذ العلم ما تستحقه النفس في كمالها لذاتها. وأما العالم: فاسم صفة فعلية وذلك علمه للأشياء سواء كان علمه لنفسه أو لغيره فإنها فعلية يقال: عالم بنفسه أي: علم نفسه وعالم بغيره أي علم غيره فلا بد أن تكون صفة فعلية وأما العلام فبالنظر إلى النسبة العلمية اسم صفة نفسية كالعليم. وبالنظر إلى نسبة معلومية الأشياء إليه اسم صفة فعلية ولذا غلب وصف الخلق باسم العالم دون العليم والعلام فيقال: فلان عالم ولا يقال عليم ولا علام مطلقا إلا أن يقال: عليم بأمر كذا ولا يقال علام بأمر كذا بل إن وصف به شخص فلا بد من التقييد فيقال: فلان علام في فن كذا وهذا على سبيل التوسع والتجوز وليس قولهم: فلان علامة من هذا القبيل لأنه ليس من أسماء الله تعالى فلا يجوز أن يقال: إن الله علامة فافهم. كذا في الإنسان الكامل ذكره في كشاف اصطلاحات الفنون أقول عفا الله عني: إن علم الله تعالى ذاتي كسائر صفاته. وإنما قلنا ذلك للرد على الحكماء القائلين بنفي الصفات وإثبات غاياتها وللرد على المعتزلة القائلين بأنه يعلم بالذات لا بصفة زائدة عليها وقال ابن سينا في الإشارات تبعا للفلاسفة: إن الله عالم بالكليات أي دون الجزئيات. وهو كفر بواح لا يقبل التأويل. وهذا أحد ما كفر أهل الإسلام الفلاسفة بها ولهم من أمثال ذلك الطامات الكثيرة المعضلات فلا يهولنك ما ينسب إليهم من المعارف ودقائق الأفكار فما منهم إلا المخالف أو على شفا جرف هار. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية1 وغيره من علماء الإسلام أدلة عقلية أيضا. على إثبات صفة العلم لله تعالى لا نطول الكلام بذكرها هنا وأدلة ثبوت صفة العلم لله تعالى سمعا من الكتاب والسنة كثيرة جدا كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] قوله: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت: 47] وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] وقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] إلى غير ذلك من آيات لا تحصى إلا بكلفة وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "سبق علم الله في خلقه فهم صائرون إليه" وفي حديث ابن عمر: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله". وصفة العلم له سبحانه إمام أئمة الصفات وقد أحاط بكل شيء علما وعلمه قد تعلق بكل شيء من الأشياء من الجائزات والواجبات والمستحيلات فيجب شرعا أن يعلم أن علم الله غير متناه من حيث تعلقه. أما بمعنى أنه لا ينقطع فهو واضح وأما بمعنى أنه لا يصير بحيث لا يتعلق بالمعلوم فإنه يحيط بما هو غير متناه كالأعداد والأشكال. ونعيم الجنة فهو شامل لجميع المتصورات سواء كان واجبة كذاته صفاته العليا أو مستحيلة كشريك الباري تعالى أو ممكنة كالعالم بأسره الجزئيات من ذلك والكليات على ما هي عليه من جميع ذلك وأنه واحد لا تعدد فيه ولا تكثر وإن تعددت معلوماته وتكثرت.

_ 1 هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، الإمام، شيخ الإسلام 661-728هـ = 1263 - 1328م.

وأما وجوب عموم تعلقه سمعا فمثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وقوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} إلى غير ذلك من الآيات القرآنية وأما وجوب ذلك عقلا فلأن المقتضي للعالمية هو الذات إما بواسطة المعنى الذي هو العلم على ما هو مذهب الصفاتية والسلف وهو الحق أو بدونها على ما هو رأي النفاة. والمقتضي للمعلومية إمكانها ونسبة الذات إلى الكل على السواء فلو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لكان ذلك بمخصص وهو محال لامتناع احتياج الواجب في صفاته وسائر كمالاته إلى التخصيص لمنافاته لوجوب الوجود والفناء المطلق ولم يذهب إلى تعدد علوم قديمة أحد يعتمد عليه إلا أبو سهل الصعلوكي من الأشاعرة وهو محجوج بالإجماع. والحق أن علمه سابق محيط بالأشياء على ما هي عليه ولا محو فيه ولا تغير ولا زيادة ولا نقصان. وهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون وما لو كان كيف كان وأما ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ فهل يكون فيه محور وإثبات؟ فيه قولان للعلماء. وأما الصحف التي بيد الملائكة فيحصل فيها المحو والإثبات. وما أطال به الحكماء وإفراغهم الكلام في بيان علم الله سبحانه وتعالى وما جاؤوا به. من الأدلة العقلية على إثبات عقائدهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة وما تفوهوا به من أن الصفات زائدة على ذاته أو هي عين ذاته المقدسة وما نفوه من الصفات فكل ذلك مما لم يخض فيه السلف ولم يأت فيه حرف واحد من الشارع عليه الصلاة والسلام. فالخوض فيه وأمثاله من المسائل بعد عن الدين وقرب من الشياطين وكم قد هلكوا وأهلكوا وضلوا وأضلوا الناس عن الصراط السوي ولا معصوم إلا من عصمه الله ورحمه. والكلام على مسألة العلم يطول وليس هذا موضع بسطه وفيما ذكر ما يكفي ويشفي.

الباب الأول: في تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه

الباب الأول: في تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه الفصل الأول: في ماهية العلم ... الباب الأول: في تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه وفيه فصول الفصل الأول: في ماهية العلم الاختلاف في ماهية العلم المطلق اعلم أنه اختلف في أن تصور ماهية العلم المطلق هل هو ضروري يتصور ماهيته بالكنه فلا يحد أو نظري يعسر تعريفه أو نظري غير عسير التعريف؟ والأول: مذهب جماعة منهم الإمام الرازي1 واستدلوا بما ليس فيه شيء من الدلالة. ويكفي في دفع ما قالوه ما هو معلوم بالوجدان لكل عاقل أن العلم ينقسم إلى ضروري ومكتسب. والثاني: رأي قوم منهم إمام الحرمين2 والغزالي وقالوا: لا طريق إلى معرفته إلا القسمة والمثال وهو متعقب كما بينه شيخنا الشوكاني في إرشاد الفحول. والثالث: هو الراجح وبه قال الجمهور. ثم ذكروا له تعريفات: الأول: لبعض المتكلمين من المعتزلة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به وهو مدخول لدخول التقليد المطابق للواقع. فزيد فيه قيد عن ضرورة أو دليل لكن لا يمنع الاعتقاد الراجح المطابق وهو الظن الحاصل عن ضرورة أو دليل. وبعبارة أخرى هو الذي يوجب لمن قام به اسم العالم ويخرج عنه العلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء اتفاقاً.

_ 1 هو الفخر الرازي، محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التميمي البكري، الإمام المفسر أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل، وهو قرشي النسبة أصله من طبرسستان ومولده في الري وإليها نسبته، له مصنفات كثيرة مشهورة: 544-606هـ = 1150-1210م. 2 هو عبد الملك بن عبد الله بنو يوسف بن محمد الجويني، الملقب بإمام الحرمين، أعلم المتأخرين، من أصحاب الشافعي، بنى له الوزير نظام الملك مدرسة في نيسابور، وكان يحضر دروسه أكابر العلماء له مصنفات كثيرة: 419-478هـ = 1028- 1085م.

الثاني: معرفة المعلوم على ما هو به وهو مدخول أيضا لخروج علم الله تعالى إذ لا يسمى معرفة أي إجماعا لا لغة ولا اصطلاحا ولذكر المعلوم وهو مشتق من العلم فيكون دورا ولأن معنى على ما هو به هو معنى المعرفة فيكون زائدا وهذا الثاني مختار القاضي أبي بكر الباقلاني1. الثالث: هو الذي يوجب كون من قام به عالما وهو مدخول أيضا لذكر العالم في تعريف العلم وهو دور. الرابع: هو إدراك المعلوم على ما هو به وهو قول الشيخ أبي الحسن الأشعري وهو مدخول أيضا لما فيه من الدور الحشو كما مر ولأن الإدراك مجاز عن العلم. الخامس: هو ما يصح لمن قام به إتقان الفعل وهو قول ابن فورك2. وفيه أنه يدخل القدرة ويخرج علمنا إذ لا مدخل في صحة الإتقان فإن أفعالنا ليست بإيجادنا وإن في المعلومات ما لا يقدر العالم على إتقانه كالمستحيل. السادس: تبيين المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة المذكورة والدور. مع أن التبيين مشعر بالظهور بعد الخفاء فيخرج عنه علم الله سبحانه وتعالى. السابع: إثبات المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور وأيضا الإثبات قد يطلق على العلم تجوزا فيلزم تعريف الشيء بنفسه. الثامن: الثقة بأن المعلوم على ما هو به وفيه الزيادة والدور مع أنه لزم كون الباري واثقا بما هو عالم به وذلك مما يمتنع إطلاقه عليه شرعا. التاسع: هو اعتقاد جازم مطابق لموجب إما لضرورة أو دليل وفيه أنه يخرج عنه التصور لعدم اندراجه في الاعتقاد مع انه علم ويخرج علم الله سبحانه وتعالى لأن الاعتقاد لا يطلق عليه ولأنه ليس بضرورة أو دليل. وهذا التعريف للفخر الرازي عرفه به بعد تنزله عن كونه ضروريا. العاشر: حصول صورة الشيء في العقل أو الصورة الحاصلة عند العقل وفيه أنه يتناول الظن والجهل المركب والتقليد والشك والوهم. قال ابن صدر الدين: هو أصح الحدود عند المحققين من الحكماء وبعض المتكلمين قلت: وفيه أن إطلاق اسم العلم عليها يخالف مفهوم العلم لغة واصطلاحا وعرفا وشرعا إذ لا يطلق على الجاهل جهلا مركبا ولا على الظان والشاك والواهم أنه عالم في شيء من تلك الاستعمالات. وأما التقليد فقد يطلق عليه العلم مجازا ولا مشاحة في الاصطلاح والمبحوث عنه في المنطق هو العلم بهذا المعنى لأن المنطق لما كان جمع قوانين الاكتساب فلا بد لهم من تعميم العلم. قاله في كشاف اصطلاحات الفنون. الحادي عشر: تمثل ماهية المدرك في نفس المدرك وفيه ما في العاشر. وهذان التعريفان للحكماء

_ 1 هو القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، من كبار علماء الكلام، انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة. ولد في البصرة وسكن بغداد وتوفي بها، له كتب كثيرة: 338-403هـ = 950-1013م. 2 هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر، عالم بالأصول والكلام، من فقهاء الشافعية، حدث بنيسابور وبنى فيها مدرسة وتوفي على مقربة منها، له كتب كثيرة: توفي سنة 406هـ = 1015م.

مبينان على الوجود الذهني والعلم عندهم عبارة عنه. فالأول: يتناول إدراك الكليات والجزئيات. والثاني: ظاهره يفيد الاختصاص بالكليات. الثاني عشر: هو صفة توجب لمحلها تمييزا بين المعاني لا يحتمل النقيض وهو الحد المختار عند المتكلمين قال في كشاف اصطلاحات الفنون: أي لبراءته عما ذكر من الخلل في غيره وتناوله للتصور مع التصديق اليقيني انتهى. قلت: إلا أنه يخرج عنه العلوم العادية كعلمنا مثلا بأن الجبل الذي رأيناه فيما مضى لم ينقلب إلى الآن ذهبا فإنها تحتمل النقيض لجواز خرق العادة. وأجيب عنه في محله وقد يزاد فيه بين المعاني الكلية وهذا مع الغنى عنه يخرج العلم بالجزئيات. وهذا المختار عند من يقول: إن العلم صفة ذات تعلق بالمعلوم. الثالث عشر: هو تمييز معنى عند النفس تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه وهو الحد المختار عند من يقول من المتكلمين: إن العلم نفس التعلق المخصوص بين العالم والمعلوم. وفيه أن العلوم المستندة إلى العادة تحتمل النقيض لإمكان خرق العادة بالقدرة الإلهية. الرابع عشر: هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به. قال العلامة الشريف1: وهو أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم لأن المذكور يتناول الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل بلا خلاف ويتناول المفرد والمركب والكلي والجزئي والتجلي هو الانكشاف التام فالمعنى: إنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافا تاما لا اشتباه فيه فيخرج عن الحد الظن والجهل المركب واعتقاد المقلد المصيب أيضا لأنه في الحقيقة عقدة على القلب فليس فيه انكشاف تام وانشراح ينحل به العقدة انتهى. وفيه أنه يخرج عنه إدراك الحواس فإنه لا مدخلية للمذكور به فيه إن أريد الذكر اللساني كما هو الظاهر. وإن أريد به ما يتناول الذكر بكسر الذال والذكر بضمها فإنما أن يكون من الجمع. بين معنى المشترك أو من الجمع بين الحقيقة والمجاز وكلاهما مهجور في التعريفات. الخامس عشر: حصول معنى في النفس حصولا لا يتطرق إليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الذي حصل فيه وهو للآمدي2 قال: ونعني بحصول المعنى في النفس تمييزه في النفس عما سواه ويدخل في العلم بالإثبات والنفي والمفرد والمركب ويخرج عنه الاعتقادات. إذ لا يبعد في النفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الذي حصل فيه انتهى. السادس عشر: هو حكم لا يحتمل طرفاه أي المحكوم عليه وبه نقيضه وفيه أنه يخرج عنه التصور وهو علم. السابع عشر: صفة يتجلى بها المدرك بالفتح للمدرك بالكسر وهو كالعاشر وفيه أن الإدراك مجاز عن

_ 1 الجرجاني، سبق التعريف به في ص23. 2 هو علي بن محمد بن سالم التغلبي، أبو الحسن، سيف الدين، أصولي، باحث، له كتب في الأصول في علم الكلام، توفي بدمشق سنة 631هـ = 1233م.

العلم فيلزم تعريف الشيء بنفسه مع كون المجاز مهجورا في التعريفات ودعوى اشتهاره في المعنى الأعم الذي هو جنس الأخص غير مسلمة. هذا جملة ما قيل في تعريف العلم وقد عرفت ما ورد على كل واحد منها قال شيخنا القاضي العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: والأولى عندي أن يقال في تحديده: هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما وهذا لا يرد عليه شيء مما تقدم فتدبر انتهى. وقد أطال في كشاف اصطلاحات الفنون في بيان الأقوال السبعة الأول في حد العلم إطالة حسنة ليس إيرادها في هذا المختصر من غرضنا فإن شئت الزيادة على هذا فارجع إليه وإلى مآخذه.

الفصل الثاني: فيما يتصل بماهية العلم من: الاختلاف والأقوال

الفصل الثاني: فيما يتصل بماهية العلم من: الاختلاف والأقوال اعلم أنه اختلف في أن العلم بالشيء هل يستلزم وجوده في الذهن كما هو مذهب الفلاسفة وبعض المتكلمين أو هو تعلق بين العالم والمعلوم في الذهن كما ذهب إليه جمهور المتكلمين؟ ثم إنه على الأول لا نزاع في أنا إذا علمنا شيئا فقد تحقق أمور ثلاثة: صورة حاصلة في الذهن وارتسام تلك الصورة فيه وانفعال النفس عنها بالقبول. فاختلف في أن العلم أي هذه الثلاثة فذهب إلى كل منها طائفة. ولذلك اختلف في أن العلم هل هو من مقولة الكيف أو الانفعال أو الإضافة. والأصح أنه من مقولة الكيف على ما بين في محله. ثم اعلم أن القائلين بالوجود الذهني منهم من قال: إن الحاصل في الذهن إنما هو شبح للمعلوم وظل له مخالف بالماهية غايته أنه مبدأ لانكشافه. لكن دليل البحث لو تم لدل على أن للمعلوم نحوا آخر من الوجود لا كشبحه المخالف له بالحقيقة. ومنهم من قال: الحاصل في الذهن في نفس ماهية المعلوم لكنها موجودة بوجود ظلي غير أصلي وهي باعتبار هذا الوجود تسمى صورة ولا يترتب عليها الآثار كما أنها باعتبار الوجود الأصلي تسمى عينا ويترتب عليها الآثار فهذه الصورة إذا وجدت في الخارج كانت عين العين كما أن العين إذا وجدت في الذهن كانت عين الصورة أي شبح قائم بنفس العالم به ينكشف المعلوم وهي العلم وذو صورة أي ماهية موجودة في الذهن غير قائم به وهي المعلوم وهما متغايران بالذات. فعلى رأي القائلين بالشبح يكون العلم من مقولة الكيف بلا أشكال مع كون المعلوم من مقولة الجوهر أو مقولة أخرى لاختلافهما بالماهية وأما على رأي القائلين بحصول الماهيات بأنفسها في الذهن ففي كونه منها أشكال مع أشكال اتحاد الجوهر والعرض بالماهية وهما متنافيان. وأجاب عنه بعض المحققين بأن العلم من كل مقولة من المقولات وإن عدهم العلم مطلقا من مقولة الكيف على سبيل التشبيه به ويرد عليه أنه يصدق على هذا على العلم تعريف الكيف فيكون كيفا. وبعض المدققين جوز تبدل الماهية بأن يكون الشيء في الخارج جوهرا فإذا وجد في الذهن انقلب كيفا كالملحة التي ينقلب الواقع فيها ملحا وهو مبحث مشهور. وفي أبي الفتح حاشية الحاشية الجلالية: أما القائلون بالوجود الذهني من الحكماء وغيرهم فاختلفوا

اختلافا ناشئا من أن العلم ليس حاصلا قبل حصول الصورة في الذهن بداهة واتفاقا وحاصل عنده بداهة واتفاقا والحاصل معه ثلاثة أمور: الصورة الحاصلة وقبول الذهن من المبدأ الفياض وإضافة مخصوصة بين العالم والمعلوم فذهب بعضهم إلى أن العلم هو الصورة الحاصلة فيكون من مقولة الكيف. وبعضهم إلى أنه الثاني فيكون من مقولة الانفعال. وبعضهم إلى أنه الثالث فيكون من مقولة الإضافة. والأصح المذهب الأول لأن الصورة توصف بالمطابقة كالعلم والإضافة والانفعال ويوصفان بها. لكن القول بأن الصورة العقلية من مقولة الكيف إنما يصح إذا كانت مغارة لذي الصورة بالذات قائمة بالعقل كما هو مذهب القائلين بالشبح والمثال الحاكمين بأن الحاصل في العقل أشباح الأشياء لا أنفسها. وأما إذا كانت متحدة معه بالذات مغايرة له بالاعتبار على ما يدل عليه أدلة الوجود الذهني وهو المختار عند المحققين القائلين بأن الحاصل في الذهن أنفس الأشياء لا أشباحها فلا يصح ذلك. فالحق أن العلم من الأمور الاعتبارية والموجودات الذهنية وإن كان متحدا بالذات مع الموجود الخارجي إذا كان المعلوم من الموجودات الخارجية سواء كان جوهرا أو عرضا كيفا أو انفعالا أو إضافة أو غيرها انتهى. قال الرازي: قد اضطرب كلام ابن سينا في حقيقة العلم فحيث بين أن كون الباري عقلا وعاقلا ومعقولا يقتضي كثرة في ذاته فسر العلم بتجرد العالم والمعلوم من المادة. ورد بأنه يلزم منه أن يكون كل شخص إنساني عالما بجميع المجردات فإن النفس الإنسانية مجردة عندهم. وحيث قرر اندراج العلم في مقولة الكيف بالذات وفي مقولة الإضافة بالعرض جعله عبارة عن صفة ذات إضافة. وحيث ذكر أن تعقل الشيء لذاته ولغير ذاته ليس إلا حضور صورته عنده جعله عبارة عن الصورة المرتسمة في الجوهر العاقل المطابقة لماهية المعقول. وحيث زعم أن العقل البسيط الذي لواجب الوجود ليس عقليته لأجل صور كثيرة بل لأجل فيضانها عنه حتى يكون العقل البسيط كالمبدأ الخلاق للصور المفصلة في النفس جعله عبارة عن مجرد إضافة انتهى.

الفصل الثالث: في تقسيم العلم

الفصل الثالث: في تقسيم العلم قالوا: للعلم تقسيمات الأول: إلى الحصولي والحضوري فالحصولي: هو بحصول صورة الشيء عن المدرك ويسمى بالعلم الانطباعي أيضا لأن حصول هذا العلم بالشيء إنما يتحقق بعد انتقاش صورة ذلك الشيء في الذهن لا بمجرد حضور ذلك الشيء عند العالم. والحضوري: هو بحضور الأشياء أنفسها عند العالم كعلمنا بذواتنا والأمور القائمة بها ومن هذا القبيل علمه تعالى بذاته وبسائر المعلومات. ومنهم من أنكر العلم الحضوري وقال: إن العلم بأنفسنا وصفاتنا النفسانية أيضا حصولي وكذلك علم الواجب تعالى وقيل: علمه تعالى بحصول الصورة في المجردات فإن جعل التعريف للمعنى الأعم الشامل للحضوري والحصولي بأنواعه الأربعة من الإحساس وغيره وبما يكون نفس المدرك وغيره

فالمراد بالعقل الذات المجردة ومطلق المدرك وبالصورة ما يعم الخارجية والذهنية أي ما يتميز به الشيء مطلقا وبالحصول الثبوت والحضور سواء كان بنفسه أو بمثاله وبالمغايرة المستفادة من الظرفية أعم من الذاتية والاعتبارية وبقي معنى عندكما اختاره المحقق الدواني1 ولا يخفى ما فيه من التكلفات البعيدة عن الفهم وإن جعل التعريف للحصولي كان التعريف على ظاهره. والمراد بالعقل قوة للنفس تدرك الغائبات بنفسها والمحسوسات بالوسائط. وبصورة الشيء ما يكون آلة لامتيازه سواء كان نفس ماهية الشيء أو شبحا له والظرفية على الحقيقة. اعلم أن القائلين بأن العلم هو الصورة فرقتان: فرقة تدعي وتزعم أن الصور العقلية مثل وأشباح للأمور المعلومة بها مخافة لها بالماهية. وعلى قول هؤلاء لا يكون للأشياء وجود ذهني بحسب الحقيقة بل بحسب المجاز. كأن يقال مثلا النار موجودة في الذهن ويراد به يوجد فيه شبح له نسبة مخصوصة إلى ماهية النار بسببها كان ذلك الشبح علما بالنار لا بغيرها من الماهيات ويكون العلم من مقولة الكيف ويصير العلم والمعلوم متغايرين ذاتا واعتبارا. وفرقة تدعي أن تلك الصورة مساوية في الماهية للأمور المعلومة بها بل الصور هي ماهيات المعلومات من حيث إنها حاصلة في النفس فيكون العلم والمعلوم متحدين بالذات مختلفين بالاعتبار. وعلى قول هؤلاء يكون للأشياء وجودان خارجي وذهني بحسب الحقيقة والتعريف الثاني للعلم مبني على هذا المذهب. وعلى هذا قال الشيخ: الإدراك الحقيقة المتمثلة عند المدرك. الثاني: إلى أن العلم الحادث إما تصور أو تصديق. والعلم القديم: لا يكون تصورا ولا تصديقا. الثالث: إلى أن الأشياء المدركة أي المعلومة تنقسم إلى ما لا يكون خارجا عن ذات المدرك أي العالم وإلى ما يكون. أما في الأول: فالحقيقة الحاصلة عند المدرك هي نفس حقيقتها. وأما في الثاني: فهي تكون غير الحقيقة الموجودة في الخارج بل هي إما صورة منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج كما في العلم الانفعالي أو صورة حصلت عند المدرك ابتداء سواء كانت الخارجية مستفادة منها كما في العلم الفعلي أو لم تكن. وعلى التقديرين فإدراك الحقيقة الخارجية بحصول تلك الصورة الذهنية عند المدرك والاحتياج إلى الانتزاع إنما هو في المدرك المادي لا غير كذا في شرح الإشارات وفي شرح الطوالع: الشيء المدرك إما نفس المدرك أو غيره. وغيره إما خارج عنه أو غير خارج عنه. والخارج عنه إما مادي أو غير مادي. فهذه أربعة أقسام الأول: ما هو نفس المدرك. والثاني: ما هو غيره لكنه غير خارج عنه. والثالث: ما هو خارج عنه لكنه مادي.

_ 1 هو محمد بن أسعد الصديقي الداوني، جلال الدين، قاض، باحث يعد من الفلاسفة، سكن شيراز وولي قضاء فارس وتوفي بها سنة 918هـ = 1512م.

والرابع: ما هو خارج عنه لكنه غير مادي. والأولان منها إدراكهما بحصول نفس الحقيقة عند المدرك فيكون إدراكهما حضوريا والأول بدون الحلول والثاني بالحلول والآخران لا يكون إدراكهما بحصول نفس الحقيقة الخارجية بل بحصول مثال الحقيقة سواء كان الإدراك مستفادا من الخارجية أو الخارجية مستفادة من الإدراك. والثالث إدراكه بحصول صورة منتزعة عن المادة مجردة عنها. والرابع لم يفتقر إلى الانتزاع. الرابع: إلى واجب أي ممتنع الانفكاك عن العالم كعلمه بذاته وممكن كسائر العلوم. الخامس: إلى فعلي ويسمى كليا قبل الكثرة وهو ما يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج كما نتصور السرير مثلا ثم نوجده. وانفعالي ويسمى كليا بعد الكثرة وهو ما يكون مسببا عن وجود العالم بأن يكون مستفادا من الوجود الخارجي كما نجد أمرا في الخارج كالسماء والأرض ثم نتصوره فالفعلي ثابت قبل الكثرة والانفعالي بعدها. فالعلم الفعلي كلي يتفرع عليه الكثرة وهي الأفراد الخارجية. والعلم الانفعالي كلي يتفرع على الكثرة. وقد يقال إن لنا كليا مع الكثرة لكنه من قبيل العلم ومبني على وجود الطبائع الكلية في ضمن الجزئيات الخارجية. قال الحكماء: علم الله سبحانه بمصنوعاته فعلي لأنه السبب لوجود الممكنات في الخارج لكن كون علمه تعالى سببا لوجودها لا يتوقف على الآلات بخلاف علمنا بأفعالنا ولذلك يتخلف صدور معلومنا عن علمنا. وقالوا: إن علمه تعالى بأحوال الممكنات على أبلغ النظام وأحسن الوجوه بالقياس إلى الكل من حيث هو كل هو الذي استند عليه وجودها على هذا الوجه دون سائر الوجوه الممكنة وهذا العلم يسمى عندهم بالعناية الأزلية. وأما علمه تعالى بذاته فليس فعليا ولا انفعاليا أيضا بل هو عين ذاته بالذات وإن كان مغايرا له بالاعتبار. السادس: إلى ما يعلم بالفعل وهو ظاهر وما يعلم بالقوة كما إذا في يد زيد اثنان فسئلنا أزوج هو أم فرد؟ قلنا: نعلم إن كل اثنين زوج وهذا اثنان فنعلم أنه زوج علما بالقوة القريبة من الفعل وإن لم نكن نعلم أنه بعينه زوج. وكذلك جميع الجزئيات المندرجة تحت الكليات فإنها معلومة بالقوة قبل أن يتنبه للاندراج. فالنتيجة حاصلة في كبرى القياس هكذا قال بعض المتكلمين. السابع: إلى تفصيلي وإجمالي والتفصيلي كمن ينظر إلى أجزاء المعلوم ومراتبه بحسب أجزائه بأن يلاحظها واحدا بعد واحد والإجمالي كمن يعلم مسألة فيسأل عنها فإنه يحضر الجواب الذي هو تلك المسألة بأسرها في ذهنه دفعة واحدة وهو أي ذلك الشخص المسئول متصور للجواب لأنه عالم بأنه قادر عليه ثم يأخذ في تقرير الجواب فيلاحظ تفصيله ففي ذهنه أمر بسيط هو مبدأ التفاصيل والتفرقة بين الحالة الحاصلة دفعة عقيب السؤال وبين حالة الجهل الثابتة قبل السؤال وملاحظة التفصيل ضرورية وحدانية إذ في حالة الجهل المسماة عقلا بالفعل ليس إدراك الجواب حاصلا بالفعل بل النفس في تلك الحالة تقوى على استحضاره بلا تجشم كسب جديد فهناك قوة محضة وفي الحالة الحاصلة عقيب السؤال قد حصل بالفعل شعور وعلم ما بالجواب لم يكن حاصلا قبله. وفي الحالة التفصيلية صارت الأجزاء

ملحوظة قصدا. ولم يكن حاصلا في شيء من الحالتين السابقتين وشبه ذلك بمن يرى نعما كثيرة تارة دفعة فإنه يرى في هذه الحالة جميع أجزائه ضرورة وتارة بأن يحدق البصر نحو واحد فيفصل أجزاءه. فالرؤية الأولى إجمالية الثانية تفصيلية وأنكر الإمام الرازي العلم الإجمالي والعلم الإجمالي على تقدير جواز ثبوته في نفسه هل يثبت لله تعالى أو لا؟ جوزه القاضي1 والمعتزلة ومنعه كثير من أصحابنا وأبو الهاشم2. والحق أنه إن اشترط في الإجمالي الجهل بالتفصيل امتنع عليه تعالى وإلا فلا. الثامن: إلى التعقل والتوهم والتخيل والإحساس. التاسع: إلى الضروري والنظري. وعلم الله تعالى عند المتكلمين لا يوصف بضرورة ولا كسب فهو واسطة بينهما. وأما المنطقيين فداخل في الضروري والفرق بين العلم بالوجه وبين العلم بالشيء من وجه أن معنى الأول حصول الوجه عند العقل. ومعنى الثاني أن لاشيء حاصل عند العقل لكن لا حصولا تاما فإن التصور قابل للقوة والضعف كما إذا تراءى لك شبح من بعيد فتصورته تصورا ما ثم يزداد انكشافا عندك بحسب تقاربك إليه إلى أن يحصل في عقلك كمال حقيقته ولو كان العلم بالوجه هو العلم بالشيء من ذلك الوجه ما على ظنه من لا تحقيق له لزم أن يكون جميع الأشياء معلومة لنا مع عدم توجه عقولنا إليها وذلك ظاهر الاستحالة. كذا في شرح المطالع في بحث الموضوع. وقال عبد الحكيم3 في حاشية شرح المواقف في المقصد الرابع من مقاصد العلم في الموقف الأول: إنهم اختلفوا في علم الشيء بوجه وعلم وجه الشيء فقال من لا تحقيق له: إنه لا تغاير بينهما أصلا وقال المتقدمون بالتغاير بالذات إذ في الأول الحاصل في الذهن نفس الوجه وهو آلة لملاحظة الشيء والشيء معلوم بالذات. وفي الثاني الحاصل في الذهن صورة الوجه وهو المعلوم بالذات من غير التفات إلى الشيء ذي الوجه. وقال المتقدمون بالتغاير بالاعتبار: إذ لا شك في أنه لا يمكن أن يشاهد بالضاحك أمر سواه. إلا أنه إذا اعتبر صدقه على أمر واتحاده معه كما في موضوع القضية المحصورة كان علم الشيء بالوجه. وإذا اعتبر مع قطع النظر عن ذلك كان علم الوجه كما في موضوع القضية الطبيعية انتهى. وأثبت أبو هاشم علما لا معلوم له كالعلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء والمعلوم شيء. وهذا أمر اصطلاحي محض لا فائدة فيه والله أعلم.

_ 1 هوا القاضي عبد الجبار. 2 الجبائي، سبق التعريف به ص25. 3 هو السيالكوتي، عبد الحكيم بن شمس الدين الهندي السيالكوتي البنجابي الهندي، له تآليف في العقائد والمنطق والبلاغة: توفي سنة 1066هـ = 1656م.

الفصل الرابع: في العلم المدون وموضوعه ومباديه ومسائله وغايته

الفصل الرابع: في العلم المدون وموضوعه ومباديه ومسائله وغايته اعلم أن لفظ العلم كما يطلق على ما يرادفه وهو أسماء العلوم المدونة كالنحو والفقه فيطلق كأسماء

العلوم تارة على المسائل المخصوصة كما يقال: فلان يعلم النحو. وتارة على التصديقات بتلك المسائل عن دليلها. وتارة على الملكة الحاصلة من تكرر تلك التصديقات أي ملكة استحضارها وقد يطلق الملكة على التهيؤ التام وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد. والتحقيق أن المعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم. وله تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء وهو الملكة. فإطلاق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور. وقد يطلق على مجموع المسائل والمبادئ التصورية والمبادئ التصديقية والموضوعات ومن ذلك يقولون: أجزاء العلوم ثلاثة. وقد تطلق أسماء العلوم على مفهوم كلي إجمالي يفصل في تعريفه فإن فصل نفسه كان حدا اسميا وإن بين لازمه كان رسما اسميا. وأما حده الحقيقي فإنما هو بتصور مسائله أو بتصور التصديقات المتعلقة بها فإن حقيقة كل علم مسائل ذلك العلم أو التصديقات بها وأما المبادئ وآنية الموضوعات فإنما عدت جزءا منها لشدة احتياجها إليها وفي تحقيق ما ذكرنا بيانات ثلاثة: البيان الأول: في بحث الموضوع اعلم أن السعادة الإنسانية لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء وأحوالها بقدر الطاقة البشرية وكانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة تصدى الأوائل لضبطها وتسهيل تعليمها فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد أو بأشياء متناسبة ودونوها على حدة وعدوها علما واحدا وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه فموضوع العلم ما تنحل إليه موضوعات مسائله وهو المراد بقولهم في تعريفه بما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. فصار كل طائفة من الأحوال بسبب تشاركها في الموضوع علما منفردا ممتازا بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها وهو تمايز اعتبروه مع جواز الامتياز شيء آخر كالغاية والمحمول. وسلكت الأواخر أيضا هذه الطريقة الثانية في علومهم وذلك أمر استحسنوه في التعليم والتعلم. وإلا فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم والتدوين ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا يفرد بالتدوين وإن تشاركت من وجه آخر ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى فعلم أن حقيقة كل علم مدون المسائل المتشاركة في موضعها واحد وأن لكل علم موضوعا وغاية. وكل علم له جهة وحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة وتعد باعتبارها علما واحدا. إلا أن الأولى جهة وحدة ذاتية والثانية جهة وحدة عرضية. ولذلك تعرف العلوم تارة باعتبار الموضوع فيقال في تعريف المنطق مثلا: علم يبحث فيه عن أحوال المعلومات وتارة باعتبار الغاية فيقال في تعريفه: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر ثم إن الأحوال المتعلقة بشيء موحد أو أشياء مناسبة تناسبا معتدا به إما في أمر ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي المتشاركة في مطلق المقدار الذي هو ذاتي لها كعلم الهندسة أو في أمر عرضي كالكتاب والسنة والإجماع والقياس المتشاركة في كونها موصلة إلى الأحكام الشرعية كعلم أصول الفقه فنكون تلك الأحوال من الأعراض الذاتية التي تلحق الماهية من حيث هي لا بواسطة أمر أجنبي وأما التي جميع مباحث العلم راجعة إليها فهي إما راجعة إلى نفس الأمر الذي هو الواسطة كما يقال في الحساب: العدد إما زوج أو فرد أو إلى جزئي تحته كقولنا: الثلاثة فرد وكقولنا في الطبيعي: الصورة تفسد وتخلف به لا عنه،

أو إلى عرض ذاتي له كقولنا: المفرد إما أول أو مركب وأما العرض الغريب وهو ما يلحق الماهية بواسطة أمر عجيب إما خارج عنها أعم منها أو أخص فالعلوم لا تبحث عنه فلا ينظر المهندس في أن الخط المستدير أحسن أو المستقيم ولا في أن الدائرة نظير الخط المستقيم أو ضده لأن الحسن والتضاد غريب عن موضوع علمه وهو المقدار فإنهما يلحقان المقدار لا لأنه مقدار بل لوصف أعم منه كوجوده أو كعدم وجوده وكذا الطبيب لا ينظر في أن الجرح مستدير أم غير مستدير لأن الاستدارة لا تلحق الجسم من حيث هو جريح بل لأمر أعم منه كما مر وإذا قال الطبيب هذه الجراحة مستديرة والدوائر أوسع الأشكال فيكون بطيء البرء لم يكن ما ذكره من علمه. ثم اعلم أن موضوع علم يجوز أن يكون موضوع علم آخر وأن يكون أخص منه أو أعم وأن يكون مباينا عنه لكن يندرجان تحت أمر ثالث وأن يكون مباينا له غير مندرجين تحت ثالث لكن يشتركان بوجه دون وجه ويجوز أن يكونا متباينين مطلقا فهذه ستة أقسام: الأول: أن يكون موضوع علم عين موضوع علم آخر فيشترط أن يكون كل منهما مقيدا بقيد غير قيد الآخر وذلك كأجرام العالم فإنها من حيث الشكل موضوع الهيئة ومن حيث الطبيعة موضوع لعلم السماء والعالم من الطبيعي فافترقا بالحيثيتين ثم إن اتفق أبحاث بعض المسائل فيها بالموضوع والمحمول فلا بأس إذ يختلف بالبراهين كقولهم بأن الأرض مستديرة وهي وسط السماء في الصور والمعاني لكن البرهان عليهما من حيث الهيئة غير البرهان من جهة الطبيعي. الثاني والثالث: أن يكون موضوع علم أخص من علم آخر أو أعم منه فالعموم والخصوص بينهما إما على وجه التحقيق بأن يكون العموم والخصوص بأمر ذاتي له مثل كون العام جنسا للخاص أو بأمر عرضي. فالأول كالمقدار والجسم التعليمي فإن الجسم التعليمي أخص والمقدار جنس له وهو موضوع الهندسة والجسم التعليمي موضوع المجسمات وكموضوع الطب وهو بدن الإنسان فإنه نوع من موضوع العلم الطبيعي وهو الجسم المطلق والثاني كالموجود والمقدار فإن الموجود موضوع العلم الإلهي والمقدار موضوع الهندسة وهو أخص من الموجود لا لأنه جنسه بل لكونه عرضا عاما له. الرابع: أن يكون الموضعان متباينينلكن يندرجان تحت أمر ثالث كموضوع الهندسة والحساب فإنهما داخلان تحت الكم فيسميان متساويين. الخامس: أن يكونا مشتركين بوجه دون وجه مثل موضوعي الطب والأخلاق فإن لموضوعيهما اشتراكا في القوى الإنسانية. السادس: أن يكون بينهما تباين كموضوع الحساب والطب فليس بين العدد وبدن الإنسان اشتراك ولا مساواة. تنبيه: اعلم أن الموضوع في علم لا يطلب بالبرهان لأن المطلوب في كل علم هي الأعراض الذاتية الموضوعة والشيء لا يكون عرضيا ذاتيا لنفسه بل يكون إما بينا بنفسه أو مبرهنا عليه في علم آخر فوقه بحيث يكون موضوع هذا العلم عرضا ذاتيا لموضوعه إلى أن ينتهي إلى العلم الأعلى الذي موضوعه الموجود لكن يجب تصور الموضوع في ذلك العلم والتصديق بهيئته بوجه ما. فكون علم فوق علم أو تحته مرجعه إلى ما ذكرنا فافهم.

البيان الثاني: في المبادئ: وهي المعلومات المستعملة في العلوم لبناء مطالبها المكتسبة عليها. وهي إما تصورية بحدود موضوعه وحدود أجزائه وجزئياته ومحمولاته إذ لا بد من تصور هذه الأمور بالحد المشهور. وإما تصديقية وهي القضايا المتألفة عنها قياساتها وهي على قسمين: الأول: أن تكون بينة بنفسها وتسمى المتعارفة. وهي إما مبادئ لكل علم كقولنا: النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان أو لبعض العلوم كقول إقليدس: إذا أخذ من المتساويين قدران متساويان بقي الباقيان متساويين. الثاني: أن تكون غير بينة بنفسها لكن يجب تسليمها ومن شأنها أن تبين في علم آخر وهي مسائل بالنسبة إلى ذلك العلم الآخر والتسليم إن كان على سبيل حسن الظن بالعلم تسمى أصولا موضوعة كقول الفقيه: هذا حرام بالإجماع. فكون الإجماع حجة من الأمور المسلمة في الفقه لأنها من مسائل الأصول. وإن كان على استنكار تسمى مصادرات كقوله: هذا الحكم ثبت بالاستحسان. فتسليم كونه حجة عند القوم من المصادرات. ويجوز أن تكون المقدمة الواحدة عند شخص من المصادرات وعند آخر من الأصول الموضوعة وقد تسمى الحدود والمقدمات المسلمة أوضاعا وكل واحد منهما يكون مسائل في علم آخر فوقه إلى الأعلى لكن يجوز أن يكون بعض مسائل العلم السافل موضوعا وأصولا للعلم العالي بشرط أن لا تكون مبينة في العلم السافل بالأصول التي بنيت على تلك المسائل بل مقدمات بينة بنفسها أو بغيرها من الأصول وإلا يلزم الدور وأيضا لا يجوز أن يثبت شيء من المقدمات الغير البينة من الأصول الموضوعة والمصادرات بالدليل إن توقف عليها جميع مقاصد العلوم للدور وإن توقف عليها بعض مقاصدها فيمكن بيانها في ذلك العلم والأول: يسمى المبادئ العامة كون النظر مفيدا للعين. والثاني: المبادئ الخاصة كإبطال الحسن والقبح العقليين. البيان الثالث: في مسائل العلوم وهي القضايا التي تطلب في كل علم نسبة محمولاتها بالدليل إلى موضوعاتها وكل علم مدون المسائل المتشاركة في موضوع واحد كما مر فتكون المسائل موضوع العلم أعني هيئته البسيطة وهي إنيتها وموضوع المسألة قد يكون بنفسه موضوعا لذلك العلم كقول النحوي: كل كلام مركب من اسمين أو كقول النحوي: كل كلام مركب من اسمين أو اسم وفعل فإن الكلام هو موضوع النحو أيضا وقد يكون موضوع المسألة موضوع ذلك العلم مع عرض ذاتي له كقولنا في الهندسة: المقدار المباين لشيء مباين لكل مقدار يشاركه. فالموضوع في المسألة المقدار المباين والمباين عرض ذاتي له. وقد يكون موضوع المسألة نوع موضوع العلم كقولنا في الصرف: الاسم إما ثلاثي وإما زائد على الثلاثي. فإن موضوع العلم الكلمة والاسم نوعها وقد يكون موضوع المسألة نوع موضوع مع عرض ذاتي له كقولنا في الهندسة: كل خط مستقيم وقع على مستقيم فالزاويتان الحادثتان إما قائمتان أو معادلتان لهما. فالخط نوع للمقدار والمستقيم عرض ذاتي له وقد يكون موضوع المسألة عرضا ذاتيا لموضوع العلم،

كقولنا في الهندسة: كل مثلث زواياه مساوية لقائمتين. فالمثلث من الأعراض الذاتية للمقدار. خاتمة الفصل: في غاية العلوم اعلم أنه إذا ترتب على فعل أثر فذلك الأثر من حيث إنه نتيجة لذلك الفعل وثمرته يسمى فائدة ومن حيث إنه على طرف الفعل ونهايته يسمى غاية. ففائدة الفعل وغايته متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار ثم ذلك الأثر المسمى بهذين الأمرين إن كان سببا لإقدام الفاعل على ذلك الفعل يسمى بالقياس إلى الفاعل غرضا ومقصودا ويسمى بالقياس إلى فعله علة غائية. والغرض والعلة الغائية متحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار. وإن لم يكن سببا للإقدام كان فائدة وغاية فقط فالغاية أعم من العلة الغائية كذا أفاده العلامة الشريف1 فظهر أن غاية العلم ما يطلب ذلك العلم لأجله. ثم إن غاية العلو الغير الآلية حصولها أنفسها لأنها في حد ذاتها مقصودة بذواتها وإن أمكن أن يترتب عليها منافع أخر والتغاير الاعتباري كاف فيه. فاللازم من كون الشيء غاية لنفسه أن يكون وجوده الذهني علة لوجوده الخارجي ولا محذور فيه وأما غاية العلوم الآلية فهو حصول غيرها لأنها متعلقة بكيفية العمل فالمقصود منها حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو لأمر آخر يكون غاية أخيرة لتلك العلوم.

_ 1 الجرجاني سبقت ترجمته في ص 23.

الفصل الخامس: في بيان تقسم العلوم المدونة وما يتعلق بها

الفصل الخامس: في بيان تقسم العلوم المدونة وما يتعلق بها العلوم المدونة وهي التي دونت في الكتب كعلم الصرف والنحو والمنطق والحكمة ونحوها اعلم أن العلماء اختلفوا فقيل: لا يشترط في كون الشخص عالما بعلم أن يعلمه بالدليل. وقيل: يشترط ذلك حتى لو علمه بلا أخذ دليل يسمى حاكيا لا عالما وإليه يشير كلام المحقق عبد الحكيم1 في حاشية الفوائد الضيائية حيث قال: من قال: العلم عبارة عن العلم بالمسائل المبرهنة جعل العلم بالمسائل المجردة حكاية لمسائل العلوم. ومن: قال إنه عبارة عن المسائل جعله علما انتهى. وبالنظر إلى المذهب الأول ذكر المحقق المذكور في حواشي الخيالي من أن العلم قد يطلق على التصديق بالمسائل وقد يطلق على نفس المسائل وقد يطلق على الملكة الحاصلة منها. وأيضا مما يقال: كتبت علم فلان أو سمعته أو يحصر في ثمانية أبواب مثلا هو المعنى الثاني ويمكن حمله على المعنى الأول أيضا بلا بعد لأن تدوين العلوم بعد تدوين العلم عرفا. وأما تدوين الملكة فمما يأباه الذوق السليم انتهى. وما يقال: فلان يعلم النحو مثلا لا يراد به أن جميع مسائله حاضرة في ذهنه بل يراد به أن له حالة بسيطة إجمالية هي مبدأ لتفاصيل مسائله بها يتمكن من استحضارها. فالمراد بالعلم المتعلق بالنحو ههنا هو الملكة وإن كان النحو عبارة عن المسائل هكذا يستفاد من المطول وحواشيه.

_ 1 السيالكوتي مرت ترجمته ص38.

وبالنظر إلى المذهب الثاني قال صاحب الأطول1 في تعريف علم المعاني: أسماء العلوم المدونة نحو علم المعاني تطلق على إدراك القواعد عن دليل حتى لو أدركها أحد تقليدا لا يقال له عالم بل حاك ذكره السيد السند2 في شرح المفتاح وقد تطلق على معلوماتها التي هي القواعد لكن إذا علمت عن دليل وإن أطلقوا وعلى الملكة الحاصلة من إدراك القواعد مرة بعد أخرى أعني ملكة استحضارها متى أريد. لكن إذا كانت ملكة إدراك عن دليل وإن أطلقوا كما يقتضيه تخصيص الاسم بالإدراك عن دليل كما لا يخفى. وكذلك لفظ العلم يطلق على المعاني الثلاثة لكن حقق السيد السند أنه في الإدراك حقيقة وفي الملكة التي هي تابعة للإدراك في الحصول ووسيلة إليه في البقاء وفي متعلق الإدراك الذي هو المسائل إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور وفي كونه حقيقة الإدراك نظر لأن المراد به الإدراك عن دليل لا الإدراك مطلقا حتى يكون حقيقة انتهى. وقال أبو القاسم3 في حاشية المطول: إن جعل أسماء العلوم المدونة مطلقة على الأصول والقواعد وإدراكها والملكة الحاصلة على سواء وكذا لفظ العلم صح. ثم إنهم ذكروا أن المناسب أن يراد بالملكة ههنا كيفية للنفس بها يتمكن من معرفة جميع المسائل يستحضر بها ما كان معلوما مخزونا منها ويستحصل ما كان مجهولا لا ملكة الاستحضار فقط المسماة بالعقل بالفعل إذ الظاهر أن من تمكن من معرفة جميع مسائل علم بأن يكون عنده ما يكفيه في تحصيلها يعد عالما بذلك العلم من غير اشتراط العلم بجميعها فضلا عن صيرورتها مخزونة. ولا ملكة الاستحصال فقط المسماة بالعقل بالملكة لأنه يلزم أن يعد عالما من له تلك الملكة مع عدم حصول شيء من المسائل. فالمراد بالملكة أعم من ملكة الاستحضار والاستحصال. قال في الأطول: المراد ملكة الاستحضار لا الملكة المطلقة وعدم حصول العلم المدون لأحد وهو يتزايد يوما فيوما ليس بممتنع ولا بمستبعد فإن استحالة معرفة الجميع لا ينافي كون العلم سببا لها. وتسمية البعض فقيها أو نحويا أو حكيما كناية عن علو شأنه في ذلك العلم بحيث كأنه حصل له الكل وبالجملة: فملكة الاستحصال ليست علما وإنما الكلام في أن ملكة استحضار أكثر المسائل مع ملكة استحصال الباقي هل هو العلم أم لا؟ فمن أراد أن يكون إطلاق الفقيه على الأئمة حقيقة مع عجزهم عن جواب بعض الفتاوى التزم ذلك وأما على ما سلكنا من أن الإطلاق مجازي فلا يلزم. ثم اعلم أن العلم وإن كان معنى واحدا وحقيقة واحدة إلا إنه ينقسم إلى أقسام كثيرة من جهات مختلفة. فينقسم من جهة إلى قديم ومحدث ومن جهة متعلقه إلى تصور وتصديق ومن جهة طرقه إلى ثلاثة أقسام: قسم يثبت في النفس وقسم يدرك بالحس وقسم يعلم بالقياس. وينقسم من جهة اختلاف موضوعاته إلى أقسام كثيرة يسمى بعضها علوما وبعضها صنائع. وقد أوردنا ما ذكره أصحاب الموضوعات في حصر أقسامها:

_ 1 هو سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة 792هـ. 2 هو الشريف الجرجاني، سبقت ترجمته ص23. 3 هو أبو القاسم بن أبي بكر الليثي السمرقندي أحد المحشين على مطول السعد التفتازاني.

التقسيم الأول: ما ذكره صاحب1 كشاف اصطلاحات الفنون: اعلم أن ههنا - أي في مقام تقسيم العلوم المدونة التي هي إما المسائل أو التصدق بها - تقسيمات على ما في بعض حواشي شرح المطالع وقال السيد السند: إنها بمعنى ملكة الإدراك تناول العلوم النظرية. الأول: العلوم إما نظرية أي: غير متعلقة بكيفية عمل وإما عملية أي: متعلقة بها فالمنطق والحكمة العملية والطب العملي وعلم الخياطة كلها داخلة في العملي لأنها بأسرها متعلقة بكيفية عمل إما ذهني كالمنطق أو خارجي كالطب مثلا توضيحه أن العملي والنظري يستعملان لمعان: أحدها: في تقسيم العلوم مطلقا كما عرفته. وثانيها: في تقسيم الحكمة فإن العملي هناك علم بما يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا. والنظري علم بما لا يكون وجوده بقدرتنا واختيارنا. وثالثها: ما ذكر في تقسيم الصناعات من أنها عملية أي يتوقف حصولها على ممارسة العمل أو نظرية لا يتوقف حصولها على ممارسة العمل بل يتوقف على النظر فقط. وعلى هذا فعلم الفقه والنحو والمنطق والحكمة العملية والطب العلمي خارجة عن العملي إذ لا حاجة في حصولها إلى مزاولة الأعمال بخلاف علوم الخياطة والحياكة والحجامة لتوقفها على الممارسة والمزاولة. والعملي بالمعنى الأول أعم من العملي المذكور في تقسيم الحكمة لأنه يتناول ما يتعلق بكيفية عمل ذهني كالمنطق ولا يتناوله العملي المذكور في تقسيم الحكمة لأنه هو الباحث عن أحوال ما لاختيارنا مدخل في وجوده مطلقا. أو الخارجي. وموضوع المنطق معقولات ثانية لا يحاذي بها أمر في الخارج ووجودها الذهني لا يكون مقدورا لنا فلا يكون داخلا في العملي بهذا المعنى وأما العملي المذكور في تقسيم الصناعة فهو أخص من العملي بكلا المعنيين لأنه قسم من الصناعة المفسرة بالعلم بالمتعلق بكيفية العمل سواء حصل بمزاولة العمل أو لا. فالعملي بالمعنى الأول نفس الصناعة وبالمعنى الثاني أخص من الأول لكنه أعم من هذا المعنى الثالث لعدم المزاولة ثمة بخلافها هاهنا. الثاني: العلوم إما آلية أو غير آلية لأنها إما أن لا تكون في نفسها آلة لتحصيل شيء آخر بل كانت مقصودة بذواتها أو تكون آلة له غير مقصودة في أنفسها الثانية تسمى آلية والأولى تسمى غير آلية. ثم إنه ليس المراد بكون العلم في نفسه آلة إذ الآلية ذاتية لأن الآلية للشيء تعرض له بالقياس إلى غيره وما هو كذلك وليس ذاتيا بل المراد أنه في حد ذاته بحيث إذا قيس إلى ما هو آلة تعرض له الآلية ولا يحتاج في عروضها له إلى غيره. كما أن الإمكان الذاتي لا يعرض للشيء إلا بالقياس إلى وجوده. والتسمية بالآلية بناء على اشتمالها على الآلة فإن للعلم الآلي مسائل كل منها ما يتوصل له إلى ما هو آلة له وهو الأظهر إذ لا يتوصل لجميع علم إلى علم.

_ 1 هو التهانوي، محمد علي بن علي بن محمد الفاروقي الحنفي التهانوي، باحث هندي توفي بعد سنة 1158هـ = 1745م.

ثم اعلم أن مؤدى التقسيمين واحد إذ التقسيمان متلازمان فإن ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره لا بد أن يكون متعلقا بكيفية تحصيله. فهو متعلق بكيفية عمل وما يتعلق بكيفية عمل لا بد أن يكون في نفسه آلة لتحصيل غيره فقد رجع معنى الآلي إلى معنى العملي. وكذا ما لا يكون آلة له كذلك لم يكن متعلقا بكيفية عمل وما لم يتعلق بكيفية عمل لم يكن في نفسه آلة لغيره فقد رجع معنى النظري وغير الآلي إلى شيء واحد. ثم اعلم أن غاية العلوم الآلية أي العلة الغائية لها حصول غيرها وذلك لأنها متعلقة بكيفية عمل ومبينة لها فالمقصود منها حصول العمل سواء كان ذلك العمل مقصودا بالذات أو مقصودا لأمر آخر يكون هو غاية أخيرة لتلك العلوم وغاية العلوم الغير الآلية حصولها أنفسها وذلك لأنها في حد أنفسها مقصودة بذواتها. وإن أمكن أن يترتب عليها منافع أخرى فإن إمكان الترتيب الاتفاقي بل وقوعه لا ينافي كون المرتب عليه مقصودا بالذات إنما المنافي له قصد الترتب والحاصل أن المراد بالغاية هي الغاية الذاتية التي قصدها المخترع الواضع لا الغاية التي كانت حاملة للشارع على الشروع. فإن الباعث للشارع على الشروع في العلوم الآلية يجوز أن يكون حصولها أنفسها وفي العلوم الغير الآلية يجوز أن يكون زائدا على أنفسها. فإن قيل: غاية الشيء علة له ولا يتصور كون الشيء علة لنفسه فكيف يتصور كون غاية العلوم الغير الآلية حصولها أنفسها؟ قيل: الغاية تستعمل على وجهين أحدهما: أن يكون مضافا إلى الفعل وهو الأكثر يقال: غاية هذا الفعل كذا تكون الغاية مترتبة على نفس ذي الغاية وتكون علة لها. الثاني: أن يكون مضافا إلى المفعول يقال: غاية ما فعل كذا تكون الغاية مترتبة على فعله وعلة له لا لذي الغاية أعني ما أضيف إليه الغاية والغاية فيما نحن فيه من القسم الثاني لأن المضاف إليه للغاية ههنا المفعول وهو المحصل أعني العلوم دون الفعل الذي هو التحصيل. فالمراد بغايتها ما يترتب على تحصيلها ويكون علة له لا لها. هذا كله خلاصة ما في شرح المطالع وحواشيه. الثالث: إلى عربية وغير عربية. الرابع: إلى شرعية وغير شرعية. الخامس: إلى حقيقية وغير حقيقية. السادس: إلى عقلية ونقلية فالعقلية مالا يحتاج فيه إلى النقل والنقلية بخلاف ذلك. السابع: إلى العلوم الجزئية وغير الجزئية فالعلوم التي موضوعاتها أخص من موضوع علم آخر تسمى علوما جزئية كعلم الطب فإن موضوعه وهو الإنسان أخص من موضوع الطبيعي. والتي موضوعاتها أعم تسمى بالعلم الأقدم لأن الأعم أقدم للعقل من الأخص فإن إدراك الأعم قبل إدراك الأخص كذا في بحر الجواهر1.

_ 1 كشاف اصطلاحات الفنون 3-4، وبحر الجواهر: كتاب في الطب باللغة الفارسية لمحمد يوسف الهروي، انظر إيضاح المكنون 1/164.

التقسيم الثاني: للعلامة الحفيد1 وهو إن العلوم المدونة على نوعين: الأول: ما دونه المتشرعة لبيان ألفاظ القرآن أو السنة النبوية لفظا وإسنادا أو لإظهار ما قصد بالقرآن من التفسير والتأويل أو لإثبات ما يستفاد منهما أعني الأحكام الأصلية الاعتقادية أو الأحكام الفرعية العملية أو تعيين ما يتوصل به من الأصول في استنباط تلك الفروع أو ما دون لمدخليته في استخراج تلك المعاني من الكتاب والسنة أعني الفنون الأدبية. النوع الثاني: ما دونه الفلاسفة لتحقيق الأشياء كما هي وكيفية العمل على وفق عقولهم انتهى. وذكر في علوم المتشرعة: علم القراءة وعلم الحديث وعلم أصوله وعلم التفسير وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصوله وعلم الأدب وقال: هذا هو المشهور عند الجمهور ولكن للخواص من الصوفية علم يسمى بعلم التصوف. بقي علم المناظرة علم الخلاف والجدل لم يظهر إدراجهما في علوم المتشرعة ولا في علوم الفلاسفة لا يقال الظاهر أن الخلاف والجدل باب من أبواب المناظرة سمي باسم كالفرائض بالنسبة إلى الفقه لأنا نقول الغرض في المناظرة إظهار الصواب والغرض من الجدل والخلاف الإلزام ثم إن المتشرعة صنفوا في الخلاف وبنوا عليه مسائل الفقه ولم يعلم تدوين الحكماء فيه فالمناسب عدة من الشرعيات والحكماء بنوا مباحثهم على المناظرة لكن لم يدونوا علم المناظرة فيما بينهم انتهى. التقسيم الثالث: ما ذكره في الفوائد الخاقانية: اعلم أن ههنا تقسيمين مشهورين: أحدهما: أن العلوم إما نظرية أي: غير متعلقة بكيفية عمل. وإما عملية أي: متعلقة بها. وثانيهما: أن العلوم إما أن لا تكون في نفسها آلة لتحصيل شيء آخر بل كانت مقصودة بذواتها وتسمى غير آلية. وإما أن تكون آلة له غير مقصودة في نفسها وتسمى آلية ومؤداهما واحد. فأما ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره لا بد أن يكون متعلقا بكيفية عمل وما يتعلق بكيفية عمل لا بد أن يكون في نفسه آلة لتحصيل غيره فقد رجع معنى الآلي إلى معنى العملي. وكذا ما لا يكون آلة له كذلك لم يكن متعلقا بكيفية عمل وما لم يتعلق بكيفية عمل لم يكن في نفسه آلة لغيره فقد رجع معنى النظري وغير الآلي إلى شيء واحد. ثم إن النظري والعملي يستعملان في معان ثلاثة: أحدها: في تقسيم مطلق العلوم كما ذكرنا فالمنطق والحكمة العملية والطب العملي وعلم الخياطة كلها داخلة في العملي المذكور لأنها بأسرها متعلقة بكيفية عمل إما ذهني كالمنطق أو خارجي كالطب مثلا.

_ 1 هو أحمد بن يحيى بن محمد الهروي المعروف بحفيد التفتازاني، عالم، ممن وضع الحواشي على مطول التفتازاني. توفي سنة 916هـ = 1510م.

وثانيها: في تقسيم الحكمة فإنهم بعد ما عرفوا الحكمة بأنه علم بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية قالوا: تلك الأعيان. أما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أولا فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد يسمى حكمة عملية والعلم بأحوال الثاني يسمى حكمة نظرية. وثالثها: ما ذكر في تقسيم الصناعة أي العلم المتعلق بكيفية العمل من أنها إما عملية أي يتوقف حصولها على ممارسة العمل أو نظرية لا يتوقف حصولها عليها. فالفقه والنحو والمنطق والحكمة العملية والطب العلمي خارجة عن العملية بهذا المعنى إذ لا حاجة في حصولها إلى مزاولة الأعمال بخلاف علم الخياطة والحياكة والحجامة لتوقفها على الممارسة والمزاولة. التقسيم الرابع: وهو مذكور فيه أيضا اعلم أن العلم ينقسم إلى حكمي وغير حكمي. والأخير ينقسم إلى ديني وغير ديني. والديني إلى محمود ومذموم ومباح. ووجه الضبط أنه إما أن لا يتغير بتغير الأمكنة والأزمان ولا يتبدل بتبدل الدول والأديان كالعلم بهيئة الأفلاك أولا. فالأول: العلوم الحكمية ويقال لها: العلوم الحقيقية أيضا أي الثابتة على الدهور والأعوام. والثاني: إما أن يكون منتميا إلى الوحي ومستفادا من الأنبياء عليهم السلام من غير أن يتوقف على تجربة وسماع وغيرهما أولا فالأول: العلوم الدينية ويقال لها الشرعية أيضا. والثاني العلوم الغير الدينية كالطب لكونه ضروريا في بقاء الأبدان والحساب لكونه ضروريا في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها فمحمودة وإلا فإن لم يكن له عاقبة حميدة فمذموم كعلم السحر والطلسمات والشعبذة والتلبيسات وإلا فمباح كعلم الأشعار التي لا سخف فيها وكتواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يجري مجراها. وهذا التفاوت بالنسبة إلى الغايات وإلا فالعلم من حيث إنه علم فضيلة لا تنكر ولا تذم. فالعلم بكل شيء أولى من جهله فإياك أن تكون من الجاهلين. التقسيم الخامس: ما ذكره صاحب شفاء المتألم1 وهو: أن كل علم إما أن يكون مقصودا لذاته أولا والأول: العلوم الحكمية وهي إما أن تكون مما يعلم لتعتقد فالحكمة النظرية أو مما يعلم ليعمل بها. فالحكمة العملية. والأول: ينقسم إلى أعلى وهو العلم الإلهي وأدنى وهو الطبيعي وأوسط وهو الرياضي. لأن النظر إما في أمور مجردة عن المادة أو في أمور مادية في الذهن والخارج فهو الطبيعي أو في أمور يصح تجردها عن المواد في الذهن فقط فهو الرياضي وهو أربعة أقسام لأن نظر الرياضي إما أن يكون فيما يمكن أن يفرض فيه أجزاء تتلاقى على حد مشترك بينهما أولا. وكل منهما إما قار الذات أولا. والأول:

_ 1 هو كتاب "شفاء المتألم في آداب المعلم والمتعلم للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن المقدسي المتوفى سنة 856هـ.

الهندسة والثاني: الهيئة والثالث: العدد والرابع: الموسيقات. والحكمة العملية قسمان: علم السياسة وعلم الأخلاق. لأن النظر إما مختص بحال الإنسان أولا. الثاني: هو الأول وأيضا النظر فيه إما في إصلاح كافة الخلق في أمور المعاش والمعاد فذلك يرجع إلى علم الشريعة وعلومها معلومة. وإما من حيث اجتماع الكلمة الاجتماعية وقيام أمر الخلق فهو الأحكام السلطانية أي السياسة فإن اختص بجماعة معينة فهو تدبير المنزل. والثاني: وهو مالا يكون مقصودا لذاته بل آلة يطلب بها العصمة من الخطأ في غيرها. فهو إما ما يطلب العصمة عن الخطأ فيه من المعاني أو ما يتوصل به إلى إدراكها من لفظ أو كتابة. والأول: علم المنطق. والثاني: علم الأدب. وما يبحث فيه عن الدلالات اللسانية أو الدلالات البيانية فالثاني: علم الخط. والأول: يختص بالدلالات الإفرادية أو التركيبية أو يكون مشتركا بينهما. والأول: إن كان البحث فيه عن المفردات فهو علم اللغة. وإن كان البحث فيه عنها من صيغها فعلم الصرف. والثاني: إما أن يختص بالموزون أولا. الأول: إن اختص بمقاطع الأبيات فعلم القافية وإلا فعلم العروض. والثاني: إن كانت العصمة به عن الخطأ في تأدية أصل المعنى فهو النحو وإلا فهو علم البلاغة. والثالث: علم الفصاحة ثم علم البلاغة إن كان ما يطلب به العصمة عن الخطأ في تطبيق الكلام لمقتضى الحال فعلم المعاني. وإن كان في أنواع الدلالة ومعرفة كونها خفية أو جلية فعلم البيان. وأما علم الفصاحة فإن اختص بالعصمة عن الخطأ في تركيب المفردات من حيث التحسين فعلم البديع. التقسيم السادس: ما ذكره صاحب المفتاح1 وهو أحسن من الجميع حيث قال: علم أن للأشياء وجودا في أربع مراتب: في الكتابة والعبارة والأذهان والأعيان. وكل سابق منها وسيلة إلى اللاحق لأن الخط دال على الألفاظ وهذه على ما في الأذهان وهذا على ما في الأعيان. والوجود العيني هو الوجود الحقيقي الأصيل وفي الوجود الذهني خلاف في أنه حقيقي أو مجازي وأما الأولان فمجازيان قطعا ثم العلم المتعلق بالثلاث الأول آلي البتة. وأما العلم المتعلق بالأعيان فإما عملي لا يقصد به حصول نفسه بل غيره أو نظري يقصد به حصول نفسه. ثم إن كلا منهما إما أن يبحث فيه من حيث إنه مأخوذ من الشرع فهو العلم الشرعي أو من حيث إنه مقتضى العقل فقط فهو العلم الحكمي. فهذه هي الأصول السبعة ولكل منها أنواع ولأنواعها فروع يبلغ الكل على ما اجتهدنا في الفحص والتنقير عنه بحسب موضوعاته وأساميه وتتبع ما فيه من المصنفات إلى مائة وخمسين نوعا ولعلي سأزيد بعد هذا انتهى. فرتب كتابه على سبع دوحات لكل أصل دوحة. وجعل لكل دوحة شعبا لبيان الفروع. فما أورده في الأولى: من العلوم الخطية علم أدوات الخط. علم قوانين الكتابة. علم تحسين الحروف. علم كيفية تولد الخطوط عن أصولها. علم ترتيب حروف التهجي. علم تركيب أشكال بسائط الحروف. علم إملاء الخط العربي. علم خط المصحف. علم خط العروض. وذكر في الثانية: العلوم المتعلقة بالألفاظ وهي: علم مخارج الحروف. علم اللغة. علم الوضع. علم

_ 1 هو كتاب مفتاح السعادة ومصباح السيادة لأحمد بن مصطفى الشهير بطاشكبري زاده.

الاشتقاق. علم التصريف. علم النحو. علم المعاني. علم البيان. علم البديع. علم العروض. علم القوافي. علم قرض الشعر. علم مبادئ الشعر. علم الإنشاء. علم مبادئ الإنشاء وأدواته. علم المحاضرة. علم الدواوين. علم التواريخ. وجعل من فروع العلوم العربية: علم الأمثال. علم وقائع الأمم ورسومهم. علم استعمالات الألفاظ. علم الترسل. علم الشروط والسجلات. علم الأحاجي والأغلوطات. علم الألغاز. علم المعمى. علم التصحيف. علم المقلوب. علم الجناس. علم مسامرة الملوك. علم حكايات الصالحين. علم أخبار الأنبياء عليهم السلام. علم المغازي والسير. علم تاريخ الخلفاء. علم طبقات القراء. علم طبقات المفسرين. علم طبقات المحدثين. علم سير الصحابة. علم طبقات الشافعية. علم طبقات الحنفية. علم طبقات المالكية. علم طبقات الحنابلة. علم طبقات النحاة. علم طبقات الأطباء. وذكر في الثالثة: العلوم الباحثة عما في الأذهان من المعقولات الثانية وهي علم المنطق علم آداب الدرس. علم النظر. علم الجدل. علم الخلاف. وذكر في الرابعة: العلوم المتعلقة بالأعيان وهي العلم الإلهي. والعلم الطبيعي. والعلوم الرياضية وهي أربعة: علم العدد. علم الهندسة. علم الهيئة. علم الموسيقى. وجعل من فروع العلم الإلهي علم معرفة النفس الإنسانية. علم معرفة النفس الملكية. علم معرفة المعاد. علم أمارات النبوة. علم مقالات الفرق. وجعل من فروع العلم الطبيعي علم الطب. علم البيطرة. علم البيزرة. علم النبات. علم الحيوان. علم الفلاحة. علم المعادن. علم الجواهر. علم الكون والفساد. علم قوس قزح. علم الفراسة. علم تعبير الرؤيا. علم أحكام النجوم. علم السحر. علم الطلسمات. علم السيميا. علم الكيمياء. وجعل من فروع الطب علم التشريح. علم الكحالة. علم الأطعمة. علم الصيدلة. علم طبخ الأشربة والمعاجين. علم قلع الآثار من الثياب. علم تركيب أنواع المداد. علم الجراحة. علم الفصد. علم الحجامة. علم المقادير والأوزان. علم الباه. وجعل من فروع علم الفراسة علم الشامات والخيلان. علم الأسارير. علم الأكتاف. علم عيافة الأثر. علم قيافة البشر. علم الاهتداء بالبراري والأقفار. علم الريافة. علم الاستنباط. علم نزول الغيث. علم العرافة. علم الاختلاج. وجعل من فروع علم أحكام النجوم. علم الاختيارات. علم الرمل. علم القرعة. علم الطيرة. وجعل من فروع السحر علم الكهانة. علم النيرنجات. علم الخواص. علم الرقى. علم العزائم. علم الاستحضار. علم دعوة الكواكب. علم القلفطيرات. علم الخفاء. علم الحيل الساسانية. علم كشف الدك. علم الشعبذة. علم تعلق القلب. علم الاستعانة بخواص الأدوية. وجعل من فروع الهندسة علم عقود الأبنية. علم المناظرة. علم المرايا المحرقة. علم مراكز الأثقال. علم جر الأثقال. علم المساحة. علم استنباط المياه. علم الآلات الحربية. علم الرمي. علم التعديل.

علم البنكامات. علم الملاحة. علم السباحة. علم الأوزان والموازين. علم الآلات المبنية على ضرورة عدم الخلاء وجعل من فروع الهيئة: علم الزيجات والتقويم. علم حساب النجوم. علم كتابة التقاويم. علم كيفية الأرصاد. علم الآلات الرصدية. علم المواقيت. علم الآلات الظلية. علم الأكر. علم الأكر المتحركة. علم تسطيح الكرة. علم صور الكواكب. علم مقادير العلويات. علم منازل القمر. علم جغرافيا. علم مسالك البلدان. علم البرد ومسافاتها. علم خواص الأقاليم. علم الأدوار والأكوار. علم القرانات. علم الملاحم. علم المواسم. علم مواقيت الصلاة. علم وضع الإسطرلاب. علم عمل الإسطرلاب. علم وضع الربع المجيب والمقنطرات. علم عمل ربع الدائرة. علم آلات الساعة. وجعل من فروع علم العدد: علم حساب التخت والميل. علم الجبر والمقابلة. علم حساب الخطائين. علم حساب الدور والوصايا. علم حساب الدراهم والدنانير. علم حساب الفرائض. علم حساب الهواء. علم حساب العقود بالأصابع. علم أعداد الوفق. علم خواص الأعداد. علم التعابي العددية. وجعل من فروع الموسيقى: علم الآلات العجيبة. علم الرقص. علم الغنج. وذكر في الخامسة: العلوم الحكمية العملية وهي: علم الأخلاق. علم تدبير المنزل. علم السياسة. وجعل من فروع الحكمة العملية: علم آداب الملوك. علم آداب الوزارة. علم الاحتساب. علم قود العساكر والجيوش. وذكر في السادسة: العلوم الشرعية وهي: علم القراءة. علم تفسير القرآن. علم رواية الحديث. علم دراية الحديث. علم أصول الدين المسمى بالكلام. علم أصول الفقه. علم الفقه. وجعل من فروع القراءة: علم الشواذ. علم مخارج الحروف. علم مخارج الألفاظ. علم الوقوف. علم علل القرآن. علم رسم كتابة القرآن. علم آداب كتابة المصحف. وجعل من فروع الحديث: علم شرح الحديث. علم أسباب ورود الحديث وأزمنته. علم ناسخ الحديث ومنسوخه. علم تأويل أقوال النبي عليه الصلاة والسلام. علم رموز الحديث وإشاراته. علم غرائب لغات الحديث. علم دفع الطعن عن الحديث. علم تلفيق الأحاديث. علم أحوال رواة الأحاديث. علم طب النبي عليه الصلاة والسلام. وجعل من فروع علم التفسير: علم المكي والمدني. علم الحضري والسفري. علم النهاري والليلي. علم الصيفي والشتائي. علم الفراشي والنومي. علم الأرضي والسماوي. علم أول ما نزل وآخر ما نزل. علم سبب النزول. علم ما نزل على لسان بعض الصحابة - رضي الله عنهم - علم ما تكرر نزوله. علم ما تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه. علم ما نزل مفرقا وما نزل جمعا. علم ما نزل مشيعا وما نزل مفردا. علم ما أنزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل. علم كيفية إنزال القرآن. علم أسماء القرآن وأسماء سوره. علم جمعه وترتيبه. علم عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه. علم حفاظه ورواته. علم العالي والنازل من أسانيده. علم المتواتر والمشهور. علم بيان الموصول لفظا والمفصول معنى. علم الإمالة والفتح. علم الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب. علم المد والقصر. علم تخفيف الهمزة. علم كيفية

تحمل القرآن. علم آداب تلاوته وتاليه. علم جواز الاقتباس. علم ما وقع فيه. بغير لغة الحجاز. علم ما وقع فيه من غير لغة العرب علم غريب القرآن. علم الوجوه والنظائر. علم معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسر. علم المحكم والمتشابه. علم مقدم القرآن ومؤخره. علم عام القرآن وخاصه. علم ناسخ القرآن ومنسوخة. علم مشكل القرآن. علم مطلق القرآن ومقيده. علم منطوق القرآن ومفهومه. علم وجوه مخاطباته. علم حقيقة ألفاظ القرآن ومجازها علم تشبيه القرآن واستعاراته. علم كنايات القرآن وتعريضاته. علم الحصر والاختصاص. علم الإيجاز والإطناب. علم الخبر والإنشاء. علم بدائع القرآن. علم فواصل الآي. علم خواتم السور. علم مناسبة الآيات والسور. علم الآيات المتشابهات علم إعجاز القرآن. علم العلوم المستنبطة من القرآن. علم أقسام القرآن. علم جدل القرآن. علم ما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب. علم مبهمات القرآن. علم فضائل القرآن. علم أفضل القرآن وفاضله. علم مفردات القرآن. علم خواص القرآن. علم مرسوم الخط وآداب كتابته. علم تفسيره وتأويله وبيان شرفه. علم شروط المفسر وآدابه علم غرائب التفسير. علم طبقات المفسرين. علم خواص الحروف. علم الخواص الروحانية من الأوفاق. علم التصريف بالحروف والأسماء. علم الحروف النورانية والظلمانية. علم التصريف بالاسم الأعظم. علم الكسر والبسط. علم الزايرجة. علم الجفر والجامعة. علم دفع مطاعن القرآن. وجعل من فروع الحديث: علم المواعظ. علم الأدعية. علم الآثار. علم الزهد والورع. علم صلاة الحاجات. علم المغازي. وجعل من فروع أصول الفقه: علم النظر. علم المناظرة. علم الجدل وجعل من فروع الفقه: علم الفرائض. علم الشروط والسجلات. علم القضاء. علم حكم التشريع. علم الفتاوى. فيكون جميع ما ذكره من العلوم المتعلقة بطريق النظر ثلاثمائة وخمسة علوم. ثم إنه جعل الطرف الثاني من كتابه في بيان العلوم المتعلقة بالتصفية التي هي ثمرة العمل بالعلم فلخص فيه كتاب الإحياء1 للإمام الغزالي ولم يذكر علم التصوف. فلله دره في الغوص على بحار العلوم وأبرز دررها. فإن قيل: إنه قصد تكثير أنواع العلوم فأورد في فروعها ما أورد كذكره في فروع علم التفسير ما ذكره السيوطي في الإتقان2 من الأنواع وهلا يرد عليه أنه إن أراد بالفروع المقاصد للعلم فعلم الطب مثلا يصل إلى ألوف من العلوم. وإن أراد ما أفرد بالتدوين فلم يستوعب الأقسام في كثير من المباحث التي أفردت بالتدوين وقد أخل بذكرها على أنه أدخل في فروع علم ما ليس منه قلت: نعم يرد لكن الجواد قد يكبو والفتى قد يصبو أو لا تعد إلا هفوات العارف ويدخل الزيوف على أعلى الصيارف.

_ 1 إحياء علوم الدين، للإمام أبي حامد الغزالي. مشهور. 2 الإتقان في علوم القرآن، لجلال الدين السيوطي.

التقسيم السابع: لصاحب مدينة العلوم1 ويأتي في أول القسم الثاني من هذا الكتاب وما أوفقه بهذا التقسيم كأنه هو قف: ولا يخفى عليك أن التعقب على الكتب سيما الطويلة سهل بالنسبة إلى تأليفها ووضعها وترصيفها كما يشاهد في الأبنية العظيمة والهياكل القديمة حيث يعترض على بانيها من عري في فنه عن القوى والقدر بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر. هذا جوابي عما يرد على كتابي أيضا. وقد كتب أستاذ العلماء البلغاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني إلى العماد الأصفهاني2 معتذرا عن كلام استدركه عليه إنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا وها أنا أخبرك به وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر انتهى. هذا اعتذار قليل المقدار عن جميع الإيرادات والأنظار إجمالا وأما التفصيل فسيأتي في موضع كل علم مع توجيهه بإنصاف وحلم وربما زيد على ما ذكره من العلوم على طريق الاستدراك بتمكين مانح القريحة والذهن الدراك.

_ 1 بازاء هذه العبارة في هامش الأصل حاشية نصها: "كثيراً ما يوجد عبارة مفتاح السعادة المنقوله في كشف الظنون مطابقة بعبارة مدينة العلوم كأنها واحدة بعينها، ولم يعرف إلى الآن أهما كتابان مستقلان أم هما واحد، فمن اطلع على ذلك فليصلح في هذا الكتاب وليعذر مؤلف هذا الكتاب، والله أعلم بالصواب سيد ذو الفقار أحمد. ولعل المؤلف يريد مفتاح السعادة وأثبت اسم كتاب مدينة العلوم سهواً وقد ورد الكلام على التقسيم السادس والتقسيم السابع بنصه في مقدمة كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة عند الكلام على التقسيم الخامس من فضل تقسيم العلوم. 2 القاضي الفاضل، هو عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي، وزير، من أئمة الكتاب، كان وزيراً للسلطان صلاح الدين الأيوبي، توفي سنة 596هـ = 1200م. والعماد هو محمد بن محمد الأصبهاني، مؤرخ، عالم بالأدب، من أكابر الكتاب في عهد صلاح الدين، توفي سنة 597هـ = 1201م.

الفصل السادس: في بيان أجزاء العلوم

الفصل السادس: في بيان أجزاء العلوم قالوا: كل علم من العلوم المدونة لا بد فيه من أمور ثلاثة: الموضوع والمسائل والمبادئ. وهذا القول مبني على المسامحة فإن حقيقة كل علم مسائله وعد الموضوع والمبادئ من الأجزاء إنما هو لشدة اتصالهما بالمسائل التي هي المقصودة في العلم. أما الموضوع فقالوا: موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية وتوضحيه: إن كمال الإنسان بمعرفته أعيان الموجودات من تصوراتها والتصديق بأحوالها على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية ولما كانت معرفتها بخصوصها متعذرة مع عدم إفادتها كمالا معتدا به لتغيرها وتبدلها أخذوا المفهومات الكلية

الصادقة عليها ذاتية كانت أو عرضية وبحثوا عن أحوالها من حيث انطباقها عليها ليفيد علمها بوجه كلي علما باقيا أبد الدهر ولما كان أحوالها متكثرة وضبطها منتشرة مختلطة متعسرا اعتبروا الأحوال الذاتية لمفهوم مفهوم وجعلوها علما منفردا بالتدوين وسموا ذلك المفهوم موضوعا لذلك العلم لأن موضوعات مسائله راجعة إليه فصارت كل طائفة من الأحوال المتشاركة في موضوع علما منفردا ممتازا في نفسه عن طائفة أخرى متشاركة في موضوع آخر فجاءت علومهم متمايزة في أنفسها بموضوعاتها وهذا أمر استحساني إذ لا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم ولا من أن تعد مسائل كثيرة غير متشاركة في موضوع واحد علما واحدا ويفرد بالتدوين فالامتياز الحاصل للطالب بالموضوع إنما هو للمعلومات بالأصالة وللعلوم بالتبع والحاصل بالتعريف. على عكس ذلك إن كان تعريفا للعلم وإن كان تعريفا للمعلوم فالفرق أنه قد لا يلاحظ الموضوع ثم إنهم عمموا الأحوال الذاتية وفسروها بما يكون محمولا على ذلك المفهوم إما لذاته أو لجزئه الأعم أو المساوي فإن له اختصاصا بالشيء من حيث كونه من أحوال مقومه أو للخارج المساوي له سواء كان شاملا لجميع أفراد ذلك المفهوم على الإطلاق أو مع مقابله مقابلة التضاد أو العدم والملكة دون مقابلة السلب والإيجاب إذ المتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا اختصاص لهما بمفهوم دون مفهوم ضبطا للانتشار بقدر الإمكان فأثبتوا الأحوال الشاملة على الإطلاق لنفس الموضوع والشاملة مع مقابلتها لأنواعه واللاحقة للخارج المساوي لعرضه الذاتي. ثم إن تلك الأعراض الذاتية لها عوارض ذاتية شاملة لها على الإطلاق أو على التقابل فأثبتوا العوارض الشاملة على الإطلاق لنفس الأعراض الذاتية والشاملة على التقابل لأنواع تلك الأعراض وكذلك عوارض تلك العوارض وهذه العوارض في الحقيقة قيود للأعراض المثبتة للموضوع ولأنواعه إلا أنها لكثرة مباحثها جعلت محمولات على الأعراض. وهذا تفصيل ما قالوا: معنى البحث عن الأعراض الذاتية أن تثبت تلك الأعراض لنفس الموضوع أو لأنواعه أو لأعراضه الذاتية أو لأنواعها أو لأغراض أنواعها وبهذا يندفع ما قيل: إنه ما من علم إلا ويبحث فيه عن الأحوال المختصة بالمعادن والنباتات والحيوانات وذلك لأن المبحوث عنه في العلم الطبيعي أن الجسم ما ذو طبيعة أو ذو نفس آلي أو غير آلي وهي من عوارضه الذاتية والبحث عن الأحوال المختصة بالعناصر وبالمركبات التامة وغير التامة كلها تفصيل لهذه العوارض وقيود لها. ولاستصعاب هذا الإشكال قيل: المراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضوع العلم كقول صاحب علم أصول الفقه: الكتاب يثبت الحكم قطعا أو على أنواعه كقوله: الأمر يفيد الوجوب. أو على أعراضه الذاتية كقوله: يفيد القطع. أو على أنواع أعراضه الذاتية كقوله: العام الذي خص منه يفيد الظن. وقيل: معنى قولهم يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أنه يرجع البحث فيه إليها بأن يثبت أعراضه الذاتية له أو يثبت لنوعه ما هو عرض ذاتي لذلك النوع أو لعرضه الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك العرض أو يثبت لنوع العرضي الذاتي ما هو عرض ذاتي لذلك النوع. ولا يخفى عليك أنه يلزم دخول العلم الجزئي في العلم الكلي كعلم الكرة المتحركة في علم الكرة وعلم الكرة في العلم الطبيعي لأنه يبحث فيها عن العوارض الذاتية لنوع الكرة أو الجسم الطبيعي أو لعرضه الذاتي أو لنوع عرضه الذاتي.

ثم اعلم أن هذا الذي ذكر من تفسير الأحوال الذاتية إنما هو على رأي المتأخرين الذاهبين إلى أن اللاحق للشيء بواسطة جزئه الأعم من أعراضه الذاتية المبحوث عنها في العلم فإنهم ذكروا أن العرض هو المحمول على الشيء الخارج عنه وأن العرض الذاتي هو الخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته بأن يكون منتهاه الذات كلحوق إدراك الأمور الغريبة للإنسان بالقوة أو يلحقه بواسطة جزئه الأعم كلحوق التحيز له لكونه جسما أو المساوي كلحوق التكلم له لكونه ناطقا أو يلحقه بواسطة أمر خارج مساو كلحوق التعجب له لإدراكه الأمور المستغربة وأما ما يلحق الشيء بواسطة أمر خارج أخص أو أعم مطلقا أو من وجه أو بواسطة أمر مبائن فلا يسمى عرضا ذاتيا بل عرضا غريبا. والتفصيل أن العوارض ستة لأن ما يعرض الشيء إما أن يكون عروضه لذاته أو لجزئه أو لأمر خارج عنه سواء كان مساويا له أو أعم منه أو أخص أو مبائنا فالثلاثة الأول تسمى أعراضا ذاتية لاستنادها إلى ذات المعروض أي لنسبتها إلى الذات نسبة قوية وهي كونها لاحقة بلا واسطة أو بواسطة لها خصوصية بالتقديم أو بالمساواة والبواقي تسمى أعراضا غريبة لعدم انتسابها إلى الذات نسبة قوية. وأما المتقدمون فقد ذهبوا إلى أن اللاحق بواسطة الجزء الأعم من الأعراض الغريبة التي لا يبحث عنها في ذلك العلم وعرفوا العرض الذاتي بالخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته أو لما يساويه سواء كان جزءا لها أو خارجا عنها قيل: هذا هو الأولى إذ الأعراض اللاحقة بواسطة الجزء الأعم تعم الموضوع وغيره فلا تكون آثارا مطلوبة له لأنها هي الأعراض المعينة المخصوصة التي تعرضه بسبب استعداده المختص ثم في عد العارض بواسطة المباين مطلقا من الأعراض الغريبة نظرا إذ قد يبحث في العام الذي موضوعه الجسم الطبيعي عن الألوان مع كونها عارضة له بواسطة مبانيه وهو السطح وتحقيقه أن المقصود في كل علم مدون بيان أحوال موضوعه أعني أحواله التي توجد فيه ولا توجد في غيره ولا يكون وجودها فيه بتوسط نوع مندرج تحته فإن ما يوجد في غيره لا يكون من أحواله حقيقة بل هو من أحوال ما هو أعم منه والذي يوجد فيه فقط لكنه لا يستعد لعروضه ما لم يصر نوعا مخصوصا من أنواعه كان من أحوال ذلك النوع حقيقة. فحق هاتين الحالين أن يبحث عنهما في علمين موضوعهما ذلك الأعم والأخص وهذا أمر استحساني كما لا يخفى. ثم الأحوال الثابتة للموضوع على الوجه المذكور على قسمين: أحدهما: ما هو عارض له وليس عارضا لغيره إلا بتوسطه وهو العرض الأولي وثانيهما: ما هو عارض لشيء آخر وله تعلق بذلك الموضوع بحيث يقتضي عروضه له بتوسط ذلك الآخر الذي يجب أن لا يوجد في غير الموضوع سواء كان داخلا فيه أو خارجا عنه إما مساويا له في الصدق أو مباينا له فيه ومساويا في الوجود فالصواب أن يكتفي في الخارج بمطلق المساواة سواء كانت في الصدق أو في الوجود فإن المباين إذا قام بالموضوع مساويا له في الوجود ووجد له عارض قد عرض له حقيقة لكنه يوصف به الموضوع كان ذلك العارض من الأحوال المطلوبة في ذلك العلم لكونها ثابتة للموضوع على الوجه المذكور. واعلم أيضا أن المطلوب في العلم بيان إنية تلك الأحوال أي: ثبوتها للموضوع سواء علم لميتها أي علة ثبوتها له أو لا.

واعلم أيضا أن المعتبر في العرض الأولي هو انتفاع الواسطة في العروض دون الواسطة في الثبوت التي هي أعم. يشهد بذلك أنهم صرحوا بأن السطح من الأعراض الأولية للجسم التعليمي مع أن ثبوته بواسطة انتهائه وانقطاعه وكذلك الخط للسطح والنقطة للخط وصرحوا بأن الألوان ثابتة للسطوح أولا وبالذات مع أن هذه الأعراض قد فاضت على محالها من المبدأ الفياض. وعلى هذا فالمعتبر فيما يقابل العرض الأولي أعني سائر الأقسام ثبوت الواسطة في العروض. وإن شئت الزيادة على ما ذكرنا فارجع إلى شرح المطالع وحواشيه وغيرها من كتب المنطق فائدة قالوا: يجوز أن تكون الأشياء الكثيرة موضوعا لعلم واحد لكن لا مطلقا بل بشرط تناسبها بأن تكون مشتركة في ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي للهندسة فإنها تشارك في جنسها وهو المقدار أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغير ذلك إذا جعلت موضوعات للطب فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية القصوى في ذلك العلم. فائدة: قالوا: الشيء الواحد لا يكون موضوعا للعلمين. وقال صدر الشريعة1: هذا غير ممتنع فإن الشيء الواحد له أعراض متنوعة ففي كل علم يبحث عن بعض. منها ألا ترى أنهم جعلوا أجسام العالم وهي البسائط موضوع علم الهيئة من حيث الشكل وموضوع علم السماء والعالم من حيث الطبيعة وفيه نظر. أما أولا: فلأنهم لما حاولوا معرفة أحوال أعيان الموجودات وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وبحثوا عما أحاطوا به من أعراضها الذاتية فحصلت لهم مسائل كثيرة متحدة في كونها بحثا عن أحوال ذلك الموضوع. وإن اختلفت محمولاتها فجعلوها بهذا الاعتبار علما واحدا يفرد بالتدوين والتسمية. وجوزوا لكل أحد أن يضيف إليه ما يطلع عليه من أحوال ذلك الموضوع. فإن المعتبر في العلم هو البحث عن جميع ما تحيط به الطاقة الإنسانية من الأعراض الذاتية للموضوع. فلا معنى للعلم الواحد إلا أن يوضع بشيء أو أشياء متناسبة فيبحث عن جميع عوارضه ولا معنى لتمايز العلوم. إلا أن هذا ينظر في أحوال شيء وذلك في أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار بأن يؤخذ في أحد العلمين مطلقا وفي الآخر مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر. وتلك الأحوال مجهولة مطلوبة والموضوع معلوم بين الموجود وهو الصالح سببا للتمايز. وأما ثانيا: فلأنه ما من علم إلا ويشتمل موضوعه على أعراض ذاتية متنوعة فلكل أحد أن يجعله علوما متعددة بهذا الاعتبار مثلا يجعل البحث عن فعل المكلف من حيث الوجوب علما ومن حيث الحرمة علما آخر إلى غير ذلك. فيكون الفقه علوما متعددة موضوعها فعل المكلف فلا ينضبط الاتحاد والاختلاف. فائدة: قال صدر الشريعة: قد تذكر الحيثية في الموضوع. وله معنيان. أحدهما: أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال: الموجود من حيث إنه موجود أي: من هذه

_ 1 هو عبيد الله بن مسعود بن محمود بن أحمد المحبوبي البخاري الحنفي، من علماء الحكمة والطبيعيات وأصول الفقة والدين، له مؤلفات كثيرة في ذلك، توفي سنة 747هـ = 1346م.

الجهة. وبهذا الاعتبار موضوع العلم الإلهي فيبحث فيه عن الأحوال التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما. ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية أي حيثية الوجود لأن الموضوع ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية لا ما يبحث عنه وعن أجزائه. وثانيهما: أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها فإنه يمكن أن يكون للشيء عوارض ذاتية متنوعة وإنما يبحث في علم من نوع منها فالحيثية بيان لذلك النوع فيجوز أن يبحث عنها فقولهم: موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض. وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلا يراد به المعنى. الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد الأول لم يبحث عنها قيل: ولقائل أن يقول: لا نسلم أنها في الأول جزء من الموضوع بل قيد لموضوعيته بمعنى أن البحث يكون عن الأعراض التي تلحقه من تلك الحيثية. وبذلك الاعتبار وعلى هذا لو جعلنا في القسم الثاني أيضا قيدا للموضوع لا بيانا للأعراض الذاتية على ما هو ظاهر كلام القوم لم يكن البحث عنها في العلم بحثا عن أجزاء الموضوع ولم يلزم للقوم ما لزم لصدر الشريعة - رحمه الله - من تشارك العلمين في موضوع واحد بالذات والاعتبار وأما الإشكال بلزوم عدم كون الحيثية من الأعراض المبحوث عنها في العلم ضرورة أنها ليست مما يعرض للموضوع من جهة نفسها وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه مثلا: ليست الصحة والمرض مما يعرض لبدن الإنسان من حيث يصح ويمرض فالمشهور في جوابه: أن المراد من حيث إمكان الصحة والمرض وهذا ليس من الأعراض المبحوث عنها والتحقيق أن الموضوع لما كان عبارة عن المبحوث عنه في العلم عن أعراضه الذاتية قيد بالحيثية على معنى أن البحث عن العوارض إنما يكون باعتبار الحيثية وبالنظر إليها أي: يلاحظ في جميع المباحث هذا المعنى الكلي لا على معنى أن جميع العوارض المبحوث عنها يكون لحقوها للموضوع بواسطة هذه الحيثية البتة. وتحقيق هذه المباحث يطلب من التوضيح والتلويح1. وأما المسائل فهي القضايا التي يطلب بيانها في العلوم وهي في الأغلب نظريات وقد تكون ضرورية فتورد في العلم إما لاحتياجها إلى تنبيه يزيل عنها خفاءها أو لبيان لميتها لأن القضية قد تكون بديهية دون لميتها ككون النار محرقة فإنه معلوم الإنية أي: الوجود مجهول اللمية كذا في شرح المواقف وبعض حواشي تهذيب المنطق وقال المحقق التفتازاني - رحمه الله -: المسألة لا تكون إلا نظرية وهذا مما لا اختلاف فيه لأحد وما قيل من احتمال كونها غير كسبية فهو ظاهر. ثم للمسائل موضوعات ومحمولات أما موضوعها فقد يكون موضوع العلم كقولنا: كل مقدار إما مشارك للآخر أو مبائن والمقدار موضوع علم الهيئة وقد يكون موضوع العلم مع عرض ذاتي كقولنا: كل مقدار وسط في النسبة فهو ضلع ما يحيط به الطرفان فقد أخذ في المسألة المقدار مع كونه وسطا في النسبة وهو عرض ذاتي. وقد يكون نوع موضوع العلم كقولنا: كل خط يمكن تصنيفه فإن الخط نوع من

_ 1 كتابان في شرح كتاب تنقيح الأصول لصدر الشريعة، وقد وضع الأول التوضيح صدر الشريعة مؤلف التنقيح، والثاني التلويح وضعه السعد التفتازاني المتوفى سنة 792هـ حاشية على توضيح صدر الشريعة.

المقدار وقد يكون نوعا مع عرض ذاتي كقولنا: كل خط قام على خط فإن زاويتي جنبتيه قائمتان أو مساويتان لهما فالخط نوع من المقدار وقد أخذ في المسألة مع قيامه على خط وهو عرض ذاتي. وقد يكون عرضا ذاتيا كقولنا: كل مثلث فإن زواياه مثل القائمتين فالمثلث عرض ذاتي للمقدار وقد يكون نوع عرض ذاتي كقولنا: كل مثلث متساوي الساقين فإن زاويتي قاعدته متساويتان. وبالجملة: فموضوعات المسائل هي موضوعات العلم أو أجزاؤها أو أعراضها الذاتية أو جزئياتها. وأما محمولاتها فالأعراض الذاتية لموضوع العلم فلا بد أن تكون خارجة عن موضوعاتها لامتناع أن يكون جزء الشيء مطلوبا بالبرهان لأن الأجزاء بينه الثبوت للشيء. كذا في شرح الشمسية1. اعلم: أن من عادة المصنفين أن يذكروا عقيب الأبواب ما شذ منها من المسائل فتصير مسائل من أبواب متفرقة فترجم تارة بمسائل منشورة وتارة بمسائل شتى كذا في فتح القدير2 وأكثر ما يوجد ذلك في كتب الفقه وأما المبادئ فهي التي تتوقف عليها مسائل العلم أي تتوقف على نوعها مسائل العلم أي التصديق بها إذ لا توقف للمسألة على دليل مخصوص. وهي إما تصورات أو تصديقات. أما التصورات: فهي حدود الموضوعات أي: ما يصدق عليه موضوع العلم لا مفهوم الموضوع كالجسم الطبيعي وحدود أجزائها كالهيولي والصورة وحدود جزئياتها كالجسم البسيط وحدود أعراضها الذاتية كالحركة للجسم الطبيعي. وخلاصته تصور الأطراف على وجه هو مناط للحكم. وأما التصديقات: فهي مقدمات إما بينة بنفسها وتسمى علوما متعارفة كقولنا في علم الهندسة: المقادير المتساوية لشيء واحد متساوية. وإما غير بينة بنفسها سواء كانت مبينة هناك أو في محل آخر أو في علم آخر يتوقف عليها الأدلة المستعملة في ذلك العلم سواء كانت قياسات أو غيرها من الاستقراء والتمثيل وحصرها في المبينة فيه والمبينة في علم آخر وفي أجزاء القياسات كما توهم محل نظر ثم الغير البينة بنفسها إما مسلمة فيه أي في ذلك العلم على سبيل حسن الظن وتسمى أصولا موضوعة كقولنا في علم الهندسة: لنا أن نصل بين كل نقطتين بخط مستقيم أو مسلمة في الوقت أي: وقت الاستدلال مع استنكار وتشكك إلى أن تستبين في موضعها وتسمى مصادرات لأنه تصدر بها المسائل التي تتوقف عليها كقولنا فيه: لنا أن نرسم على كل نقطة وبكل بعد دائرة. ونوقش في المثال بأنه لا فرق بينه وبين قولنا: لنا أن نصل الخ في قبول المتعلم بهما بحسن الظن وأورد مثال المصادرة قول إقليدس: إذا وقع خط على خطين وكانت الزاويتان الداخلتان أقل من قائمتين فإن الخطين إذا أخرجا بتلك الجهة التقيا. لكن لا استبعاد في ذلك إذ المقدمة الواحدة قد تكون أصلا موضوعا عند شخص مصادرة عند شخص آخر. ثم الحدود والأصول الموضوعة والمصادرات يجب أن يصدر بها العلم وأما العلوم المتعارفة فعن

_ 1 الشمسية: متن مختصر في المنطق لنجم الدين عمر بن علي القزويني المعروف بالكتابي المتوفى سنة 693هـ وعليه شروح وحواش كثيرة. ولعله يريد بالشرح شرح السعد التفتازاني. 2 هو كتاب فتح القدير للعاجز الفقير وضعه محمد بن عبد الواحد السيوطي المعروف بابن الهمام المتوفى سنة 861هـ شرحا على كتاب الهداية في فروع الفقه الحنفي للمرغيناني المتوفى سنة 593هـ.

تصدير العلم بها غنية لظهورها وربما تخصص العلوم المتعارفة بالصناعة إن كانت عامة وتصدر بها في جملة المقدمات كما فعل إقليدس في كتابه. واعلم أن التصدير قد يكون بالنسبة إلى العلم نفسه بأن يقدم عليه جميع ما يحتاج إليه وقد يكون بالنسبة إلى جزئه المحتاج لكن الأول أولى. هذا وقد تطلق المبادئ عندهم على المعنى الأعم وهو ما يبدأ به قبل الشروع في مقاصد العلم كما يذكر في أوائل الكتب قبل الشروع في العلم لارتباطه به في الجملة سواء كان خارجا من العلم بأن يكون من المقدمات وهي ما يكون خارجا يتوقف عليه الشروع فيه ولو على وجه البصيرة أو على وجه كمال البصيرة ووفور الرغبة في تحصيله بحيث لا يكون عبثا عرفا أو في نظره كمعرفة العلم برسمه المفيد لزيادة البصيرة ومعرفة غايته أو لم يكن خارجا عنه بل داخلا فيه بان يكون من المبادئ أعم من المقدمات أيضا فإن المقدمات خارجة عن العلم لا محالة بخلاف المبادئ والمبادئ بهذا المعنى قد تعد أيضا من أجزاء العلم تغليبا. وإن شئت تحقيق هذا فارجع إلى شرح مختصر الأصول1 وحواشيه. ومنهم من فسر المقدمة بما يعين في تحصيل الفن فتكون المقدمات أعم كذا قيل: يعني: تكون المقدمات بهذا المعنى أعم من المبادي بالمعنى الأول لا من المبادي بالمعنى الثاني وإن اقتضاه ظاهر العبارة إذ بينها وبين المبادئ بالمعنى الثاني هو المساواة إذ ما يستعان به في تحصيل الفن يصدق عليه أنه مما يتوقف عليه الفن إما مطلقا أو على وجه البصيرة أو على وجه كمال البصيرة وبالجملة: فالمعتبر في المبادئ التوقف مطلقا قال السيد السند: مبادئ العلم ما يتوقف عليه ذات للمقصود فيه أعني: التصورات التي يبتنى عليها إثبات مسائله وهي قد تعد جزءا منه. وأما إذا أطلقت على ما يتوقف عليه المقصود ذاتا أو تصورا أو شروعا فليست بتمامها من أجزائه فإن تصور الشيء ومعرفة غايته خارجان عنه ولا من جزئيات ما يتضمنه حقيقة لدخوله في العلم قطعا انتهى.

_ 1 مختصر الأصول: هو كتاب اختصر فيه مؤلفه جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ كتابة المسمى منتهي السول والأمل في علمي الأصول والجدل والمختصر هذا هو المتداول المشهور وعليه شروح كثيرة.

الفصل السابع: في بيان الرؤوس الثمانية

الفصل السابع: في بيان الرؤوس الثمانية قالوا: الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض في صدره لأشياء قبل الشروع في المقصود يسميها قدماء الحكماء: الرؤوس الثمانية. أحدها: الغرض من تدوين العلم أو تحصيله أي: الفائدة المترتبة عليه لئلا يكون تحصيله عبثا في نظره. وثانيها: المنفعة وهي ما يتشوقه الكل طبعا وهي الفائدة المعتدة بها ليتحمل المشقة في تحصيله ولا

يعرض له فتور في طلبه فيكون عبثا عرفا. هكذا في تكلمة الحاشية الجلالية. وفي شرح التهذيب وشرح إشراق الحكمة: إن المراد بالغرض هو العلة الغائية فإن ما يترتب على فعل يسمى فائدة ومنفعة وغاية فإن كان باعثا للفاعل على صدور ذلك الفعل منه يسمى غرضا وعلة غائية وذكرا لمنفعة إنما يجب إن وجدت لهذا العلم منفعة ومصلحة سوى الغرض الباعث وإلا فلا. وبالجملة فالمنفعة قد تكون بعينها الغرض الباعث. وثالثها: السمة وهي: عنوان الكتاب ليكون عند الناظر إجمال ما يفصله الغرض. كذا في شرح إشراق الحكمة وفي تكملة الحاشية الجلالية: السمة هي عنوان العلم وكأن المراد منه تعريف العلم برسمه أو بيان خاصة من خواصه ليحصل للطالب علم إجمالي بمسائله ويكون له بصيرة في طلبه. وفي شرح التهذيب: السمة العلامة وكأن المقصود الإشارة إلى وجه تسمية العلم وفي ذكر وجه التسمية إشارة إجمالية إلى ما يفصل العلم من المقاصد. ورابعها: المؤلف وهو: مصنف الكتاب ليركن قلب المتعلم إليه في قبول كلامه والاعتماد عليه لاختلاف ذلك باختلاف المصنفين. وأما المحققون فيعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال ولنعم ما قيل: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال. ومن شرط المصنفين أن يحترزوا عن الزيادة على ما يجب والنقصان عما يجب وعن استعمال الألفاظ الغريبة المشتركة وعن رداءة الوضع وهي تقديم ما يجب تأخيره وتأخير ما يجب تقديمه. وخامسها: أنه من أي علم هو؟ أي من اليقينيات أو الظنيات من النظريات أو العمليات من الشرعيات أو غيرها ليطلب المتعلم ما تليق به المسائل المطلوبة. وسادسها: أنه أية مرتبة هو؟ أي بيان مرتبته فيما بين العلوم إما باعتبار عموم موضوعه أو خصوصه أو باعتبار توقفه على علم آخر أو عدم توقفه عليه أو باعتبار الأهمية أو الشرف ليقدم تحصيله على ما يجب أو يستحسن تقديمه عليه ويؤخر تحصيله عما يجب أو يستحسن تأخيره عنه. وسابعها: القسمة وهي بيان أجزاء العلم وأبوابه ليطلب المتعلم في كل باب منها ما يتعلق به ولا يضيع وقته في تحصيل مطالب لا تتعلق به كما يقال: أبواب المنطق تسعة كذا وكذا. وهذا قسمة العلم وقسمة الكتاب كما يقال: كتابنا هذا مرتب على مقدمة بابين وخاتمة. وهذا الثاني كثير شائع لا يخلو عنه كتاب وثامنها: الأنحاء التعليمية وهي: أنحاء مستحسنة في طرق التعليم. أحدها: التقسيم وهو: التكثير من فوق إلى أسفل أي من أعم إلى ما هو أخص كتقسيم الجنس إلى الأنواع والنوع إلى الأصناف والصنف إلى الأشخاص وثانيها: التحليل وهو: عكسه أي التكثير من أسفل إلى فوق أي من أخص إلى ما هو أعم كتحليل زيد إلى الإنسان والحيوان وتحليل الإنسان إلى الحيوان والجسم. هكذا في تكملة الحاشية الجلالية وشرح إشراق الحكمة وفي شرح التهذيب كان المراد من التقسيم ما يسمى بتركيب القياس وذلك بأن يقال: إذا أردت تحصيل مطلب من المطالب التصديقية فضع طرفي المطلوب واطلب جميع موضوعات كل واحد منهما وجميع محمولات كل واحد منهما سواء كان حمل الطرفين عليها أو حملها على الطرفين بواسطة أو بغير واسطة. وكذلك اطلب جميع ما سلب عنه

الطرفان أو سلب هو عن الطرفين ثم انظر إلى نسبة الطرفين إلى الموضوعات والمحمولات فإن وجدت من محمولات موضوع المطلوب ما هو موضوع المحمول فقد حصل المطلوب من الشكل الأول أو ما هو محمول على محموله فمن الشكل الثاني أو من موضوعات موضوعه ما هو موضوع لمحموله فمن الشكل الثالث أو محمول لمحموله فمن الرابع. كل ذلك بحسب تعدد اعتبار الشرائط بحسب الكيفية والكمية والجهة. كذا في شرح المطالع. فمعنى قولهم: وهو التكثير من فوق أي من النتيجة لأنها المقصود الأقصى بالنسبة إلى الدليل. وأما التحليل فقد قيل في شرح المطالع كثيرا ما تورد في العلوم قياسات منتجة للمطالب لا على الهيئات المنطقية اعتمادا على الفطن العارف بالقواعد. فإن أردت أن تعرف أنه على أي شكل من الأشكال فعليك بالتحليل وهو عكس التركيب فحصل المطلوب. فانظر إلى القياس المنتج له فإن كان فيه مقدمة يشاركها المطلوب بكلا جزئيه فالقياس استثنائي. وإن كانت مشاركة للمطلوب بأحد جزئيه فالقياس اقتراني ثم انظر إلى طرفي المطلوب فتتميز عندك الصغرى عن الكبرى فإن ذلك الجزء إن كان محكوما عليه في النتيجة فهي الصغرى أو محكوما به فهي الكبرى. ثم ضم الجزء الآخر من المطلوب إلى الجزء الآخر من تلك المقدمة فإن تألفا على أحد التأليفات الأربع فما انضم إلى جزئي المطلوب هو الحد الأوسط وتتميز لك المقدمات والأشكال وإن لم يتألفا كان القياس مركبا فاعمل بكل واحد منهما العمل المذكور أي ضع الجزء الآخر من المطلوب والجزء الآخر من المقدمة كما وضعت طرفي المطلوب أولا أي في التقسيم فلا بد أن يكون لكل منهما نسبة إلى شيء ما في القياس وإلا لم يكن القياس منتجا للمطلوب فإن وجدت حدا مشتركا بينهما فقد تم القياس وإلا فكذا تفعل مرة بعد أخرى إلى أن ينتهي إلى القياس المنتج للمطلوب بالذات وتتبين لك المقدمات والشكل والنتيجة. فقولهم: التكثير من أسفل إلى فوق أي إلى النتيجة. انتهى وثالثها: التحديد أي فعل الحد أي إيراد حد الشيء وهو ما يدل على الشيء دلالة مفصلة بما به قوامه بخلاف الرسم فإنه يدل عليه دلالة مجملة كذا في شرح إشراق الحكمة وفي شرح التهذيب كان المراد بالحد المعرف مطلقا وذلك بأن يقال: إذا أردت تعريف شيء فلا بد أن تضع ذلك الشيء وتطلب جميع ما هو أعم منه وتحمل عليه بواسطة أو بغيرها وتميز الذاتيات عن العرضيات بأن تعد ما هو بين الثبوت أو ما يلزم من مجرد ارتفاعه ارتفاع نفس الماهية ذاتيا وما ليس كذلك عرضيا. وتطلب جميع ما هو مساو له فيتميز عندك الجنس من العرض العام والفصل من الخاصة. ثم تركب أي قسم شئت من أقسام المعرف بعد اعتبار الشرائط المذكورة في باب المعرف. ورابعها: البرهان أي الطريق إلى الوقوف على الحق أي اليقين إن كان المطلوب نظريا وإلى الوقوف عليه والعمل به إن كان عمليا كأن يقال: إذا أردت الوصول إلى اليقين فلا بد أن تستعمل في الدليل بعد محافظة شرائط صحة الصورة. أما الضروريات الست أو ما يحصل منها بصورة صحيحة وهيئة منتجة وتبالغ في التفحص عن ذلك حتى لا يشتبه بالمشهورات والمسلمات والمشبهات وغيرها بعضها ببعض وعد الأنحاء التعليمية بالمقاصد أشبه فينبغي أن تذكر في المقاصد. ولذ ترى المتأخرين كصاحب

المطالع يعدون ما سوى التحديد من مباحث الحجة ولو أحق القياس. وأما التحديد فشأنه أن يذكر في مباحث المعرف. كذا في شرح التهذيب. واعلم أنهم إنما اقتصروا على هذه الثمانية لعدم وجدانهم شيئا آخر يعين في تحصيل الفن ومن وجد لك فليضمه إليها. وهذا أمر استحساني لا يلزم من تركه فساد على مالا يخفى هكذا في تكملة الحاشية الجلالية. واعلم أنهم قد يذكرون وجه الحاجة إلى العلم ولا شك أنه ههنا بعينه بيان الغرض منه. وقد يذكرون وجه شرف العلم ويقولون: شرف الصناعة إما بشرف موضوعها مثل الصياغة فإنها أشرف من الدباغة. فإن موضوع الصياغة الذهب والفضة وهما أشرف من موضوع الدباغة التي هي الجلد. وإما بشرف غرضها مثل صناعة الطب فإنها أشرف من صناعة الكناسة لأن غرض الطب إفادة الصحة وغرض الكناسة تنظيف المستراح. وإما بشدة الحاجة إليها كالفقه فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب إذ ما من واقعة في الكون إلا وهي مفتقرة إلى الفقه إذ به انتظام صلاح الدنيا والدين. بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات. والمراد بذلك بيان مرتبة العلم على ما يفهم مما سبق ويؤيده ما قال السيد السند في شرح المواقف وأما مرتبة علم الكلام أي شرفه فقد عرفت أن موضوعه أعم الأمور وأعلاها ... الخ.

الفصل الثامن: في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به

الفصل الثامن: في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به وفيه: إعلامات الإعلام الأول: في شرفه وفضله واكتفيت مما ورد فيه من الآيات والأخبار بالقليل لشهرته وقوة الدليل. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} . فانظر كيف ثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفا وفضلا وإجلالا ونبلا. وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وقال: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ} فيه تنبيه على أنه اقتدر عليه بقوة العلم. وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} . بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم. وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . وقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . وقال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} . وقال: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} .

وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} . وقال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} إلى غير ذلك. وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والتزين عند الأخلاء يرفع الله تعالى به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفى آثارهم ويقتدي بفعالهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلي في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام هو إمام والعمل تابعه ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء" أورده ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده وقال: هو حديث حسن جدا وفي إسناده ضعف. وروي أيضا من طرق شتى موقوفا على معاذ. وقد يقال: الموقوف في مثل هذا كالمرفوع فإن مثله لا يقال بالرأي وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" رواه مسلم وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الخير". رواه الترمذي. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" رواه الترمذي وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها

_ 1 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي, من كبار حفاظ الحديث مؤرخ أديب بحاثة, يقال له حافظ المغرب 368-463 هـ = 978-1071 م له كتب كثيرة والعنوان الكامل لكتابه هذا هو "جامع بيان العلم وفضله" مطبوع.

فهو أحق بها". رواه الترمذي وقال: غريب وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث ورواه ابن ماجة. والمراد بالحكمة في هذا الحديث السنة دون الحكمة اليونانية بدليل قوله سبحانه: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وقد سافر أهل الحديث - كثر الله تعالى سوادهم - في طلبها إلى أقطار الأرض وكانوا أحق بها وأهلها حيث وجدوها بعد الفحص الكثير والبحث الشديد في بلاد شاسعة ومدائن بعيدة فجمعوها في دواوين الإسلام وامتثلوا قوله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. فجزاهم الله تعالى عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد". رواه الترمذي وابن ماجة. والمراد بالفقه في هذا الحديث وغيره: فهم الكتاب والسنة دون الفقه المصطلح اليوم وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ". رواه ابن ماجة ورواه البيهقي في شعب الإيمان إلى قوله مسلم وقال: هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف. وقد روي من أوجه كلها ضعيف. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع". رواه الترمذي والدارمي وعن سخبرة الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم كان كفارة لما مضى". رواه الترمذي والدارمي وقال الترمذي: هذا حديث ضعيف الإسناد وأبو داود الراوي يضعف. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة" رواه الترمذي. والمراد بالخير: العلم. وفيه أن زمان الطلب من المهد إلى اللحد وأن عاقبة طلب العلم الجنة. وهذه بشارة وأي بشارة لمن يعلم أو يتعلم. جعلنا الله من أهليه وحشرنا في زمرة ذويه وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" - يعني ريحها - رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وإذا كان هذا القضاء في حق طالب العلم المحمود فما ظنك بطالب العلم المذموم من علوم اليونان وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلا وعن الحسن مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة". رواه الدارمي. اللهم إنك تعلم بطلبي العلم من بدء الشعور إلى هذه الغاية وسأطلبه إن شاء الله تعالى إلى آخر العمر والنهاية. وما مرادي به إلا إحياء السنة المطهرة وإماتة البدعة وهداية المتعلمين ونصيحة المسلمين وإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين. وأنا سمي خليفة رسولك أبي بكر الصديق رضي الله عنه والدرجة الصديقية

تلو الدرجة النبوية فصدقني في هذا الرجاء وأوصلني إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين. وقد أحببت رسولك وأصحابه وأئمة السلف وأهل الحق من الخلف الذين قالوا بقول رسولك ولم يشركوا ولم يبدعوا فاحشرني معهم واجعلني في جوارهم في دار النعيم والمرء مع من أحب وإن لم يعمل عمله ولم يجهد جهده في الطاعة. اللهم آمين وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل الفقيه في الدين - أي العالم بالكتاب والسنة - إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه". رواه رزين. وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم فأدركه كان له كفلان من الأجر فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر" رواه الدارمي. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة وفضل في علم خير من فضل في عبادة وملاك الدين الورع". رواه البيهقي في شعب الإيمان وعن ابن عباس قال: "تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائه". رواه الدارمي وفي حديث ابن عمرو مرفوعا: "إنما بعثت معلما". رواه الدارمي وعن الأعمش مرفوعا: "آفة العلم النسيان". رواه الدارمي مرسلا والأخبار والآثار في شرف العلم وفضل العالم والمعلم والمتعلم وطالب العلم كثيرة جدا لا يسعها هذا المقام. وقد ألف الحافظ الإمام الحجة هادي الناس إلى المحجة محمد بن أبي بكر القيم1 كتابه مفتاح دار السعادة في مجلدين في فضائل العلم وما يليها وهو كتاب نفيس عزيز المقاصد من الله تعالى به علي وأحسن إلي. والمراد بالعلم في الأحاديث المذكورة علم الدين والشرع المبين وهو علم الكتاب العزيز والسنة المطهرة لا ثالث لهما. وليس المراد به العلوم المستحدثة في العالم قديمه وجديده التي اعتنى الناس بها في هذه الأزمان وخاضوا فيها خوضا منعهم عن النظر في علوم الإيمان وأشغلهم عن الاشتغال بمراد الله تعالى ورسوله سيد الإنس والجان حتى صار علم القرآن مهجورا وعلم الحديث مغمورا وظهرت صنائع أقوام الكفر والإلحاد وسميت بالعلوم والفنون والكمال المستجاد وهي كل يوم في ازدياد فإنا لله وإنا إليه راجعون هذا وقد تكفل كتاباي الحطة بذكر الصحاح الستة والجنة في الأسوة الحسنة بالسنة ببيان فضيلة علم السنة فإن شئت الزيادة على هذا المقدار فارجع إليهما يزيدانك بصيرة كاملة في هذا الباب والله أعلم بالصواب. وقال الشافعي: من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن قال الأحنف: كل عز ولم يؤيد بعلم فإلى ذل مصيره.

_ 1 هو المشهور بابن قيم الجوزية واسمه: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، شمس الدين، من أركان الإصلاح الإسلامي وأحد كبار العلماء، مولده ووفاته بدمشق. له مؤلفات كثيرة جداً 691-751هـ = 1292-1350م.

ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت فيه فمنه ما هو بحسب الموضوع كالطب فإن موضوعه بدن الإنسان. والتفسير فإن موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى ولا خفاء في شرفهما. ومنه ما هو بسحب الغاية كعلم الأخلاق فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية ومنه ما هو بحسب الحاجة إليه كالفقه فإن الحاجة إليه ماسة ومنه ما هو بحسب وثاقه الحجة كالعلوم الرياضية فإنها برهانية. ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه العبارات فيه أو أكثرها كالعلم الإلهي فإن موضوعه شريف وغايته فاضلة والحاجة إليه ماسة. وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر باعتبار ثمرته أو وثاقة دلائله أو غايته. ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة فأشرف العلوم ثمرة العلم بالله سبحانه وتعالى وملائكته ورسله وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية. الإعلام الثاني: في كون العلم ألذ الأشياء وأنفعها وفيه: تعليمات الأول: في لذته اعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره والعلم حائز الشرفين جميعا لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته لذيذ لغيره فيطلب لأجله أما الأول: فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء. بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية. ولهذا كان الإمام الثاني محمد بن الحسن الشيباني1 يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: أين أبناء الملوك من هذه اللذة سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت ومن لذته التابعة لعزته أنه لا يقبل العزل والنصب مع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء. ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنون أن يكون عزهم كعز أهل العلم إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله. وأما اللذائذ الحاصلة لغيره: أما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية والسعادة الأبدية ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل أيضا إلا بالعلم بكيفية العمل. فأصل سعادة الدارين هو العلم فهو إذا أفضل الأعمال. وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب وأراذل العجم يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها

_ 1 هو محمد بن الحسن بن فرقد من موالي بني شيبان، إمام بالفقه والأصول وهو الذي نشر علم أبي حنيفة ولذا نعت بالإمام الثاني، أصله من قرية حرسته في غوطة دمشق وولد بواسط ونشأ بالكوفة، ولي القضاء للرشيد في الرقة، مات في الري. له مؤلفات كثيرة 131-189هـ = 748-804م.

لشعورها بتمييز الإنسان بكل مجاوز لدرجتها حتى إنها تنزجر بزجره وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان. التعليم الثاني: في نفعه: اعلم: أن السعادة منحصرة في قسمين: جلب المنافع ودفع المضار وكل منهما دنيوي وديني فالأقسام أربعة: الأول: هو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية وهو خفي وخلقي أشار إلى نفعه الأول قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: "فإن تعلمه لله خشية ... " إلى آخره ... وإلى نفعه الثاني قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة". الثاني: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية وهو وجداني وذوقي وجاهي رتبي والوجداني: إما راحة أو استيلاء والراحة إما من مشقة وجود ظاهر للنفس أو من فقد سار لها بالأنس. وكل منهما إما خارجي وإما ذاتي. فالراحة أربعة أقسام: وقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو الأنيس في الوحشة" إشارة إلى الأول لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب" وقوله: "والصاحب في الغربة" إشارة إلى الثاني فانه يقر من الغريب عينه ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها لفقد سرور الأهل والوطن. وقوله: "والمحدث في الخلوة" إشارة إلى الثالث لأن العلم يريح المنفرد عن الناس بتحديثه من انقباض الفهم وخموده وهو ألم ذاتي لأهل الكمال وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة وقوله: الدليل على السراء والضراء أي في الماضي والآتي إشارة إلى الرابع الذي هو فقد سار ذاتي أي أن العلوم تقوم مقام الرأي السديد إذا استبشر إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها وعلى الضراء وموجباتها فالحيرة وجهل عواقب الأمور مؤلم للنفس لفقد نور البصيرة فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان. والاستيلاء قسمان: أحدهما: استيلاء يمحق الشر ويدفع الضر وإليه أشار قوله: والسلاح على الأعداء فبالعلم يزهق الباطل وتندفع الشبهة والجهالة. قيل: لبعض المناظرين فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر إيضاحا وشبهة تتضاءل افتضاحا. وثانيهما: استيلاء يجلب الخير ويذهب الضر وإليه أشار قوله: والزين عند الأخلاء أي أن العلم جمال وحسن وكمال يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل: العلم زين وكنز لا نفاد له ... نعم القرين إذا ما عاقلا صحب القسم الثاني: ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة وهي إما عند الله سبحانه وتعالى وإما عند الملأ الأعلى وإما عند الملأ الأسفل. الأول: أشار إليه قوله: يرفع الله سبحانه وتعالى به أقواما أي يعلي مقامهم ورتبتهم فيجعلهم في الخير قادة وأئمة أي شرفاء الناس وسادتهم والقادة جمع قائد وهو الذي يجذب إلى الخير إما مع الإلزام كالقاضي والوالي اللذين إلزامهما على الظاهر وكالخطيب والواعظ اللذين إلزامهما على

الباطن وكالأئمة الذين بعلمهم يهتدي وبحالهم يقتدي. والثاني: أشار إليه قوله: ترغب الملائكة في خلتهم أي لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم ما استولى على غيوب بواطنهم فرغبوا في محبتهم وأنسوا بملازمتهم وما استولى على ظواهرهم فيتبركون بمسحهم. والثالث: أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "يستغفر لهم كل رطب ويابس" فشمل الناطق والنافس. قيل: سبب استغفار هؤلاء رجوع أحكامهم إليه في صدهم وقتلهم وحلهم وحرمتهم. القسم الثالث: ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضا نوعان: الأول: جلب المصالح والمقاصد ودفع المعائب والمفاسد وإليه. أشار قوله صلى الله عليه وسلم: "به توصل الأرحام" أي بالعلم توصل الأرحام بين الأنام وتدفع مضرة القطيعة وحقدهم وحسدهم ومحاربتهم. والثاني: مضرة اجتلاب المفساد برفض القانون الشرعي العاصم. من كل ضلال وإليه أشار قوله صلى الله عليه وسلم: "وبه يعرف الحلال والحرام" أي بالعلم يتبين أحدهما من الآخر وهو أساس جميع الخيرات فتأمل في بيان منافع العلم وكيفية جوامع الكلم وأكثر الصلاة على صاحبه عليه الصلاة والسلام. الإعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموما اعلم: أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع. لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه. فمن الوجوه المغلطة أن يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب أنه يبرئ من جميع الأمراض وليس كذلك فإن منها مالا يبرأ بالمعالجة. ومنها: أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق وليس كذلك فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا ومنها: أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علما للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما إنما جاء شبيها بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببا لارتفاعه ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها. ومنها: أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما اتفق في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصار مهانا لما تعاطاه اليهود فلم يشرفوا به بل زال العلم بهم. وما أحسن قول أفلاطون: إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد. ومن هذا القبيل الحال في علم أحكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به للملوك ونحوهم فرذل حتى

صار لا يتعطاها غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه. ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال بتمويهه عرضا كما اتفق في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات. والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده. ومنها: ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه كما قيل: المرء عدو لما جهله. أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب التهافت وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشباه فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن رآه كان المناسب أن ينقل. وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن قبيل سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع. ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه على زعمهم فإنه لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين به قال الغزالي في الإحياء: إن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة الأول: أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له. الثاني: أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم. الثالث: الخوض في علم لا يستقل الخائض فيه فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية إلى آخر ما قال وأطال في بيان هذه الأسباب الثلاثة فإن شئت الزيادة فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما. الإعلام الرابع: في مراتب العلوم من التعليم ولا يخفى أن يقدم الأهم فالأهم فيه والوسيلة مقدمة على المقصد كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني. ويقدم الأدب على المنطق ثم هما على أصول الفقه. ثم هو على الخلاف والتحقيق أن تقديم العلم على العلم لثلاثة أمور: إما لكونه أهم منه كتقديم فرض العين على فرض الكفاية وهو على المندوب إليه وهو على المباح. وإما لكونه وسيلة إليه كما سبق فيقدم النحو على المنطق. وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر والجزء مقدم على الكل فيقدم الصرف على النحو وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها بل لفرض التمرين على إدراك المعقولات كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب. وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو

على الصرف ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس. ثم إنه تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه بحسب خلو الأعصاب والأمصار من العلماء فرب مصر لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان ويوجد فيه عشرون فقيها فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه. واعلم أن الواجب علمه هو فرض عين وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه وما أوجبه على المجموع ليعملوا به لو قام به واحد لسقط عن الباقين ويسمى فرض كفاية والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه وإزالة الشبهة ومعرفة الأوقات والفرائض والأحكام الفرعية وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان. وكالمنطق وتسيير الكواكب ومعرفة الأنساب والحساب إلى غير ذلك من العوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد. وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها في هذا الباب كتاب أدب الطلب لشيخنا العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - أبان فيه طريق العلم والتدرج فيه وهو كتاب لم يؤلف قبله مثله وإنه نفيس جداً. الإعلام الخامس: في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية 1 في طرقه اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي يبتني عليه ما يحصل بعد من الملكات وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبتني عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات فأما أهل المغرب: فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلس: فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان

_ 1 انظر هذا الفصل في مقدمة ابن الخلدون صفحة 1359-1363 تحقيق علي عبد الواحد وافي، الطبعة الثانية 1968م.

رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم وأما أهل إفريقية: فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة. ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي1 في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس: قال لأن الشعر ديوان

_ 1 هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، ابن العربي، قاض من حفاظ الحديث ولد في إشبيليه ورحل إلى الشرق، بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وبرع في الأدب. له مصنفات كثيرة في الحديث والفقة والأصول والأدب والتاريخ، هو غير محيي الدين ابن العربي: 468-543هـ = 1076-1148م.

العرب. ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة ثم قال: ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه قال: ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجوده الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه1. وهو أحكم الحاكمين. الإعلام السادس: في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم 2 وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس عاد في أسفل السافلين وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور: التخابث والكيد وسببه ما قلناه فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين: لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا ومن كلام عمر رضي الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلما

_ 1 آخر كلام ابن خلدون في صفحة 1363. 2 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1363-1364.

بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته. ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة1 والله أعلم الإعلام السابع: في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته 2 أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ويلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن

_ 1 آخر كلام ابن خلدون. 2 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1353-1358.

قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم. ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء. وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معا فإنه قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. قف: اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا ويصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه لأنها وإن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أيها المتعلم من

مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك فأولا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها. ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه. وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان. وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله تعالى1. قف: 2اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة.

_ 1 انتهى كلام ابن خلدون. 2 جاء هذا الكلام من هنا في مقدمة ابن خلدون صفحة 1358 تحت عنوان "فصل في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل".

وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين. فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعبا أو سهلا وكل ميسر لما خلق له1. الإعلام الثامن: في آداب المتعلم والمعلم أما المتعلم: فآدابه ووظائفه كثيرة ولكن ينظم تفاريقها عشر جمل: الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاح السر وقربة الباطن إلى الله تعالى فلا تصح هذه العبادة إلا بعد طهارة القلب عن خبائت الأخلاق وأنجاس الأوصاف. الثانية: أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن فإن العلائق شاغلة وصارفه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ الزرع.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون في صفحة 1359.

الثالثة: أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته. الرابعة: أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه من الإدراك والاطلاع بل ينبغي أن يتقن أولا الطريقة الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه وإن لم يكن أستاذه مستقلا باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحترز منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله بعد في عمى الحيرة وشبه الجهل. الخامسة: أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعها إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب. جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا قال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} . فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود والقوامون بها حفظة كحافظ الرباطات والثغور ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى. السادسة: أن لا يأخذ في فن من فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقنه العامي وراثة أو تلقفا ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة فيه عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان الصديق رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح. السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طرق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج1 وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه وبنبغي أن يعرف الشيء في نفسه فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه: لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله. الثامنة: أن يعرف السبب الذي به يدرك شرف العلوم وأن ذلك يراد به شيئان: أحدهما: شرف الثمرة.

_ 1 بإزائة في هامش الأصل تعليق صورته: "وهذا الترتيب قد بينه الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني في كتابة أدب الطلب ومنتهى الأرب، والشاه ولي الله المحدث الدهلوي في وصاياه وقد لخصت الكتاب الأول وسميته طلب الأدب من أدب الطلب وطبع بمصر بهوبال المحروسة فإن شئت الاطلاع عليه فارجع إليه 13 مولوي محمد عبد الصمت بشاوري سلمه الله تعالى".

والثاني: وثاقة الدليل وقوته وذلك: كعلم الدين وعلم الطب. التاسعة: أن يكون قصد المتعلم في الحال تخلية باطنه وتحميله بالفضيلة وفي الحال القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ العلى من الملائكة والمقربين ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومجاراة السفهاء ومباهاة الأقران. وإذا كان هذا مقصده - طلب لا محالة - الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة ومع هذا فلا ينبغي أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم كالنحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك. العاشرة: أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كما يؤثر القريب الرفيع على البعيد الوضيع والمهم على غيره ومعنى المهم ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلا والبدن مركبا والأعمال سعيا إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون. وأما: وظائف المعلم المرشد فالأولى: الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين. ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة كما أن الوالد سبب الوجود الحاضر الفاني والمراد معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا. فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاكه نعوذ بالله منه. الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع فلا يطلب على إفادة العلم أجرا ولا يقصد به جزاء ولا شكرا بل يعلم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة لهم بل يرى الفضل لهم وثوابه في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى ولولا التعلم ما ثبت هذا الثواب فلا يطلب الأجر إلا من الله تعالى. الثالثة: أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي ثم ينبهه على أن يطلب العلوم للقرب إلى الله دون الرئاسة والمباهاة والمنافسة ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده. فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه فإن كان هو علم الخلاف في الفقه والجدل في الكلام والفتاوى في الخصومات والأحكام فيمنعه من ذلك فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة ولا من العلوم التي قيل فيها: تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون الله وإنما ذلك علم التفسير وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة ومعرفة أخلاق النفس وكيفية تهذيبها فإذا تعلم الطالب وقصده الدنيا فلا بأس أن يتركه. الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح بهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار.

الخامسة: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه ومعلم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير ذلك نقل محض وسماع بحت وهو شأن العجائز ولا نظر للعقل فيه ومعلم الكلام ينفر عن الفقه ويقول: ذلك فروع وهو كلام في حيض النسوان فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمن فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن تجتنب بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعليم في غيره وإن كان متكفلا بعلوم فينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة. السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه ولا يلقي إليه مالا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله كما قيل: كلموا الناس على قدر عقولهم وأشار علي عليه السلام إلى صدره إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة. السابعة: أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقي إليه الجلي اللائق به ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقا وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله. الثامنة: أن يكون المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله فإن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر فإذا خالف العمل العلم منع الرشد وكل من تناول شيئا وقال للناس: لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم عليه فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به. هذا خلاصة ما في الإحياء وقد أطال في تقرير كل أدب ووظيفة من هذه الآداب والوظائف إطالة حسنة. وعقد الباب السادس من كتاب العلم في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء. والله تعالى أعلم بالصواب. وللشيخ العالم برهان الإسلام الزرنوجي1 تلميذ صاحب الهداية2 كتاب سماه تعليم المتعلم طريق التعلم وجعله فصولا قال فيه: إنه لا يفترض على كل مسلم طلب كل علم وإنما يفترض عليه طلب علم الحال أي علم ما يقع له في حاله من الصلاة والزكاة والصوم والحج. ولا بد له من النية في زمان تعلم العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وينوي بطلب العلم رضاء الله تعالى والدار الآخرة وإزالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجهال وإحياء الدين وإبقاء الإسلام فإن بقاء الإسلام بالعلم ولا يصح الزهد والتقوى مع الجهل. ولا ينوي به إقبال الناس إليه ولا استجلاب حطام الدنيا والكرامة عند السلطان وغيره. ولا يذل نفسه بالطمع ويتحرز عما فيه مذلة العلم وأهله. ويختار من كل علم أحسنه ويقدم علم

_ 1 هو برهان الدين الزرنوجي صاحب كتاب تعليم المتعلم طريق التعلم المشهور، وقد كان حياً في سنة 593هـ =1196م. 2 هو كتاب الهداية في فروع الفقة الحنفي. جعله شرحاً لكتاب البداية له. وصاحب الهداية هو برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني الحنفي المتوفى سنة 593هـ = 1196م.

التوحيد والمعرفة وإن كان إيمان المقلد صحيحا ويختار العتيق دون المحدثات ولا يشتغل بهذا الجدل الذي ظهر بعد انقراض الأكابر من العلماء. وأما اختيار الأستاذ فيختار الأعلم والأورع والأسن والمشاورة في طلب العلم أهم وأوجب. وينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذ وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر وعلى فن حتى لا يشتغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول وعلى بلد حتى لا ينتقل إلى بلد آخر من غير ضرورة ولا ينال ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم وأهله وتعظيم الأستاذ وتوقيره ولا بد لطالب العلم من الجد والمواظبة والملازمة وإليه الإشارة في القرآن الكريم {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} و {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} قيل: اتخذ الليل جملا تدرك به أملا ويواظب على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره فإن ما بين العشاءين ووقت السحر وقت مبارك والكسل من قلة التأمل في مناقب العلم وفضائله والعلم النافع يحصل به حسن الذكر ويبقى ذلك بعد وفاته فإنه حياة أبدية. ويوقف بداية السبق على يوم الأربعاء وهكذا كان فعل أبو حنيفة - رحمه الله - بل كان الشيخ أبو يوسف الهمداني يوقف كل عمل من أعمال الخير على يوم الأربعاء وهذا لأنه يوم خلق فيه النور وهو يوم نحس في حق الكفار فيكون مباركا للمؤمنين. وينبغي أن يكون قدر السبق للمبتدئ قدر ما يمكن ضبطه بالإعادة مرتين بالرفق ويزيد كل يوم كلمة وقد قيل: السبق حرف والتكرار ألف. قال الأستاذ شرف الدين العقيلي: الصواب عندي في هذا ما فعله مشائخنا وإنهم كانوا يختارون للمبتدئ صغارات المبسوط لأنه أقرب إلى الفهم والضبط وأبعد عن الملالة وأكثر وقوعا بين الناس قيل: حفظ حرفين خير من سماع وقرين1 وفهم حرفين خير من حفظ وقرين. فينبغي أن لا يتهاون في الفهم. ولا بد من المذاكرة والمناظرة والمطارحة لكن بالإنصاف والتأني والتأمل دون الشغب والغضب وهي أقوى من فائدة مجرد التكرار. قيل: مطارحة ساعة خير من تكرار شهر. ويشتري بالمال الكتب ويستكتب فيكون عونا على التعلم والتفقه وينبغي أن لا يكون لطالب العلم فترة فإنها آفة ويتوكل في طلب العلم ولا يهتم لأمر الرزق ولا يشغل قلبه بذلك. ووقت التعلم من المهد إلى اللحد دخل حسن بن زياد2 في التفقه وهو ابن ثمانين سنة وأفضل الأوقات شرخ الشباب ووقت السحر وما بين العشاءين. وينبغي أن يستغرق جميع أوقاته فإذا مل من علم يشتغل بعلم آخر. كان ابن عباس إذا مل من علم الكلام قال: هاتوا ديوان الشعر ويكون مستفيدا في كل وقت حتى يحصل له الفضل. وطريق الاستفادة أن يكون معه في كل وقت محبرة حتى يكتب ما يسمع من الفوائد قيل: ما حفظ فر وما كتب قر وأقوى أسباب الحفظ الجد والمواظبة وتقليل الغذاء وصلاة الليل وقراءة القرآن نظرا والسواك وشرب العسل وأكل الكندر3 مع السكر وأكل ما يقلل البلغم والرطوبات يزيد في الحفظ،

_ 1 مفردها وقر: وهو الحمل ويريد خير من سماع حملين من الكتب. 2 هو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي، قاض فقيه، من أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة 204-819م. 3 الكندر: ضرب من اللبان أو العلك.

وكل ما يزيد في البلغم يورث النسيان ومن أسبابه اقتراف المعاصي وكثرة الذنوب والهموم والأحزان في أمور الدنيا وكثرة الأشغال والعلائق وأما أسباب نسيان العلم: فأكل الكسبرة1 الرطبة وأكل التفاح الحامض والنظر إلى المصلوب وقراءة ألواح القبور والمرور بين قطار الجمال وإلقاء القمل على الأرض والحجامة على نقرة القفا كلها تورث النسيان وارتكاب الذنب سبب حرمان الرزق خصوصا الكذب يورث الفقر وكذا نوم الصبح وكثرة النوم تورث فقد العلم إلى غير ذلك ومما يزيد في الرزق التسبيح بعد الفجر وبعد المغرب. ومما يزيد في العمر البر وترك الأذى وتوقير الشيوخ وصلة الرحم والاحتراز عن قطع الأشجار الرطبة إلا عند الضرورة وإسباغ الوضوء والصلاة بالتعظيم والخشوع والقرآن بين الحج والعمرة وحفظ الصحة. ولا بد أن يتعلم شيئا من الطب ويتبرك بالآثار الواردة في الطب الذي جمعه الشيخ الإمام أبو العباس المستغفري2 في كتابه المسمى ب طب النبي صلى الله عليه وسلم يجده من يطلبه. هذا خلاصة ما ذكره الزرنوجي - رحمه الله - وكتاب: جواهر العقدين في فضل الشرفين: شرف العلم الجلي والنسب العلي للشيخ الإمام العلامة: علي ابن الشيخ: جمال الدين السمهودي3 الشافعي - رحمه الله - قد اشتمل على جملة كافية من بيان شرف العلم وآداب العالم والمتعلم وطريق الدرس واقتناء الكتب وغيرها اشتمالا نافعا فمن شاء الزيادة فعليه به وبالله التوفيق.

_ 1 ما نسميها اليوم الكزبرة. 2 هو جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر النسفي، فقيه، من رجال الحديث: 350-432هـ = 961-1041م. 3 هو علي بن عبد الله بن أحمد الشافعي المعروف بالسمهودي، نور الدين، مؤرخ فقيه له مصنفات في ذلك: 844-911هـ = 1440-1505م.

الفصل التاسع: في حالة العلماء

الفصل التاسع: في حالة العلماء اعلم أن العلم له حقائق لغوية: وهو ضد الجهل واصطلاحية: وهي كما قيل: من جمع بين علم المعقول والمنقول وكما قيل: من تمكن من إثبات المسائل بأدلتها عن علم وثبت وعرفية: وهي كل من اشتغل بتحصيل العلم ولو كان على جهة التقليد أو الشروع في التحصيل فيطلق العالم على من تعلم النحو والصرف أو الفقه أو جميعها وليس مرادي إلا من تمكن من إثبات المسائل بأدلتها عن علم وثبت فيشمل من عرف جميع الآلات وعرف الكتاب والسنة فإنه يتمكن من إثباتها على ذلك الوجه. وعلوم العقل لا دخل لها في الشريعة وإن العالم بها لا يدخل في مفهوم "العلماء ورثة الأنبياء" والله تعالى قد أغنانا عن الكتب السابقة التي أنزلت على الأنبياء عليهم السلام بما أنزله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع فيه كل خير واحتوى على كل فضيلة لفظا ومعنى وعلما وحكمة وغير ذلك فكيف نرجع إلى كتب الحكماء لا نعلم أذلك عنهم من ذات أنفسهم أو عن وحي إلى رسول منهم؟ وأول ما خرج ذلك في دولة

بني العباس وأكثر من أخرجه المأمون ووقع الاشتغال به والمحن والفتن وهلك به جماعة أوقعهم في الكفر والزندقة واشتغل به المأمون حتى إنه أرسل إلى ملك الإفرنج وذكر له أن مراده في الكتب التي لديهم وعربوها له ونبش لحد كسرى من أجل أنه قيل له: إن في قبره تابوتا فيه من كتب القدماء على أنه لو كان لا بد منه في العلم لكان الصحابة كلهم ليسوا بعلماء لأنهم لم يعرفوا علوم المعقول وكذا من بعدهم من التابعين ومن تبعهم ولا قائل به في العالم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب". وأما العرف فغير معمول به لأنه إذا اشتغل بفن وعرفه سمي في العرف عالما وليس هو من العلم في شيء لأنه لا ينتفع به في الدين أصلا ولا يقدر أن يعمل بفرع من فروع الشريعة بنفس ذلك الفن كالنحو وغيره وإنما تلك الفنون آلة للكتاب والسنة فمن اشتغل بها ولم يتوصل بها إلى تلك الأمور فهو كمن أحكم السلم ولم يرتق عليه إلى محل مرتفع ولا فائدة له فيه وكذا المقلد فإنه لا يعلم ما الحق في المسألة ولا مع من هو ولا قاله من قلده أصواب هو أم خطأ وهذا لا يصح إطلاق العالم عليه حتى قال النووي1: إنه إجماع وقالوا في أصول الفقه: إنه لا عبرة بالمقلد في إجماع العلماء لأنه ليس بعالم لأنهم حدوه: من يقبل قول من أفتاه من دون أن يطالبه بحجة وقد أوضح هذا بما لا مزيد عليه الشيخ الفاضل علي بن محمد2 ولد شيخنا الشوكاني - رحمه الله - في القول السديد في نصح المقلد وإرشاد المستفيد. وأما المشتغل فيما يثبت له ذلك إلا إذا ثبت له الملكة في الآلات وأمكنه معرفة الكتاب والسنة كما ينبغي لأنه عند شروعه يريد تحصيل ما به الوصول إلى معرفة العلم الذي يطلق على من قام به اسم العالم فإذا أطلق عليه عند الشروع فإنما هو مجاز بعلاقة الأول والقرينة الواقعة فإذا عرفت هذا علمت أن العلم من أشرف المطالب لا يساويه مساو ولا تبلغ غايته غاية ولا فضيلة سواه ولقد صدق القائل: من فاته العلم ماذا أدرك ومن أدرك العلم ماذا فاته. قال الشافعي: إذا لم يكن العالم العامل وليا فما لله ولي. والصحيح أن العالم له رتبة كبيرة وهي كونه وارث الأنبياء عليهم السلام وكونه ممن قال صلى الله عليه وسلم فيه: "لأن يهدي الله رجلا على يديك خير مما طلعت عليه الشمس" وكونه ممن يصدق عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} . وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} . ثم إن العلم له فوائد منها: أنه يؤجر على تعلمه وتعليمه والإفتاء به والقضاء بما دل عليه والتصنيف وإهداء الناس ويكون مما يتبع بعد الموت كما قال صلى الله عليه وسلم: "أو علم ينتفع به" وكما قال: "العلماء على منابر من نور يوم القيامة" وكما قال: "إن أنبياء بني إسرائيل يتمنى أحدهم أن يكون كعلماء هذه الأمة" وكما

_ 1 هو محيي الدين يحي بن شرف بن مري النووي الدمشقي الشافعي، إمام فقيه محدث حافظ لغوي، له كتب كثير مشهورة: 631-677هـ = 1233-1278م. 2 اليمني الصنعاني الحنبلي وهو المعروف بابن الشوكاني، توفي سنة 1250م = 1834م.

قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" والفقه فهم الكتاب والسنة وكما قال: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا فأثبت لهم الخيرية المطلقة. وهذه بعض الأدلة فيهم والفضائل المسرودة في الكتب هي الكثير الطيب لولا خوف الإطالة لاحتاجت إلى مجلد وقد جمع فيما ورد فيهم وفضائلهم بعض علماء مكة المكرمة مجلدا وسماه العلم فثبت أن العلماء لهم المحل الأسنى وآدم عليه السلام لما ألهمه الله تعالى الأسماء وجعل له تلك الحالة رفعه على الملائكة وله حالة الرياسة على الملائكة حالة إنبائهم كالحالة التي تثبت للشيخ على التلميذ فلما صارت له تلك الفضيلة وبلغ تلك المنزلة عظم على الملائكة وأمرهم الله سبحانه بالسجود له لأنه قد صار له حق المشيخة وإن كانت ماهية الملائكة أشرف وصفاتهم أعلى وأفضل من صفات الآدمي إلا أن هذه حالة خاصة ولا مانع من أن يأمر الله سبحانه بعض خلقه بالسجود لبعض ولا فائدة للتمحلات لأن المنهي عنه وهو السجود لغير الله سبحانه إنما هو في شريعته صلى الله عليه وسلم لوقوعه في شرع من قبله كسجود يعقوب وزوجته ليوسف عليهم السلام حين دخلا عليه كما حكاه الله سبحانه ولو سلمنا أنه منهي عنه في كل شريعة فهذا خاص لكون الآمر به هو الله سبحانه وتعالى وهو الباعث للرسل والموجب للشرائع وقد حكاه عن نفسه ولا فائدة فيما قيل: إنه إنما جعل آدم قبلة لهم لأنه ينافيه قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} ولو كان كذلك لقيل لهم: اسجدوا إلى آدم وكذا إنما أمروا بالسجود لله ولكن نسب إلى آدم وهذا ينافيه اللفظ أيضا وبالجملة فكأن السجدة له عليه السلام تعظيما لعلمه. وقد اختلف في كيفية التعليم فقيل: بالاستعداد والإلقاء من الله تعالى إليه وقيل: بالإلهام ويدل عليه قوله تعالى في داود {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} فإنه ألهمها إلهاما لا تعليما حقيقة والذي يظهر لي أنه أطلعه الله سبحانه على اللوح المحفوظ لأن فيه كل ما كان وما سيكون فجميع الأسماء والأشياء فيه وصفاتها وأحوالها فطبق تلك الكيفية التي رآها في اللوح على المسميات وقد قال تعالى: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أو أنه خلق له قدرة يقتدر بها على التعبير عن تلك الأمور عند الأمر له بإنباء الملائكة ويكون معنى علم أقدر وهذا مما يدل أكمل دلالة على أن علم الله تعالى لا نسبة بينه وبين علم مخلوقاته وعلى أن علم المخلوق ولو بلغ الغاية القصوى والنهاية العليا لا يدرك كنه الأمور ولا ينكشف له المصالح كلية الانكشاف وبهذا تعرف قدر الشيخ وأنه لما صارت له تلك الفضيلة وهي العلم كان الجزاء فيه السجود وإن كان التلميذ شريفا في النسب فإن شرف التعليم له زائد على شرفه كما كان ابن عباس يمسك بركاب شيخه وكان ينام في بابه ينتظر لخروجه حتى يطير عن ثوبه التراب الذي تلقيه الرياح وكذلك أمسك الإمام أحمد ركاب الشافعي فيجب على التلميذ أن يجل الشيخ ويعظمه لما أسدى إليه ولا يكفر نعمته فيهلك كإبليس لما أذنب هلك وأقل أحوال هلاك التلميذ ذهاب رونق علمه وعدم قبول فائدته مع تغير أحوال الدنيا عليه وكم شاهدنا وكفى بهذا دليلا فإن الملائكة عليهم السلام لما عرفوا الأسماء ثبت لآدم عليه السلام ذلك الحق عليهم بعد أن كان عندهم لا يصلح للخلافة فصار صالحا للإفادة وأبى اللعين فكان سبب هلاكه وهلاك ذريه ومن تبعه لأنه أصر على ما ظهر له أنه الصواب وإبليس وإن كانت ماهيته غير ماهية الملائكة وهو من الجن لكنه أطلق عليه ذلك الاسم ودخل في مسماهم وعوقب على عدم الامتثال لكونه قد

صارت له أحوال الملائكة وقرب كقربهم وأودع فيه من النور ما شابه به الملائكة فلما أصر واستكبر وعاد إلى الماهية الأصلية نال ما نال وعوقب بما عوقب وهذا أحسن ما تفسر به الآية الكريمة وإن كان قد قيل في تفسيرها أمور أخر كلها صرف اللفظ عن ظاهره بغير قرينة ولا مرجح وما جعلوه مانعا من أن الملائكة لم يقع منهم الاستنكار وإنما هو على جهة العرض يأباه قطعهم بان آدم وذريته سيفسدون ويسفكون الدماء فهذا مما يبين أن كل مخلوق لا بد له من الخطأ فإن الملائكة قد قص الله علينا أمرهم هذا والأنبياء كذلك وكل ذلك إنما وقع منهم في الاجتهادات لا في الأوامر والتشريعات فلما وقع ذلك منهم وقد ثبتت لهم العصمة نبهوا على الخطأ فقد وقع ذلك لسيد ولد آدم وخير الخلق وأقربهم إلى الله صلى الله عليه وسلم ونبه وكذا الملائكة وكفى بهذا رادعا وزاجرا للعلماء عن إثبات الشريعة بالرأي والقياسات الواهية غير ما كانت علته منصوصة أو منبها عليها وأما فحوى الكتاب وقياس الأول فهو داخل في مفهوم اللفظ ليس من باب القياس وإنما القياس الممنوع الذي يكون باعتبار الأقيسة الأخرى التي توسعوا فيها مثل السبر والتقسيم والإحالة وغير ذلك وإذا اعتقد أنه شرع وأوجب على غيره اتباعه أو أفتى به أو قضى عليه فقد تقول على الله سبحانه بما لم يقله فليكن هذا على ذكر منك فإنه من أعظم الأمور التي يكون بها الهلاك فما أحق العالم أنه إذا لم يجد علة منصوصا عليها ولا منبها عليها أن يترك التشريع وهذا المقيس بالرأي إنما عسر الشريعة والنبي صلى الله عليه وسلم يسرها وهذه نصيحة مني لمن يريد الله به خيرا ليس الموجب لها إلا حب إخواني من علماء المسلمين المتبعين. وأما المقلد أو مجتهد المذهب فليس من مبحوثنا ولا دخل في نصيحتنا لأنه ممنوع عن التكلم محجور عن التعرض حتى يصدق عليه اسم العالم لما عرفت ومن أراد تحقيق ذلك فعليه بكتب شيخنا الشوكاني وكتب أئمة السنة ابن تيمية وابن القيم وابن الوزير والسيد الأمير ومن حذا حذوهم وبتكميل الحجة والبيان وشرح بيتي إمام الزمان ففيها ما يغني ويقني وإنما جرى القلم بهذا في هذه وإن كان المبحوث عنه سواه لأن له دخلا فيها. ولما نظرت هذه الفضيلة التي ثبتت لآدم باعتبار العلم عدلت إلى أن هؤلاء العلماء الذين عرفت أنهم المقصودون هنا وزع الله بينهم الفضائل وجعلهم أنواعاً. النوع الأول: علماء الصحابة الحافظين للشريعة المبلغين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلمين لمن دخل في الدين القائمين بنشرها المجاهدين لمن خالفها. النوع الثاني: التابعون لتلك الفضائل القافون أثر الأوائل. الراحلون لتنفيذها إلى البلاد المبلغون إلى من بعدهم من العباد وهم دون النوع الأول من الرتبة. النوع الثالث: تابعو التابعين وهم على نهجهم في تلك العناية ومتبعون لهم في الفضائل والشرف حتى كانوا خلفهم في القيام بذلك المنصب وفعلوا كفعلهم في إحراز ذلك المطلب ثم من بعده كثرت الروايات وانتشرت في جميع الأقطار بفتح البلاد وفشا الكذب وعم التقليد الذي منع منه الأئمة المجتهدون وحذر منه السلف الصالحون. النوع الرابع: العلماء البالغون إلى رتبة الاجتهاد المطلق وهم كثيرون غير الأربعة المشهورين كما صرح

بذلك أهل السير والطبقات في كتبهم وكانوا لا يقلدون أحدا ولا ينسبون أنفسهم إلى أحد ولم يكونوا متمذهبين كما يزعم من لا علم له بأحوال العلماء. النوع الخامس: وهو من اشتغل بطلب جمع الأحاديث حتى حفظ منها مالا يقدره طباعنا ولا يتصوره حواسنا فمنهم من حفظ ألف ألف أي عشرة لكوك في العرف ومنهم من حفظ عشرة آلاف ألف بمعنى مائة لك ومنهم من حفظ أحمال جمال من المائة فما دون وما فوق ورحل في طلب ذلك إلى مشرق الأرض ومغربها جنوبا وشمالا وذلك بسبب أن الله تبارك وتعالى خلق للسنة المطهرة خلقا مثل هؤلاء فسعوا في طلبها وبذلوا نفوسهم وملاذهم في تحصيلها وداروا الأقطار ووصلوا الليل والنهار وأحرزوها وبثوها في الناس وقضوا ما كان عليهم وبقي ما كان لهم فجزاهم الله عن الإسلام جزاء خير على التمام والسنة صنو القرآن الكريم وإنما فارقها لكونه للتحدي وهي مشاركة له في التشريع وقد تدارك الله بحفظ الكتاب ويلزم منه حفظ السنة لكونها وضعت بأنها وحي ثم بعدهم. النوع السادس: وهو أنه لما كثرت الزيادة فيها وفشا الكذب وظهر أهل الوضع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كل حين وكل وقت في زيادة واحتالوا بإدخال الأحاديث الموضوعة والمكذوبة في أسانيد الأثبات الثقات أوجد الله لها هذا النوع فزبروها وعرفوا صحيحها من سقيمها وبينوا موضوعها ومكذوبها وغير ذلك وفحصوا وداروا الأقطار وسألوا الكبار وأخرجوا ما دسه الأشرار وأوضحوا ذلك أوضح منار وعرفوا كل واحد من رواتها باسمه ولقبه وبلده وكنيته وحرفته ومشائخه والآخذين عنه ومجالسه ومن حضر ومن ذهل في حال الإملاء عليهم في ذلك المجلس وما قدر ذهوله وبينوا أسباب القدح من وضع وكذب وتدليس وإبهام وسوء حفظ ولين ومختلط في عقله وصدوق وشيخ وغير ذلك ولهم في ذلك اصطلاحات يعرفها من عرف علم السنة فإنه لا بد من معرفتها ثم دونوا للرجال كتبا ذكروا فيها أحوالهم وما سبب القدح فيهم وما يقبلون فيه وما لم يقبلوا فيه إذا كان له حالات وما يعرض لهم وعمن رووا ومن روى عنهم ثم دونوا كتبا في المكذوبات والموضوعات والضعاف والحسان والصحاح ومنهم من جمع الجميع ولما كان لا يؤمن بعد أعصارهم أن لا تكون تلك الكتب ولا الأقوال أقوالهم أوجد الله تعالى من بعدهم في كل عصر علماء وهم. النوع السابع: فشرحوا كتبهم وأوضحوا مرادهم وبينوا للناس مقاصدهم وعرفوا الناس بصحة نسبة ذلك إليهم وأنه كتاب فلان بإحراز أسانيده وكل خلف عن سلف معروف معلوم مشهور إلى عند المصنف وأبدوا صناعات تطرب الألباب واخترعوا أساليب معونة للطلاب فمنها ما فعلوه على أبواب الفقه ورووا فيه كل ما يصلح للاحتجاج من تلك المجموعات وتكلموا على سنده وقربوه لطلبته كلية التقريب وأزالوا عنه النصب ومنحوه أوفر نصيب وما أنتجته أفكارهم السليمة وأفهامهم المستقيمة من الفوائد العجيبة والنكت الغريبة والأساليب البديعة ولم يتهوروا في الرأي ولا تبعوا ما لم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن نقلوا ما قاله أهل المذاهب من المسائل التي لم تكن موافقة للدليل ودونوا ما حكوه عنهم من تلك العجائب فلا يخل إما أن يكون لقصد البيان وإظهار أن خلاف كلامه هو الصواب فهذا هو الميثاق الذي أخذه الله على أهل الكتاب ومنهم من يكون من باب قوله:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الشر يقع فيه ومنهم من يذكر ما قالوه بقصد أنهم إذا عرفوا أنه يعرف ما عندهم وقد ذكر الدليل أو رجح فلا يظنوا أنه فعل ذلك وهو جاهل لما عندهم وهذا مأجور وأن كان قصده إنما هو ليعرفوا أنه عالم فقط فهذا معجب بنفسه. ومنهم من يظهر بذلك لأهل مذهبه أنه لم يخالفهم وأنه باق على وفق قول إمامهم وهذا الفعل يخالف أخذ الميثاق وأمر العلماء بالبيان وخشية الله منهم وكونهم ورثة الأنبياء. ولهذا البحث مزيد فائدة في القول السديد وقد جرت عادة الله سبحانه أن فاعل ذلك لا بد أن يبقى مضطهدا خائفا محروم العلم لا ينفعه ذلك في الدنيا وفي الآخرة شيئا وأن فاعل الحق ومتبعه والمتظهر بنصره والقيام لخدمته والبيان لما خالفه والرد على قائله في أعلى رتب الشرف وأرفع درجات الكمال مجلل مبجل مهاب وكان الفرد المنظور إليه بعين العلم وإن كلامه هو الحق والصواب متبع في الناس معمول بما قاله وإن خولف في مدة حياته كبعض العلماء الكبار. فتنظر بعد موته وإذا كلامه عند المخالف والموالف مقبول ويستدل به كل أحد. وتنظر وإذا كل مؤرخ إذا ذكره جعل ترجمته أكبر التراجم ويذكر من فضله ونبله ما يخلع قلوب مخالفيه ولا يقدر أحد على جحد فضائله ولا كتم مناقبه بل يشهد له بها المخالف كابن حزم وابن تيمية وغيرهما في كل عصر. ثم إن لهم فضائل غير هذه منها: الصدع بالحق ونصره ودفع الباطل وإظهار ما وجب. ولذا ترى كثيرا من الصحابة يقولون: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كتم علما الحديث. وسمعت قول الله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ما حدثتك فكم للعلماء مواقف عند أمراء الجور وسلاطين الظلم يسطع فيها بالحق ويتكلم بما يوافق الشرع ولا تأخذه في دين الله لومة لائم ولا يردعه عن إظهار الحق رادع ولذا تنظر ما كان لهم من الأجر الجزيل والجزاء الجليل في قوله صلى الله عليه وسلم: "وأفضل من ذلك كله كلمة حق عند سلطان جائر" فتنظر وإذا القائل بالحق كلامه المصدق وقدره المبجل وشأنه عندهم المعظم وتنظر من داهن أو وافقهم على مرادهم رجاء لقربه منهم ودنو مودتهم له يكون عندهم مدحورا مذموما مردودا على أن يصير علم الثاني سخرية وضحكة ويبقى في أيدي الناس لعبة ويطرح عندهم إلى الغاية ويناله من الإهانة النهاية وكم في كل زمان من أهل هذا الشأن فالأول فاز وكان من أهل السعادة في الدارين. والثاني هلك وكان أرباب الشقاوة في الحالتين وصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أنه من الثلاثة الذين تسعر بهم النار وأولهم دخولا فيها" نسأل الله سبحانه الهداية والصلاح وأسباب الألطاف التي تكون موجبة للفلاح والنجاح. ومنها: الصبر على التعليم والتهذيب لمن وصل إليهم واشتغال أوقاتهم بالتدريب لهم وبذل مجهودهم في إخلاص نصحهم في إفادتهم. ومنها: إفادة الناس فيما يحتاجون إليه من الفتيا ودفع الخصومات وإظهار الحق ودفع الباطل والقيام على الظالم والنصر للمظلوم وإيصال الخصم بما يستحقه من خصمه. ومنها: أنهم أمان أهل الأرض عند إتيان الساعة وقرب حلولها فإن ارتفاع العلم من علاماتها وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ليس المراد ارتفاع نفس العلم وإنما هو قبض حامليه حتى تضرب أكباد الإبل في مسألة ولا يجدون من يفتي فيها.

ثم لما كان للعالم والعلم هذه الفضائل وهذه الأحوال كان من قام به كما ينبغي من أهل السعادة ومن ترك ما يليق وتبع ما يجانب العلم ويخالف المراد منه كان من أهل البلاء والشقاوة ولذلك أسباب: الأول: أنه لا يقصد بالتعلم والتعب إلا الله سبحانه وما يوافق مراده. الثاني: أنه لا يكون قصده بعد أن حصل له العلم إلا أن يعمل ويخدم ويقرر ما صح عنه صلى الله عليه وسلم ويرد ما خالف سنته كائنا ما كان. الثالث: أن لا يعمل ولا يترك إلا وقد قام له دليل على العمل أو الترك من الكتاب والسنة أو استنباط جلي منهما. ولا يجعل لرأيه دخلا في إثبات الشريعة ولا يكلف الناس بمجرد ما خطر بباله إذا لم تكن له عليه حجة تكون له بها النجاة إذا سئل بما أثبت ذلك الحكم وما كلف به العباد. الرابع: ترك التعصبات كلها. وهي أقسام وقد حقق ذلك شيخنا الإمام في أدب الطلب فمن أراد الاطلاع عليها فعليه به. وليس للعالم مسرح في التشريع ولا كل ما قاله صواب بل هو مجوز عليه الخطأ والصواب فكيف يقع منه التعصب لقول عالم أو لقول صدر منه. الخامس: أن لا يرى لنفسه حقا وأن لا يعتريه عجب وكبر لأنه محل الضعف والزلل والخطأ وكم مثله من العلماء وكم وأي رتبة قد بلغ إليها. فإنه إذا نظر في أبناء كل زمان وأبناء زمانه نظر وإذا فيهم من لا يبلغ قدره ولا ينال من الحظ والمعرفة ماله. بل إذا نظر إلى من هو أحقر منه يجد عنده من الفوائد ما لم يكن عنده ولم يبلغ رتبة الكمال من الخلق فرد ولو بلغ إلى النهاية القصوى ففوقه من هو أعلى منه رتبة وأرفع منه كعبا. على أنه إذا تفكر في أمر علم أنه لا يحسن منه ذلك وهو أنه اشترك هو وجميع النوع الإنساني في الماهية وفي سائر الصفات ومنحه الله سبحانه وفتح عليه بالمعرفة مع أنه هو والعامي والجاهل سواء. فهل يكون ذلك داعيا لأن ينظر لنفسه حقا وأن يفتخر ويعتريه العجب وهل تقابل تلك المنحة بهذا. السادس: أن يصون العلم عما يدنسه فالعلم جوهر شفاف نوري يكدره أدنى مكدر ويذهب برونقه أيسر شيء وما ذاك إلا لشرفه ولذا قيل: إن عيب ذي الشرف مذكور وعيب الجاهل مغمور فيصير عند كل راء وسامع أضحوكة وسخرية فكيف بمن علم تحريم المحرمات كالخمر والزنا والربا وأكل أموال الناس بالباطل والارتشاء ثم أقدم على أحدها؟ فهل تكون لعلمه فائدة؟ وهل تصير له ثمرة؟ وهل كان إلا نكالا ووبالا وسببا لهلاكه وداعيا لأهل البطالة إلى عدم الإقلاع عن تلك الأفعال ومجريا لهم إلى ملازمة الفساد لأنهم قد نظروه بعين العلم فيكون عليه وزره وأوزارهم؟ فكيف إذا انضم إلى فعله التحليل لهم والتحريم من المسامحة والموافقة في مخالفة الشرع؟ فهو أشد من كل بلية وأعظم من كل فتنة لأنه أضله الله على علم ثم لم يكتف بذلك حتى أضل غيره فيكون من أهل الشقاوة. السابع: أن لا يفتي إلا عن ثبت إذ لو أفتى من دون ثبت كان إثم الذي أفتاه عليه وإثمه على الإقدام على الفتيا من دون معرفة وكان كالحاكم الذي حكم بالحق وهو لا يعلمه وهو من أهل النار كما حكم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. الثامن: أن لا يفتي من ذات نفسه برأيه فهو محرم عليه لأنه مجتهد والمجتهد هو من استفرغ الوسع لتحصيل ظن بحكم ظني فإذا أفتى من دون استنباط ولا معرفة لما يكون هذا الفرد لاحقا

به فهو من التقول على الله بما لم يقل. التاسع: أن يجل جميع العلماء ولا يستحقر أحدا منهم ويعظمهم فإن وافق أقوالهم الصواب كان لهم رتبة العلم ورتبة الموافقة وإن خالف فإن كان عن جهل وعدم استفراغ الوسع فقد أخطأ وعليه وزر الخطأ وإن كان عن التباس فهو مخطئ معذور وله أجر فينبهه على خطئه. العاشر: أن يبذل نفسه ووسعه ويفرغ أوقاته لمن أراد التعلم عليه وينصح الطالب ويلقي عليه ما يجب عليه من الفوائد والنكت إن كان أهلا لذلك ويعرفه ما هو الحق والصواب وما يجب عليه اتباعه واجتنابه فما فائدة العلم والتعليم سوى ذلك ولم يجب علينا طلب العلم إلا للإفادة به لمن طلبه. والعالم يكون كالشاهد لكونه قد عرف والطالب يكون كالغائب وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب" ثم إن له على التعليم الأجر العظيم والمقام الكريم. الحادي عشر: أنه لا يكتم الحق وأن يصدع به ولا يخاف لومة لائم ويجعل ذلك لله سبحانه وهو الناصر له والحافظ وهو الواجب على كل عالم. الثاني عشر: أن يكون على حال الرسول وحال الصحابة من حسن الخلق وكرم السجية والرفق شعاره والتقوى دثاره لا يفارقه لأنه لا يكون عالما إلا بذلك والعلم شرف لا يقوم إلا بمن شرف. فهذه حالة العالم التي يجب عليه القيام والتحلي بها. وهذه الأمور هي أسباب السعادة وعكسها سبب الشقاوة. والذي يجب على الطالب أمور: الأول: صلاح النية في طلبه فلا يكون قاصدا بذلك حرفة من حرف الدنيا كأن يكون مدرسا أو مفتيا أو حاكما أو يماري به العلماء أو لأجل أن يكون له شرف أو غير ذلك من الأسباب التي تخالف أن يكون الفعل لله سبحانه الثاني: أن يتوجه مع العزم على أنه يريد العلم الذي يوصل إلى الجنة ويكون سبب السعادة ورضاء الرب سبحانه. الثالث: يلتجئ بباب الرب بأن يفتح عليه بالعلم النافع وأن يقدره على ذلك وأن يمن عليه بالغاية في الطلب والإلطاف وأن يصرف عنه شياطين الإنس والجان. الرابع: أن يكون مطلوبه علما يصدق عليه بعد معرفته أن من ورثة الأنبياء. الخامس: أن يفحص ويكمل في إحراز المعاني ونيل تلك المعاني ويجعل ذلك أعظم شغله وأجل قصده ويترك ما سواه لأجله. السادس: أنه إن احتاج إلى الكشف عن حقيقة مسألة فلا يقنع إلا بما قام عليه الدليل إن كان قد صارت له قدرة على ذلك وإلا فعليه بسؤال العلماء الكبار عما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم. السابع: أن لا يقنع باليسير من العلم ولا يرضى بالقليل حتى يبلغ إلى ما في وسعه ودخل تحت قدرته. الثامن: أن يجل العلماء ويتواضع لهم ويعظمهم وينظر لهم الحق الوافر على الإطلاق فإذا صار أهلا للنقد عرف لكل فرد منهم المرتبة التي تليق به.

التاسع: أن يعظم شيوخه ويجلهم ويكون لهم بمثابة الرقيق فقد قيل: إن للشيخ حقا مثل ما للأب بل أزيد لأن الشيخ سبب الحياة الدنيوية والأخروية والأب إنما هو سبب الحياة الدنيوية فقط والعلم حياة والجهل موت وقد قيل في تفسير الآية: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} إن المراد يخرج العالم من الجاهل والجاهل من العالم. العاشر: أن لا ينظر وقد شارف على أول فائدة وقرب إلى معرفة أدنى مرتبة فيظن في نفسه الظنون ويخطر بباله أن قد فاز بالقدح المعلى وبلغ الغاية القصوى فالعلم محتاج إلى تقرير وثبت وإلا فهو قد اقنع نفسه بالجهل وهو لا يشعر وتعلق به قلة العقل بل وإن داوم على جمع العلوم 1 / 151 وتلك العقيدة باقية فيه لا تظهر لعلمه فائدة ولا يعود عليه ذلك الطلب بعائدة بل يبقى ممحوق البركة ذاهب الرونق وكم قد شاهدنا ممن قبلنا وفي زماننا وكم قد حكت ذلك التواريخ في العالم. الحادي عشر: أن لا يكون سؤاله ولا تكلمه إلا لأربعة أنواع: إما لعدم فهمه لذلك. أو أنه قد ظهر له اختلال في كلام المصنف ولكن لاعن مجازفة وتخيلات. أو عدم معرفة لأصل البحث. أو أنه قد ظهر له أن قد سبق إلى ذهن الشيخ غير ما دل عليه كلام المصنف فهذه أحوال الطالب. ولكل من العالم والطالب أحوال أخر لكن هذه أجلها وأشدها حاجة وأعظمها ماسة فإذا قام العالم بتلك الأحوال وقام الطالب بأحواله كان سبب السعادة والفوز. وعلى فضل العلم والعلماء أدلة كثيرة واسعة تركتها اختصارا. واعلم أن العلماء تتفاوت مراتبهم وأحوالهم وإن كان قد صدق عليهم مسمى العلم وأحرزوا تلك الأمور والتفاوت إنما هو بقوة الاستنباط وصحة قريحة الاجتهاد فالاجتهاد ملكة تحصل للعالم عند جمعه لتلك العلوم وقد لا تحصل فحصولها متوقف على جمع تلك العلوم ولا يلزم من جمعها حصولها لأنها كالآلة مثل آلة النجار فإنه قد يعرف كيفية النجارة ويتصورها ويجمع آلاتها ولا يمكنه أن يحكم الصناعة كلية الإحكام فالعالم قد يجمع جميع العلوم وتحصل له تلك الكيفية التي هي الملكة ولا يمكنه العمل بتلك الملكة أو يمكنه العمل في بعض ولا يمكنه العمل الكامل. ولذا كان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يعرفون جميع ما قام بلسان العرب وعرفوا السنة والكتاب ولم يمكنهم ذلك مثل أبي هريرة وأمثاله وترى ابن عباس من صغار الصحابة وصار بحر الأمة وكانت له اليد الطولى والسهم المعلى وفي كل عصر هكذا فهي عطايا وحظوظ وقد عثر المتأخر على أدلة قد عجز عنها الأوائل وصنع في التصانيف مالا يقدر عليه الأماثل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وأما أسباب المهالك فهي أيضا كثيرة: منها أن يريد أن يكون له بذلك العلم رفعة وشأنا وينظره الناس بذلك ويقال في حقه عالم أو نحرير أو مبرز لا يماري. ومنها أن يكون ناصر البدعة سواء علم واستدام على ذلك عجرفة أو عرف ما هو الحق ولم يصغ

إليه أو نصر قولا له قد سبق على خلاف الحق فانكشف له الحق أو لم يسمع من المعرف له بالحق أو قام برياسة فأراد أن يجبر الناس على قوله وإن كان صوابا لكن المخالف له معه دليل لا يؤدي مخالفته لما قاله إلا التنكيل به والعقاب له. ومنها أن يكون قد فتح عليه وكان قبل ذلك مقلدا لأحد الأعلام فلا يزال يتعصب له بعد معرفته بأن الحق خلافه عمدا وعنادا. ومنها أن يكون ممن له شغل بالعلم ولكن لم تكن له اليد الطولى وصار يفرع ويلحق مسائل متخيلة ويكمل الشريعة ويوجب ويحلل ويحرم. فهذه الأمور ما مع سبق في غضون الكلام في تفصيل هذا المقام إذا تتبعها الذي يريد النجاح وعمل بها فاز بالفلاح وإلا أهلك نفسه وصار من حزب النار نعوذ بالله من ذلك. ولهذه الأمور بسطة بسطها الشيخ الفاضل العلامة علي بن محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - في كتابه الدرر الفاخرة الشاملة لسعادة الدنيا والآخرة فمن أراد الاطلاع عليه فليراجعه.

الباب الثاني: في منشأ العلوم والكتب

الباب الثاني: في منشأ العلوم والكتب الفصل الأول: في سببه ... الباب الثاني: في منشأ العلوم والكتب وفيه: فصول الفصل الأول: في سببه وفيه: إفهامات الإفهام الأول: في أن العلم والتعليم: طبيعي في العمران البشري 1 والبشر محتاج إليه وذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء وغير ذلك من اللوازم وإنما يمتاز عنها بالفكر وإدراكه الكليات التي يهتدي بها لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيئ لذلك التعاون وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل واتباع صلاح أخراه فهو مفكر في ذلك كله دائما لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والصنائع ثم لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع فيكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه ويرجع إلى ما استفاد عنه إما من الأفواه أو من الدوال عليه فهذا ميل طبيعي من البشر إلى الأخذ والاستفادة فمنهم من ساعده فهمه ومنهم من لم يساعده مع ميله إليه وأما عدم الميل فلأمر عارضي كفساد المزاج وبعد المكان عن الاعتدال ولا اعتداد به. ثم إن فكره ونظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد آخر ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا. فقد تبين بذلك أن

_ 1 هذا الفصل من مقدمة ابن خلدون وصفحة 1118-1119.

العلم والتعليم طبيعي في البشر1. الإفهام الثاني: في أن العلم والكتابة: من لوازم التمدن: اعلم أن نوع الإنسان لما كان مدنيا بالطبع وكان محتاجا إلى إعلام ما في ضميره إلى غيره وفهم ما في ضمير الغير اقتضت الحكمة الإلهية إحداث دوال يخف عليه إيرادها ولا يحتاج إلى غير الآلات الطبعية فقاده الإلهام الإلهي إلى استعمال الصوت وتقطيع النفس الضروري بالآلة الذاتية إلى حروف يمتاز بعضها عن بعض باعتبار مخارجها وصفاتها حتى يحصل منها بالتركيب كلمات دالة على المعاني الحاصلة في الضمير فيتيسر لهم فائدة التخاطب والمحاورات والمقاصد التي لا بد منها في معاشهم ثم إن تركيبات تلك الحروف لما أمكنت على وجوه مختلفة وأنحاء متنوعة حصل لهم ألسنة مختلفة ولغات متبائنة وعلوم متنوعة. ثم إن أرباب الهمم من بني الأمم لما لم يكتفوا بالمحاورة في إشاعة هذه النعم لاختصاصها بالحاضرين سمت همتهم السامية إلى إطلاع الغائبين ومن بعدهم على ما استنبطوا من المعارف والعلوم وأتعبوا أنفسهم في تحصيلها لينتفع بها أهل الأقطار ولتزداد العلوم بتلاحق الأفكار ووضعوا قواعد الكتابة الثابتة نقوشها على وجه كل زمان وبحثوا عن أحولها من الحركات والسكنات والضوابط والنقاط وعن تركيبها وتسطيرها لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف ومنها إلى المعاني فنشأ من ذلك الوضع جملة العلوم والكتب. الإفهام الثالث: في أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية 2: وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية وهو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان التي تميز بها عن الحيوان وأيضا فهي تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض إلى البلد البعيد فتقضى الحاجات وقد دفعت مؤنة المباشرة لها ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع وخروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم وعلى قدر الاجتماع والعمران والتناغي في الكمالات والطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة إذ هو من جملة الصنائع وإنها تابعة للعمران ولهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون ولا يقرؤون ومن قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصرا وقراءته غير نافذه ونجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ وأحسن وأسهل طريقا لاستحكام الصنعة فيها كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين وأحكاما في وضع كل حرف ويزيدون إلى ذلك المباشرة بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم والحس في التعليم وتأتي ملكته على أتم الوجوه وإنما أتى هذا من كمال

_ 1 آخر كلام ابن خلدون. 2 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1083-1092.

الصنائع ووفورها بكثرة العمران وانفساح الأعمال. وقد كان الخط العربي بالغا مبالغة من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبايعة لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية والمجددين لملك العرب بأرض العراق ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين وكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر يقال: إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية ويقال: حرب بن أمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم: قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعا والخط والقلم وهو قول بعيد لأن إيادا وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة والخط من الصنائع الحضرية وإنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط والقلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال وكان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة وكانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلمت مضر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو والصناعة واستغناء البدو عنها في الأكثر وكانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريبا من كتابتهم لهذا العهد أو نقول: إن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة ومخالطة الأمصار والدول وأما مضر فكانوا أعرق في البدو أبعد عن الحضر من أهل اليمن وأهل العراق وأهل الشام ومصر فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه كما يقتفي لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا ويتبع رسمه خطأ أو صوابا وأين نسبة ذلك من الصحابة فيا كتبوه فاتبع ذلك وأثبت رسما ونبه العلماء بالرسم على مواضعه ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط وإن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه ويقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع وفي زيادة الياء في بأييد إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية وأمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه ونسبوا إليهم الكمال بإجادته وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر،

والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أميا وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها وليست الأمية كمالا في حقنا نحن إذ هو منقطع إلى ربه ونحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية فإن الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا. ثم لما جاء الملك للعرب وفتحوا الأمصار وملكوا الممالك ونزلوا البصرة والكوفة واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وطلبوا صناعته وتعلمه وتداولوه فترقت الإجادة فيه واستحكم وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان إلا أنها كانت دون الغاية والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد ثم انتشر العرب في الأقطار والممالك وافتتحوا إفريقية والأندلس واختط بنو العباس بغداد وترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استبحرت في العمران وكانت دار الإسلام ومركز الدولة العربية وكان الخط البغدادي معروف الرسم وتبعه الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد ويقرب من أوضاع الخط المشرقي وتحيز ملك الأندلس بالأمويين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة والصنائع والخطوط فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد. وطما بحر العمران والحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر وعظم الملك ونفقت أسواق العلوم وانتسخت الكتب وأجيد كتبها وتجليدها وملئت بها القصور والخزائن الملوكية بما لا كفاء له وتنافس أهل الأقطار في ذلك وتناغوا فيه ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية وتناقصت تناقص ذلك أجمع ودرست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخط والكتابة بل والعلم إلى مصر والقاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد وله بها معلمون يرسمون لتعليم الحروف بقوانين في وضعها وأشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع ولقد لقنها حسا وحذق فيها دربه وكتابا وأخذها قوانين علمية فتجيء أحسن ما يكون. وأما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر وتغلبت عليهم أمم النصرانية فانتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدول اللمتونية إلى هذا العهد وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع وتعلقوا بأذيال الدولة فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعفى عليه ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس وما إليها لتوفر أهل الأندلس بها عند الجالية من شرق الأندلس وبقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس ولا تمرسوا بجوارهم إنما كان يفدون على دار الملك بتونس فصار خط أهل إفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء وتراجع أمر الحضارة والترف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخط وفسدت رسومه وجهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة وتناقص العمران وبقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك لما قيل من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها وحصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط

الأندلسي لقرب جوارهم وسقوط من خرج منهم إلى فاس قريبا واستعمالهم إياهم سائر الدولة ونسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك وداره كأنه لم يعرف فصارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر ووقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة وفساد الدول والله أعلم1. قف: إن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب وذلك2 أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فتكون ذاتا روحانية وتستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا والملكات الصناعية تفيد عقلا والحضارة الكاملة تفيد عقلا لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس وتحصيل الآداب في مخالطتهم ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها وهذه كلها قوانين تنتظم علوما فيحصل منها زيادة عقل والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف سائر الصنائع. وبيانه أن في الكتابة انتقالا من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس ويكون ذلك دائما فيحل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل ويحصل به قوة فطنة وكيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال ولذلك قال كسرى في كتابه لما رآهم بتلك الفطنة والكيس ديوانه أي شياطين وجنون3. قالوا: وذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة. ويلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في العدد بالضم والتفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعودا للاستدلال والنظر وهو معنى العقل. والله أعلم بالصواب4. الإفهام الرابع: في أوائل ما ظهر من العلم والكتاب اعلم أنه يقال: إن آدم عليه الصلاة والسلام كان عالما بجميع اللغات لقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال الإمام الرازي5: المراد أسماء كل ما خلق الله سبحانه وتعالى من أجناس المخلوقات بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده اليوم وعلم أيضا معانيها وأنزل عليه كتابا وهو كما ورد في حديث أبي ذر6 رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أي كتاب أنزل على آدم؟ قال: "كتاب المعجم" قلت: أي كتاب

_ 1 آخر كلام ابن خلدون في صفحة 1092. 2 انظر هذا الفصل في مقدمة ابن خلدون في صفحة 1105-1106. 3 حنون: مفردها حن: ضرب من الجن. 4 آخر كلام ابن خلدون. 5 سبقت ترجمته ص31. 6 الغفاري، واسمه جندب بن جنادة بن سفيان، صحابي مشهور من كبارهم. توفي سنة 32هـ-652م.

المعجم؟ قال: "أ. ب. ت. ث. ج" قلت: يا رسول الله كم حرفا؟ قال تسعة وعشرون حرفا. الحديث. وذكروا أنه عشر صحف فيها سور مقطعة الحروف وفيها الفرائض والوعد والوعيد وأخبار الدنيا والآخرة وقد بين أهل كل زمان وصورهم وسيرهم مع أنبيائهم وملوكهم وما يحدث في الأرض من الفتن والملاحم ولا يخفى أنه مستبعد عند أصحاب العقول القاصرة وأما من أمعن النظر في الجفر1 ولا حظ شموله على غرائب الأمور فعنده ليس ببعيد سيما في الكتب المنزلة. هكذا قيل ولكن في صحة كتاب الجفر كلام كما بيناه في لقطة العجلان2 وروي أن آدم عليه السلام وضع كتابا في أنواع الألسن والأقلام قبل موته بثلاثمائة سنة كتبها في الطين ثم طبخه فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه من خطه فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي وكان ذلك من معجزات آدم عليه السلام. ذكره السيوطي في المزهر وهذا أبعد مما قبله وفي رواية أن آدم عليه السلام كان يرسم الخطوط بالبنان وكان أولاده تتلقاها بوصيته منه وبعضهم بالقوة القدسية القابلة وكان أقرب عهد إليه إدريس عليه السلام فكتب بالقلم واشتهر عنه من العلوم ما لم يشتهر عن غيره ولقب بهرمس الهرامسة والمثلث بالنعمة لأنه كان نبيا ملكا حكيما وجميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما صدرت عنه في قول كثير من العلماء وهو هرمس الأول أعني إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن شيث ابن آدم عليه السلام المتمكن بصعيد مصر الأعلى وقالوا: إنه أول من تكلم في الأجرام العلوية والحركات النجومية وأول من بنى الهياكل وعبد الله تعالى فيها وأول من نظر في الطب وألف لأهل زمانه قصائد في البسائط والمركبات وأنذر بالطوفان ورأى أنه آفة سماوية تلحق الأرض فخاف ذهاب العلم فبنى الأهرام التي في صعيد مصر الأعلى وصور فيها جميع الصناعات والآلات ورسم صفات العلوم والكمالات حرصا على تخليدها ثم كان الطوفان وانقرض الناس فلم يبق علم ولا أثر سوى من في السفينة من البشر وذلك مذهب جميع الناس إلا المجوس فإنهم لا يقولون بعموم الطوفان. ثم أخذ يتدرج الاستئناف والإعادة فعاد ما اندرس من العلم إلى ما كان عليه مع الفضل والزيادة فأصبح مؤسس البينان مشيد الأركان لا زال مؤيدا بالملة الإسلامية إلى يوم الحشر والميزان. والله تعالى أعلم.

_ 1 انظره في الجزء الثاني من الكتاب في مبحث "علم الجفر والجامعة". 2 كتاب للمؤلف.

الفصل الثاني: في منشأ إنزال الكتب واختلاف الناس وانقسامهم

الفصل الثاني: في منشأ إنزال الكتب واختلاف الناس وانقسامهم وفيه: إفصاحات: الإفصاح الأول: في حكمة إنزال الكتب اعلم أن الإنسان لما كان محتاجا إلى اجتماع مع آخر من نوعه في إقامة معاشه والاستعداد لمعاده وذلك الاجتماع يجب أن يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ بالتمانع ما هو له ويحصل بالتعاون ما ليس له من الأمور الدنيوية والأخروية وكان في كثير منها مالا طريق للعقل إليه وإن

كان فيه فبأنظار دقيقة لا تتيسر إلا لواحد بعد واحد اقتضت الحكمة الإلهية إرسال الرسل وإنزال الكتب للتبشير والإنذار وإرشاد الناس إلى ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي الملة والطريق الخاص الذي يصل به إلى هذه الهيئة هو المنهاج والشريعة فالشريعة ابتدأت من نوح عليه السلام والحدود الأحكام ابتدأت من آدم وشيث وإدريس عليهم السلام وختمت بأتمها وأكلمها فمن الناس من آمن بهم واهتدى ومنهم من اختار الضلالة على الهدى فظهر اختلاف الآراء والمذاهب من الكفار والفرق الإسلامية {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} . الإفصاح الثاني: في أقسام الناس بحسب: المذاهب والديانات اعلم أن التقسيم الضابط أن يقال: إن من الناس من لا يقول بمحسوس ولا بمعقول وهم السوفسطائية فإنهم أنكروا حقائق الأشياء ومنهم من يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول وهم الطبيعية كل منهم معطل لا يرد عليه فكره براد ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد ولا يرشده ذهنه إلى معاد قد ألف المحسوس وركن إليه وظن أن لا عالم وراء العالم المحسوس ويقال لهم الدهريون أيضا فإنهم يثبتون معقولاً. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ولا يقول بحدود ولا أحكام وهم الفلاسفة فكل منهم قد رقى عن المحسوس وأثبت المعقول لكنه لا يقول بحدود وأحكام وشريعة وإسلام ويظن أنه إذا حصل له المعقول وأثبت للعالم مبدأ ومعادا وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه فيكون سعادته على قدر إحاطته وعلمه وشقاوته بقدر جهله وسفاهته وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة. وهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأول دهرية وطبيعية وإلهية لا الذين أخذوا علومهم عن مشكاة النبوة. ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود الأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام وهم الصابئة فهم قوم يقرب من الفلاسفة ويقولون بحدود وأحكام عقلية ربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيد بالوحي إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم وما تعدوا إلى الآخر وهؤلاء هم الصابئة الأولى الذين قالوا بغازيمون وهرمس وهما شيث وإدريس عليهما السلام ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء. ومنهم من يقول هذه كلها شريعة ما وإسلام ولا يقول بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم - وهم المجوس والنصارى واليهود. ومنهم من يقول بهذه كلها وهم المسلمون وكانوا عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على عقيدة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ثم نشأ الخلاف فيما بينهم أولا في أمور اجتهادية وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين كاختلافهم في التخلف عن جيش أسامة وفي موته - صلى الله عليه وسلم - وفي موضع دفنه وفي الإمامة وفي ثبوت الإرث عنه - صلى الله عليه وسلم - وفي قتال مانعي الزكاة وفي خلافة علي ومعاوية وكاختلافهم في بعض الأحكام الفرعية ثم يتدرج ويترقى إلى آخر أيام الصحابة - رضي الله عنهم - فظهر قوم خالفوا في القدر ولم يزل الخلاف يتشعب حتى تفرق أهل الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة كما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من معجزاته ولكن كبار الفرق الإسلامية ثمان وهم المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة والناجية ويقال لهم أهل السنة والجماعة هذا ما ذكروه في كتب الفرق.

الإفصاح الثالث: في أقسام الناس بحسب: العلوم اعلم أنهم باعتبار العلم والصناعة قسمان: قسم اعتنى بالعلم فظهرت منهم ضروب المعارف فهم صفوة الله من خلقه وفرقة لم تعتن بالعلم عناية يستحق بها اسمه فالأولى: أمم منهم أهل مصر والروم والهند والفرس والكلدانيون واليونانيون والعرب والعبرانيون. والثانية: بقية الأمم لكن الأنبه منهم الصين والترك. وفي الملل والنحل: إن كبار الأمم أربعة: العرب والعجم والروم والهند ثم إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية. والعجم والروم يتقاربان على مذهب واحد وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية. انتهى. وفي بيان هذه الأمم: تلويحات التلويح الأول: في أهل الهند اعلم أن لون الهندي وإن كان في أول مراتب السودان فصار بذلك من جبلتهم إلا أنه سبحانه وتعالى جنبهم سوء أخلاق السودان ودناءة شيمهم وسفاهة أحلامهم وفضلهم على كثير من السمر والبيض وعلل ذلك بعض أهل التنجيم بأن زحل وعطارد يتوليان بالقسمة لطبيعة الهند فلولاية زحل اسودت ألوانهم ولولاية عطارد خلصت عقولهم ولطفت أذهانهم فهم أهل الآراء الفاضلة والأحلام الراجحة لهم التحقق بعلم العدد والهندسة والطب والنجوم والعلم الطبيعي والإلهي. فمنهم براهمة: وهي فرقة قليلة العدد ومذهبهم إبطال النبوات وتحريم ذبح الحيوان. ومنهم صابئة وهم جمهور الهند ولهم في تعظيم الكواكب وأدوارها آراء ومذاهب والمشهور في كتبهم مذهب السندهند أي دهر الدهر ومذهب الأرجهيز ومذهب الأركند ولهم في الحساب والأخلاق والموسيقى تأليفات التلويح الثاني: في الفرس. وهم أعدل الأمم وأوسطهم دارا وكانوا في أول أمرهم موحدين على دين نوح - عليه السلام - إلى أن تمذهب طهمورث بمذهب الصابئين وقسر الفرس على المتشرع به فاعتقدوه نحو ألف سنة إلى أن تمسجوا جميعا بسبب زرادشت ولم يزالوا على دينه قريبا من ألف سنة إلى أن انقرضوا ولخواصهم عناية بالطب وأحكام النجوم ولهم أرصاد ومذاهب في حركاتها واتفقوا على أن أصح المذاهب في الأدوار مذهب الفرس ويسمى سني أهل فارس وذلك أن مدة العالم عندهم جزء من اثني عشر ألفا من مدة السند هند وهي أن السيارات وأوجاتها وجوز هراتها تجتمع كلها في رأس الحمل في كل ستة وثلاثين ألف سنة شمسية مرة واحدة ولهم في ذلك كتب جليلة وفي كتاب الفهرس1 يقال: إن أول من تكلم بالفارسية كيومرث وتسميه الفرس كل شاه أي ملك الطين وهو عندهم آدم أبو البشر - عليه السلام وأول من كتب

_ 1 انظر الفهرس ص12 ط أروبا.

بالفارسية بيوراسب المعروف بالضحاك وقيل أفريدون وقال ابن عبدوس1 في كتاب الوزراء: كانت الكتب والرسائل قبل ملك كشتاسب قليلة ولم يكن لهم اقتدار على بسط الكلام وإخراج المعاني من النفوس ولما ظهر ملك زرادشت صاحب شريعة المجوس وأظهر كتابه العجيب بجميع اللغات وأخذ الناس بتعلم الخط والكتاب فزادوا ومهروا وقال ابن المقفع: لغات الفارسية: الفهلوية والدرية والفارسية والخوزية والسريانية. أما الفهلوية: فمنسوبة إلى فهلة اسم يقع على خمسة بلدان وهي: أصفهان والري وهمذان ونهاوند وأذربيجان. وأما الدرية: فلغة المدائن وبها كان يتكلم من بباب الملك وهي منسوبة إلى الباب لأن الباب بالفارسية در والغالب عليها من لغة أهل خراسان والمشرق لغة أهل بلخ. فأما الفارسية: فيتكلم بها الموابذة والعلماء وهي لغة أهل فارس وأما الخوزية: فبها كان يتكلم الملوك والأشراف في الخلوة مع حاشيتهم. وأما السريانية: فكان يتكلم بها أهل السواد والمكاتبة في نوع من اللغة بالسرياني فارسي وللفرس ستة أنواع من الخطوط وحروفهم مركبة من: أبجد هوزي كلمن سف رش ثخذغ فالتاء المثناة والحاء المهملة والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والقاف سواقط. التلويح الثالث: في الكلدانيين وهم أمة قديمة مسكنهم أرض العراق وجزيرة العرب منهم النماردة ملوك الأرض بعد الطوفان وبخت نصر منهم ولسانهم سرياني ولم يبرحوا إلى أن ظهر عليهم الفرس وغلبوا مملكتهم وكان منهم علماء وحكماء متوسعون في الفنون ولهم عناية بأرصاد الكواكب وإثبات الأحكام والخواص ولهم هياكل وطرائق لاستجلاب قوى الكواكب وإظهار طبائعها بأنواع القاربين فظهرت منهم الأفاعيل الغريبة من إنشاء الطلسمات وغيرها ولهم مذاهب نقل منها بطليموس في المجسطي2 ومن أشهر علمائهم: أبرخس واطصفن وفي الفهرس3 أن النبطي أفصح من السرياني وبه كان يتكلم أهل بابل وأما النبطي الذي يتكلم به أهل القرى فهو سرياني غير فصيح وقيل: اللسان الذي يستعمل في الكتب الفصيحة بلسان أهل سوريا وحران وللسريانيين ثلاثة أقلام أقدم الأقلام ولا فرق بينه وبين العربي في الهجاء إلا أن الثاء المثلثة والخاء والذال والضاد والظاء والغين كلها معجمات سواقط وكذا اللام ألف وتركيب حروفها من اليمين إلى اليسار. التلويح الرابع: في أهل يونان هم أمة عظيمة القدر بلادهم بلاد روم إيلي وأناطولي وقرامان.

_ 1 هو الجهشياري، محمد بن عبدوس بن عبد الله الكوفي الجهشياري، مؤرخ من الكتاب المترسلين، وله تصانيف. توفي سنة 331هـ - 943م. 2 كلمة يونانية معناها الترتيب وهو كتاب ألفه بطليموس الفلوزي الحكيم، يذكر فيه القواعد التي يتوسل بها في إثبات الأوضاع الفلكية والأرضية بأدلتها التفصيليه، وقد عربه حنين بن إسحاق. 3 للنديم معروف.

وكانت عامتهم صابئة عبدة الأصنام وكان الإسكندر منهم الذي أجمع ملوك الأرض على الطاعة لسلطانة وبعده البطالسة إلى أن غلب عليهم الروم وكان علماؤهم يسمون فلاسفة إلهيين أعظمهم خمسة: بندقليس كان في عصر داود - عليه السلام - ثم فيثاغورس ثم سقراط ثم أفلاطون ثم أرساطاطاليس. ولهم تصانيف في أنواع الفنون وهم من أرفع الناس طبقة وأجل أهل العلم منزلة لما ظهر منهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة من العلوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والإلهية والسياسات المنزلية والمدنية وجميع العلوم العقلية مأخذوة عنهم ولغة قدمائهم تسمى الإغريقية وهي من أوسع اللغات ولغة المتأخرين تسمى اللطيني لأنهم فرقتان: الإغريقيون واللطينيون وكان ظهور أمة اليونان في حدود سنة ثمان وستين وخمسمائة من وفاة موسى - عليه السلام - وقبل ظهروا الإسكندر بخمس وأربعين وثمانمائة سنة. التلويح الخامس: في الروم وهم أيضا صابئة إلى أن قام قسطنيطين بدين المسيح وقسرهم على التشرع به فأطاعوه ولم يزل دين النصرانية يقوى إلى أن دخل فيه أكثر الأمم المجاورة للروم وجميع أهل مصر وكان لهم حكماء علماء بأنواع الفلسفة وكثير من الناس يقول: إن الفلاسفة المشهورين روميون والصحيح أنهم يونانيون ولتجاور الأمتين دخل بعضهم في بعض واختلط خبرهم وكلا الأمتين مشهور العناية بالفلسفة إلا أن لليونان من المزية والتفضيل مالا ينكر وقاعدة مملكتهم رومية الكبرى. ولغتهم مخالفة للغة اليونان وقيل لغة اليونان الإغريقية ولغة الروم اللطينية وقلم اليونان والروم من اليسار إلى اليمين مرتب على ترتيب أبجد وحروفهم: ايج وزطي كلمن شعفص قرشت ثخ ظغ فالدال والهاء والحاء والذال والضاد ولام ألف سواقط ولهم قلم يعرف بالساميا ولا نظير له عندنا فإن الحرف الواحد منه يحيط بالمعاني الكثيرة ويجمع عدة كلمات. قال جالينوس في بعض كتبه: كنت في مجلس عام فتكلمت في التشريح كلاما عاما فلما كان بعد أيام لقيني صديق لي فقال: إن فلانا يحفظ عليك في مجلسك أنك تكلمت بكلمة كذا وأعاد علي ألفاظي فقلت من أين لك هذا؟ فقال: إني لقيت بكاتب ما هر بالساميا فكان يسبقك بالكتابة في كلامك وهذا العلم يتعلمه الملوك وجلة الكتاب ويمنع منه سائر الناس لجلالته. كذا قال النديم في الفهرس1. وذكر أيضا: أن رجلا متطببا جاء إليه من بعلبك سنة ثمان وأربعين وزعم أنه يكتب بالساميا قال: فجربنا عليه فأصبناه إذا تكلمنا بعشر كلمات أصغى إليها ثم كتب كلمة فاستعدناها فأعادها بألفاظنا. انتهى. قف: ذكر في السبب الذي من أجله يكتب الروم من اليسار إلى اليمين بلا تركيب أنهم يعتقدون أن سبيل الجالس أن يستقبل المشرق في كل حالاته فإنه إذا توجه إلى المشرق يكون الشمال عن يساره فإذا كان كذلك فاليسار يعطي اليمين فسبيل الكاتب أن يبتدئ من الشمال إلى الجنوب وعلل بعضهم بكون الاستمداد عن حركة الكبد على القلب.

_ 1 انظره ص16.

التلويح السادس: في أهل مصر وهم أخلاط من الأمم إلا أن جمهرتهم قبط وإنما اختلطوا لكثرة من تداول ملك مصر من الأمم كالعمالقة واليونانيين والروم فخفي أنسابهم فانتسبوا إلى موضعهم وكانوا في السلف صابئة ثم تنصروا إلى الفتح الإسلامي وكان لقدمائهم عناية بأنواع العلوم ومنهم هرمس الهرامسة قبل الطوفان وكان بعده علماء بضروب الفلسفة خاصة بعلم الطلسمات والنيرنجات والمرايا المحرقة والكيمياء وكانت دار العلم بها مدينة منف فلما بنى الإسكندر مدينة رغب الناس في عمارتها فكانت دار العلم والحكمة إلى الفتح الإسلامي. فمنهم الإسكندرانيون الذين اختصروا كتب جالينوس وقيل: إن القبط اكتسب العلم الرياضي من الكلدانيين. التلويح السابع: في العبرانيين. وهم بنو إسرائيل وكانت عنايتهم بعلوم الشرائع وسير الأنبياء فكان أحبارهم أعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدء الخليقة وعنهم أخذ ذلك علماء الإسلام لكنهم لم يشتهروا بعلم الفلسفة ولغتهم تنسب إلى عابر بن شالخ والقلم العبراني اليمين إلى اليسار وهو من أبجد إلى آخر قرشت وما بعده سواقط1 وهو مشتق من السرياني. التلويح الثامن: في العرب. وهم فرقتان: بائدة وباقية والبائدة: كانت أمما كعاد وثمود انقرضوا وانقطع عنا أخبارهم والباقية: متفرعة من قحطان وعدنان ولهم حال الجاهلية وحال الإسلام فالأولى: منهم التبابعة والجبابرة ولهم مذهب في أحكام النجوم لكن لم يكن لهم عناية بأرصاد الكواكب ولا بحث عن شيء من الفلسفة وأما سائر العرب بعد الملوك فكانوا أهل مدر ووبر فلم يكن فيهم عالم مذكور ولا حكيم معروف وكانت أديانهم مختلفة وكان منهم من يعبد الشمس والكواكب ومنهم من تهود ومنهم من يعبد الأصنام حتى جاء الإسلام ولسانهم أفصح الألسن وعلمهم الذي كانوا يفتخرون به علم لسانهم ونظم الأشعار وتأليف الخطب وعلم الأخبار ومعرفة السير والأعصار قال الهمداني: ليس يوصل إلى أحد خبر من أخبار العرب والعجم إلا بالعرب وذلك أن من سكن بمكة أحاطوا بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حمير ومسيرها في البلاد وكذلك من سكن الشام خبر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان ومن وقع في البحرين وعمان فعنه أتت أخبار السند والهند وفارس ومن سكن اليمن علم أخبار الأمم جميعا لأنه كان في ظل الملوك السيارة والعرب أصحاب حفظ ورواية ولهم معرفة بأوقات المطالع والمغارب وأنواء الكواكب وأمطارها لاحتياجهم إليه في المعيشة لا على طريق تعلم الحقائق والتدرب في العلوم. وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله سبحانه وتعالى شيئا منه ولا هيأ طباعهم للعناية به إلا نادرا.

_ 1 أي حروف "ثخذ ضظغ".

وقد ذكرنا في لقطة العجلان1 أحوال الأمم الماضية على سبيل الإيجاز فإن شئت فارجع إليه.

الفصل الثالث: في أهل الإسلام وعلومهم

الفصل الثالث: في أهل الإسلام وعلومهم وفيه: إشارات الإشارة الأولى: في صدر الإسلام اعلم أن العرب في آخر عصر الجاهلية حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تفرق ملكها وتشتت أمرها فضم الله سبحانه وتعالى به شاردها وجمع عليه جماعة من قحطان وعدنان فآمنوا به ورفضوا جميع ما كانوا عليه والتزموا شريعة الإسلام من الاعتقاد والعمل ثم لم يلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلا حتى توفي وخلفه أصحابه - رضي الله عنهم - فغلبوا الملوك وبلغت مملكة الإسلام في أيام عثمان بن عفان من الجلالة والسعة إلى حيث نبه - عليه الصلاة والسلام - في قوله: "زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". فأباد الله تعالى بدولة الإسلام دولة الفرس بالعراق وخراسان ودولة الروم بالشام ودولة القبط بمصر فكانت العرب في صدر الإسلام لا تعتني بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها وبصناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم لحاجة الناس طرا إليها وذلك منهم صونا لقواعد الإسلام وعقائده عن تطرق الخلل من علوم الأوائل قبل الرسوخ والإحكام حتى يروى انهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد وقد ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل لاتحاد الكلمة واجتماعها على الأخذ والعمل بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستمر ذلك إلى آخر عصر التابعين ثم حدث اختلاف الآراء وانتشار المذاهب فآل الأمر إلى التدوين والتحصين. الإشارة الثانية: في الاحتياج إلى التدوين اعلم أن الصحابة والتابعين لخلوص عقيدتهم ببركة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرب العهد إليه ولقلة الاختلاف والواقعات وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات كانوا مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام حتى إن بعضهم كره كتابة العلم واستدل بما روي عن أبي سعيد الخدري أنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابة العلم فلم يأذن له وروي عن ابن عباس أنه نهى عن الكتابة وقال: إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال: إني كتبت كتابا أريد أن أعرضه عليك فلما عرض عليه أخذ منه ومحا بالماء فقيل له: لماذا فعلت؟ قال: لأنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم واستدل أيضا بان الكتاب مما يزاد فيه وينقص ويغير والذي حفظ لا يمكن تغييره لأن الحافظ يتكلم بالعلم والذي يخبر عن الكتابة يخبر بالظن والنظر. ولما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة في الأقطار وحدثت الفتن واختلاف الآراء وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء أخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن واشتغلوا بالنظر

_ 1 لمؤلف أبجد العلوم.

والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول وترتيب الأبواب والفصول وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبه بأجوبتها وتعيين الأوضاع والاصطلاحات وتبيين المذاهب والاختلافات وكان ذلك مصلحة عظيمة وفكرة في الصواب مستقيمة فرأوا ذلك مستحبا بل واجبا لقضية الإيجاب المذكور مع قوله - صلى الله عليه وسلم - "العلم صيد والكتابة قيد قيدوا - رحمكم الله تعالى - علومكم بالكتابة" الحديث. قلت: ولعل هذا الحديث لم يصح. الإشارة الثالثة: في أول من صنف في الإسلام. اعلم أنه اختلف في أول من صنف فقيل: الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة وقيل أبو النضر سعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة ست وخمسين ومائة ذكرهما الخطيب البغدادي وقيل ربيع بن صبيح المتوفى سنة ستين ومائة قاله أبو محمد الرامهرمزي ثم صنف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس بالمدينة المنورة وعبد الله بن وهب بمصر ومعمر وعبد الرزاق باليمن وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصرة وهشيم بواسط وعبد الله بن مبارك بخراسان وكان مطمح نظرهم ومطرح بصرهم بالتدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما. الإشارة الرابعة: في اختلاط علوم الأوائل والإسلام اعلم أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية ولما ظهر آل العباس كان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور وكان - رحمه الله تعالى - مع براعته في الفقه مقدما في علم الفلسفة وخاصة في النجوم محبا لأهلها ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع عبد الله المأمون بن الرشيد تمم ما بدأ به جده فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه بقوة نفسه الشريفة وعلو همته المنيفة فداخل ملوك الروم وسألهم وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم وأحضر لها مهرة المترجمين فترجموا له على غاية ما أمكن ثم كلف الناس قراءتها ورغبهم في تعلمها إذ المقصود من المنع هو إحكام قواعد الإسلام ورسوخ عقائد الأنام وقد حصل وانقضى على أن أكثرها مما لا تعلق له بالديانات فنفقت له سوق العلم وقامت دولة الحكمة في عصره وكذلك سائر الفنون فأتقن جماعة من ذوي الفهم في أيامه كثيرا من الفلسفة ومهدوا أصول الأدب وبينوا منهاج الطلب ثم أخذ الناس يزهدون في العلم ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة وجمع الشمل أخرى إلى أن كاد يرتفع جملة وكذا شأن سائر الصنائع والدول فإنها تبتدئ قليلا قليلا ولا يزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود إلى النقصان فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاد النسيان والحق أن أعظم الأسباب في رواح العلم وكساده هو رغبة الملوك في كل عصر وعدم رغبتهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الفصل الرابع: في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع

الفصل الرابع: في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه

وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق ذلك الفن المتناول حاصلا وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفن وبين من هو مبتدئ فيه وبين العامي الذي لم يحصل علما وبين العالم النحرير والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر وغيره كالحساب والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند كل أهل أفق وجيل ويدل أيضا على أن تعليم العلم صناعة لاختلاف الاصطلاحات فيه فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم وإلا لكان واحدا عند جميعهم ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين وكذا أصول الفقه وكذا العربية وكذا كل علم تتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم والعلم واحد في نفسه وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتتاقض الدول فيه وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلا كان في دولة الموحدين بمراكش مستفادا منها ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقر بها وكان تعليمه مفيدا فأخذ عنهما أهل تونس واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلا بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام شارح مقدمة ابن الحاجب وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه فإنه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة وفي مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشدالي وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقن تعليمهم وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة. وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد ونزل ببجاية واتصل سند تعليمه في طلبتها وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشدالي من تلميذه وأوطنها وبث طريقته فيها وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقل من القليل وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في

العلوم وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم. وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين وهذه المدة بالمدارس على التعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة الأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك. وأما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين ولم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية والأدب اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه وأما الفقه بينهم فرسم خلي وأثر بعد عين وأما العقليات فلا أثر لها ولا عين وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران وتغلب العدو على عامتها إلا قليلا بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها والله غالب على أمره. وأما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور واتصال السند فيه وإن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلا أن الله تعالى قد أبدل فيها بأمصار أعظم من تلك وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان وما وراء النهر من المشرق ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب فلم تزل موفورة وعمرانها متصلا وسند التعليم بها قائما فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل وفي سائر الصنائع حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل الغرب وأنهم أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول والسابع فإن الأمزجة فيها منحرفة والنفوس على نسبتها كما مر وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما في تقدم الصنائع ونزيده الآن تحقيقا وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك حتى كأنها حدود لا تتعدى وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جيدا تستعد به لقبول صناعة أخرى ويتهيأ بها العقل لسرعة

الإدراك للمعارف. ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس إذ النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الكيس حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاقه في حقيقة إنسانيته وعقله وليس كذلك وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية مالا يعرفه البدوي فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها الكمال في عقله وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس كذلك فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع والتعليم فإن لها آثارا ترجع إلى النفس وكذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهمه والله يزيد في الخلق ما يشاء وهو إله السموات والأرض. قف: إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة والسبب في ذلك أن تعليم العلم من جملة الصنائع وأن الصنائع إنما تكثر في الأمصار وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لأنه أمر زائد على المعاش فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة كيف زخرت فيها بحار العلم وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتى أربوا على المتقدمين وفاقوا المتأخرين ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة وفقد العلم بها والتعليم وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارته مستحكمة منذ آلاف من السنين فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت ومن جملتها تعليم العلم وأكد ذلك فيها حفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء ولما يخشى من معاطب الملك وكباته فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركا لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال فكثرت الأوقاف

لذلك وعظمت الغلات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها والله يخلق ما يشاء وهو العليم الحكيم1.

_ 1 في هامش الأصل تعقيب نصه: وكان دار بمملكة الهند بلدة دهلي، ثم جونفور ثم إله آباد ثم بهادر ثم بلجرام وما إليها من القصبات، ثم لكهنو وما ضاهاها من القرى المتصلة بها، زخرت في هذه البلاد بحار العلوم العقلية والنقلية ونفقت أسواقها زمناً طويلاً حين كانت بها سلطنة الإسلام، ثم زالت تلك العلوم أهلها بزول دولة الإسلام إلى أن لم يبق منها أثر ولا عين كما قيل: ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام مولوي عبد الصمد مشاوري سلمه الله تعالى.

الباب الثالث: في المؤلفين والمؤلفات والتحصيل

الباب الثالث: في المؤلفين والمؤلفات والتحصيل الترشيح الأول: في أقسام التدوين وأصناف المدونات ... الباب الثالث: في المؤلفين والمؤلفات والتحصيل وفيه: ترشيحات الترشيح الأول: في أقسام التدوين وأصناف المدونات اعلم أن كتب العلم كثيرة لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف ولكن تنحصر من جهة المعنى في قسمين: الأول: إما أخبار مرسلة وهي كتب التواريخ وإما أوصاف وأمثال ونحوها قيدها النظم وهي دواوين الشعر. والثاني: قواعد علوم وهي تنحصر من جهة المقدار في ثلاثة أصناف: الأول: مختصرات تجعل تذكرة لرؤوس المسائل ينتفع بها المنتهي للاستحضار وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة. والثاني: مبسوطات تقابل المختصرات وهذه ينتفع بها للمطالعة والثالث: متوسطات وهذه نفعها عام. ثم إن التأليف على سبعة أقسام: لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها وهي إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه أو شيء ناقص يتممه أو شيء مغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه. وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه أن لا يخلو كتابه من خمس فوائد: استنباط شيء كان معضلا أو جمعه إن كان مفرقا أو شرحه إن كان غامضا أو حسن نظم وتأليف أو إسقاط حشو وتطويل. وشرط في التأليف: إتمام الغرض الذي وضع الكتاب لأجله من غير زيادة ولا نقص وهجر اللفظ الغريب وأنواع المجاز اللهم إلا في الرمز والاحتراز عن إدخال علم في علم آخر وعن الاحتجاج بما

يتوقف بيانه على المحتج به عليه لئلا يلزم الدور وزاد المتأخرون اشتراط: حسن الترتيب ووجازة اللفظ ووضوح الدلالة وينبغي آن يكون مسوقا على حسب إدراك أهل الزمان وبمقتضى ما تدعوهم إليه الحاجة فمتى كانت الخواطر ثاقبة والإفهام للمراد من الكتب متناولة قام الاختصار لها مقام الإكثار وأغنت بالتلويح عن التصريح وإلا فلا بد من كشف وبيان وإيضاح وبرهان ينبه الذاهل ويوقظ الغافل وقد جرت عادة المصنفين بأن يذكروا في صدر كل كتاب تراجم لتعرب عنه سموها الرؤوس وهي ثمانية: الغرض وهو الغاية السابقة في الوهم المتأخرة في الفعل والمنفعة ليتشوق الطبع والعنوان الدال بالإجمال على ما يأتي تفصيله وهو قد يكون بالتسمية وقد يكون بألفاظ وعبارات تسمى براعة الاستهلال والواضع ليعلم قدره ونوع العلم وهو الموضوع ليعلم مرتبته وقد يكون الكتاب مشتملا على نوع من العلوم وقد يكون جزءا من أجزائه وقد يكون مدخلا - كما سبق في بحث الموضوع - ومرتبة ذلك الكتاب أي متى يجب أن يقرأ وترتيبه ونحو التعليم المستعمل فيه وهو بيان الطريق المسلوك في تحصيل الغاية. وأنحاء التعليم: خمسة: الأول: التقسيم والقسمة المستعملة في العلوم قسمة العام إلى الخاص وقسمة الكل إلى الجزء أو الكلي إلى الجزئيات وقسمة الجنس إلى الأنواع وقسمة النوع إلى الأشخاص وهذه قسمة ذاتي إلى ذاتي وقد يقسم الكلي إلى الذاتي والعرضي والذاتي إلى العرضي والعرضي إلى الذاتي والعرضي إلى العرضي والتقسيم الحاصر هو المردد بين النفي والإثبات. والثاني: التركيب وهو جعل القضايا مقدمات تؤدي إلى المعلوم. والثالث: والتحليل وهو إعادة تلك المقدمات. والرابع: التحديد وهو ذكر الأشياء بحدودها الدالة على حقائقها دلالة تفصيلية والخامس: البرهان وهو قياس صحيح عن مقدمات صادقة وإنما يمكن استعماله في العلوم الحقيقية وأما ما عداها فيكتفي بالإقناع.

الترشيح الثاني: في الشرح وبيان الحاجة إليه والأدب فيه

الترشيح الثاني: في الشرح وبيان الحاجة إليه والأدب فيه اعلم أن كل من وضع كتابا إنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشرح لأمور ثلاثة: الأمر الأول: كمال مهارة المصنف فإنه لجودة ذهنه وحسن عبارته يتكلم على معان دقيقة بكلام وجيز كاف في الدلالة على المطلوب وغيره ليس في مرتبته فربما عسر عليه فهم بعضها أو تعذر فيحتاج إلى زيادة بسط في العبارة لتظهر تلك المعاني الخفية ومن ههنا شرح بعض العلماء تصنيفه. الأمر الثاني: حذف بعض مقدمات الأقيسة اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر أو أهمل ترتيب بعض الأقيسة فأغفل علل بعض القضايا فيحتاج الشارح إلى أن يذكر المقدمات المهملة ويبين ما يمكن بيانه في ذلك العلم ويرشد إلى أماكن فيما لا يليق بذلك الموضع من المقدمات ويرتب القياسات ويعطي علل ما لم يعط المصنف. الأمر الثالث: احتمال اللفظ لمعان تأويلية أو لطافة المعنى عن أن يعبر عنه بلفظ يوضحه أو للألفاظ

المجازية واستعمال الدلالة الالتزامية فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في بعض التصانيف مالا يخلو البشر عنه من السهو والغلط والحذف لبعض المهمات وتكرار الشيء بعينه بغير ضرورة إلى غير ذلك فيحتاج أن ينبه عليه. ثم إن أساليب الشرح على ثلاثة أقسام: الأول: الشرح ب قال أقول ك شرح المقاصد وشرح الطوالع للأصفهاني وشرح العضد وأما المتن فقد يكتب في بعض النسخ بتمامه وقد لا يكتب لكونه مندرجا في الشرح بلا امتياز. الثاني: الشرح بقوله ك شرح البخاري لابن حجر والكرماني ونحوهما وفي أمثاله لا يلتزم المتن وإنما المقصود ذكر المواضع المشروحة ومع ذلك قد يكتب بعض النساخ متنه تماما إما في الهامش وإما في المسطر فلا ينكر نفعه. والثالث: الشرح مزجا ويقال له: شرح ممزوج تمزج فيه عبارة المتن والشرح ثم تمتاز إما بالميم والشين وإما بخط يخط فوق المتن وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين وغيرهم لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط. ثم إن من آداب الشارح وشرطه: أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه بقدر الاستطاعة ويذب عما قد تكفل إيضاحه بما يذب به صاحب تلك الصناعة ليكون شارحا غير ناقض وجارح ومفسرا غير معترض اللهم إلا إذا عثر على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح متمسكا بذيل العدل والإنصاف متجنبا عن الغي والاعتساف لأن الإنسان محل النسيان والقلم ليس بمعصوم من الطغيان فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه سالما من العيب محفوظا له عن ظهر الغيب حتى يلام في خطئه فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقا ويكني بمثل: قيل وظن ووهم وأعترض وأجيب وبعض الشراح والمحشي أو بعض الشروح والحواشي ونحو ذلك من غير تعيين كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين فإنهم تأنقوا في أسلوب التحرير وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين بأمثال ما ذكر تنزيها لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم وتعظيما لحقهم وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين لا من الراسخين وإن لم يمكن ذلك قالوا: لأنهم لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة وأجابوا عن لمز بعضهم بأن ألفاظ كذا وكذا ألفاظ فلان بعبارته بقولهم: إنا لا نعرف كتابا ليس فيه ذلك فإن تصانيف المتأخرين بل المتقدمين لا تخلو عن مثل ذلك لا لعدم الاقتدار على التغيير بل حذرا عن تضييع الزمان فيه وعن مثالبهم بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم بأنه إن أتفق فهو من توارد الخواطر كما في تعاقب الحوافر على الحوافر.

الترشيح الثالث: في أقسام المصنفين وأحوالهم

الترشيح الثالث: في أقسام المصنفين وأحوالهم اعلم أن المؤلفين المعتبرة تصانيفهم فريقان: الأول: من له في العلم ملكة تامة ودربة كافية وتجارب وثيقة وحدس صائب وفهم ثاقب.

فتصانيفهم عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي ك النصير1 والعضد والسيد والسعد والجلال وأمثالهم فإن كلا منهم يجمع إلى تحرير المعاني تهذيب الألفاظ وهؤلاء أحسنوا إلى الناس كما أحسن الله سبحانه وتعالى إليهم وهذه لا يستغني عنها أحد. والثاني: من له ذهن ثاقب وعبارة طلقة طالع الكتب فاستخرج دررها وأحسن نظمها وهذه ينتفع به المبتدئون والمتوسطون. ومنهم من جمع وصنف للاستفادة لا للإفادة فلا حجر عليه بل يرغب إليه إذا تأهل فإن العلماء قالوا: ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخرج والتصنيف فيما فهمه منه إذا احتاج الناس إليه بتوضيح عبارته غير مائل عن المصطلح مبينا مشكله مظهرا ملتبسه كي يكسبه جميل الذكر وتخليده إلى آخر الدهر. فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله إذا شرع ويصرف إليه كل شغله قبل أن يمنعه مانع عن نيل ذلك الشرف. ثم إذا تم لا يخرج ما صنفه إلى الناس ولا يدعه عن يده إلا بعد تهذيبه وتنقيحه وتحريره وإعادة مطالعته فإنه قد قيل: الإنسان في فسحة من عقله وفي سلامة من أفواه جنسه ما لم يضع كتابا أو لم يقل شعرا وقد قيل: من صنف كتابا فقد استشرف للمدح والذم فإن أحسن فقد استهدف من الغيبة والحسد وإن أساء فقد تعرض للشتم والقذف. قالت الحكماء: من أراد أن يصنف كتابا أو يقول شعرا فلا يدعوه العجب به وبنفسه إلى أن ينتحله ولكن يعرضه على أهله في عرض رسائل أو أشعار فإن رأى الأسماع تصغي إليه ورأى من يطلبه انتحله وادعاه وإلا فليأخذ في غير تلك الصناعة. قف: ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقا ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار ولله در القائل في نظمه: قل لمن لا يرى المعاصر شيئا ... ويرى للأوائل التقديما إن ذاك القديم كان حديثا ... وسيبقى هذا الحديث قديما واعلم أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما لم يدخر لكثير من المتقدمين فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر بل القول الصحيح الظاهر: كم ترك الأول للآخر فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته لا لقدمه وحدوثه ويقال: ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئا لأنه

_ 1 في هامش الأصل تعليق نصه: "التمثيل بالنصير وأمثاله ليس عندنا على ماينبغي، لأن غالب تصانيفهم على طريقة المتكلمة والفضلاء، فالمثال هنا بتصانيف ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وأمثال هؤلاء الكرام مما ينفع الإسلام واهله في الدنيا والآخرة بخلاف تصانيف تلك الطائفة التي قل نفعها للأنام، والله يعلم وأنتم لا تعلمون 12 منه-ح". والنصير: هو النصير الطوسي المتوفى سنة 672هـ. والعضد: هو عضد الدين الإيجي المتوفى سنة 756هـ. والسيد: هو السيد الشريف الجرجاني وقد مرت ترجمته ص23 والسعد: هو سعد الدين التفتازاني ومرت ترجمته 43والجلال: هو جلال الدين الدواني وقد مرت ترجمته ص36.

يقطع الآمال عن العلم ويحمل على التقاعد عن التعلم فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر وهو خطر عظيم وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها كما قال صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمة مباركة لا يدري أو لها خيرا وآخرها" وقال ابن عبد ربه في العقد1 إني رأيت آخر كل طبقة واضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب أهذب لفظا وأسهل لغة وأحكم مذاهب وأوضح طريقة من الأول لأنه ناقض متعقب والأول باد متقدم انتهى. وروي أن خواجه زاده كان يقول: ما نظرت في كتاب أحد بعد تصانيف السيد الشريف الجرجاني2 بنية الاستفادة وذكر صاحب الشقائق3 في ترجمة شمس الدين الفناري: أن الطلبة إلى زمانه كانوا يعطلون يوم الجمعة يوم الثلاثاء فأضاف إليهما يوم الاثنين للاشتغال بكتابة تصانيف العلامة التفتازاني - رحمه الله - وتحصيلها انتهى.

_ 1 في هامش الأصل: "هذا الكتاب قد طبع بهذا العهد بمصر في مجلدات" سيد على حسن خان ولد المؤلف سلمه الله. 2 في هامش الأصل: "قلت: ومن فاز يوماً من أيام الدهر بتصانيف شيخنا الشوكاني ومن حذا حذوه وكان من أهل الورع والإنصاف لم يحتج إلى غيره في شيء من علوم الدين إن شاء الله تعالى". 3 هو: الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية، لأحمد بن مصطفى المعروف بطاشكبري زاده المتوفى سنة 968هـ.

الترشيح الرابع: في بيان مقدمة العلم ومقدمة الكتاب

الترشيح الرابع: في بيان مقدمة العلم ومقدمة الكتاب اعلم أن المقدمة - بكسر الدال المشددة وفتحها - تطلق على معان: منها ما يتوقف عليه الشيء وسواء كان التوقف عقليا أو عاديا أو جعليا وهي في عرف اللغة صارت اسما لطائفة متقدمة من الجيش وهي في الأصل صفة من التقديم بمعنى التقدم. ولا يبعد أن يكون من التقديم المتعدي لأنها تقدم أنفسها بشجاعتها على أعدائها في الظفر ثم نقلت إلى ما يتوقف عليه الشيء وهذا المعنى يعم جميع المعاني الآتية. ومنها ما يتوقف عليه الفعل يؤيد ذلك ما قال السيد السند في حاشية العضدي في مسائل الوجوب في بحث الحكم المقدمة عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: ما يتوقف عليه الفعل عقلا كترك الأضداد في فعل الواجب وفعل الضد في الحرام وتسمى مقدمة عقلية وشرطا عقليا. وما يتوقف عليه الفعل عادة كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه كله وتسمى مقدمة عادية وشرطا عاديا وما لا يتوقف عليه الفعل بأحد الوجهين لكن الشارع يجعل الفعل موقوفا عليه وصيره شرطا له كالطهارة للصلاة وتسمى مقدمة شرعية وشرطا شرعيا1 انتهى. ومنها ما يتوقف عليه صحة الدليل بلا واسطة كما هو المتبادر فلا ترد الموضوعات والمحمولات. وأما المقدمات البعيدة للدليل فإنما هي مقدمات لدليل مقدمة الدليل ومنها قضية جعلت جزء قياس أو حجة وهذان المعنيان مختصان بأرباب المنطق ومستعملان في مباحث القياس صرح بذلك المولوي عبد الحكيم في حاشية شرح الشمسية

_ 1 بإزائها في هامش الأصل التعليق: "وذلك لأنه إن لم يرد السيد السند بالمقدمة ما ذكرنا لا يصح الحصر في الأقسام الثلاثة كما لا يخفى" "12 منه رحمه الله".

وهي على قسمين: قطعية تستعمل في الأدلة القطعية وهي سبع: الأوليات والفطريات والمشاهدات والمجربات والمتواترات والحدسيات والوهميات في المحسوسات وظنية تستعمل في الإمارة وهي أربع: المسلمات والمشهورات والمقبولات والمقرونة بالقرائن كنزول المطر بوجود السحاب الرطب كذا يستفاد من شرح المواقف. والمراد بالقياس ما يتناول الاستقراء والتمثيل أيضا وإردافه بلفظ أو حجة لدفع توهم اختصاص القياس بما يقابلهما. وقيل: أو للتنبيه على اختلاف الاصطلاح فقيل إنها مختصة بالحجة وقيل: يشمل ما جعلت جزءهما وهذا المعنى مبائن للمعنى السابق. وقيل: أخص من الأول كما يستفاد من بعض حواشي شرح المطالع. ومنها ما يتوقف عليه الباحث الآتية فإن كانت تلك المباحث الآتية العلم برمته تسمى مقدمة العلم وإن كانت بقية الباب أو الفصل تسمى مقدمة الباب أو الفصل. وبالجملة تضاف إلى الشيء الموصوف كما في الأطول وقد اشتهر بينهم أن مقدمة العلم ما يتوقف عليه الشروع في ذلك العلم والشروع في العلم لا يتوقف على ما هو جزء منه وإلا لدار بل على ما يكون خارجا عنه. ثم الضروري في الشروع الذي هو فعل اختياري توقفه على تصور العام بوجه ما وعلى التصديق بفائدة تترتب عليه سواء كان جازما أو غير جازم مطابقا أو لا لكن يذكر من جملة مقدمة العلم أمور لا يتوقف الشروع عليها كرسم العلم وبيان موضوعه والتصديق بالفائدة المرتبة المعتد بها بالنسبة إلى المشقة التي لا بد منها في تحصيل العلم وبيان مرتبته وشرفه ووجه تسميته باسمه إلى غير ذلك فقد أشكل ذلك على بعض المتأخرين واستصعبوه فمنهم من غير تعريف المقدمة إلى ما يتوقف عليه الشروع مطلقا أو على وجه البصيرة أو على وجه زيادة البصيرة ومنهم من قال: الأولى أن يفسر مقدمة العلم بما يستعان به في الشروع وهو راجع إلى ما سبق لأن الاستعانة في الشروع إنما تكون على أحد الوجوه المذكورة ومنهم من قال: لا يذكر في مقدمة العلم ما يتوقف عليه الشروع وإنما يذكر في مقدمة الكتاب وفرق بينهما بأن مقدمة العلم ما يتوقف عليه مسائله ومقدمة الكتاب طائفة من الألفاظ قدمت أمام المقصود لدلالتها على ما ينفع في تحصيل المقصود سواء كان مما يتوقف المقصود عليه فيكون مقدمة العلم أو لا فيكون من معاني مقدمة الكتاب من غير أن يكون مقدمة العلم وأيد ذلك القول بأنه يغنيك معرفة مقدمة الكتاب عن مظنة أن قولهم: المقدمة في بيان حد العلم والغرض منه وموضوعه من قبيل جعل الشيء ظرفا لنفسه وعن تكلفات في دفعه فالنسبة بين المقدمتين هي المباينة الكلية والنسبة بين ألفاظ مقدمة العلم ونفس مقدمة الكتاب عموم من وجه لأنه اعتبر في مقدمة الكتاب التقدم ولم يعتبر التوقف واعتبر في مقدمة العلم التوقف ولم يعتبر التقدم وكذا بين مقدمة العلم ومعاني مقدمة الكتاب عموم من وجه. وقال صاحب الأطول1: والحق أنه لا حاجة إلى التغيير فإن كلا مما يذكر في المقدمة مما يتوقف عليه شروع في العلم هو إما أصل الشروع في العلم أو شروع على وجه البصيرة أو شروع على وجه زيادة البصيرة. فيصدق على الكل ما يتوقف عليه

_ 1 انظر التعريف به قي ص43.

شروع ولحمل الشروع على ما هو في معنى المنكر مساغ أيضا كما في: ادخل السوق انتهى. وههنا أبحاث تركناها مخافة الإطناب فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بالرجوع إلى شروح التلخيص1. قال الشيخ رفيع الدين الدهلوي2 في رسالته في هذا الباب: المقدمة تطلق على أمور جزء من أجزاء الكتاب عنون بهذا اللفظ وجزء كذلك يعنون مثله به وإن لم يعنون بذلك اللفظ وما يستحق أن يقدم سواء قدم وعنون بها أو لا وهذا يسمى بمقدمة العلم والأول بل الأولان بمقدمة الكتاب فيفسر مقدمة الكتاب بما يفسر به الكتاب من الألفاظ والمعاني والنقوش وإن كان الثالث مجازيا في مثل: اشتريت الكتاب. وهذا كتاب فلان ولا يلتفت إليه في مثل: صنفت الكتاب وقرأته وهذا كتاب جيد متين ومتن وشرح وحاشية وتفسر مقدمة العلم بما يفسر به العلم من الإدراك والمدركات فيتحقق بينهما نسب مختلفة كالمتباين صدقا أو الكلية والجزئية أو العموم والخصوص المطلق كما إذا اشتمل مقدمة الكتاب على غير مقدمة العلم أيضا والعموم من وجه إذا لم يقدم مقدمة العلم وقدم شيء من غيرها. هذا هو الكلام على العرف المشهور والذي يقتضيه النظر الصحيح أن يسمى بمقدمة الكتاب ماله دخل في خصوص الكتاب وبمقدمة العلم ماله دخل في العلم مطلقا. ويجتمعان إذا لم يكن مدخل في خصوص الكتاب إلا لما له دخل في العلم. وتحقيقهما باعتبار هذا النظر أن يقال: قد تبين في العلم الأعلى أن العلم التام بالأشياء ذوات الأسباب إنما يحصل بمعرفة عللها التامة وهي مجموع العلة الفاعلية والغائية والمادية والصورية وسائر ما يتوقف عليه حصول الشيء من الشروط والآلات والمعدات القريبة ونحو ذلك فيما يوجد فيه جميعها وبعضها فيما يوجد فيه بعضها فنقول: إن المتقدمين لما أفرزوا من نتائج أفكارهم الأحكام المتعلقة لشيء واحد وحدة ما من جهة واحدة علوما متفرزة وشحنوا بها كتبهم وأرادوا بقاءها على مر الأعصار وعلموها تلامذتهم قرنا بعد قرن حتى وصلت إلينا فاستحسنوا تقديم بعض مبادئها عليها ليكون تسهيلا لطالبيها وتبصرة لشارعيها وقد علمت وجه الضبط فاعلم أن ههنا أمرين أحدهما: العلم بما هو هو وذلك عبارة عن مسائل مخصوصة ومطالب معينة. وثانيهما: الكتاب وهو عبارة عن ألفاظ مقررة ومعان مرتبة. وربما كان كتاب واحد في علوم متعددة أو كتب متعددة في علم واحد ورب علم لم يدون 1 / 201 في كتاب أو كتاب لم يشتمل على علم بل على مسائل متفرقة وأحاديث ملهية من نظم أو نثر. وأيضا هما يختلفان في أمور كثيرة: كالمنفعة والمضرة والجودة والرداءة والضعف والقوة وغيرها ونسبة الكتاب بمعانيه إلى العلم كنسبة العلم

_ 1 تلخيص المفتاح في العلوم والبيان: كتاب لخص فيه جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني المتوفى سنة 739هـ، القسم الثاث من "مفتاح العلوم" للسكاكي في علوم البلاغة، وللتخليص شروح كثيرة عليها حواش عديدة. انظر الكشف 1/473. 2 في هامش الأصل: "هو أسناد سيدي الوالد_ح". وهو رفيع الدين بن ولي الله بن عبد الرحيم العمري الدهلوي المتوفى سنة 1233هـ = 1817م.

إلى الواقع بالمطابقة واللامطابقة فلكل منهما مبادئ متغايرة. فالأحق أن يجعل لكل منهما مقدمة مغايرة لمقدمة الآخر ويجعل مقدمة العلم من مقاصد الكتاب ولكن من الناس من يجمعهما ومنهم من يكتفي بأحدهما ومنهم من يذكر مقدمة الكتاب في الديباجة ومقدمة العلم في جزء من الكتاب يصدر بالمقدمة ويذكر في كل ما يهمه ويتفق له.. ولكن مقدمة العلم ومقدمة الكتاب في الأغلب داخلتان في الكتاب وذلك لعدم إفرازهما بعناية النظر. ونحن نذكر مبادئ كليهما مع نوع ضبط فنقول: من المبادئ الفاعل أما فاعل العلم حقيقة فأول من أخرجه من القوة إلى الفعل ودونه وفصله كأرسطاطاليس لحكمة المشائين والمنطق وينوب منابه المهرة الذين هم أهل استنباط وتحقيق لقواعده وأما فاعل الكتاب حقيقة فمصنفه وينوب منابه من عليه الاعتماد في روايته وتوجيهه وإصلاحه. ومنها الغاية وهي بيان الحاجة الماسة إلى تدوينه وتصنيفه أما العلوم فلها غاية عامة هي تكمل النفس في القوة العلمية بمعرفتها وغاية خاصة تذكر في كل فن فن. وأما الكتب فلها أيضا غاية عامة وهي تسكين وهج القلب بإيراد ما يختلج فيه وإرادة الترويح والإبقاء كما قيل: كل علم ليس في القرطاس ضاع. وغاية خاصة من توضيح مجمل أو تلخيص مطول أو تعميم انتفاع أو كتم عن رعاع أو إبانة حق أو إزالة شك أو إرضاء عظيم أو تبكيت لئيم إلى غير ذلك ثم إن الغاية في الأفعال الاختيارية تتم بأمرين: معرفة المطلوب حذرا من طلب المجهول المطلق. ومعرفة فائدته فرارا عن العبث. فوضعوا للأول معرفة الاسم ووجه التسمية للكتاب والرسم أيضا للعلم. والثاني: بيان الفائدة والمضرة ترغيبا في تحصيله ومعالجة عن إفساده ومنها المادة والصورة وعلمهما بالحقيقة إنما يكون بعد إتمام تحصيل العلم والكتاب لأن الصورة جزء آخر للمعلول والمادة مقارنة لها بل حصولهما هو عين حصول المعلول وذلك مناف لغرض المقدمة فأقاموا مقامها شيئين آخرين: أما مقام المادة فللعلم بيان موضوعه الذي تنتهي إليه موضوعات مسائله كأنها شعب وتفصيلات ولواحق عارضة له وبيان حيثية البحث الذي تنتهي إليه محمولات المسائل كذلك. والكتاب بيان لغة ألفاظه أنها عربية أو فارسية وهي كثيرا ما تكون قليلة الجدوى. وبيان العلم الذي هو فيه فإن التحرير والتقرير إنما يقع فيه على صور شتى ووجوه مختلفة. وأما مقام الصورة فللعلم بيان أبوابه والإشارة إلى كليات أصوله وفروعه وللكتاب بيان ترتيبه وتفصيل أجزائه من المقالات والأبواب والفصول وغيرها وفهرستها. ومنها الشروط فبعضها عامة لكل علم في المعلم والمتعلم وزمان التعليم والتصنيف. وقد حرر فيه رسائل تسمى آداب المتعلمين وآداب المصنفين. وبعضها خاصة فلكل طائفة من العلوم معلومات ما لم تعلم لم يعلم ولم يصح الجزم به مالم تستعمل وتسمى بالحدود. والعلوم المتعارفة والمصادرات والأصول الموضوعة. ولبعض الكتب رموز واصطلاحات ما لم تعلم أشكل فهم الكتاب ومنها الآلات فإن الفاعل القريب لاكتساب العلوم هي الأفكار ولها طرق ووجوه يسهل التحصيل بها يسمى الأنحاء

التعليمية وهي: التقسيم والتحليل والتحديد والبرهان. وللكتب شروح وحواش يسهل فهمها بأعمالها ومنها المعدات القريبة فيبين مرتبة العلم لتأخر عما يجب وتقدم على ما يجب وكذلك مرتبة الكتاب وبيان الكتب التي منها مأخذ الكتاب والعلوم التي يحصل منها استعداد العلم المطلوب. فهذا وجه لضبطها. وسائر المصنفين يكتفون ببعضها لما مر ولأن منها ما يكفي مؤنة غيرها ولكن توسعة للأمر قد يحث على استيفائها والعلم عند الله تعالى انتهى كلامه - رحمه الله.

الترشيح الخامس: في التحصيل

الترشيح الخامس: في التحصيل قال الشيخ العلامة رفيع الدين الدهلوي1 في التكميل: غلب في تحصيل المجهولات التعلم على التفكر ولم يكن له قانون فدون والدي العارف الواصل والنحرير الكامل الشيخ ولي الله ابن الشيخ عبد الرحيم العمري لمزاولة الكتب تعليما ضوابط فأضفت إليه ما وفقني الله سبحانه وهي هذه: فتح فن التحصيل موضوعه العلوم المدونة من حيث تستفاد وتفاد. وغايته الخوض فيها على بصيرة والنجاة عن سوء الفهم لقاصدها وتمييز لبابها عن ذبابها وكسب الاقتدار والمهارة فيها وتفريق كامل الكتاب والمعلم من نقاصهما فليرسم بأحدهما وتكمل الناس في العلوم بدونه لا ينفي فائدته كمجتهدي الأمة وأساطين الحكمة ومدققي الهنود والإفرنج من المنطق ونظره في خمسة فإن التعلم بالتقرير ممن ينكر عليه مناظرة وممن يذعن له تدريس2 وتتلمذ3 وبالتحرير تصنيف4 ومطالعة5 بسط المناظرة: توجه الخصمين في مطلب لإظهار الحق والتعرض للبيان أو المبين الحجة أو المعرف فمن الأول: 1 - حل المصطلح والمغلق 2 - تعيين المحذوف والمرجع والمحتمل لاشتراك وتجوز وتخصيص وتقييد 3 - دفع الإخلال لتعقيد وتبادر خلاف 4 - دفع الاستدراك 5 - سبب العدول عن ظاهر ومشهور 6 - تنبيه عن الإضرار بزيادة وتركها 7 - وعلى تعارض الكلامين صريحا أو التزاما 8 - وعلى تداخل الشقوق والأقسام 9 - طلب حكم مسكوت عنه منها

_ 1 سبق التعريف به في ص113. 2 في هامش الأصل: "أي من المعلم". 3 في هامش الأصل: "أي من المتعلم". 4 في هامش الأصل: "من المعلم". 5 هامش الأصل: "من الناظر المتعلم".

10 - خلو المدعى عن الفائدة 11 - استثبات الدعاوي خفية 12 - وظاهرا ويجاب بالبيان 1 - 2 - إفهام القرينة 3 - وفائدة اللفظ 4 - والترجيح 5 - ودفع المضر 6 - والتوفيق 7 - والتمييز ولو في الجملة أو بالحقائق دون المصداق 8 - والدرج 9 - ووجه النفع 10 - والاطلاع 11 - 12 - أو يصلح في الكل ثم الاستدلال أو النقل من الثاني: 1 - تحقيق المذهب 2 - تصحيح النقل 3 - عدم الاعتداد به 4 - تغيير معناه 5 - منع المقدمات كلا أو بعضا كالصغرى والكبرى والملازمة والتنافي والوضع والرفع. 6 - السند إن ادعى البديهة فالمساوي يفيدهما نفيا وإثباتا والأخص المعترض إثباتا والأعم المستدل نفيا. 7 - فساد التأليف لفقد شرطه وعدم تكرر وسط ونفي حصر ويرددان على الشقين كثيراً. 8 - مناسبة الأوسط لضد الأكبر والمقدم لضد التالي. 9 - النقض بالتخلف عن المدعى 10 - وباستلزامه محالا 11 - المصادرة على المطلوب جزئية 12 - وتوقفا ولو باختلاف اللفظ 13 - القول بالموجب لعمومه أي الدليل عن الدعوى 14 - لقصور عنها لخصوصه 15 - المعارضة عليها

16 - وعلى مقدماتها 17 - إبطال المبني وهو غير القدح في دليله وذلك في المقدمات القريبة وأنفع منه لهدمه أساسا ولكن في طرفي المناظرة لئلا يشوش بالانتقال 18 - تساوي الدليل والدعوى قبولا وردا للاشتراك في أصل 19 - استثبات التفاريع عليها بعد الاعتراف تقديرا 20 - مخالفة النص أو إمام الفن ويجاب: 1 - بالإعلام 2 - والعرض 3 - والتوثيق 4 - والترجيح بقرب وشهادة حاذق 5 - والاستدلال 6 - و 7 - التطبيق على القواعد 8 - ونفي المناسبة 9 - والفرق بين الصورتين 10 - و 11 - المتقدمتين 12 - وإبداء وسط يرفع التوقف 13 - وتوجيه التقريب 14 - و 15 - تبديل المنصب 16 - و 17 - أييد المبني بعد تحريره 18 - وقطع التفريع 19 - وتصحيح الفروع برفع الاستبعاد أو الإنكار 20 - والتأويل راجحا والجرح مرجوحا أو مرجوعا عنه لإعمال غيره وعند العجز الانتقال أو الإذعان والثالث أي المعرف لا يحتمل النقض والمعارضة ومنوع الأحكام الضمنية دعاوي يجب إثباتها: 1 - كالدور مصرحا ومضمرا 2 - فمنها للحمل 3 - والتصوري للبديهة والسور 4 - والجلاء مطلقا 5 - والمنع 6 - والجمع وافيا

7 - والتناول 8 - والاندراج للإطباق 9 - ووجه الشبه بالمبائن قاصرا 10 - والذاتية حدا لفقد أحكامها وكله في الخفاء وبعد الظهور مجادلة لا يسامح فيها وقلما يلتزم إثبات شيء التدريس: تفهيم الكتاب باللسان وطريقه للقاصر1 الترجمة فقط فيتبلد الذهنان. وللفالي2 ذكر ما أمكن حفظا ومراجعة فيعسر اليسير بالتعجيل ويطول زمان التحصيل وللمستعجل الاكتفاء بصدور الكتب بالدقة فيحوج إلى شغل ثان للاستيفاء والاقتصار على العد في العلماء وللحاذق من كل علم مبسوط وفي البداية تعليم متن سهل لمعرفة الاصطلاحات وأصول القواعد وشرح مستوف لفوائد القيود والأدلة والأبحاث والاختلافات المشهورة وحاشية لملكة التدقيق جرحا وتعديلا وترجيحا والاعتياد بوصل الخارج وجمع المنتشر فإن احتيج زيد. ومن المختصر ما يكفي 3 وضوابطه: 1 - ضبط المشكل بنوع الحركة والسكون والإعجام والإهمال والتقديم والتأخير 2 - شرح الغريب لغة واصطلاحا 3 - كشف المغلق صيغة وتركيبا 4 - تصوير المسألة بتمثيل4 وتشكيل5 5 - تقريب الأدلة بتصريح المطويات والوصل بالأصل 6 - تحقيق القواعد بفوائد القيود وسد الانكسار بلا فضول ولا إغلاق 7 - تنقيح التعريفات بهما وبالاستنباط المشترك والمميز من التقسيمات 8 - وجه الحصر والترتيب في الأقسام والأبواب 9 - تفريق الملتبسين من التوجيهات والتعليلات والأقوال 10 - تطبيق المختلفين من كلامي واحد ومتحدي مذهب 11 - التنبيه على الاستثناءات والإيرادات الظاهرة الورود ودفعها 12 - تفتيش الحوالة عن محلها 13 - بيان المبهم من وجوه النظر والأولى والصواب والسؤال المقدر 14 - الترجيح بين التوجيهات وإبداء الأسلم والأقرب منها وما علي كل

_ 1 في الهامش: "أي المدرس القاصر". 2 الفالي: العاقل بعد جهل، يريد: من بلغ درجة التعقل والفهم. 3 بإزائها في الهامش: "أي المدراس القاصر". 4 في هامش الأصل: "في القواعد". 5 في هامش الأصل: "فيما يتعلق بالشكل كالهندسة والهيئة وغيرهما".

15 - سبب تغيير الأسلوب المعروف 16 - تعيين السؤال والجواب بنوعه ومنشئه ومورده 17 - حسن التقرير بإيضاح موجز 18 - الترجمة بلغة الطالبين 19 - إعمال فكره في حل ما يمكن منه 20 - حفظ اللسان عن سوء الخلق 21 - حفظ وضع المعترض والمجيب 22 - تلخيص المتشتت 23 - توزيع الفروع والعلل على ملفوف1 أو ملحوظ2 24 - التيقظ عند ترتيب الأسئلة والأجوبة لأصل الإثبات والنفي 25 - الحذر عما يوجب سوء الفهم ويستوي فيه المنقول والمعقول البرهاني والخطابي إلا أن الاعتبار في الأول بتحقيق العبارات والربط أكثر وفي الثاني بالوصل إلى البديهيات أصولا والمسلمات فروعا وفي الثالث بالمناسبات الظنية. فلا يزال ينبه عليها بما يتحمل حتى يتخذه ملكه بفكره ثم يعرض مطالعته على مطالعته وعلى الحواشي ويفهمه الغلط والحذر عنه ثم يمتحنه بتصنيف شرح أو حاشية يؤدي3 فيه حقه ويستحق الوثوق برأيه. التتلمذ: فهم الكتاب بالاستماع وبعد4 الصحة والمعاش ولو بالقناعة والشوق والجد ولو بالتحريص والفهم والحفظ ولو بالجهد والمداومة وحسن الظن مع الأستاذ ولو في الفن والكتاب الواضح الصحيح والأستاذ الماهر الشفيق ولو بالطمع - حقه: 1 - صحة القراءة 2 - وتمييز الجمل 3 - والاستماع بتفريغ القلب 4 - والتثبت في الفهم 5 - واستكشاف ما خفي 6 - وعرض الشبهة بالأدب 7 - وجمع سابق البحث ولاحقه في الذهن 8 - وتقدم النظر ليكون أوقع وعلى بصيرة وفي البداية بحضور المعلم أنفع

_ 1 في الهامش: "في اللف والنشر". 2 في الهامش: "أي مقدر في الذهن غير مذكور". 3 في الهامش: "أي المدرس". 4 في الهامش: "ظرف متعلق بالمبتدا الذي يأتي وهو قوله: حقه".

9 - والمعاودة ليستقر وبالتقرير أجود 10 - والتحفظ للإحضار حيث ينبغي ومع الكتابة أحسن 11 - والامتثال لما يراه أصلح 12 - والاجتناب عما ينقبض به الخاطر 13 - وعن التعرض لبعيد المناسبة 14 - وعن الضجر من الحوالة فيما تعسر جدا فإنه: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود 15 - ولطالب التحقيق سلخ الألفاظ المتخيلة عن صورة للشيء يطابقها جميع صفاته ويلائمها جميع فروعه المتفقة عليها. التصنيف: تأليف الكلام لتحريره نثرا ونظما والمراد ما في1 العلوم فما لم يتعلق بغيره صريحا فمتن أو تعلق متصلا فشرح مدمج أو مفصولا ب قال أقول ونحوها أو على الطفرة فتعليق وحاشية ومن كل وجيز ووسيط وبسيط وله أغراض سياقه بحسبها. 1 - اختراع جديد2 2 - ضبط قديم 3 - ترويج خامل 4 - جمع متفرق 5 - تجريد عن زائد أو فاسد لفظا أو معنى 6 - تتميم بلاحق كاستثناءات وقيود وأمثلة وأدلة ومسائل ومآخذ 7 - إبانة حق بدءا أو نصرا أو ذبا 8 - إزاحة باطل بكشف شبهة أو ضلالة 9 - اشتراك في تفرد 10 - إصلاح ترتيب 11 - تسهيل مغلق بحل أو بسط 12 - انتزاع أصل من منتشر 13 - تفريع شعب لمجمل 14 - تحقيق مقام أو كتاب أو فن بجمع ماله وعليه 15 - تبديل نثر بنظم

_ 1 في هامش الأصل: "أي الكلام الذي في العلوم". 2 في هامش الأصل: "أي الأول من الأغراض".

16 - ولغة بلغة أخرى ودون له والدي - رحمه الله تعالى - قوانين الترجمة. 17 - وتتركب كثيرا1. فبعد إتقان اللغة والفن وسليقة الإيجاز والإطناب يستعان فيه بما مر ففي الشروح والحواشي الحل بضوابط التدريس وفي إعانة الحق بالمنطق وفي الرد بأسئلة المناظرة وفي التوجيه بأجوبتها مع النحو والبلاغة والأصول وفي بعض بسليقة البيان وفي طائفة بالتتبع والتبحر وأمثالها مع مزيد التحفظ في النقل والنقد وحسن التقرير إيجاز أو بسطا بحسب المحل وحفظ الوضع من المذهب والمنصب فإن من صنف استهدف. ويكون لخصوص الكتاب من المقدمات مثل ما في مقدمة العلم مع الزمان والمكان والرموز فليجمعها في واحدة أو ليقدم في الديباجة على مقدمة العلم. المطالعة: النظر في الكتاب بفهم المراد والخلل وبعد اقتناء اللغة والاصطلاح وملكة الترجمة تتمم بأنظار ثلاثة تداخلت أو تعاقبت: الأول: للإحاطة بالمعاني الثانوية وتمييز المذكور عن المتروك وبعض الجمل عن بعض والطرفين عن القيود. والثاني: لمعرفة فوائدها والمعاني الأولية وجديد التصرف وربط الأدلة والأبحاث فيما بينها استقامة واعوجاجا بما في التدريس. والثالث: للنقد بالهدم والتشييد والنقد والترصيف ويفهم المعنى: 1 - بعبارة الكلام من لفظه بلا شبهة قصداً. 2 - وإشارته كذلك ضمنا. 3 - وعمومه لبيان الفردية. 4 - والإدراج فيه لمبينها بعد خفاء لكمال أو نقص أو ثبوت الركن وفقد اللوازم العرفية ونحوها. 5 - وتقديره لمحذوف يشهد له العرف بلا روية. 6 - وإيمائه لترجيح أحد محتمليه بقاطع أو ظني كشهادة كلام ثان له أو عدم اجتماع الأوصاف في غيره وكونه أهم المقاصد. أو أدنى مصداق أو فائدة لولاه لبطل ولغي أو قربه معنى أو مزيد نفعه أو نحوه. 7 - وإشعار من سياقه كالتقديم والتأخير والعدول وجواب الوهم والانطباق والحذف حيث يذكر والإدارة على الوصف والتعقيب بأن في التنزيل شبهها. 8 - ومقامه كالتيسير والتشديد والفخامة والحقارة والتدقيق والمسامحة والاهتمام والتبعية. 9 - وتجوزه لتعذر الحقيقة وقيام القرينة. 10 - وكنايته لعدم وفاء الصريح بالغرض وإن صح. 11 - وتعارفه من زيادة لفظ وبيانية إضافة والتكثير بالواحد والاعتبار لتكرار وعزمه وتعمم خاص وعكسه وإخراج المتكلم من الكلام.

_ 1 في هامش الأصل: "أي الأغراض في كثير من الأوقات".

12 - وبالتزامه بالالتفات إلى ما لا ينفك ذهنا لعلاقة ذاتية كالملكة لعدمها وأحد المتضايفين للآخر أو عادة طبعية كالنور للكواكب والحرارة للنار أو عرفية كالسخاوة لحاتم والشجاعة لرستم1. 13 - ومنافاته لوجوب ارتفاع مقابلة. 14 - واقتضائه لما يتوقف عليه صدقة عقلا أو شرعا أو عادة2 وهما بينان بالمعنى الأعم. 15 - واستلزامه لما يترتب عليه ولا يعرف إلا بممارسة وفكر من غير البين. 16 - وفحواه فيما عليته مناطة وحصوله في الفرع بالعرف واللغة. 17 - والقياس عليه في مثله بالنظر. 18 - واعتباره لاجتماع مباد في الذهن أورثت بسماعه3 ما لا ينقدح لغيره. 19 - ومفهومه المخالف بشروطه حيث يتعين فائدة. 20 - وتأليفه اقترانيا من مقدمتين في أثنائه مشتركتين في جزء واستئناثيا من شرطية أو فرع لأصل مع اعتراف أو إنكار لأحد طرفيها 21 - والاقتصار عليه عن الأبين والأرفق في معرض البيان ويخل به - أي بفهم المعنى - الجهل: 1 - بالموضوع له 2 - والوضع 3 - وخواص التراكيب 4 - والمرجح 5 - والصارف 6 - والقرينة 7 - ثم توجه المفاسد 8 - والحذف 9 - والخلط 10 - والانتشار فبعد سكب السليقة بالتتلمذ يستعان بالفحص عن معادنها والشروح والحواشي وكتب الفن وإمعان الفكر وأعظم نفعها في الكتاب والسنة. هذا ما تيسر لي بفضل الله وله المنة ومن ارتقى إلى الكمال فليزد فيه ما شاء فإن العلوم تتزايد بتلاحق الأفكار والله سبحانه دائم الجود مفيض الأسرار والحمد لله انتهى. كلامه وهو الباب الثاني من كتابه على التمام والكمال. وقال الشيخ العلامة: عليم الله بن عبد الرزاق4 في شرح رسالة المطالعة ما عبارته:

_ 1 رستم: بطل أسطوري عند الفرس. 2 فوقها عبارة: "يعني الكلام". 3 في الهامش: "أي الكلام". 4 لم نهتد إلى التعريف به أو بكتابه.

واعلم أن المطالعة علم يعرف به مراد المحرر بتحريره وغايته الفوز بمراده حقا والسلامة عن الخطأ والتخطئة باطلا. وموضوعه المحرر من حيث هو. فإذا أردت الشروع في المطالعة وهو صرف الفكر في مبحث ليتجلى معناه فانظر وتأمل في المبحث مبتدئا من أوله منتهيا إلى آخره نظرا إجماليا لكن ينبغي أن يكون ذلك النظر على وجه ينتقش في ذهنك جملة المعنى المراد منه فإن انتقش في النظر الأول فذاك وإلا فذلك إما لخفاء في اللغة أو لغط أو لسهو أو لنسيان من النساخ بحذف أو زيادة أو قلب أو تصحيف أو لتعقيد أو لقصور فيك فراجع في الأول إلى كتب اللغة أو إلى من عنده علمها وفي الثاني والثالث والرابع إلى نسخة أصح منها وأما في الأخيرين فانظر نظرا ثانيا أو ثالثا فصاعدا حتى ينتقش المراد ثم بعد الانتقاش لاحظ الأمور التصورية من كل قضية منه أولا فأولا على الترتيب بدقة النظر في تلك الملاحظة واستبصر في كل من تلك الأمور هل يرد على واحد منها أمر من الأمور القادحة فيها أم لا والمراد بالورود ههنا التوجه الذي هو أعم منه وبعد ظهور ذلك الأمر من القوادح استبصر ثانيا هل يمكن دفع ذلك الأمر منها أم لا وبعد ظهر الدافع ثالثا هل يمكن دفع ما يدفع ذلك الدافع أم لا وهكذا إلى حيث يتوطن الذهن وآية التوطن اختبار بتثنية النظر وتثليثه فصاعدا على حسب المقام وبعد الفراغ من تلك الملاحظة لاحظ الأمور التصديقية أيضا بدقة النظر واستبصر في لك منها هل يتوجه على واحد منها شيء من الأشياء التي يقدح فيها أم لا. وبعد ظهور شيء من القوادح استبصر ثانيا هل يسوغ ويمكن التقصي عنها أم لا. وبعد ظهور التقصي عنها ثالثا هل يمكن التقصي عن ذلك التقصي أم لا. وهكذا إلى حيث يحصل التوطن وآيته ههنا آيته هناك. وبعد الفراغ عن تينك الملاحظتين لا حظ الأمور القادحة الموردة التي أوردها عليها1 مورد سواء كانت محررة في شرح أو حاشية أولا والغرض من هذه الملاحظة أن يظهر لك هل هي متوجهة كما هو في زعم المورد أم لا. فإن ظهرت غير متوجهة أصلا فلا تلتفت إليها إلا أن يكون المورد عظيم الشأن معتقد الكل أو الأكثر فهناك القصور فيك لا فيه فتوقف حينئذ واختبر نظرك بتكريره مرة بعد أخرى. ثم بالمطارحة مع الأقران ثم بالعرض على المشائخ والأستاذين فإن أزاحوا شبهتك فذاك وإلا فالتسليم والإحالة إلى وقت فتحه تعالى وإلا فاستبصر في دفعها هل هو ممكن أو لا. وبعد ظهور الدافع يمكن دفع ما يدفعه أم لا. وهكذا إلى حصول التوطن فإذا نظرت في المبحث من أوله إلى آخره على هذا الوجه المذكور فلا يخلو حالك عن أحد هذه الأمور الثلاثة: إما أن لا تكون أنت واجدا ومصيبا لشيء من القوادح أصلا فعدم الوجدان والإصابة إما لقصور ذهنك عن إدراكه أو لعدمه لكمال من حرره في التحرير بحيث لا يتطرق إليه قدح ولا نقص أصلا أو لوقوع تحريره هذا كاملاً. وإما أن تكون أنت واجد الشيء من الأشياء الواردة القادحة المدفوعة التي دفعها الناس أو أمكن دفعها.

_ 1 في هامش الأصل التعليق: "الضمير إما لمطلق الأمور تصورية كانت أو تصديقية أول للأخير فقط وهو الظاهر وترك التعرض لها هناك اكتفاء بها ههنا ولم يعكس مع أن الأغلب الاكتفاء بالسابق عن اللاحق لأن التصديقية مقاصد وأكثر بحثاً وايرداً بالنسبة إلى الأخرى" "منه".

وإما أن تكون أنت واجد الشيء من الأشياء الواردة الغير المدفوعة. ولا قصور في شيء من هذه الأحوال التي هي في المورد الثلاثة المذكورة إلا في الحالة الأولى فإن القصور فيها محتمل كما تقدم. وإذا كانت ناشئة من القصور وظهر لك أن الحالة الأولى منشؤها قصور ذهنك عن دركه فلا تفتر جدك وجهدك في النظر والمطالعة بل استمر واثبت على ذلك فإن الممارسة لشيء والملازمة له تورث الكمال في ذلك الشيء. فإذا فرغت عن النظر في المبحث الأول بالطريقة المهدية إليها الهادية إلى الحق فانظر في المبحث الثاني من أوله إلى آخره على الوجه الذي أريناك فإن ظهر عليك أن القصور في نفسك باق بعد بأن لم تجد مدعاه أو شيئا من القوادح فلا تفتر جدك وجهدك في النظر والمطالعة بل أثبت فانظر في المبحث الثالث على ذلك الوجه وهكذا إلى أن يتم الكتاب فإن حصل لك الكمال فذلك وإلا فإعادته إلى كتاب آخر فآخر إلى أن يحصل لكل الكمال. وعد نفسك محلا قابلا لفيضان الكمالات عليها ولا تيأس من فضل الله فإنك أيها العاقل لست من الذين قد محاهم المخاطبون عن دفاترهم وفضل الله على الخلق أوسع من خواطرهم. وإذا وقع جدك وجهدك في المطالعة على هذا النهج والطريق المذكور سنة أو أكثر إلى سنتين لا أظنك أن لا تترقى بل أجزم أن تترقى في المطالعة إلى وجه تقدر على تمييز المقبول من الأحكام عن المردود منها فإذا صرت مقتدرا كامل القدرة على ذلك الطريق بحيث لا يحوم حولك قصور ولا خطأ ولا فتور فارتق إلى حيث خلقت نوعا أو شخصا له من المراتب العالية من الكمالات النفسية التي هي معرفة الله تعالى ذاتا وصفة حيث قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي ليعرفون كما فسر بعضهم. قف: اعلم أن الشارح والمحشي إذا زاد على الأصل شيئا فالزائد لا يخلو إما أن يكون بحثا أو اعتراضا أو تفصيلا لما أجمله أو تكميلا لما نقصه وأهمله والتكميل إن كان مأخوذا من كلام سابق أو لاحق فإبراز وإلا فاعتراض فعلى الأولين إما تفسير لما أبهمه فإن كان بكلمة أي أو بالبيان أو بالعطف فتفسير باللفظ وإن كان بكلمة يعني أو ما يرادفه فتفسير بالمعنى الظاهر وصيغ الاعتراض مشهورة ولبعضها محل يشارك فيه الآخر فيرد وما اشتق منه لما لا مدفع له بزعم المعترض ويتوجه والمشتق منه أعم منه ونحو إن قلت مما هو بصيغة المعلوم شرطا لما تحقق له الجواب مع قوة في البحث ونحو إن قيل له مع ضعف فيه وقد يقال ونحوه لما فيه ضعف شديد ونحوه لقائل لما فيه ضعف ضعيف وفيه بحث ونحوه لما فيه قوة سواء تحقق الجواب أولا وصيغة المجهول ماضيا كان أو مضارعا ولا يبعد ويمكن كلها صيغ التمريض يدل على ضعف مدخولها بحثا كان أو جوابا وأقول وقلت لما هو خاصة القائل وقد اشتهر من الأستاذين أن لا يبعد أن شرح الكافية للشيخ الأجل الكامل في الكل الشيخ عبد الرحمن الجامي1 قدس سره من خواصه. وكذا قد يقالات شرح المواقف للسيد2 سند

_ 1 هو بدر الدين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد الجامي، مفسر، له مشاركة في العربية، ألف كتباً كثيرة منها شرح الكافية لابن الحاجب وسمي شرحه "الفوائد الضيائية" 817-898هـ = 1414-1492م. 2 هو السيد الشريف الجرجاني، سبقت ترجمته في ص23، وكتاب المواقف الذي شرحه السيد الجرجاني في علم الكلام هو لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي المتوفى سنة 756هـ.

الكل في الكل له خاصة. واختيار صيغ التمريض تواضع منهما رفع الله تعالى قدرهما. وإذا قيل حاصله أو محصله أو تحريره أو تنقيحه أو نحو ذلك فذاك إشارة إلى قصور في الأصل واشتماله على حشو وإيهام. وتراهم يقولون فيم قام إقامة شيء مقام آخر مرة نزل منزلته وأخرى أنيب منابه وأخرى أقيم مقامه فالأول في إقامة الأعلى مقام الأدنى والثاني بالعكس والثالث في المساواة وإذا رأيت واحدا منها مكان الآخر فهناك نكتة وإنما اختاروا في الأول التفعيل وفي الأخيرين الأفعال لأن تنزيل الأعلى مكان الأدنى يحوج إلى العلاج والتدريج. وربما يختم البحث بنحو تأمل فهو إشارة إلى دقة المقام مرة وإلى خدشة فيه أخرى سواء كان ب فيه أو بدونها إلا في مصنفات العلامة مولانا جلال الدين الدواني1 نور الله مرقده فإنه ب فيه إشارة إلى الثاني وبدونها إلى الأول2. وهذا اصطلاح جديد له على ما نقله عنه بعض تلامذته مختص بها غير متجاوز عنها انتهى. ملخصا3. أدب البحث: هو علم يوصل به إلى كيفية الاحتراز عن الخطأ في المناظرة. وموضوعه المناظرة إذ يبحث فيه عن أحوالها وكيفياتها وأوردنا ههنا ما هو المطلب الأعلى والاهتمام بشأنه هو المقصد الأقصى فنقول: لا بد أن يعلم أولا أن المعلل ما دام في تقرير الأقوال والمذاهب وتحرير المباحث لا يتجه عليه ولا يطلب منه شيء سوى تصحيح النقل وتصريح أن فلانا قال كذا في كذا إن طولب به فإذا شرع في إقامة الدليل على ما ادعاه يتجه عليه طريق المناظرة. قف: اعلم أن كلام المناظرين إما أن يقع في التعريفات أو في المسائل فإن وقع في التعريفات فللسائل طلب الشرائط وإيراد النقض4 بوجود أحدهما بدون الآخر ولا يرد عليه المنع لأنه طلب الدليل والدليل على التصديق إلا أن يدعي الخصم حكما صريحا بان يقول هذا مفهومه لغة أو عرفا أو اصطلاحا أو ضمنا. فللسائل أن يمنع وللمعلل - أي المجيب - أن يجيب والجواب عن التعريف الاسمي سهل حاصله يرجع إلى الاصطلاح وإلى أن يقول المعلل: إن مرادي بهذا اللفظ هذا المعنى وعن التعريف الحقيقي أعني تعريف الماهيات الموجودة في الخارج صعب إذ لا مدخل فيه للاصطلاح بل يجب فيه العلم بالذاتيات بالذاتيان والعوارض والتفرقة بينهما بان يفرق بين الجنس والعرض العام والفصل والخاصة وهذا متعسر جدا في التعريف بل متعذر وكذا لا نرد عليه المناقضة فإنها هي طلب الدليل الدال على نقيض المدعي،

_ 1 انظره فيما تقدم ص36. 2 يعني بالثاني: حاصل الكلام أو محصلة. وبالأول: الكلام الملخص. 3 في هامش الأصل تعليق: "هذه جملة كافية مغتية عما عداها من الرسائل المتداولة بين المحصلين والمتحصلين، وفيها يمكن أن يعلم جميع ما يعلم من غيرها فليتأمل فإنها نفسية ونفع محض قليلة الحجم كثيرة المعنى". 4 في الهامش: "فيه نظر لأن النقض إنما يرد على الدليل كالمنع إلا أن يكون المراد بالنقض غير معناه المتبادر" إسحاق العبدي رح".

والدليل منتف هنا وإن وقع في المسائل فإذا شرع المعلل في إقامة الدليل فالخصم إن منع مقدمة معينة من مقدماته أو كليهما على التعينين فذاك يسمى مناقضة ونقضا تفصيليا فلا يحتاج فيه إلى شاهد وإن ذكر شيئا مما يتقوى به المنع يسمى سندا فإن لم يذكره لم يجز الاعتراض عليه إلا إذا ادعى مساواته المنع لأن السند ملزوم لثبوت المنع وانتفاء الملزوم لا يستلزم انتفاء اللازم لكن على تقدير المساواة يمكن انتفاؤه وأكثر ما يستند إليه يذكر مساويا فلذا شاع الكلام عليه وإن منع مقدمة غير معينة بان يقول: ليس هذا الدليل بجميع مقدماته صحيحا بمعنى أن فيها خللا فذلك يسمى نقضا إجماليا ولا يسمع إلا أن يذكر الشاهد على الخلل وإن لم يمنع شيئا من المقدمات لا إجمالا ولا تفصيلا بل قابل بدليل دال على نقيض مدعاه يسمى معارضة ويصير السائل معللا وبالعكس. واعلم أن السؤال المتعلق بالإفهام يسمى الاستفسار وهو طلب بيان معنى اللفظ في الأغلب وإنما يسمع إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة وكذلك كل ما يمكن فيه الاستبهام حسن فيه الاستفهام وإلا فهو لجاج وتعنت ولفائدة المناظرة مفوت إذ يأتي في كل لفظ تفسير فيتسلسل والجواب عن الاستفهام ببيان ظهوره في مقصوده إما بالنقل عن أهل اللغة أو بالعرف العام أو الخاص أو بالقرائن المضمومة وإن عجز عن ذلك كله فالتفسير بما يصح لغة وإلا يكون من جنس اللعب فيخرج عما وضعت له المناظرة وإظهار الحق وهذا الاستفهام يرد على تقرير المدعي وعلى جميع المقدمات وعلى جميع الأدلة فلا سؤال أعم منه. تنبيه: من الواجب على المعلل أن لا يستعجل بالجواب بل يطلب منه توجيه المنع وتحقيقه إذ ربما لا يتمكن المانع توجيهه أو يظهر فساده أو يتذكر جوابه فإذا أجيب فعلى المانع أو لا يستعجل بل ويطلب توجيه الجواب وتفصيله إذ ربما لا يقدر عليه أن يكون غلطا ومما يجب على المتناظرين أن يتكلما في كل علم بما هو حده ووظيفته فلا يتكلما في اليقيني بوظائف الظني وبالعكس.

الباب الرابع: في فوائد منثورة من أبواب العلم وفيه مناظر وفتوحات

الباب الرابع: في فوائد منثورة من أبواب العلم وفيه مناظر وفتوحات المنظر الأول: في العلوم الإسلامية اعلم أن العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد التي يخوض فيها البشر ويتداولونها فيما بينهم تحصيلا وتعليما هي على صنفين: صنف طبيعي: للإنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقلي: يأخذه عمن وضعه. والأول: هي العلوم الحكمية الفلسفية وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني: هي العلوم النقلية الوضعية وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه. وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي: الشرعيات من الكتاب والسنة التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله وما يتعلق بذلك من العلوم التي نهيئها للإفادة ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملكة وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا وهذا هو: علم التفسير ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء به من عند الله واختلاف روايات القراء في قراءته وهذا هو: علم القراءات ثم بإسناد السنة إلى صاحبها والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من

ذلك وهذه هي: علوم الحديث ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط وهذا هو: أصول الفقه وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين وهذا هو: الفقه ثم إن التكاليف منها: بدني ومنها: قلبي وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد وما لا يعتقد وهذه هي: العقائد الإيمانية في الذات والصفات وأمور الحشر والنعيم والعذاب والقدر والحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو: علم الكلام ثم النظر في القرآن والحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليها وهي أصناف فمنها: علم اللغة وعلم النحو وعلم البيان وعلم الأدب حسبما نتكلم عليها كلها. وهذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وأهلها وإن كانت كل ملة على الجملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث إنها علوم الشريعة المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها وأما على الخصوص: فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنظر فيها محظور فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد" ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في يد عمر - رضي الله عنه - ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: "ألم آتكم بها بيضاء نقية والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي". ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا فوقها وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق. وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التعليم واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها وقد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه وانقطاع سند العلم والتعليم وما أدري ما فعل الله بالمشرق؟ والظن به نفاق العلم فيه واتصال التعليم في العلوم وفي سائر الصنائع الضرورية والكمالية لكثرة عمرانه والحضارة ووجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم - والله سبحانه وتعالى هو الفعال لما يريد وبيده التوفيق والإعانة -.

المنظر الثاني: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم

المنظر الثاني: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم 1 وذلك من الغريب الواقع لأن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم العجم إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي والسبب في ذلك: أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة وإنما أحكام الشريعة - التي هي: أوامر الله ونواهيه - كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة

_ 1 هذا الفصل من مقدمة ابن خلدون انظره في صفحة 1367-1370، تحقيق علي عبد الواحد وافي.

والتابعين وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله: القراء: أي الذين يقرؤون الكتاب وليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ: قراء إشارة إلى هذا فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن رسول الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه ومن الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح قال - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي". فلما بعد النقل - من لدن دولة الرشيد فما بعد - احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في: الاستنباطات والاستخراج والتنظير والقياس واحتاجت إلى علوم أخرى وهي وسائل لها من: معرفة قوانين العربية وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب وعن سوقها والحضر لذلك العهد هم: العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من: الصنائع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو: سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيروه قوانين وفنا لمن بعدهم وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما - كما يعرف - وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسرين ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم وظهر مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس". وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع والرؤساء - أبدا - يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين وما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وامتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عنهم في: الملك والسياسة وهذا الذي قررناه: هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم. وأما العلوم العقلية أيضا: فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم - شأن الصنائع كما قلناه أولا - فلم يزل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من: العراق وخراسان وما وراء النهر فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول

العلم والصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة واختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي: أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر وقد دلنا على ذلك: كلام بعض علمائهم في تآليف وصلت إلينا من هذه البلاد وهو: سعد الدين التفتازاني1 وأما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب2 ونصير الدين الطوسي3 كلاما يعول على نهايته في الإصابة - فاعتبر ذلك وتأمله تر عجبا في أحوال الخليقة والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله4.

_ 1 انظره فيما تقدم ص43. 2 هو الإمام فخر الدين الرازي وقد سبقت ترجمته صفحة31. 3 هو نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، فيلسوف، كان رأساً في العلوم العقلية، علامة بالأرصاد والرياضيات، وكان معضماً عند هولاكو، له كتب كثيرة، 597-672هـ = 1201-1274م. 4 آخر كلام ابن خلدون.

المنظر الثالث: في علوم اللسان العربي

المنظر الثالث: في علوم اللسان العربي أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغاتهم فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة وتتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا. والذي يتحصل: أن الأهم المقدم منها هو: النحو إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة وكان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة وليست كذلك اللغة - والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق وقد قدمنا أن العلم من جملة الصنائع لكنه أشرفها فلا نعيد الكلام على ذلك حذرا من الإطالة.

المنظر الرابع: في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم

المنظر الرابع: في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم 1 والسبب في ذلك: أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة: علما وتعليما وإلقاء وتارة: محاكاة وتلقينا بالمباشرة إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد

_ 1 انظر الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1365.

استحكاما وأقوى رسوخا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين فلقاء أهل العلوم وتعدد المشائخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم وهذا لمن يسر الله تعالى عليه طرق العلم والهداية فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشائخ ومباشرة الرجال والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم1 ويرشده إلى طريق سوي ودين قويم.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

المنظر الخامس: في أن العلماء - من بين البشر - أبعد عن السياسة ومذاهبها

المنظر الخامس: في أن العلماء - من بين البشر - أبعد عن السياسة ومذاهبها 1 والسبب في ذلك: أنهم معتادون النظر الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر ولا تصير بالجملة إلى مطابقة وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك: كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر إذ كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء - لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض - إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسابح: لا يفارق البر عند الموج قال الشاعر:

_ 1 الفصل في المقدمة صفحة 1365 – 1367.

فلا توغلن إذا ما سبحت ... فإن السلامة في الساحل فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضاره باستقامة نظره وفوق كل ذي علم عليم. ومن هنا: يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني وأما النظر في المعقولات الأول - وهي التي تجريدها قريب - فليس كذلك لأنها خيالية وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه - والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق1.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

المنظر السادس: في موانع العلوم وعوائقها

المنظر السادس: في موانع العلوم وعوائقها وفيه فتوحات: فتح: اعلم أنه على كل خير مانع وعلى العلم موانع منها: الوثوق بالمستقبل والوثوق بالذكاء والانتقال من علم إلى علم قبل أن يحصل منه قدرا يعتد به أو من كتاب إلى كتاب قبل ختمه. ومنها: طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية. ومنها: ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال. ومنها: أفعال الدنيا وتقليد الأعمال ومنها: كثرة التأليف في العلوم وكثرة الاختصارات فإنها مخلة عائقة. فتح: أما الوثوق بالمستقبل: فلا ينبغي للعاقل لأن كل يوم آت بمشاغله فلا يؤخر شغل يومه إلى غد. فتح: وأما الوثوق بالذكاء: فهو من الحماقة وكثير من الأذكياء فاته العلم بهذا السبب. فتح: وأما الانتقال من علم إلى علم قبل أن يستحكم الأول فهو: سبب الحرمان عن الكل فلا يجوز وكذا الانتقال من كتاب إلى كتاب كذلك. فتح: وأما طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية فالعلم أعز من أن ينال مع غيره أو على سبيل التبعية ولذلك ترى كثيرا من الناس لا ينالون من العلم قدرا صالحا يعتد به لاشتغالهم عنه بطلب المنصب والمدرسة وهم يطلبونه دائما ليلا ونهارا سرا وجهارا ولا يفترون وكان ذكرهم وفكرهم تحصيل المال والجاه مع أنها لهم في اللذات الفانية وعدم ركونهم إلى السعادة الباقية ومناصبهم في الحقيقة مناصب أجنبية لأنها شاغلة عن الشغل والتحصيل على القانون المعتبر في طريقه. فتح: وأما ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال فمن أعظم الموانع وأشدها لأن صاحبه مهموم ومشغول القلب أبداً.

فتح: وأما إقبال الدنيا وتقلد العمل فلا شك أنه يمنع صاحبه عن التعليم والتعلم. فتح: وأما كثرة المصنفات في العلوم واختلاف الاصطلاحات في التعليم فهي عائقة عن التحصيل لأنه لا يفي عمر الطالب - بما كتب في صناعة واحدة - إذا تجرد لها لأن ما صنفوه في الفقه مثلا من المتون والشروح لو التزمه طالب لا يتيسر له مع أنه يحتاج إلى تمييز طرق المتقدمين والمتأخرين وهي كلها متكررة والمعنى واحد والمتعلم طالب والعمر ينقضي في واحد منها ولو اقتصروا على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك ولكنه داء لا يرتفع ومثله علم العربية أيضا في مثل كتاب سيبويه وما كتب عليه وطرق البصرييين والكوفيين والأندلسيين وطرق المتأخرين مثل: ابن الحاجب وابن مالك1 وجميع ما كتب في ذلك: كيف يطالب به المتعلم؟ وينقضي عمره دونه ولا يطمع الذي هو آلة من آلات ووسيلة فكيف تكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ - ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. فتح: وأما كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم فإنها مخلة بالتعليم فقد2 ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن وصار ذلك مخلا بالبلاغة وعسرا على الفهم وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربي والخونجي3 في المنطق وأمثالهم وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل وذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم ثم فيه - مع ذلك - شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها لأن ألفاظ المختصرات تجدها - لأجل ذلك - صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ثم بعد ذلك: فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تحصيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها4 ومن ذلك القبيل: كتاب: التهذيب في المنطق لسعد الدين التفتازاني والسلم والمسلم لمحب الله البهاري والفصول الأكبري في الصرف والفوائد الصمدية في النحو - ومن يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له والله سبحانه أعلم.

_ 1 ابن الحاجب هو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، فقيه مالكي من كبار العلماء بالعربية له فيها مصنفات كثيرة منها "الكافيه" في النحو و"الشافية" في الصرف 570-646هـ = 1174-1249م. وابن مالك هو جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، أحد الأئمة في علوم العربية، أندلسي المولد دمشقي الوفاة له كتب كثيرة في علوم العربية واشتهر بألفيته وكافيته: 600-672هـ = 1203-1274م. 2 من هنا كلام ابن خلدون صفحة 1352. 3 هو محمد بن ناماور بن عبد الملك الخونجي، أفضل الدين، عالم بالحكمة والمنطق وله فيهما مصنفات، توفي في القاهرة: 590-646هـ = 1194-1248م. 4 آخر كلام ابن خلدون.

المنظر السابع: في أن الحفظ غير الملكة العلمية

المنظر السابع: في أن الحفظ غير الملكة العلمية اعلم: أن من كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة لا يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم ولذلك ترى من حصل الحفظ لا يحسن شيئا من الفن وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر كأكثر فقهاء المغرب وطلبة علمه من: أهل بخارى وبغداد وكابل وقندهار ومن إليها من المدن والأمصار ومن ظن أنه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطأ وإنما المقصود هو: ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوال إلى المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم وبالعكس فإن انضم إليها ملكة الاستحضار فنعم المطلوب وهذا لا يتم بمجرد الحفظ بل الحفظ من أسباب الاستحضار وهو راجع إلى جودة قوة الحافظة وضعفها وذلك من أحوال الأمزجة الخلقية وإن كان مما يقبل العلاج.

المنظر الثامن: في شرائط تحصيل العلم وأسبابه

المنظر الثامن: في شرائط تحصيل العلم وأسبابه وفيه فتوحات أيضا: فتح: اعلم أن شرائط التحصيل كثيرة لكنها مجتمعة فيما نقل عن سقراط وهو قوله: ينبغي أن يكون الطالب شابا فارغ القلب غير ملتفت إلى الدنيا صحيح المزاج محبا للعلم بحيث لا يختار على العلم شيئا من الأشياء صدوقا منصفا بالطبع متدينا أمينا عالما بالوظائف الشرعية والأعمال الدينية غير مخل بواجب فيها ويحرم على نفسه ما يحرم في ملة نبيه ويوافق الجمهور في الرسوم والعادات ولا يكون فظا سيئ الخلق ويرحم من دونه في المرتبة ولا يكون أكولا ولا متهتكا ولا خاشعا من الموت ولا جامعا للمال إلا بقدر الحاجة فإن الاشتغال بطلب أسباب المعيشة مانع عن التعلم. انتهى. فتح: ومن الشروط: تزكية الطالب عن الأخلاق الردية وهي متقدمة على غيرها كتقدم الطهارة فكما أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب كذلك العلم لا يدخل القلب إذا وجد فيه كلاب باطنية وكانت الأوائل يختبرون المتعلم أولا فإن وجدوا فيه خلقا رديا منعوه لئلا يصير آلة الفساد وإن وجدوه مهذبا علموه ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفا على فساد دينه ودين غيره. فتح: ومنها: الإخلاص في مقاساة هذا المسلك وقطع الطمع عن قبول أحد فيجب أن ينوي في تعلمه أن: يعمل بعلمه لله تعالى وأن يعلم الجاهل ويوقظ الغافل ويرشد الغوي فإنه قال - عليه الصلاة والسلام: "من تعلم العلم لأربع دخل النار: ليباهي به العلماء وليماري به السفهاء ويقبل به وجوه الناس إليه وليأخذ به الأموال". فتح: ومن الشروط: تقليل العوائق حتى الأهل والأولاد والوطن فإنها صارفة وشاغلة {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق وقد قيل: العلم لا يعطيك بعضه

حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت على خطر من الوصول إلى بعضه. فتح: ومنها: ترك الكسل وإيثار السهر في الليالي ومن جملة أسباب الكسل فيه: ذكر الموت والخوف منه لكنه ينبغي أن يكون من جملة أسباب التحصيل إذ لا عمل يحصل به الاستعداد للموت أفضل من العلم والعمل به والخوف منه لا ينبغي أن يتسلط على الطالب بحيث يشغله عن الاستعداد وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "أكثروا ذكر هادم اللذات" يدل على أنه ينبغي أن يكون ذكره سببا للانقطاع عن اللذات الفانية دون الباقية. فتح: ومن الشروط: العزم والثبات على التعلم إلى آخر العمر كما قيل: الطلب من المهد إلى اللحد وقال - سبحانه وتعالى - لحبيبه - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} والحيلة في صرف الأوقات إلى التحصيل: أنه إذا مل من علم اشتغل بآخر كما قال ابن عباس - رضي الله عنه - إذا مل من الكلام مع المتعلمين: هاتوا دواوين الشعراء. فتح: ومنها: اختيار معلم ناصح نقي الحسب كبير السن لا يلابس الدنيا بحيث تشغله عن دينه ويسافر في طلب الأستاذ إلى أقصى البلاد إن لم يكن ببلده الذي يسكن فيه ويقال: أول ما يذكر من المرء أستاذه فإن كان جليلا جل قدره فإذا وجده يلقي إليه زمام أمره ويذعن لنصحه إذعان المريض للطبيب ولا يستبد بنفسه اتكالا على ذهنه ولا يتكبر عليه وعلى العلم ولا يستنكف لأنه قد ورد في الحديث: من لم يتحمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا ومن الآداب: احترام المعلم وإجلاله فمن تأذى منه أستاذه يحرم بركة العلم ولا ينتفع به إلا قليلا وينبغي أن يقدم حق معلمه على حق أبويه وسائر المسلمين ومن توقيره: توقير أولاده ومتعلقاته ومن تعظيم العلم: تعظيم الكتب والشركاء. فتح: ومن الشروط: أن يأتي على ما قرأه مستوعبا لمسائله - من مبادئه إلى نهايته - بتفهم واستثبات بالحجج وأن يقصد فيه الكتب الجيدة وأن لا يعتقد في علم أنه حصل منه على مقدار لا يمكن الزيادة عليه وذلك طيش يوجب الحرمان. فتح: ومنها: أن لا يدع فنا من فنون العلم إلا وينظر فيه نظر مطلع على غايته ومقصده وطريقته وبعد المطالعة في الجميع أو الأكثر إجمالا - إن مال طبعه إلى فن - عليه أن يقصده ولا يتكلف غيره فليس كل الناس يصلحون للتعلم ولا كل من يصلح لتعلم علم يصلح لسائر العلوم بل كل ميسر لما خلق له وإن كان ميله إلى الفنون على السواء مع موافقة الأسباب ومساعدة الأيام طلب التبحر فيها فإن العلوم كلها متعاونة مرتبطة بعضها ببعض لكن عليه أن لا يرغب في الآخر قبل أن يستحكم الأول لئلا يصير مذبذبا فيحرم من الكل ولا يكن ممن يميل إلى البعض ويعادي الباقي لأن ذلك جهل عظيم وإياه أن يستهين بشيء من العلوم تقليدا لما سمعه من الجهلة بل يجب أن يأخذ من كل حظا ويشكر من هداه إلى فهمه ولا يكن ممن يذم العلم ويعدوه لجهله مثل ذمهم المنطق الذي هو أصل كل علم وتقويم كل ذهن ومثل ذمهم العلوم الحكمية على الإطلاق من غير معرفة القدر المذموم والممدوح منها ومثل ذم علم النجوم مع أن بعضا منه فرض كفاية والبعض مباح ومثل ذم مقالات الصوفية لاشتباهها عندهم والعلم وإن كان مذموما في نفسه - كما زعموا - فلا يخلو تحصيله من فائدة أقلها رد القائلين به.

قف: اعلم أن النظر والمطالعة في علوم الفلسفة يحل بشرطين: أحدهما: أن لا يكون خالي الذهن عن العقائد الإسلامية بل يكون قويا في ذهنه راسخا على الشريعة الشريفة. والثاني: أن لا يتجاوز مسائلهم المخالفة للشريعة وإن تجاوز فإنما يطالعها للرد لا غير هذا لمن ساعده الذهن والسن والوقت وسامحه الدهر عما يفضيه إلى الحرمان وإلا فعليه أن يقتصر على الأهم وهو قدر ما يحتاج إليه فيما يتقرب به إلى الله تعالى وما لا بد منه في: المبدأ والمعاد والمعاملات والعبادات والأخلاق والعادات. فتح: ومن الشروط المعتبرة في التحصيل: المذاكرة مع الأقران ومناظرتهم كما قيل: العلم غرس وماؤه درس لكن طلبا للثواب وإظهارا للصواب وقيل: مطارحة ساعة خير من تكرار شهر ولكن مع منصف سليم الطبع وينبغي للطالب أن يكون متأملا في دقائق العلوم ويعتاد ذلك فإنما تدرك به خصوصا قبل الكلام فإنه كالسهم فلا بد من تقويمه بالتأمل أولاً. فتح: ومنها: الجد والهمة فإن الإنسان يطير بهما إلى شواهق الكمالات وأن لا يؤخر شغل يوم إلى غد فإن لكل يوم مشاغل ولا بد أن تكون معه محبرة في كل وقت حتى يكتب ما يسمع من الفوائد ويستنبطه من الزوائد فإن العلم صيد والكتابة قيد وينبغي أن يحفظ ما كتبه من العلم إذ العلم ما ثبت في الخواطر لا ما أودع في الدفاتر بل الغرض منه المراجعة إليها عند النسيان للاعتماد عليها. فتح: ومن الشروط: مراعاة مراتب العلوم في القرب والبعد من المقصد فلكل منها مرتبة ترتيبا ضروريا بحسب الرعاية في التحصيل إذ البعض طريق إلى البعض ولكل علم حد لا يتعداه فعليه أن يعرفه فلا يتجاوز ذلك الحد مثلا: لا يقصد إقامة البراهين في النحو ولا يطلب وأيضا لا يقصر عن حده كأن يقنع بالجدل في الهيئة وأن يعرف أيضا: أن ملاك الأمر في المعاني هو: الذوق وإقامة البرهان عليه خارج عن الطوق ومن طلب البرهان عليه أتعب نفسه كما قال السكاكي: قبل أن تمنح هذه الفنون حقها فلننبهك على أصل ليكون على ذكر منك وهو أنه ليس من الواجب في صناعة - وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل - أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق عنها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى محكمات وضعية واعتبارات إلفية؟ فلا بأس على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبها في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق. انتهى. فتح: ومنها: العلوم الآلية لا يوسع فيها الأنظار وذلك أن العلوم المتداولة على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات والحكميات وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم كالعربية والمنطق فأما المقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وأما العلوم الآلية فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة للغير ولا يوسع فيها الكلام لأن ذلك يخرج بها عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها فيكون الاشتغال

بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يغني وهذا كما فعله المتأخرون في النحو والمنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلا واستدلالا وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها فيكون لأجل ذلك لغوا ومضرا بالمتعلمين لاهتمامهم بالمقصود أكثر من هذه الآلات فإذا أفنى العمر فيها فمتى يظفر بالمقاصد؟ فيجب عليه أن لا يستبحر فيها ولا يستكثر من مسائلها.

المنظر التاسع: في شروط الإفادة ونشر العلم

المنظر التاسع: في شروط الإفادة ونشر العلم وفيه فوائد: فائدة 1: اعلم: أن الإفادة من أفضل العبادة فلا بد له من النية ليكون ذلك ابتغاء لمرضاة الله تعالى وإرشاد عباده ولا يريد بذلك زيادة وحرمة ولا يطلب على إفادته أجرا اقتداء بصاحب الشرع - عليه الصلاة والسلام - ثم ينبغي له مراعاة أمور منها: أن يكون مشفقا ناصحا بصاحبه وأن ينبهه على غاية العلوم ويزجره عن الأخلاق الردية ويمنعه أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه وأن يتصدى للاشتغال فوق طاقته وأن لا يزجر إذا تعلم للرئاسة والمباهاة إذ ربما يتبنه بالآخرة لحقائق الأمور بل ينبغي أن يرغب في نوع من العلم يستفاد به الرئاسة بالأطماع فيها حتى يستدرجه إلى الحق. اعلم: أن الله سبحانه وتعالى جعل الرئاسة وحسن الذكر حفظا للشرع والعلم مثل الحب الملقى حول الشبكة وكالشهوة الداعية إلى التناسل ولهذا قيل: لولا الرئاسة لبطل العلم وأن يزجر عما يجب الزجر عنه بالتعريض لا بالتصريح. فائدة: ومنها: أن يبدأ بالأهم للمتعلم في الحال إما في معاشه أو في معاده ويعين له ما يليق بطبعه من العلوم ويراعي الترتيب الأحسن حسبما يقتضيه رتبته على قدر الاستعداد فمن بلغ رشده في العلم ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم وإلا فحفظ العلم وإمساكه عمن لا يكون أهلا له أولى به فإن بث المعارف إلى غير أهلها مذموم وفي الحديث: "لا تطرحوا الدرر في أفواه الكلاب" وكذا ينبغي أن يجتنب إسماع العوام كلمات الصوفية التي يعجزون عن تطبيقها بالشرع فإنه يؤدي إلى انحلال قيد الشرع عنهم فيفتح عليهم باب الإلحاد والزندقة فينبغي أن يرشد إلى علم العبادات الظاهرة وإن عرض لهم شبهة يعالج بكلام إقناعي ولا يفتح عليه باب الحقائق فإن ذلك فساد النظام وإن وجد ذكيا ثابتا على قواعد الشرع جاز له أن يفتح عليه باب المعارف بعد امتحانات متوالية لئلا يتزلزل عن جادة الشرع. فائدة: اعلم: أنه يجب على الطالب أن لا ينكر مالا يفهم من مقالاتهم الخفية وأحوالهم الغريبة إذ كل ميسر لما خلق له قال الشيخ2 ابن سينا في الإشارات: كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان

_ 1 وضع المؤلف حرف "ف" بدلاً من كلمة "فائدة" رامزاً به إليها فأثبتناها كاملة حيث جاءت. 2 ابن سينا، الحسين بن عبد الله بن سينا، ابو علي، الفيلسوف الرئيس، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات. ولد في إحدى قرى بخاري ومات في همذان، و"الإشارات" هو أحد كتبه الكثيرة: 370-428هـ = 980-1037م.

ما لم يذرك عنه قائم البرهان. انتهى وإنما الغرض من تدوين تلك المقالات: التذكرة لمن يعرف الأسرار والتنبيه على من لا يعرفها بأن لنا علما يجل عن الأذهان فهمه حتى يرغب في تحصيله كما في الحديث: إلا من العلم كهيئة المكنون لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل العزة وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاءين أما أحدهما: فبثثته وأما الآخر: فلو بثثته لقطع هذا البلعوم وغرضهم عدم إمكان التعبير عنه وخوف مقايسة السامعين الأحوال الإلهية بأحوال الممكنات فيضلوا بسوء الظن في قائلها فيقابلوه بالإنكار. انتهى. قلت: المراد بالدعاء الآخر أخبار دولة بني أمية - كما صرح به أهل الحديث - ومن قال بخلافه لم يأت بما يشفي الغليل فإن شئت الاطلاع على تمام الكلام في ذلك فارجع إلى القسطلاني1 ولا تغتر بأقوال هؤلاء الذين ليسوا من علم السنة المطهرة في ورد ولا صدر. فائدة: ومنها: أنه ينبغي أن لا يخالف قوله فعله إذ لو كذب مقاله بحاله ينفر الناس عنه وعن الاسترشاد به وأكثر المقلدين ينظرون إلى حال القائل وأما المحقق الذي لا ينظر إلى القائل فهو نادر فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه إذ لا بد للعالم من: الورع ليكون علمه أنفع وفوائده أكثر وأن يكظم غيظه عند التعليم وأن لا يخلطه بهزل فيقسو قلبه ولا يضحك فيه ولا يلعب ولا يبالي إذا لم يقبل قوله ولا بأس بأن يمتحن فهم المتعلم وأن لا يجادل في العلم ولا يماري في الحق فإنه يفتح باب الضلال وأن لا يدخل علما في علم لا في تعليم ولا في مناظرة فإن ذلك مشوش وكثيرا ما غلط جالينوس بهذا السبب وأن يحث الصغار على التعليم - سيما الحفظ - وأن يذكر لهم ما يحتمله فهمهم وإن كان الطلاب مبتدئين لا يلقي عليهم المشكلات وإن كانوا منتهين لا يتكلم في الواضحات ولا يجيب متعنتا في سؤاله ولا ما يلقى عليه من الأغلوطات وأن ينظر في حال الطالب إن كان له زيادة فهم بحيث يقدر على حل المشكلات وكشف المعضلات يهتم بتعليمه أشد الاهتمام وإلا فيعلمه بقدر ما يعرف الفرائض والسنن ثم يأمره بالاشتغال بالاكتساب ونوافل الطاعات لكن يصبر في امتحان ذهنه مقدار ثلاث سنين وإن سئل عما يشك فيه يقول: لا أدري فإن لا أدري: نصف العلم.

_ 1 هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك القسطلاني المصري، من علماء الحديث له فيه مصنفات كثيرة أشهرها "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" عشرة أجزاء: 851-923هـ = 1448-1517م.

المنظر العاشر: فيما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم

المنظر العاشر: فيما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم قال الفقيه أبو الليث1: يراد من العلماء عشرة أشياء: الخشية والنصيحة والشفقة والاحتمال والصبر والحلم والتواضع والعفة عن أموال الناس والدوام على النظر في الكتب

_ 1 هو نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي، الملقب بإمام الهدى، فقيه من أئمة الحنفية، زاهد متصرف له تصانيف نفيسة. توفي سنة 373هـ-983م.

وقلة الحجاب وأن لا ينازع أحدا ولا يخاصمه". وعليه أن يشتغل بمصالح نفسه لا بقهر عدوه قيل: من أراد أن يرغم أنف عدوه فليحصل العلم وأن لا يترفه في المطعم والملبس وأن لا يتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع الأمور ويتشبه بالسلف الصالح وكلما ازداد إلى جانب القلة ميله ازداد قربه من الله - سبحانه وتعالى - لأن التزين بالمباح وإن لم يكن حراما لكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه فالحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة مع أنها مزرعة الآخرة ففيها الخير النافع والسم الناقع ففي تمييز الأول من الثاني أحوال منها: معرفة رتبة المال فنعم المال الصالح منه للصالح إذا جعله خادما لا مخدوما وهو مطلوب لتقوية البدن بالمطاعم والملابس والتقوية لكسب العلوم والمعارف التي هي المقصد الأقصى ومنها: مراعاة جهة الدخل فمن قدر على كسب الحلال الطيب فليترك المشتبه وإن لم يقدر يأخذ منه قدر الحاجة وإن قدر عليه - لكن بالتعب واستغراق الوقت - فعلى العامل العامي أن يختار التعب وإن كان من الأهل فإن كان ما فاته من العلم والحال أكثر من الثواب الحاصل في طلب الحلال فله أن يختار الحلال الغير الطيب كمن غص بلقمة يسيغها بالخمر لكن يخفيه من الجاهل - مهما أمكن - كيلا يحرك سلسلة الضلال ومنها: المقدار المأخوذ منه وهو قدر الحاجة في: المسكن والمطعم والملبس والمنكح إن جاوز من الأدنى لا يجوز التجاوز عن الوسط ومنها: الخرج والإنفاق فالمحمود منه الصدقة والإنفاق على العيال وقد اختلف في أن الأخذ والإنفاق على الوجه المشروع أولى أم تركه رأسا مع الاتفاق؟ على أن الإقبال على الدنيا بالكلية مذموم فالمقبلون على الآخرة والصارفون للدنيا في محله فهم الأفضلون من التارك بالكلية ومنهم عامة الأنبياء - عليهم السلام - ومنها: أن تكون نيته صالحة في الأخذ والإنفاق فينوي بالأخذ أن يستعين به على العبادة ويأكل ليتقوى به على العبادة.

المنظر الحادي عشر: في التعلم

المنظر الحادي عشر: في التعلم وفيه فوائد أيضا: فائدة: اعلم أن تكميل النفوس البشرية في قواها النظرية والعملية إنما يتم بالعلم بحقائق الأشياء وما هو إليه كالوسيلة وبه يكون القصد إلى الفضائل والاجتناب عن الرذائل إذ كان هو الوسيلة إلى السعادة الأبدية ولا شيء أشنع وأقبح من الإنسان مع ما فضله الله - سبحانه وتعالى - به من: النطق وقبول تعلم الآداب والعلوم من أن يهمل نفسه ويعريها من الفضائل وقد حث الشارع - عليه الصلاة والسلام - على اكتسابه حيث قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم وقال: "اطلبوا العلم ولو بالصين" وقيل: اطلبوه من المهد إلى اللحد. فائدة: اعلم أن الإنسان مطبوع على التعلم لأن فكره هو سبب امتيازه عن سائر الحيوانات ولما كان فكره راغبا بالطبع في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات لزمه الرجوع إلى من سبقه بعلم فيلقن ما عنده ثم إن فكره يتوجه إلى واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد واحد ويتمرن عليه حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقائق ملكة له فيكون علمه حينئذ بما يعرض لتلك الحقيقة علما ً

مخصوصا ويتشوق نفوس أهل القرن الناشئ إلى تحصيله فيفزعون إلى أهله. فائدة: وكل تعليم وتعلم ذهني إنما يكون بعلم سابق في معلوم ما من عالم كمن ليس بعالم وقد يكون بالطبع مستفادا من وقائع الزمان بتردد الأذهان ويسمى: علما تجريبيا وقد يكون بالبحث وإعمال الفكر ويسمى: علما قياسيا والعلم محصور في التصور والتصديق والتصور: يطلب بالأقوال الشارحة والتصديق: يكون عن مقدمات في صور القياسات للنتائج فقد يحصل به اليقين وقد لا يحصل به الإقناع وقدموا في التعليم ما هو أقرب تناولا ليكون سلما لغيره وجرت سنة القدماء في التعليم مشافهة دون كتاب لئلا يصل العلم إلى غير مستحقه ولكثرة المشتغلين بها فلما ضعفت الهمم أخذوا في تدوين العلوم وصنفوا ببعضها فاستعملوا الرمز واختصروا من الدلالات على الالتزام فمن عرف مقاصدهم حصل على أغراضهم. فائدة: اعلم: أن جميع المعلومات إنما تعرف بالدلالة عليها بأحد الأمور الثلاثة: الإشارة والخط واللفظ فالإشارة: تتوقف على المشاهدة واللفظ: يتوقف على حضور المخاطب وسماعه وأما الخط: فلا يتوقف على شيء فهو أعمها نفعا وأشرفها وهو خاصة النوع الإنساني فعلى المتعلم أن يجوده ولو بنوع منه ولا شك أنه بالخط والقراءة ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل وامتاز عن سائر الحيوانات وضبطت الأموال وحفظت العلوم والكمال وانتقلت الأخبار من زمان إلى زمان فجبلت غرائز القوابل على قبول الكتابة والقراءة لكن السعي لتحصيل الملكة هو موقوف على: الأخذ والتعلم والتمرن والتدرب. فائدة: اعلم أن العلم والنظر وجودهما بالقوة في الإنسان فيفيد صاحبها عقلا لأن النفس الناطقة وخروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات من المحسوسات أولا ثم ما يكتسب بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فيكون ذاتا روحانية ويستكمل حينئذ وجودها فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر يفيدها عقلا مزيدا وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلا والكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك فإنها تشتمل على علوم وأنظار إذ فيها انتقال من صور الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية ومنها إلى المعاني فهو ينتقل من دليل إلى دليل وتتعود النفس ذلك دائما فيتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول وهو معنى النظر الفعلي الذي يكتسب به العلوم المجهولة فيحصل بذلك زيادة عقل ومزيد فطنة وهذا هو ثمرة التعلم في الدنيا. فائدة: ثم إن المقصود من: العلم والتعليم والتعلم معرفة الله سبحانه وهي غاية الغايات ورأس أنواع السعادات ويعبر عنها: بعلم اليقين الذي يخصه الصوفية أولو الكرامات وهو الكمال المطلوب من العلم الثابت بالأدلة وإياك أيها المتعلم أن يكون شغلك من العلم أن تجعله صنعة غلبت على قلبك حتى قضيت نحبك بتكراره عند النزع كما يحكى أن أبا طاهر الزيادي كان يكرر مسألة ضمان الدرك حالة نزعه بل ينبغي لك أن تتخذه سبيلا إلى النجاة. ذكر إحراق الكتب وإعدامها: ومن أجل ذلك نقل عن بعض المشايخ: أنهم أحرقوا كتبهم منهم: العارف

بالله - سبحانه وتعالى - أحمد بن أبي الحواري فإنه كما ذكره أبو نعيم1 في الحلية: لما فرغ من التعلم جلس للناس فخطر بقلبه يوما خاطر من قبل الحق فحمل كتبه إلى شط الفرات فجلس يبكي ساعة ثم قال: نعم الدليل كنت لي على ربي ولكن لما ظفرت بالمدلول علمت أن الاشتغال بالدليل محال فغسل كتبه وذكر ابن الملقن2 في ترجمته من طبقات الأولياء ما نصه: وقد روي نحو هذا عن سفيان الثوري أنه أوصى بدفن كتبه وكان ندم على أشياء كتبها عن الضعفاء3 وقال ابن عساكر في الكنى من التاريخ4: إن أبا عمرو بن العلاء كان أعلم الناس بالقرآن والعربية وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك وأحرقها. فائدة: ذكرها البقاعي5 في حاشيته على شرح الألفية للزين العراقي وهي أنه قال: سألت شيخنا - يعني ابن حجر العسقلاني - عما فعل داود الطائي وأمثاله عن إعدام كتبهم ما سببه؟ فقال: لم يكونوا يرون أنه يجوز لأحد روايتها لا بالإجازة ولا بالوجادة بل يرون أنه إذا رواها أحد بالوجادة يضعف فرأوا أن مفسدة إتلافها أخف من مفسدة تضعيف بسببهم. انتهى. أقول: وجوابه بالنظر إلى فن الحديث لا يقع جوابا عن إعدام ابن أبي الحواري وأمثاله لأن الأول: بسبب ضعف الإسناد والثاني: بسبب الزهد والتبتل إلى الله - سبحانه - ولعل الجواب عن إعدامهم: أنه إن أخرجه عن ملكه بالهبة والبيع ونحوه لا تنحسم مادة العلاقة القلبية بالكلية ولا يأمن من أن يخطر بباله الرجوع إليه ويختلج في صدره النظر والمطالعة في وقت ما وذلك مشغلة بما سوى الله سبحانه وتعالى. فائدة: في طريق النظر والتصفية: اعلم: أن السعادة الأبدية لا تتم إلا بالعلم والعمل ولا يعتد بواحد منهما بدون الآخر وأن كلا منهما ثمرة الآخر مثلا: إذا تمهر الرجل في العلم لا مندوحة له عن العمل بموجبه إذ لو قصر فيه لم يكن في علمه كمال وإذا باشر الرجل العمل وجاهد فيه وارتاض حسبما بينوه من الشرائط تنصب على قلبه العلوم النظرية بكمالها فهاتان طريقتان الأولى منهما: طريقة الاستدلال والثانية: طريقة المشاهدة وقد ينتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى فيكون صاحبه مجمعا للبحرين فسالك طريق الحق نوعان: أحدهما: يتبدى من طريق العلم إلى العرفان وهو: يشبه أن يكون طريقة الخليل - عليه الصلاة والسلام - حيث ابتدأ من الاستدلال. والثاني: يبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة وهو: طريق الحبيب - صلى الله عليه وسلم - حيث ابتدأ بشرح الصدر وكشف له سبحات وجهه - صلى الله عليه وسلم.

_ 1 هو أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، حافظ، مؤرخ، من الثقات، له كتب كثيرة من أشهرها حلية الأولياء، وطبقات الاصفياء مطبوع في عشرة أجزاء: 366-430هـ = 948-1039م. 2 هو سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن، من أكابر العلماء بالحديث والفقة وتاريخ الرجال، قاهري، له تآليف تناهز ثلاثمائة مصنف: 723-804هـ = 1323-1401م. 3 انظر طبقات الأولياء، تحقيق نور الدين شريبة صفحة 32. 4 هو ثقة الدين علي بن الحسن بن هبة الله عساكر الدمشقي، مؤرخ عالم رحالة، كان محدث الديار الشامية، مولده ووفاته بدمشق، له تضانيف كثيرة أشهرها "تاريخ مدينة دمشق" يقع في حوالي ثمانين مجلدة: 499-571هـ =1105-1176م. 5 هو برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن بن علي بن ابي بكر البقاعي، من البقاع في سورية، استوطن دمشق وتوفي بها، مؤرخ أديب، له في ذلك كتب كثيرة: 809-885هـ = 1406-1480م.

مناظرة أهل الطريقين اعلم أن السالكين اختلفوا في تفضيل الطريقين. قال أرباب النظر: الأفضل: طريق النظر لأن طريق التصفية صعب والواصل قليل على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء المجاهدة. وقال أهل التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو عن شوب الوهم ومخالطة الخيال غالبا ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون وأيضا لا يتخلصون في المناظرة عن اتباع الهوى بخلاف التصوف فإنه تصفية للروح وتطهير للقلب عن الوهم والخيال فلا يبقي إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية وأما صعوبة المسلك وبعده فلا يقدح في صحة العلم مع أنه يسير على من يسره الله - سبحانه وتعالى - عليه وأما اختلال المزاج فإن وقع فيقبل العلاج ومثلوا بطائفتين تنازعتا في المباهاة والافتخار بصنعة النقش والتصوير حتى أدى الافتخار إلى الاختبار فعين لكل منهما جدار بينهما حجاب فتكلف أحدهما في صنعته واشتغل الآخر بالتصقيل فلما ارتفع الحجاب ظهر تلألؤ الجدار مع جميع نقوش المقابل وقالوا: هذه أمثال العلوم النظرية والكشفية فالأول: يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء والثاني: يحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى. واعترض عليهم: بأنا لا نسلم مطلق الحصول لأن كل علم مسائله كثيرة وحصولها عبارة عن الملكة الراسخة فيه وهي لا تتم إلا بالتعلم والتدرب؟ - كما سبق - ولعل المكاشف لا يدعي حصول العلوم النظرية بطريق الكشف لأنه لا يصدق إلا أن يقول بحصول الغاية والغرض منها. المحاكمة بين الفريقين وقد يقال: إنه قد سبق أن العلوم مع كثرتها منحصرة فيما يتعلق بالأعيان وهو العلوم الحقيقية وتسمى: حكمية إن جرى الباحث على مقتضى عقله وشرعية: إن بحث على قانون الإسلام وفيما يتعلق بالأذهان والعبارة وهي: العلوم الآلية المعنوية كالمنطق ونحوه وفيما يتعلق بالعبارة والكتابة وهي: العلوم الآلية اللفظية أو الخطية وتسمى: بالعربية ثم إن ما عدا الأول من الأقسام الأربعة لا سبيل إلى تحصيلها إلا الكسب بالنظر أما الأول: فقد يحصل بالتصفية أيضا. ثم إن الناس منهم: الشيوخ البالغون إلى عشر الستين: فاللائق بشأنهم طريق التصفية والانتظار لما منحه الله - سبحانه وتعالى - من المعارف إذ الوقت لا يساعد في حقهم تقديم طريق النظر ومنهم: الشبان الأغبياء: فحكمهم حكم الشيوخ ومنهم: الشبان الأذكياء المستعدون لفهم الحقائق: فلا يخلو إما أن لا يرشدهم ماهر في العلوم النظرية فعليهم ما على الشيوخ وإما أن يساعدهم التقدير في وجود عالم ماهر مع أنه أعز من الكبريت الأحمر فعليه تقديم طريقة النظر ثم الإقبال بشراشره إلى قرع باب الملكوت ليكون فائزا بنعمة باقية لا تفنى أبدا.

الباب الخامس: في لواحق الفوائد

الباب الخامس: في لواحق الفوائد مطلب: لزوم العلوم العربية ... الباب الخامس: في لواحق الفوائد وفيه: مطالب مطلب: لزوم العلوم العربية اعلم: أن مباحث العلوم إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التي أكثرها مباحث الألفاظ وموادها وبين العلوم العقلية وهي في الذهن واللغات: إنما هي ترجمان عما في الضمائر من المعاني ولا بد في افتتاحها من ألفاظها بمعرفة دلالتها اللفظية والخطية عليها وإذا كانت الملكة في الدلالة راسخة بحيث تتبادر المعاني إلى الذهن من الألفاظ زال الحجاب بين المعاني والفهم ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها صيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلا فحدثت فيها الملكات وتشوقوا إلى علوم الأمم فنقولها بالترجمة إلى علومهم وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها وقد ثبت أن اللغة: ملكة في اللسان والخط: صناعة ملكتها في اليد فإذا تقدمت اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لأن الملكة إذا تقدمت في صناعة أخرى1 - إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة - لم تستحكم كما في أصاغر أبناء العجم. وكذا شأن من سبق له أن تعلم الخط الأعجمي قبل العربي ولذلك ترى بعض علماء الأعجام في دروسهم يعدلون عن نقل المعمى من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك.

_ 1 في هامش الأصل: "لا يعقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة".

مطلب: العلوم العقلية وأصنافها

مطلب: العلوم العقلية وأصنافها 1 أما العلوم العقلية التي هي: طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها وهي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة وتسمى هذه العلوم: علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم: الأول: علم المنطق وهو: علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة وفائدته: تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات بمنتهى فكره. الثاني: العلم الطبيعي ثم النظر بعد ذلك عندهم: إما: في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من: المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية والنفس التي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك ويسمى هذا الفن: بالعلم الطبيعي وهو: الثاني منها الثالث: العلم الإلهي وإما: أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات ويسمونه: العلم الإلهي وهو: الثالث منها. والعلم الرابع: وهو: الناظر في المقادير ويشتمل على: أربعة علوم وتسمى التعاليم: أولها: علم الهندسة وهو: النظر في المقادير على الإطلاق إما المنفصلة: من حيث كونها معدودة أو المتصلة: وهي إما ذو بعد واحد وهو: الخط أو ذو بعدين وهو: السطح أو ذو أبعاد ثلاثة وهو: الجسم التعليمي ينظر في هذه المقادير وما يعرض عليها إما من: حيث ذاتها أو من: حيث نسبة بعضها إلى بعض وثانيها: علم الأرتماطيقي وهو: معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو: العدد ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة. وثالثها: علم الموسيقى وهو: معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد وثمرته: معرفة تلاحين الغناء. ورابعها: علم الهيئة وهو: تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها. فهذه: أصول العلوم الفلسفية وهي سبعة: 1 - المنطق: وهو المقدم منها وبعده: التعاليم. 2 - فالأرتماطيقي أولا. 3 - ثم الهندسة. 4 - ثم الهيئة. 5 - ثم الموسيقى. 6 - ثم الطبيعيات. 7 - ثم الإلهيات.

_ 1 انظر الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1219-1225.

ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه فمن فروع الطبيعيات: الطب ومن فروع علم العدد: علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة: الأزياج: وهي قوانين لحسابات حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك ومن فروع النظر في النجوم: علم الأحكام النجومية. واعلم: أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما: فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم - على ما بلغنا - لما كان العمران موفورا فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم وأخذ ذلك عنهم الأمم من: فارس ويونان فاختص بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت وماروت وشأن السحرة وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بخطر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع - والله أعلم بصحتها - مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. وأما الفرس: فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما ونطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك ولقد يقال: إن هذه العلوم إما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم وعلومهم مالا يأخذه الحصر. ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليستأذنه في شأنها وتلقينها للمسلمين فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله فطرحوها في الماء أو في النار وذهب علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. وأما الروم: فكانت الدولة منهم ليونان أولا وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل: أساطين الحكمة وغيرهم واختص فيها المشاؤون - منهم أصحاب الرواق - بطريقة حسنة في التعليم يقرؤون في رواق يظلهم من الشمس والبرد - على ما زعموا - واتصل فيها سند تعليمهم - على ما يزعمون - من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي وتامسطيوس1 وغيرهم وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيها صيتا وكان يسمى: المعلم الأول فطار له في العالم ذكر. ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه

_ 1 الإسكندر الأفرودسي وهو من شراح أرسطو وليس من تلاميذه المباشرين كما قد توهمه عبارة ابن خلدون، لأنه يفصله عن أرسطو نحو ستة قرون فقد نشأ في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث بعد الميلاد، أما أرسطو فقد ولد سنة 384 وتوفي سنة 322 قبل الميلاد. وأما تامسطيوس فقد ولد بين سنة 310 و 320 بعد الميلاد، وتوفي بالقسطنطينية سنة 395م، وهو من أشهر شراح أرسطو.

الملل والشرائع فيها وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ثم ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقية فيهم ثم جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة من الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم: أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطبيعيات فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده ودونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملة: أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا بالمشرق والقاضي: أبو الوليد بن رشد والوزير: أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم واختص هؤلاء بالشهرة والذكر واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس وتلميذه ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها والذنب في ذلك لمن ارتكبه ولو شاء الله ما فعلوه. ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منها إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة من علماء السنة ويبلغنا عن أهل المشرق: أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبج من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من علماء هراة من بلاد خراسان يشهر: بسعد الدين التفتازاني منها: في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية وقدما عالية في سائر الفنون العقلية والله يؤيد بنصره من يشاء كذلك بلغنا لهذه العهد: أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة ودواوينها جامعة متوفرة وطلبتها متكثرة - والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار1 انتهى. قلت:

_ 1 انطر مقدمة ابن خلدون ص 1225.

ثم انتقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام ولم يبق اليوم في المشرق ولا في المغرب بل ولا في الجهات الأربع وما بها من المدن والأمصار والقرى من العلم إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه وأباد الزمان أهله كأن لم يغنوا بالأمس فقد ذهب العلم برمته وجاء الجهل بأسره وكان أمر الله قدرا مقدورا.

مطلب: في أن اللغة ملكة صناعية

مطلب: في أن اللغة ملكة صناعية 1 اعلم: أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع وهذا هو معنى: البلاغة والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا ومعنى الحال: أنها صفة غير راسخة ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي: صفة راسخة. فالمتكلم من العرب - حين كانت ملكة اللغة العربية موجودة فيهم - يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال وهذا هو معنى ما تقوله العامة: من أن اللغة للعرب بالطبع أي: بالملكة الأولى التي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم ثم إنه فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها: أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى وهذا معنى فساد اللسان العربي. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم وأما من بعد عنهم من: ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق2.

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون ص1388-1390. 2 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير

مطلب: في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير 1 وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرف لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمى: بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات في تراكيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظا وعبارة من جميع الألسن وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا" واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر2 وقد قال له بعض النحاة: إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم وإن زيدا قائم وإن زيدا لقائم والمعنى واحد فقال له: إن معانيها مختلفة فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد والثاني: لمن سمعه فتردد فيه والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال. وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت وأن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم وألقاها القصور في أفئدتهم وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتعبير عن المقاصد والتفاوت فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطبتهم وفهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم والشاعر المفلق على أساليب لغتهم والذوق الصحيح والطبع السليم: شاهدان بذلك ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعا معروفا وهو الإعراب وهو بعض من أحكام اللسان وإنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولا فانقلب لغة أخرى وكان القرآن متنزلا به والحديث النبوي منقولا بلغته وهما أصلا الدين والملة فخشي تناسيهما وانغلاق الإفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه وصار علما ذا فصول وأبواب ومقدمات

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1390-1394. 2 هو أبو سليمان، عيسى بن عمر الثقفي، من أئمة اللغة من أهل البصرة، وهوشيخ الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبوية وابن العلاء، له تصانيف في اللغة والنحو ضاعت كلها، توفي سنة 149هـ = 766م.

ومسائل سماه أهله: بعلم النحو وصناعة العربية فأصبح فنا محفوظا وعلما مكتوبا وسلما إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله وافيا ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه فتكون لها قوانين تخصها ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر. فليست اللغات وملكاتها مجانا ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق: القيل في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح ولغة حمير: لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة - كما قلناه - حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذه العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه. ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال ومختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه يحاكيهم في النطق بها وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقا وغربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم وهم من أعقاب مضر وسائر الجيل منهم في النطق بهذه القاف أسوة وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين ولعلها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينها وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا: أن من قرأ في أم الكتاب: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاته ولم أدر من أين جاء هذا؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها وإنما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح وأهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا وغربا في النطق بها وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري فتفهم ذلك والله الهادي المبين1 يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر

مطلب: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر 1 اعلم: أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا وهي عن لغة مضر أبعد فأما: أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق: مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه وهذا معنى اللسان واللغة وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد وأما: أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلئن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم - كما قلناه - وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والأندلس والمشرق أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم وصارت لغة أخرى ممتزجة والعجمة فيها أغلب - لما ذكرناه - فهي عن اللسان الأول أبعد وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولا ودايات وأظآرا ومراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضا بعضها بعضا كما نذكره وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم والله يخلق ما يشاء ويقدر2.

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1394-1395. 2 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في تعليم اللسان المضري

مطلب: في تعليم اللسان المضري 1 اعلم: أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت وفسدت ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن وإنما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها - كما قدمناه - إلا أن اللغات لما كانت ملكات - كما مر - كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عبارتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفظه من أساليبهم

_ 1 الفصل من مقدمة ابن خلدون صفحة 1395-1396.

وترتيب ألفاظهم فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال والذوق يشهد بذلك وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطبع السليم فيهما - كما نذكر - وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما ونثرا ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه العميم.

مطلب: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم

مطلب: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم 1 والسبب في ذلك: أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة فهو: علم بكيفية لا نفس كيفية فليست نفس الملكة وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما ولا يحكمها عملا مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل ويعطي صورة الحبك والتنبيت2 والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا وكذا: لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر قبالتك ممسك بطرفة الآخر وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل ولذلك تجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي وكذا تجد كثيرا ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول ولا المرفوع من المجرور ولا شيئا من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم: أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية وأنها مستغنية عنها بالجملة وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرا بحال هذه الملكة وهو قليل واتفاقي وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه والمحصل له قد حصل على حظ من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته وتنبه به لشأن الملكة فاستوفى

_ 1 انظر الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1396-1399. 2 فوقها بين السطرين عبارة: "يعني تنجيد".

تعليمها فكان أبلغ في الإفادة ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه: من يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب وكلامهم فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها وأما من سواهم من: أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب إلا إن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان وتلك القوانين: إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها وأصاروها علما بحتا وبعدوا عن ثمرتها وتعلم مما قررناه في هذا المقام: أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم والله مقدر الأمور كلها والله أعلم بالغيب1 والشهادة.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه: لا يحصل غالبا للمستعربين من العجم

مطلب: في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه: لا يحصل غالبا للمستعربين من العجم 1 اعلم: أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان والبلاغة مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التركيب حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر بل وبغير فكر إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعي ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت

_ 1 انظر الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1399-1402.

ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع وهذه الملكة - كما تقدم - إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها وقد مر ذلك وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم. ومثاله: لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها حتى يستولي على غايتها وليس من العلم القانوني في شيء وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث تحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة - عندما ترسخ وتستقر - اسم: الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان وإنما هو موضوع لإدراك الطعوم لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه وأيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له: ذوق. وإذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله: كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان وهي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب لما يضطرون إليه من ذلك وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها - كما تقدم - وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هي ملكة اللسان المطلوبة ومن عرف تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء إنما حصل أحكامها - كما عرفت - وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرار لكلام العرب فإن عرض لك ما تسمعه من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراء لها وكأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشؤوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها فهم وإن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة والكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها ولم تذهب آثار الملكة منهم ولا من

أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته واليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له لما قدمناه من: أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة وإن فرضنا عجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالمدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها وهو غلط أو مغالطة وإنما حصلت له الملكة أن حصلت في تلك القوانين البيانية وليست من ملكة العبارة في شيء والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم1.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم

مطلب: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم 1 ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في ذلك: ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضري لهذا العهد ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم وليس كذلك وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة. واعتبر ذلك في أهل الأمصار فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم ولقد نقل ابن الرقيق2 أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما: أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله تعالى. وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيها بما ذكرنا وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة ولم تزل كذلك لهذا العهد ولهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق3.

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1402-1405. 2 هو أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق أو ابن الرقيق، مؤرخ أديب، من أهل القيروان، له مؤلقات في التاريخ، توفي بعد سنة 417هـ - 1076م. 3 هو الحسن بن رشيق القيرواني صاحب كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده أديب نقاد باحث، نظم الشعر وله ديوان، ألف كتباً في النقد واللغة والرجال: 390-463هـ = 1000-1071م.

وابن شرف1 وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما ونثرا وكان فيهم ابن حيان2 المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها وابن عبد ربه3 والقسطلي4 وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية وشغلوا عن تعلم ذلك. وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض. وكان من آخرهم: صالح بن شريف ومالك بن المرحل5 من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكتاب دولة ابن الأحمر في أولها وألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة من إشبيلية إلى سبتة ومن شرق الأندلس إلى إفريقية ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية - وهي منافية لما قلناه ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت ونجم بها ابن بشرين وابن جابر6 وابن الجياب وطبقتهم ثم إبراهيم الساحلي الطريحي وطبقته وقفاهم ابن الخطيب7 من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه بعده. وبالجملة: فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر وتعليمها أيسر وأسهل بما هم عليه لهذا العهد - كما قدمناه - من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم وليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس والبربر في هذه

_ 1 هو محمد بن سعيد ببن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني، ابو عبد الله، كاتب مترسل وشاعر أديب، ولد في القيروان وتوفي في إشبيليه، له ديوان شعر وكتب أخرى: 390-460هـ = 1000-1068م. 2 هو حيان بن خلف بن حسين بن حيان الأموي بالولاء، من أهل قرطبة، مؤرخ بحاث، له مؤلفات في التاريخ والرجال منها "لمقتبس في تاريخ أهل الأندلس": 377-469هـ = 987-1076م. 3 هو أحمد بن محمد بن عبدربه بن حبيب بن حدير بن سالم من أهل قرطبة الأديب الإمام صاحب "العقد الفريد" وله ديوان شعر: 246-328هـ = 860-940م. 4 هو ابن دراج، أحمد بن محمد بن القاضي بن دراج القسطلي الأندلسي، شاعر كاتب، له ديوان شعر: 347-421هـ = 958-1030م. 5 هو مالك بن عبد الرحمن بن علي المعروف بابن المرحل، من أهل مالقه، أديب من الشعراء له ديوان شعر، وله مؤلفات أخرى: 604-699هـ = 1207-1300م. 6 هو محمد بن جابر بن محمد بن قاسم الوادي آشي الأصل التونسي، فقيه محدث نحوي لغوي مقرئ ممن أخذ عنهم لسان الدين بن الخطيب، له مؤلفات كثيرة وديوان شعر: 673-749هـ = 1274-1348م. 7 هو لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي الأندلسي، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب، وزير مؤرخ أديب كبير، له مؤلفات كثيرة جداً: 713-776هـ. = 1313-1374م.

العدوة وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة وإجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلا في القليل فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم وكان فحول الشعراء والكتاب أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم وفيه: لغتهم وأخبارهم وأيامهم وملتهم العربية وسيرتهم وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب وبقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية - كما هو المعلوم - حتى تلاشى أمر العرب ودرست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم وذلك في دولة الديلم والسلجوقية وخالطوا أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته وصار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها وعلى ذلك تجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور وإن كانوا مكثرين منه - والله يخلق ما يشاء ويختار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه1.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

الباب السادس: في انقسام الكلام إلى فني: النظم والنثر

الباب السادس: في انقسام الكلام إلى فني: النظم والنثر مطلب: أن لسان العرب وكلامهم على فنين ... الباب السادس: في انقسام الكلام إلى فني: النظم والنثر 1 وفيه: مطالب: مطلب: اعلم: أن لسان العرب وكلامهم على فنين: فن الشعر المنظوم: وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه: الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد وهو القافية. وفن النثر: وهو الكلام غير الموزون. وكل واحد من الفنين: يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام فأما الشعر: فمنه المدح والهجاء والرثاء وأما النثر: فمنه: السجع: الذي يؤتى به قطعا ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى: سجعا ومنه: المرسل: وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا ولا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها ويستعمل في: الخطب والدعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم. وأما القرآن فهو وإن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين وليس يسمى مرسلا مطلقا ولا مسجعا بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها ويثني من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية وهو معنى قوله تعالى: {للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وقال: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} ويسمى آخر الآيات منها: فواصل إذ ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع ولا هي أيضا قواف وأطلق اسم المثاني: على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا ولهذا سميت: السبع المثاني وانظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه. واعلم: أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر ولا تستعمل فيه مثل: النسيب المختص بالشعر والحمد والدعاء المختص بالخطب والدعاء المختص بالمخاطبات،

_ 1 انطر الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1405-1408.

وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية وقصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه - وخصوصا أهل المشرق - وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تناسبها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب والتزام التقفية أيضا من اللوذعية والتزيين وجلال الملك والسلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه والمحمود في المخاطبات السلطانية: الترسل وهو: إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة ولكل مقام أسلوب يخصه من: إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية أو استعارة وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه وولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع والألقاب البديعية ويغفلون عما سوى ذلك وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم: كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس فتأمل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب بمنه وكرمه1.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنثور والمنظوم معا إلا للأقل

مطلب: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنثور والمنظوم معا إلا للأقل 1 والسبب في ذلك: أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة لأن تمام الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة وعائقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق وقد برهنا عليه في موضعه

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1408-1409.

بنحو من هذا البرهان فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان وهي بمنزلة الصناعة وانظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا؟ فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي ولا يزال قاصرا فيه ولو تعلمه وعلمه وكذا البربري والرومي والإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية والتحصيل وما أتي إلا من قبل اللسان وقد تقدم لك من قبل: أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع وأن الصنائع وملكاتها لا تزدحم وأن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .

مطلب: في صناعة الشعر ووجه تعلمه

مطلب: في صناعة الشعر ووجه تعلمه 1 هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى: بالشعر عندهم ويوجد في سائر اللغات إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو: كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم: بيتا ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه: رويا وقافية ويسمى جملة الكلام إلى آخره: قصيدة وكلمة وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وما بعده وإذا أفرد كان تاما في بابه في: مدح أو تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك في البيت ما يستقل في إفادته ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك ويستطرد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول ومعانيه إلى أن تناسب المقصود الثاني ويبعد الكلام عن التنافر كما يستطرد من التشبيب إلى المدح ومن وصف البيداء والطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأثر وأمثال ذلك. ويراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن وإنها هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة: البحور وقد حصروها في خمسة عشرا بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً. واعلم: أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم وكانت ملكته مستحكمة

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1409 – 1419.

فيهم شأن الملكات كلها والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم حتى يحصل شبه في تلك الملكة. والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده ويصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب ويبرزه مستقلا بنفسه ثم يأتي ببيت آخر كذلك ثم ببيت ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه ولا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها واستعمالها ولنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم: أنها عبارة عندهم عن: المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو وظيفة البلاغة والبيان ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض فهذه العلوم الثلاثة: خارجة عن هذه الصناعة الشعرية وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله: يا دار مية بالعلياء فالسند1 ... ................................ ويكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله: قفا نسأل الدار التي خف أهلها2 ... .................................. أو: باستبكاء الصحب على الطلل كقوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... ......................................

_ 1 للنابغة الذبياني وتمامه: ......................................... ... أقوت وطال عليها سالف الأمد 2 لدعبل الخزاعي، وتمامه: ........................................ ... متى عهدها بالصوم والصلوات

أو: بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله: ألم تسأل فتخبرك الرسوم ... ................................ ومثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله: حي الديار بجانب العزل ... ............................... أو: بالدعاء لها بالسقيا كقوله: أسقى طلولهم أجش هزيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم أو: سؤال السقيا لها من البرق كقوله: يا برق طالع منزلا بالأبرق ... واحد السحاب لها حداء الأينق أو: مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر أو: باستعظام الحادث كقوله: أرأيت من حملوا على الأعواد1 ... ..................................... أو: بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله: منابت العشب لا حام ولا راع ... مضى الردى بطويل الرمح والباع أو: بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف أو: بتهئنة قريعة بالراحة من ثقل وطأته كقوله: ألقى الرماح ربيعة بن نزار ... أودى الردى بقريعك المغوار وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل إنشائية وخبرية اسمية وفعلية متفقة وغير متفقة مفصولة وموصولة على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى يعرفك به ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسدا ولا تقولن: إن معرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك لأنا نقول: قوانين البلاغة إنما هي: قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئاتها الخاصة بالقياس وهو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب،

_ 1 للشريف الرضي وتمامه: ................................... ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي

لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر - كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق - وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لا يفيد تعليمه بوجه وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه العلمية استعملوه وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو وبهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا: إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين ففي الشعر: بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة واستقلال الكلام في كل قطعة وفي المنثور: يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالبا وقد يقيدونه بالأسجاع وقد يرسلونه وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب والنساج على المنوال فلهذا كان فن تأليف الكلام منفردا عن نظر النحوي والبياني والعروضي نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها: أساليب ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما ونثرا. وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو؟ فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا الغرض فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه. وقول العروضيين في حده: إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده ولا رسم له وصناعتهم إنما تنظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة فلا جرم أن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر: هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به فقولنا: الكلام البليغ جنس وقولنا: المبني على الاستعارة والأوصاف فصل عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر وقولنا: المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل وقولنا: مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء وقولنا: الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور وكذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما وليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا وبهذا الاعتبار كان الكثير من أهل هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب من

الأمم عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب وغيرهم ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك ويقول: مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. وإذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم: أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا: أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل: ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري1 والرضي وأبي فراس وأكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر وإنما هو نظم ساقط واجتناب الشعر أولى ممن لم يكن له محفوظ ثم بعد الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال: إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحي رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادة عن استعمالها بعينها فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار وكذا المسموع لاستثارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر وفي هؤلاء الجمام. وربما قالوا: إن من بواعثه العشق والانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق2 في كتاب العمدة وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه بعضها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها فربما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيهاكما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو بنات فكره واختراع قريحته ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة وقد حظر

_ 1 ابن أوس، وهو أبو تمام الطائي. 2 سبق تعريفه في ص154.

أئمة اللسان عن المولد وارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة ويجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم وإنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا واستعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة ولا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن ولهذا كان شيوخنا - رحمهم الله - يعيبون شعر أبي إسحاق بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية - كما مر - فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر والحاكم بذلك هو الذوق وليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ والمقعر وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة ويبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب ولا يحذق فيه إلا الفحول وفي القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء1 ويجف بالترك والإهمال. وبالجملة: فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك وهذه نبذة كافية والله المعين2.

_ 1 في هامش الأصل: "مرى الناقة يمريها: مسح ضرعها. وأمرت هي: درً لبنها، وهي المرية بالضم والكسر، ومرى الشيْ: استخرجه كامتراء" "القاموس". 2 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني

مطلب: في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني 1: اعلم: أن صناعة الكلام نظما ونثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني وإنما المعاني تبع لها وهي أصل فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله وجريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله ويفرض نفسه مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ وأما المعاني فهي في الضمائر وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طلوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى فلا تحتاج إلى صناعة وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة - كما قلناه - وهو بمثابة القوالب

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1422-1423.

للمعاني فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها: آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف والماء واحد في نفسه وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد والمعاني واحدة في نفسها وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون1.

_ 1 آخر كلام ابن خلدون.

مطلب: في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ

مطلب: في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ 1: قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ فمن كان محفوظه: شعر حبيب2 أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل بن هارون أو ابن الزيات أو البديع3 أو الصابئ تكون ملكته أجود وأعلى مقاما ورتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل4 من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني5 أو العماد الأصفهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها وتنمو قوى الملكة بتغذيتها وذلك أن النفس وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيفها من خارج فبهذه يتم وجودها وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج - كما ذكرنا فالملكة الشعرية: تنشأ بحفظ الشعر وملكة الكتابة: بحفظ الأسجاع والترسيل والعلمية: بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار والفقهية: بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية: بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه وينقلب ربانيا وكذا سائرها وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام ولهذا كان

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1423. 2 ابو تمام. 3 بديع الزمان الهمذاني. 4 أي إبراهيم بن سهل الشاعر المتوفى سنة 649هـ. 5 أي القاضي الفاضل.

الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة وما ذلك إلا لما يسبق إلى محفوظهم ويمتلئ به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين والعلوم لاحظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم: ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب أخبرني صاحبنا الفاضل: أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوما صاحبنا: أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان: أبي الحسن وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا: لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه فقلت له: من أين لك ذلك؟ قال: من قوله: ما الفرق إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي. وأما الكتاب والشعراء: فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل وانتقائهم له الجيد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا1: أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من: القرآن والحديث وفنون من كلام العرب - وإن كان محفوظي قليلا - وإنما أتيت - والله أعلم - من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية فإني حفظت قصيدتي: الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات وتدارست كتابي ابن الحاجب: في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب فعاق القريحة عن بلوغها فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال: لله أنت وهل يقول هذا إلا مثلك؟!. ويظهر لك من هذا المطلب وما تقرر فيه سر آخر وهو: إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية في: خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة والسبب في ذلك: أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم

_ 1 أي صاحب ابن خلدون.

ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة. ولقد سألت1 يوما شيخنا الشريف: أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا - وكان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه - فسألته يوما: ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين؟ - ولم يكن يستنكر ذلك بذوقه - فسكت طويلا ثم قال لي: والله ما أدري فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعله السبب فيه وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم والله خلق الإنسان وعلمه البيان2.

_ 1 الكلام لابن خلدون. 2 انتهى كلام ابن خلدون في صفحة 1426.

مطلب: في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر

مطلب: في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر 1: اعلم: أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه: علومهم وأخبارهم وحكمهم وكان رؤساء العرب منافسين فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر لتمييز حوله2 حتى انتهوا إلى المناغاة3 في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم وبيت إبراهيم كما فعل امرؤ القيس بن حجر والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وطرفة ابن العبد وعلقمة بن عبدة والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثاب عليه فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه وكان لعمر بن أبي ربيعة - كبير قريش لذلك العهد - مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به ثم جاء من بعد ذلك الملك والدولة العزيزة وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم ويحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على: الآثار والأخبار واللغة وشرف

_ 1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1432-1434. 2 في هامش الأصل: "الحول: الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف" "قاموس". 3 في هامش الأصل: "المناغاة: المباراة والمعارضة".

اللسان والعرب يطالبون ولدهم بحفظها ولم يزل هذا الشأن أيام بني أمية وصدرا من دولة بني العباس وانظر ما نقله صاحب العقد1 في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب: الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك والرسوخ فيه والعناية بانتحاله والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه ثم جاء خلف من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل: العجمة وتقصيرها باللسان وإنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب والبحتري والمتنبي وابن هانئ ومن بعدهم ... إلى هلم جرا فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو: الكذب والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين - كما ذكرنا آنفا - وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين وتغير الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة ومذمة لأهل المناصب الكبيرة والله مقلب الليل والنهار2.

_ 1 ابن عبدربه في العقد الفريد. 2 انتهى كلام ابن خلدون.

مطلب: في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد

مطلب 1: في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد اعلم: أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر وأثنى عليه وكان في حمير أيضا شعراء متقدمون ولما فسد لسان مضر ولغتهم دونت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في: الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره. ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات والسواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ووصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب: أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويتأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من: النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام.

_ 1 ذكر ابن خلدون هذا الفصل في مقدمته صفحة 1434 تحت عنوان: "فصل في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد".

وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد: بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر: بالبدوي وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية ثم يغنون به ويسمون الغناء به باسم: الحوراني - نسبة إلى: حوران من أطراف العراق والشام وهي من منازل العرب: البادية ومساكنهم إلى هذا العهد. ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة وفيهم: الفحول والمتأخرون والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد - وخصوصا علم اللسان - يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها وهذا إنما أوتي من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته ونظره وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة: مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل والنصب دالا على المفعول أو بالعكس وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو لغتهم هذه فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب1. 2وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه: بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة ويسمون المتعدد منها: بيتا واحدا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب. وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس: مقدم بن معافى القبري من شعراء الأمير: عبد الله بن محمد المرواني وأخذ ذلك عنه: أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما فكان أول من برع في هذا الشأن: عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهر

_ 1 انتهى هذا الكلام في ضفحة 1437. 2 جاء هذا الكلام في مقدمة ابن خلدون صفحة 1447 تحت عنوان: "الموشحات والأزجال للأندلس".

يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف وجاء مصليا خلفه منهم: ابن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع وسابق فرسان حلبتهم: الأعمى التطيلي ثم يحيى بن بقي وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون: أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية وكان كل واحد منهم اصطنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله: ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري خرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون وذكر العلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له: أما ترى أحمد ... في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب ... فأرنا مثله يا مشرق وكان في عصرهما من الموشحين المطبوعين: أبو بكر الأبيض وكان في عصرهما أيضا الحكيم: أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين: محمد بن أبي الفضل بن شرف وأبو إسحاق الدويني قال ابن سعيد: وسابق الحلبة التي أدركت هؤلاء: أبو بكر بن زهر وقد شرقت موشحاته وغربت واشتهر بعده: ابن حبون واشتهر معهما يومئذ بغرناطة: المهر بن الغرس وبعد هذا: ابن حزمون بمرسية وأبو الحسن: سهل بن مالك بغرناطة واشتهر بإشبيلية أبو الحسن بن الفضل واشتهر بين أهل العدوة: ابن خلف الجزائري ومن محاسن الموشحات للمتأخرين: موشحة ابن سهل شاعر إشبيلية وسبتة من بعدها. وأما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك: موشحة ابن سناء الملك المصري اشتهرت شرقاً وغرباً. ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا واستحدثوه فنا سموه: بالزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية: أبو بكر بن قزمان وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم يظهر حلاها ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه وكان لعهد الملثمين وهو إمام الزجالين على الإطلاق قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الإشبيلي إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة وكان ابن قزمان مع أنه قرطبي الدار كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية ويبيت بنهرها وكان في عصرهم بشرق الأندلس: محلف الأسود وله محاسن من الزجل.

وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها: مدغيس وقعت له العجائب في هذه الطريقة وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية: ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل قال ابن سعيد: لقيته ولقيت تلميذه: المعمع صاحب الزجل المشهور ثم جاء من بعدهم: أبو الحسن: سهل بن مالك - إمام الأدب - ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير: أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الإسلامية من غير مدافع وكان لعصره بالأندلس: محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش وكان إماما في هذه الطريقة وهذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر وفيها نظمهم حتى إنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر لكن بلغتهم العامية ويسمونه: الشعر الزجلي وكان من المجيدين لهذه الطريقة: الأديب: أبو عبد الله الألوسي ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة كالموشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا وسموه: عروض البلد وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف: بابن عمير فنظم قطعة على طريقة الموشح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته وتركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوعوه أصنافا إلى: المزدوج والكاري والملعبة والغزل واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها وكان منهم: الشيخ: علي بن المؤذن سلمان وبزرهون - من ضواحي مكناسة - رجل يعرف: بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن وأتى فيه بكل غريبة من الإبداع. وأما أهل تونس فاستحدثوا في الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية إلا أن أكثره رديء. وكان وكان ومنه: مفرد ومنه في بيتين ويسمونه: دوبيت على الاختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب وتبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية فجاءوا بالعجائب. واعلم: أن الأذواق في معرفة البلاغة كلها إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها - كما قلناه في اللغة العربية - فلا الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرق بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس والمغرب لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم وكل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل جلدته1 {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} .

_ 1 آخر ما نقله المؤلف من مقدمة ابن خلدون انظره صفحة 1475. وقد جاء في هامش الأصل تنبيه على ذلك نصه: "إلى هنا انتهى ما نقله المؤلف السيد العلامة من كتاب "عنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر" من غير حذف ولا إسقاط مطلب، فيعلم". "ممتاز الدولة مير عبد الحي كان".

مطلب: في بيان المردف والمستزاد والمزدوجة

مطلب: في بيان المردف والمستزاد والمزدوجة قال السيد العلامة: غلام علي أزاد1 - رحمه الله تعالى -: الرديف: عبارة عن كلمة مستقلة فصاعدا تتكرر بعد الروي والشعر المشتمل عليه يسمى: مردفا من الترديف وهو يزيد الأشعار جمالا ويلبس بنات الأفكار خلخالا وبه يتنوع الشعر الفارسي على أنواع لا تحصى وأقسام لا تتناهى ولا رديف في شعر العرب وإن تكلف أحد بالترديف لا تظهر له جلوة مثل ما تظهر في شعر الفرس فهو في الفارسية بزة العروس وفي العربية رجل الطاووس ولا منشأ له إلا خصوصية اللسان ومن يعرف اللسانين يشاهد أن الرديف في الفارسية طبيعي وفي العربية غير طبيعي وبيانه أن الرديف يجيء في الفارسية عفوا بلا تجشم بل لا يحسن إغزالهم بلا رديف أو وصل بالروي ويجيء في العربية بالتجشم حيث يحتاج إلى فرض رديف يصح معناه في جميع أبيات القصيدة بل ربما يعوق الرديف الذهن عن التطرق إلى المعاني العالية بخلاف الفارسية فإن الرديف فيها يبعث الذهن على المعاني العالية ويهديه إلى الجواهر الغالية وقد سبق أن سبب ذلك: ليس إلا خصوصية اللسان ولهذا ما وجدت في كلام العرب العرباء شعرا مردفا وإنما وجدته في كلام الأعاجم على سبيل الشذوذ كما نظم الزمخشري قصيدة مردفة في مدح علاء الدولة والي خوارزم مطلعها: الفضل حصله علاء الدوله ... والمجد أثله علاء الدوله وكما نظم الشيخ: عبد العزيز اللنباني قصيدة مردفة مطلعها: بشراك يا من به يستبشر العيد ... ومن به كل ميت ينشر العيد والآية المكررة في سورة الرحمن من القرآن المجيد وهي: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فيها رائحة من الرديف. ولا يخفى أن التكرير نوع من التفنن في الكلام وضرب من طلاقة ألسنة الأقلام ورأيت في الرديف فائدة وهي: أن حروف الروي التي قوافيها قليلة كالثاء المثلثة والخاء المعجمة والذال المعجمة والزاي والضاد المعجمة والطاء المهملة والظاء المعجمة والغين المعجمة والكاف إذا وقعت رويا يضطر فيها الإنسان إلى إيراد اللغات الحوشية والألفاظ الغير المأنوسة وبالرديف يتخلص عن هذا الاضطرار ويتسع عليه مضيق القوافي والروي المنون بلا إشباع والمتحرك بلا وصل لا يكون إلا في الشعر المردف لوقوع الروي في وسط الكلام وهو في الشعر المردف من وجه وسط للحوق الرديف به فلا يشبع بل ينتقل فيه الإشباع من الروي إلى الحرف الواقع في آخر الرديف ومن وجه آخر لكون مدار القافية عليه فيشبع فالروي المنون بلا إشباع كما في قولي: رشأ الأبيرق قاتل والله ... إن المحب لغافل والله

_ 1 هو السيد غلام آزاد ابن السيد نوح الحسيني الواسطي البلكرامي الهندي، أديب لغوي شاعر عروضي بلاغي مؤرخ. له ديوان شعر ومؤلفات كثيرة 1116-1200هـ = 1704-1785م.

والروي المشبع كقولي أيضا: جور الحبيبة في منى مرضي ... ذبح المتيم هاهنا مرضي والروي المتحرك بلا وصل كقولي أيضا: قدر القلوب من الصفاء يلوح ... ثمن الجواهر بالجلاء يلوح واعلم: أن المستزاد من مستخرجات العجم ثم تناوله العرب وهو كلام موزون يستزاد فيه بعد كل مصراع من البيت جزءان من بحر المستزاد عليه بشرط الالتئام أو بعد كل بيت إلا البيت المصرع فإنه يستزاد فيه جزءان بعد الشطر الأول أيضا كما تراعى فيه القافية والقسم الأول أوفق بالدبيت والقسم الثاني أوفق بالقصيدة ولا يخفى على الناقد أن تمكين القافية في زيادة المستزاد قلما يوجد مثله في غيرها فالزيادة فيه كأنها برة في ساق الغادة نعم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة على أنها تجلب المعاني الرائقة وتجذب الخيالات الفائقة بخلاف الرديف فإنه يطرد المعاني ويقتل الغواني. ثم الالتئام بين الزيادة وبين المستزاد عليه تدركه القريحة السليمة ولا يوجد الالتئام في كل وزن من أوزان العروض بل عدة أوزان من الفارسية أما بالعربية فلا يوجد إلا في ثلاثة أوزان. أحدها: المتقارب والزيادة فيه إما: فعولن فعول سالما ومقبوضا أو: فعولن فعل سالما ومحذوفا أو: فعول فعول مقبوضين أو: فعول فعل مقبوضا ومخدوفا. وثانيها: ركض الخيل والزيادة فيه إما: فعلن فعلن بتحريك العين فيهما أبو بسكونها فيهما أو بتحريك العين في أحدهما وسكونها في الآخر وكلا البحرين من الدائرة الخامسة من العروض وثالثها: الدبيبت وهو في الأصل من مستخرجات العجم استخرجوه من بحر النهرج لا من بحر الكامل - كما زعمه بعضهم - والنهرج: عند الفرس ثمانية مفاعيلن يتركب الدبيت منه ومن بعض فروعه بعد الزحافات. واختراع الحسن القطان - من أهل خراسان - لضبط أوزانه شجرتين إحداهما: شجرة الأخرب مشتملة على أربعة وعشرين وزنا ووجه تسميتها: أن جزأها الأول: مفعول بضم اللام من مفاعلن بالخرب وهو: حذف الميم والنون من مفاعيلن وأخراهما: شجرة الأخرم أيضا مشتملة على أربعة وعشرين وزنا ووجه تسميتها: أن جزأها الأول مفعولن من مفاعيلن بالخرم وهو: حذف الميم فقط من مفاعيلن ويجوز الجمع بين بعض هذه الأفاعيل وبين بعض آخر في دبيت واحد لا يخل به الوزن وأوصل بعضهم أوزانه بضرب بعضها في بعض إلى عشرة آلاف. ثم الزيادة في مستزاد الدوبيت على قسمين القسم الأول: ما فيه أول الجزأين أخرب وهو مفعول من مفاعيلن - كما مر - والثاني منهما: إما فعول فيكون الجزءان مفعول فعول أو فعل فيكون الجزءان مفعول فعل والقسم الثاني: ما فيه أول الجزأين أخرم وهو مفعول من مفاعيلن - كما سبق - والثاني منهما: إما فاع فيكون الجزءان مفعولن فاع أو فع فيكون الجزءان مفعولن فع والزحافات التي تقع في مفاعيلن وتتولد منه الأجزاء اللواتي في القسمين من الزيادة مذكورة في كتب العروض الفارسية في شرح الرباعي ويجوز الجمع بين هذه الأفاعيل في الزيادات كما

يجوز في الأبيات الأصلية وعرف صاحب مناظر الإنشاء1 المستزاد: بأن تستزاد بعد كل مصراع فقرة من النثر وتبعته في سبحة المرجان2 ثم اختلج في خاطري أن النظم والنثر متضادان كيف يصح الاجتماع بينهما؟ فاستخرجت الوزن للزيادة وعرفت المستزاد بالتعريف الذي تقدم. وللمستزاد أحكام منها: أن لا يجوز قطع الكلمة بين المصاريع وبين الزيادات في أي محل كان فلا بد من أن يختم كل من المصراع والزيادة على تمام الكلمة لا على بعضها لأن كلا من المصراع الأصلي والزيادة قطعة على حدة لا اتصال بينهما إلا في المعنى. ففي القسم الأول: أربع قطع وفي القسم الثاني: ثلاث قطع. ومنها: أن يأتي في العروض والجزء الثاني من زيادتها فعول في وزن الدوبيت كما يجوز في المتقارب المستزاد وغير المستزاد وعلى هذا القياس فاع من غير أن يجعل الحرف الأخير منهما من المصراع الثاني كما يجعل منه أحيانا في غير المستزاد وهذا الأمر يفهم من الحكم الأول أيضا لكن بينته لزيادة التوضيح ومنها: أن يجيء في رأس الزيادات ورأس الأعجاز همزة الوصل بالقطع من غير مضايقة لما مر من أن كلا منهما قطعة على حدة ولما كان المستزاد من مخترعات شعراء العجم لزم لشعراء العرب أن يعملوا على ما قرره شعراء العجم من قواعدهم والأحسن أن تنسب القصيدة إلى الرويين: روي المصراع الأصلي وروي الزيادة ويقال مثلا للقصيدة الأولى من تغزلات هذا الديوان: الألفية الهمزية أما ترتيب الديوان على ترتيب حروف الهجاء فمداره على روي الزيادة. ولقد أكثر شعراء العرب النظم في وزن الدوبيت لعذوبته وسلاسته لكن ما نظم أحد منهم قصيدة في هذا البحر فضلا أن ينظم المستزاد فيه ورأيت في ديوان الشيخ: صفي الدين الحلي موشحا في وزن الدوبيت مشتملا على الزيادة لكنه قسم آخر من الشعر ما هو على طريقة اخترتها ولا شك في أن المستزاد طريقه صعب لما فيه من رعاية القافيتين وتحمل الداهيتين فأجريت الكميت في ميدان الدوبيت ونظمت فيه قصائد المستزاد وأسست أساسا جديدا على نهج السداد. أما المستزاد في المتقارب وركض الخيل فاستخرجته أنا ولم يسبق إليه ذهن قبلي فهو أول بناء أسسته بالعربية ثم شعراء الفرس نظموا المستزاد في الدوبيت وغيره قليلا قليلا لكن ما رتب أحد منهم ديوانا فيه فديواني أول ديوان رتب في المستزاد وأول صيد نشب في حبالة الصياد. انتهى كلامه. وقال - رحمه الله - في أول كتابه مظهر البركات: إن المزدوجة من أقسام الموزونات حق للسان الفارسي فإنها فيه طبيعية تأتي عفوا بلا تكلف وضعها شعراء الفرس لنظم القصص والأخبار وسموها: المثنوي أما اللسان العربي فهي فيه غير طبيعية لا تأتي إلا بالتجشم كما أن القصيدة في اللسان الهندي غير طبيعية ليس وجودها فيه أصلا يعرف هذه المراتب من له معرفة تامة بهذه الألسنة ولهذا ما نظم المزدوجة من شعراء العرب إلا أشخاص معدودة منهم: الشيخ أبو يعلى: محمد بن الهبارية العباسي نظم

_ 1 كتاب بالفارسية لمحمود بن محمد الكيلاني المعروف بخواجه جهان، انظر الكشف 1833. 2 لعلي آزاد المقدم ذكره وهو صاحب هذا البحث.

الصادح والباغم في الرجز أولها: الحمد لله الذي حباني ... بالأصغرين القلب واللسان وإنما فضيلة الإنسان ... وفخره بالعقل والتبيان ومنهم: الشيخ: بهاء الدين العاملي نظم مزدوجة في الوافر سماها: رياض الأرواح منها: ألا يا خائضا بحر الأماني ... هداك الله من هذا التواني ونظم مزدوجة أخرى في الرمل سماها: سوانح سفر الحجاز منها: يا نديمي ضاع عمري وانقضى ... قم لاستدراك وقت قد مضى وما رأيت شاعرا عربيا نظم المزدوجة في الخفيف ونظمها فيه شعراء الفرس كثيرا وهو أوفق بالمزدوجة في اللسان العربي أيضا فاختلج في خاطري أن أنظم المزدوجة العربية في الخفيف فنظمت هذه المزدوجة وسميتها: مظهر البركات. ولشعراء الفرس: الرديف وقد نظمت ديوانا مردفا رويه على ترتيب حروف الهجاء لامتحان الطبيعة واختبار القريحة ورأيت أن الرديف في المزدوجة العربية طبيعي يروق المسامع بخلاف القصائد العربية بل الرديف في المزدوجة ربما يعين الطبع على أداء المقاصد ويخرجه عن مضيق القافية ويبين أن هذا من خصائص المزدوجة. ولشعراء الفرس: الحاجب وهو: عبارة عن الرديف بين القافيتين ويسمى الشعر المشتمل عليه محجوبا ورأيت أن الحاجب أيضا طبيعي في المزدوجة العربية تقبله الطباع بلا إكراه. واعلم: أن شعراء الفرس والهند دأبهم أن يختاروا لأنفسهم أسماء ويذكروها في أواخر منظوماتهم ليعلم بها من نظمها ويسمي شعراء الفرس هذا الاسم: التخلص والسر في ذلك: أن الاسم الأصلي للشاعر ربما لا تسعه الأوزان فيختارون اسما مختصرا يسعه الوزن.

مطلب: في طبقات الشعراء

مطلب: في طبقات الشعراء اعلم: أن البلغاء طبقاتهم العلية: 1 - الجاهلية الأولون. 2 - ثم المخضرمون1. 3 - ثم الإسلاميون. 4 - ثم المولدون.

_ 1 في هامش الأصل: "المخضرم: بفتح الراء من لم يختتن، والماضي نصف عمره في الجاهلية ونصف في الإسلام أو من أدركها أو شاعر أدركهما كلبيد، واسود أبوه أبيض. كذا في القاموس، وذكر له معاني أخرى غير ذلك" "سيد ذو الغفار أحمد تقوي بهوبالي سلمه الله تعالى".

5 - ثم المحدثون. 6 – والعصريون. فهذه الطبقات الست ثلاث منها: حازوا قصب السبق في حلبة الرهان معرفة كلامهم فرض كفاية في الإسلام لأنه يستدل به على الكلام العربي الذي تستنبط منه أحكام الحلال والحرام وألحق به بعضهم ما بعده كإثبات لطائف المعاني دون الألفاظ المحكمة المباني. ومن حققه لم يكن منه على ثقة وإن في الشعر دقائق لم يكشف عنها الغطاء منها: أن أهل المعاني قالوا: إن التعقيد المعنوي واللفظي ينافي الفصاحة فقال بعض المتأخرين: إن الألفاظ كلها غير فصيحة لما فيها من التعقيد المعنوي وليس كما قال لأن أبا هلال العسكري1 قال في كتاب الصناعتين: إنها فصيحة وإن التعقيد إنما يكره إذا لم يقصد فإن قصد فهو فصيح ومما يؤيده أن الإسنوي2 قال في كتابه طراز المحافل: إن من السنة أن يلقي الألغاز على من في مجلسه لتشحيذ الأذهان لما رواه البخاري عن ابن عمر من حديث النخلة قال أبو هلال: ومنه نوع بديع سميته: شبه الإلغاز وهو: أن يوصف شيء بصفات تساق على نهج اللغز ليس المقصود الإلغاز. انتهى. وإن معجزة كل نبي على وفق زمانه وقومه ولما كان أشرف الخلق العرب وأعظم ما عندهم الشجاعة والفصاحة والكرم كان أعظم معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم -: القرآن المعجز بفصاحته وبلاغته ولما كان خاتم الرسل ولا نبي بعده جعل له معجزة باقية إلى القيامة لا تزال تتلى وجديدة على كثرة الترداد لا تخلق ولا تبلى. وبلغاء العرب في الشعر والخطب على ست طبقات: 1 - الجاهلية الأولى: من قوم عاد وقحطان. 2 - والمخضرمون: وهم من أدرك الجاهلية والإسلام. 3 – والإسلاميون. 4 – والمولدون. 5 – والمحدثون. 6 - والمتأخرون: ومن ألحق بهم من العصريين. والثلاث الأول: هم ما هم في البلاغة والجزالة ومعرفة شعرهم رواية ودراية - عند فقهاء الإسلام - فرض كفاية لأنه به تثبت قواعد العربية التي بها يعلم الكتاب والسنة المتوقف على معرفتهما الأحكام التي يتميز بها الحلال والحرام وكلامهم وإن جاز فيه الخطأ في المعاني لا يجوز فيه الخطأ في الألفاظ وتركيب المعاني إذا عرفت هذا فاعلم: أن الطبقات الثلاث الأول جمعوا أشعارهم في كتب كثيرة غير الدواوين:

_ 1 هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري، عالم بالأدب وله شعر، له مصنفات كثيرة، توفي بعد سنة 395هـ = 1005م. 2 هو عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي، جمال الدين، فقيه أصولي من علماء العربية واه في ذلك مؤلفات كثيرة: 704-772هـ = 1305-1370م.

كالحماسة والمفضليات وأشعار هذيل وغيرها من الكتب المفيدة ثم أورد: الشهاب الخفاجي1 بعد ذكر هذا من نثرهم ونظمهم جملة صالحة في كتابه ريحانة الألباء وذكر كلام المولدين وبعض شعراء الجاهلية ثم قال: إن المتأخرين وإن تأخر زمانهم عن المتقدمين فقد زاحموهم بالركب وكادوا أن يرقوا إلى أعلى الرتب لا سيما شعراء المغرب فقد أتوا بمعان بديعة وارتقوا إلى مرتبة رفيعة كيزيد بن خالد الإشبيلي له في وصف السفن معان لم يسبق إليها ومن شعرائهم: ابن خفاجة وقال الأدباء: بدئ الشعر بملك وختم بملك والأول: امرؤ القيس فإنه أول من هلهل الشعر وهذبه ونسج نسيبه ورتبه والثاني: ابن المعتز فإنه ممن أوتي جوامع الكلم: نظما ونثرا وإنشاء وشعرا والعامة تقول: كلام الملوك ملوك الكلام وقيل: أبو فراس والأول: أقرب إلى القياس ولما بلغ عبد الملك أن الحجاج لا يراعي الشعراء نقم ذلك عليه وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أما بعد: فقد بلغني عنك أمر كذب فراستي فيك وأخلف ظني بك من إعراضك عن الشعر والشعراء فكأنك لا تعرف فضيلة الشعر والشعراء ومواقع سهامهم أو ما علمت يا أخا ثقيف أن بقاء الشعر بقاء الذكر ونماء الفخر وأن الشعر طراز الملك وحلي الدولة وعنوان النعم وتمام المجد ودلائل الكرم وأنهم يحضون على الأفعال الجميلة وينهون عن الأخلاق الذميمة وأنهم سنوا سبل المكارم لطلابها ودلو العفاة على أبوابها وأن الإحسان إليهم كرم والإعراض عنهم لؤم وندم فاستدرك فرط تفريطك وامح بصوابك وحي أغاليطك والسلام. وبهذا علمت وقع الشعراء عند الملوك وأنه سبيل إلى المكارم مسلوك وأن الشعراء قافلة تحمل الذكر الجميل وأن بضائعهم نافقة عند الكرام كاسدة عند اللئام والسلطان سوق تجلب لها الرغائب وتجبى لها محامد تمتلئ بها الحقائب. انتهى المقصود منه بالتخليص.

_ 1 هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري، قاضي القضاة وصاحب التصانيف في الأدب واللغة: 977-1069هـ = 1569-1659م.

مطلب: في مدح المنظوم من الكلام والحمائل المنوطة بعواتق الأقلام

مطلب: في مدح المنظوم من الكلام والحمائل المنوطة بعواتق الأقلام روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال: جالست النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما يتبسم معهم. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هجاهم حسان فشفى واستشفى". وقال السيوطي في الخصائص الكبرى: أخرج البيهقي من طريق: يعلى بن الأشدق قال: سمعت النابغة - نابغة بني جعدة - يقول: أنشدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الشعر فأعجبه فقال: "أجدت لا يفضض الله فاك" فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن ثم أخرجه البيهقي من وجه آخر عن النابغة.

وأخرجه: ابن أبي أسامة من وجه آخر عنه وفيه: فكان من أحسن الناس ثغرا فكان إذا سقط له سن نبت له وأخرجه: ابن السكن من وجه آخر عنه وفيه: فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشيخ: محمد حياة السندي المدني في رسالة: الأحاديث المسلسلة عن نابغة بني جعدة الشاعر: لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنشدته قصيدتي التي أقول فيها: بلغنا السماء السبع مجدا وسؤددا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال: أين يا أبا ليلى؟ قلت: إلى الجنة يا رسول الله قال: "إلى الجنة إن شاء الله تعالى" وقال كعب بن زهير - رضي الله عنه -: جاء السخينة كي تغالب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا" وفي رواية: أن الله لم ينس ذلك لك وعقد البيهقي في الدلائل بابا مستقلا في الشعر وقال: باب اختياره - صلى الله عليه وسلم - الشعر وذكر حديثا طويلا عن جابر - رضي الله عنه - وحاصل الحديث: أنه جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله يريد أبي أن يأخذ مالي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائت بأبيك عندي" فلما جاء أبوه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول ابنك أنت تأخذ ماله" قال: سله يا رسول الله لا مصرف لماله إلا عماته وقراباته أما أصرفه على نفسي وعيالي؟ فنزل جبريل - عليه السلام - وقال: يا رسول الله قال هذا الشيخ في نفسه شعرا ما وصل إلى أذنه فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل قلت في نفسك شعرا"؟ فاعترف الشيخ وقال: "لا يزال يزيدنا الله - تعالى - بك بصيرة ويقينا" وعرض سبعة أبيات نظمها في نفسه وهي: غذوتك مولودا وصنتك يافعا ... تعل بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضاقت بك السقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرا أتململ تخاف الردى نفسي عليك وإنها ... لتعلم أن الموت حتم موكل كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل فلما بلغت السن والغاية التي ... أتتك مراما فيه كنت أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل قال جابر: فبكى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم أخذ تلابيب ابنه وقال له: "اذهب فأنت ومالك لأبيك". انتهى وقد ثبت: تصرف الأب في مال الابن قدر الضرورة بهذا الحديث. قال الشيخ: بهاء الدين العاملي في بعض مؤلفاته: روي عن قيس بن عاصم قال: وفدت مع جماعة من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدلهمس فقلت: يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنا قوم نغير في البرية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا قيس إن مع العز ذلا وإن مع الحياة موتا وإن مع الدنيا آخرة وإن لكل شيء رقيبا وعلى كل شيء حسيبا وإن لكل أجل كتابا وإنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وهو ميت فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك ثم لا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به وإن فسد لا

تستوحش إلا منه وهو فعلك" فقال: يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب وندخره فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأتيه بحسان فاستبان لي القول قبل مجيء حسان فقلت: يا رسول الله قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد فقلت: تخير خليطا من فعالك إنما ... قرين الفتى في القبر ما كان يفعل ولا بد بعد الموت من أن تعده ... ليوم ينادي المرء فيه فيقبل فإن تك مشغولا بشيء فلا تكن ... بغير الذي يرضى به الله تشغل فلن يصحب الإنسان من بعد موته ... ومن قبله إلا الذي كان يعمل أقول: روى البخاري عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة" ولا يخفى على حكماء الكلام والماهرين بسرائر الأقلام أن بعض الشعر وهو الذي كان محمودا شرعا مندرج في مفهوم الحكمة لأن مفهوم الشعر أخص من وجه من مفهوم الحكمة والمقصود من هذا الكلام بيان فضيلة الشعر فينبغي أن يقع الشعر مخبرا عنه ويكون مقدما في الذكر وحق العبارة أن يقال: بعض الشعر حكمة ولكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة" فأبقى التقدم اللفظي على أصله للاهتمام بشأن الشعر وإفادة الحصر وقلب الأسلوب المعنوي وجعل الحكمة مخبرا عنه للمبالغة في مدح الشعر أي: ماهية الحكمة بعض الشعر فلزم أن يكون أفراد الحكمة بأسرها بعض الشعر ومندرجة تحته فإن اندراج الماهية مستلزم لاندراج جميع الأفراد وقصد - صلى الله عليه وسلم - من إفادة الحصر بتقديم الخبر وإيراد الكلام على أسلوب التأكيد مبالغة فيكون معنى الكلام الأقدس: إنما الحكمة بعض الشعر ولله لطف ما أودعه صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - كلامه وهو أن المبالغة لها مناسبة بالشعر فراعى - صلى الله عليه وسلم - هذه المناسبة الشعرية في كلام أورده في مدح الشعر وأفاد سندا كاملا لجواز المبالغة إذا اقتضت مصلحة دينية ومثله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحرا" قال الطيبي1 في تبيانه: من للتبعيض والكلام فيه تشبيه وحقه أن يقال: إن بعض البيان كالسحر فقلب وجعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا والفرع أصلا ووجه التشبيه يتغير بتغير إرادة المدح والذم. انتهى. يعني: أن السحر له وجهان: المدح والذم ووجه تشبيه البيان به هاهنا الأول قال المحقق الشريف2 في حواشي الكشاف عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فإن قيل: لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا وكذا من الناس أجيب: بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس ويتعجب منه ورد: بأن مثل هذا التركيب قد يأتي في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار ولا يقصد منها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا كقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} فالأولى: أن يجعل

_ 1 هو شرف الدين الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي، من علمار الحديث والتفسير والبيان، من كتبه في ذلك "التبيان في المعاني والبيان" توفي سنة 743هـ = 1342م. 2 الجرجاني سبقت ترجمته في ص23.

مضمون الجار والمجرور مبتدأ على معنى: وبعض الناس أو بعض منهم من اتصف بما ذكر فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ. انتهى كلامه. وروى ابن ماجة: الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها وقال صاحب كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجة: قوله: ضالة المؤمن أي: مطلوبة له أشد ما يتصور من الطلب فاللائق بحال المؤمن أن يطلبها كما يطلب المرء ضالته فهذا الكلام بطريق الإرشاد والتعليم لا الإخبار إذ كم من مؤمن ليس له طلب أصلا؟ أو بطريق الإخبار بحمل المؤمن على الكامل قوله: حيثما وجدها أي: ينبغي أن يكون نظر المؤمن إلى المقول لا القائل وهذا كما قيل: انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال. انتهى. والكلمة الحكمة: شاملة للنظم والنثر لعموم اللفظ ويؤيد الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة" ومن العجائب أن الكلمة تطلق على القصيدة كما قال الجوهري وغيره وإذا تمهد هذا فأقول: لو قطع النظر عن المبالغة في الحديث وأخذ أصل المعنى أعني: بعض الشعر حكمة يحصل من انضمامه بالحديث الثاني الشكل الأول من الأشكال المنطقية أعني: بعض الشعر كلمة والكلمة الحكمة ضالة المؤمن فبعض الشعر ضالة المؤمن وإنما زدت لفظ الكلمة في الصغرى لأن الشعر حكمة قولية. وقد ثبت بهذه النتيجة الصحيحة: طلب النتائج من الشعراء التي تكون موافقة بالشريعة الغراء والدليل القاطع والبرهان الساطع على إثبات النتيجة ما رواه مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء"؟ قلت: نعم قال: هيه فأنشدته بيتا فقال: هيه ثم أنشدته بيتا فقال: هيه حتى أنشدته مائة بيت ويستفاد من هذا الحديث: طلب الشعر المحمود الذي هو نتيجة الشكل واستحباب الزيادة في الطلب واستحباب الإنشاد واستحباب الطلب حيثما وجد فإن أمية بن أبي الصلت مات كافرا وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيه: "آمن لسانه وكفر قلبه" وتحقق من هاهنا أن من طلب الشعر المحمود أتى بالعمل المستحب ومن أنكر تركه كيف لا؟ وقد روى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول شعرا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل" وروى البخاري عن سعيد بن المسيب قال: مر عمر في المسجد وحسان ينشد فأنكر عليه عمر فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أجب عني اللهم أيده بروح القدس"؟ قال: نعم وفيه منع الإنكار عن الشعر وجواز الإنشاد في المسجد قال القسطلاني: هذه المقالة منه - صلى الله عليه وسلم - دالة على: أن للشعر حقا يتأهل صاحبه لأن يؤيد في النطق به بجبرائيل - عليه السلام - وما هذا شأنه يجوز قوله في المسجد قطعا. وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر؟ فقال: ويلك يا لكع وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي؟ فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وروى

الدارقطني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح". والمقصد: أن الشعر ليس في نفسه مذموما بل الحسن والقبح راجعان إلى المفهوم فالمفهوم إذا كان قبيحا فالمنثور والمنظوم من القول سواء ومعنى القبيح: أن يكون فيه فحش أو أذى لمسلم أو كذب والكذب الممنوع في الشعر ما كان مضرا بأمر ديني لا الكذب الذي أتي به لتحسين الشعر فقط فإنه مأذون فيه وإن استغرق الحد وتجاوز المعتاد ألا ترى قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه -؟ فإنه تغزل فيها بسعاد وأتى من الإغراقات والاستعارات والتشبيهات بكل بديع لا سيما تشبيه الرضاب بالشراب في قوله: تجلو عوارض ذا ظلم إذا ابتسمت ... كأنها منهل بالراح معلول والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه وما أنكر بل صارت هذه القصيدة أحسن الوسائل إلى الشفاعة وأوثق الذرائع إلى الإغماض عن الشناعة وفازت بحسن القبول من جنابه وجازى قائلها بعطية من جلبابه ولله در أبي إسحاق الغزي حيث قال: جحود فضيلة الشعراء غي ... وتفخيم المديح من الرشاد محت بانت سعاد ذنوب كعب ... وأعلت كعبه في كل نادي وما افتقر النبي إلى قصيد ... مشببة ببين من سعاد ولكن من إسداء الأيادي ... وكان إلى المكارم خير هاد وقد قالوا: فضل هذه القصيدة على القصائد الأخر الموشحة بمدحه - صلى الله عليه وسلم - كفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم هذا وقد شبه واصفه - صلى الله عليه وسلم - عنقه المقدس بجيد دمية وما أنكره أحد من السلف والخلف. وقال القفال والصيدلاني قولا صدقا وهو: أن الشعر كذبه ليس بكذب لأن قصد الكاذب: تحقيق قوله وقصد الشاعر: تحسين كلامه فقط. وبما حررناه ثبت جواز التخييلات الكلامية والتوسع في المضامير الأقلامية وتحقق أن الإنكار من الشعر المحمود هو بترك المستحب وأن لا تسمع لومة لائم في ما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبار الصحابة والتابعون وأهل العلم وموضع القدوة - رضي الله عنهم. وقد ورد النهي عن سب الشعراء روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: ذهبت أسب حسانا عند عائشة فقالت: لا تسبه فإنه كان ينافح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن من أنشأ أو أنشد الشعر المحمود فهو تلو للمنافحين حيث يريح المؤمنين بالحكم اليمانية ويدافع عنهم ما يملهم من العوارض النفسانية ويعضده ما روي عن ابن عباس: أنه كان إذا فرغ من درس التفسير والحديث يقول لتلامذته: أحمضوا ويأمرهم بالأخذ في ملح الكلام خوفا عليهم من الملال والإحماض: أصله من: الحمض وهو: ما ملح ومر من النبات ومقابله: الخلة وهو: ما كان حلوا تقول العرب: الخلة: خبز الإبل والحمض: فاكهتها لأنها إذا ملت من الخلة مالت إلى الحمض ومنه قولهم للرجل إذا جاء متهددا: أنت مختل فتحمض. وأما قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فهو في الشعراء المشركين. ويستفاد من الآية: أن علة

الذم: الهيمان في كل واد من الكذب والباطل وبهذا الاعتبار الشعر مذموم وكل ما ورد من ذمه في القرآن والحديث فهو راجع إلى هذا الاعتبار وهو ممدوح باعتبار اشتماله على الحكم ولذا ميز الله - سبحانه - الشعراء المؤمنين عن هؤلاء المشركين بالاستثناء وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: "إن من الشعر حكمة" وأما قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} فهو رد على الكفار القائلين: بأنه - صلى الله عليه وسلم - شاعر ولا يخفى أن القرآن ليس من جنس الشعر ولا يقول به من له أدنى تمييز لأن الشعر يكون مقفى موزونا وليس القرآن كذلك ويمكن أن يكون قولهم مبينا على: أن الشاعر يراعي الوزن والقافية في الكلام فالذي يكون قادرا على الشعر سهل له أن ينشئ الكلام بلا مراعاة الوزن والقافية فما يأتي به هو ناشئ عن سليقته لا كما يدعي أنه منزل من السماء فرد الله - سبحانه - عليهم وقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} لأن أكثره خيالات لا حقيقة لها وتغزلات بالنساء والأمارد وافتخارات باطلة ومدائح من لا يستحق إلى غير ذلك والقرآن ليس على هذا الأسلوب ثم أيده بقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي: لا يليق بشأنه لأن الشعر قلما يخلو عن الأمور المذكورة وقد امتحنتموه - صلى الله عليه وسلم - نحوا من أربعين سنة فما وجدتم من أقواله وأفعاله وأحواله ما يناسب شيئا منها ولا يخفى أن في قوله - تعالى -: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} إشعارا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قادرا على الشعر ولم يقله بناء على أنه ما كان ينبغي له فإنه - سبحانه - نفى الانبغاء دون القدرة عليه ثم أيده بقوله - تعالى -: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي: كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز. وقد تبين من هذا: أن في الآية تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يملي القرآن بسليقته كما هو شأن الشعراء حيث يملون الكلام الموزون بسلائقهم وإذا أمعنت النظر لا تجد فيه ذما للشعر بل تجد مدحا عظيما وليت شعري أي شيء يستدعي إلى ذم الشعر مطلقا؟ فإن الحسن والقبح راجعان إلى المعنى - كما تقدم - وإذا كان المعنى حسنا فالمنظوم أزيد حسنا وجمالا من المنثور وأنفع للمتكلم في ما قصده من إيقاع المعاني في نفس المخاطب وللمخاطب في التوجه إليه بالرغبة ولقد أجاد البوصيري حيث قال: فالدر يزداد حسنا وهو منتظم ... وليس ينقص قدرا غير منتظم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بقول طرفة وهو: ويأتيك بالأخبار من لم تزود ويقول: أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ماخلا الله باطل ... ................................... وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي الله عنها -: "أهديتم الفتاة إلى بعلها"؟ قالت: نعم قال: "فبعثتم معها من يغني"؟ قالت: ولم نفعل؟ قال: "أو ما علمتم أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم ولولا الحنطة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم" وقد ورد في الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق: بسم الله وبه هدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع صوته: أبينا أبينا بالموحدة وفي رواية: أتينا بالمثناة الفوقية. واختلف العلماء في صدور الشعر منه - صلى الله عليه وسلم - ونقل المثبتون أشياء منها قوله - صلى الله عليه وسلم - حين كان يبني مسجده - صلى الله عليه وسلم -: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر وكان الزهري يقول: لم يقل - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الشعر إلا قد قيل قبله إلا هذا وقد ألف السيد: محمد البرزنجي المدني1 رسالة في إثبات الكتابة والقراءة والشعر له - صلى الله عليه وسلم - يقول فيها: لا شك أن الشعر إذا كان حكمة أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر لحكمة" كمال ولا ينبغي أن يخلو - صلى الله عليه وسلم - عن كمال ما لأنه نسخة الكاملة الجامعة لجميع صفات الكمالات الإنسانية بل والملكية وإيقاع النفس والتهمة بالنظر إلى القرآن إنما يرد بالنسبة إلى ما قبل نزول الوحي وثبوت النبوة أما بعده: فلا كما قيل في الكتابة والقراءة وكل ما صدر عنه من النطق بالشعر فإنما هو بعد النبوة ولم يقل أحد قط أنه - صلى الله عليه وسلم - ينظم الشعر أو يرويه أو يجالس الشعراء قبلها وأما بعد النبوة: فقد نطق به ورواه واستنشده الصحابة وأنشدت القصائد بحضرته وأصلح من كلا مهم كما أصلح من قصيدة كعب بن زهير - رضي الله عنه - قوله: من سيوف الهند. وأبدله ب سيوف الله فلا إخلال بنبوته ولا تهمة في معجزته بل هو معجزة أخرى وكمال آخر فلا مانع من تجويزه. انتهى كلامه وتمام البيت الذي أصلحه - صلى الله عليه وسلم - هكذا: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول أقول: لعل وجه إصلاحه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقع لفظ مستدرك في الكلام فإن المهند- على ما قال الجوهري2-: السيف المطبوع من حديد الهند. هذا ما سنح لي في فضيلة الشعر المحمود وشرف هذا الكوكب المسعود. ثم أول من قدر جواهر المنطق بالميزان ونظم اللآلي الخاصة بخزينة الإنسان صفي الله: آدم - عليه السلام - فالشعر المتولد منه آدم الأشعار والجد الأعلى لنتائج الأفكار وأسنده ابن الأثير وغيره من الجم الغفير إلى آدم - عليه السلام - وأنكر جمع كثير من المحققين وقال آخرون: رثى آدم هابيل بالسريانية فلما وصل إلى يعرب بن قحطان ترجمها بالعربية واختلف في قضية هابيل أين وقعت؟ فمنهم من ذهب إلى أنها وقعت بالهند على جبل نود الذي نزل عليه آدم عليه السلام السماء وقيل: بمكة ثم الروايات

_ 1 هو محمد شريف البرزنجي المدني الشافعي، كان حياً سنة 1134هـ = 1722م. 2 في الصحاح.

تعاضدت في: أن آدم نزل بالهند من السماء وتوطن بعد ذلك بهذه. الغبراء وقد فصلته في رسالتي: شمامة العنبر فيما ورد في الهند من سيد البشر وقد توارث أولاد آدم الشاعرية منهم من سكن الهند ولما أظلت ألوية الإسلام على هذا السواد وألقى الإسلاميون رحالهم في هذه البلاد وتكلموا بلسانها وترنموا بألحانها وسمعوا كلام مصاقعها وعرفوا بيان سواجعها وقفوا على أنهم بذلوا غاية الجهد في إبداع المعاني وصرفوا هممهم إلى أقصى حدود الطاقة البشرية في تأسيس المباني. ثم اعلم: أن الجولان في سوح الأدب حق للأئمة الفصحاء من العرب فإنهم صعدوا في قمم أطواده وبلغوا قصارى أنجاده ولعمري إن أزهار الفصاحة باسمة بنسائمهم وأرجاء البلاغة فائحة بشمائمهم جزاهم الله عنا أوفى الأجزية وذكرهم في مجامع القدس بأحسن الأثنية. ولما ألف الإسلام بين الأمم ووقعت مخالطة العرب والعجم وجلس الخلفاء في بغداد وأمتهم الخلائق من شواسع البلاد اكتسب العجم فن الفصاحة من العرب العرباء وتجاوبوا على سننهم في هذه الدوحة العلياء لا سيما من كان قريبا من دار الخلافة وجارا متصلا بمركز الشرافة كما تشهد به يتيمة الدهر للثعالبي ودمية القصر للباخرزي وغيرهما. وأما الهند: ففتح في عهد الوليد بن عبد الملك على يد: محمد بن قاسم الثقفي سنة اثنتين وتسعين الهجرية وبلغت راياته المظلة على الفوج من حدود السند إلى أقصى قنوج سنة خمس وتسعين وبعدما عاد عاد ولاة الهند إلى أمكنتهم وبقي الحكام من الخلفاء المروانية والعباسية ببلاد السند وفي عهد العباسية كان أبو حفص ربيع بن صبيح السعدي البصري من أتباع التابعين وأعيان المحدثين بالسند وهو أول من صنف في الإسلام قال صاحب المغني: مات بأرض السند سنة ستين ومائة وقصد السلطان: محمود الغزنوي أواخر المائة الرابعة - غزو الهند - وأتى مرارا وغلب وأخذ الغنائم وانتزع السند من الحكام الذين كانوا من القادر بالله بن المقتدر العباسي ولكن السلطان: محمود ما أقام بمملكة الهند وكان أولاده متصرفين من غزنين إلى لاهور حتى استولى السلطان: معز الدين سام الغوري على غزنين وأتى لاهور وقبض على خسرو ملك ختم الملوك الغزنوية وضبط الهند وجعل دهلي دار الملك سنة تسع وثمانين 1 / 345 وخمسمائة ومن هذا التاريخ إلى الآن ممالك الهند في يد السلاطين الإسلامية. ولما انتشر الإسلام في هذه البلاد وطلعت شموسه على الأغوار والأنجاد ظهر جمع من الأدباء الإسلامية ونثروا على بسط الأزمنة لآلئ من السحب الأقلامية وليست كتب القوم حاضرة عندي في حال التحرير حتى أجلوا عرائس تراجمهم على منصة التقرير. انتهى المراد من تسلية الفؤاد1. ومن أدباء الهند: القاضي: عبد المقتدر بن ركن الدين الشريحي الكندي الدهلوي المتوفى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة له قصيدة لامية مشهورة مطلعها: يا سائق الظعن في الأسحار والأصل ... سلم على دار سلمى وابك ثم سل

_ 1 كتاب مؤلفه غلام علي الأتي ذكره بعد قليل، انظر ماكتب عنه الدكتور جميل أحمد في كتابه "حركة التأليف باللغة العربية في الإقليم الشمالي الهندي" ص130 وما بعدها.

ومنهم: الشيخ: أحمد التهانيسري وله - رحمه الله تعالى - قصيدة دالية مطلعها: أطار لبي حنين الطائر الغرد ... وهاج لوعة قلبي التائه الكمد ومنهم: السيد غلام: علي بن السيد: نوح البلكرامي المتخلص: بآزاد له: سبعة دواوين والقصيدة: في وصف أعضاء المعشوقة من الرأس إلى القدم سماها: مرآة الجمال وشرحها شرحا لطيفا منها: ديوان مردف وديوان مستزاد وديوان مرجع والترجيع: نوع من الشعر أنشأه في نهاية الرقة ولم ينظم الترجيع العربي قبله أحد من الشعراء وسمى الدواوين السبعة: بالسبعة السيارة ونظم الدفاتر السبعة المسماة ب: مظهر البركات مزدوجة في بحر الخفيف في غاية السلاسة والعذوبة ولم ينظم أحد قبله مزدوجة عربية في هذا البحر ولم يتفق لأحد من شعراء العرب والمقلدين لهم من شعراء العجم مزدوجة على هذه الكيفية ونظم الدفتر السابع في سنة 1193هـ ومات - رحمه الله - في سنة 1200 الهجرية وله تصانيف كثيرة في العربية والفارسية كما سيأتي تفصيلها في ترجمته إن شاء الله تعالى. وجملة أشعاره المنظومة في المذكورات: أحد عشر ألفا وما سمع قط من أهل الهند من يكون له ديوان عربي أو شعر عربي على هذه الحالة وهو: حسان الهند مدح النبي صلى الله عليه وسلم في دواوينه وقصائده وأوجد في مدحه معاني كثيرة نادرة لم يتيسر مثلها لأحد من الشعراء المفلقين وأبدع فيها مخالص لم يبلغ مداها فرد من الفصحاء المتشدقين وله في التغزل طور خاص قلما يوجد في كلام غيره يعرفه أصحاب الفن. ومنهم: الشيخ الأجل1 مسند الوقت الشاه: ولي الله المحدث الدهلوي وله: قصائد حسنة وكلمات غراء في مدحه صلى الله عليه وسلم. ومنهم: الشيخ: عبد العزيز والشيخ: رفيع الدين والشيخ: محمد إسماعيل الدهلويون - رحمهم الله تعالى - ولهم: منثور ومنظوم لطيف بليغ. ومنهم: الشيخ الأديب: أوحد الدين البلكرامي - رحمه الله - رأيت له نثرا فصيحا ونظما بليغا وتقاريظ كثيرة على كتب عديدة. ومنهم: الشيخ الكامل: فضل حق الخير آبادي وكم له من قصائد وأشعار عارض بها الحريري والبديع وأتى فيها بكل لفظ لطيف ومعنى بديع لولا أنه أكثر فيها من التجنيس والاشتقاق والألفاظ الحوشية بلا خلاف. ومنهم: السميدع الفاضل المولوي: علي عباس الجرياكوثي - حماه الله تعالى - له: ديوان الشعر ومكاتيب وتقاريظ. ومنهم: الشيخ الفاضل: فيض الحسن السهارنبوري - سلمه الله تعالى - وله قصائد بليغة وأشعار لطيفة لم يتفق مثلها لمعاصريه ولهذين الأخيرين كتابة إلينا ونظم في مدح كتبنا قد طبع بعضها. ومنهم: أخي من أبي وأمي السيد السند: أحمد حسن القنوجي المتخلص: بالعرشي وبعض قصائده يربو

_ 1 انظر عن هؤلاء الأعلام ماكتبه الدكتور جميل أحمد في كتابة حركة التأليف باللغة العربية في الإقليم الشمالي الهندي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ففيه ما يغني.

على كلام الأساتذة لا سيما الفارسية منها. وأما هذا الفقير ليس من هذا العلم في ورد ولا صدر ولا نخل بواديه ولا سدر وهذا الذي نراه من آثاره الباقية في العربية والفارسية وما ذكره في الإتحاف له فإنما هو طل من وابل هؤلاء الأدباء وفيض من ساحل أولئك الكملاء النبلاء فإنه قد صرف برهة من الزمان في تتبع قالهم وقيلهم واتبع آثارهم في ذلك ومشى على سبيلهم ولنعم ما قيل: فهذا الشذا آثار رفقته معي ... ولست بورد إنما أنا تربه ثم1 اعلم: أن المقصود من علم الأدب عند أهل اللسان ثمرته وهي: الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب العرباء ومناحي الأدباء القدماء فيجمعون لذلك من حفظ كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة: من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة والمقصود بذلك كله: أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه. ثم إنهم إذا حدوا هذا الفن قالوا: هو2 حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون: من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي: القرآن والحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلامهم إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفتها ليكون قائما على فهمها وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم: أن أصول هذا الفن وأركانه: أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب: الكامل للمبرد وكتاب: البيان والتبيين للجاحظ وكتاب: النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها وكتب المحدثين في ذلك كثيرة وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة وقد ألف القاضي: أبو الفرج الأصبهاني - وهو ما هو - كتابه في الأغاني جمع فيه: أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من: فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له بها - والله الهادي للصواب.

_ 1 من هنا الكلام لابن خلدون انظره ص 1387-1388. 2 تحتها بين السطرين في الأصل كلمة: "أي علم الأدب".

هذا آخر ما نقلناه من كتاب عنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر وقد نقله أيضا صاحب كشف الظنون لكن بالتلخيص المخل والاختصار الممل فلم أعتمد عليه وأخذت من حيث أخذ مع زيادات زدناها في مواضع شتى من كتب أخرى حرصا على الجمع وطمعا في تمام الفائدة ولا غرو إن كان قد وقع بعض تكرار في غير موضع من هذه المطالب بوجوه تظهر عليك عند التأمل فيما لديك وبالله التوفيق.

مطلب: في تعيين العلم الذي هو فرض عين على كل مكلف

مطلب: في تعيين العلم الذي هو فرض عين على كل مكلف أعني: الذي يتضمنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" اعلم: أن للعلماء اختلافا عظيما في تعيين ذلك العلم وهو أكثر من عشرين قولا وحاصله: أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده. قال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة إذ بهما يتوصل إلى سائر العلوم وهو الحق الذي لا محيد عنه ولا مصير إلا إليه وعليه جمهور المحققين من السلف والخلف بلا خلاف بينهم. وقال الفقهاء: هو العلم بالحلال والحرام ويسمى: بعلم الفقه وهذا يندرج في الأول - كما هو الظاهر. وقال المتكلمون: هو العلم الذي يدرك به التوحيد الذي هو أساس الشريعة ويسمى: بعلم الكلام وهذا أيضا داخل في الأول لأن مسائل التوحيد مبينة فيهما بيانا شافيا وليس وراء بيان الله ورسوله بيان وأما الكلام الذي اختص به المتكلمون وخلطوا فيه المنطق والفلسفة فليس هو من هذا الباب. وقال الصوفية: هو علم القلب ومعرفة الخواطر لأن النية التي هي شرط الأعمال لا تصح إلا بها وهذا شعبة من شعب السنة المطهرة فإن العلم بها عالم به على الوجه الأتم الأكمل. وقال أهل الحق: هو علم المكاشفة ولا وجه للتخصيص به ولم يدل عليه نص ولا برهان. وقيل: إنه العلم الذي يشتمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس". الحديث لأنه الفرض على عامة المسلمين وهو اختيار الشيخ: أبي طالب المكي1 وزاد عليه بعضهم: أن وجوب المباني الخمسة إنما هو بقدر الحاجة مثلا: من بلغ ضحوة النهار يجب عليه أن يعرف الله - سبحانه وتعالى - بصفاته استدلالا وأن يتكلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما وإن عاش إلى وقت الظهر يجب عليه أن يتكلم أحكام الطهارة والصلاة وإن عاش إلى رمضان يجب أن يتكلم أحكام الصوم وإن ملك مالا يجب أن يتعلم كيفية الزكاة وإن حصل له استطاعة الحج يجب أن يتعلم أحكام الحج ومناسكه. هذه هي المذاهب المشهورة في هذا الباب والأول: أولاها فإن هذه كلها تدخل فيه ولا تخرج عنه حتى يحتاج إليه وزاد في كشاف اصطلاحات الفنون: قال بعضهم: هو علم العبد بحاله ومقامه من الله – تعالى. وقيل: بل هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس.

_ 1 هو محمد بن علي بن عطية الحارثي، فقيه واعظ زاهد، له كتب في التصريف. توفي سنة 386هـ = 996م.

وقيل: بل هو علم الباطن. وقال المتصوفة: هو علم التصوف. وقيل: هو العلم بما اشتمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس" الحديث وتقدم. والذي ينبغي أن يقطع ما هو مراد به: هو علم بما كلف الله - تعالى - به عباده من: الأحكام الاعتقادية والعملية كذا في الإحياء للغزالي وأطال في بيان ذلك وقال في السراجية1: طلب العلم فريضة بقدر ما يحتاج إليه لأمر لا بد منه من: أحكام الوضوء والصلاة وسائر الشرائع ولأمور معاشه وما وراء ذلك ليس بفرض فإن تعلمها فهو الأفضل وإن تركها فلا إثم عليه. انتهى. وهذا بيان علم فرض العين وأما فرض الكفاية: فقد ذكر في منتخب الإحياء: أن علم الطب في تصحيح الأبدان من فروض الكفاية لكن في السراجية: يستحب أن يتعلم الرجل من الطب قدر ما يمتنع به عما يضر بدنه وكذا من فروض الكفاية: علم الحساب في الوصايا والمواريث وكذا الفلاحة والحياكة والحجامة والسياسة أما التعمق في الطب فليس بواجب وإن كان فيه زيادة قوة على قدر الكفاية. فهذه العلوم كالفروع فإن الأصل هو: العلم بكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأئمة وآثار الصحابة والتعلم بعلم اللغة التي هي: آلة لتحصيل العلم بالشرعيات وكذا العلم بالناسخ والمنسوخ والعام والخاص مما في: علم الفقه وعلم ومخارج الحروف والعلم بالأخبار وتفاصيلها والآثار وأسامي رجالها ورواتها ومعرفة المسند والمرسل والقوي والضعيف منها كلها: من فروض الكفاية وكذا معرفة الأحكام لقطع الخصومات وسياسة الولاة وهذه العلوم إنما تتعلق بالآخرة لأنها سبب استقامة الدنيا وفي استقامتها استقامتها فكان هذا علم الدنيا بواسطة صلاح الدنيا بخلاف علم الأصول: من التوحيد وصفات الباري وهكذا علم الفتوى من فروض الكفاية أما العلم بالعبادات والطاعات ومعرفة الحلال والحرام فإن أصل فوق العلم بالغرامات والحدود والحيل وأما علم المعاملة: فهو على المؤمن المتقي كالزهد والتقوى والرضاء والشكر والخوف والمنة لله - تعالى - في جميع أحواله والإحسان وحسن الظن وحسن الخلق والإخلاص فهذه علوم نافعة أيضا وأما علم المكاشفة: فلا يحصل بالتعليم والتعلم وإنما يحصل بالمجاهدة التي جعلها الله - تعالى - مقدمة للهداية قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وأما علم الكلام: فالسلف لم يشتغلوا به حتى إن من اشتغل به نسب إلى: البدعة والاشتغال بما لا يعنيه. هذا كله خلاصة ما في التاتارخانية2 وألحق الغزالي الفقه والفقهاء بعلم الدنيا وعلمائها قال: ولعمري إنه متعلق أيضا بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة ثم سوى بين الفقه والطب إذ الطب أيضا يتعلق بالدنيا وهو صحة الجسد لكن قال: إن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه ثم ذكرها

_ 1 هي المشهورة أيضاً ب" التاتارخانية في الفتاوى" للإمام الفقية عالم بن علاء الدين الحنفي المتوفى سنة 286هـ =899م. و "التاتارخانية" كتاب عظيم في مجلدات وقيل: أن مؤلفها سماها زاد المسافر أيضاً. 2 هي السراجية المتقدمة قبل قليل.

وأطال في بيان علم المكاشفة وعلم المعاملة ثم ذكر الفلسفة وقال: إنها ليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء: أما الهندسة والحساب: فهما مباحان وأما المنطق والطبيعيات: فبعضها: مخالف للشرع والدين الحق فهو جهل وليس بعلم وبعضها ليس كذلك وأطال الكلام في تفصيله وقال في خزانة الرواية في السراجية: تعلم الكلام والمناظرة فيه قدر ما يحتاج إليه: غير منهي قال الشيخ: شهاب الدين السهروردي1 في أعلام الهدى: إن عدم الاشتغال بعلم الكلام إنما هو في زمان قرب العهد بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين كانوا مستغنين عن ذلك بسبب بركة صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزول الوحي وقلة الوقائع والفتن بين المسلمين وصرح به السيد الشريف2 والعلامة التفتازاني3 وغيرهما من المحققين المشهورين بالعدالة: أن الاشتغال بالكلام في زماننا من فرائض الكفاية وقال التفتازاني: إنما المنع لقاصر النظر والمتعصب في الدين. انتهى. وهذا ذكر العلوم المحمودة وأما العلم المباح: فمنه: العلم بالأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراها وأما المذمومة: ففي التاتارخانية: وأما علم السحر والنيرنجات والطلسمات وعلم النجوم ونحوها فهي: علوم غير محمودة وأما علم الفلسفة والهندسة: فبعيد عن علم الآخرة استخرج ذلك الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. وفي فتح المبين شرح الأربعين للحليمي وغيره: صرحوا بجواز تعلم الفلسفة وفروعها من: الإلهي والطبيعي والرياضي ليرد على أهلها ويدفع شرهم عن الشريعة فيكون من باب إعداد العدة. وفي السراجية: تعلم النجوم قدر ما تعرف به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به وفي التتارخانية: وما سواه حرام. وفي الخلاصة والزيادة: حرام وفي المدارك في تفسير قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} قالوا: علم النجوم كان حقا ثم نسخ الاشتغال بمعرفته. انتهى. وفي البيضاوي: أي: فرأى مواقعها واتصالاتها أو في علمها أو في كتابها ولا منع منه. انتهى وفي التفسير الكبير في هذا المقام: إن قيل النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم - عليه السلام -؟ قلنا: لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بمعانيها: حرام وذلك لأن من اعتقد أن الله - تعالى - خص كل واحد من هذه الكواكب بقوة وخاصية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه: ليس بباطل. انتهى. فعلم من هذا: أن حرمة تعلم علم النجوم مختلف فيها وأما أخبار المنجمين: فقد ذكر في المدارك في تفسير: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية: وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث أو الموت فإنه يقول

_ 1 هو أبو حفص عمر بن محمد السهروردي المتوفى سنة 632هـ = 1234م، واسم كتابة كاملاً أعلام الهدى وعقيدة أرباب التقى. 2 انظره فيما سبق ص23. 3 سبقت ترجمته في ص43.

بالقياس والنظر في الطالع وما يدرك بالدليل لا يكون غيبا على أنه مجرد الظن والظن غير العلم. وفي الكشف: مقالات المنجمة على طريقتين: من الناس من يكذبهم واستدل عليه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} وبقوله - عليه الصلاة والسلام -: "من أتى كاهنا أو عريفا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد" ومنهم: من قال بالتفصيل فإن المنجم لا يخلو من أن يقول: إن هذه الكواكب مخلوقات أو غير مخلوقات الثاني: كفر صريح وأما الأول: فإما أن يقول: إنها فاعلات مختارات بنفسها فذلك أيضا: كفر صريح وإن قال: إنها مخلوقات مسخرات أدلة على بعض الأشياء ولها أثر بخلق الله تعالى فيها: كالنور والنار ونحوهما وأنهم استخرجوا ذلك بالحساب فذلك لا يكون غيبا لأن الغيب ما لا يدل عليه بالحساب وأما الآية والحديث: فهما محمولان على علم الغيب وهذا ليس بغيب وأما المنطق: فقد ذكر ابن حجر المكي في شرح الأربعين للنووي: أن من آلات العلم الشرعي من: فقه وحديث وتفسير: المنطق الذي بأيدي الناس اليوم فإنه علم مفيد لا محذور فيه بوجه إنما المحذور فيما كان يخلط به شيء من الفلسفيات المنابذة للشرائع ولأنه كالعلوم العربية في أنه: من مواد أصول الفقه ولأن الحكم الشرعي لا بد من تصوره والتصديق بأحواله إثباتا ونفيا والمنطق: هو المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق فوجب كونه علما شرعيا إذ هو ما صدر عن الشرع أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود: كعلم الكلام أو توقف كمال: كعلم العربية والمنطق ولذا قال الغزالي: لا ثقة بفقه من لا يتمنطق أي: من لا قواعد المنطق مركوزة بالطبع فيه كالمجتهدين في العصر الأول أو بالتعلم وممن أثنى على المنطق: الفخر الرازي والآمدي وابن الحاجب وشراح كتابه وغيرهم من الأئمة والقول بتحريمه: محمول على ما كان مخلوطا بالفلسفة. انتهى كلام كشاف اصطلاحات الفنون مع تصرف فيه ببعض الزيادة وسيأتي حكم علم المنطق وما هو الحق فيه تحت علم الميزان من باب الميم في القسم الثاني من هذا الكتاب وكذا حكم علم الكلام: ذكرته في كتابي قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل وللسيد الإمام المجتهد: محمد بن إبراهيم الوزير اليماني - رحمه الله - كتب ورسائل مستقلة في هذا الباب منها: كتابه المسمى: بالروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم فإن شئت الزيادة فعليك بها وأما ما ذكره صاحب كشاف الاصطلاحات في هذا المقام من حكم العلوم - كما تقدم آنفا - فما هو إلا أقوال أهل العلم المحضة وآراؤهم الساذجة التي لا إثارة عليها من علم وهذه الحكايات والمقالات مثلها كثير الوجود في كتب الفقهاء ولكن من لا يتبع إلا ما قرره الدليل لا يقبل ذلك أبد الآبدين ولا يتوجه إلى تلك الأقوال الخالية عن الاستناد إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة التي لا علم غيرهما أو ما كان له دخل في فهمهما وكان كالآلات لهما وقد ذكرنا في هذا الكتاب تحت بعض العلوم حكمه فارجع إليه يتضح لك ما هو الحق في المسألة وليس هذا الكتاب مما ينبغي فيه ذكر المسائل والأدلة عليها على وجه التفصيل فإنه مدونة في دواوين الإسلام وكتب الأئمة وقد قضوا منها الوطر وميزوا فيها الحق عن الباطل والخطأ من الصواب.

انظر مؤلفات شيخ الإسلام: ابن تيمية الحراني وتلميذه: الإمام الرباني الحافظ: ابن القيم كإغاثة اللهفان عن مكائد الشيطان وغيره ومؤلفات السيد: ابن الوزير والعلامة: محمد بن إسماعيل الأمير اليماني وتصانيف قاضي القضاة المجتهد المطلق: محمد بن علي الشوكاني وأمثال هؤلاء واعتن بها اعتناء لا يفتر طبعك منها واشدد يديك عليها شدا بالغا مبلغ النهاية تفز بسعادة الدارين وخيري الكونين إن شاء الله تعالى. وسيتضح عليك عند مطالعتها: أن أي علم أحق بالتحصيل والاكتساب وأشدها دخلا في الإنقاذ من المهلكات في الدنيا والآخرة وإن لم ينصرك الدهر على الاطلاع عليها فاجهد في تحصيل مختصرات هؤلاء البررة الخيرة كأدب الطلب والقول المفيد وإرشاد النقاد ونحوها فإن قصرت يدك عن هذه أيضا فارجع إلى الملخصات التي لخصناها من مؤلفات تلك العصابة الكرام وألفناها في تدوين هذا المرام وقد طبع أكثرها في هذه الأيام وانتشرت في الآفاق من العرب والعجم فإنها تشتمل على فوائد نفيسة وحقائق صحيحة وعوائد نافعة ومقاصد صالحة وحقوق ثابتة بالكتاب والسنة وهي تكفي المقلد وتغني المجتهد وتشفي العليل وتروي الغليل وتسلي الفؤاد وتوصل المريد إلى المراد ويالله العجب من قوم بسطوا القول في بيان علوم الفرض والكفاية والمحمودة منها والمذمومة وجاؤوا في تبيينها بزبالة أفكارهم ونخالة أذهانهم من غير حجة نيرة وصعدوا في تعيينها تارة إلى السماء ونزلوا أخرى إلى الأرض ولم يرفعوا رؤوسهم إلى ما جاء عن سيد العلماء وسند الفضلاء - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك ولم يمعنوا أنظارهم فيه وهو: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العلم ثلاثة: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما كان سوى ذلك فهو فضل". رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - واللام: في قوله - صلى الله عليه وسلم - العلم قيل: للعهد أي: علم الدين وقيل: للاستغراق كما في قوله - تعالى -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهو الراجح والمراد بالآية: الكتاب العزيز وبالسنة: علم الحديث الشريف وبالفريضة: علم الميراث وهو: جزء من علم الكتاب والسنة وما سوى هذين الأصلين: فضل أي: زائد لا ضرورة فيه كائنا ما كان ولا سيما العلوم التي جاءت من كفرة اليونان وليست مبنية على أساس شرعي ولا على عرفان بل حدثت هي في الإسلام بعد انقراض القرون الثلاثة المشهود لها بالخير فإنها ليس فيها من الخير شيء بل كلها كما قيل: علم لا ينفع وجهل لا يضر ومن تمسك: بأذيال الكتاب الإلهي والحديث النبوي فقد استغنى عن جميع العلوم والفنون وكل الصيد في جوف الفرا ومن لم يستغن بما جاء عن الله - تعالى - ورسوله ولم يره كافيا وافيا لأمور الدنيا والآخرة فلا أغناه الله ولا حياه والمعرض عن هذين العلمين الكريمين والأصلين الشريفين الجامعين للعلوم النافعة في المعاش والمعاد إلى الخوض في الفنون الأجنبية والاشتغال بها ليلا ونهارا والاستغراق فيها بأوقاته كلها: ليس أهلا للتخاطب ولا محلا للالتفات ولا موفقا للخير ولا موقعا للنجاة وفي حديث معاوية - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات. رواه أبو داود وهذه الفنون غالبها من هذا القبيل ونهى أيضا عن النظر في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء - عليهم السلام - من قبله فكيف بالنظر في هذه الجهالات والخرافات التي سموها: علوما وفنونا وجعلوها من مواسم الفضيلة وربطوا بها كمال الشخص وحصروه في اكتسابها الذي لا ينبغي التعبير عنه إلا بإضاعة الأوقات وإهلاك النفس الناطقة بإلقائها في الموبقات - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين المتبعين عما يكره ولا يرضاه وصاننا وإياهم عما يضر في دين الإله إنه قريب مجيب وبالله التوفيق وهو المستعان.

مطلب: في طبقات أهل العلم

مطلب: في طبقات أهل العلم من كتاب أدب الطلب لشيخنا وبركتنا الإمام المجتهد الرباني: محمد بن علي الشوكاني قاضي قضاة القطر اليماني - رحمه الله - قال - رضي الله عنه -: أول: ما على طالب العلم: أن يحسن نيته ويصلح طويته ويتصور أن هذا العمل الذي قصد له والأمر الذي أراده هو الشريعة التي شرعها الله - سبحانه - لعباده وبعث بها رسله وأنزل بها كتبه ويجرد نفسه عن أن يشوب ذلك بمقصد من مقاصد الدنيا أو يخلطه بما يكدره من الإرادات التي ليست منه هذا على. فرض أن مجرد تشريك العلم مع غيره له حكم هذه المحسوسات وهيهات ذاك فإن من أراد أن يجمع في طلبه بين قصد الدنيا والآخرة فقد أراد الشطط وغلط أقبح الغلط فإن طلب العلم من أشرف أنواع العبادة وأجلها وأعلاها وقد قال - تعالى -: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". ومن أهم ما يجب على طالب العلم تصوره عند الشروع بل في كل وقت أن يقرر عند نفسه أن هذا العمل هو تحصيل العلم بما شرعه الله لعباده والمعرفة لما تعبدهم به في محكم كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن هذا المطلب: هو سبب تحصيله وذلك سبب الظفر بما عند الله من خير ومثل هذا لا مدخل فيه لعصبية ولا مجال عنده لحمية بل هو شيء تعبدهم الله به ليس لواحد أن يدعي أنه غير متعبد به فضلا أن يرتقي إلى درجة تكليف عباد الله بما يصدر عنه من الرأي فإن هذا أمر لم يكن إلا لله - سبحانه - لا لغيره كائنا من كان ولا ينافي هذا وقوع الخلاف بين أئمة الأصول في إثبات اجتهاد الأنبياء ونفيه فإن الخلاف لفظي عند من أنصف وحقق وأهم ما يحصل لك: أن تكون منصفا غير متعصب في شيء من هذه الشريعة فلا تمحق بركتها بالتعصب لعالم من علماء الإسلام بأن تجعل رأيه واجتهاده حجة عليك وعلى سائر العباد فإنه وإن فضلك بنوع من العلم وفاق عليك بمدرك من الفهم فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوما عليه متعبدا بما أنت متعبد به بل الواجب عليك أن تعترف له بالسبق وعلو الدرجة اللائقة به في العلم معتقدا أن ذلك هو الذي لا يجب عليه غيره ولا يلزمه سواه وليس لك أن تعتقد أن صوابه صواب لك أو خطأه خطأ عليك بل عليك بالاجتهاد والجد حتى تبلغ إلى ما بلغ إليه من أخذ الأحكام الشرعية من ذلك المعدن الذي لا معدن سواه والموطن الذي هو أول الفكر وآخر العمل فإذا وطنت نفسك على الإنصاف وعدم التعصب لمذهب من المذاهب ولا لعالم من العلماء فقد فزت بأعظم فوائد العلم وربحت بأنفس فرائده ومن عرف الفنون وأهلها معرفة صحيحة لم يبق عنده شك أن اشتغال أهل الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم ولا يقاربه بل لا يعد بالنسبة إليه كثير شيء وإن إنصاف الرجل لا يتم حتى يأخذ كل فن عن أهله كائنا ما كان وأما إذا أخذ العلم من غير أهله ورجح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها وأعرض عن كلام أهلها فإنه يخبط ويخلط ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذلك وفي علماء المذاهب الأربعة: من هو أوسع علما وأعلى قدرا من إمامه الذي ينتمي إليه ويقف عند رأيه ويقتدي بما قاله في عبادته

ومعاملته وفي فتاواه وقضائه ويسري ذلك إلى مصنفاته فيرجح فيها ما يرجحه إمامه وإن كان دليله ضعيفا أو موضوعا أو لا دليل بيده أصلا بل مجرد محض الرأي ويدفع من الأدلة المخالفة له ما هو أوضح من شمس النهار تارة: بالتأويل المتعسف وحينا: بالزور الملفف وبالجملة فما صنع هذا لنفسه بذلك التصنيف إلا ما هو خزي له في الدنيا والآخرة ووبال عليه في الآجلة والعاجلة. الثاني: أن للطلبة: ثلاث طبقات: الأولى: من يقصد البلوغ إلى مرتبة في الطلب لعلم الشرع ومقدماته وترتفع همته فيكون عند تحصيلها إماما مرجوعا إليه مستفادا منه مأخوذا بقوله مدرسا مفتيا مصنفا قاضيا. والثانية: من تقصر همته عن هذه الغاية فتكون غاية مقصده ومعظم مطلبه ونهاية رغبته أن يعرف ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه ولا يحتاج إلى غيره من دون أن يتصور البلوغ إلى رتبة أهل الطبقة الأولى. والثالثة: من يكون نهاية مرادهم أمرا دون أهل الطبقة الثانية وهو إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع وعدم تحريفه وتصحيفه من دون قصد منهم إلى الاستقلال. وثم طبقة رابعة: يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو علمين أو أكثر لغرض من الأغراض الدينية أو الدنيوية من دون تصور الوصول إلى علم الشرع فكانت الطبقات: أربعاً. وينبغي لمن كان صادق الرغبة قوي الفهم ثاقب النظر عزيز النفس شهم الطبع عالي الهمة سامي الغريزة أن لا يرضى لنفسه بالدون ولا يقنع بما دون الغاية ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المبلغين له إلى أعلى ما يراد وأرفع ما يستفاد فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من: جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي سريعة الزوال قريبة الاضمحلال فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجهين إلى ما هو أشرف مطلبا وأعلى مكسبا وأرفع مرادا وأجل خطرا وأعظم قدرا وأعود نفعا وأتم فائدة؟ وهي المطالب الدينية مع كون العلم أعلاها وأولاها بكل فضيلة وأجلها وأكلمها في حصول المقصود وهو الخير الأخروي. أما الطبقة الأولى: فينبغي لمن تصور الوصول إليها أن يشرع بعلم النحو مبتدئا بالمختصرات كمنظومة الحريري1 المسماة: بالملحة وشرحها فإذا فهم ذلك وأتقنه انتقل إلى كافية ابن الحاجب وشروحها ومغني اللبيب وشروحه. هذا باعتبار الديار اليمنية2 فإذا كان ناشئا في أرض يشتغلون فيها بغير هذه فعليه بما اشتغل به مشايخ

_ 1 القاسم بن علي صاحب المقامات، توفي سنة 516هـ = 1122م. 2 في هامش الأصل التعليق: "اعلم أن ما يسميه المؤلف هاهنا إنما هو باعتبار ما يشتغل به الناس في الديار اليمنية إذا كان طالب العلم فيها، لأنه يجد شيوخ هذه المصنفات ولايجد شيوخ غيرها من مصنفات النحو إلا باعتبار الوجادة لا باعتبار السماع فمن كان في غيرها فليأخذ عن شيوخها في كل فن مقداراً يوافق ماذكره هاهنا" "سيد علي حسن خان ولد المؤلف عافاه الله تعالى عن الفتن".

تلك الأرض ولا يستغني طالب التبحر عن إتقان ما اشتمل عليه شرح الرضي على الكافية1 من المباحث اللطيفة والفوائد الشريفة وكذلك ما في المغني2 من المسائل الغريبة ويكون اشتغاله بسماع الشروح بعد حفظ هذه المختصرات حفظا يمليه عن ظهر قلبه ويبديه من طرف لسانه وأقل الأحوال: أن يحفظ مختصرا منها هو أكثرها مسائل وأنفعها فوائد ولا يفوته النظر في مثل ألفية ابن مالك وشروحها والتسهيل3 وشروحه والمفصل للزمخشري والكتاب لسيبويه فإنه يجد في هذه الكتب من: لطائف المسائل النحوية ودقائق المباحث العربية ما لم يكن قد وجده في تلك. وينبغي للطالب أن يطلع على مختصر من مختصرات المنطق ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه ويكفيه في ذلك مثل: إيساغوجي أو تهذيب السعد وشرح من شروحهما وليس المراد هنا إلا الاستعانة بمعرفة مباحث التصورات والتصديقات إجمالا لئلا يعثر على بحث من مباحث العربية من: نحو أو صرف أبو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكا على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه كما يقع كثيرا في الحدود والرسوم فإن أهل العربية يتكلمون في ذلك بكلام المناطقة فإذا كان الطالب عاطلا عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي. ثم بعد ثبوت الملكة له في النحو وإن لم يكن قد فرغ من سماع ما سميناه يشرع في الاشتغال بكتب علم الصرف ك: الشافية وشروحها والزنجانية ولامية الأفعال ولا يكون الما بعلم الصرف كما ينبغي إلا أن تكون الشافية وشروحها من محفوظاته لانتشار مسائل فن الصرف وطول ذيل قواعده وتشعب أبوابه ولا يفوته الاشتغال بشرح الرضي على الشافية بعد أن يشتغل بما هو أخصر منه من شروحها كشرح الجاربردي ولطف الله الغياث4 فإن فيه من الفوائد الصرفية مالا يوجد في غيره. ثم ينبغي له بعد ثبوت الملكة له نحوا وصرفا وإن لم يكن قد فرغ من سماع كتب الفنين أن يشرع في علم المعاني والبيان فيبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات الفن يشتمل على مهمات مسائله ك: التخليص وشرح السعد المختصر وما عليه من الحواشي وشرحه المطول وحواشيه فإنه إذا حفظ هذا المختصر وحقق الشرحين المذكورين وهوامشهما بلغ إلى مكان من الفن مكين فقد أحاطت هذه الجملة بما في مؤلفات المتقدمين من شراح المفتاح ونحوه وإذا ظفر بشيء من مؤلفات: عبد القاهر الجرجاني أو السكاكي في هذا الفن فليمعن النظر فيه فإنه يقف في تلك المؤلفات على فوائد. وينبغي له حال الاشتغال بهذا الفن أن يشتغل بفنون مختصرة قريبة المأخذ قليلة المباحث كفن الوضع

_ 1 هو رضي الدين محمد بن الحسن الأستراباذي المتوفى سنة 686هـ = 1287م وضع شرحاً على كافية ابن الحاجب في النحو. 2 "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام جمال الدين عبد الله بن يوسف النحوي المتوفى سنة 761هـ = 1360م. 3 هو تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك صاحب الألفية. 4 واسم شرحه هذا: المناهل الصافية على الشافية.

وفن المناظرة1. ويكفيه في الأول: رسالة الوضع وشرح من شروحها وفي الثاني: آداب البحث العضدية وشرح من شروحها. ثم ينبغي له أن يكب على مؤلفات اللغة المشتملة على بيان مفرداتها ك الصحاح2 والقاموس وشمس العلوم وضياء الحلوم وديوان الأدب ونحو ذلك من المؤلفات المشتملة على بيان اللغة العربية عموما أو خصوصا كالمؤلفات المختصة بغريب القرآن والحديث ثم يشتغل بعد هذا بعلم المنطق فيحفظ مختصرا منه ك: التهذيب أو الشمسية ثم يأخذ في سماع شروحهما على أهل الفن فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في: الأصول والبيان والنحو. ثم يشتغل بفن أصول الفقه بعد أن يحفظ مختصرا من مختصراته المشتملة على مهمات مسائله ك: مختصر المنتهى أو جمع الجوامع أو الغاية ثم يشتغل بسماع شروح هذهالمختصرات ك: شرح العضد على المختصر وشرح المحلي على جمع الجوامع وشرح ابن الإمام على الغاية وينبغي له أن يطول الباع في هذا الفن ويطلع على مؤلفات أهل المذاهب المختلفة ك: التنقيح والتوضيح والتلويح والمنار وتحرير ابن الهمام وليس في هذه المؤلفات مثل التحرير وشرحه ومن أنفع ما يستعان به على بلوغ درجة التحقيق في هذا الفن: الإكباب على الحواشي التي ألفها المحققون على الشرح العضدي وعلى شرح الجمع. ثم ينبغي له بعد إتقان فن أصول الفقه وإن لم يكن قد فرغ من سماع مطولاته أن يشتغل بفن الكلام المسمى: بأصول الدين ويأخذ من مؤلفات الأشعرية بنصيب ومن مؤلفات المعتزلة3 بنصيب ومن مؤلفات الماتريدية بنصيب ومن مؤلفات المتوسطين بين هذه الفرق: كالزيدية بنصيب فإنه إذا فعل هكذا عرف الاعتقادات كما ينبغي وأنصفكل فرقة بالترجيح والترجيح على بصيرة وقابل كل قول بالقبول أو الرد على حقيقة. وإني أقول بعد هذا: إنه لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة وإمرار الصفات كما جاءت ورد علم المشابه إلى الله - سبحانه - وعدم الاعتداد

_ 1 سوف يعرف المؤلف هذين الفنين في الجزء الثاني من كتابة "أبجد العلوم". 2 بإزائة في هامش الأصل التعليق: قلت: وأجمع كتب اللغة كتاب تاج العروس شرح القاموس للسيد المرتضى البلجرامي الزبيدي المصري قد حوى على جميع كتب هذا الفن، كما قيل: كل الصيد في جوف الفرا. وقد طبع بحمد الله في مصر القاهرة، لكن نصف الكتاب فإن تيسر الكتاب تماماً فمن نعم الله تعالى على المتيسر له ويكفي هو وحده عن جميع أسفار هذا العلم سيد علي حسن خان سلمه الله تعالى. وقد طبع التاج بكماله في القاهرة وأعيدت طباعته في الكويت منذ عهد قريب. 3 في هامش الأصل: "ومن أحسنها المجبتى ومن أحسن كتب الأشعرية المواقف العضدية وشرحها للشريف والمقاصد السعدية وشرحها له سيد علي حسن خان سلمه ربه.

بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل التي لا تعقل ولا تثبت إلا بمجرد الدعاوى والافتراء على العقل بما يطابق الهوى ولا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في الكتاب والسنة فإنها حينئذ حديث خرافة ولعبة لاعب. ثم بعد إحراز هذه العلوم يشتغل بعلم التفسير فيأخذ عن الشيوخ ما يحتاج مثله إلى الأخذ ك: الكشاف1 ويكب على كتب التفسير على اختلاف أنواعها وتباين مقاديرها ويعتمد في تفسير كلام الله - سبحانه - على ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عن الصحابة فإنهم أهل اللسان العربي فما وجده من تفاسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المعتبرة كالأمهات وما يلتحق بها قدمه على غيره وأجمع مؤلف في ذلك الدر المنثور للسيوطي وينبغي له أن يطول الباع في هذا العلم ويطالع مطولات التفسير ك: مفاتيح الغيب للرازي ولا يكتفي على تفسير بعض الآيات مسميا لها بآيات الأحكام كما وقع للموزعي وصاحب الثمرات ويقدم على قراءة التفاسير: الاطلاع على علوم لها مدخل في التلاوة وسائر العلوم المتعلقة بالكتاب العزيز وما أنفع الإتقان للسيوطي في مثل هذه الأمور ثم لا يهمل النظر في كتب القراآت وما يتعلق بها ك: الشاطبية وشروحها والطيبية وشروحها وأعظم العلوم فائدة وأكثرها نفعا وأوسعها قدرا وأجلها خطرا: علم السنة المطهرة فإنه الذي تكفل ببيان الكتاب العزيز ثم استقل بما لا ينحصر من الأحكام فيقبل على سماع الكتب ك: جامع الأصول والمشارق وكنز العمال والمنتقى لجد ابن تيمية رحمه الله وبلوغ المرام لابن حجر والعمدة ثم يسمع الأمهات الست2 ومسند أحمد وصحيح ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود وسنن الدارقطني والبيهقي وما بلغت إليه قدرته ووجد في أهل عصره شيوخه. ثم يشتغل بشروح هذه المؤلفات فيسمع منها ما تيسر له ويطالع ما تيسر له سماعه ويستكثر من النظر في المؤلفات في علم الجرح والتعديل بل يتوسع في هذا العلم بكل ممكن وأنفع ماينتفع به مثل: النبلاء وتاريخ الإسلام وتذكرة الحفاظ والميزان وهذا بعد أن يشتغل بشيء من علم اصطلاح أهل الحديث كمؤلفات ابن الصلاح والألفية للعراقي وشروحها. وينبغي أن يشتغل بمطالعة الكتب المصنفة في تاريخ الدول وحوادث العالم في كل سنة كما فعله الطبري في تاريخه وابن الأثير في كامله فإن للاطلاع على ذلك فائدة جليلة. فإذا أحاط الطالب بما ذكرناه من العلوم فقد صار حينئذ في الطبقة العالية من طبقات المجتهدين وكمل له جميع أنواع علوم الدين وصار قادرا على استخراج الأحكام من الأدلة متى شاء وكيف شاء ولكنه ينبغي له: أن يطلع على علوم أخر3 ليكمل له ما قد حازه من الشرف ويتم له ما قد ظفر به من بلوغ الغاية فمن ذلك: علم الفقه وأقل الأحوال: أن يعرف مختصرا في فقه كل مذهب من المذاهب المشهورة،

_ 1 للزمخشري. 2 أي كتب الصحاح الستة. 3 في هامش الأصل: "وهي لا تخرج إن شاء الله تعالى عن القسم الثاني من هذا الكتاب وفيه ما لا يحتاج إليه طالب علم الدين وإنما يحتاج إليه طالب علوم الدنيا". حافظ علي حسين كاتب الحروف عفا الله عنه".

فإنه قد يحتاج إليها المجتهد لإفادة المتمذهبين السائلين عن مذاهب أئمتهم وقد يحتاج إليها لدفع من يشنع عليه في اجتهاده كما يقع ذلك كثيرا من أهل التعصب والتقصير فإنه إذا قال له: قد قال بهذه المقالة العالم الفلاني أو عمل عليها أهل المذهب الفلاني كان ذلك دافعا لصولته كاسرا لسورته وما أنفع الاطلاع على المؤلفات البسيطة في حكاية مذاهب السلف وأهل المذاهب وحكاية أدلتهم وما دار بين المتناظرين منهم إما تحقيقا أو فرضا كمؤلفات ابن المنذر وابن قدامة وابن حزم وابن تيمية ومن سلك مسالكهم فإن تلك المؤلفات هي مطارح أنظار المحققين ومطامح أفكار المجتهدين. ومما يزيد من آراء هذه الطبقة العلية علوا ويفيده قوة إدراك وصحة فهم وسيلان ذهن: الاطلاع على أشعار فحول الشعراء ومجيديهم مع ما يحصل له بذلك من الاقتدار على النظم والتصرف في فنونه فإن من كان بهذه المنزلة الرفيعة من العلم إذا كان لا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه ونقصا في كماله. وهكذا الاستكثار من النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالإجادة والإحسان المتصرفين في رسالاتهم ومكاتباتهم بأفصح لسان وأبين بيان لأنه ينبغي أن يكون كلامه على قدر علمه وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطا عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ وما أقبح العالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به في النظم والنثر من لا يجاريه في علوم من علومه ويتضاحك منه من له إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام وأنفع ما ينتفع به في ذلك: منظومة الجزار1 وشرحها والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار ويصفي القرائح ويزيد القلب سرورا والنفس انشراحا كالعلم: الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب. وبالجملة: فالعلم بكل فن خير من الجهل به بكثير ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات فإنها شعبة من التقليد وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم غير محكوم عليك واختر لنفسك ما يحلو وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء وإنما يخشى على من كان غير ثابت القدم في علوم الكتاب والسنة فإنه ربما يتزلزل وتخور قوته فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت واستكثر من الفنون ما أردت وتبحر في الدقائق ما استطعت وحارب من خالفك وعذلك وشنع عليك بقول القائل: أتانا أن سهلا ذم جهلا ... علوما ليس يعرفهن سهل علوما لو دراها ما قلاها ... ولكن الرضا بالجهل سهل وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته ولا يتصوره بوجه من الوجوه ولقد

_ 1 لعلها المعروفة ب "العقود الدرية في الأمراء المصرية" وهي ليحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد الجزار المتوفى سنة 679هـ = 1280م وهو أديب شاعر له ديوان شعر وكتب أخرى.

وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعا عظيما وفائدة جليلة في دفع المبطلين والمتعصبين وأهل الرأي البحت ومن لا اشتغال له بالدليل. وأما الأهلية التي يكون صاحبها محلا لوضع العلم فيه وتعليمه إياه فهي: شرف المحتد وكرم النجار وظهور الحسب أو كون في سلف الطالب من له تعلق: بالعلم والصلاح ومعالم الدين أو بمعالي الأمور ورفيع الرتب فإن هذا أمر يجذب بطبع صاحبه إلى معالي الأمور ويحول بينه وبين الرذائل وأما من كان سقط المتاع وسفساف أهل المهن: كأهل الحياكة والعصارة والقصابة ونحو ذلك من المهن الدنية والحرف الوضيعة فإن نفسه لا تفارق الدناءة ولا تجانب السقوط ولا تأبى المهانة فإذا اشتغل مشتغل منهم بطلب العلم ونال منه بعض النيل وقع في أمور منها: العجب والزهو والخيلاء والتطاول على الناس ويعظم به الضرر على أهل العلم فضلا عن غيرهم ممن هو دونهم. وأما من كان أهلا للعلم وفي مكان من الشرف فإنه يزداد بالعلم شرفا إلى شرفه ويكتسب به من حسن السمت وجميل التواضع ورائق الوقار وبديع الأخلاق ما يزيد علمه علوا وعرفانه تعظيما. وبين هاتين الطائفتين: طائفة ثالثة ليست من هؤلاء ولا من هؤلاء جعلوا العلم مكسبا من مكاسب الدنيا ومعيشة من معايش أهلها لا غرض لهم فيه إلا إدراك منصب من مناصب أسلافهم ونيل رئاسة من الرئاسات التي كانت لهم كما يشاهد في غالب البيوت المعمورة بالقضاء أو الإفتاء أو الخطابة أو الكتابة أو ما هو شبيه بهذه الأمور فهذا ليس من أهل العلم في ورد ولا صدر ولا ينبغي أن يكون معدودا منهم ولا فائدة في تعليمه راجعة إلى الدين قط. والذي ينبغي لطالب العلم أن يطلبه كما ينبغي ويتعلمه على الوجه الذي يريده الله منه معتقدا أنه أعلى أمور الدين والدنيا راجيا أن ينفع به عباد الله بعد الوصول إلى الفائدة منه. هذا ما ينبغي لأهل الطبقة الأولى وأما أهل الطبقة الثانية: وهو: من يطلب ما يصدق عليه مسمى الاجتهاد ويسوغ به العمل بأدلة الشرع فهو يكتفي بأن يأخذ من كل فن من فنون الاجتهاد بنصيب يعلم به ذلك الفن علما يستغني به عند الحاجة إليه أو يهتدي به إلى المكان الذي فيه ذلك البحث على وجه يفهم به ما يقف عليه منه فيشرع بتعلم علم النحو حتى تثبت له فيه الملكة التي يقتدر بها على: معرفة أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء وأقل ما يحصل له ذلك بحفظ مختصر من المختصرات المشتملة على مهمات مسائل النحو والمتضمنة لتقرير مباحثه على الوجه المعتبر ك: الكافية وشرح من شروحها وأحسنها بالنسبة إلى الشروح المختصرة: شرح الجامي ثم يحفظ مختصرا في الصرف ك: الشافية وشرحها للجاربردي ثم يشتغل بحفظ مختصر من مختصرات علم المعاني والبيان ك: التلخيص للقزويني وشرح السعد المختصر وأنفع ما ينتفع به الطالب الغاية للحسين بن القاسم1 وشرحها له ثم يشتغل بقراءة تفسير من التفاسير المختصرة ك: تفسير البيضاوي مع مراجعة ما يمكنه مراجعته من التفاسير ثم يشتغل بسماع مالا بد من سماعه من كتب

_ 1 هو الحسين بن قاسم بن محمد بن علي اليمني من سادات اليمن، توفي سنة 1050هـ = 1640م وكتابة الغاية في الأصول وقد وضع عليه أيضا شرحاً.

الحديث وهي: الست الأمهات فإن عجز عن ذلك اشتغل بسماع ما هو مشتمل على ما فيها من المتون ك: جامع الأصول ثم لا يدع البحث عن ما هو موجود من أحاديث الأحكام في غيرها بحسب ما تبلغ إليه طاقته ويبحث عن الأحاديث الخارجة عن الصحيح في المواطن التي هي مظنة للكلام عليها من: الشروح والتخريجات ويكون مع هذا عنده ممارسة لعلم اللغة على وجه يهتدي به إلى البحث عن الألفاظ العربية واستخراجها من مواطنها وعنده من علم اصطلاح الحديث وعلم الجرح والتعديل ما يهتدي به إلى معرفة ما يتكلم به الحافظ على أسانيد الأحاديث ومتونها. وأما أهل الطبقة الثالثة: وهم الذين يرغبون إلى إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع وعدم تحريفه وتصحيفه وتغيير إعرابه من دون قصد منهم إلى الاستقلال بل يعزمون على التعويل على السؤال عند عروض التعارض والاحتياج إلى الترجيح فينبغي له تعلم شيء من علم الإعراب حتى يعرف به إعراب أواخر الكلم ويكفيه في مثل ذلك حفظ: منظومة الحريري وقراءة شروحها على أهل الفن وتدربه في إعراب ما يطلع عليه من الكلام المنظوم والمنثور ويحفي السؤال عن إعراب ما أشكل عليه حتى تثبت له بمجموع ذلك ملكة يعرف بها أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء ثم يتعلم اصطلاح علم الحديث ويكفيه في مثل ذلك مثل: النخبة وشرحها ثم بعدها يكب على سماع المختصرات في الحديث مثل: بلوغ المرام والعمدة والمنتقى وإن تمكن من سماع جامع الأصول أو شيء من مختصراته فعل فإذا أشكل عليه معنى حديث نظر في الشروح أو في كتب اللغة وإن أشكل عليه الراجح من المتعارضات أو التبس عليه: هل الحديث مما يجوز العمل به أم لا؟ سأل علماء هذا الشأن الموثوق بعرفانهم وإنصافهم ويعمل على ما يرشدونه إليه استفتاء وعملا بالدليل لا تقليدا وعملا بالرأي ويشتغل بسماع تفسير من التفاسير التي لا تحتاج إلى تحقيق وتدقيق ك: تفسير البغوي وتفسير السيوطي المسمى: بالدر المنثور وإذا أشكل عليه بحث من المباحث أو تعارضت عليه التفاسير ولم يهتد إلى الراجح أو التبس عليه أمر يرجع إلى تصحيح شيء مما يجده في كتب التفسير رجع إلى أهل العلم بذلك الفن سائلا لهم عن الرواية لا عن الرأي وقد كان من هذه الطبقة: الصحابة والتابعون وتابعوهم فإنهم كانوا يسألون أهل العلم منهم عن حكم ما يعرض لهم مما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم فيروون لهم في ذلك ما جاء عن الله - تعالى - وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيعملون بروايتهم لا برأيهم من دون تقليد ولا التزام رأي كما يعرف ذلك من يعرفه. وأما الطبقة الرابعة: الذين يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو علمين أو أكثر لغرض من الأغراض الدينية أو الدنيوية من دون تصور الوصول إلى علم الشرع وذلك كمن يريد أن يكون شاعرا أو منشئا أو حاسبا فإنه ينبغي له أن يتعلم ما يتوصل به إلى ذلك المطلب فمن أراد أن يكون شاعرا تعلم من علم النحو والمعاني والبيان ما يفهم به مقاصد أهل هذه العلوم ويستكثر من الاطلاع على علم البديع والإحاطة بأنواعه والبحث عن نكته وأسراره وعلم العروض والقوافي ويمارس أشعار العرب ويحفظ ما يمكنه حفظه منها ثم أشعار أهل الطبقة الأولى من أهل الإسلام كجرير والفرزدق وطبقتهما ثم مثل أشعار بشار بن برد وأبي نواس ومسلم بن الوليد وأعيان من جاء بعدهم كأبي تمام والبحتري والمتنبي ثم

أشعار المشهورين بالجودة من أهل العصور المتأخرة ويستعين على فهم ما استصعب عليه بكتب اللغة ويكب على الكتب المشتملة على تراجم أهل الأدب ك: يتيمة الدهر وذيولها وقلائد العقيان وما هو على نمطه من مؤلفات أهل الأدب ك: الريحانةو النفحة. كما يحتاج إلى ما ذكرناه: من أراد أن يكون شاعرا فيحتاج إليه أيضا: من أراد أن يكون منشئا مع احتياجه إلى الاطلاع على مثل: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير والكامل للمبرد والأمالي للقالي ومجاميع خطب البلغاء ورسائلهم خصوصا مثل ما هو مدون من بلاغات الجاحظ والفاضل1 والعماد وأمثالهم فإنه ينتفع بذلك أتم انتفاع. ومن أراد أن يكون حاسبا اشتغل بعلم الحساب ومؤلفاته معروفة. وهكذا من أراد أن يطلع على علم الفلسفة فإنه يحتاج إلى معرفة العلم الرياضي والعلم الطبيعي والعلم الإلهي وهكذا علم الهندسة فمن جمع هذه العلوم الأربعة صار فيلسوفا والعلم بالعلوم الفلسفية لا ينافي علم الشرع بل يزيد المتشرع الذي قد رسخت قدمه في علم الشرع غبطة بعلم الشرع ومحبة له لأنه يعلم أنه لا سبيل للوقوف على ما حاول الفلاسفة الوقوف عليه إلا من جهة الشرع وإن كل باب - غير هذا الباب - لا ينتهي بمن دخل إليه إلى غاية وفائدة. ومن كان مريدا لعلم الطب فعليه بمطالعة كتب جالينوس فإنها أنفع شيء في هذا الفن باتفاق من جاء بعده من المشتغلين بهذه الصناعة إلا النادر القليل وقد انتقى منها جماعة من المتأخرين: ستة عشر كتابا وشرحوها شروحا مفيدة فإن تعذر عليه ذلك فأكمل ما وقفت عليه من الكتب الجامعة بين المفردات والمركبات والعلاجات: كتاب القانون لابن سينا وكامل الصناعة المشهور بالملكي لعلي بن العباس ومن أنفع المختصرات: الذخيرة لثابت بن قرة ومن أنفعها - باعتبار خواص الأدوية المفردة وبعض المركبات -: تذكرة الشيخ داود الأنطاكي ولو كمل بالمعالجات لكان مغنيا عن غيره ولكنه انقطع بعد أن شرع إلى الكلام على معالجات العلل على حروف أبجد فوصل إلى حرف الطاء ثم انقطع الكتاب ومن أنفعها في هذا الفن: الموجز وشروحه. وبالجملة: فمن كان قاصدا إلى علم من العلوم كان عليه أن يتوصل إليه بالمؤلفات المشهورة بنفع من اشتغل بها المحررة أحسن تحرير المهذبة أبلغ تهذيب وقدمنا في كل فن ما فيه إرشاد إلى أحسن المؤلفات فيه. وكثيرا ما يقصد الطالب الذي لم يتدرب بأخلاق المنصفين ويتهذب بإرشاد المحققين الاطلاع على مذهب من المذاهب المشهورة ولم تكن له في غيره رغبة ولا عنده لما سواه نشاط فأقرب الطرق إلى إدراك مقصده ونيل مآربه أن يبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات أهل ذلك المذهب الكنز في مذهب الحنفية والمنهاج2 في مذهب الشافعية فإذا صار ذلك المختصر محفوظا له حفظا متقنا على وجه

_ 1 أي القاضي الفاضل البيساني. انظره فيما سبق ص52، والعماد هو العماد الأصبهاني. 2 الكنز: هو كنز الدقائق في فروع الفقة الحنفي للشيخ الإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي المتوفى سنة 710هـ. والمنهاج: هو منهاج الطالبين في فروع فقة الشافعية ألفة محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي المتوفى سنة 676هـ.

يستغني به عن حمل الكتاب شرع في تفهم معانيه وتدبر مسائله على شيخ من شيوخ ذلك الفن حتى يكون جامعا بين حفظ ذلك المختصر وفهم معانيه مع كونه مكررا لدرسه متدبرا لمعانيه الوقت بعد الوقت حتى يرسخ حفظه رسوخا يأمن معه من التفلت ثم يشتغل بدرس شرح مختصر من شروحه على شيخ من الشيوخ ثم يترقى إلى ما هو أكثر منه فوائد وأكمل مسائل ثم يكب على مطالعة مؤلفات المحققين من أهل ذلك الفن فيضم ما وجده من المسائل خارجا عن ذلك المختصر الذي قد صار محفوظا له إليه على وجه يستحضره عند الحاجة إليه ولكنه إذا لم يكن لديه من العلم إلا ما قد صار عنده من فقه ذلك المذهب فلا ريب أنه يكون عامي الفهم سيئ الإدراك عظيم البلادة غليظ الطبع فعليه أن يبتدئ بتهذيب فهمه وتنقيح فكره بشيء من مختصرات النحو ومجاميع الأدب حتى تثبت له الفقاهة التصورية وأما الفقاهة الحقيقية فلا يتصف بها إلا المجتهد بلا خلاف بين المحققين. هذا خلاصة كلام الشوكاني -رحمه الله- وإن شئت زيادة الاطلاع على مطالب هذه المدلولات فعليك بأصل الكتاب فإن فيه تحت كل قول فوائد جمة لا يسع لذكرها هذا الموضع وهذا آخر الكلام على هذا المرام وبالله التوفيق وهو المستعان.

مطلب: في مباحث من الأمور العامة التي يكثر استعمالها والاشتباه بإهمالها

مطلب: في مباحث من الأمور العامة التي يكثر استعمالها والاشتباه بإهمالها فمنها: المفهوم إن تحقق خارج الذهن أصالة فموجود عيني وسواه: معدوم خارجي فما فيه بالعرض حال من الحيثيات1 الثلاثة والأمور العامة والأعداد ولوازم الماهيات والنسب المطلقة: كالحلول واللزوم والتضاد والخاصة كالفوقية والعظم. أو في الذهن فموجود ظلي فما من الأعيان معقول أولي ومالا منها واقعيا معقول ثانوي من المتأصلة في خصوص الوجود الذهني والمنتزعات كالأحوال والأعدام وفرضيا منفي فما أبى الوجود لذاته ممتنع وما لا مخترع وغيره ثابت تميز في نفس الأمر بأثر خاص. ومنها: من الوجود حقيقي لا يرتفع وعارض يرتفع منتزع أو منشأ له ورفعه عدم والإعدام والمعدومات: لا تتمايز في ظرف الانتفاء. ومنها: رابطي [وله تقسيمات] 2: 1 - مفرد ومركب فمقابل المفرد: مفرد والمركب في قوة مردد مانع الخلو. 2 – ومقيد1 بالجهة ومطلق 3 - وبسيط نسبي ومتطرف ونفسي [وله تقسيمات أيضا3] :

_ 1 في هامش الأصل: "أي الإطلاقية والتقييدية والتعليلية منه" ومنه: تعني من وضع المؤلف. 2 3 مابين معقوفين مضاف في هامش الأصل.

1 - صرف أو مقيد بظرف أو مضاف إلى شيء فقط أو سابقا أو لاحقا أو مطلقا فيصير قديما وحادثا وفانيا أو صفة لشيء1 عدولا أو عدم ملكة. 2 - وضروري واجب وممتنع بالذات وبالغير ويتعاكسان بالتقابل ولا ضررويهما ممكن خاص بالذات فقط يقابل نظيره2 وينقسم إلى قسميه ولا يتعاكس ولا ضروري3 أحدهما ممكن عام فمعينا4 يقابل أحد الأولين5 ومطلقا6 يشمل الكل. 3 - وبالقوة أو بالفعل فكل7 مستعد قريب للآخر. 4 - وعام8 وخاص يتقابلان تعاكسا والوجود قبل الكثرة9 أو معها أو بعدها. 5 - ودفعي أو تدريجي منطبقا أو لا. 6 - والمطلق من العدم يباين الوجود ومطلقه يجامعه واعتباراه في الأغلب بحال10 الوجود وقليلا11 بحال نفسه. 7 - وأحد الوجودين يباين الآخر12 أو يلابسه أو يندرج فيه فيفارق الأحوال بأن حملها اشتقاقي وحمله مواطأة. 8 - وأصلي وظلي. 9 - ومحقق ومقدر. 10 - ومنعوت بالطبع وناعت. 11 - ومجرد كاملا أو ناقصا ومادي 12 - ومشكك13 بأنحائه وغيره. ومنها: الموجود بحسب الخارج إن نافى العدم لذاته فواجب وإلا فممكن له ماهية ولا تخلو عن ملابس مختص فالناعت: حال يحتاج شخصه إلى شخص الآخر والمنعوت: محل فما استغنى عن طبيعة

_ 1 فوقها بين السطرين في الأصل: "أي الوجود والعدم". 2 مابين معقوفين مضاف في هامش الأصل. 3 فوقها بين السطرين: "أي مجرداً عن قيد الزمان". 4 في هامش الأصل: "أي الضروري الذي واجب بالذات أو ممتنع بالذات". 5 فوقها بين السطرين: "أي الوجود والعدم". 6 على الهامش: "أي الواجب والممتنع بالذات ممكن الوجود يقابل الممتنع وممكن العدم يقابل الواجب. منه". 7 فوقها بين السطرين " فلا ضروري أحدهما حال كونه معيناً منه". 8 فوقها بين السطرين "أي غير متعين بل مطلقاً عن الأضافة إلى الوجود والعدم. منه". 9 فوقها بين السطرين "من الوجود والعدم. منه". 10 في الهامش "كالعدم المطلق رفع الوجود المطلق ومطلق العدم رفع مطلق الوجود. منه". 11 فوقها بين السطرين: "أي اعتبار الشيْ االمطلق هو مطلق الشيء للعدم. منه". 12 فوقها بين السطرين: "أي الوجود المندرج. منه". 13 فوقها بين السطرين: "أي التشكيك".

الحال موضوع للعرض، ومالا فمادة للصورة والجوهر ماهية وجودها العيني لا في موضوع وظن في الزمان والمكان والجوهر الفرد والخط والسطح المستقلين والجسم والصورة جسمية ونوعية والهيولى والنفس والعقل وحقق في الخمسة الأخيرة فما لا يقبل قسمة وإشارة إن فعل في الجسم بالآلات واستكمل به نفس وإلا فعقل والقابل لهما محلا هيولى فعليتها للاستعداد وحالا متماثلا في الجميع ممتدا لذاته صورة جسمية ومختلفا نوعية ومركبا1 جسم إن زاحم في الحيز دائما فشهادي وإلا فمثالي والشهادي2 بتوعيته بسيط أفلاك وكواكب وعناصر ومركب عنصري ناقص بلا مزاج نام به فما يحفظ البنية فقط معدني وما ينمو ويولد فقط نبات وما يحس ويتحرك بالإرادة حيوان وما يتفكر ويصنع بالآلات إنسان أرضيا وجن ناريا والنفوس الشاعرة فلكية وحيوانية وناطقة والعاطلة عنه نباتية والفاعل بلا شعور طبيعية وربما يعمم والملك عندنا جوهر شاعر ليس بذي نمو وشهوة وغصب وإن أراد إنعاما وانتقاما ويقال علي روحاني ومثالي وسماوي وهوائي ومن كل3 مهيم4 ما ومدبر ويتشكل في مدركته ومدركة غيره بأشكال مختلفة كالجن. والأعراض انضمامية وجودها في أنفسها هو وجودها لمحالها وانتزاعية وجودها خصوص نحو وجود محالها في أنفسها أو مقيسا إلى غيرها وتبقى زمانا وينعت بعض لبعض ويتبع الجوهر في التحيز والنقلة وإن أوهم تجدد الأمثال في الأشعة والإظلال والأصوات والغفلة عن الجوهر في الأصباغ خلافه ووجدوا منها نسبية يدخل غير المحال في قوامها وكما يقبل المساواة والزيادة والنقصان لذاته وكيف أسواهما فالنسبة إلى الظرف مكانا أين وزمانا متى وإلى الأثر بالتدريج إيقاعا فعل وقبولا انفعال وإلى داخل أو خارج منتقلا بانتقاله مشتملا على كله أو بعضه ملك وغيره وضع وإلى نسبة إضافة مشاكلة أو مخالفة والكم إن اشترك وقسيمه5 فمتصل فالقار مجتمع الأجزاء ذو بعد خط وبعدين سطح وثلاثة جسم تعليمي وغير القار زمان وإلا فمنفصل عدد والكيف محسوس سمعا وبصرا وشما وذوقا ولمسا ولو بشركة وهم كالأوزان والألحان والحسن والنجاسة والسعة وأضدادها ونفساني في البدن كالحياة الصحة أو في النفس كالعلم والإرادة والقارة الراسخة منهما انفعاليات6 وملكات7 وسريعة الزوال انفعالات وحالات واستعدادي يقوي قوة القبول8 وعدمه أو الفعل وظني أن الحركة منه9 ولا يضر عدم استقراره10

_ 1 فوقها بين السطرين: "أي من الحال والمحل. منه". 2 فوقها بين السطرين: "أي بصورته النوعية. منه". 3 في الهامش: "أي من الأقسام الأربعة المذكورة آنفا. منه". 4 في الهامش: "أي المستغرق في عبادة الله تعالى. منه". 5 فوقها بين السطرين: "من القسمين". 6 فوقها بين السطرين: "من المحسوسات". 7 فوقها بين السطرين: "من النفسانيات". 8 فوقها بين السطرين: "من المحسوسات والنفسانيات". 9 فوقها بين السطرين: "في المحسوسات". 10 فوقها بين السطرين: "في النفسانيات".

كالأصوات فلكل ما هي فيه فرد غير قار ربما وصل نوعا بنوع تدريجا ومختص بالكميات كالشكل والزاوية والزوجية والفردية ولعل النقطة منه. ومنها: الماهية من حيث ليست هي إلا هي وذاتياتها يسلب عنها جميع العوارض الوجودية والعدمية واللازمة والمفارقة ومن حيث ما هي عليه معروضة المتقابلات فتوهم ارتفاع النقيضين واجتماعهما وهي1 أقسام التقسيم الأول منها: 1 - إما حقيقية تقومت بلا اعتبار وضع من الناس أو اعتبارية صناعية. 2 - وإما خارجية تقع في الأعيان أو ذهنية. 3 - وإما بسيطة لا جزء لها بالفعل أو مركبة منتهية إلى بسيط بالفعل وتركيبا الظرفين وإن تلازما بالحقيقة فقد يختلفان بالحدود الاسمية أو الأجزاء المحمولة وغير المحمولة وأجزاؤها2. أقسام التقسيم الأول منها: 1 - إما أركان لأصلها فتنتفي بانتفاء أحدها أو عرضية لكاملها فلا. 2 - وإما أولية أو ثانوية. 3 - وإما تركيبية بالفعل في الواقع فقط أو في الحس أيضا أو بالقوة. 4 - وإما متداخلة تحمل ولا تحمل باعتبارين كما مر فهي متخالفة الحقائق قطعا متحدة العين كاللون والبياض ومتمايزة متطابقة كالهيولى والصورة والنفس والبدن وإذا عنوا في الحقيقيات للعموم والخصوص المطلق بينها ففي المتحدة هي الجنس والفصل بالحقيقة والمادة والصورة بالعمل وفي المتطابقة3 بالعكس أو متباينة متجاورة متماثلة أو متخالفة بالنوع أو بالجنس كالعدد والبلقة والخلقة والأجزاء المقدارية في الجسم المركب تركيبية وتحليلية وفي البسيطة تحليلية فقط وجاز أن يكون للشيء أجزاء أولية متداخلة وثانوية متباينة وأجزاء الاعتبارات جواهر وأعراض حقيقة وإضافية سلبية وثبوتية إلى العلل الأربع فردا وجمعا أو إلى المعلول أو الخارج اللاحق أو المباين فقد يتخلف فيها اسم الكل عن جميع الأجزاء لفوات شرط الإطلاق ولا بد في الكل من جهة واحدة وهي بالحاجة بلا دور إما في التحصيل أو الحصول أو البقاء أو ترتب الفرض وتكون في الحقيقيات بالذات واللوازم وفي الاعتباريات المفارقات أيضا وتتشخص الماهية بنحو تقررها ويتقوم هذا النحو ابتداء للمنحصرة في فرد واحد بحقائقها وللنفوس بأبدانها ثم بالعكس4 ولما يحل بمحله مع الزمان وللمحل المنقسم بالوضع المصحح للإشارة معه وأصل الجعل بسيط ثم يجيء التركيب ففي بادئ النظر من قال بتقدم الثبوت على الوجود أو بزيادته على الماهية في الخارج قال بالمركب ومن لا قال بالبسيط وفي غامضه لا يتم إلا بإخراج الأيس من الليس ويتخلل المركب بين أجزائها لا بينها وبين أجزائها لامتناع سلب الذات والذاتيات عن الشيء وتحصيل حاصل قبلي.

_ 1 فوقها بين السطرين: "أقسام التقسيم الأول منها". 2 فوقها بين السطرين: "أقسام التقسيم الأول منها". 3 في الهامش: "في المتطابقة جنس وفصل بالعمل ومادة وصورة بالحقيقة. منه". 4 في الهامش: "أي بإبقاء فيتقوم هذا النحو للأبدان والنفوس".

ومنها1: الكثرة جهة الانقسام وتفارق العدد باعتبار خصوص المرتبة مبهما أو معينا فيه دونها والوحدة جهة عدمه وهي تقوم الكثرة وتعرضها وتقابلها بملاحظة البدلية في محلها وهو طبيعة المميز ولو بقيد زمان أو مكان أو نحوهما. وتساوق الوجود والانقسام إما بتحليل الذهن إلى الحقائق المتطابقة وإما للكلي إلى جزئياته بضم قيود مختلفة إلى مشترك محصلة أو عارضة ليتكثر أجناسا أو أنواعا أو أصنافا أو أشخاصا وإما للكل إلى أجزائه بفك أو بعرض حقيقي أو نسبي أو بفرض شيء دون شيء جزئيا بتعيين المقسم وهما أو كليا بدونه عقلا في المتصلات وبتمايز الأشخاص والأطراف في المنفصلات. وفرقوا بين الكل والجزء وبين الكلي والجزئي بامتناع حصول الأول في جزء وحمله عليه وبارتفاعه وتوقفه بارتفاعه على جميعها وإنخفاظ وحدته الشخصية مع كثرتها دون الثاني وكمال الوحدة لمن لا ماهية لفعليته ولا صفة انضمامية لذاته ولا تعدد حيثيات متقدمة لتمامه ثم للمفارقات ثم للنفوس ثم لا ينقسم من ذوات الأوضاع ثم لمتصل الذات ثم للمركبات الطبيعية ثم للأنواع والخواص ثم للأجناس والأعراض العامة ثم للنسب المشتركة. والاتحاد جهة الوحدة في كثرة ومنه الشركة في الإشارة وفي الحركة والسكون وفي المكان العرفي والزمان والصفة ونسبة الولاد والملك ونحوها وتختلف الجهتان قوة وضعفا فأقواها الاتحاد بالذات والتغاير بالاعتبار وأضعفها بالعكس ومن الكثير اثنان فالوضعان إن اختلفا تشخصا فقط فمتماثلان أو بالماهية فإن جاز اجتماعهما فمتخالفان وإلا فمتقابلان فإن قابل وجوديا مثله فما تلازما تعقلامتضائفان حقيقيان ويتكافآن قوة وفعلا وعددا ومحلا هما مشهوريان وما لا متضادان فمع غاية الخلاف حقيقيان ويكونان نوعي جنس يتصوران لمحل وبدونها مشهوريان أو سلبه فالمطلق سلب وإيجاب بسيط أو عدولي والمقيد بمحل قابل للوجودي في وقته أو شخصه أو صنفه أو نوعه أو جنسه القريب أو البعيد عدم ملكه ومن الكثير مالا يتناهى ويقين جوازه في مثل اللزوم مالا يقف عند حد إذ ليسا منه حقيقة وامتناعه في المدارك البشرية مفصلا بالوجدان وفي العلل والأبعاد بالبرهان إذ الافتقار إنما هو لخلو الذات فإذا افتقر كل خلي الكل فلا أثر ولا تأثير وحركة المتناهي المتوازي لقديمه2 إليه مع ثبات المبدأ تبطل ضرورة الحصر بين التوازي والتقاطع على تقدير عدم التناهي عند قطع السمت ما بينهما في كل حد وتوجب قطع سموت غير متناهية في زمان متناه ولحجج أخر وأما في غيرها فاشترط الفارابي الوجود والترتب والاجتماع والمادية وأسقط جمهورهم الأخير والمتكلمون الأخيرين وبعض المحققين [الثلاثة] 3 الأخير زاعما إغناء إمكان فرض التطبيق الإجمالي عن الترتب الواقعي وعندي أنه إن تم لزوم العدد للكثرة كما يظن انمحى اللامتناهي عن الواقع عينا وعلما وإلا لا وهذا فوق المدارك العامة

_ 1 فوقها بين السطرين: "الماهية". 2 فوقها بين السطرين: "أي التناهي". 3 أثبت بين السطرين.

ومنها ما يتوقف عليه وجود الشيء وهو ما لولاه لامتنع إما عدم أمر فقط وهو المانع أو عدمه بعد الوجود وهو المعد أو وجوده فقط هو إما مرجح أو مصحح والترجيح هو التأثير والاقتضاء فالمقتضي للشيء المؤثر في وجوده هو العلة فما به فعلية المعلول: 1 - الصورة وما به قبوله. 2 – المادة. وتدخلان في المركب وفي البسيط الصورة هي المعلولة والمادة هي القابلة إن كانت وما منه صدوره. 3 – الفاعل. وما لأجله صنعته. 4 - الغاية وهي علة ذهنا معلولة خارجا وهما خارجان. والحاجة إلى الثلاثة الأخيرة للتركب وضرورة القابل وللإمكان ولاختيار الفاعل قريبا أو بعيدا ومنه غايات الطبائع والمصحح شرط إما لتأثير الفاعل ومنه آلات الطبيعة كالقوى والجوارح والصناعة كأدوات الحرف وهي الواسطة بين الفاعل والمنفعل في إيصال الأثر أو لقبول المادة أو لتمام الصورة أو لترتب الغاية وما وجب تقدمه ولم يجب زواله معه بالعرض محل أو شرط للمعد بالذات. ومن العلل1: 1 - تامة: لا يتوقف على ما وراءها فليست شيئا واحدا وناقصة غيرها. 2 - وموجبة: لا يتخلف المعلول عنها وهي تامة أو جزء أخير منها أو فاعل مستجمع لشرائط التأثير وهي متلازمة وغيرها. 3 - ومستقلة: هي جملة نوع منها بشروطه ومنها2 كافية تكفي لتحصيل جملة ما لا بد منه. 4 - وقريبة: لا يتوسط بينها وبين المعلول علة وبعيدة. 5 - وعلة لا تباين ذات المعلول كآثار الطبائع في محالها. 6 - وعلة مخلفة للأثر وغيرها وحقيقة التأثير مع حصول الأثر والتوليد ترتب فعل على فعل آخر لفاعل وقد يتعدد المحدث والمبقي لشخص في أشكال الصلات وجمع أجزاء المركبات ودعائم السقف وبدل ما يتحلل وبدن الجنين ويستند ثابت الشخصية إلى متبدل شخصا أو نوعا باعتبار القدر المشترك وبالعكس لاختلاف القوابل والشروط واللوازم إلى علة الملزوم وعدم المعلول إلى عدم شيء منها وجاز توارد علتين مستقلتين معا وبدلا على الواحد النوعي لا الشخصي إلا تسامحا في الاستقلال والعلية وبطل دور التقدم من جهة واحدة لا المعية ووقوع الممكن بلا إيجاب العلة وتخلفه عن التامة واستناد جهة التعدد إلى جهة الواحدة وهي السبب والاتفاقي منه غير

_ 1 فوقها بين السطرين: "أقسام الأول منها". 2 فوقها بين السطرين: "أي العامة والجزء الأخير والفاعل المستجمع. منه".

متوقع الإيصال وعند الأصوليين هو المفضي في الجملة فيتخلف عنه المسبب وهي الموضوعة لتحصيل الحكم فلا يتخلف عنها. ومنها: التقدم والتأخر بديهيان متضائفان1 واجتماع موصوفيهما بحيثيتهما إن امتنع فزماني وهما لأجزاء الزمان بالذات ولما يقترن بها بواسطتها وإلا فإما بحسب الحاجة فذاتي فإن جاز تخلف المتأخر فطبيعي وهو للعلة الغير الموجبة والشروط والمعدات في الوجود وإلا فعلي وهو للموجبة في الوجوب وإما لا به فإن جاز الانقلاب بتغيير المبدأ فرتبي وهو بالقرب من المبدأ المفروض في مرتب حسا أو عقلا وإلا فبالشرف وهو بالزيادة في الصفة المقصودة وما سمي بالماهية كتقدم الذاتيان على الذات والذات على العوارض فلا ينفك عن الذاتي إلا في بعض اللحظات والمعية للمشتركين في تلك الوجوه حيث يسلبان عنه فما مع المتأخر متأخر في الكل وما مع المتقدم متقدم في غير العلي وكثيرا ما يجمع البعض توافقا وتعاكسا والحمد لله.

_ 1 فوقها بين السطرين: "أي العلة".

متوقع الإيصال وعند الأصوليين هو المفضي في الجملة فيتخلف عنه المسبب وهي الموضوعة لتحصيل الحكم فلا يتخلف عنها. ومنها: التقدم والتأخر بديهيان متضائفان1 واجتماع موصوفيهما بحيثيتهما إن امتنع فزماني وهما لأجزاء الزمان بالذات ولما يقترن بها بواسطتها وإلا فإما بحسب الحاجة فذاتي فإن جاز تخلف المتأخر فطبيعي وهو للعلة الغير الموجبة والشروط والمعدات في الوجود وإلا فعلي وهو للموجبة في الوجوب وإما لا به فإن جاز الانقلاب بتغيير المبدأ فرتبي وهو بالقرب من المبدأ المفروض في مرتب حسا أو عقلا وإلا فبالشرف وهو بالزيادة في الصفة المقصودة وما سمي بالماهية كتقدم الذاتيان على الذات والذات على العوارض فلا ينفك عن الذاتي إلا في بعض اللحظات والمعية للمشتركين في تلك الوجوه حيث يسلبان عنه فما مع المتأخر متأخر في الكل وما مع المتقدم متقدم في غير العلي وكثيرا ما يجمع البعض توافقا وتعاكسا والحمد لله.

_ 1 فوقها بين السطرين: "أي العلة".

خاتمة القسم الأول في بيان تطبيق الآراء

خاتمة القسم الأول في بيان تطبيق الآراء فصل: في ماهية التطبيق وهليته ... خاتمة القسم الأول في بيان 1 تطبيق الآراء أقول: تدوين المذاهب المختلفة بأدلتها واعتراضاتها أورث داء عضالا من الحيرة والشك في القديم ورفع الأمان عن الجديد فالعامة بين متعصب للتقليد لا يميز القريب عن البعيد ومذبذب حائر في الحق السديد فدونت بتوفيق الله سبحانه في الدراري والدرر لدفعه كليات موازين التحقيق وأسباب الاختلاف وضوابط التطبيق وأردت إيرادها هنا راجيا من الله - سبحانه - أن ينفع بها عباده في فصول. فصل: في ماهية التطبيق وهليته نكتة: ليس المراد بالتطبيق نفي دعوى مخالفة أحد الخصمين للآخر ولا حمل كلام أحدهما على مراد الآخر ولا دعوى مطابقة أصول كل مذهب وفروعه على الواقع بل هو عبارة عن معرفة قدر انطباق كل مذهب مع الواقع وقدر انحرافه عنه ومعرفة سبب الانحراف بحيث يتفطن له من كلامه وأصوله وفروعه حتى يطمئن القلب ويزول الريب. نكتة: الإدراكات2 والاعتقادات الحاصلة في النفوس موجودات حادثة فلها بالضرورة أسباب فاعلة وقابلة وشروط ومعدات وجميعها أمور واقعية أو منتهية إليها والأمر الواقعي يمتنع أن يستلزم باطلا محضا أو ما يستلزمه فبالجملة: حالها كحال سائر الشرور الواقعة في العالم إنما شريتها بحسب جهة دون جهة ومنشؤها إعدام جزئية لازمة لطائفة من الموجودات فكذلك بطلان بعض العقائد بحسب جهة دون جهة ومنشؤها إعدام لاحقة لبعض الصور الموجودة كحصول شيء بعنوان غيره عقيب طلبه وتمثل شيء بصورة شيء آخر وإجراء القاعدة مع الغفلة عن وجود المانع والقياس مع الفارق وأخذ العلم عن غير أهله لحسن الظن به وحمل الكلام على غير محمله لارتكاز مرجح في القلب ونحو ذلك فإذا أمعن

_ 1 بإزاء هذا العنوان في الهامش مانصه: "هذا والمطلب الذي قبل هذا مأخوذ من كتاب التكميل للشيخ الأجل رفيع الدين بن الشيخ المسند أحمد ولي الله المحدث الدهلوي رحمها الله تعالى". "منه دام ظله العالي". 2 فوقها بين السطرين: "أي من كلام صاحب المذهب. منه".

فيها من قبل مباديها الموجبة لها غيبية1 وشهادية وعلوية وسفلية واضطرارية واختيارية وداخلة في المدركة وخارجة عنها لاح مستقر كل قول وارتباطه بالواقع كما وكيفا فتوافقت المذاهب كلها ولا ينبغي أن يرتاب في هذا الإجمال وإن كان تفصيل زوال الاختلاف من رحمة الله الخاصة - والله يختص برحمته من يشاء. نكتة: كل من يحكم على شيء فإنما يحكم عليه بما يناسب الصورة الحاصلة منه في ذهنه فمسقط إشارته في الحقيقة صاحب تلك الصورة والفرق بين صاحب الصورة وبين مأخذها والمقصود بها واضح والصورة لا تخالف صاحبها أبدا فليس من هذه الجهة كذب أصلا وكل إنما يحكي الحقيقة الحاضرة عنده المتجلية عليه ولكن يجب أن لا يقتصر على هذا حتى يفرق بين الحق والباطل ليظهر الهدى والضلال. نكتة: لا ريب أن الأشياء في مناسبة بعضها لبعض ليست على السواء وأن الإحاطة منا بجميع الأشياء بل بالشيء الواحد من جميع الجهات ممتنع فالإنسان إذا أراد تحصيل أمر فقد يتصوره على غير ما هو عليه وإذا عرفه فقد يطلبه من غير مبادئه أو يأخذه من غير مأخذه إما من المحاورات العرفية التي ملأت سمعه أو المواصفات العادية التي اطمأن بها قلبه فينتهي إلى أمر ويبدو له باد حسب مسيره ومسلكه فيعتقده مطلوبا فيمسكه فيضل وليتذكر هاهنا ما سلف في المنطق من وجوه الغلط تأييدا لهذا المقام. نكتة: وإذا صح طلبه انتهى إلى الأمر الواقع بالوجه الذي يناسب مسلكه واقعا في نظام من النظامات وموطن من المواطن ومرتبة من المراتب فيذعن له وينكر على من سلك غير مسلكه فانتهى إلى وجه آخر من ذلك النظام أو نظام آخر من ذلك الموطن أو موطن آخر من تلك المرتبة أو مرتبة أخرى من مراتب الواقع فيتسع بينهما حريم النزاع والحق أنه لا تدافع بين النظامات والمواطن والمراتب عند نفاذ البصيرة أصلاً. نكتة: هذه الكثرة الموجودة تنظمها جهات وحدة ذاتية وعرضية مختلفة بالعموم والخصوص فترتب أفرادها حسا أو عقلا نسميه: نظاما والنظامات المتوافقة في المدرك موطن واحد والمواطن التي يتعدد بها وجودات الأشياء ولا يقع أحدها عن الآخر في جهة فبينهما نسبة الغيب والشهادة نسميه: مراتب الواقع فالشجرة ينظر فيها النجار من جهة كم يحصل فيها من الجذوع والألواح وغيرها من الآلات الخشبية؟ ولماذا يصلح خشبها من الأغراض؟ وابن السبيل من جهة مالها من الظل؟ والفلاح من حيث كم يسقي من الماء؟ ومن أين مخضر؟ ومن أين مصفر؟ والصيدلاني من جهة أجزائها من ليف وخشب وورق وزهر وثمر ونواة والطبيب من حيث أفعالها في بدن الإنسان والطبيعي2 من حيث قواها من: جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة ومن حيث تشريحها فتلك جهاتها ثم إنه قد يتعرض لها من حيث صنفها وبذرها وقد يتعرض لها من حيث هي في دوحتها ما كان هناك فيها وما كان يكون بعدها وقد يتعرض لها من حيث ملكها

_ 1 بإزائها في الهامش: "حال كون تلك المبادىء غيبية". 2 فوقها بين السطرين: "أي الباحث عن الحكمة الطبيعية".

مالكها من أي مال وما يحصل له منها فتلك نظامات تشملها ومالها من الروائح والأذواق والألوان والكيفيات الملموسة مواطن فإذا غفل صاحب قصد عن صفات أخر وأنكرها انعقد النزاع. نكتة: ليس في التطبيق تجهيل الطرفين إلا من جهة قصور كل عن غاية التوجيه لكلام خصمه ومن المعلوم أن الأسباب المؤدية إلى الخصومة لا تفرغ القلب لهذا الأمر وإنما على طالب الحق استفراغ الجهد في درك الواقع لا في خدمة كلام الناس ثم من يضمن لأحد نفي القصور في العلم وقد قال الله - تعالى -: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} وقد سبقنا إلى تطبيق الآيات مفسر الأمة: عبد الله بن عباس - رحمه الله - وإلى تطبيق الأحاديث صاحب: المغيث من مختلف الحديث1 وفي آراء المسلمين الشيخ: علاء الدولة السمناني2 وفي الشريعة والفلسفة: إخوان الصفا وبين رأي الحكيمين: أبو نصر الفارابي وفي الإسلام والهندية دار أشكوه ومهد حجة الإسلام لتأويل مذاهب المبتدعة الوجودات الخمسة في فيصل التفرقة بين أهل البدع والزندقة وقال الشيخ ابن عربي: عقد الخلائق في الإله عقائدا ... وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه وسعى في التطبيق بين الشهودية والوجودية العارفان الجليلان الشيخ: أحمد السرهندي والشيخ: ولي الله الدهلوي - قدس الله أسرارهما - وإن لم يمهدوا له ضوابط وقد عرفناك فضل منفعته فذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

_ 1 هو الشيخ محمود بن طاهر، ولم يذكر البغدادي صاحب الإيضاح تاريخ وفاته ولعله متأخر. 2 هو علاء الدولة ركن الدين أحمد بن محمد السمناني، له مؤلفات كثيرة في التفسير والحديث والعقائد. توفي سنة 736هـ = 1336م.

فصل: في موازين التحقيق

فصل: في موازين التحقيق نكتة: طرق اقتناص العلم: عقل ونقل وكشف والحس شرط للكل ووسيلة إليه وكل منها إذا استجمع شروط صحته كان مطابق الواقع فامتنع أن تكون متناقضة بالحقيقة لئلا يلزم اجتماع النقيضين نعم قد تكون مخالفة بحسب الظاهر للانحراف عن الجادة القويمة بنوع من الغلط ولا كلام فيه أو لاختلاف في مسالك الدلائل أو مواطن المدلول فكلتا الحكايتين عن أمر من الأمور الواقعة وإن اختفى موقع نظر واحد عن الآخر فهذا يقيني وبعض من تفطن لوجوب التطابق وغفل عن اختلاف المدلولات يحمل كلام أحد الجانبين على غير مراده ويصلح بين الخصمين من دون تراضيهما ويأتي في ذلك بما يمجه الطبع السليم ويطيب الإنكار عليه ومن العلوم العادية: أن المذاهب المختلفة المتقاربة في الدلائل وثاقة وركاكة والتي يبتنى عليها النظام المحسوس ابتناء صحيحا ويدفع عنها النقوض الموردة دفعا غير سمج ليست بعيدة عن الواقع كل البعد ولا كاذبة على الإطلاق ولاحقة بكل نقير وقطمير من فروعها وأصولها وإن كان بعضها أكثر موافقة من بعض فإذا تصفحنا عنها بالتعمق في مأخذها والتأمل في كيفيات أخذها ودرك أغراض مدونيها ودرجات فهومهم عرفنا منشأ الاختلاف وموضع الالتباس وموطن الحكاية والتمييز بين المتيقن والمظنون بتوفيق الله سبحانه وعنايته.

نكتة: العقل: أصل طرق الاكتساب لا غنية للنقل والكشف والحسن عنه بل هو الحاكم بها والعامل فيها والمميز بين أقسامها ومراتبها وحكمه عام من حيث الإدراك والقبول وإن كان قد يقصر عن بعضها من حيث التحصيل والوصول وقولهم: طور وراء طور العقل يعنون به: القواعد التي مهدها الملقبون: بأصحاب العقل أو انفراده بلا انضمام ومعاونة من غيره وأصحابه متفاوتون فيما بينهم بالحدس والتجربة فمنهم: من يكون استحضاره للمبادئ أكثر وانتقاله إلى اللوازم أبعد وتعمقه في روابط الانتقال أحد ويكون وقائعه أوفر وشغله أمد وحسه أجود وتفطنه للأمور المشتركة من العلل والأحكام واختلاف مأخذه أشد ونظره إلى الواقع أوصل ومخالفة المألوف عليه أسهل ومنهم دون ذلك. والنقل إذا ثبت عن الأنبياء - عليهم السلام - فهو أقوى وأصحابه متفاوتون فيما بينهم رواية ودراية. فمنهم: أصح سندا وألقى أساتذة وأحذق تعليما وأصدق مخبرا وأنقى بدعا وأكثر متنا وأوضح لفظا وأضبط سماعا وأكمل حفظا وأزيد شيوخا وأمد رحلة وأفقه فهما ولترجيح الأسانيد وأسباب الجرح عندهم وجوه مختلفة ومنهم دون ذلك. والكشف: إذا تم فهو أوسعها وأصحابه يتفاوتون بينه جدا في التطلع على العوالم الحاضرة لديهم والغناء في الرقوم المستجنة فيهم. فمنهم من يتمثل له لطائف الجسمانيات كالملائكة السفلية والشياطين والجن أو الحقائق المثالية على طبقاتها تارة للهداية وتارة للإضلال أو الحقائق الروحانية على درجاتها من البشرية والفلكية والعلوية أو يتجلى له الأسماء والصفات الإلهية أو يتجلى له الذات مرة في مرايا إدراكية بالتأثير في قواه أو في قوالب مثالية بالتشبح بها ومرة انكشافا صراحا. ومنهم: من يفنى في خلاصة أهواء وعادات راسخة فيه أو في لطائفه الكامنة في جوهره فيظهر بعض الحقائق بنحو غير ما يظهر في لطيفة أخرى أو يفنى في وجوداته المختلفة التي قضى بها في التنزلات الماضية أو الترقيات الآتية أو يفنى في الحقائق السارية فيه بعضها خلقية: كحقائق الصور الجسمانية العنصرية أو الفلكية أو هيولى الجسم المطلق أو العماء1 وبعضها حقبة من: الأسماء الجزئية والكلية على منازلها والشؤون الذاتية بأصنافها وفي كل ذلك يتوفر عليهم علوم تلك المقامات وأحوالها ويتمثل لهم مقتضياتها. نكتة: المعتبر من العقليات ما ينتهي إلى اليقينيات بالطرق الميزانية انتهاء قريبا أو جليا ومن النقليات ما صححه الحفاظ أو حسنوه وما توارث من معناه القرون المشهودة لها بالخير وتعاضدت عليه الآثار من غير صرف عن الظاهر المتعارف في مثله: حقيقة ومجازا وصريحا وكناية ومن الكشفيات ما كان عن ذي فناء تام أو بعد الفراغ الكلي والتوجه إلى الله - سبحانه - متواترا مستمرا محفوظ الصورة بعينها وأورث حالا

_ 1 بإزاء ذلك في الهامش: "العماء هو الإمكانية منها خلق عالم الأرواح والأجسام جميعاً، وهو أول مخلوق كما ورد في الحديث: سأل أبو رزين رسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء مافوقه هواء وماتحته هواء. منه رح".

من الأحوال الإلهية أو الملكية وعرف مقام صاحبه وسيرته. نكتة: فصلوا في المنطق: شروط الحدس والتجربة والأوليات والمشاهدات وفي أصول الفقه والحديث: شروط الصحة ووجوه الجرح والترجيح وفي مالا يعول عليه للشيخ: ابن عربي شروط الكشف فليرجع إليها طالب التفصيل واكتفينا على الإجمال لقصد الإيجاز. نكتة: المشاؤون: متجردون للفعل والسلف من المحدثين: للنقل ومتأخرو الصوفية: للكشف وأما المتكلمون: فكلامهم خلط بين نقل وعقل والإشراقية: بين عقل وكشف والجامعون بينهما: على اعتدال ندر. نكتة: من العلوم: علوم محسوسة ومنها: معقولة منتظمة تطابق المحسوس ومنها: معقولة صرفة لا نظير لها في الحس وللعقل في الجزم بها سبيل ومنها: علوم استقرائية لا سبيل إلى الجزم فيها قصوى أمرها الظن أو الوهم ومنها: مالا سبيل فيها للعقل إنما تنال سماعا من حس أو وحي أو كشف فمنها: ما للجزم بها سبيل ومنها: مالا وجميعها: يختلف في الجلاء والخفاء وفي الملائمة لبعض النفوس والمنافرة لها وفي الحضرة والمنفعة لسعادات النفوس وفي المآخذ والمسالك وفي الحاجة إلى ممارسة العمل وعدمها وفي كثرة الرغبة فيها والتنفر عنها وقلتها وفي انقلابها بمرور الزمان وثباتها وفي تقدم بعضها على بعض والتأخر عنه وفي كونها مقصودة أو وسيلة وفي تكميل القوى المختلفة وفي دخلها في قضاء الحوائج الهامشية أو الاقترائية ومعروف تمايزها بالموضوعات والغايات المترتبة عليها في الدنيا والآخرة ويختلف بذلك شرحها ودرجات العالمين بها. نكتة: الباحثون عن الحقائق على درجات. صنف: هم المستخرجون للمسائل والواضعون للعلوم والنقادون لها ونظرهم إلى الواقع مطلق فبعض آرائهم تعتمد على أصول صحيحة ولكن في تفريعها حق وباطل وبعضها على أصول فاسدة يؤصلونها حفظا لمذهبهم في الفروع المعلومة حقيتها حيث لم يستطيعوا تفريعها على غير تلك الأصول أو خاضوا لزوم فروع مسلمة البطلان على أضدادها وإذعانا بها لإلف أو ملاءمة طبع أو تحصيل غرض أو اطلاعا على دليل عجزوا عن دفعه والمحقق إنما يعتني بكلامهم. وصنف: هم: الشارحون لكلام أولئك المفرعون على قواعدهم والذابون عنهم ونظرهم إلى الواقع مقيد والخطأ منهم متضاعف ومع ذلك يوجد في كلامهم فوائد مغتنمة. وصنف: يضربون بعض الكلام ببعض سؤالا وجوابا وتوجيها على قدر ما أحاطوا به من الكتب وكلامهم أقل جدوى والماهر في كلام الأئمة وعادتهم ناج عن فتنة شغبهم إلا أنهم قد يمرون مقاربين للحق في هيمانهم وتسقط من أفواههم ضالة الحكيم. وصنف: قصوى هممهم: توجيه العبارات والمناقشات اللفظية وترجيح المحتملات بكل وجه قريب أو بعيد لا يرفعون إلى الواقع رأسا ينقطع أساسهم بعناية وملاحظة قيد وإبداء احتمال وليس للمحقق اعتناء بهم أصلا وهذا جار في أكثر الفنون فعليك بتمييزهم.

فصل: في أسباب الاختلاف

فصل: في أسباب الاختلاف نكتة: كما أن الموت أمر طبيعي لحياة البشر باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة معا فالخاصة: تقتضيه لقيامها بالحرارة والرطوبة والعامة: لإيفاء العناية الأزلية مقتضى الطبائع الكلية من: العناصر والأفلاك والبسائط تقتضي انحلال المركبات والأوضاع السماوية تنتهي إلى القواطع فكذلك الاختلاف طبيعي لعقول البشر باعتبار الطبيعة الخاصة والعامة معا وإليه الإشارة في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} . أما الخاصة: فلوجود القوة الحاكمة منهم ومخالفة ما أحاط مدركة أحدهم لمدركة الآخر لأسباب سنبينها وأما العامة: فلأن صانع العالم - جل مجده - لما أراد انتظام النشأتين وتعمير الدارين بإبداء آثار الجمال والجلال فيهما وناط بحسب تلك العناية المساعي والدرجات بالاعتقادات وجب اختلافها فما التطبيق إلا بحسب العلم والفهم لا بإزالة الخصومات من بين الناس. نكتة: لاختلاف الاعتقادات أسباب عامة شاملة لها ولغيرها. منها: اختلاف الأوضاع السماوية بحسب الأدوار والقرانات الكلية والجزئية وطوالع المواليد والميائل وجرب في الهنود: أن من كانت الشمس والمشتري في سابعه انكشف له حقيقة الإسلام وخرج من دينه إليه ويذكر أن وقوع الدراري على الطالع في العاشر ينور العقل واتصال سهم الغيب بالسعود يصوب الآراء في أبوابها. ومنها: اختلاف الطبائع الأرضية من الأقاليم والبلاد وسهلها وحزنها وبدوها وحضرها ومن الكيفيات المزاجية وعادات القوم والهنود يقع في مداركه طول الأزمان والعرب بالعكس. ومنها: اختلاف الاستعدادات بحسب الصور الشخصية والصنفية الفائضة على المواد القابلة لها بمتقضى العناية الأزلية. ومنها: اختلاف ألوان حظيرة القدس بحسب عنايات الملأ الأعلى وصعود الهيئات المثالية من بني آدم المعدة لظهور فيض متجدد من هناك. ومنها: تبدل دولة الأسماء الإلهية المدبرة للقرون المقتضية لظهور أنواع الكمالات والصناعات شيئا فشيئا وتفصيل هذه المبادئ مذكورة في فنونها والغرض: تنبيه عليها وتذكيرها. نكتة: لانعقاد الأديان والمذاهب تقريبات هي من جملة أسباب الاختلاف: منها: توجه العناية الإلهية بإرسال رسل مبشرين ومنذرين ولما1 انحصر فيه صلاحهم شارحين في أقطار أو قرون متباعدة بشرائع متنوعة قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} الآية. ومنها: تجارب الأذكياء ورصد الحكماء والمأثور من الأولياء والمتبرك من سنة الصلحاء ومروج الملوك والأمراء في كل طائفة طائفة على حسب ما بلغته عقولهم في انتظام مصالحهم حسب طبائعهم وعاداتهم.

_ 1 في الهامش: "متعلق بما بعده وهو قوله: شارحين. منه".

ومنها: انتشار الكذابين المتنبئين والدجاجلة1 المضلين والمحرفين من المختلسين والمخترعين من أصحاب: البخت والقوة ويتصل بذلك دواعي القبول من الناس لمناسبات جبلية أو تصديق هواتف ومنامات أو مصاحبة كرامات أو استدراجات أو انتظام مصلحة دولة وجاه وتوقع دواعي حرص وشبهها أو غضب وحمية أو مخافة سيف وذل أو تجربة ناقصة لمجازاة دنيوية أو وضوح حجة أو تسويل شبهة أو موافقة جمهور أو تسخير سحر أو قلة تدبر من الطبقة الأولى ... إلى غير ذلك ولا يزال ذلك مستديما بتأييد الله - سبحانه - ببعث المجددين والناصرين لها ونصب الآيات الباهرة على حقيتها من الخوارق والشواهد السابقة واللاحقة ومن لحوق المصائب والشؤم في تركها أو خشية طعن الأسنة والألسنة في عصيان الرسم أو الإلفة بسنة الآباء وتقليد ذوي العقول الناقصة أو حب الرئاسة والجاه في دين أو مذهب أو محاسدة العلماء أو تعنتهم أو تقاعد العقلاء عن درك الحق ورفع الخلاف لقصور الفهم ومثل هذا من التقريبات وحدوث الخلف على طبائع السلف يحرك رغبتهم إلى عقائدهم والنصر لها ثم يشعب ذلك: اختلاف أمزجة المتدينين والمتمذهبين فينجر الخلاف إلى ما شاء الله تعالى. نكتة: يخلق الناس على غرائز وهمم وعادات شتى ثم يتيسر لهم مصاحبات وأغراض واتفاقات فوضى ولاختلافها مدخل جليل في إحداث الآراء وترجيح المختلفات فمنهم الحديد يستطيع تخليص الأطراف عن شوب المألوفات والعبارات والبليد يعجز عنه والمنحصر في المحسوس لا يرى المعقول إلا من مكان بعيد والمتجرد عنه والمفرط في قياس الغائب على الشاهد والمبالغ في الفرار عنه والعجول في القبول والإنكار من غير أن يحيط خبرة والمتأني فيه والمسامح يكتفي بالظن وبصورة من الصور المحتملة التي تفي بظاهر المقصود والفحاص عنه والمتيقظ بالمشاركات والمبائنات واللوازم والمغفل عنه والمغلوب في أيدي الوهم يبني الأمر على الاعتبارات المحضة والغالب عليه والناظر في الشيء ببذل الجهد وصرف القصد والمتكاسل عنه يمر سردا وتطفلا ونير العقل يتنبه لأشياء بلا تعليم وبأدنى إشارة ومظلمه يعجز عنه والمتقيد بالشرائع والواهن فيها والمألوف بالرسم وغير المبالي به وواسع الفهم يحيط بالشقوق والقيود والسابق واللاحق والمبسوطات وضيقه والمشتهي للتفرد والمتنفر عنه يحب التقليد والمتفطن لفروع الشيء وعواقبه والراكد عليه والمحب لشخص ومذهب والمبغض له فيرتكبون في الإخراج والإدراج فيه كل صعب وذلول والمحقق والمقلد والمنصف والمتعصب والإمعة والقادر على أداء ما في الضمير والقاصر عنه ومستقيم الفهم ومعوجه ونقي الباطن يورثه الباطل قلقا كأكل الذباب وكدرة المطمئن بالأكاذيب والمنقح للمقصود عن الوسائل واللواحق والخابط فيه والجازم يقع في قلبه الحكم بعد النظر فيه والحائر لا يحكم إلى غير ذلك مما لا يعسر على الفطن عند الاستقراء معرفة أصنافه وتعيين أشخاصه.

_ 1 في هامش الأصل: "منهم الذي خرج لهذا العهد يسمى السيد أحمد، على طريق عكس القضية. وقد ذكره السيد العلامة الجامع لهذا الكتاب في "حجج الكرامة" و "الإذاعة" فليرجع إليهما من شاء يتضح عليه حقيقة الحال" "المولوي السهسواني سلمه".

فهذه وأشباهها أمثال الزجاجات على البصائر تحجبها عن نيل الواقع على ما هو عليه من غير خلط أو تعينها عليه ولا ينبغي لطالب الحق أن يغفل عنها أو يحتبس في الردي منها بشرط أن يتجنب الإفراط والتفريط ويوفي كل ذي حق حقه. نكتة: من أسباب الاختلاف: اختلاف أحوال الشيء في نفسه وقد مر حديث اختلاف الجهات والنظامات والمواطن إجمالا فيوضح هاهنا بأمثلة قد يكون الشيء علة تامة لشيء ناقصة لشيء مستقلة أو لا وقريبة أو لا وكافية أو لا أو يكون له علل كذلك وقد يكون الشيء واجب الاجتماع مع شيء على تقدير وممتنع الاجتماع معه على تقدير آخر وممكن الاجتماع راجحا أو غيره على تقدير آخر وربما يكون بين شيئين علاقة الغيرية من وجه والعينية من وجه أو وجوه أخر ويكون الشيء بسيطا تركيبا مركبا تحليلا أو بالعكس أو يكون له جزء في الحقيقة لا في الحس أو يكون فيهما داخلا عرفا خارجا حقيقة بسيطا عينيا لا ذهنيا أو بالعكس وقد يكون الشيء واحدا باعتبار كثيرا باعتبار متناهيا بالفعل غير متناه بالقوة ضروريا مطلقا أو بالنظر إلى شرط اختياريا معينا أو بلا شرط موجودا في الزمان أو بالعموم أو بالعرض معدوما في الآن أو بالتشخص أو بالذات مستمرا نوعا متجددا شخصا بديهيا بعنوان نظريا بعنوان آخر معرض المتنافيات في ضمن الأفراد أو في حدود الامتدادات متحد الحكم بالقياس إلى الطبيعة أو في حد واحد من الحدود ثابتا على صفة في وقت منتفيا أو على غير تلك الصفة في وقت آخر. فتلك أمثلة الجهات: وكذلك اختلافات النظامات حقا وباطلا ضارا ونافعا كمالا وفسادا بحسب نظامين كنظام الحس والشرع كنسب ولد الزنا والربا في الآخرة والدنيا والسم للاسع والملسوع. ومن النظامات نظام الطبيعة الكلية والطبائع الجزئية المترتبة من البسائط والمركبات المختلفة ونظام الحكمة الواجب التعليل ونظام القدرة المانع منه ونظام الاختيارات ونظام المجازات ونظام الأوضاع السماوية ونظام العادات البشرية ... إلى غير ذلك وعلى سنن ذلك اختلاف المواطن يكون الشيء جوهرا في موطن عرضا في موطن آخر حيوانا في المثال جمادا في الشهادة سعيدا في وجود شقيا في وجود قديما في ظرف حادثا في ظرف في حين واحد أو أحيان شتى واحدا بحسب ظرف وله أعيان وصور كثيرة في ظرف آخر ولا شك أن أحكام أحد الوجهين تباين أحكام الوجه الآخر فمتى اعتنى أحد الناظرين بوجه والآخر بآخر لأجل مسلك سلكه أو لالتباس وقع له اختلفت الأخبار باختلاف الإحاطة والاقتصار وقام تنازع الحكومات على ساقه فعلى المستبصر أن ينتبه لها ويفتش عنها. نكتة: من أسباب نسبة الاختلاف إلى المحققين اختلاف التعبيرات فقد يحصل في الذهن هيئة واحدة إجمالية فيختلفون في تسميتها بحسب اللغات والاصطلاحات المتعارفة عندهم وفي شرحها بحسب المعاني المهمة لهم والخوض والاقتصار منهم وفي تصورها بعبارات مختلفة قربا وبعدا على قدر بلاغتهم وقد يعبرون عن الشيء الواحد مرة بصورة انطباعه في المدركة أو نيل المدركة لأمثاله فيقال مثلا: صارت الشمس تحت السحاب وهي فوقه ومرة بما ناله من غير انحراف وتفتيش عن الحقيقة كما يعبر عن الرؤيا قبل تأويلها ومرة بعد التجريد للحقيقة عن ملابسها وغواشيها ومرة من حيث تعيينه في

مرتبة أو كونه أثر الفاعل أو صورة في مادة أو مبدأ لغاية على اختلاف في الفاعل والمادة والغاية فيظن الاختلاف فيه وليس كذلك وقد ينظر إلى الشيء بالإجمال أو سطحيا لعدم الاعتناء به أو على التفصيل والغور بطنا بعد بطن على مراتب الاعتناء به وقد يقع في الكلام تخصيص عام للتصوير أو الاهتمام أو تعميم خاص للإبهام أو التخمين أو المبالغة أو يقع ادعاء حصر للتأكيد فقط أو إيراد مجاز متعارف عند القائل أو كناية والمقصود غيرها أو تلميح وتقع تمثيلات مختلفة وفيها تقريب من وجه وتبعيد من وجه وإبهام في القدر الجامع وذلك لكونها أبلغ في سليقة القائل أو لتفنن في العبارة ويقع صرف عن الظاهر لضيق العبارة كوضع الترتيب الزماني موضع الرتبي والمصاحبة الزمانية موضع المصاحبة الواقعية ويكون الواقع عند الكل شيئا واحدا وبعد ذلك مقام لتفتيش المستعملات والاصطلاحات وبيان اشتراك معنيين في لفظ أو ترادف لفظين على تمام المعنى أو مع تفارق بملاحظة قيد جزءا أو شرطا وهذا وإن كان يسيرا بعدا الإحاطة بالمواطن والنظامات ولكن الحق انه لا يستقيم أيضا إلا من ألمعي محقق منصف يجمع الوصفين كثرة التبحر والعبور على كلمات الأئمة المحققين وقوة التدقيق والبحث في فني الجدل والتوجيه مع تأييد وهداية من الله ولي التوفيق. نكتة: من أعظم أسباب الاختلاف تنوع فهم اللاحقين لكلام السابقين وهذا هو الذي أثار فتنة الشغب بين الشراح والمحشين وأورث افتراء المذاهب على أهلها ويكون منشأ سوء الفهم تارة لكمال الحماية والعداوة لأحد وتارة للغفلة عن مرمى قصده ومطرح نظره. طربنا لتعريض العذول بذكركم ... فنحن بواد والعذول بوادي وتارة للقصور عن استيفاء المقدرات في الموجز وحفظ القيود الضمنية في المطنب وتارة الخطأ في المحمل للاشتراك والتجوز أو إرجاع الضمير وتارة المبادرة ثم الإصرار على ما استقر في النفس قبل من غير إيفاء النظر حقه وتارة الجحود على المسموع لحسن ظن كاذب في قائله وتارة للبلادة عن نيل المعنى الدقيق والاغترار برأيه فالمرء لا يزال عدوا لما جهل وأمثال ذلك مما يفهمه المحقق من الكلام وسياقه فهم الطبيب داء السقيم من عوارضه ومن التدبير المقدم.

فصل: في ضوابط التطبيق

فصل: في ضوابط التطبيق نكتة: محاول التوفيق ينبغي أن يأخذ الواقع إقليما وسيعا ويقطع لصاحب كل مذهب منها قطرا من أقطار العلويات والسفليات من آفاق الغيوب والشهادة وناحية من نواحي العلم والعين بل يأخذ كل شخص بلدا عامرا فيه من الأوصاف اللازمة والمفارقة والنعوت الظاهرة والباطنة والذاتية والغريبة والانضمامية والاعتبارية والحقيقية والإضافية والثبوتية والسلبية مالا يحصى إنما مجال الباحثين منها ميدان دون ميدان ويقيد عموم إثبات كل ونفيه في مقامه ومشهده فإن لكل مقام علوما ومعارف لا تكون في غيره كما ورد لكل حد مطلع وصاحبه كثيرا ما يغفل عما عداه فلا يروي عنه إلا ما أحاط به وأن لا يذعن لنفي واحد قول الآخر ولا لتأويله إياه إلا ما كان من صاحب الوحي الإلهي نصا محكما وأن

لا يسرع في إنكار مستغرب وأن يبالغ في تصحيح عقد الوضع بتشخيص ذاته من إقليم الوجود أين هو؟ وكيف هو؟ باستقراء أوصافه التي وقعت عنوان بحثه وموقع نظره فربما يعنون عن ذوات متغايرة بعنوان واحد يصدق على جميعها معا أو تعاقبا أو بدلا وبالعكس وينقح عقد الحمل بتميز إطلاق مفهومه عن خصوص نحو ثبوته للموضوع وتحققه فيه ولا يعتمد في فن إلا على كلام دستوره ومخرجيه ولا يغفل عن فهم أصحابه كلامه ونقدهم رأيه ويزن أصولهم بموازين الدلائل والقرائن وتصفح المواد حتى يتبين سقوط أدلتهم ونهوضها وقوتها وضعفها وخصوصها عن الدعاوى وعمومها ثم يعود فينظر في الفروع من طرق الأمارات الخصيصة بها نظرة ابتدائية فقد وقع في التفريعات ذهولات وغفلات وأن يفحص عن بدء أمر المخرجين والناصرين للمذاهب وتقلبات أحوالهم إلى ما انتهى إليه شأنهم إذ به يعرف أغراضهم ورجوعهم في الأقوال وأسبابه وانتقالهم من درجة إلى درجة أعلى وأدنى ومطمح نظرهم في مساعيهم من نيل الحق أو طلب السعادة أو المال والجاه وإفساد دين أو طريقة وأن يتنبه لتواردهم واختلافهم في ذكر وترك وإجمال وتفصيل ويعلم أن من الآراء ما يكون منتهى السعي إبانة عذر صاحبه في جهله بعمدة الباب. وبالجملة: فإذا حافظ على هذا وأمثاله بسليقة موهوبة أو فطانة مكتسبة هان عليه التوفيق - بإذن الله - والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. نكتة: الواقع: هو ما عليه الشيء بنفسه في ظرفه مع قطع النظر عن إدراك المدركين وتعبير المعبرين والوصول إليه يكون بالعيان أو البرهان ففسره قوم بما هو مقتضى الضرورة والبرهان ولما اختلفت الظنون في اعتقاد المقدمات برهانا أو شبهة وفي أخذ الظروف متسعة أو متضيقة اختلف معنون الواقع فاختلفت الحكايات عنه ومن لم يتنبه لهذا الاختلاف لم يتنبه للتطابق. فمنهم: من يزعم الواقع ظرف الثبوت فوق الوجود. ومنهم: من يحصره في الوجود ولوازمه ويجعل الوجود أصيلا فقط أو أصيلا وظليا أو إياهما ولحاظيا. ومنهم: من يحصر الدائرة الإمكانية فيما له حيز وجهة. ومنهم: من يحصرها في المبصرات والمعاني التي فيها. ومنهم: من يحصرها على الأشخاص دون كلياتها. ومنهم: من يحصرها على مجتمعة الأجزاء. ومنهم: من يحصرها على ماله مادة سابقة دون مستأنف الوجود فيجب التقاط مرامهم عن فحاوي فروعهم وأصولهم. نكتة: إثبات عالم المثال أصل عظيم من أصول التطبيق من جهة أن فيها صور الحقائق المجردة والمادية فيقع على ما فيه سير الناظرين فيخبرون عما وجدوا وإن لم يعرفوا أنه من عالم المثال وذلك في النقليات والكشفيات أكثر منه في العقليات. ومن جهة: أن فيه روحانيات تسمى: داعية اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الأديان والمذاهب وأنها

تلقي صور المعتقدات لهم في المدارك وتروج تلك العقائد بالمنامات والهواتف فتطمئن النفوس إليها وتنفر عن أضدادها. ومن جهة: أن فيه خزانة الكواذب كما فصلته في تفصيل1 رسالة المحبة وينقدح بالاتصال بها آراء شتى وتستمر الآراء برسوخ ملكته. ومن جهة: أن تلك الصور المثالية تقع عنوانات ومرايا للأمور الغائبة والموهومة فيظن التخالف فيها وهذا كثير في العقليات وفي هذا العالم ألوان وأبعاد وأشكال ولا يزاحم الأجسام المادية ويختلف المثاليات لطافة وكثافة2 ورسوخا واختفاء والعوام لا تظنها غير الأجسام وتسميتها: أجساما غيبية وشهادية فيجري على ذلك من يخاطبهم ويفهمهم وإنما: إنكارها وحصر الأجسام في الشهادية وضبط أحكامها من تدقيقات الفلاسفة والمتكلمين. نكتة: من أصول التطبيق التجلي وهو ثابت عقلا ونقلا وكشفا وهو من أحكام جهة الكثرة لا ينكره منكر وحدة الوجود ولا يستغني عنه قائلها تمييزا بين الأحكام الحقية والخلقية وبينت مادته وصورته في رسالة المحبة وغيرها وله جنسان بإثبات الواسطة وبرفعها: فالذي بإثبات الواسطة مادته ماله اختصاص بالاضمحلال والحكاية معا وصورته إرادة التعرف وينقسم إلى: وجودي ينتظم به أمر العالم وكمالي: هو في نفسه أمر خارجي وشهودي حاصل في المرايا الإدراكية ومن هذا القسم: صوري ومعنوي وذوقي. والذي برفع الواسطة إما أن يكون الحجاب من جهة المتجلى له من وصف أو ملابس أو بين المتجلي والمتجلى له أو من جهة المتجلي وهذا إنما يتصور بالانتقال من شأن إلى شأن ومن موطن إلى موطن ورفع ما في البيت إما بإفنائه أو برفع حيلولته بترق للمتجلي له أو تدل للمتجلي والمحقق القونوي3 عممه في كل مالا تحويه الجهات وهو حق والفرق بين: تعلق النفس بالبدن والتمثل بالتمثل والمتجلي بالتجلي حصول الانحصار والانفعال معا في الأول والثاني فقط في الثاني وانتفاؤهما معا في الثالث ولا بد في التجلي من ممازجة عالم المثال لتضمن جهة الحكاية فإن الشهاديات لا تحتمل الحكاية طبعا وإن احتملتها وضعا وكثير من اختلافات العقليات والسمعيات والكشفيات ينحل به4نكتة: قد يستغرق المتفكر والمكاشف في السانح5 فيختفي عليه ما عداه فينطق بالكلية وما مصداقها إلا الجزئية وقد يعتني بمعنى دقيق فيتبعه النظر فيحكم به على ما فيه شائبة6 منه وأدنى مناسبة معه ولا

_ 1 في هامش الأصل: "في رسالة المحبة ثلاثة أجزاء: تحصيل وتذييل وتفضيل. وهذا مذكور في الجزء الثالث. منه". 2 فوقها بين السطرين: "إلى عالم المثال". 3 في هامش الأصل: "الشيخ صدر الدين القونوي تلميذ محيي الدين بن عربي". واسمه محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف بن علي القنونوي الرومي، صوفي له مؤلفات كثيرة، توفي سنة 673هـ = 1275م. 4 فوقها بين السطرين: "أي بالتجلي". 5 في الهامش: "مايرد على القلب". 6 فوقها بين السطرين: "حالية".

يلتفت إليه غيره وقد يشتبه الظل بالأصل والمقيد بالمطلق فيذعن لأصالة الظل وإطلاق المقيد ولا يتبنه له إلا بعد الترقي عنه والعارف بالأصل والمطلق يفضح قوله ثم إذا ترقى عنه فقد يعبر عنه بالرجوع وتخطئة الأول وقد يعترف بالخوض فيه وانكشاف سره وبطنه فيصحب الحكم السابق فيظن الاختلاف باقيا وقد انمحى فاحفظ عليه. نكتة: الإصابة والأخطاء يطلق في العمليات تارة: على ترتب الغاية على الصنعة وعدمه وتارة: على الجريان على وفق القاعدة وفي الشرعيات: مرة: على الوصول إلى مراد الشارع ومرة: على الحكم بمقتضى الدليل فيختلف بحسب الاختلاف بالمأخذ فيكون معنى الحكم بشيء أن مقتضى هذا القدر من المبادئ كذا وبهذا المعنى يرتفع التنازع في الشرعيات وبعد ذلك فالنسخ أيضا من أقسام التطبيق إذ فيه أعمال كل دليل في وقته وكذا التخصيص إذ فيه أعمالها في محل ما وبعد ذلك فمن باب التطبيق فيما صح سنده ودلالته ولو في الجملة الحمل على العزيمة والرخصة أو على الإباحة والكراهة أو على التشديد والتسهيل أو التنزيه والتحريم بناء على ضابطة إسقاط الإنكار وعامة الرواة ممن لا يخوض في دقائق الأحكام إذا روى بالمعنى أمكن أن يزيد وينقص في الطلب والكف وأما الذكر والترك أو التعيين والإيهام فلا يعده من باب التعارض إلا من قل خوضه في المعاني وقريب منهما تقديم وتأخير في الكلام. نكتة: ذكر حجة الإسلام1 في فيصل التفرقة بين أهل البدع والزندقة أن الشيء يكون له وجود في نفسه خارج الحس والعقل وهو الوجود الذاتي ووجود في الحس كالشمس رغيفا والقطرة خطا وقوس من محيط الدائرة الكبير مستقيما ووجود في الخيال إما على صورة المشاهدة كطيف النائم والمبرسم وإما على صورة للذكر ووجود في العقل بتجريد الذات أو الوصف المختص ولو عرفا عن غواشيهما كالصنعة من اليد والحفظ من العين ووجود تشبيهي وهو استعارة اسم المبائن لشيء لاشتراكهما في معنى معروف ويجب الحمل في النصوص على ما هو الأقوى في الترتيب المذكور إلا أن يلوح للناظر ما يدل على نفي شيء من السوابق فيحمل على اللاحق مذعنا بأنه مراد الشارع فهذا وجه من التطبيق في الأخبار وإصابة للحق كاملا أو ناقصا.

_ 1 أبو حامد الغزالي.

فصل: في الجرح والترجيح

فصل: في الجرح والترجيح نكتة: محاول التطبيق لا يستغني عنهما لما سبق: أن القاطعين لا يتعارضان فمعارض القاطع مظنونا كان أو مجزوما به مجروح وشبهته حجاب على الحق وبكشفها يرتفع والمظنونات والمجزومات دونه تتعارض فيجب تمييز قرينة تطابق الواقع أو تقاربه عما يلتبس بها من أمارات قاصرة ونكات شعرية وتمويهات سفسطية تصير غينا1 على عين العقل فهذا المحاول والمجادل يشتركان في الجرح اشتراك المعالج للصلح للبنية والمعاند المفسد لها فيه والفارق أن نظر الأول بالإنصاف وهمه في انتخاب السالم

_ 1 الغين: الغشاوة.

من المقدوح ومأخذه كلام صاحب المذهب من الإشارات والتفريعات ونظر الثاني بالاعتساف وهمه في إلزام الشناعة لتحرك الحمية للمخالفة ومأخذه ما فرط من قلم أو لسان بصرفه إلى مستبعد ومخالفة عامة ما يوجب التبكيت والتحميق. نكتة: الجرح: إما في أطراف الحكم من حمل على غير المحمل أو في نفسه نفيا وإثباتا أو في سوره من عموم وخصوص أو في جهته كدوام ولا دوام وإما في قوته من وهمية أو ظنية ضعيفة أو قوية أو متوسطة أو جزمية مطابقة أو لا فهي بالحقيقة ترجع إلى الأربعة الأول وقد فصلته أكثر من هذا في المناظرة. نكتة: وجوه الترجيح كنت أشرت إلى كثير منها في تفاوت مراتب أصحاب الطرق الثلاثة: العقل والنقل والكشف فإذا تعارضت وجوه الترجيح فالقرائن القوية القليلة تقدم على الكثيرة الضعيفة وهي إذا كانت للوقوع ترجح على مجرد صحة الاحتمال وحكم الشيء بخصوصه على حكمه في ضمن العموم والمعلوم وقته على مجهوله ومؤخر الوقت على مقدمه والجملة: أن الأحسن أن يحكم في ذلك القلب السليم والوجدان المستقيم فما اطمأن إليه القلب يقدم على غيره وتعين وجه واحد للترجيح كثيرا ما يختلف وينتهض تارة وينتقض أخرى ولا ضرورة في التزام موارد النقوض والتكلف لدفعها والعقل إذا صح مقدم على النقل إذ النقل يثبت بالعقل1 ففي تركه إبطال الأصل بالفرع وأيضا يسلم النقل بالتأويل ولا مساغ له في العقل وهما يتقدمان على الكشف لمزيد الاشتباهات ومداخلة التعبيرات والتأويلات فيه وقولهم: هذا طور وراء طور العقل يريدون به: القواعد التي أسسها الفلاسفة وسموها: المعقول وما هي إلا ثمرات العقل القاصر إذ هو وراء طور العقل في ابتداء الحصول وإن كان يتلقاها من جهة الإصلاح والقبول. وبالجملة: لا ريب في أن العقل العامي كثيرا ما يقصر عن حقيقة المكشوف والمنقول فعليهم يتوجه الرد والإنكار وأما العقل المقدس المنور فليس شيء من الحق يخالفه ولذلك اتفقوا أن لا يعتقدوا ظواهر النصوص إلا بعد إثبات الإمكان وهذا هو العذر لعامة المذاهب كما قال العارف: جنك بفتان ودو ملت بمه راعزرينهم جول نديد ند حصيفت ره إفسانه زوند نكتة: في نفس التطبيق مدارج أرجحها أن يثبت بالبرهان ما يتشبث حكايات أهل المذاهب بحواشيه ودونه أن يثبت الحق في واحد ويبين أعذار القاصرين والمنحرفين عنه بقرائنها ثم أن يبدأ احتمال صحيح يتطابق به المذاهب ويكون رجحانه بنفس هذا الانطباق لا ببرهان آخر ثم أن نبدأ احتمالات للتطبيق فيقع الجزم بالقدر المشترك بينها أن: النزاع ليس حتما ثم أن يطبق عمدة الباب ويلغي التفريعات الغريبة عن الاعتبار.

_ 1 في هامش الأصل: "والعقل إذا صح مقدم على النقل".

نكتة: بالغ في مختصر الأصول1 صاحبه في ضوابط الجرح والترجيح ووضع كل الأول وجل الثاني في القياس الفقهي ولا يهمنا الإطالة فيه ونظر في ترجيح عامة النقليات وهو يقارب مقصدنا فالتقطت ما استحسنت منها بشريطة الإيجاز لمزيد النفع وأحلت الباقي على المراجعة إليه وأستطرد ترجيح الحدود بالوضوح والتعارف والذاتية على غيرها وبقرب الاصطلاح من اللغة أو 1 / 422 الشرع وبرجحان طريق كسبه ونحو ذلك واختلفوا في العموم والخصوص لكثرة النفع وحصول الاتفاق وتعرض لتركب الترجيحات مثنى وثلاث وما زاد وترك تعارضها وهو أهم لكثرة الوقوع والحاجة وتعرض لبعضها صاحب التنقيح2. نكتة: يرجح المقنولان بالسند والمتن والخارج. فمن الأول3: فرط الوثاقة وهو في الحفظ فمن وافق المكتوب بلا اعتماد عليه فهو أحسن وفي الفهم ومنه المهارة في اللغة وغوص الفكر وتنبه القرائن وعدم التلقن وفي الورع والصدق وفي التلقي عن السماع والقرب وتوجه القلب والمباشرة ومنه الاتصال فالمسند على المرسل والمرسل من لا يروي إلا عن عدل على غيره وقلة الوسائط وصراحة الرفع والسماع على مجرد اللقاء ومنه العدد فالمتواتر على المشهور وهو على الآحاد وكثرة الرواة على قلتها. ومن الثاني4: الترتيب بين المحكم والمفسر إلى الآخر والعبارة على الإشارة إلى الآخر والمحرم على المبيح والإثبات على النفي والمجاز على الاشتراك والتأسيس على التأكيد والمفيد على الحشو والإطلاق على التقييد والعموم على التخصيص والإبقاء على النسخ والمفصل على المجمل ومعلوم التاريخ على غيره والإجماع الصريح على السكوتي ونحوها. ومن الثالث5: التوابع والشواهد ومعاضدة دليل آخر وتفسير راو فاهم للقرائن عارف للمقاصد وموافقة عمل الراوي وكثرة المزكين وجودتهم وصيغها ونحو ذلك. نكتة: يقدم القياس على مثله بالأصل لكونه قطعيا أو أقوى ظنا ثابت6 الحكم متفقا عليه وبالعلة لذلك ولكونه ثبوتية7 حقيقية ظاهرة المناسبة والتأثير منضبطة مطردة منعكسة ضرورية لا تحسينية أو تكميلية فقط وعامة للمكلفين وبالفرع للمشاركة في عين الحكم والعلة مع الأصل وبقطعية وجود العلة فيه وشمولها له ولزومها له وعلى المنقول إن كان أضعف منه لضعف السند أو بعد المعنى ونحوه وبعض هذه الوجوه مختلف فيها والله أعلم بالصواب.

_ 1 المشهور من كتب الأصول أصول البزدوي ومؤلفاته هو فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي الحنفي المتوفى سنة 482هـ. ولم نهتد إلى صاحب الأصول الذي ذكره المؤلف. 2 هو تنقيح الأصول لصدر الشريعة عبيد الله مسعود المحبوبي البخاري الحنفي المتوفى سنة 747هـ = 1345م. 3 فوقها بين السطرين: "السند". 4 فوقها بين السطرين: "أي المتن". 5 فوقها بين السطرين: "أي الخارج". 6 فوقها بين السطرين: "أي التزكية". 7 فوقها بين السطرين: "أي آخر".

فصل: في أمثلة التطبيق توضيحا للواهم وتمرينا للفاهم

فصل: في أمثلة التطبيق توضيحا للواهم وتمرينا للفاهم نكتة في إثبات الجزء ونفيه: عرفوه: بأنه جوهر ذو وضع لا يقبل القسمة خطأ ولا وهما ولا عقلا واتفقوا على انتهاء الأوليين عند غاية الصغر واختلفوا في الثالثة فالحكماء حيث جعلوا العقل ظرفا واقعيا كان وجوب مطابقة تجزئة الصغير والكبير في المحاذيات والسريع والبطيء في الحركات قسمة واقعية لا تقف عند حد والمتكلمون لما أنكروه كان معنى القسمة العقلية عندهم: أن يحكم العقل بوقوعها في الخارج حيث ذكروا في الاستدلال عليه أن الله - تعالى - قادر على جميع الممكنات والتقسيمات حيث لم يشترط منها لاحق بسابق ممكنة معا فإذا أوجد الله - تعالى - كل قسمة ممكنة فأما تلك القسمة إن انقسمت لزم الخلف وإلا لزم الجزء والحكماء لم يدعوا مكان وقوع جميعها في الخارج بلا نهاية وإنما أثبتوا حكما إجماليا بتمايز الطراف فالمتكلمون اعترفوا بقيام ست مماسات به فما منعوا تمايز الأطراف والفرق بينه وبين الأجسام الديمقراطيسية أن المانع في الجزء الصغر فقط وفيها ذلك مع الصلاة فلا نزاع في محل واحد والمتكلمون بعد إمكان الجزء لم يثبتوا ابتداء تركب الأجسام منها والقول بإمكانه لا يستلزمه كما ذهب إليه: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني1 ولكن قالوا به قصرا للمسافة فإن نظرهم لتصحيح أصول الشرائع فقط. والحكماء حيث أرادوا تحقيق الحقائق مهدوا الكلام على إمعانات فخاصم المشائية الديمقراطيس في إبطال مذهبه ثم أفلاطون في إثبات الهيولى ثم فرعوا عليها تفريعات مقدوحة عند المتكلمين مخالفة على حسب تقريرهم لأصول الشرائع فطرح المتكلمون مؤنتها فهذا منهم كقول بطليموس: لا نثبت في الفلكيات فصلا ولم يثبت بالبرهان أن الصانع - جل مجده - هل صنع فيها ما يزيد على ضرورة ضبط الحركات أم لا ببرهان؟ فافهم. نكتة: اختلفوا في المكان سطح أو بعد واتفقوا على أنه الأمر الذي يشار بحسبه من هذه وهناك فإذا أشير إلى مكان ثم إلى آخر كان بينهما بعد قطعا فتنبهت له الإشراقية ونبهوا على وجوده أن في القلة فضاء يتوارده الأجسام مطابقة له بأحجامها. قالت المشائية: هو أمر موهوم وما ذلك البعد إلا للأجسام فيتوهم المتواردة المتساوية متحدا باقيا فاعترفوا أن من هذه بعدا موهوما يتوارده المتحيزات وتنفذ فيه أبعادها وهميا وهو مذهب المتكلمين وهذا الوهم سواء أسند إلى الظرف أو المظروف فإن مداره هو الظرف إذ به تعرف مساواة المظروفات المتعاقبة.

_ 1 هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، من فلاسفة الإسلام وكان إماماً في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، له في ذلك تصانيف منها "الملل والنحل": 479-548هـ = 1086-1153م.

والمتكلمون: لا ينكرون هواء سطح جسم بجسم ففي غير ما فرض محددا يتلازمان فلم يبق نزاع إلا أن الأحق بالتسمية هذا1 أو ذاك والظرفية العرفية شاملة لهما وقبل حصول الجسم فيه كلاهما متوهم وبعده البعد موهوم2 والسطح موجود فرجحوه به وقولهم: الحيز ما به تتمايز الأجسام في الإشارة وضعا كان أو مكانا ففيه أنه لا يقال3: الجسم في الوضع كما يقال: هو في الحيز والإشارة بهنا وهناك إلى المكان دون الوضع فإن الوضع وإن اتبعه فلا بد فيه من ملاحظة الأمر المباين ولا يحتاج إلى مباين في هنا وهناك. وفهم الإشراقية: أنه كما أن مدار التقدم والتأخر بالذات هو الزمان ومدار الصغر والكبر المقدار ومدار القلة والكثرة العدد كذلك يجب أن يكون مدار ما يشار إليه بهنا وهناك بالذات ما يمتنع الحركة عليه وعلى أجزائه المفروضة لذاته فإن المكان يتحدد قبل النقلة فيمتنع عليه التخلخل والتكاثف والفصل ووقوع الحدود بالفعل وكل أمر زائد على نفس البعد والمقدارية ولو كان سطحا كان قابلا لها التبعية محله وإن لم يكن ذلك لما يشار إليه في ثخن الجسم نقلة من هنا إلى هناك سواء كان وجوده بالفعل أو بالقوة القريبة منه ولزم أن يكون تصور انتقاله محوجا إلى تصور أمور خارجة عنه فلو فرض تحرك العالم كله بحركة واحدة وضعا لم يثبت للأجزاء حركة انتقالية أصلا لانحفاظ الأوضاع. والإشراقية: لما اعتادوا مطالعة لطائف الأنوار والأمور المثالية هان عليهم تصوره. وخفي على المشائية: فتوجهوا إلى إبطاله تارة بأن الأبعاد متماثلة يصح على كل منها ما يصح على الآخر فإذا احتاج البعد لذاته في الأجسام إلى مادة احتاج إليها جميع الأبعاد فصارت أجساما وقد عرفت4 انتفاء المماثلة من بيان أحكامه وتارة بأن استحالة التداخل للبعدية5 فلو كان بعدا مجردا امتنع انتقال الجسم فيه من حيز إلى حيز آخر ومن البين أن التداخل في الجواهر الفردة عندهم ممتنع فالتحيز على الاستقلال علة قطعا فإن فرض في المقادير ما يؤدي إليه كان ممتنعا بتلك العلة فلا حاجة إلى علة أخرى ولا نجد تداخلا ممتنعا لا يؤدي إليه حتى يثبت علة ثانية مع أن المذكور في تعريف التداخل بالاتفاق هو دخول متحيزين حيزا واحدا ولم يقل أحد بأن دخول متحيز في حيز ثان منه والصوفية: شاهدوا في كل موطن من الغيب والشهادة زمانا ومكانا غير ما في موطن آخر فضله عين القضاة في رسالته الزمانية والمكانية وسكت عنه إذ الغرض مجرد التمثيل لا القصد إلى تحقق أمره. فالمتكلمون: يلازمون المشائية في أول الأمر ويرجعون إلى الإشراقية في آخر الأمر ويسمونه موهوما لضابطة تستفاد من كلامهم وهي أنهم عرفوه بفراغ موهوم يشغله شاغل ففسره أتباعهم بأنه لا شيء محض وينافيه قولهم: لو كان الواجب متحيزا لزم إما قدم الحيز أو كونه تعالى محلا للحوادث

_ 1 فوقها بين السطرين: "أي سطح. منه". 2 فوقها بين السطرين: "أي بعد موهوم". 3 فوقها بين السطرين: "أي بالوجود". 4 في هامش الأصل: "هذا جواب لدليل المشائية". 5 فوقها بين السطرين: "أي مكان".

وقولهم بوجود الوضع وهو الكون في الحيز الذي قسموه إلى اتصال وانفصال وحركة وسكون إذ لا معنى لوجود الكون في اللاشيء المحض فلا يكون تسمية1 المكان المشار إليه والزمان المؤرخ المقسوم والمقدار الممسوح والعدد المضروب والمقسوم موهوما2 كتسمية غلاف حلس على قرص الشمس وقيل في الكوز موهوما3 بل يفهم من موارد استعمالاتهم وإن لم يتفوهوا به أن الأعيان والمعاني المحسوسة للعامة أو الخاصة وما يتوقف هي عليه موجودة عندهم وغيرها مما يلحقها كهذه الأمور والحقوق والعقود والأحكام الخمسة عندهم موهومة ولها في الخارج آثار وليست من قبيل الموجودات الذهنية التي أنكروا وجودها لمشاركة الممتنعات فيه فمذهبهم إذا يقرب من الإشراقية وليحفظ هذا المعنى فإنه نافع في هذا الباب4 جدا. نكتة في الزمان: اتفقوا على أن الزمان هو الأمر المقسوم إلى الأيام والشهور والأعوام وهو غير ظلمة الليل وضوء النهار اللذين هما مدركان بالبصر وغير الشمس والقمر الدائر عليهما أمر الأيام والشهور والسنين وهو أمر غير قار. فقالت الحكماء أولا: إنه الأمر الذي به التقدم والتأخر اللذان لا يجامع فيهما القبل والبعد بالذات ثم ازدادوا فكرا فقالوا: هو كم متصل غير قار ثم أمعنوا فقالوا: هو مقدار الحركة ثم أمعنوا فقالوا: هو مقدار حركة وضعية سرمدية للفلك المحيط بالكل أسرع من جميع الحركات. والمتكلمون قالوا: هو تقدير متجدد موهوم بمتجدد معلوم ولم يريدوا بالتقدير فعلنا فإن الزمان ليس من فعلنا ولا نفس الأمور المتجددة فإنها تكون جواهر أو أعراضا قارة وليس شيء منها زمانا بل أرادوا أمرا موهوما بحسبه يتقدر متجدد بمتجدد وهو عند الحكماء كذلك فإن أهل العقول المتوسطة من الحكماء والمتكلمين توافقوا على: أن الحركة القطعية التي ينطبق عليها الزمان أمر مرتسم في الخيال من الحركة التوسطية وأن اتصال المعدوم بالمعدوم محال وأيضا اتفقوا على أن الحركة: هي المتجددة المنصرمة لذاتها فكأنهم قالوا: هو أمر بحسبه وبالنظر إليه يتقدر توالي أكوان الحركة سابقية ولاحقية5 والمتكلمون: لم يوافقوهم في إمعاناتهم لمعان وتفريعات غير مسلمة عندهم والاكتفاء بعنوان واحد من بين وجوه متعددة لا ينبغي أن يعد نزاعا حقيقيا. والإشراقية وافقت محققي المشائية في وجوده الدهري وأنه متصل الذات مقدار الحركة ولكنهم - كما زعموا - البعد القار الجسماني مقدارا جوهريا زعموا البعد غير القار أيضا مقدارا جوهريا حيث لم يجدوه طبيعة ناعتية الذات ولا وجدوا فيه معنى الحلول فلا يقال: الزمان في الحركة كما يقال السرعة في الحركة واللون والبعد والحركة في الجسم ولا وجدوا لخصوص الحركة الوضعية في تقويمه مدخلاً

_ 1 فوقها بين السطرين: "اسم يكون". 2 فوقها بين السطرين: "خبر". 3 فوقها بين السطرين: "مفعول ثان للتسمية". 4 فوقها بين السطرين: "أي باب التطيبق". 5 فوقها بين السطرين: أي المنقطعة".

لافتقار الحركة النفسانية الكيفية المتقدمة بالذات على الوضعية إليه ولا وجدوه يتعدد بتعدد الحركات مع تقدرهما جميعا به وامتناع تقدر الشيء بالذات بما يقوم بغيره ووجوده أبعد في قبول العدم من محله وحامل محله ومقوم حالمه لاستلزامه الوجود على تقدير العدم بنفسه دونها مع أن وجود العرض في نفسه هو وجوده لمحله فينعدم بعدمه حتى إن الوجود إذا قام بشيء انعدم بعدمه وهو أشد معاندة للعدم منه. والمشائية: لما سلكت في إثباته تقدر الحركات به وما كان المقدار عندهم إلا كما جزموا بعرضيته حملوا قرائن الجوهرية على استبعادات عرفية ووهمية ثم بالغوا في أن أية حركة مقومة له. والمتأخرون من محققي الكلام: لما أذعنوا لحدوث العالم بأسره جعلوا الزمان قسمين: موجودا: هو معيار التجددات والحركات وموهوما: لاعتياد المدارك به جعلوه مناط القدم الزماني للواجب وظرفا لعدم الزمان إذ ليس العدم شيئا محققا متجددا حتى يحتاج إلى زمان موجود قاسوه على البعد القار المتحقق من المركز إلى المحدد والمتوهم منه إلى مالا يتناهى وهما فهؤلاء قد سلكوا شيئا من مسالك التطبيق فافهم هذا واعلم أن التطبيق بين كلامي هؤلاء الماهرين في التحريرات والتمييزات عسير بالنسبة إلى غيرهم - والله أعلم. نكتة: اختلفوا في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب ولا بيان فضيلة ولا نهى الصحابة عنه قط وعلى أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فعله مدة إلا أنه زاد ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فلم يرفع يديه إلا في أول مرة وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا وإنما أراد تركه أخرا كما يشعر به بعض ما ينقل عنه: أن آخر الأمرين ترك الرفع ولا يدري مدة الترك فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف فظن قوم: أن سنيته كانت بمجرد الفعل فبطلت بالترك وقوم: أن الترك بعذر وبغير نهي لا ينفي السنية كترك القيام الفرض بالعذر فهي إذا باقية فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء جوازه وإن منعه بعض المتعصبة إذ ليس مما يخالف أفعال الصلاة لبقائه في التحريمة والقنوت والعيدين فلا نكير على فاعله لأحد بل في بقاء سنيته بناء على الظن فلا نزاع إلا في المواظبة1 والرجحان وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة ولم يتعرض - صلى الله عليه وسلم - لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام حيث قال: "ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شُمُس". وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يرى خلفه كما يرى أمامه فثبت بقاء سنيته وتركه - صلى الله عليه وسلم - أحيانا كما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - والبراء بن عازب - رضي الله عنه - وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده ولم يبلغ أبا حنيفة - رحمه الله - خبر هذا الجمع إنما روى له الأوزاعي عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فرجح عليه أبو حنيفة حمادا عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر حيث لم يرفع إلا في التحريمة بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر وما يذكر عن الشافعي - رحمه الله - من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد2.

_ 1 فوقها بين السطرين: "إلى آخر الصلاة". 2 فوقها بين السطرين: "أي الحكم".

نكتة: اختلفوا في نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مفردا للحج أو قارنا أو متمتعا سائق الهدي ووجه التطبيق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين جمع الناس وخرج من المدينة المنورة إلى مكة المعظمة كان لا ينوي إلا الحج فلما بات بذي الحليفة في العقيق أمر بالقران فقال: لبيك بحجة وعمرة فلما دخل مكة وتذكر جهالة العرب أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وعرف أنه في آخر عمرة ولا يعيش إلى قابل أراد رد هذا الوهم بأبلغ وجه فأمر الناس بفسخ إحرام الحج وجعله عمرة وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وأحللت مع الناس كما حلوا" فكان مفردا بحسب ابتداء النية والشهرة وقارنا بحسب تلبيته من العقيق حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوادي المبارك: وقل عمرة في حجة وكان متمتعا سائق الهدي بحسب الهم والرغبة ولم ينقل تجديد الإحرام للحج يوم التروية نعم عرف تجديد التلبية عند إنشاء السفر إلى عرفة من منى فكان قارنا حقيقة مفردا في أول العمر متمتعا في آخره. نكتة: ورد في الحديث: لا عدوى وورد في آخر: فر من المجذوم كما تفر من الأسد واختلفوا في وجه التطبيق فقيل: لا عدوى سببا مستقلا وفر من المجذوم لأنه من الأسباب العادية لإيجاد الله - تعالى - المرض عقيب مخالطته كسائر إضاعة الاحتماءات وارتكاب خلاف المزاج وإنما نفى عنها دون سائرها لأنه لم يتبين وجه تأثيره ظن روحانيا قاهرا بل مستقلا وقيل: لا عدوى في نفس الأمر وفر من المجذوم تحرزا عن مواضع التهم والتوهم وقيل: "لا عدوى" في حكم الشرع فلا يلزم على المعدي ضمان جنايته ولا الانتقام منه و "فر من المجذوم" صونا لجسدك من العلة الخبيثة العسيرة البرء. نكتة: طائفة من الصوفية قالوا: بوحدة الوجود بمعنى: أن ليس في الخارج إلا ذات الحق وحده وكل ما يسمى غير أو سوى فهو من تطورات ظهوره وتقييدات شؤونه. وطائفة قالوا: لا نسبة بين الحق والخلق إلا نسبة الإيجاد فلا عينية ولا وحدة أصلا بينهما ممن الموحدة من قال: إن ذلك في المعاينة والوجدان دون الواقع فلا مخاصمة معه لإمكان اجتماع هذه العينية الوجدانية مع الغيرية المحضة الواقعية كاختفاء الكواكب عن البصر عند طلوع الشمس واشتداد النهار أو كرؤية الحمرة على العالم عند وضع زجاجة حمراء على العين ومن اعتقد أنه في الواقع كذلك فالتطبيق على معتقده أن في العالم نظرين: نظرا: إلى جهة امتياز الحقائق وما هي إلا جهة عدمية وأنى للعدم أن يتحد بلاوجود فبالغ في امتياز الحقائق وسقوطها في ظل الأوهام ونزاهة وجه الحق عن غبار الأكوان والأفهام وقال: هو وراء الوراء ثم وثم فحكم بانقطاع النسبة سوى ظلية الصفات وإيجاد مرايا الذوات فيطابق حينئذ مسلك الشهودية ولا يدعي أحد اتحاد الممكنات بمرتبة الأحدية المجردة وصرافة الذات. والنظر الثاني: في العالم من حيث اكتنافه بقيومية الحق ووجوده بسريان فيضه من حيث إنه أقرب إليهم من حبل الوريد وهي بالنسبة إلى الحق كالصور المترائية في مرآته أو أمواج وأشكال متوهمة في شموله واتساعه فلم يثبت للعالم عينا غير عين الحق وقال: هو عين كل شيء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذواتها بل هو هو والأشياء أشياء فالشهودي لا ينكر أن وجود العالم بقيومية الحق قيومية موجودة لموهوم لا يقاس بها قيومية النفس للبدن والجوهر للعرض بل أشد من ذلك وأقوى من غير مداخلة وممازجة وانحصار فيعبر عن ذلك بالإيجاد والخلق لا كخلق الباني للبناء أو اقتضاء الصور النوعية

للأعراض وأما التعبير ب: هو هو أو هو ليس هو فهو لا يغير ربطا واقعيا إنما هو طرق التعبير للمعنى الدقيق أليس بين الثلاثة والفرد ربط واحد مصحح أن يقال تارة: الثلاثة فرد وتارة: الثلاثة مفهوم والفردية عارضة لها. وقد بينا في دفع الباطل هذا المعنى بما لا مزيد عليه فمن اشتاق فليرجع إليه وأما بعض الشهودية الذين قالوا: إن العالم وجود خارجي حقيق مستقل غير الواجب من آثار صنعه وبعض الوجودية الذين قالوا: ليس الواجب غير هذا الهيكل المخصوص المسمى: بالعالم فهو من كثرة أجزائه عالم ومن حيث وحدة اجتماعه حق فهما على طرفي مضادة يجمعهما هذا السر المذكور من قبل ويفرق بينهما قصور نظر كل من الفريقين. نكتة: أساس النزاع بين الفريقين على ما حصله إمام الشهودية1 هو: عينية الظل أو غيريته للأصل بالحقيقة والانطباق أن يتأمل أن ظل العلم علم لا غيره وكذا سائر الصفات وهو بنفسه مصرح أيضا بأن قاعدة العقلاء أن ماهية الشيء ما به الشيء هو هو غير مسلم في الماهية الظلية بل الظل هو بأصله لا بنفسه فأصله أقرب إليه من نفسه فحينئذ لم يبق بينه وبين قول الوجودية: الظل: ظهور الشيء في المرتبة الثانية وما بعدها فرق يعتد به إلا بالتعبير فإن كلا منهما عند الشهودية أخذ بشرط المرتبة مع الحقيقة فتباينا وعند الوجودية لا بشرطها فاتحدا ومنشأ ذلك: مزيد اعتناء واحد بجهة الامتياز وآخر بجهة الاشتراك والغفلة عن الأخرى فثبتت العينية من وجه والغيرية وجه. نكتة: اتفق العلماء والصوفية الشهودية على: أن النبوة أفضل الولاية ولذا كان النبي معصوما عن المعاصي مأمون الخاتمة علمه قطعي وقبوله واجب وإنكاره كفر دون الولي وقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} . ولم يذكر معهم الأولياء. وقالت الوجودية: الولاية أفضل من النبوة ولما كان التفوه به ثقيلا منكرا فسر بأن المراد: جهتا شخص واحد من الأنبياء والولاية توجهه إلى الحق بالتمام والنبوة توجهه إلى الخلق بالأمر بلا واسطة وجهة الحق أشرف من جهة الخلق فاختلس منه أن النبوة أفضل والولاية أشرف. وخاصمهم الشهودية: بأن النبوة ليست نفس التبليغ والتربية بل هي قبول الوحي منه - سبحانه - لأمر التبليغ فهي جهة الحق دون الخلق وبأن النبوة غاية الولاية وانتهاء كمالها فهي أفضل منها وبأن التوجه إلى الخلق بنيابة الحق وجارحيته بجعل نفسه في ضمن الحق وجهته بخلاف التوجه إلى الحق فإنه بجعله خارج الحق في مسامتته وتفطن الشيخ المجدد - رحمه الله -: أن غرضهم: أنه بمعرفة التوحيد الوجودي يحصل من زوال الإثنينية وتمام الفناء وكمال الوصل كما هو عند الأولياء مالا يحصل في أحكام جهة العابدية والمعبودية بحفظ الأدب وكمال الإطاعة كما هو دعوة الأنبياء - عليهم السلام - وطريقتهم المتوارثة عند العلماء فأزاحه بأن طريقة الولاية وكمالاتها ظلية وهما للنبوة أصلية وشرحه على ما فهمت أن طريقة النبوة في البداية والنهاية تفضل طريقة الولاية فيهما وتوجه الأنبياء إلى الهوية الخارجية بلا توسطة برزخ ومرآة من الأنفس والآفاق وانتهاؤهم إلى التجليات الوجودية إلى حصول ربط القبول والنيابة والحماية

_ 1 فوقها بين السطرين: "شيخ أحمد سرهندي".

على يد من بأيديه نظام القضاء والقدر فيرتب عليهم آثاره في الخارج وتوجه الأولياء إليه - سبحانه - بتوسط البرازخ ومرايا الأنفس والآفاق فمن جاوز هذا منهم فقد دخل في وارثة النبوة بالعرض وانتهاؤهم بالبقاء الوجداني بالحق ولا يترتب عليهم آثار الأولهية والوجوب مطلقا إلا في إدراكهم ووجدانهم وإلى القيام بمال المتابعة للأنبياء بحسب مراتبها السبع وإن اشتركوا في نيل تجلياته - تعالى - في المرايا الإدراكية والتلقي منه - سبحانه - بلا واسطة فالحق: أن فضل الولاية: بطول البقاء وسعة الدائرة ودخل السعي والاكتساب فيها وفضل النبوة: بحصول نوع من الاستقلال ومزيد الاختصاص والجاه واستحكام الرابطة معه وأن الولي إذا خاض في أنانيته دخل في مراتب الإطلاق وداخل في حقائق الأشياء وانكشف عليه شأن من الذات ربما يخفى على النبي والنبي يجب تعرفه لواسطة الإلقاء والجمع بين رؤيته وكلامه وليس ذلك للولي ولكن الحق الصريح: أن التابع دون المتبوع. ....................................... ... وللناس فيما يعشقون مذاهب ومما يوجب الاشتباه: أن الآخر حصولا يغير عند صاحبه ثم إن هذا في محض النبوة والولاية الخاصة فمن فاز مع ذلك بنوع آخر من الكمال أو بالجمع بين صنوف من الكمال ينبغي أن ينظر في فضله وفضل اجتماعها فيه ولا يقتصر على ما ذكر. نكتة: ادعى الحكماء امتناع الخرق والالتئام على الأفلاك وخالفهم أرباب الشرائع في ذلك والحق: أن الحكماء لم يأتوا فيه ببرهان فالأدلة المذكورة فيه على تقدير تمامها إنما تدل على امتناعهما في تحدد الأمكنة والأزمنة ولا دخل لباقي الأفلاك في ذلك وإنما حكموا بذلك لدخولها في اسم الفلك ولموافقتها له في الحركة الدورية مظنونا فيها الدوام ولم يعلموا أن دوام ميل نفساني مستدير للكل لا ينافي ميلا مستقيما لأجزائه سيما للمنفصلة منها وقد صرح الصدر الشيرازي1: بأن هذا الحكم منهم بنوع من الحدس وما هذا الحدس إلا من قبيل تبادر الذهن لا من مقدمات البرهان وأهل الشرع جزموا بحدوث الأفلاك من مواد تشارك العناصر في أصلها. نكتة: ذكر الحكماء لكائنات الجو أسبابا من تغيرات الهواء والماء بالاستحالات والانقلابات والاختلاطات وأرجعه أصحاب الشرائع إلى ملائكة يتصرفون بأمر الله فتبين المنافاة بينهما ولا تنافي فإن للأشياء أسباب أربعة والحكماء اعتنوا بالمادية وأصحاب الشرائع بالفاعلية كيف؟ والحكماء لا يستغنون عن أسباب سماوية غيبية يسميها عامتهم: بالأوضاع المخصوصة وخواصهم: بالقوى الروحانية وإنما يتصرف الفاعل بجمع المواد وإصلاحها كما نرى في أفاعيلنا فلا ينبغي الإنكار كيف؟ ويعرف من التوراة: أن البخار يرتفع من وجه الأرض فيسقي نواحيها ولما ثبت نزول هذه القوى من السماء صح أن الماء ينزل من السماء وجاز أن يراد من السماء طبقة الزمهرير والبرد العاقد فيها هو جبال البرد يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. نكتة: أهل الشرائع: يفهمون من مثل قوله تعالى: {الْأَرْضَ فِرَاشاً} و {دَحَاهَا} و {سُطِحَتْ} أنها سطح

_ 1 هو صدر الدين محمد بن إبراهيم القوامي الشيرازي، فيلسوف من القائلين بوحدة الوجود، له مؤلفات كثيرة في ذلك توفي سنة 1059هـ = 1649م.

مستو والحكماء يثبتون كرويتها بالأدلة الصحيحة فيتوهم الخلاف ويدفع بأن القدر المحسوس منها في كل بقعة سطح مستو فإن الدائرة كلما عظمت قل انحداب أجزائها فاستواؤها: باعتبار محسوسية أجزائها وكرويتها: باعتبار معقولية جملتها. نكتة: ورد في الحديث: أن الشمس إذا غربت تذهب حتى تسجد تحت العرش. وأثبت الحكماء: أنها لا تنفك عن موضعها من الفلك إذا هي تحت الأرض فإن فهم العرش محيطا فهي دائما تحت العرش وإن فهم إلى الفوق فقط فهي لم تذهب إليه وحل الخلاف أن الحكماء أثبتوا اختلاف أحوالها بالنسبة إلى السفليات في الأوتاد الأربعة1 فأصحاب النفوس المطهرة والقلوب المنورة ينطبع في بواطنهم حال القاعد عند الطلوع وحال القائم عند الاستواء وحال الراكع عند الغروب وحال الساجد عند غاية الانحطاط وهي في جميع ذلك تحت العرش لأنه فوقها دائما ومحيط بها. نكتة: ورد في المصحف المجيد: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} وفي الحديث الشريف: "كانت الأرض خلقت تميد على الماء فأمسكتها الملائكة فما سكنت فخلق الله - سبحانه - الجبال فسكنت بها" وأثبت الحكماء: أن انجذاب الأثقال إلى مركز العالم الذي هو مركز الأرض والماء فالماء فوق الأرض معتمد من كل جهة عليها على سمت مركزها فكيف تميد عليها؟ والجبال في الأرض فإن مالت مالت معها وكيف تمنعها عن الحركة؟ والمطابقة أن من المحسوس المتيقن عند أهل الهند أن البئر إذا حفرت تصل إلى الثرى فيرشح فيها الماء من الجوانب كالعرق من المسام بطيئا أو سريعا فإذا أمعن فيه2 انتهى إلى طبقة صلبة لا يداخلها الماء أصلا ثم إذا بولغ فيه بكسرها نبع الماء العذب القراح بقوة وشدة كأنه كان منضغطا فارتفع فإن أخرج منه آلاف ذنوب لا ينتقص ولم يجدوا لهذا الماء إلى أربعمائة أو خمسمائة ذراع نهاية والله يعلم كم يوجد الماء وراءها؟ ولا شك أن تحتها طبقة أرضية أخرى فكأن تميد الأرض بهذا الماء لا بالماء المنبسط فوقها ونصب أصول الجبال في الطبقة الثانية من الأرض لا في هذه الأرض فقط فافهم. نكتة: وقع في الكلام المجيد: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: مثل السموات السبع. وجاء في الحديث: أنها طبقات متفاصلة ودلائل الهيئة دلت على أن الأرض قطرها: ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخا وهذا لا يسع سبع أرضين في جوفه قريب من هذه الأرض فما ظنك إذا كانت السافلة أعظم من العالية - كما يروى -؟ ولا يوجد أرض أخرى بين السماء والأرض وهذا وإن لم يخالف الآية قطعا لإفراد الأرض وإدخال من التبعيضية فيفهم أن تلك السبع قطع أرض واحدة وهي كذلك فإن المعمور منها سبع بلاد مختلفة بالأديان والرسوم والطبائع والنباتات وبعض الحيوانات أحدها: للسودان من: البربر والزنج والحبشة وأخرى: للبيض من: الإفرنج والطنجة والسقالبة ثم للعرب ثم للفارس ثم للهند ثم للترك ثم للصين أو يتصرف في الأرض أن المراد علام العناصر وهو سبع طبقات وأما

_ 1 في هامش الأصل: "هي الطالع والغارب والعاشر والرابع". 2 فوقها بين السطرين: "أي في الحفر".

الحمل على الأقاليم فبعيد ولكنه يخالف الحديث الصريح ويدفع هذا الخلاف بأن ستة أرضين في طبقات عالم المثال كأنها ستة تماثيل لهذه الأرض والعامة وأصحاب الشرائع: لا يفرقون بين أجسام الشهادية والمثالية إلا بالصفات: كالطاقة والكثافة والنورانية والظلمانية ويؤيده ما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أن فيها ابن عباس كابن عباسكم وقد يظن: أن تلك الأرضين هي المنتقثة المنطبعة منها في النفوس الفلكية وفيه: إنها إذ اتسع فالأرضون عشر إلا أن يتكلف أنه كما ليس للأرض قدر محسوس بالنسبة إلى الأفلاك العلى ليس لها صورة فيما فوق الفلك المشتري ولا يخفى بعده. هذا آخر ما نقلته من كتاب التكميل. وأما أثر ابن عباس الذي أشار إليه فهو من رواية الحاكم في المستدرك عن طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى وهذه الألفاظ1: فيها تقديم وتأخير في بعض الطرق قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد قال البدر الشبلي في آكام المرجان في أحكام الجان: قال شيخنا الذهبي: إسناده حسن ورواه الحاكم أيضا عن طريق عمرو بن مرة عن أبي الضحى بلفظ: في كل أرض نحو إبراهيم وقال: هذا حديث على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي في كونه على شرطهما وزاد رجاله: أئمة حكاه تلميذ بدر الدين الحنفي في الآكام ورواه أيضا البيهقي في شعب الإيمان وكتاب الأسماء والصفاتله وقال: إسناده صحيح ولكن شاذ بمرة ولا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا قال السيوطي في الحاوي: وهذا الكلام من البيهقي في غاية الحسن فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما تقرر في علوم الحديث لاحتمال أن يصح الإسناد ويكون في المتن شذوذ وعلة تمنع صحته وإذا تبين ضعف الحديث أغنى ذلك عن التأويل لأن مثل هذا المقام لا تقبل فيه الأحاديث الضعيفة ويمكن أن يؤول على أن المراد بهم: النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي بلغ عنه - والله سبحانه وتعالى أعلم -. انتهى ورواه ابن جرير2 في تفسيره من طريق عمرو بن مرة عن أبي الضحى بلفظ: في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض قال العسقلاني والقسطلاني: هكذا أخرجه مختصرا وإسناده صحيح. انتهى. وذكره السيوطي في الدر المنثور وعزاه لابن أبي حاتم وقال في التدريب في الكلام على الطريق الأولى: ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم حتى رأيت البيهقي قال: ... الخ. قال القسطلاني: ففيه: أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما هو معروف عند أهل هذا الشأن فقد يصح الإسناد ويكون في المتن شذوذ أو علة تقدح في صحته ومثل هذا لا يثبت بالحديث الضعيف ونحوه في روح البيان ومثله في سيرة الحلبي قال في البداية: وهذا محمول إن صح نقله

_ 1 بإزائها في الهامش: "لكن ليس في واحد منها لفظ: ابن عباس كابن عباسكم الذي ذكره في التكميل. منه". 2 الطبري، توفي سنة 310هـ.

على أن ابن عباس أخذه من الإسرائيليات قال السخاوي في المقاصد الحسنة: أي أقاويل بني إسرائيل مما ذكر في التوراة أو أخذ من علمائهم ومشائخهم كما في شرح النخبة وذلك إذا لم يخبر به معصوم ويصح سنده إليه فهو مردود على قائله. انتهى. ونقل في الكمالين حاشية الجلالين عن ابن كثير تلميذ شيخ الإسلام: ابن تيمية - رحمه الله - مثل ما تقدم من البداية ولفظ علي القارئ في موضوعه المختصر المسمى: بالمصنوع نقلا عن الحافظ ابن كثير: ذلك وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله. انتهى. وقال الحلبي في إنسان العيون بعدما نقل قول البيهقي: ولا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف. انتهى. ومثله في تفسير القاضي: ثناء الله المسمى بالمظهري كما قيل وضعفه الزرقاني أيضا وفي تفسير البحر المحيط1: ولا شك في وضعه وذكره الشوكاني في تفسيره: فتح القدير ولم يزد على قول البيهقي: وفي إسناده عطاء بن السائب وهو من المختلطين كما صرح به النووي في مقدمة شرحه لمسلم. وقال الحافظ في التقريب: صدوق. وفي هدى الساري مقدمة فتح الباري: اختلط فضعفوه بسبب ذلك. وقال يحيى بن معين: لا يحتج بحديثه وما روى عنه البخاري إلا متابعا في مقام واحد مع أبي بشر ولم يخرج عنه مسلم. وقال الحاكم في: باب الكسوف من المستدرك: لم يخرجاه بسبب عطاء بن السائب. انتهى. والعجب من الحاكم كيف حكم بصحته؟ مع علمه بأن الشيخين لم يخرجا حديث عطاء وهذا الأثر من روايته فما أحقه بالتضعيف وقال المنذري في كتاب الترغيب: عطاء بن السائب الثقفي قال أحمد: ثقة ورجل صالح من سمع منه قديما كان صحيحا ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء ورواية شعبة والثوري وحماد بن زيد عنه جيدة زاد في التهذيب: ممن سمع منه قديما قبل أن يتغير: شعبة وشريك وحماد لكن قال يحيى بن معين: جميع من روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان فثبت أن شريكا سمع منه في حالة الاختلاط والتغير دون قبل ذلك وهذا الأثر الضعيف من رواية شريك عن عطاء. قال القسطلاني: وعلى تقدير ثبوته يحتمل أن يكون المعنى: ثم من يقتدي به ويسمى بهذه الأسماء وهم رسل الرسل الذين يبلغون الجن عن أنبياء الله ويسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه. انتهى. زاد السيوطي - رحمه الله -: وحينئذ كان لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من الجن اسمه كاسمه ولعل المراد اسمه المشهور وهو: محمد - صلى الله عليه وسلم - فليتأمل ومثله في تفسير روح البيان ونحوه في إنسان العيون نقلا عن

_ 1 في هامش الأصل: "هكذا وجدناه ولم نقف على هذا التفسير فإن كان بناء على هذا الحكم على رواية الواقداي فليس بشيء وإن كان على غيره فلينظر فيه. منه".

السيوطي وحمله ابن عربي في الفتوحات على عالم المثال حيث قال: وخلق الله من جملة عوالمها على صورنا إذا أبصر العارف يشاهد نفسه فيها وقد أشار إلى مثل ذلك ابن عباس فيما روي عنه في حديث هذه الكعبة وأنها بيت واحد من أربعة عشر بيتا وإن في كل أرض من السبع الأرضين خلقا مثلنا حتى إن فيهم ابن عباس مثلي وصدقت هذه الرواية عند أهل الكشف. انتهى. وعليه حمله صاحب التكميل - كما تقدم - وعلى ذلك ليس فيه ما يفيد المستدلين به وليس الأثر الموقوف بحديث عند أهل النقد والمعرفة بعلم الحديث حتى يحتج به في الأحكام والتفاسير عند الجماهير. وقال الشوكاني في السيل الجرار: تفسير الصحابة للآية لا تقوم به الحجة لا سيما مع اختلافه. انتهى. وهذا الأثر: قد ورد في بدء الخلق دون العقائد حتى تبنى عليه عقيدة ويحتاج إلى تطبيقه وتأويله وتصحيح معناه وإثبات مبناه والمعتبر في العقائد: هو الأدلة اليقينية لا الظنية كما صرح بذلك أهل العلم بالكلام قال الرازي في الكبير: إن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين وكيف يجوز إتباع الظن في الأمر العظيم وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأجدر. انتهى. وعلى هذا فلا يستأنس في تأييد هذا الأثر الضعيف أو الموضوع إلى ما ذكره في العرائس وبدائع الزهور من وجود الخلق في بقية طبقات الأرض لكونه مختلفا مفتعلا مرويا من الإسرائيليات قال النيسابوري في تفسيره: ذكر الثعلبي في تفسيره فصلا في خلائق السموات والأرضين وأشكالهم وأسمائهم أضربنا عن إيرادها لعدم الوثوق بتلك الروايات. انتهى. قال الخفاجي في حاشية البيضاوي: وليست هذه المسألة من ضروريات الدين حتى يكفر من أنكرها أو تردد فيها والذي نعتقده: أنها طبقات سبع ولها سكان من خلقه يعلمهم الله. انتهى وقد وقعت الزلازل والقلاقل لأجل ذلك الأثر لهذا العهد بين أبناء الزمان بما لا يأتي بفائدة ولا يعود بعائدة ولهذا ذكرنا في بعض الفتاوى: أنه ليس إثبات تلك الأوادم والخواتم من أحكام الشرع في ورد ولا صدر وليس على القول بموجبه أثارة من علم وكل حزب بما لديهم فرحون والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ثم من استدل بهذا الأثر على إمكان وجود مثله - صلى الله عليه وسلم - وكونه داخلا تحت القدرة الإلهية فقد أطال المسافة وأبعد النجعة وأتى بما هو أجنبي عن المقام وخارج من محل النزاع فإن بين المسألتين بونا بعيدا {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 1.

_ 1 بإزائها في هامش الأصل: "يعني كون إمكان مثله-صلى الله عليه وسلم- مقدوراً له سبحانه ثايت بالأدلة الأخرى غير هذا الدليل وإن لم يقع في الخارج حسب الوعد الإلهي" "مولوي محمد عبد الرشيد كشميري سلمه الله تعالى".

خاتمة القسم الأول

خاتمة القسم الأول قف: هذا المرقوم: قد تم بعون رب البرية في شهر ربيع الأول من سنة إحدى وتسعين ومائتين وألف الهجرية والراقم له بيمناه: الفقير إلى عفو مولاه ابن عبده وأمته الخامل المتواري أبو الطيب: صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري ستر الله عيوب نفسه وجعل غده خيرا من أمسه.

وهذا العبد - عفا الله عنه ما جناه واستعمله فيما يحبه ويرضاه -: له يد جارحة ويمنى عاملة في العلوم الشرعية سيما التفسير والحديث والفقه وأصولها والتاريخ والأدب كما يلوح من مؤلفاته وقد خصه الله - تعالى - بكرمه الوافر لهذا العهد الآخر بتدوين أحكام الإسلام على الوجه المأثور عن سيد الأنام والسلف الكرام على نوع لم يسبق إليه أحد من علماء الديار الهندكية والله يختص برحمته من يشاء. ولو أن لي في كل منبت شعرة ... لسانا لما استوفيت واجب حمده وقد أعانه - سبحانه وتعالى - على تحصيل تلك العلوم وكتبها النفيسة العزيزة الوجود بأنواع المعلوم والموجود وأمال إليه قلوب أوليائه وأضاف إليه من نعمه مالا يحاط به ووفقه بإيثار الحق على الخلق رضا الخالق على المخلوق وتقديم العلوم الحقة الإسلامية على الفنون العقلية الفلسفية حتى ذهب غالب أوقاته وأكثر عمره في دراسة الكتاب والسنة وما يليهما ومجانبة أهل البدع والهواء واستفاد من كلام السلف استفادة تامة واستفاض من كتب محققي الخلف استفاضة عامة إلى أن حصل منها على فوائد لا يستطيع أن يبوح بها وعوائد لا يقدر أن يلوح إليها وحقائق لا يمكن العبارة عنها إلا بالفوائد والعوائد ومسائل لها منها عليها شواهد كيف؟ وهي فوق وصف الواصفين ووراء طور البيان ولا يهتدي إلى مثل ذوقها ولذتها إلا أفراد من نوع الإنسان الذين زاحمونا في درك المباني وأخذ المعاني على وجه يكمل به الإتقان والإذعان ولله الحمد على كل حال وهو المفيض للكمال على مثال وغير مثال. وما أحسن ما قال ابن خلدون: التحقيق: قليل وطرف التنقيح: في الغالب كليل والغلط والوهم: نسيب للناس وخليل والتقليد: عريف في الآدميين وسليل والتطفل: على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل: بين الأنام وخيم وبيل والحق: لا يقاوم سلطانه والباطل: يقذف بشهاب النظر شيطانه والناقل: إنما هو يملي وينقل والبصيرة: تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم: يجلو لها صفحات الصواب ويصقل. انتهى. وبالجملة: فالمحققون بين أهل الملل والنحل قليلون لا يكادون يجاوزن عدد الأنامل ولا حركات العوامل والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون واتباعهم فيما يقولون بيد أنه لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال فيجلب صورا قد تجردت عن موادها وصفاحا انتضيت من أعمادها ومعارف يستنكر للجهل طارفها وتلادها وإنما هي آراء لم تعلم أصولها ومقالات لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في دراستهم المجتهدات المتداولة منذ زمان بأعيانها تقليدا لمن عني من الأحبار والرهبان بشأنها ويغفلون أمر الكتاب والسنة الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم في بيانها وألسنتهم عن تبيانها ثم إذا تعرضوا يوما لذكر السنن نسقوا اخبرها نسقا غير محافظين على نقلها وهما أو صدقا لايتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى المتبع للحديث متطلعا بعد إلى أحوال صحتها وضعفها ومراتبها مفتشا عن أسباب تمسكها واعتزالها أو تزاحمها وتعاقبها باحثا عن المقنع في تبيانها أو تناسبها ولذلك تراني لما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس ونجد اليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التأليف غالبا في الكتاب والسنة وما يليهما من نفسي وأنا المفلس أحسن السوم فأنشأت في تدوين ذلك كتبا ورسائل،

وجمعت لتيسير هذه الصعاب والاطلاع على تلك الهضاب أسفارا ومسائل فهذبت مناحيها تهذيبا وقربتها للأفهام تقريبا وأتيت بما يمتعك بحقائق دين الإسلام وأسبابه ويعرفك كيف دخل أهل العلم من أبوابه حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال قبلك من سلف الأمة وأئمتها ومن بعدك فعليك بمؤلفاتنا ومؤلفات مشائخنا في كل باب تجدها إن - شاء الله تعالى - مملوءة دينا بحتا وشرعا صرفا عند كل إياب وذهاب ولعلك لا تحتاج بعد إحرازها في درك الحق الحقيق بالصواب من الأحكام والمسائل إلى سفر وكتاب إن كنت ممن ينصف ولا يتعسف ويؤثر الحق على الخلق ولا يتوقف ولا يخاف في الله لومة لائم وهو عن رد المعاصرين صائم اعلم أن إلى الله مصيرك فمن نصيرك؟ وفي الجدث مقيلك فيما قيلك؟ وهذا آخر القسم الأول: من هذا الكتاب وبالله التوفيق وإليه المتاب ويتلوه القسم الآخر إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني: السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم

القسم الثاني: السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم المقدمة في بيان أسماء العلوم وموضوعاتها وعدم تعين الموضوع في بعضها ... القسم الثاني: السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا يفي ... بحمده كل شكور وفي ثم صلاة الله تترى على ... المختار والآل ومن يقتفي طريقهم كالبدر الهدى ... من لا سواه اليوم من منصف ودعوة اسأل من فضله ... أنجو بها من شدة الموقف وبعد: فهذا هو القسم الآخر من كتاب أبجد العلوم المسمى بالسحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم وضمنته مقدمة وأبوابا وخاتمة. المقدمة في بيان أسماء العلوم وموضوعاتها وعدم تعين الموضوع في بعضها اعلم: أن المشهور عند الجمهور أن حقيقة أسماء العلوم المدونة المسائل المخصوصة أو التصديق بها أو الملكة الحاصلة من إدراكها مرة بعد أخرى التي يقتدر بها صاحبها على استحضارها متى شاء أو استحصالها مجهولة. والسيد الشريف في شرح المواقف: إن اسم كل علم موضوع بإزاء مفهوم إجمالي شاملي له انتهى. ثم إنه قد يطلق أسماء العلوم على المسائل والمبادئ جميعا لكنه قد يشعر كلام بعضهم إلى أن ذلك الإطلاق حقيقة والراجح أنه على سبيل التجوز والتغليب والإلزام بما يلزم الاختلاط بين العلمين إذ بعض المبادئ لعلم يجوز أن يكون مسئلة من علم آخر فلا يتمايزان. ومما يجب التنبيه عليه أنهم اختلفوا في أن أسماء العلوم من أي قبيل من الأسماء. اختار السيد الشريف الحنفي - رحمه الله - أنها أعلام الأجناس فإن اسم كل علم كلي يتناول أفرادا متعددة إذ القائم منه يزيد غير القائم منه بعمر وشخصا. وقال زين الدين الحوافي: إنها أحلام شخصية نظر إلى أن اختلاف الأعراض باختلاف المحال في حكم العدل.

وقال العلامة الحفيد: المنقول عن المركب الإضافي لا يتعارف كونه اسم جنس وكثير من أسماء العلوم مركبات إضافية. وقد خطر ببالي أنه يجوز أن يجعل وضع أسماء العلوم من قبيل وضع المضمرات باعتبار خصوص الموضوع وعموم الوضع ولا غبار على هذا التوجيه إلا أنه لم يتعارف استعمالها في الخصوصيات. وينبغي أن يعلم أن لزوم الموضوع والمبادئ والمسائل على الوجه المقرر إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه وأصوله وقد لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وتنبيهات متعلقة بأمر واحد بغير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع واحد بأدلة مبنية على مقدمات هذه فائدة جليلة ذكرها السعيد التفتازاني الشافعي في شرح المقاصد ينتفع بها في مواضع. منها: جواز أن يحال تصور المبادئ التصورية في علمه على علم آخر. ومنها: جعل اللغة والتفسير والحديث وأمثالها علوما إلى غير ذلك وأما موضوعات العلوم فقد ألف فيها جماعةز منهم: الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي ألف كتابا أورد فيه ستين علما وسماه حدائق الأنوار في حقائق الأسرار والشيخ جلال الدين محمد بن أسعد الصديقي الدواني المتوفى سنة ثمان وتسعمائة ألف كتابا أورد فيه عشرة من العلوم وسماه أنموذج. والشيخ عبد الرحمن بن محمد البسطامي ألف كتابا أيضا وذكر في فواتحه طرفا من العلوم وأورد فيه عجائب وغرائب لم تسمعها آذان الزمان حتى بلغت مقدار مائة علم وذكر فيها أقسام العلوم الشرعية والعربية. والشيخ لطف الله بن حسن التوقاني المقتول في سنة تسعمائة ألف للسلطان يا يزيد كتابا جمع فيه نبذا من العلوم وهو مختصر ثم شرحه وسماه المطالب الإلهية وفيها رسالة للشيخ محيي الدين محمد بن خطيب قاسم. وللشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي كتاب جمع فيه أربعة عشر علما وسماه النقاية ثم شرحه وسماه إتمام الدراية. وتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة. والشيخ محمد أمين بن صدر الدين الشرواني المتوفى سنة ست وثلاثين وألف جمع كتابا للسلطان أحمد العثماني أورد فيه ثلاثة وخمسين علما من أنواع العلوم العقلية والنقلية وسماه: الفوائد الخاقانية الأحمد الخانية ورتبه على مقدمة وميمنة وميسرة وساقة وقلب على نحو ترتيب جيش السلطان. المقدمة: في ماهية العلوم وتقسيمه. القلب: في العلوم الشرعية. والميمنة: في العلوم الأدبية.

والميسرة: في العلوم العقلية. وقد أورد منها ثلاثين علماً. والساقة: في علم آداب الملوك وإنما اقتصر على ذلك العدد ليكون موافقا لعدد أحمد على حساب أبجد. وقد جمع الشيخ عصام الدين أحمد بن مصطفى المعروف بطاشكبري زاده كتابا عظيما أورد فيه نحو خمسمائة علم وسماه مفتاح السعادة ومصباح السيادة جعله على طرفين: الأول: في خلاصة العلم وذكر فيه ثمانية عشر وصية للطالبين. والثاني: في تعدد العلوم وضمنه ثلاثة أقسام: إلهية واعتقادية وعملية. وجعل علم الأخلاق ثمرة كل العلوم وتوفي سنة سبع وستين وتسعمائة. ثم إن ابنه الشيخ كمال الدين محمد نقله إلى التركية ببعض إلحاقات وتصرفات في مجلد كبير وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وألف. وللأرنيقي تلميذ قاضي زاده محمود الرومي شارح الجغميني كتاب سماه مدينة العلوم ورتبه على مقدمة وطرفين وخاتمة. قال في المقدمة: إن للأشياء وجود في الكتابة والعبارة والأذهان والأعيان وكل سابق منها على اللاحق. ثم العلم المتعلق بالثلث الأول آلي والعلم المتعلق بالأخير: إما عملي لا يقصد به حصول نفسه بل حصول غيره أو نظري يقصد به حصول نفسه فقط. ثم كل منها: إما أن يبحث فيه من أنه مأخوذ من الشرع فهو العلم الشرعي. أو من حيث أنه مقتضى العقل فقط فهو العلم الحكمي فهذه هي الأصول السبعة ولكل منها أنواع ولأنواعها فروع وإن كان لا ينحصر. قال بعض الفضلاء: علم التفسير لا يتم إلا بأربع وعشرين علما وعد الإمام الشافعي في مجلس الرشيد ثلاثا وستين نوعا من علوم القرآن. وقال بعض العلماء: العلوم المستخرجة من القرآن ثمانون علما ودون فيها كتب. وقيل: إن العلوم الحكمية تتضمن خمسة عشر فنا إلا أن فروعها أكثر من خمسين ثم قال: والمختار عندي أن عدد العلوم أكثر من أن يضبطه القلم. وعن الإمام الغزالي عن بعضهم: إن القرآن يحتوي سبعا وسبعين ألف علم ومئتي علم كذا ذكره في الباب الرابع من كتاب آداب التلاوة من أحياء العلوم. ونقل السيوطي عن القاضي أبي بكر بن العربي أنه ذكر في قانون التأويل: إن علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع. ونقل عن الغزالي أيضا: إن من العلوم ما استأثر الله به ولم يطلع أحدا عليه. ومنها: ما يعرفه الملائكة دون البشر.

ومنها: ما يعرفه الأنبياء دون من عداهم. ومنها: ما تصورته الأذهان ولم يدون في الكتاب. ومنها: ما دون ثم ضاعت كتبها وانطمست آثارها وانقطعت أخبارها انتهى. وقال في الديباجة: أو إن خطر ببالك أن الفنون كثيرة وتحصيل كلها غير يسير ومدة العمر قصيرة وتحصيل آلات التحصيل عسير فكيف الطريق إلى الخلاص عن هذا المضيق؟ فتأمل فيما قدمت إليك من العلوم اسما ورسما وموضوعا ونفعا فإن سهل عليك تحصيل تلك العلوم كلها فحبذ أو قل: الحمد لله الذي هدانا لهذا لما قال أفلاطون: ما من علم مستقبح إلا والجهل به أقبح. وإن أعجلك الوقت وخشيت أن تخترمك الشواغل بالفوت فخذ من كل علم أحسنه وإن اختلج في صدرك أن الأغراض مختلفة في أمر العلوم وتتفاوت في الميل إليها الطباع والفهوم وتتباين في استحسانها العادات والرسوم حتى يعد طائفة من قبل الجنون تحصيل ما عند الآخرين من الفنون إذ كل حزب بما لديهم فرحون فتأمل قول من قال: كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سواه فوسواس الشياطين وقد قيل: جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال وبالجملة أحسن العلوم ما سأل عنه جبريل عليه السلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - حين سأل أولا عن الإيمان ثم عن الإسلام ثم عن الإحسان والحديث والتفسير أم لهذه العلوم وأصول لها وإليها ينتهي مدارها. انتهى حاصله. قلت وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "العلم ثلاثة: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما كان سوى ذلك فهو فضل". رواه أبو داود وابن ماجة. ومعنى فضل زائد لا ضرورة فيه: أحب حديث المصطفى وأوده ... وادرسه عمري واضبط كتبه وذلك عند المصطفى لي شاهد ... تجلى له والمرء مع من أحبه قف: اخترنا في هذا الكتاب الترتيب الذي اختاره صاحب كشف الظنون لكونه سهل التناول. ولم نجد لابن خلدون ترتيبا في ذكر العلوم نعم رتب صاحب مدينة العلوم كتابه على ترتيب غير ترتيب حروف المعجم وذكر في المقدمة حصر العلوم على الإجمال كما تقدم نقله وتكلم في الكتاب على سبع دوحات كل منها في بيان أصل من الأصول السبعة. ثم ذكر في كل دوحة منها شعبا لبيان الفروع فالدوحة الأولى: في بيان العلوم الخطية وفيها مقدمة وشعبتان: أما المقدمة: ففي بيان الحاجة إلى الخط وسيأتي هذا البيان في ذكر علم الخط من هذا الكتاب لكن ناسب أن نذكر هاهنا عبارة المدينة في تمهيد كل أصل من الأصول السبعة ليتضح حال ترتيبه

وتفريعه ويسهل على الناظر إلحاق كل فرع بأصله. فنقول: قال في بيان الحاجة إلى الخط ما عبارته: إن فائدة التخاطب والمحاورات في العلوم لما توقف على معرفة أحوال الألفاظ سيما الألفاظ العربية التي تبنى عليها شريعتنا هذه مع كونها أفضل اللغات وأكملها ذوقا وبرهانا اعتنى علماء ملتنا هذه بالبحث عن أحوالها وضبط أصولها وفروعها واستخراج خواصها ومزاياها فوضعوا لذلك علوما أصولا وفروعا. واعلم: أن الألفاظ لما اختصت منافعها بالحاضرين وسمت همم الأمم إلى اطلاع الغائبين من المعاصرين ومن الذين سيولدون من بعدهم وضعوا خطوطا دالة على تلك الألفاظ وبحثوا عن أحوالها من كيفية نقوشها وحركاتها وسكناتها وضوابطها من نقطها وشداتها ومداتها وعن تركيبها وتسطيرها إلى غير ذلك من الأحوال فحدثت هناك علوم شتى انتهى. ثم أوردها في ضمن شعبتين: الأولى: في العلوم المتعلقة بكيفية الصناعة الخطية وذكر فيها علم أدوات الخط وعلم قواني الكتابة وعلم تحسين الحروف وعلم كيفية توليد الخطوط عن أصولها وعلم ترتيب حروف التهجي وعلم ترتيب أشكال بسائط الحروف وعلم إملاء الخط العربي وعلم خط المصحف علم خط العروض. ثم جعل الدوحة الثانية في علوم تتعلق بالألفاظ وفيها مقدمة وثلاث شعب. المقدمة في بيان الحاجة إلى العلوم المذكورة. قال: اعلم أن الإنسان لما كان مدنيا بالطبع احتاج في تعيشه إلى إعلام ما في ضميره لغيره وإلى الوقوف على ما في ضمير الآخرين فاقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الأزلية إحداث دوال يخف عليه إيرادها ولا يتبعها أضدادها بل لا يحتاج في تحصيلها إلى آلات غير الآلات الطبعية لئلا يصرف أوقاته فيما يشغل نفسه عن كثير من المهمات الطبعية والشرعية فقاده الإلهام الإلهي إلى استعمال الصوت العارض للنفس الضروري للحيوان بالآلات الذاتية الطبعية وتقطيعه بتوسط تلك الآلات بأن يفيد تلك الآلات للأصوات كيفيات على أنحاء شتى وطرق مختلفة يمتاز بسببها بعضها عن بعض باعتبار مخارجها وصفاتها ويسمى تلك الألفاظ حروفا ويحصل منها بحسب التركيبات المتنوعة كلمات دالة بحسب الأوضاع المختلفة على المعاني الحاصلة في ضمائر المتكلمين التي تتوقف عليها المعايش وتحصيل المعارف. ثم تركيبات تلك الحروف لما أمكنت على وجوه مختلفة وأنحاء متنوعة مع تنوع مخارج الحروف وأصنافها بحسب تنوع الطباع والعادات من الطوائف في كل ملة بل في كل صقع من الأصقاع حصل لهم ألسنة مختلفة ولغات متباينة بحيث لا تعد كثرة إلا أن أفضلها وأعلاها اللغة التي خصت بها أوسط الأمم وأخصهم وقد نزل عليها أشرف الكتب وأعلاها وأقومها من جهة الأحكام وأدومها إلى يوم القيام وقد نطق بهذه اللغة أفضل الأنبياء وخاتمهم وأشرفهم وفص خاتمهم أعني لغة العرب العرباء التي اختصت بالبلاغة والإعجاز وبسحر الكناية والمجاز وهل اختص غيرها بفنون لو عد اشهرها لبلغت إلى أربعين بل أكثر وهل شرف ما عداها بالتحدي حتى فاق واحد على مئين.

وقل لي: هل ظهرت العلوم ولو عقلية هكذا منقحة بلغة أخرى؟ أفليست هذه بالتعظيم والتبجيل أولى وأحرى فوجب الاعتناء بشأن هذه اللغة الجليلة المقدار بتمييز كيفيات حروفها بحسب المخارج. ثم أحوال تركيباتها بحسب الاشتقاق. ثم أحوال وضعها للمعاني. ثم تبديل بعض حروفها إلى آخر لتحصل الخفة. ثم كيفية إعراباتها ليسهل الانتقال منها إلى معانيها ثم تطبيقها المقتضى الحال لرفع شأن الكلام ثم إيرادها بعبارات جلية لئلا يعسر فهم المعاني الدقيقة على أذهان لقبولها ثم معرفة أحوال الخطوط الدالة عليها فهذه أصول العلوم العربية ولها فروع كثيرة. ثم اعلم أن العلوم الأدبية ثلاث أنواع لأنها إما باحثة عن المفردات أو عن المركبات أو عن فروعها ففيها ثلاث شعب: الأولى: فيما يتعلق بالمفردات انتهى. وذكر في هذه الشعبة علم مخارج الحروف وعلم اللغة وعلم الوضع وعلم الاشتقاق وعلم الصرف وعلم النحو وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم العروض وعلم القوافي وعلم قرض الشعر وعلم مبادئ الشعر وعلم الإنشاء وعلم مبادئ الإنشاء وأدواته وعلم المحاضرة وعلم الدواوين وعلم التاريخ. قال: الشعبة الثالثة من الدوحة الثانية في فروع العلوم العربية وذكر فيها علم الأمثال وعلم وقائع الأمم وعلم استعمال الألفاظ وعلم الترسل وعلم الشروط والسجلات وعلم الأحاجي والأغلوطات وعلم الألغاز وعلم المعمى وعلم التصحيف وعلم المقلوب وعلم الجناس وعلم مسامرة الملوك وعلم حكايات الصالحين وعلم أخبار الأنبياء وعلم المغازي والسير وعلم تاريخ الخلفاء وعلم طبقات القراء وعلم طبقات المفسرين وعلم طبقات المحدثين وعلم سير الصحابة والتابعين وعلم طبقات الشافعية وعلم طبقات الحنفية وعلم طبقات المالكية وعلم طبقات الحنابلة وعلم طبقات النحاة وعلم طبقات الحكماء وعلم طبقات الأطباء. قال: الدوحة الثالثة وفيها شعبتان: الأولى: في العلوم الآلية التي تعصم عن الخطأ في الكسب وذكر في هذه الدوحة علم المنطق قال: الثانية في علوم تعصم عن الخطأ في المناظرة والدرس ثم ذكر في هذه علم آداب الدرس وعلم النظر وعلم الجدل وعلم الخلاف. قال: الدوحة الرابعة في العلم المتعلق بالأعيان. وهذا قسمان ما يبحث فيه بمجرد الرأي ومقتضى العقل فقط وهو العلوم الحكمية الباحثة عن أحوال الموجودات الخارجية بحسب الطاقة البشرية. وما يبحث فيه على قواعد الشرع وعلى تسليم المدعى وأخذه من الشرع هي علم أصول الدين وفيها مقدمة وعدة شعب.

المقدمة: اعلم أن العلوم الحكمية النظرية إما أن يبحث فيها عن موجود منزه عن المادة في الخارج وعند البحث أو يبحث عن موجود مقارن للمادة خارجا دون البحث أو يبحث عن موجود مقارن للمادة خارجاً وبحثاً. والقسم الأول: يسمى بالعلم الإلهي لبحثه عن الإلهيات وبالعلم الأعلى لعلو موضوعه بسبب تجرده عن المادة ويسمى بعلم ما بعد الطبيعة أيضا لقراءتهم إياها بعد العلم الطبعي. والقسم الثاني: يسمى بالرياضي لرياضة النفوس بها أولا إذ الأوائل كانوا يبتدئون في التعليم بها لكون دلائلها يقينية ولتعتاد النفوس باليقينيات بادئ بدء حتى كانوا يقدمونها على المنطق ويسمى بالعلم الأوسط أيضا لعدم تجرده عن المادة بالكلية ولعدم مقارنته إياها بالكلية. والقسم الثالث: يسمى بالعلم الطبعي لبحثه عن طبائع الأجسام وبالعلم الأولي لمقارنته بالمادة بالكلية فهذه هي الأصول الثلاثة للعلوم الحكمية انتهى. ثم ذكر كلا منها في شعبة ولكل منها فروع لا تحصى ثم ذكر فرع كل منها في شعبة أخرى فصارت الشعب ستة وقدم العلم الإلهي على الباقي لشرفه ثم ذكر الأوسط ثم الأدنى فقال: الشعبة الأولى: في العلم الإلهي والشعبة الثانية: في فروعه وهي علم معرفة النفوس الإنسانية وعلم معرفة النفوذ الملكية وعلم معرفة المعاد وعلم أمارات النبوة وعلم مقالات الفرق وعلم تقاسيم العلوم والشعبة الثالثة: في العلم الطبعي وله سبعة فروع وعند البعض عشرة وهي: 1 - علم الطب 2 - علم البيطرة والبيرزة 3 - علم الفراسة 4 - علم تعبير الرؤيا 5 - علم أحكام النجوم 6 - علم السحر 7 - علم الطلسمات 8 - علم السيميا 9 - علم الكيمياء 10 - علم الفلاحة وذلك لأن نظره إما في ما يتفرع على الجسم البسيط والمركب أو ما يعمهما. والأجسام البسيطة إما الفلكية فأحكام النجوم. وإما العنصرية فالطلسمات. والأجسام المركبة إما ما لا يلزمه مزاج وهو علم السيمياء. أو يلزمه مزاج فإما بغير ذي نفس فالكيمياء. أو بذي نفس. فإما غير مدركة كالفلاحة. أو مدركة. فإما مع كمال أن يعقل أولا. الثاني: البيطرة والبيرزة وما يجري مجراها والذي لذي النفس العاقلة هو الإنسان وذلك: إما في حفظ صحته واسترجاعها وهو الطب. أو أحواله الظاهرة الدالة على الأحوال الباطنة فالفراسة. أو أحوال نفسه حال غيبة عن حسه وهو تعبير الرؤيا والعام البسيط والمركب السحر ولهذه الفروع فروع يأتي ذكرها.

قال: الشعبة الرابعة: في فروع العلم الطبعي ثم ذكر فيها غير ما تقدم آنفا وعلم النبات علم الحيوان وعلم المعادن وعلم الجو وعلم الكون والفساد وعلم قوس قزح. قال: الشعبة الخامسة: فيها عدة عناقيد الأول منها: في فروع علم الطب وهي علم التشريح وعلم الكحالة وعلم الصيدلة وعلم طبخ الأشربة وعلم قلع الآثار من الثياب وعلم تركيب أنواع المداد وعلم الجراحة وعلم الفصد وعلم الحجامة وعلم المقادير والأوزان وعلم الباه. العنقود الثاني: في فروع علم القيافة وعلم الشامات والخيلان وعلم الأسارير وعلم الأكتاف وعلم قيافة الأثر وعلم قيافة البشر وعلم الاهتداء بالبراري والأقفار وعلم الريافة وعلم استنباط المعادن وعلم نزول الغيث وعلم العرافة وعلم الاختلاج. العنقود الثالث: في فروع أحكام النجوم واعلم أنها غير علم النجوم لأن الثاني: يعرف بالحساب فيكون من فروع الرياضي والأول: يعرف بدلالة الطبيعة على الآثار فيكون من فروع الطبعي وهي علم الاختيارات وعلم الرمل وعلم الفال وعلم القرعة وعلم الطيرة والزجر. العنقود الرابع: في فروع السحر، واعلم: أن استحداث الحوادث إن كان بمجرد التأثير النفساني فهو السحر،. وان كان على سبيل الاستعانات بالفلكيات فهو دعوة الكواكب،. وإن كان على سبيل تمزيج القوى البشرية بالأرضية فهو الطلمسات،. وإن كان على سبيل الاستعانة بالخواص الطبيعية فإما بالقراءة فهو علم الخواص والكتابة فهو علم النيرنجات. أو الأفعال غيرهما فهو الرقى. وإن كان على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة فهو العزائم. وإن كان بإحضار تلك الأرواح في قالب الأشباح فهو علم الاستحضار ويسمى: علم تسخير الجن. وأما الأخبار عن الحوادث الغير الحاضرة فإما عن الماضي أو الحال أو الاستقبال فهو علم الكهانة. ثم إن الإنسان كما يقدر على استحضار المجردات كذلك يقدر على تغييب الحاضر عن الحس ويسمى علم الإخفاء. وكذلك على إخفاء الأمور الحاضرة عن الحاضرين ويسمى بالحيل الساسانية وأمثال ذلك كثيرة انتهى. ثم ذكر هذه العلوم على هذا النهج وعد منها علم القلفطيرات وعلم الكتابة المسمى بالسر المكتوم وعلم كشف الدك وعلم الشعبذة وعلم تعلق القلب وعلم الاستعانة بخواص الأدوية. قال: الشعبة الخامسة: في العلوم الرياضية وهي العلوم الباحثة عن أمور يصح تجردها عن المادة في الذهن فقط وتنحصر هذه في أربعة أقسام. لأن نظرها إما عن الكم المتصل. أو عن الكم المنفصل وكل منهما إما قار الذات أولا فالأول: علم الهندسة والثاني: الهيئة والثالث: العدد والرابع: الموسيقى.

الشعبة السادسة: في فروع علم الهندسة وعد منها: علم عقود الأبنية وعلم المناظر وعلم المرايا المحرقة وعلم مراكز الأثقال وعلم جر الأثقال وعلم المساحة وعلم أنباط المياه وعلم الآلات الحربية وعلم الرمي وعلم التعديل وعلم النبكامات وعلم الملاحة والسباحة وعلم الأوزان والموازين وعلم الآلات المبنية على ضرورة عدم الخلاء. قال: الشعبة السابعة: في فروع علم الهيئة وذكر فيها علم الزيجات والتقاويم وعلم كتابتها وعلم حساب النجوم وعلم كيفية الإرصاد وعلم الآلات الرصدية وعلم المواقيت وعلم الآلات الظلية وعلم الأكر وعلم الأكر المتحركة وعلم تسطيح الكرة وعلم صور الكواكب وعلم مقادير العلويات وعلم منازل القمر وعلم جغرافيا وعلم مسالك البلدان والأمصار وعلم معرفة البرد ومسافاتها وعلم خواص الأقاليم وعلم الأدوار والأكوار وعلم القرانات وعلم الملاحم وعلم مواسم السنة وعلم مواقيت الصلاة وعلم وضع الاسطرلاب وعلم عمل الاسطرلاب وعلم وضع ربع الدائرة وعلم عمل ربع الدائرة وعلم آلات الساعة. الشعبة الثامنة: في فروع علم العدد منها: علم الحساب وعلم حساب التخت والميل وعلم الجبر والمقابلة وعلم حساب الخطاءين وعلم حساب الدرهم والدينار علم حساب الدور والوصايا وعلم حساب العقود وعلم أعداد الوفق والدفق وعلم التعابي العددية. الشعبة التاسعة: في فروع علم الموسيقى منها: الآلات العجيبة وعلم الرقص وعلم الغنج. قال: الدوحة الخامسة في الحكمة العملية وأن الإنسان لما كان مدني الطبع وكان أشخاصه إلا شرذمة ممن عصمهم الله تعالى - وقليل ما هم - مجبولين على جلب المنافع ودفع المضار بحيث يريدون أخذ ما في أيدي الآخرين بقوتهم الشهوية ودفع ما يزاحمه في ذلك بقوتهم الغضبية وكأن ذكل مؤديا إلى التقاتل والتشاجر ولا أقل من العداوة والشحناء وهذه الأمور منافية لقضية التمدن والاجتماع وعمارة المدن في الأصقاع اقتضت الحكمة الإلهية لطفا منه ورحمة أن يشرف خواص عباده وهم الرسل والأنبياء عليهم السلام بوحي من عنده يتضمن قوانين ينتظم برعايتها أحوال المعاش ويكمل بإجرائها أحوال المعاد وتلك القوانين هي الشرائع النبوية والنواميس الإلهية ثم إن الحكماء استنبطوا من الشرائع السابقة قوانين متعلقة بتكميل الأخلاق وانتظام تدبير المنزل وتدبير المدينة وسموها حكمة عملية نذكر كلا منها في شعبة. الشعبة الأولى: علم الأخلاق. الثانية: علم تدبير المنزل. الثالثة: علم السياسة. الرابعة: في فروع الحكمة العملية منها علم آداب الملوك وعلم آداب الوزارة وعلم الاحتساب وعلم قود العساكر. الدوحة السادسة: في العلوم الشرعية. اعلم أن العلوم الاعتقادية: إما متعلقة بالنقل أو فهم المنقول وتقريره وتشييده بالأدلة أو استخراج الأحكام المستنبطة.

فالنقل: إن كان مما أتى به الرسول بواسطة الوحي فهو علم القرآن. أو بما صدر عن نفسه المؤيدة بالعصمة فعلم رواية الحديث. وفهم المنقول: إن كان من كلام الله تعالى فعلم تفسير القرآن. أو من كلام الرسول فعلم دراية الحديث. والتقرير: إما الآراء فعلم أصول الدين. أو الأفعال فعلم أصول الفقه. أو استخراج الأحكام من أدلتها فعلم الفقه. ومنافع هذه العلوم جمة: إما في الدنيا فحفظ المهج والأموال وانتظام سائر الأحوال وإما في الآخرة فالنجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم وفي هذه الدوحة شعب. الأولى: علم القراءة. الثانية: علم رواية الحديث. الثالثة: علم تفسير القرآن. الرابعة: علم دراية الحديث. الخامسة: علم أصول الدين المسمى بالكلام. السادسة: علم أصول الفقه. السابعة: علم الفقه. الثامنة: فروع العلوم الشرعية وهي: علم معرفة الشواذ وتفرقتها من المتواتر وعلم مخارج الحروف وعلم مخارج الألفاظ وعلم الوقوف وعلم علل القراآت وعلم رسم كتابة القرآن وعلم آداب كتابة المصحف. ومن فروع علم الحديث: علم شرح الحديث وعلم أسباب ورود الأحاديث وعلم ناسخ الحديث ومنسوخه وعلم تأويل أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم رموز أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم غرائب لغات الحديث وعلم دفع مطاعن الحديث وعلم تلفيق الأحاديث وعلم أحوال رواة الأحاديث وعلم طب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما فروع علم التفسير فالقرآن بحر لا تنقضي عجائبه قال: ولنذكر منها قدر ما تفي به قوة التقرير ويحيط به نطاق التحرير ثم ذكر علم معرفة المكي والمدني وغيره من الأنواع التي ذكرها السيوطي في الإتقان وجعل كل نوع علما مستقلا وليس كما ينبغي لكن ذكرناها في هذا الكتاب مرتبا تبعا له - رحمه الله - تعالى كما ستقف عليه. قال: هذا الذي ذكرته من فروع علم التفسير هي ما وقع في كتاب الإتقان وهذا بعض من علوم عددها من فروع علم التفسير بأدنى الملابسة فلنذكر هاهنا علم خواص الحروف علم معرفة الخواص الروحانية علم التصرف بالحروف والأسماء علم الحروف النورانية والظلمانية علم التصرف بالاسم الأعظم علم الكسر والبسط علم الجفر والجامعة علم الزائرجة علم دفع مطاعن القرآن. ومن فروع علم الحديث أيضا: علم المواعظ وعلم الأدعية والأوراد وعلم الآثار وعلم الزهد

والورع وعلم صلاة الحاجات وعلم المغازي. وأما فروع علم أصول الدين فاعلم أن موضوع الكلام على ما تقرر رأي المحققين عليه هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية ولا شك أن موضوعات جميع العلوم مندرجة تحت المعلوم وقد تقرر في موضوعات أن الأصالة والفرعية في العلوم بحسب عموم الموضوع وخصوصه فيكون جميع العلوم الشرعية من فروع علم أصول الدين. وأما فروع علم أصول الفقه فمنها: علم النظر وعلم المناظرة وعلم الجدل وعلم الخلاف. وأما فروع علم الفقه فمنها: علم الفرائض وعلم الشروط والسجلات وعلم معرفة حكم الشرائع وعلم الفتاوى قال: هذا آخر ما تيسر لي من تفصيل العلوم النظرية التي ضمنها الطرف الأول من هذا المختصر ولنشرع بعد هذا في العلوم المتعلقة بالأعمال وهي علوم التصفية. والمعرفة على نوعين: أحدهما: المعرفة بطريق النظر وهي لا تكمل إلا بالعمل. وثانيهما: المعرفة بطريق العمل وهي غاية المعرفة بالله تعالى والعلم المتعلق بالأول يسمى علم الدراسة لحصوله بالدرس والتكرار. والعلم المتعلق بالثاني يسمى علم الوارثة لكونه مما يورثه العمل ويسمى أيضا بعلم التصفية وعلم الباطن وعلم الحال وعلم المكاشفة وعلم الحقائق وهذا الطرف الثاني أربعة أقسام: الأول: في العلوم المتعلقة بالعبادات منها: علم أسرار الطهارة وعلم أسرار الصلاة وعلم أسرار الزكاة وعلم أسرار الحج. والقسم الثاني: في العلوم المتعلقة بالعادات منها: علم آداب الأكل وعلم آداب النكاح وعلم آداب الكسب علم آداب الصحبة والمعاشرة وعلم آداب العزلة وعلم آداب السفر وعلم آداب السماع والوجد وعلم آداب الحسبة وعلم آداب النبوة. القسم الثالث: في الأخلاق المهلكات منها: عجائب القلب وعلم رياضة النفس وتهذيب الأخلاق وعلم فضيلة كسر الشهوتين وعلم آداب اللسان وآفاته وعلم آفات الغضب وعلم آفات الدنيا وعلم آفات المال وعلم آفات الجاه وعلم آفات الريا وعلم آفات الكبر وعلم آفات العجب وعلم آفات الغرور. والقسم الرابع: في الأخلاق المنجيات منها: علم آداب التوبة علم فوائد الصبر وعلم منافع الشكر وعلم منافع الرجا وعلم منافع الخوف وعلم فوائد الفقر وعلم فوائد الزهد وعلم فوائد التوكل وعلم فوائد المحبة وعلم فوائد الشوق وعلم فوائد الأنس وعلم فوائد الرضا وعلم فوائد النية وعلم فوائد الإخلاص وعلم فوائد الصدق وعلم فوائد المراقبة وعلم فوائد المحاسبة وعلم فوائد التفكر وعلم فوائد ذكر الموت والبعث والنشور. قال: خاتمة الرسالة في شرائط الطريقة وآدابها منها: شرائط الشيخ، وشرائط المريد وآداب الخرقة في إلباسها وآداب التاج وآداب السجادة انتهى.

ولم نذكر ما ذكره في هذه الخاتمة في كتابنا هذا لأنه ليس علما برأسه وقد تقدم في القسم الأول من كتابنا هذا فصل مستقل في ذكر تقسيم العلوم المدونة وأحسن التقاسيم منها: التقسيم الخامس على ما ذكره صاحب مفتاح السعادة وهو مستقل على ما ذكرناه من العلوم هاهنا ولا مضايقة في بعض التكرار عند جدة الفوائد والأذكار1.

_ 1 يزداد ولم نقف في كتاب "مفتاح السعادة" إلا على ما تقدم عن لما كاتب الجلبي في كشق الظنون ووقفنا على كتاب مدينة العلوم فوجدناه كأنه مولاوكس في العبارة ولاشطط في الإشارة لكن لم يتعرض لذكره صاحب الكشف كما تعرض لذكر المفتاح مع أنه مقدم التأليف فلم يحصل الفرق لنا بين هذين الكتابين في المبنى والمعنى غير أنهما متفاوتان اسماً ومتحدان مسمى فمن وقف على ذلك وعرف ماهناك فليتفضل علينا بتحرير حقيقة الأمر على حاشية كتابنا هذا ولا يجهل علينا وبالله التوفيق منه دام مجده.

باب الألف

باب الألف علم الأبعاد والأجرام وهو علم يبحث فيه عن أبعاد الكواكب عن مركز العالم ومقدار جرمها أما بعدها فيعلم بمقدار واحد كنصف قطر الأرض الذي يمكن معرفته بالفراسخ والأميال. وأما أجرامها فيعرف مقدارها كجرم الأرض. واعلم أن مباحث هذا الفن في غاية البعد عن القبول ولذلك ترى أكثر الناس إذا سمعوا لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وقالوا إن هذا إلا كذب مفترى وذلك لعدم اطلاعهم على أحكام الهندسة والمناظر واعتقادهم أنه لا سبيل إلى ذلك التقدير إلا بالصعود والقرب من تلك الأجرام ومساحتها بالأيدي والأقدام ومن المختصرات في هذا الفن سلم السماء. علم الآثار هو فن باحث عن أقوال العلماء الراسخين من الأصحاب والتابعين لهم وسائر السلف وأفعالهم وسيرهم في أمر الدين والدنيا. ومباديه أمور مسموعة من الثقات. والغرض منه معرفة تلك الأمور ليقتدى بهم وينال ما نالوه وهذا الفن أشد ما يحتاج إليه علم الموعظة هذا ما قاله لطف الله في موضوعاته وقد نقله طاشكبري زاده بعبارته في مفتاح السعادة ثم قال: ومن الكتب المصنفة في هذا العلم كتاب سير الصحابة والتابعين والزهاد للأندر سقاني وكتاب روض الرياحين لليافعي وغير ذلك انتهى. وأما آثار الطحاوي وشرح مشكله مع ما يتعلق به فإن معنى آثاره معنى مغاير لتعريف هذا العلم وهو على ما في كتب أصول الحديث بمعنى الخبر. قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني في نخبة الفكر: إن كان اللفظ مستعملا بقلة احتيج إلى الكتب المصنفة في شرح الغريب وإن كان مستعملا بكثرة لكن في مدلوله دقة احتيج إلى الكتب المصنفة

في شرح معاني الأخبار وبيان المشكل منها وقد أكثر الأئمة من التصانيف في ذلك كالطحاوي والخطابي وابن عبد البر وغيرهم رحمهم الله تعالى انتهى. علم الآثار العلوية والسفلية هو علم يبحث فيه عن المركبات التي لا مزاج لها وتتعرف منه أسباب حدوثها. وهو ثلاثة أنواع لأن حدوثه إما فوق الأرض أعني في الهواء وهو كائنات الجو وإما على وجه الأرض كالأحجار والجبال وإما في الأرض كالمعادن وفيه كتب للحكماء منها كتاب السماء والعالم. علم الأحاجي والأغلوطات من فروع اللغة والصرف والنحو والأحاجي جمع أحجية كالأضحية كلمة مخالفة المعنى. وهو علم يبحث فيه عن الألفاظ المخالفة لقواعد العربية بحسب الظاهر وتطبيقها عليها إذ لا يتيسر إدراجها فيها بمجرد القواعد المشهورة. وموضوعه الألفاظ المذكورة من الحيثية المذكورة. ومباديه مأخوذة من العلوم العربية. وغرضه تحصيل ملكة تطبيق الألفاظ التي تتراءى بحسب الظاهر مخالفة لقواعد العرب. وغايته: حفظ القواعد العربية عن تطرق الاختلال. والاحتياج إلى هذا العلم: من حيث أن ألفاظ العرب قد يوجد فيها ما يخالف قواعد العلوم العربية بحسب الظاهر بحيث لا يتيسر إدراجه فيها بمجرد معرفة تلك القواعد فاحتيج إلى هذا الفن. وللزمخشري المتوفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة تأليف لطيف في هذا الفن سماه الحاجات. وللشيخ علم الدين علي بن محمد السخاوي الدمشقي المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة شرح هذا المتن الدقيق التزم فيه أن يعقب كل أحجية في الزمخشري بلغزين من نظمه. وأبو المعالي سعد بن علي الوراق الحطيري المتوفى سنة ثمان وستين وخمسمائة صنف فيه أيضا والسادسة والثلاثون التي تعرف بالملطية من المقامات الحريرية في هذا المعنى فمنها للمثال: يا من سما بذكاء. في الفضل وأرى الزناد. ماذا يماثل قولي. جوع أمد بزاد. يا ذا الذي فاق فضلا. ولم يدنسه شين. ما مثل قول الحاجي. ظهر أصابته عين. فطريق معرفة المماثلة فيه: أن تنظر جوع أمد بزاد فتقابله بطوامير لأن طوى مثل الجوع في المعنى ومير مثل أمد بزاد لأن مير الإمداد بالزاد وكذا تقابل ظهر أصابته عين بقولك: مطاعين فتجد المطا الظهر وعين الرجل أصيب بالعين. فإذا تركت الألفاظ بغير تقسيم يظهر لك معنى آخر وهو أن الطوامير الكتب والواحد طومار والمطاعين جمع مطعان وهو كثير الطعن وعليه فقس. علم الاحتساب وهو النظر في أمور أهل المدينة بإجراء مراسم معتبرة في الرياسة الاصطلاحية ونهي ما يخالفها وتنفيذ

ما تقرر في الشرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والسلطان بالنسبة إلى الملك بمنزلة الرأس من البدن الذي هو منبع الرأي والتدبير. والوزير بمنزلة اللسان المعبر عما في الضمير. وأهل الاحتساب بمنزلة الأيدي والأقدام والمماليك والخدم ولن يتم أمر الملك إلا بهؤلاء الثلاث هذه عبارة قديمة العلوم. وقال في كشف الظنون: هو علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها من حيث إجرائها على القانون العدل بحيث يتم التراضي بين المعاملين وعن سياسة العباد بنهي المنكر وأمر المعروف بحيث لا يؤدي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع. ومباديه: بعضها فقهي وبعضها أمور استحسانية ناشئة من رأي الخليفة. والغرض من تحصيل الملكة في تلك الأمور. وفائدته: إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتم وهذا من أدق العلوم ولا يدركه إلا من له فهم ثاقب وحدس صائب إذ الأشخاص والأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة فلا بد لكل واحد من الأزمان والأحوال سياسة خاصة وذلك من أصعب الأمور فلذلك لا يليق بمنصب الاحتساب إلا من له قوة قدسية مجردة عن الهوى كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان عالما في هذا الشأن كذا في موضوع لطف الله. وعرفه أبو الخير بالنظر في أمور أهل المدينة بإجراء ما رسم في الرياسة وما تقرر في الشرع ليلا ونهارا سرا وجهارا ثم قال: وعلم السياسة المدنية مشتمل على بعض لوازم هذا المنصب ولم نر كتابا صنف فيه خاصة وذكر في الأحكام السلطانية ما يكفي. انتهى. أقول فيه كتاب نصاب الاحتساب خاصة ذكر فيه مؤلفه أن الحسبة في الشريعة تتناول كل مشروع بفعل الله - سبحانه وتعالى - كالأذان والإقامة وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها ولذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة وفي العرف مختص بأمور فذكرها إلى تمام خمسين وفيه كتب ذكرت في محالها انتهى ما في الكشف. علم الأحكام والأحكام: اسم متى أطلق في العقليات أريد به الأحوال الغيبية المستنتجة من مقدمات معلومة هي الكواكب من جهة وحركاتها ومكانها وزمانها. وفي الشرعيات: يطلق على الفروع الفقهية المستنبطة من الأصول الأربعة وسيأتي في علم الفقه. وأما الأول: فهي الاستدلال بالتشكلات الفلكية من أوضاعها وأوضاع الكواكب من المقابلة والمقارنة والتثليث والتسديس والتربيع على الحوادث الواقعة في عالم الكون والفساد وفي أحوال الجود والمعادن والنبات والحيوان. وموضوعه: الكواكب بقسميها.

ومباديه: اختلاف الحركات والأنظار والقرآن. وغايته: العلم بما سيكون بما أجرى الحق من العادة بذلك مع إمكان تخلفه عندنا كمنافع المفردات ومما يشهد بصحته بنية بغداد فقد أحكمها الواضع والشمس في الأسد وعطارد في السنبلة والقمر في القوس فقضى الحق أن لا يموت فيها ملك ولم يزل كذلك وهذا بحسب العموم وأما بالخصوص فمتى علمت مولد شخص سهل عليك الحكم بكل ما يتم له من مرض وعلاج وكسب وغير ذلك كذا في تذكرة داوود ويمكن المناقشة في شاهدة بعد الإمعان في التاريخ لكن لا يلزم من الجرح بطلان دعواه. وقال أبو الخير: وأعلم أن كثيرا من العلماء على تحريم علم النجوم مطلقا وبعضهم على تحريم اعتقادات الكواكب مؤثرة بالذات. وقد ذكر عن الشافعي أنه قال: إن كان المنجم يعتقد أن لا مؤثر إلا الله - سبحانه وتعالى - لكن أجرى الله عادته بأن يقع كذا عند كذا والمؤثر هو الله - سبحانه وتعالى - فهذا عندي لا بأس به وحيث جاء الذم ينبغي أن يحمل على من يعتقد تأثير النجوم بذاتها ذكره ابن السبكي في طبقاته الكبرى وفي هذا الباب أطنب صاحب مفتاح السعادة إلا أنه أفرط في الطعن قال: واعلم أن أحكام النجوم غير علم النجوم لأن الثاني يعرف بالحساب فيكون من فروع الرياضي. والأول يعرف بدلالة الطبيعة على الآثار فيكون من فروع الطبيعي ولها فروع منها: علم الاختيارات وعلم الرمل وعلم الفال وعلم القرعة وعلم الطيرة والزجر انتهى. قلت: والحق في ذلك ما دلت عليه الأحاديث لا ما اقترحه الرجال بآرائهم الفاسدة وعقولهم الكاسدة. قال في مدينة العلوم: ومن المختصرات فيه مجمل الأصول لكوشيار والجامع الصغير لمحيي الدين المغربي. ومن المتوسطات كتاب البارع والمغني. ومن المبسوطة مجموع ابن شرع والأدوار لأبي معشر والإرشاد لأبي ريحان البيروني والمواليد للخصبي والتحاويل للسنجري والقرانات للبازيار والمسائل للقصراني والاختيارات العلائيةو ودرج الفلك لتكلوشا والتفهم للبيروني وقال: في كشف الظنون فيه كتب كثيرة. علم أحوال رواة الحديث من وفياتهم وقبائلهم وأوطانهم وجرحهم وتعديلهم وغير ذلك وهذا العلم من فروع التواريخ من وجه ومن فروع الحديث من وجه آخر وفيه تصانيف كثيرة ذكره أبو الخير وقد أورده من جملة فروع الحديث ولا يخفى أنه علم أسماء الرجال في اصطلاحات أهل الحديث. علم أخبار الأنبياء وهذا من فروع علم التواريخ وقد اعتنى بها العلماء وهو حقيق بالاعتناء وأفردها بالتدوين جماعة منها: قصص الأنبياء لابن الجوزي وغيره من العلماء الكرام رحمهم الله تعالى.

علم الاختلاج وهو من فروع علم الفراسة. قال أبو الخير: هو علم باحث عن كيفية دلالة اختلاج أعضاء الإنسان من الرأس إلى القدم على الأحوال التي ستقع عليه وأحواله ونفعه. والغرض منه ظاهر لكنه علم لا يعتمد عليه لضعف دلالته وغموض استدلاله ورأيت في هذا العلم رسائل مختصرة لكنها لا تشفي العليل ولا تسقي الغليل انتهى ومثله في مدينة العلوم. قال الشيخ داوود الإنطاكي في تذكرته: اختلاج حركة العضو والبدن غير إرادية تكون عن فاعل هو النجار. ومادي هو الغداء المبخر وصوري هو الاجتماع وغائي هو الاندفاع ويصدر عنه اقتدار الطبع وحال البدن معه كحال الأرض مع الزلزلة عموما وخصوصا وهو مقدمة لما سيقع للعضو المختلج من مرض يكون عن خلط يشابه البخار المتحرك في الأصح وفاقا. وقال جالينوس: العضو المختلج أصح الأعضاء إذ لو لم يكن قويا ما تكاثف تحته البخار كما أنه لم يجتمع في الأرض إلا تحت تخرم الجبال وقال: وهذا من فساد النظر في العلم الطبيعي لأن علة الاجتماع تكاثف المسام واشتدادها لا قوة الجسم وضعفه ومن ثم لم يقع في الأرض الرخوة مع صحة تربتها ولا نشاهد انصباب المواد إلى الأعضاء الضعيفة ولأن الاختلاج يكثر جدا في قليل الاستحمام والتدليك دون العكس وعده أكثر الناس علما وقد أناطوا به أحكاماً. ونسب إلى قوم من الفرس والعراقيين والهند كطمطم وإقليدس ونقل فيه كلام عن جعفر بن محمد الصادق وعن الإسكندر ولم يثبت على أن توجيه ما قيل عليه ممكن لأن العضو المختلج يجوز استناد حركته إلى حركة الكوكب المناسب له لما عرفناك من تطابق العلوي والسفلي في الأحكام وهذا ظاهر انتهى والرسائل المذكورة مسطورة في محلها. علم الاختيارات هو من فروع علم النجوم. فهو علم باحث عن أحكام كل وقت وزمان من الخير والشر الجاريين في العالم السفلي بحسب تبدل أحوال القمر في منازله وأوضاع الكواكب وأوقات يجب الاحتراز فيها عن ابتداء الأمور وأوقات يستحب فيها مباشرة الأمور وأوقات يكون مباشرة الأمور فيها بين بين. ثم كل وقت له نسبة خاصة ببعض الأمور بالخيرية وببعضها بالشرية وذلك بحسب كون الشمس في البروج والقمر في المنازل والأوضاع الواقعة بينهما من المقابلة والمقارنة والتثليث والتربيع والتسديس وغير ذلك حتى يمكن بسبب ضبط هذه الأحوال اختيار وقت لكل أمر من الأمور التي تقصد كالسفر

والبناء وقطع الثوب إلى غير ذلك من الأمور. وفيه كتب كثيرة منها: كتب بطليموس وواليس المصري ودرونيوس الإسكندراني وكتاب أبي معشر البلخي وكتاب عمر بن فرحان الطبري وكتاب أحمد بن عبد الجليل السنجري وكتاب محمد بن أيوب الطبري وكتاب يعقوب بن علي القصراني رتب على مقالتين عشرين بابا وكتاب كوشيار بن لبان الجيلي وكتاب سهل بن نصر وكتاب كنكة الهندي وكتاب ابن علي الخياط وكتاب الفضل بن بشر وكتاب أحمد بن يوسف وكتاب الفضل بن سهل وكتاب نوفل الحمصي وكتاب أبي سهل مأجور وأخويه وكتاب علي بن أحمد الهمداني وكتاب الحسن بن الخطيب وكتاب أبي الغنائم بن هلال وكتاب هبة الله بن شمعون وكتاب أبي نصر بن علي القمي وكتاب أبي نصر القبيصي وكتاب أبي الحسن ابن علي بن نصر واختيارات الكاشفي فارسي على مقدمة ومقالتين وخاتمة والاختيارات العلائية المسماة ب الأحكام العلائية في الأعلام السماوية واختيارات أبي الشكر يحيى بن محمد المغربي وغير ذلك ونفع هذا العلم بين لا يخفى على أحد. علم الإخفاء وهو علم يتعرف منه كيفية إخفاء الشخص نفسه عن الحاضرين بحيث يراهم ولا يرونه وله دعوات وعزائم إلا أن صاحب مدينة العلوم قال: إن الغالب على ظني أن ذلك لا يمكن إلا بالولاية بطريق خرق العادة لا بمباشرة أسباب يترتب عليها ذلك عادة. علم الأخلاق هو قسم من الحكمة العملية. قال الأرنيقي في مدينة العلوم: هو علم يعرف منه أنواع الفضائل وهي اعتدال ثلث قوي وهي القوة النظرية والغضبية والشهوية منها أوساط بين الرذيلتين. الحكمة: وهي كمال القوة النظرية وهي التوسط بين الرذيلتين البلادة والجريزة الأول تفريطها والثاني إفراطها. والشجاعة: وهي كمال القوة الغضبانية وهي التوسط بين الرذيلتين الجبن والتهور الأول تفريطها والثاني إفراطها. والعفة: وهي كمال القوة الشهوية وهي التوسط بين الرذيلتين الخمود والفجور والأول تفريطهما والثاني إفراطها وهذه الثلاثة أعني الحكمة والشجاعة والعفة تذكر في علم الأخلاق تعريفاتها. ثم طريق العلاج بأن يفتر عن طرفي التوسط ويعتدل في الوسط وخير الأمور أوساطها. وموضوع هذا العلم: الملكات النفسانية من حيث تعديلها بين الإفراط والتفريط. ومنفعته: أن يكون الإنسان كاملة أفعاله بحسب الإمكان ليكون أولاه سعيدا أو أخراه حميدا انتهى. قال ابن صدر الدين في الفوائد الخاقانية: وهو علم بالفضائل وكيفية اقتنائها لتتحلى النفس بها وبالرذائل وكيفية توقيها لتتخلى عنها.

فموضوعه: الأخلاق والملكات والنفس الناطقة من حيث الاتصاف بها وهاهنا شبهة قوية وهي أن الفائدة في هذا العلم إنما تتحقق إذا كانت الأخلاق قابلة للتبديل والتغيير والظاهر خلافه كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام". وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أيضا: "إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا أو إذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوا فإنه سيعود إلى ما جبل عليه" وقوله عز وجل {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ناظر إليه أيضا. وأيضا الأخلاق تابعة للمزاج والمزاج غير قابل للتبديل بحيث يخرج عن عرضه. وأيضا السيرة تقابل الصورة وهي لا تتغير. والجواب: إن الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير فكر وروية. والملكة راسخة في النفس لا تزول بسرعة وهي قسمان: أحدهما طبيعية والآخر عادية. أما الأولى: فهي أن يكون مزاج الشخص في أصل الفطرة مستعدا لكيفية خاصة كامنة فيه بحيث يتكيف بها بأدنى سبب كالمزاج الحار اليابس بالقياس إلى الغضب والحار الرطب بالقياس إلى الشهوة والبارد الرطب بالنسبة إلى النسيان والبارد اليابس بالنسبة إلى البلادة. وأما العادية فهي: أن يزاول في الابتداء فعلا باختياره وبتكرره والتمرن عليه يصير ملكة حتى يصدر عنه الفعل بسهولة من غير روية. ففائدة هذا العلم بالقياس إلى الأولى إبراز ما كان كامنا في النفس وبالقياس إلى الثانية تحصيلها وإلى هذا يشير ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولهذا قيل: إن الشريعة المصطفوية قد قضت الوطر عن أقسام الحكمة العملية على أكمل وجه وأتم تفصيل انتهى. وفيه كتب كثيرة منها: أخلاق الأبرار والنجاة من الأشرار لأبي حامد الغزالي وأخلاق الشيخ الرئيس وأخلاق راغب وأخلاق علائي وأخلاق عضد الدين الأيجي وأخلاق فخر الدين الرازي وأخلاق الناصري ورسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأخلاق جلالي للمحقق الدواني. وعبارة مدينة العلوم ومن الكتب المختصرة فيه كتاب البر والإثم لأبي علي ابن سينا وكتاب الفوز لأبي علي مسكويه ومن المبسوطة كتاب الإمام فخر الدين بن الخطيب الرازي انتهى قلت: وقد قضت الشريعة المصطفوية حق علم الأخلاق فلم تدع لأحد فيه مثالا يقوله وكلاما يتلكم به فالكتاب والسنة يكفيان لمن يريد إدراك هذا العلم والتحلي به عن تلك الكتب المشار إليها فإن الصباح يغني عن المصباح علم آداب الأكل وهل حل الطعام كسبا بعد حله في نفسه شرعا وغسل اليد قبل الطعام وبعده ووضع الطعام على السفرة لأنه أقرب إلى التواضع والجثو على الركبة عند الأكل وأن ينوي عند الأكل أن يقوى على الطاعة وأن يقنع بالحاضر وأن يجتهد في تكثير الأيدي على الطعام وأن يبدأ ببسم الله ويختم بحمد الله،

ويلعق أصابعه، ويلقط فتات الطعام، ولا يبتدي به قبل من يستحق التقديم لكبر سنه أو فضله ولا يسكت بل يتكلم بالمعروف وحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها وهذا العلم مدون في كتب علم الحديث وذكره في مدينة العلوم وهكذا وهو من العلوم المتعلقة بالعادات. علم آداب البحث ويقال له علم المناظرة قال أبو الخير في: مفتاح السعادة: هو علم يبحث فيه عن كيفية إيراد الكلام بين المناظرين. وموضوعه: الأدلة من حيث أنها يثبت بها المدعى على الغير ومباديه أمور بينة بنفسها. والغرض منه: تحصيل ملكة طرق المناظرة لئلا يقع الخبط في البحث فيتضح الصواب انتهى وقد نقله من موضوعات لطفي بعبارته ثم أورد بعض ما يذكر هاهنا من المؤلفات. قال ابن صدر الدين في: الفوائد الخاقانية: وهذا العلم كالمنطق يخدم العلوم كلها لأن البحث والمناظرة عبارة عن النظر من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا للصواب لا إلزاما للخصم والمسائل العلمية تتزايد يوما فيوما بتلاحق الأفكار والأنظار فلتفاوت مراتب الطبائع والأذهان لا يخلو علم من العلوم عن تصادم الآراء وتباين الأفكار وإدارة الكلام من الجانبين للجرح والتعديل والرد والقبول إلا أنه بشرائط معتبرة مشروط وبرعاية الأصول منوط وإلا لكان مكابرة غير مسموعة فلا بد من قانون يعرف به مراتب البحث انتهى قوله. وإلا لكان مكابرة أي وإن لم يكن البحث لإظهار الصواب لكان مكابرة. وفيه مؤلفات أكثرها مختصرات وشروح للمتأخرين. منها: آداب شمس الدين السمرقندي وهي أشهر كتب الفن ووآداب عضد الدين الأيجي ووآداب أحمد بن سليمان كمال باشا ووآداب أبي الخير أحمد بن مصطفى طاشكبري زاده المتوفى سنة اثنتين وستين وتسعمائة وهو جامع لمهمات هذا الفن مفيد جدا إلى غير ذلك. علم آداب التوبة وحقيقتها ترك الذنب في الحال والعزم على ذلك في الاستقبال والندم على ما مضى بتلافي ما فات وشرط صحتها في الماضي: أن يتكامل في كل طاعة تركها وفي كل معصية فعلها في ساعات عمره فيتوب عنها إلى الله تعالى بالندم والتحسر عليها ويحسب عددها ويعمل مكان كل سيئة حسنة ليمحوها بها وكذا يتأمل في مظالم العباد ويفعل مكان كل ظلم منها حسنة لصاحبها. وآداب التوبة وشروطها وما يليها مشروحة في كتاب الإحياء للغزالي وهذا العلم معدود في علوم الأخلاق المنجيات على ما ذكره في مدينة العلوم. علم آداب الحسبة هي من جملة الواجبات ولا بد وأن يكون المحتسب عالما بمواقع الحسبة وأن يكون ورعا حسن الخلق إذ العلم والورع لا يكفي في اللطف والرفق ما لم يكن لصاحبه حسن الخلق.

ومن آدابها تقليل العلائق، حتى لا يكثر خوفه ويقطع الطمع حتى تزول عنه المداهنة. وهذا العلم من العلوم المتعلقة بالعادات ذكره في مدينة العلوم وقد تقدم الكلام عليه أيضا في علم الاحتساب. علم آداب الدرس وهو العلم المتعلق بآداب تتعلق بالتلميذ مع الأستاذ وعكسه ومنفعته وغايته وغرضه ظاهرة جدا وقد استوفى هذا الباب في كتاب تعليم المتعلم مؤلفه - رحمه الله. علم آداب كتابة المصحف ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير وأنت تعلم أنه أشبه منه في كونه فرعا لعلم الخط. قال في: المدينة: هو علم يتعرف منه كيفية كتابة المصحف ليكون موافقا للآداب المعتبرة في الشرع والمستحسنة عند السلف. وفائدته غير خافية على أرباب البصائر منها: تحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط ويكره كتابته في الشيء الصغير وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى مصحفا قد كتب بقلم دقيق ضرب كاتبه وكان إذا رأى مصحفا عظيما سر به. وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يكره أن يتخذ المصاحف صغارا قالت الشافعية: وتكره كتابته على الحيطان والجدران وعلى السقوف أشد كراهية لأنه يوطأ انتهى. علم آداب السفر وهو نوعان ظاهر وباطن ولكل منهما آداب. أما الظاهر: فهو أن ينوي به طلب العلم أو العبادة أو يكون للهرب من مشوش في الدين أو في البدن كالمرض أو في المال كالغلا فإذا أراد بدأ برد المظالم والديوان والودائع وأعد النفقة له ولعياله من الحلال ثم يختار رفيقا يعينه على الدين وأن يستودع الله أهله وعياله ويصلي قبل السفر صلاة الاستخارة ثم يصلي في بيته أربع ركعات إذا شد عليه ثياب سفره ويخرج يوم الخميس ولا ينزل حتى يحمى النهار ولا يمشي متفردا عن القافلة ويرفق بالدابة راكبا ولا يحملها ما لا تطيق ولا يضرب في وجهها ويستصحب ستة أشياء السجنجل والساك والمكحلة والمشط والركوة والمقراض ويزيد ما شاء مما يحتاج إليه ويقدر عليه. وإذا قدم لا يطرق أهله ليلا بل يخبرهم قبل دخول البيت ويدخل أولا المسجد فيصلي ثم يدخل البيت ويحمل لأهل بيته وأقاربه تحفا من مطعوم أو ملبوس أو غير ذلك بذلك وردت السنة المطهرة وأما الباطن: فهو أن لا يسافر إلا لزيادة أمر ديني ويستفيد في كل بلدة من مشائخها أدبا أو كلمة ينتفع بها لا ليحكي ذلك عنهم فقط ويقيم بكل بلدة بقدر الحاجة لا أكثر من ذلك ولا يجالس فيها إلا العلماء أو الصلحاء الصادقين المتبعين للكتاب والسنة ويلازم في الطريق الذكر وقراءة القرآن وشغل العلم والكتابة والعمل الصالح وإذا تيسر خدمة قوم صالحين فبها ونعمت

وإن لم يحصل في السفر زيادة في الدين فليرجع إذ لو كان بحق لظهر أثره. علم آداب السماع والوجد. حرمه الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من المشائخ المعتد بهم في أمور الدين والآثار فيه كثيرة. ومن الصوفية من أباحه ولا بأس به فقد دلت السنة الصحيحة على ذلك بشرط أن لا يؤدي إلى المنكر في الشرع وقد حقق المقام الإمام الهمام شيخنا العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني في كتابه نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار وهو المعتمد. وأما الصوفية فقالوا: إن له مراتب سماع صوت طيب وهو: إما موزون أو غيره. ثم الموزون إما مفهوم أو غيره فهذه درجات. والصوت الطيب لا حرمة فيه بل هو حلال كصوت البلابل ونغمة العنادل ولا يتفاوت ذلك بصدوره عن حيوان أو عن حنجر إنسان. والموزون من حيث أنه موزون غير محرم إذ قد أنشد الشعر بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون الحرمة فيه إلا بحسب مفهومه. وإن كان محرما فيحرم سواء كان موزونا أو غير موزون وإلا فلا يحرم ولذا ورد الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. وإذا عرفت كون الشعر الحسن مباحا فاعلم أن الكلام الموزون والصوت الطيب يحرك القلب سرورا وانقباضا ونشاطا وغما وذلك مركوز في طبع الإنسان حتى الصبيان في المهد بل في طبع الحيوان أيضا كما يحكى من ميل الجمال إلى الأصوات الطيبة والحداء وإذا كان كذلك لم يجز أن يحكم مطلقا بإباحته وحرمته بل يختلف ذلك باختلاف وأحوال القلب. قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه بل يحرك ما هو فيه وذكر في مدينة العلوم سبعة مواضع للغناء ليس ذكرها مرادا لنا في هذا الموضع. علم آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق ولا بد أن يكون الغرض من الصحبة النفع الديني كاستفادة العلم والعمل وكاستفادة العز والجاه تحصنا به عن أذى من يشوش القلب وكاستفادة المال للاكتفاء به عن إضاعة الأوقات في طلب الأقوات وكالاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأهوال والنوائب وكالتبرك بمجرد الدعاء وكانتظار الشفاعة في الآخرة. ومن حقوق الصحبة: الاشتراك في المال مع عقد الأخوة والإعانة في قضاء الحاجات والسكوت عن ذكر عيوبه في حضرته وغيبته وذكر مناقبه في الغيب والعفو عن الزلات والهفوات والدعاء للأخ في حياته وبعد مماته والوفاء والإخلاص في المعاملة وترك التكليف في الصحبة. وهذا العلم من فروع علوم العادات على ما ذكره في مدينة العلوم.

علم آداب العزلة ولها فضائل وآفات وآداب أما الفضائل فست أولها: الفراغ للعبادات والاستيناس بمناجاة رب الأرباب عن مناجاة المخلوقات والاستكشاف بأسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السماء والأرض. وثانيها: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي لا يسلم منها الإنسان عند الصحبة إلا نادرا. ثالثها: الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس. رابعها: الخلاص من شر الناس من الغيبة له وسوء الظن به والتهمة عليه والاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعد الوفاء بها. خامسها: انقطاع طمع الناس عنه وانقطاع طمعه عنهم. سادسها: الخلاص من مشاهدة الثقلاء السفهاء ومقاساة أخلاقهم. وأما الآفات: فأولها فوات التعليم والتعلم وهما أعظم العبادات. ثانيها: فوات النفع والانتفاع لأن كلا منهما بالمخالطة. ثالثها: فوات التأدب والتأديب بكسر النفس وقهر الشهوات بتحمل أذى الناس. رابعها: فوات الاستيناس والإيناس بالصلحاء الأتقياء. خامسها: فوات نيل الثواب وإنالته. أما النيل: فبحضور الجمعة والجماعات والجنائز وعيادة المرضى وحضور العيدين. وأما الإنالة: فهي سد باب التعزية والتهنية والعيادة والزيارة إن كان عالما تقيا ففي هذه الصورة ينبغي أن يوازن ثواب هذه بآفاتها ويرجح ما ترجح. سادسها: فوت التجارب إذ العقل الغريزي غير كاف بها. وأما آدابها: فهي أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من الأشرار. ثانيا: ثم الخلاص من آفات الاختلاط. ثالثا: التجرد بكنه الهمة لعبادة الله. رابعا: ثم المواظبة في الخلوة على العلم والعمل والفكر والذكر والخلاص عن استماع أخبار الناس وأراجيف البلد اللذين يشوشان القلب لا سيما في الصلاة وهذا العلم ذكره في مدينة العلوم في العلوم المتعلقة بالعادات. علم آداب الكسب والمعاش وهي أن لا يغابن صاحبه فيما يتغابن فيه وأن يحتمل الغبن إن اشترى من ضعيف أو فقير. وأن يسامح في طلب الثمن وأن يحط فيه وأن لا يتقاضى المديون وأن يحتمل أذى الدائن وأن يقيل من يستقيله وأن يعلم مراتب الحلال والحرام والشبهات.

أما مراتب الحرام فأربع. إحداها: ورع العدول وهو أن يترك ما يحرمه فتاوى الفقهاء. وثانيتها: ورع الصالحين وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم. وثالثتها: أن يترك ما لا بأس به مخافة أن يقع فيما فيه بأس. ورابعتها: ورع الصديقين وهو ترك ما لا بأس به أصلا ولكن يخاف أن يكون لغير الله أولا على نية التقوى وعبادة الله أو يتطرق إلى أسبابه المسهلة له كراهية أو معصية. وأما مراتب الشبهات: فمعرفتها موقوفة على معرفة مراتب الحرام وقد مر ذكرها وعلى معرفة مراتب الحلال. وهي أن الحلال المطلق ما لا تتطرق إليه أسباب التحريم والكراهة ويقابله الحرام المحض وهذان العرفان ظاهران ليس فيهما شبهة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: الحلال بين والحرام بين وإنما مثار الشبهة خمسة: الأول: الشك في السبب المحلل والمحرم فهذه أربعة أقسام. الأول: أن يعلم المحلل قبل ويقع الشك في التحريم. والثاني: أن يعرف الحل من قبل ويشك في التحريم. الثالث: أن يكون الأصل التحريم وطرأ عليه سبب التحليل. الرابع: أن يكون الحل معلوما ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعا. والمثار الثاني: الشبهة شك منشأ الاختلاط بين الحلال والحرام. والمثار الثالث: المشبهة أن يتصل بالسبب المحلل معصية. المثار الرابعة: للشبهة الاختلاط في الأدلة وهذا كالاختلاط في السبب ثم إنه إذا وقع الحرام في ذمة أحد فإن وجد مالكه يدفعه إليه وإلا يرده وارثه وإن كان صاحب الحق غائبا ينتظر إليه وإن انقطع الرجاء عنه ولم يكن له وارث أو كان المال لم يمكن رده لكثرة الملاك كالغلول في مال الغنيمة فحكم هذا المال أن يتصدق به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهديت له شاة مصلية فكلمته الشاة بأنها حرام قال: "أطعموها الأسارى" وكذلك ورد في ذلك الأثر عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى يوم الدين. علم آداب النبوة ولا بد من معرفتها ليفتدى بها لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائما يسأل من الله - سبحانه وتعالى - أن يزين بمكارم الأخلاق والآداب وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وعن عائشة أنها سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقه القرآن وبهذا أظهر أن من أراد أن يتخلق بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - فعليه أن يتخلق بما في القرآن من الأخلاق. وأحسن الكتب المؤلفة في ذلك زاد المعاد من هدي خير العباد للحافظ ابن القيم - رحمه الله - وكتاب سفر السعادة للمجد الفيروز أبادي فإنهما جمعا كل أدب وعادة وسيرة كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل باب من

أبواب الدين والدنيا وهما عمودا الإسلام وقاعدتا الدين لم يؤلف في الإسلام قبلهما مثلهما ولا يساويهما كتاب في هذا العلم يعرف ذلك من رسخت قدمه في علم السنة المطهرة. علم آداب النكاح وهي حسن الخلق مع المنكوحة وليس هو كف الأذى بل احتمال الأذى وأن يلاعب ويمازح معهن لأنها تطيب قلب النساء. وأن لا ينبسط بالدعابة إلى درجة يسقط هيبته. وأن يعتدل في الغيرة وفي النفقة. وأن يعلم زوجته أحكام الطهارة والصلاة. وأن يعدل بين نسوته ولا يميل إلى بعضهن ذكره في مدينة العلوم من أنواع العلوم المتعلقة بالعبادات. علم آداب الملوك هو معرفة الأخلاق والملكات التي يجب أن يتحلى بها الملوك لتنتظم دولتهم وسيأتي تفصيله في علم السياسة. وفيه كتاب الشيج القاضي الفاضل علي بن محمد الشوكاني سماه: الدرر الفاخرة الشاملة على سعادة الدنيا والآخرة. قال في: مدينة العلوم: علم آداب الملوك هي أحوال رسمها الأمراء والملوك بالتجارب والحدس والرأي مما ينبغي أن يفعله أو يجتنبه. وكتاب نصيحة الملوك للإمام الغزالي نافع في هذا الباب ومن الكتب المصنفة فيه سراج الملوك للإمام أبي بكر بن الوليد بن محمد القرشي الفهدي الأندلسي الطرطوسي نسبة إلى طرطوسة - بضم المهملتين - بالأندلس في آخر بلاد المسلمين وسلوان المطاع في عدوان لابن ظفر انتهى وقد طبع هذا الأخير بمصر القاهرة في هذا الزمان وانتشر خبره في الجوائب علم آداب الوزراء ذكره أبو الخير من فروع الحكمة العملية وهو مندرج في علم السياسة فلا حاجة إلى إفرازه وإن كان فيه تأليف مستقل ك الإشارة وأمثاله. وفي مدينة العلوم: هو علم يتعرف منه آداب الوزارة من كيفية صحبة السلاطين ونصحية الرعايا وأن يذكر السلطان ما نسيه ويعينه على أمره بالخير ويردعه عما قصده من الجور وكتاب الإشارة إلى آداب الوزارة نافع في هذا الباب وفي كتاب نصيحة الملوك وسراج الملوك ما يكفي انتهى. قلت: وفي كتاب الدرر الفاخرة المشتملة على سعادة الدنيا والآخرة للشيخ العلامة العالم الرباني القاضي علي بن محمد الشوكاني فصول تتعلق بآداب الوزارة أتى فيه بما يقضي حق المقام وقد وقفت

عليه وانتفعت به في كتابي إكليل الكرامة1 في تبيان مقاصد الإمامة وبالله التوفيق. علم الأدب هو علم يحترز به عن الخطأ في كلام العرب لفظا وخطا قال أبو الخير: اعلم أن فائدة التخاطب والمحاورات في إفادة العلوم واستفادتها لما لم تتبين للطالبين إلا بالألفاظ وأحوالها كان ضبط أحوالها مما اعتنى به العلماء فاستخرجوا من أحوالها علوما انقسم أنواعها إلى اثني عشر قسما وسموها بالعلوم الأدبية لتوقف أدب الدرس عليها بالذات وأدب النفس بالواسطة وبالعلوم العربية أيضا لبحثهم عن الألفاظ العربية فقط لوقوع شريعتنا التي هي أحسن الشرائع وأفضلها أو أعلاها وأولاها على أفضل اللغات وأكملها ذوقا ووجدانا انتهى. واختلفوا في أقسامه فذكر ابن الأنباري في بعض تصانيفه أنها ثمانية. وقسم الزمخشري في القسطاس إلى اثني عشر قسما كما أورده العلامة الجرجاني في شرح المفتاح. وذكر القاضي زكريا في حاشية البيضاوي أنها أربعة عشر وعد منها: علم القرآن قال: وقد جمعت حدودها في مصنف سميته اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم لكن يرد عليه أن موضوع العلوم الأدبية كلام العرب وموضوع القراءات كلام الله - سبحانه وتعالى - ثم إن السيد والسعد تنازعا في الاشتقاق هل هو مستقل كما يقوله السيد أو من تتمة علم الصرف كما يقوله السعد. وجعل السيد البديع من تتمة البيان والحق ما قاله السيد في الاشتقاق لتغاير الموضوع بالحيثية المعتبرة وللعلامة الحفيد مناقشته في التعريف والتقسيم أوردها في موضوعاته حيث قال: وأما علم الأدب: فعلم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة وههنا بحثان الأول: أن كلام العرب بظاهره لا يتناول القرآن وبعلم الأدب يحترز عن خلله أيضا إلا أن يقال المراد بكلام العرب بكلام يتكلم العرب على أسلوبه. الثاني: أن السيد - رحمه الله - تعالى قال: لعلم الأدب أصول وفروع. أما الأصول فالبحث فيها إما عن المفردات من حيث جواهرها وموادها وهيئاتها فعلم اللغة أو من حيث صورها وهيئاتها فقط فعلم الصرف ومن حيث انتساب بعضها ببعض الأصالة والفرعية فعلم الاشتقاق وأما عن المركبات على الإطلاق. فأما باعتبار هيئاتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو. وأما باعتبار إفادتها لمعان مغايرة لأصل المعنى فعلم المعاني. وأما باعتبار كيفية تلك الإفادة في مراتب الوضوح فعلم البيان وعلم البديع ذيل لعلمي المعاني والبيان

_ 1 ووقع فيه نسبة كتاب الدرر إلى محمد بن علي الشوكاني وكذا في غيره بناء على غلط الناسخ الأول للكتاب المذكور فجاء السهو في النسخ الثاني فليتنبه له من يقف عليه لآن الكتاب لولد الشوكاني لا للشوكاني نفسه منه ظله العالي.

داخل تحتهما وليس علما برأسه وأما عن المركبات الموزونة فأما من حيث وزنها فعلم العروض أو من حيث أواخرها فعلم القوافي. وأما الفروع: فالبحث فيها إما أن يتعلق بنقوش الكتابة فعلم الخط أو يختص بالمنظوم فالعلم المسمى بقرض الشعر أو بالنثر فعلم الإنشاء من الرسائل أو من الخطب ولا يختص بشيء فعلم المحاضرات ومنه التواريخ. قال الحفيد: هذا منظور فيه فأورد النظر بثمانية أوجه. حاصلها أنه يدخل بعض العلوم في المقسم دون الأقسام ويخرج بعضها منه مع أنه مذكور فيه وإن جعل التاريخ واللغة علما مدونا لمشكل إذ ليسا بمسائل كلية وجواب الأخير مذكور فيه ويمكن الجواب عن الجميع أيضا بعد التأمل الصادق. وفي إرشاد القاصد للشيخ شمس الدين الأكفاني السخاوي: الأدب وهو علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة. وموضعه: اللفظ والخط من جهة دلالتها على المعاني ومنفعته: إظهار ما في نفس الإنسان من المقاصد وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني حاضرا كان أو غائبا وهو حلية اللسان والبنان وبه تميز ظاهر الإنسان على سائر أنواع الحيوان. وتنحصر مقاصده في عشرة علوم وهي: علم اللغة وعلم التصريف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم البديع وعلم العروض وعلم القوافي وعلم النحو وعلم قوانين الكتابة وعلم قوانين القراءة وذلك لأن نظره: إما في اللفظ أو الخط. والأول: فإما في اللفظ المفرد أو المركب أو ما يعمهما. وما نظره في المفرد: فاعتماده إما على السماع وهو اللغة أو على الحجة وهو التصريف. وما نظره في المركب: فإما مطلقا أو مختصا بوزن. والأول: إن تعلق بخواص تراكيب الكلام وأحكامه الإسنادية فعلم المعاني وإلا فعلم البيان. والمختص بالوزن: فنظره إما في الصورة أو في المادة الثاني: علم البديع. والأول: إن كان بمجرد الوزن فهو علم العروض وإلا فعلم القوافي وما يعم المفرد والمركب فهو علم النحو. والثاني: فإن تعلق بصور الحروف فهو علم قوانين الكتابة. وإن تعلق بالعلامات فعلم قوانين القراءة وهذه العلوم لا تختص بالعربية بل توجد في سائر لغات الأمم الفاضلة من اليونان وغيرهم. واعلم أن هذه العلوم في العربية لم تؤخذ عن العرب قاطبة بل عن الفصحاء البلغاء منهم وهم الذين لم يخالطوا غيرهم كهذيل وكنانة بعض تميم وقيس وغيلان ومن يضاهيهم من عرب الحجاز وأوساط نجد. فأما الذين أصابوا العجم في الأطراف فلم تعتبر لغاتهم وأحوالها في أصول هذه العلوم وهؤلاء

كحمير وهمدان وخولان والأزد لمقاربتهم الحبشة والزنج وطي وغسان لمخالطتهم الروم والشام وعبد القيس لمجاورتهم أهل الجزيرة وفارس ثم أتى ذوو العقول السليمة والأذهان المستقيمة ورتبوا أصولها وهذبوا فصولها حتى تقررت على غاية لا يمكن المزيد عليها انتهى ما في كشاف واصطلاحات الفنون. قال ابن جني: المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ قال ابن رشيق: ما ذكره صحيح لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض فإنهم حضروا الحواضر وتفننوا في المطاعم والملابس وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم من فضل التشبيه وغيره انتهى. علم الأدعية والأوراد هو علم يبحث فيه عن الأدعية المأثورة والأوراد المشهورة بتصحيحهما وضبطهما وتصحيح روايتهما وبيان خواصهما وعدد تكرارهما وأوقات قراءتهما وشرائطهما. ومباديه: مبينة في العلوم الشرعية. والغرض منه: معرفة تلك الأدعية والأوراد على الوجه المذكور لينال باستعمالهما الفوائد الدينية والدنيوية كذا في مفتاح السعادة، وجعله من فروع علم الحديث بعلة استمداده من كتب الأحاديث. والكتب المؤلفة فيه كثيرة جدا منها: حصن الحصين والأذكار للنووي الذي يقال فيه: بع الدار واشتر الأذكار ومنها الحزب الأعظم لعلي القاري. قال في: مدينة العلوم: وكتب الشيخ عبد الرحمن الإنطاكي نافعة في هذا الباب انتهى. ولم أقف على هذه الكتب ومن كتبه سلاح المؤمن وفرنده والحزب المقبول للشيخ عبد الجبار الناكبوري المهاجر المتوفى بمكة المكرمة في سنة 1294 الهجرية. وأحسن هذه الكتب ما كان فيه الروايات الصحيحة الثابتة من السنة المطهرة بلا نزاع. ومنها: شرح عدة الحصن الحصين لشيخنا الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني رضي الله تعالى عنه وأرضاه. علم أدوات الخط سيأتي تحقيقه في علم الخط إن شاء الله تعالى هكذا في كشف الظنون. وقال الأرنيقي في: مدينة العلوم: هو علم أدوات الخط من الأقلام وطريق استعلام جيدها من رديها وطريق برئها وأحوال الفتح والنحت والشق والقط من الدوات وكيفية إلاقتها ومن أنواع المداد وكيفية صنعتها وإصلاحها ومن أنواع الكاغذ ومعرفة جيدها من رديها وطريق إصلاحها وغير ذلك من أدوات الكتابة. ومن المصنفات فيه القصيدة الرائية البليغة لعلي بن هلال بن البواب البغدادي وهو الذي لم يوجد في المتقدمين ولا في المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه وإن كان أبو علي بن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها الحلاوة وكان

شيخه في الكتابة ابن أسد الكاتب البزار البغدادي توفي ابن بواب سنة 423هـ أو سنة 410هـ ببغداد ودفن جوار الإمام أحمد بن حنبل ورسالة لطيفة لأبي الدر ياقوت ابن عبد الله المستعصمي كان من مماليك الخليفة كتب الخط البديع وجوده توفي سنة 498هـ. ومن المصنفات فيه الباب الواحد من كتاب صبح الأعشا في كتاب الإنشا لأبي العباس أحمد القلقشندي ثم المصري أورد في الباب المذكور ما يتعلق بالخط وأجاد فيه كل الإجادة ونقل أكثره عن ياقوت المستعصمي انتهى حاصله. علم الأدوار والأكوار ذكره أبو الخير من فروع علم الهيئة وقال: والدور يطلق في اصطلاحهم على ثلاثمائة وستين سنة شمسية والكور على مائة وعشرين سنة قمرية ويبحث في العلم المذكور عن تبديل الأحوال الجارية في كل دور وكور وقال: هذا من فروع علم النجوم كما هو ظاهر عند أهله مع أنه لم يذكره في بابه ومثله في مدينة العلوم. علم الأرتماطيقي هوعلم يبحث فيه عن خواص العدد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد. ومثل ضعف الواسطتان كانت عدة تلك الأعداد فردا مثل الإفراد على تواليها والأزواج على تواليها. ومثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة بكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها الخ أو بكون أولها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها الخ فإن ضرب الطرفين أحدهما في الآخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد أحدهما في الآخر. ومثل مربع الواسطتان كانت العدة فردا وذلك مثل أعداد زوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشرة. ومثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطروها بأن يجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة وتتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات الخ. وفي طوله كل عدد وأشكاله بالغا ما بلغ وتحدث في جميعها وقسمة بعضها على بعض طولا وعرضا خواص غريبة استقريت منها وتقررت في دواوينهم مسائلها وكذلك ما يحدث للزوج والفرد وزوج الزوج والفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن وليست في غيره،

وهذا الفن أول أجزاء التعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدمين والمتأخرين فيه تآليف وأكثرهم يدرجونه في التعاليم ولا يفردونه بالتأليف فعل ذلك ابن سينا في كتابه الشفاء والنجاة وغيره من المتقدمين. وأما المتأخرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول منفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب والله أعلم. قال في: مدينة العلوم: علم الأرتماطيقي ويسمى علم العدد علم يتعرف منه أنواع العدد وأحوالها وكيفية تولد بعضها من بعض. وموضوعه: الأعداد من جهة خواصها ولوازمها. ومن الكتب المختصرة فيه سقط الزند في علم العدد. ومن المتوسطة كتاب الأرتماطيقي من أبواب الشفاء. ومن المبسوطة كتاب نيقوماخس والد أرسطو. ومنفعة هذا العلم: ارتياض النفس بالنظر في المجردات عن المادة ولواحقها ولذلك كانت القدماء يقدمونه في التعليم على سائر العلوم حتى المنطق ولأنه مثال العالم في صدوره عن واجب مجرد خارج عنه كما أن الأعداد نشأت عن الواحد وليس بعدد انتهى1. علم الأزياج من فروع علم الهيئة وهي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطؤ واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلا على المتعلمين وتسمى الأزياج. ويسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلا وتقويما وللناس فيه تآليف كثيرة من المتقدمين والمتأخرين مثل البناني وابن الكماد. وقد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة ويزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد وأن يهوديا كان بصقلبة ماهرا في الهيئة والتعاليم وكان قد عنى بالرصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب وحركاتها فكان أهل المغرب عنوا به لوثاقه مبناه على ما يزعمون ولخصه ابن البناء في جزء سماه المنهاج فولع به

_ 1 وقد نطم هذا المضمون السيد العلامة غلام علي آزادرح البلجرامي في كتابة مظهر البركات وقال تمثيل من تفردات الناظم.

الناس لما سهل من الأعمال فيه وإنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبتنى عليها الأحكام النجومية وهي معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدول والمواليد البشرية والله الموفق لما يحبه ويرضاه لا معبود سواه. علم الأسارير هو علم باحث عن الاستدلال بالخطوط الموجودة في كف الإنسان وقدمه وجبهته بحسب التقاطع والتباين والطول والعرض والقصر وسعة الفرجة الكائنة بينها وضيقها على أحواله كطول عمره وقصره وسعادته وشقاوته وغنائه وفقره. وممن تمهر في هذا الفن العرب والهنود غالبا وفيه تصنيف لبعضهم لكن جعله ذيلا للفراسة كذا في مفتاح السعادة. وعبارة مدينة العلوم وقد توجد في هذا العلم مصنفات وكثيرا ما توجد ذيلا لكتب علم القرآن قال الأعشى رحمه الله1: فانظر إلى كفي وأسرارها ... هل أنت أن وعدتني ضائري علم أسباب النزول من فروع علم التفسير هو علم يبحث فيه عن نزول سورة أو آية ووقتها ومكانها وغير ذلك ومباديه مقدمات مشهورة منقولة عن السلف. والغرض منه: ضبط تلك الأمور. وفائدته: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم وتخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب وأن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه فإذا عرف السبب قصد التخصيص على ما عداه. ومن فوائده: فهم معنى القرآن واستنباط الأحكام إذ ربما لا يمكن معرفة تفسير الآية بدون الوقوف على سبب نزولها مثل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وهو يقتضي عدم وجوب استقبال القبلة وهو خلاف الإجماع ولا يعلم ذلك إلا بأن نزولها في نافلة السفر وفيمن صلى بالتحري ولا يحل القول فيه إلا بالرواية والسماع ممن شهد التنزيل كما قال الواحدي. ويشترط في سبب النزول أن يكون نزولها أيام وقوع الحادثة وإلا كان ذلك من باب الإخبار عن الوقائع الماضية كقصة الفيل كذا في مفتاح السعادة.

_ 1 قال صوفية من الفقراء عمدة الصاعدين في الخضراء، أنها الحلق مظهر الباري هو في كل جزئة ساري أنا ألفيت فيه تمثيلاً للصراط الدقيق، تسهيلاً أبصروا واحداً من الآحاد أنه خارج من الأعداد وهو في كلهن موجود، وهو في كلهن مشهود فكذا الله خالق الأشياء حاضر في السماء والغبراء وهو رب علي عن الإمكان ليس من جنس هذه الأكوان، رب آزاد راكع سجاد رب فاجعله واحد الآحاد بالنبي الكريم من عدنان وبأولاده ذوي الإحسان، قلت وهذا تمثيل من جنس اللطائف الشعرية وليس من كتاب المسائل الشرعية فتدبر، السيد علي حسن خان ولد المؤلف سلمه الله تعالى المنان.

ومن الكتب المؤلفة فيه أسباب النزول لشيخ المحدثين علي بن المديني وهو أول من صنف فيه ولابن مطرف الأندلسي في مائة جزء وترجمته بالفارسية لأبي النصر سيف الدين أحمد الاسبرتكسيني ولمحمد بن أسعد العراقي وللشيخ أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر وهو أشهر ما صنف فيه وقد اختصره برهان الدين الجعبري فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئا. ولابن الجوزي البغدادي وللحافظ ابن حجر العسقلاني - ولم يبيض - للسيوطي أيضا سماه: لباب النقول وهو كتاب حافل. وقد تكلمنا على أسباب النزول في رسالتنا أكسير في أصول التفسير فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما. علم أسباب ورود الأحاديث وأزمنته وأمكنته وموضوعه ظاهر من اسمه ومنفعته ظاهرة لا تخفى على أحد ذكره أبو الخير من فروع علم الحديث وفيه مصنفات كثيرة لا تحصى. علم الاستعانة بخواص الأدوية والمفردات كاجتذاب المغناطيس للحديد ونحو ذلك وفيه حكاية وهي: وقوف صليب من حديد في الهواء في داخل حجرة موضوعة في جدرانها الأربعة مغناطيس متساوية المقادير وافتنان النصارى به وهذا العلم من حيث كونه أثرا للخواص يسمى: بعلم الخواص ومن حيث كونه محيرا للناظرين لعدم وقوفهم بأسبابها يعد من فروع علم السحر كذا في مدينة العلوم وذكره أبو الخير أيضا من فروع علم السحر. وقال: هذا وإن كان من فروع خواص الأدوية لكن لعدم معرفة العوام سببه ربما يعد من السحر وأنت تعلم: أن عدم علمهم لا يصلح سببا لأن يعد من فروعه. علم استعمال الألفاظ هو من فروع علم البيان وهو علم يبحث فيه عن استعمالات الألفاظ في المعاني التشبيهية والكنائية بطريق الإستعارة والمجاز وهذا الفن في علم البيان بطريق الكلية وفي هذا الفن بطريق الجزئية. ومباديه: استقرائية وموضوعه وغرضه وغايته لا تخفى على الفطن المتأمل وللأصمعي وأبي عبيدة في هذا الفن أيضا كتب كثيرة كذا في مدينة العلوم. علم استنباط المعادن والمياه أي معادن الذهب والفضة وهو علم يبحث فيه عن تعيين محل المعدن والمياه إذ المعدنيات لا بد لها من علامات تعرف بها عروقها في الجبال والأرض ومباديه وآلاته قريبة من علم الريافة وهو من فروع علم الفراسة. علم استنزال الأرواح واستحضارها في قوالب الأشباح هو من فروع علم السحر.

واعلم أن تسخير الجن أو الملك من غير تجسدهما وحضورهما عندك يسمى علم العزائم بشرط تحصيل مقاصدك بواسطتهما. وأما حضور الجن عندك وتجسدها في حسك فيسمى علم الاستحضار ولا يشترط تحصيل مقاصدك بها. وأما استحضار الملك. فإن كان سماويا فتجسده لا يمكن إلا للأنبياء. وإن كان أرضيا ففيه الخلاف والأصح عدم جواز ذلك لغير الأنبياء مطلقا كذا في مفتاح السعادة ومدينة العلوم ومن الكتب المصنفة فيه كتاب ذات الدوائر وغيره. علم أسرار الحروف وهو المسمى لهذا العهد ب السيمياء يأتي في حرف السين. علم أسرار الطهارة ولها أربع مراتب: أولها: طهارة الظاهر عن الحدث والخبث على ما بين في الشرع المطهر. وثانيتها: تطهير الجوارح عن الآثام لأن الإثم بالنظر إلى القلب كالخبث بالنسبة إلى البدن. وثالثتها: تطهير القلب عن ذمائم الأخلاق لأنها بالنسبة إلى الروح كالآثام بالنسبة إلى القلب. ورابعتها: تطهير السر عما سوى الله تعالى لأن الالتفات إلى غير الله تعالى بالنسبة إلى السر بمنزلة ذمائم الأخلاق بالنسبة إلى الروح وهذه طهارة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصديقين. علم أسرار الصلاة ولها مرتبتان: إحداهما ما لا تتحقق الصلاة بدونها وهي التي ينظر الفقيه إليها وثانيتهما: ما تكمل به الصلاة وتحسن وهي النظر في الشروط الباطنة من أعمال القلب كالخشوع وحضور القلب وكالتعظيم وهذا غير الخشوع إذ كم من حاضر القلب متوجه إليه ليس فيه تعظيم لأنه إنما يتولد من معرفة جلال الله تعالى وعظمته ومعرفة حقارة النفس وكونها مسخرة لربها وكالهيبة وهي أمر زائد على التعظيم منشأها خوف يصدر عن الإجلال وكالرجاء وسببه معرفة لطف الله وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة للمصلي وكالحياء وسببه استشعار التقصير في العبادات وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله - سبحانه وتعالى. علم أسرار الزكاة ولها آداب ثمانية. الأول: أن يفهم أن الغرض من الزكاة الامتحان بأن لا يكون له محبوب سوى الواحد الحق وله مراتب. أولها: الذين نزلوا عن جميع أموالهم كما فعله الصديق.

وثانيتها: الذين يدخرون على قدر الحاجة ويصرفون الفاضل في وجوه البر. وثالثتها: الذين يقتصرون على أداء الواجب وهذه أولى المراتب ولهذه المرتبة فوائد: الأولى: تطهير المال عن الأوساخ. الثانية: تطهير النفس عن صفة البخل. والثالثة: شكر النعمة المالية. الأدب الثاني: التعجيل عند حلول الوقت إظهارا للرغبة في الامتثال وتعجيلا لمسرة قلوب الفقراء. الأدب الثالث: الإسرار فإن ذلك أبعد من السمعة والرياء. الأدب الرابع: أن يقصد اقتداء الناس عند الإظهار ويتحفظ من الرياء مهما قدر اللهم إلا أن يتأذى الفقير بهتك سره. الأدب الخامس: أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى. والأدب السادس: أن يستصغر العطية وإلا دخله العجب. الأدب السابع: أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأطيبه وأحله. الأدب الثامن: أن يطلب لصدقته الأتقياء. وهم ستة: المتجردون للآخرة والعلماء إذا صحت نياتهم في العلم والصادق في تقواه والفقراء الساترون لفقرهم وأهل العائلة المحبوسون بمرض أو دين والأقارب ذوي الأرحام. علم أسرار الصوم وله ثلاث مراتب: أولها صوم العموم وهو كف الفرج والبطن عن قضاء الشهوة. ثانيتها: صوم الخصوص وهو كف الجوارح عن الآثام. وثالثها: صوم أخص الخصوص وهو غض البصر عن المحارم والمكاره وعما يلهي عن ذكر الله وحفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة وكف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه وكف بقية الجوارح عن المكاره وكف البطن عن الشبهات وأن لا يستكثر من الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلي بطنه وأن يكون قلبه بعد الإفطار متعلقا مضطربا بين الخوف والرجاء إذ لا يدري أنه يقبل صومه فيكون من المقربين أو يرد فيكون من الممقوتين. علم أسرار الحج وأعماله الظاهرة مبينة في الشرع المطهر وهي عشرة. أولها: أن تكون النفقة حلالاً. ثانيها: أن لا يعاون أعداء الله بتسليم المكوس إلى العمال الظلمة المترصدين في الطرق ويتلطف في حيلة الخلاص. ثالثها: التوسع في الزاد وطيبة النفس بالإنفاق.

رابعها: ترك الرفث والفسوق والجدال. خامسها: الركوب أو المشي إن قدر وله بكل خطوة حسنة. سادسها: الاجتناب عن المحامل فإنه من زي المترفين. سابعها: عدم الميل إلى التفاخر والتكاثر بل يكون أشعث أغبر. ثامنها: الرفق بالهدي فلا يحمله ما لا يطيق. تاسعها: التقرب بإراقة دم وإن لم يكن واجبا عليه. عاشرها: طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي. وأما أعماله الباطنة: فأولها أن يعرف أن الكمال إنما هو في التجرد عما سوى الله وذلك في الحج لأن فيه التجرد عن الأهل والعيال وفيه اختيار الغربة عن الأقارب والعشائر وترك الترفه في المآكل والملابس والمراكب والمساكن. وثانيها: الشوق إلى زيارة بيته ليستحق بذلك إلى مشاهدة جمال صاحبه بمقتضى الوعد الكريم ثالثها: إخلاص النية في أفعال الحج كلها بأن يكون المقصود بها التقرب إلى الله. رابعها: أن يقصد به الانقطاع عن محارم الله تعالى لا عن الأهل والمال فقط. خامسها: أن يتوجه بقلبه إلى الله تعالى كما يتوجه بقالبه إلى بيته. سادسها: أن يعرف أن زاد الآخرة هو التقوى ويتزود به كما يتزود للحج قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . سابعها: تذكر الكفن عند لبس الإحرام لأن كلا منهما غير مخيط. ثامنها: تذكر الخروج من القبر عن الخروج من البلد إذ لا يدري في كل منهما مآل أمره تاسعها: أن يتذكر الوقوف في المحشر عند الدخول في البادية إذ لا يأمن في كل منهما. المخاوف والأهوال عاشرها: أن يتذكر عند الدخول في الحرم رجاء الأمن من عقاب الله مع خوفه من أن يكون من أهل الرد وأن يتذكر عند مشاهدة البيت مشاهدة رب العزة وعظمته. الحادي عشر: أن يتذكر عند طواف البيت الملائكة الحافين حول العرش ويعرف أن المقصود طواف القلب بفكر رب البيت. والثاني عشر: أن يعتقد عند الاستلام المبايعة مع الرب العزم على الوفاء بها ليأمن المقر. الثالث عشر: أن يتذكر عند السعي تردده في فناء العبودية بين كفتي الميزان مترددا بين العذاب والغفرانز الرابع عشر: أن يتذكر عند الوقوف بعرفات وقوفه في العرصات مع الصديقين والأولياء ويرجو المغفرة من رب العالمين كما يرجو أهل العرصات شفاعة الأنبياء والمرسلين. والخامس عشر: أن يقصد برمي الجمار إظهار العبودية من غير حظ للعقل والنفس إذ الشيطان قد يلقي في قلبه أن هذا أيضا اللعب ففيه امتثال الأمر للرحمن وإرغام لأنف الشيطان.

السادس عشر: أن يتذكر عند الذبح أن يعتق بكل جزء منه جزءا من بدنه من النار. السابع عشر: أن يتذكر فضل المدينة المنورة عند وقوع البصر على حيطان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدران البلدة المباركة فإن فيها تربة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربة وزيريه وفي بقيعها قبور أصحابه المهاجرين وغيرهم وهم أفضل خلق الله تعالى وزيارتهم تورث بركات الدنيا وسعادة الآخرة. الثامن عشر: أن يعرف أن السفر إلى مسجده صلى الله عليه وآله وسلم له فضل عظيم وزيارته - صلى الله عليه وسلم - بعد موته كزيارته حيا. التاسع عشر: أن يحضر بالبال عند الفراغ من هذه الأعمال أنه بين خطر الرد وبشارة القبول لأنه لا يعرف أن حجه قبل وهو من زمرة المحبوبين أو رد وهو من المطرودين. العشرون: أن يمتحن قلبه عند قدومه إلى بلده أنه قد ازداد تجافيا عن دار الغرور إلى دار الأنس بالله تعالى أو زاد القرار في دار الغرور ويزن أعماله فإن من كان من الشق الأول فذاك دليل على القبول وإن كان ونعوذ بالله منه من قبيل الثاني فليس حظه من هذه الأفعال إلا التعب والعنا نعوذ بالله من الحرمان والإنسلاك في حزب الشيطان. علم إسطرلاب وهو بالسين على ما ضبطه بعض أهل الوقوف وقد تبدل السين صادا لأنه في جوار الطاء وهو أكثر وأشهر ولذلك أوردناه في حرف الصاد. علم الأسماء الحسنى وأسرارها وخواص تأثيراتها قال البوني: ينال بها كل مطلوب ويتوصل بها إلى كل مرغوب وبملازمتها تظهر الثمرات وصرائح الكشف والاطلاع على أسرار المغيبات. وأما إفادة الدنيا فالقبول عند أهلها والهيبة والتعظيم والبركات في الأرزاق والرجوع إلى كلمته وامتثال الأمر منه وخرس الألسنة عن جوابه إلا بخير إلى غير ذلك من الآثار الظاهرة بإذن الله تعالى في المعنى والصور وهذا سر عظيم من العلوم لا ينكر شرعا ولا عقلاً1 انتهى وسيأتي في علم الحروف. علم أسماء الرجال يعني رجال الأحاديث فإن العلم بها نصف علم الحديث كما صرح به العراقي في شرح الألفية عن علي بن المديني فإنه سند ومتن. والسند: عبارة عن الرواة فمعرفة أحوالها نصف علم الحديث على ما لا يخفى والكتب المصنفة فيه على أنواع منها: المؤتلف والمختلف لجماعته كالدارقطني والخطيب البغدادي وابن ماكولا وابن نقطة ومن المتأخرين الذهبي والمزني وابن حجر وغيرهم.

_ 1 وانظر الكلام على أسماء الله الحسنى في فتح الباري، والتلخيص، ومسك الختام، ونيل الأوطار، وقد بسط البيهقي في جمعها مع الصفات في كتاب الأسماء والصفات وأطال إطالة حسنة مولوي محمد عبد الصمد الفشاوري سلمه ربه.

ومنها: الأسماء المجردة عن الألقاب والكنى معا صنف فيه الإمام مسلم وعلي بن المديني والنسائي وأبو بشر الدولابي وابن عبد البر لكن أحسنها ترتيبا كتاب الإمام أبي عبد الله الحاكم وللذهبي المقتنى في سرد الكنى. ومنها: الألقاب صنف فيه أبو بكر الشيرازي وأبو الفضل الفلكي سماه منتهى الكمال وابن الجوزي ومنها: المتشابه صنف فيه الخطيب كتابا سماه تلخيص المتشابه ثم ذيله بما فاته. ومنها: الأسماء المجردة عن الألقاب والكنى صنف فيه أيضا غير واحد فمنهم من جمع التراجم مطلقا كابن سعد في الطبقات وابن أبي حيثمة أحمد بن زهير والإمام أبي عبد الله البخاري في تاريخهما ومنهم من جمع الثقات كابن حبان وابن شاهين. ومنهم من جمع رجال الضعفاء كابن عدي ومنهم من جمع كليهما جرحا وتعديلا. ومنهم من جمع رجال البخاري وغيره من أصحاب الكتب الستة والسنن على ما بين في هذا المحل وقد ذكرنا كتب أسماء الرجال على ترتيب حروف الهجاء في كتابنا اتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين. علم الإسناد ويسمى ب أصول الحديث أيضا وهو: علم بأصول تعرف بها أحوال حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث: صحة النقل وضعفه والتحمل والأداء كذا في الجواهر وفي شرح النخبة وهو: علم يبحث فيه عن صحة الحديث وضعفه ليعمل به أو يترك من حيث: صفات الرجال وصيغ الأداء. انتهى. قال في كشاف اصطلاحات الفنون: فموضوعه الحديث بالحيثية المذكورة. انتهى. علم الاشتقاق هو علم باحث عن كيفية خروج الكلم بعضها عن بعض بسبب مناسبة بين المخرج والمخارج بالأصالة والفرعية بين الكلم لكن لا بحسب الجوهرية بل بحسب الهيئة. مثلا يبحث في الاشتقاق عن مناسبة نهق ونعق بحسب المادة. وموضوعه: المفردات من الحيثية المذكورة. ومباديه: كثير منها: قواعد ومخارج الحروف. ومسائله: القواعد التي يعرف منها أن الأصالة والفرعية بين المفردات بأي طريق يكون وبأي وجه يعلم ودلائله مستنبطة من قواعد علم المخرج وتتبع ألفاظ العرب واستعمالاتها. والغرض منه: تحصيل ملكة يعرف بها الانتساب على وجه الصواب. وغايته: الاحتراز عن الخلل في الانتساب الذي يوجب الخلل في ألفاظ العرب. وأعلم أن مدلول الجواهر بخصوصها يعرف من اللغة وانتساب البعض إلى البعض على وجه كلي إن كان في الجوهر فالاشتقاق.

وإن كان في الهيئة فالصرف فظهر الفرق بين العلوم الثلاثة وإن الاشتقاق واسطة بينهما ولهذا استحسنوا تقديمه على الصرف وتأخيره عن اللغة في التعليم. ثم إنه كثيرا ما يذكرني في كتب التصريف وقلما يدون مفردا عنه إما لقلة قواعده أو لاشتراكهما في المبادئ حتى أن هذا من جملة البواعث على اتحادهما والاتحاد في التدوين لا يستلزم الاتحاد في نفس الأمر. قال صاحب الفوائد الخاقانية: اعلم أن الاشتقاق يؤخذ تارة باعتبار العلم وتارة باعتبار العمل وتحقيقه: أن الضارب مثلا يوافق الضرب في الحروف والأصول والمعنى بناء على أن التواضع عين بإزاء المعنى حروفا وفرع منها ألفاظ كثيرة بإزاء المعاني المتفرعة على ما يقتضيه رعاية التناسب فالاشتقاق هو هذا التفريع والأخذ. فتحديده بحسب العلم بهذا التفريع الصادر عن الوضع وهو أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فتعرف رد أحدهما إلى الآخر وأخذه منه. وإن اعتبرناه من حيث احتياج أحد إلى عمله عرفناه باعتبار العمل فتقول: هو أن تأخذه من أصل فرعا يوافقه في الحروف والأصول وتجعله دالا على معنى يوافق معناه انتهى. والحق أن اعتبار العمل زائد غير محتاج إليه وإنما المطلوب العلم باشتقاق الموضوعات إذ الوضع قد حصل وانقضى على أن المشتقات مرويات عن أهل اللسان ولعل ذلك الاعتبار لتوجيه التعريف المنقول عن بعض المحققين. ثم إن المعتبر فيهما الموافقة في الحروف الأصلية ولو تقديرا إذ الحروف الزائدة في الاستفعال والافتعال لا تمنع وفي المعنى أيضا إما بزيادة أو نقصان فلو اتحدا في الأصول وترتيبها كضرب من الضرب فالاشتقاق صغيرا أو توافقا في الحروف دون التركيب كجبذ من الجذب فهو كبيرا ولو توافقا في أكثر الحروف مع التناسب في الباقي كنعق من النهق فهو أكبر. وقال الإمام الرازي: الاشتقاق أصغر وأكبر فالأصغر كاشتقاق صيغ الماضي والمضارع واسم الفاعل والمفعول وغير ذلك من المصدر والأكبر هو تقلب اللفظ المركب من الحروف إلى انقلاباته المحتملة. مثلا: اللفظ المركب من ثلاثة أحرف يقبل ستة انقلابات لأنه يمكن جعل كل واحد من الحروف الثلاثة أولى هذا اللفظ وعلى كل من هذه الاحتمالات الثلاثة يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين. مثلا: اللفظ المركب من ك ل م يقبل ستة انقلابات كلم كمل ملك لكم لمك مكل واللفظ المركب من أربعة أحرف يقبل أربعة وعشرين انقلابا وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من الأربعة ابتداء تلك الكلمة. وعلى كل من هذه التقديرات الأربعة يمكن وقوع الأحرف الثلاثة الباقية على ستة أوجه كما مر والحاصل من ضرب الستة في الأربعة أربعة وعشرون وعلى هذا القياس المركب من الحروف الخمسة. والمراد من الاشتقاق الواقع في قولهم: هذا اللفظ مشتق من ذلك اللفظ هو الاشتقاق الأصغر غالبا والتفصيل في مباحث الاشتقاق من الكتب القديمة في الأصول وقد أفرده بالتدوين شيخنا العلامة الإمام القاضي محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - وسماه نزهة الأحداق ولي كتاب في ذلك سميته العلم الخفاق من علم الاشتقاق. وهو كتاب نفيس جدا لم يسبق إليه.

علم الاصطرلاب هو: علم يبحث فيه عن كيفية استعمال آلة معهودة يتوصل بها إلى معرفة كثير من الأمور النجومية على أسهل طريق وأقرب مأخذ مبين في كتبها: كارتفاع الشمس ومعرفة الطالع وسمت القبلة وعرض البلاد وغير ذلك أو عن كيفية وضع الآلة على ما بين في كتبه وهو من فروع علم الهيئة كما مر. وأصطرلاب: كلمة يونانية أصلها بالسين وقد يستعمل على الأصل وقد تبدل صادا لأنها في جوار الطاء وهو لأكثر معناها ميزان الشمس وقيل: مرآة النجم ومقياسه. ويقال له باليونانية أيضا: اصطرلاقون. وأصطر: هو النجم. ولاقون: هو المرآة ومن ذلك سمي: علم النجوم واصطر يومياً. وقيل: إن الأوائل كانوا يتخذون كرة على مثل الفلك ويرسمون عليها الدوائر ويقسمون بها النهار والليل فيصححون بها الطالع إلى زمن إدريس - عليه السلام - وكان لإدريس ابن يسمى: لاب وله معرفة في الهيئة فبسط الكرة واتخذ هذه الآلة فوصلت إلى أبي هـ فتأمل وقال: من سطره فقيل: سطرلاب فوقع عليه هذا الاسم. وقيل: اسطر جمع سطر ولاب اسم رجل. وقيل: فارسي معرب من أستاره ياب أي مدرك أحوال الكواكب قال بعضهم: هذا الظهر وأقرب إلى الصواب لأنه ليس بينهما فرق إلا بتغيير الحروف وفي مفاتيح العلوم الوجه هو الأول. وقيل: أول من صنعه بطليموس وأول من علمه في الإسلام إبراهيم بن حبيب الفزاري ومن الكتب المصنفة فيه تحفة الناظر وبهجة الأفكار وضياء الأعين. علم أصول الحديث ويقال له: علم رواية الحديث والأول: أشهر لكن ذكره صاحب الكشف في الدال نظرا إلى المعنى فتأمل وهو علم يبحث فيه عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إسنادا ومتنا ولفظا ومعنى من حيث القبول والرد وما يتبع ذلك من كيفية تحمل الحديث وروايته وكيفية ضبطه وكتابته وآداب رواته وطالبيه. وقيل في رسمه ما هو أخصر وهو أنه علم تعرف به أحوال الراوي والمروي من جهة القبول والرد. وموضوعه: الراوي والمروي من هذه الجهة. وغايته: ما يقبل ويرد من ذلك. والحافظ ابن حجر يرى ترادف الخبر والأثر كما دل له تسمية كتابه نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر وهذا العلم كثير النفع لا غنى عنه لمن يدخل في علم الحديث والكتب فيه كثيرة جدا ما بين مختصر ومطول. منها كتاب إسبال المطر على قصب السكر. وكتاب توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار كلاهما للسيد الإمام المجتهد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليمني رحمه الله.

والباعث الحثيث للحافظ ابن كثير. وتدريب الراوي للسيوطي. ومنهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول المؤلف الكتاب وهو بالفارسية وقد ذكرت فيه ما ألف في هذا العلم مرتبا على حروف المعجم والله أعلم. علم أصول الدين المسمى بالكلام يأتي في الكاف. وقال الأرنيقي: هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها. وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى وصفاته لأن المقصود الأصلي من علم الكلام معرفته تعالى وصفاته ولما احتاجت مباديه إلى معرفة أحوال المحدثات أدرج المتأخرون تلك المباحث في علم الكلام لئلا يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى العلوم الحكمية فجعلوا موضوعه الموجود من حيث هو موجود وميزوه عن الحكمة بكون البحث فيه على قانون الإسلام وفي الحكمة على مقتضى العقول. ولما رأى المتأخرون احتياجه إلى معرفة أحوال الأدلة وأحكام الأقيسة وتحاشوا عن أن يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى علم المنطق جعلوا موضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا. ثم إن علم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولا من الكتاب والسنة ثم تثبت بالبراهين العقلية انتهى. ثم ذكر الإنكار على علم الكلام نقلا عن الأئمة الأربعة وفصل أقوالهم في ذلك وأطال في بيانها وبيان حدوث الاعتزال ورد أبي الحسن الأشعري عليه قال: وعند ذلك ظهرت العقائد الواردة في الكتاب والسنة وتحولت قواعد علم الكلام من أيدي المعتزلة إلى أيدي أهل السنة والجماعة انتهى. ثم ذكر حال أبي منصور الماتريدي وكتبه في العقائد. قلت: والكتب في هذا العلم كثيرة جدا وأحسنها كتب المحدثين في إثبات العقائد على الوجه المأثور عن الكتاب والسنة. وفي الرد على المتكلمين منها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وكتب تلميذه الحافظ ابن القيم وكتاب الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير اليمني. وكتاب السفاريني وهو مجلد كبير وقد من الله تعالى بتلك الكتب النافعة علي منا كافيا وافيا. وكتبت قبل ذلك رسالة سميتها قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل وهي نفيسة جدا وليس هذا الموضوع بسط القول في ذم الكلام ومدح العقائد أهل الحديث الكرام. قال في كشاف اصطلاحات الفنون: أما وجه تسميته ب الكلام فإنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات أو لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا ولأن مسئلة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التقاتل قال: وسماه أبو حنيفة - رحمه الله - ب الفقه الأكبر. وفي مجمع السلوك ويسمى ب علم النظر والاستدلال أيضاً.

ويسمى أيضا ب علم التوحيد والصفات. وفي شرح العقائد للتفتازاني: العلم المتعلق بالأحكام الفرعية أي العلمية يسمى علم الشرائع والأحكام وب الأحكام الأصلية أي الاعتقادية يسمى علم التوحيد والصفات انتهى. ثم ذكر تعريف هذا العلم على ما تقدم وأبدى فوائد قيود حده المذكور آنفاً. قال: وموضوعه: هو العلوم. وقال الأرموي: ذات الله تعالى. وقال طائفة منهم الغزالي: موضوعه الموجود بما هو موجود أي من حيث هو غير مقيد بشيء وفائدته وغايته: الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان وإرشاد المسترشدين بإيضاح الحجة لهم وإلزام المعاندين بإقامة الحجة عليهم وحفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبهة المبطلين وأن تبنى عليه العلوم الشرعية فإنه أساسها وإليه يؤول أخذها وأساسها فإنه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلف مرسل للرسل منزل للكتب لم يتصور علم تفسير ولا علم فقه وأصوله فكلها متوقفة على علم الكلام مقتبسة منه فالأخذ فيها بدونه كبان على غير أساس. وغاية هذه الأمور كلها: الفوز بسعادة الدارين ومن هذا تبين مرتبة الكلام أي شرفه فإن شرف الغاية يستلزم شرف العلم وأيضا دلائله يقينية يحكم بها صريح العقل وقد تأيدت بالنقل وهي أي شهادة العقل مع تأيدها بالنقل هي الغاية في الوثاق إذ لا تبقي حينئذ شبهة في صحة الدليل. وأما مسائله التي هي المقاصد: فهي كل حكم نظري لمعلوم والكلام هو العلم الأعلى إذ تنتهي إليه العلوم الشرعية كلها وفيه تثبت موضوعاتها وحيثياتها فليست له مباد تبين في علم آخر شرعيا أو غيره بل مباديه إما مبينة بنفسها أو مبينة فيه فهي مسائل له من هذه الحيثية ومباد لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور فلو وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقف عليها إثبات العقائد في الكتاب فمن الكلام يستمد غيره من العلوم الشرعية وهو لا يستمد من غيره أصلا فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق بالجملة فعلماء الإسلام وقد دونوا إثبات العقائد الدينية المتعلقة بالصانع وصفاته وأفعاله وما يتفرع عليها من مباحث النبوة والمعاد علما يتوصل به إلى إعلاء كلمة الحق فيها ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى علم آخر أصلاً. فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد والمباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد سواء كان توقفها عليها باعتبار مواد أدلتها واعتبار صورها. وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في علمهم هذا فجاء علما مستغنيا في نفسه عما عداه ليس له مباد تبين في علم آخر هذا خلاصة ما في شرح المواقف انتهى. وانظر في هذا الباب كتاب العواصم والقواصم للسيد محمد بن إبراهيم الوزير اليمني - رحمه الله - يتضح لك الخطأ والصواب. علم أصول الفقه هو علم يتعرف منه استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها الإجمالية اليقينية.

وموضوعه: الأدلة الشرعية الكلية من حيث أنها كيف تستنبط منها الأحكام الشرعية. ومباديه: مأخوذة من العربية وبعض من العلوم الشرعية كأصول الكلام والتفسير والحديث وبعض من العقلية. والغرض منه: تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الأربعة أعني الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وفائدته: استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة. واعلم أن الحوادث وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاضرين فلا تعلم أحكامها جزئيا ولما كان عمل من أعمال الإنسان حكما من قبل الشارع منوطا بدليل يخصه جعلوها قضايا موضوعاتها أفعال المكلفين ومحمولاتها أحكام الشارع من الوجوب وأخواته فسموا العلم المتعلق بها الحاصل من تلك الأدلة فقها. ثم نظروا في تفصايل الأدلة والأحكام وعمومها فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس ووجدوا الأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة وتأملوا كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا من غير نظر إلى تفصيلها إلا على طريق التمثيل فحصل لهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على الأحكام الجزئية وبيان طرقه وشارئط ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق وسموا العلم المتعلق بها أصول الفقه. قال الإمام علاء الدين الحنفي في ميزان الأصول: اعلم أن أصول الفقه فرع لعلم أصول الدين فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب وأكثر التصانيف في أصول الفقه لأهل الاعتزال المخالفين لنا في الأصول ولأهل الحديث المخالفين لنا في الفروع ولا اعتماد على تصانيفهم. وتصانيف أصحابنا قسمان: قسم: وقع في غاية الإحكام والإتقان لصدوره ممن جمع الأصول والفروع مثل: مآخذ الشروع وكتاب: الجدل للماتريدي ونحوهما. وقسم: وقع في نهاية التحقيق في المعاني وحسن الترتيب لصدروه ممن تصدى لاستخراج الفروع من ظواهر المسموع غير أنهم لما لم يتمهروا في دقائق الأصول وقضايا المعقول أفضى رأيهم إلى رأي المخالفين في بعض الفصول ثم هجر القسم الأول إما: لتوحش الألفاظ والمعاني وإما: لقصور الهمم والتواني واشتهر القسم الآخر. انتهى. وهذا الذي نسبه إلى أهل الحديث وعدم الاعتماد على تصانيفهم نفس تعصبية صدرت من بطن التقليد وإذا لم يعتمد تصنيف أهل الحديث الذين هم القدوة والأسوة في الدين والعرفاء بالنصوص من الكتاب والسنة أكثر من أهل الفقه والمقلدة بمراتب كثيرة ومناحي غفيرة فأي جماعة تليق بالاعتماد والتعويل فما هذا الحرف من هذا الحنفي المتعصب إلا زلة شديدة لا يتأتى مثلها إلا عمن ليس من العلم والإنصاف في صدر ولا ورد فهذا القول ليس عليه إثارة من علم.

قال في كشاف اصطلاحات الفنون: علم أصول الفقه ويسمى ب علم الدراية أيضا على ما في مجمع السلوك وله تعريفان: أحدهما: باعتبار الإضافة. وثانيهما: باعتبار اللقب أي باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص ثم ذكر هذين التعريفين وبسط القول في فوائدهما. ونقل عن إرشاد القاصد للشيخ شمس الدين الأكفاني السخاوي: إن أصول الفقه: علم يتعرف منه تقرير مطلب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بالنظر. وموضوعه: الأدلة الشرعية والأحكام إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأحكام الشرعية وهي إثباتها للحكم وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة. قال: وإن شئت زيادة التحقيق فارجع إلى التوضيح والتلويح انتهى كلام الكشاف ملخصا ثم اعلم أن أول من صنف في أصول الفقه الإمام الشافعي ذكره الإسنوي في التمهيد وحكى الإجماع فيه وهو شيخ المحدثين والفقهاء. والكتب المصنفة فيه كثيرة معروفة وأحسنها ترتيبا وأكملها تحقيقا وتهذيبا وأبلغها قبولا وأعدلها إنصافا كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول لقاضي القضاة شيخنا محمد بن علي الشوكاني اليمني المتوفى في سنة خمس وخمسين ومائتين وألف وقد لخصنا كتابه هذا وسميناه: بحصول المأمول من علم الأصول وهو نفيس جدا فإن كنت ممن يبغي تحقيق الحق على جانب من التقليد والعصبية لآراء الرجال ويعرف هذا العلم على ما فيه من القيل والقال فارجع إليهما تجدهما ديباجة الدنيا ومكرمة الدهر ونكتة عطارد التي يفتخر بها الفخر. مذاهب شتى للمحبين في الهوى ... ولي مذهب واحد أعيش به وحدي وكم من رأي في الدين للشريعة محرف ولهم عن جماعة السنة المطهرة محرف {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . وقال في: مدينة العلوم: ومن الكتب القديمة المصنفة في هذا العلم كتاب الجصاص أحمد بن علي أبي بكر الرازي وكتاب: الأسرار وكتاب: تقويم الأدلة للإمام زيد الدبوسي - قرية بين بخارا وسمرقند - المتوفى سنة 402هـ. ومنها: أصول فخر الإسلام للبزدوي ولكتابه شروح كثيرة أشهرها: الكشف لعبد العزيز بن أحمد البخاري ومنها: أصول شمس الأئمة السرخسي. وإحكام الأحكام للآمدي. ومنتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل ومختصر هذين كلاهما لابن الحاجب وشروحه تزيد على عشرة. وكتاب: القواعد والبديع لابن الساعاتي البعلبكي.

ومنها: المنار للنسفي وله شروح ومنها: المغني للخبازي وشرحه لسراج الدين الهندي قاضي الحنفية بالقاهرة. وكتاب: المنتخب للأخسيكثي و: التحصيل للابي وردي و: المحصول للفخر الرازي و: التنقيح وشرحه: التوضيح لصدر الشريعة والتلويح على شرح التنقيح. للسعد التفتازاني و: فصول البدائع في الأصول الشرائع لشمس الدين الفتازاي و: منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي على مذهب الشافعي وله شروح. ومنها: مرقاة الوصول إلى علم الأصول وغير ذلك. انتهى حاصل كلامه. قلت: ومنها: جمع الجوامع لتاج الدين السبكي وله شروح قد طبع بمصر القاهرة في هذا الزمان وأحسن كتب هذا العلم كتاب شيخنا الشوكاني الذي تقدم ذكره فاشدد يديك عليه تهتدي إلى جادة الحق فصل: قال قاضي القضاة مؤيد الدين عبد الرحمن بن خلدون - رحمه الله - تعالى - في كتاب: العبر وديوان المبتدأ والخبر ما نصه: اعلم: أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية من حيث تؤخذ منها: الأحكام والتكاليف وأصول الأدلة الشرعية هي: الكتاب - الذي هو القرآن - ثم السنة المبينة له فعلى عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت الأحكام تتلقى منه ما يوحى إليه من القرآن ويبينه بقوله وفعله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس ومن بعده - صلى الله عليه وسلم - تعذر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر وأما السنة: فأجمع الصحابة - رضوان الله عليهم - على وجوب العمل بما يصل إلينا منها: قولا وفعلا بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار ثم ينزل الإجماع منزلتها إلا إجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع الشهادة الدالة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشرعيات. ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض يفي ذلك فإن كثيرا من الواقعات بعده لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما يثبت وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق تصح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه وهو: القياس وهو رابع الأدلة واتفق جمهور العلماء على أن هذه: هي أصول الأدلة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلا أنه شذوذ وألحق بعضهم بهذه الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها لضعف مداركها وشذوذ القول فيها فكان أول مباحث هذا الفن بما يصح منها - كما قلناه - معتضدا بما كان عليه العمل في حياته - صلى الله عليه وسلم - من إنفاذ الكتب والرسل إلى النواحي بالأحكام والشرائع آمرا وناهيا وأما الإجماع: فلاتفاقهم على إنكار مخالفته مع العصمة الثابتة للأمة. وأما القياس: فبإجماع الصحابة - رضي الله عليه عنهم - كما قدمنا هذه أصول الأدلة. ثم إن: المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنظر في طرق النقل وعدالة الناقلين لتتميز الحالة

المحصلة للظن بصدقه الذي هو مناط وجوب العمل وهذه أيضا من قواعد الفن ويلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين وطلب المتقدم منهما معرفة الناسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضا وأبوابه ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة ومركبة والقوانين اللسانية في ذلك هي: علوم النحو والتصريف والبيان وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنه جبلة وملكة فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح ومقايس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام وهي: استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام وهو الفقه ولا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصل أهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة مثل: أن اللغة لا تثبت قياسا والمشترك لا يراد به معنياه معا والواو لا تقتضي الترتيب والعام إذا أخرجت أفراد الخاص منه هل يبقى حجة في ما عداها؟ والأمر للوجوب أو الندب؟ وللفور أو التراخي؟ والنهي يقتضي الفساد أو الصحة؟ والمطلق هل يحمل على المقيد؟ والنص على العلة كاف في التعدد أم لا؟ وأمثال هذه فكانت كلها من قواعد هذا الفن ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن: لأن فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح الوصف الذي يغلب الظن أن الحكم علق به في الأصل من تبين أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف والفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابعة ذلك كلها قواعد لهذا الفن واعلم: أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا: فمنهم أخذ معظمها وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة وخبرتهم فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه: أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه: الشافعي أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلمون أيضا كذلك إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب

فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. وجاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمم الأبحاث والشروط التي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذبت مسائله وتمهدت قواعده. وعني الناس بطريقة المتكلمين فيه وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب: البرهان لإمام الحرمين و: المستصفى للغزالي وهما من الأشعرية. وكتاب: العهد لعبد الجبار وشرحه: المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة: قواعد هذا الفن وأركانه ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين وهما: الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب: المحصول وسيف الدين الآمدي في كتاب: الأحكام واختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق والحجاج فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأما كتاب: المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب: التحصيل وتاج الدين الأرموي في كتاب: الحاصل واقتطف شهاب الدين القرافي منهما مقدمات وقواعد في كتاب صغير سماه: التنقيحات وكذلك فعل البيضاوي في كتاب: المنهاج وعنى المبتدون بهذين الكتابين وشرحهما كثير من الناس. وأما كتاب: الأحكام للآمدي وهو أكثر تحقيقا في المسائل فلخصه أبو عمرو ابن الحاجب في كتابه المعروف ب: المختصر الكبير ثم اختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم وعنى أهل المشرق والمغرب به وبمطالعته وشرحه وحصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات. وأما طريقة الحنفية: فكتبوا فيها كثيرا وكان من أحسن كتابة فيها: للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي وأحسن كتابة للمتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم وهي مستوعب. وجاء ابن الساعاتي من فقهاء الحنفية فجمع بين كتاب: الأحكام وكتاب البزدوي في الطريقتين وسمى كتابه: البدائع فجاء من أحسن الأوضاع وأبدعها وأئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة وبحثا وولع كثير من علماء العجم بشرحه والحال على ذلك لهذا العهد هذه حقيقة هذا الفن وتعيين موضوعاته وتعديد التآليف المشهورة لهذا العهد فيه والله ينفعنا بالعلم ويجعلنا من أهله بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير. انتهى كلامه. ومن الكتب المصنفة في هذا العلم: كتاب: مغتنم الحصول في علم الأصول للشيخ حبيب الله. القندهاري من رجال هذه المائة و: مسلم الثبوت لمحب الله البهاري و: رسالة الشيخ محمد إسماعيل الدهلوي و: حصول المأمول لكاتب الحروف - عفا الله عنه. علم الأطعمة والمزورات ذكره أبو الخير من فروع علم الطب وقال: هو علم باحث عن كيفية تركيب الأطعمة اللذيذة والنافعة بحسب الأمزجة ورأيت فيه تصنيفا. انتهى ولا يخفى أنه صناعة الطبخ وفيه: الدبيخ في الطبيخ.

علم إعجاز القرآن ذكره أبو الخير من جملة فروع علم التفسير وقال: صنف فيه جماعة فذكر منهم: الخطابي والرماني والرازي. انتهى ومنهم: الباقلاني وابن سراقة وابن أبي الأصبع والزملكاني - رحمهم الله. علم أعداد الوفق ذكره أبو الخير من فروع علم العدد قال في: الكشف وسيأتي بيانه في علم الوفق ولم يذكر هناك قال في مدينة العلوم: علم أعداد الوفق والدفق جداول مربعة لها بيوت مربعة يوضع في تلك البيوت أرقام عددية أو حروف بدل الأرقام بشرط أن يكون أضلاع تلك الجداول وأقطارها متساوية في العدد وأن لا يوجد عدد مكرر في تلك البيوت وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواص فائضة من روحانيات تلك الأعداد والحروف وتترتب عليها آثار عجيبة وتصرفات غريبة بشرط اختيار أوقات متناسبة وساعات شريفة. وهذا العلم من فروع علم العدد باعتبار توقفه على الحساب ومن فروع علم الخواص باعتبار آثاره قال: وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وفي هذا العلم كتب كثيرة أحسنها: كتاب: شمس الآفاق في علم الحروف والأوفاق و: بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف. قال: وفي هذا العلم كتب كثيرة خارجة عن حد التعداد. انتهى. لكن في جواز استعمالها خلاف والحق منعه لعدم ورود النقل به عن الشارع - عليه السلام. علم الإعراب ويقال له: علم النحو يأتي في باب النون إن شاء الله تعالى. والكتب المؤلفة في هذا العلم لا تحصى كثرة وتزيد في كل زمان. ومن أحسن مختصراته كتاب: غنية الطالب ومنية الراغب للشيخ أحمد فارس أفندي مدير الجوانب اشتمل على دروس وفوائد نفيسة لا توجد في غيره. و: تهذيب النحو للشيخ بهاء الدين العاملي وهو أبلغ وأجمع من الكافية لابن الحاجب وكتبت عليه شرحا فارسيا في زمان الطلب سميته: تذهيب التهذيب و: منتخب النحو للسيد أمير حيدر البلجرامي حرر فيه ما استعمل في اللسان الفارسي من قواعد علم النحو العربي وهو كتاب لم يسبق إليه فيما علمت - والله أعلم. علم إعراب القرآن وهي من فروع علم التفسير على ما في: مفتاح السعادة لكنه في الحقيقة هو: من علم النحو وعده علما مستقلا ليس كما ينبغي وكذا سائر ما ذكره السيوطي في: الإتقان من الأنواع فإنه عد علوما ثم ذكر ما يجب على المعرب مراعاته من الأمور التي ينبغي أن تجعل مقدمة لكتاب إعراب القرآن ولكنه أراد تكثير العلوم والفوائد.

وهذا النوع أفرده بالتصنيف جماعة منهم: الشيخ الإمام مكي بن أبي طالب حموش بن محمد القيسي النحوي المتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة أوله: أما بعد حمد الله جل ذكره وكتابه في المشكل خاصة. وأبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي النحوي المتوفى سنة اثنتين وستين وخمسمائة وكتابه أوضحها وهو في عشر مجلدات. وأبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري النحوي المتوفى سنة ست عشرة وستمائة وكتابه أشهرها وسماه: البيان أوله: الحمد لله الذي وفقنا لحفظ كتابه وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد السفاقسي المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وكتابه أحسن منه وهو في مجلدات سماه: المجيد في إعراب القرآن المجيد أوله: الحمد لله الذي شرفنا بحفظ كتابه. الخ. ذكر فيه البحر بشيخه أبي حيان ومدحه ثم قال: لكنه سلك سبيل المفسرين في الجمع بين التفسير والإعراب فتفرق فيه المقصود فاستخار في تلخيصه وجمع ما بقي في كتاب أبي البقاء من إعرابه لكونه كتابا قد عكف الناس عليه فضمه إليه بعلامة الميم وأورد ما كان له بقلت ولما كان كتابا كبير الحجم في مجلدات لخص الشيخ محمد بن سليمان الصرخدي الشافعي المتوفى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة واعترض عليه في مواضع. وأما كتاب الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي المتوفى سنة ست وخمسين وسبعمائة فهو مع اشتماله على غيره أجل ما صنف فيه لأنه جمع العلوم الخمسة الإعراب والتصريف واللغة والمعاني والبيان ولذلك قال السيوطي في: الإتقان هو مشتمل على حشو وتطويل لخصه السفاقسي فجوده. انتهى. وهو وهم منه لأن السفاقسي ما لخص إعرابه منه بل من البحر - كما عرفت - و: السمين لخصه أيضا من البحر في حياة شيخه أبي حيان وناقشه فيه كثيرا وسماه: الدر المصون في علم الكتاب المكنون أوله: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب وفرغ عنه في واسط رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. فائدة أوردها تقي الدين في طبقاته وهي: أن المولى الفاضل علي بن أمر الله المعروف بابن الحنا القاضي بالشام حضر مرة درس الشيخ العلامة بدر الدين الغزي لما ختم في الجامع الأموي من التفسير الذي صنفه وجرى فيه بينهما أبحاث منها: اعتراضات السمين على شيخه. فقال الشيخ: إن أكثرها غير وارد. وقال المولى علي: الذي في اعتقادي أن أكثرها وارد وأصر على ذلك ثم إن المولى المذكور كشف عن ترجمة السمين فرأى أن الحافظ ابن حجر وافقه فيه حيث قال في: الدرر صنف في حياة شيخه وناقشه مناقشات كثيرة غالبها جيدة فكتب إلى الشيخ أبياتا يسأله أن يكتب ما عثر الشهاب عليه من أبحاث فاستخرج عشرة منها ورجح فيها كلام أبي حيان وزيف اعتراضات السمين عليها وسماه ب: الدر الثمين في المناقشة بين أبي حيان والسمين وأرسلها إلى القاضي فلم وقف انتصر ل السمين ورجح كلامه على كلام أبي حيان وأجاب عن اعتراضات الشيخ بدر الدين ورد كلامه في رسالة كبيرة وقف عليها علماء الشام ورجحوا كتابته على كتابة البدر وأقروا له بالفضل والتقدم.

وممن صنف في إعراب القرآن من القدماء: الإمام أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفى سنة ثمان وأربعين ومائتين. وأبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان المالكي القرطبي المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائتين. وأبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد النحوي المتوفى سنة ست وثمانين ومائتين. وأبو العباس أحمد بن يحيى الشهير: بثعلب النحوي المتوفى سنة إحدى وتسعين ومائتين. وأبو جعفر محمد بن أحمد بن النحاس النحوي المتوفى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. وأبو طاهر إسماعيل بن خلف الصقلي النحوي المتوفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة وكتابه في تسع مجلدات. والشيخ أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد الخطيب التبريزي المتوفى سنة اثنتين وخمسمائة في أربع مجلدات. والشيخ أبو البركات عبد الرحمن بن أبي سعيد محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وسماه: البيان أوله الحمد لله منزل الذكر الحكيم. والإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد الطلحي الأصفهاني المتوفى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. ومنتخب الدين حسين بن أبي العز بن الرشيد الهمداني المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة وكتابه تصنيف متوسط لا بأس به أوله: الحمد لله الذي بنعمته حمد وبهدايته عبد وبخذلانه جحد وسماه ب: كتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد. وأبو عبد الله حسين بن أحمد المعروف بابن خالويه النحوي المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة وكتابه في إعراب ثلاثين سورة من الطارق إلى آخر القرآن والفاتحة بشرح أصول كل حرف وتلخيص فروعه. والشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي الشافعي المتوفى سنة تسع وعشرين وستمائة وكتابه في إعراب الفاتحة. والشيخ إسحاق بن محمود بن حمزة تلميذ ابن الملك جمع إعراب الجزء الأخير من القرآن وسماه: التنبيه وأوله أول البيان المذكور آنفا والمولى أحمد بن محمد الشهير بنشانجي زاده المتوفى سنة ست وثمانين وتسعمائة كتب إلى سورة الأعراف - لم يتمه - ومن الكتب المصنفة في أعراف القرآن تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من القرآن إلى غير ذلك مما يعرفه أهل هذا الشأن. علم آفات الجاه وسبب حب الجاه هو: أن الروح الإنساني لكونه أمرا ربانيا من عالم الملكوت يحب العلم والقدرة والحرية بالطبع فيتسلط بعلمه على عجائب مصنوعات الله تعالى ويتسلط بقدرته على أموال الناس وأعراضهم ويحب الاستغناء بحريته عن سائر الخلق وكل ذلك توهم باطل لأن العلم الحقيقي لله تعالى ولا علم للعبد إلا بفيض منه تعالى لأن القدرة التامة لله تعالى وإنما للعبد الكسب فقط وأن محل الحرية إنما هي الآخرة فيكون مبنى حب الجاه على الجهالة ومن هو من أهل المعرفة لا يتورط في ذلك.

وأيضا لو أطاعك جميع من على بسيط الأرض لم يبق ذلك بعد خمسين سنة أو ستين سنة فلا ينبغي للعاقل أن يضيع دينه لأجل لذة وهمية زائلة عن قريب وعيش فان. علم آفات الدنيا وهي عبارة عن الأمور التي قبل الموت كما أن الآخرة عبارة عن الأمور التي بعد الموت والدنيا ثلاثة أقسام: أحدها: ما له لذة عاجلة فقط كالمعاصي والمباحات. وثانيها: ما له لذة عاجلة وأجله كالعلم والطاعات لمن يلتذ بها. وثالثها: ما هو متوسط بينهما وهو كل لذيذ يستعان به على أمور الآخرة كالقوت من الطعام وما يستر العورة ويقي من الحر والبرد من اللباس ونحو ذلك وليس للعبد بعد الموت إلا صفاء القلب وطهارته وذلك بالكف عن الشهوات والأنس بالله وذلك لكثرة ذكر الله تعالى والمحبة لله ذلك لا يحصل إلا بالمعرفة وهي تتولد من الفكر فكل ما يشغلك عن الفكر من أمور الدنيا يجب أن يحترز عنه وكل ما يعينك على ذلك فهو من أمور الآخرة وإن كان من الدنيا ظاهرا. علم آفات الرياء وهي على أربعة مراتب: الأولى: وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلا فهو الممقوت عند الله عز وجل. والثانية: أن يقصد الثواب قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة لا يفعل فهذا قريب مما قبله. والثالثة: أن يكون قصد الثواب والرياء متساويين بحيث لو خلا كل منهما عن الآخر لم يبعثه على العمل فيرجى أن يسلم رأسا برأس. والرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحا ومقويا لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العباد فالذي يظن والعلم عند الله: أنه لا يحبط أصل الثواب ولكن ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب والمخلص من جميع ذلك أن يلاحظ جناب الحق وكون الخلق عاجزين ومقهورين تحت قدرته وليس للعاقل أن يدع رضى الغالب القاهر لرضى المغلوب المقهور. علم آفات العجب وهو أن يرى في نفسه فضيلة تحصل بها للنفس هزة وفرح ولا يشترط فيه روية الغير بل لو لم يوجد أحد غيره يمكن أن يحصل له العجب بخلاف الكبر: فإنه رؤية النفس أنها أفضل من غيرها. وآفاته كثيرة: لأنه قد يؤدي إلى الكبر وستأتي آفاته. ومن آفاته: أنه ينسى ذنوبه ويظن أنه استغنى عن تفقدها ويستصغرها ولا يتداركها وربما يظن أنها تغفر له.

ومنها: أنه يستعظم عباداته ويمتن بها على الله - سبحانه وتعالى - ويغتر بنفسه وربه ويأمن مكر الله ويظن أنه عند الله بمكان ويخرجه العجب إلى أن يحمد نفسه ويثني عليها ويزكيها برأيه وإن كان خطأ ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه. وعلاجه: المعرفة بأن جميع ما له من الكمال إنما هو نعمة من الله وفضل من غير سابقة تدبير وتصرف من نفسه فإذا عرف ذلك حق المعرفة وعرف أنه ليس له من نفسه كمالا ينقطع عرق العجب الذي ينشأ من الجهل. علم آفات الغرور وهو: سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان. والمغرورون أصناف: منهم: العلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها وأهملوا محافظة الجوارح عن المعاصي وإلزامها الأعمال الصالحة وهم مغرورون: لأن العلم إذا لم يقارنه العمل لا يكون له مكان عند الله تعالى وعند الخواص من عباده. ومنهم: الذين أحكموا العلم والعمل وأهملوا تزكية نفوسهم عن الأخلاق الذميمة وهم مغرورون أيضا إذ لا ينجو في الآخرة إلا من أتى الله بقلب سليم. ومنهم: الذين اعترفوا بأن النجاة في الآخرة إنما هي بتزكية النفس عن الأخلاق الذميمة إلا أنهم يزعمون أنهم منفكون عنها وهؤلاء مغرورون أيضا لأن هذا من العجب والعجب من أشد الصفات المهلكات. ومنهم: الذين اتصفوا بالعلم وتزكية الأخلاق لكن بقي منها خبايا في زوايا القلب ولم يشعروا بها وهؤلاء أيضا مغرورون بظاهر أحوالهم وغفلوا عن تحصيل القلب السليم. ومنهم: الذين اقتصروا على علم الفتاوى وإجراء الأحكام وهم مغرورون لأنهم اقتصروا على فرض الكفاية وأخلوا بفرض العين وهو: إصلاح أنفسهم وتزكية أخلاقهم وتصفية قلوبهم من الحقد والحسد وأمثال ذلك. ومنهم: الوعاظ وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والإخلاص ونحو ذلك وأكثرهم مغرورون لأنهم يتكلمون فيما ذكر وليس لهم من ذلك شيء. ومنهم: من اشتغل باللغة ودقائق العلوم العربية وأفنوا عمرهم فيها ظنا منهم أنهم من علماء الأمة لأنهم في صدد أحكام مباني الكتاب والسنة وهم مغرورون لأنهم: اتخذوا القشر مقصودا فاغتروا به وأصناف المغرورين من الناس لا يمكن تعدادهم1 وفي هذا القدر كفاية لمن اعتبر - اللهم ألهمنا طريق

_ 1 قلت وقد عد لكثرتهم ابن الجوزي المحدث رحمه الله في كتابة المبين للسير فإن شئت الزيادة فارجع إليه ص11 ذو الفقار أحمد. سلمه الله الصمد. وبهذا التفصيل إن شئت الاطلاع عليه فارجع إلى كتاب الإحياء للإمام الغزالي-رحمه الله عليه- حافظ علي حسين غفر الله له.

دفع الغرور - ولا يمكن ذلك إلا بالعقل الذي هو مبنى الخيرات وأساسها ثم بالمعرفة وهي لا تعم إلا بمعرفة نفسه بالذل والعبودية ومعرفة ربه بالجلال والهيبة وصفا بقلبه بلذة المناجات واستوت عنده من الدنيا ذهبها ومدرها ولا يبقى للشيطان عليه من سلطان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. علم آفات الغضب وهو مذموم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والتابعين. وحقيقته أنه حرارة تنبعث من الباطن لدفع المضار البدنية لأن البدن لكونه غير مأمون عن الضرر خلق الله تعالى في البدن نار الغضب لتدفع الضرر عنه وله درجات. إحداها: الإفراط: وهو مذموم لأنه يتجاوز عن حد دفع الشر إلى إيقاع الشر. وثانيتها: التفريط: وهو أيضا مذموم لأنه لا يقدر على تحقيق ما خلق الغضب له وهو دفع الشر. وثالثتها: الاعتدال: وهو أن ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم وهو الوسط ولتحصيل هذا الاعتدال طرق ورياضات يعرفها أهلها وليس هذا المقام موضع تفصيلها1. علم آفات الكبر وهو صفة في النفس وما في الظاهر من إماراتها. وهو أن يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال فيحصل في قلبه اغترار وهزة وفرح وركون إلى رؤية نفسه والتكبر إما على الله تعالى - والعياذ بالله من ذلك - كتكبر فرعون ونمرود. وإما على الرسل والأنبياء: بأن لا يطيعهم كتكبر أبي جهل وأبي بن خلف. وإما على الخلق: وهذا وإن كان دون الأولين إلا أنه داء عظيم ولهذا ذمه الله تعالى ورسوله والكتاب والسنة مشحونان من ذمه ومدح التواضع وأسبابه الظاهرة. وإما العلم: لأنه يكون سببا لرؤية النفس واستحقار الغير. وإما العمل والعبادة: لأن صاحبه يرى فضيلته في نفسه بذلك على غيره. وإما بالحسب والنسب وقلما ينفك عنه نسيب. وإما2 الجمال وأكثر ما يكون ذلك في النساء. وإما المال كما يرى في الأغنياء. وإما القوة كما ترى في الأقوياء فإنهم يتكبرون بها على الضعفاء. وإما كثرة الخدام والعبيد والأقارب والبنين من ذلك المكاثرة بالمستفيدين بين العلماء. وأما أسبابه الباطنة فهي: إما العجب وهو أكبر الباطن.

_ 1 ولنعم ماقيل: برمال وجمال خويش مغرور مشو. كانرابشبي برند واين رابيتي محمد الحسن طبيب سلمه ربه. 2 كما قيل: ومن سك طقمه دوخت به، علي حسين خوشنويس عفا الله عنه.

وإما الحقد: لأنه إذا رسخ في القلب تأنف النفس من أن تطيع المحق. وإما الحسد: وهو أيضا يبعثه على أن يعامله بأخلاق الكبر. وإما الرياء: فإن كثيرا من الناس يتكبر على آخر ولا يستفيد منه العلم لئلا يقال أنه أفضل منه وطريق معالجة الكبر: إما عام: يقطع عرقه بالكلية وهو أن يعرف ذل نفسه وأن الكبرياء لله تعالى وأن يواظب على قصد التواضع والتشبه بالمتواضعين إلى أن يرسخ فيه ذلك ويتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم – "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد" مع أن له من المنصب الجليل فوق جميع المناصب. وإما خاص: وهو أن يدفع الكبر بالنسب لأن ذلك اعتداد بكمال الغير ويدفع الكبر بالجمال بملاحظة ما في باطنه من الأقذار وبما سيصير إليه في القبر ويدفع الكبر بالقوة بأنه إذا مرض يصير أعجز العاجزين وبأن الحمار والبقر أكمل في ذلك منه. ويدفع الكبر بالغنى والأعوان والأنصار بأن جميع ذلك في معرض الآفات ويدفع الكبر بالعلم بأن حجة الله تعالى على العالم أوكد وبأن الكبر لا يليق إلا لله - عز وجل سبحانه. علم آفات اللسان وآفاته: إنما هي في التكلم بما لا يعنيه. وهو أن تتكلم ما لو سكت عنه لم تأثم ولم تتضرر في حال أو مآل لأنك إن حكيت بعض الحكايات وأنت صادق فيها فقد ضيعت أوقاتك وإن زدت فيها أو نقصت عنها فأنت آثم لأن ذلك كذب. مثلا: إذا سألت رجلا: هل أنت صائم؟ فإن سكت فقد تأذيت وإن قال: لا فقد كذب وإن قال: نعم استبدل سر عمله جهرا فدخل عليه الرياء. وتفاصيل أنواع الآفات بحسب أنواع الكلام مذكورة في المقولات. علم آفات المال وله منافع كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" ومضاره وهي كثيرة مذكورة في القرآن والحديث. أما منافعه: فهي الإنفاق على نفسه ليعينه على الطاعة كالمطعم والملبس والمسكن والمنكح وسائر ضروريات المعيشة والإنفاق في سبيل الله تعالى كالزكاة والحج ونحوهما والإنفاق لوقاية العرض كدفع هجو الشاعر وقطع ألسنة السفهاء فإن ذلك صدقة لأن فيه منعهم عن الغيبة والإنفاق على الخدم فإن ذلك منفعة دينية إذ لو تولى الإنسان جميع مصالحه بذاته لفاته كثير من الطاعات وأما مضاره وهي: أن المال الكثير ربما يجر الإنسان إلى المعاصي والشهوات وأيضا المال المباح ربما لا يفي لتحصيل مراداته الدنيوية فيجره ذلك إلى الوقوع في الشبهات ثم يجبره ذلك إلى الوقوع في الحرام. ومن الآفات التي لا يتخلص منها إلا الأقلون وهو: الداء العضال والخسران العظيم إلهاء صاحبه عن ذكر الله تعالى.

وأما علاجه فلأن لحب المال سببين: أحدهما: حب الشهوات وطول الأمل وثانيهما: حب عين المال وعلاج الأول: القناعة والصبر وقصر الأمل بكثرة ذكر الموت وذكر موت الأقران. وعلاج الثاني: تكرار ما ورد في القرآن والحديث من مذمة الدنيا وحقارتها وكونها عدوة الله تعالى وعدوة الإنسان. علم أفضل القرآن وفاضله ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير ونقل فيه مذاهب الأئمة الأعلام كما في: الإتقان. علم أقسام القرآن جمع قسم بمعنى اليمين جعله السيوطي نوعا من أنواع علوم القرآن وتبعه صاحب: مفتاح السعادة حيث أورده من فروع علم التفسير. وقال: صنف فيه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - مجلدا اسماه التبيان أقسم الله بنفسه في القرآن في سبعة مواضع والباقي كله قسم بمخلوقاته وأجابوا عنه بوجوه. علم الأكتاف هو علم باحث عن الخطوط والأشكال التي ترى في أكتاف الضأن والمعز إذا قوبلت بشعاع الشمس من حيث دلالتها على أحوال العالم الأكبر من الحروب الواقعة بين الملوك وأحوال الخصب والجدب وقلما يستدل بها على الأحوال الجزئية لإنسان معين يؤخذ لوح الكتف قبل طبخ لحمه ويلقى على الأرض أولا ثم ينظر فيه فيستدل بأحواله من الصفا والكدر والحمرة والخضرة إلى الأحوال الجارية في العالم من الغلاء والرخاء والحروب الواقعة بين الأمراء ولمن الغلبة فيها. وتنصب أطرافه الأربعة إلى جهات العالم ويحكم بذلك على كل ضلع منها بأحوال متعلقة بها على ما يظهر في اللوح. وينسب علم الكتف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال صاحب: مدينة العلوم وصاحب: مفتاح السعادة: رأيت مقالة في هذا العلم مختصرة غاية الاختصار لكن بين فيها الآنية دون اللمية يعني: المسائل مجردة عن الدلائل وقد سبق أنه من فروع علم الفراسة. علم الآكر هو علم يبحث فيه عن الأحوال العارضة للكرة والمقادير المتعلقة بها من حيث أنها كرة من غير نظر إلى كونها بسيطة أو مركبة عنصرية أو فلكية. فموضوعه الكرة بما هو كرة: وهي جسم يحيط به سطح واحد مستدير في داخله نقطة يكون جميع الخطوط المستقيمة الخارجة منها إليه متساوية وتلك النقطة مركز حجمها سواء كانت مركز ثقلها أو لا.

وقد يبحث فيه عن أحوال الآكر المتحركة فاندرج فيه ولا حاجة إلى جعله علما مستقلا كما جعله صاحب: مدينة العلوم و: مفتاح السعادة وعداهما من فروع علم الهيئة. وقالا: تتوقف براهين علم الهيئة على هذين أشد توقف ولهذا جل نفع هذا العلم. وفيه كتب للأوائل والأواخر منها الآكر المتحركة للمهندس الفاضل أوطولوقس اليوناني وقد عربوه في زمن المأمون ثم أصلحه يعقوب بن إسحاق الكندي وأكرمانالاؤس وأكرثاؤذوسيوس علم الآلات الحربية هو علم يتعرف منه كيفية اتخاذ الآلات الحربية كالمنجنيق وغيرها. وهو من فروع علم الهندسة. ومنفعته ظاهرة لأنه شديد العناء في دفع الأعداء وحماية المدن. وهذا العلم: أحد أركان الدين لتوقف أمر الجهاد عليه ولبني موسى بن شاكر كتاب مفيد في هذا العلم كذا في: مفتاح السعادة و: مدينة العلوم. وينبغي أن يضاف علم رمي القوس والبنادق إلى هذا العلم وأن ينبه على أن أمثال ذلك العلم قسمان: علم وضعها وصنعتها. وعلم استعمالها وفيه كتب. علم الآلات الرصدية ذكره أبو الخير من فروع علم الهيئة وقال: هو علم يتعرف منه كيفية تحصيل الآلات الرصدية قبل الشروع في الرصد فإن الرصد لا يتم إلا بآلات كثيرة رتبوها وتحصيل تلك الآلات يتوقف على معرفة أحوالها وكتاب: الآلات العجيبة للخازني يشتمل على ذلك. انتهى ومثله في مدينة العلوم. وقال العلامة تقي الدين الراصد في: سدرة منتهى الأفكار: والغرض من وضع تلك الآلات: تشبيه سطح منها بسطح دائرة فلكية ليمكن بها ضبط حركتها ولن يستقيم ذلك ما دام لنصف قطر الأرض قدر محسوس عند نصف قطر تلك الدائرة الفلكية إلا بتعديله بعد الإحاطة باختلافه الكلي وحيث أحسسنا بحركات دورية مختلفة وجب علينا ضبطها بآلات رصدية تشبهها في وضعها لما يمكن له التشبيه ولما لم يمكن له ذلك يضبط اختلافه ثم فرض كرات تطابق اختلافا لها المقيسة إلى مركز العالم تلك الاختلافات المحسوس بها إذا كانت متحركة حركة بسيطة حول مراكزها. فبمقتضى تلك الأغراض تعددت الآلات والذي أنشأناه بدار الرصد الجديدة هذه الآلات منها: اللبنة: وهي جسم مربع مستو يستعلم به الميل الكلي وأبعاد الكواكب وعرض البلد. ومنها الحلقة الاعتدالية: وهي حلقة تنصب في سطح دائرة المعدل ليعلم بها التحويل الاعتدالي. ومنها ذات الأوتار قال: وهي من مخترعنا وهي أربع أسطوانات مربعات تغني عن الحلقة الاعتدالية على أنها يعلم تحويل الليل أيضا. ومنها ذات الحلق: وهي أعظم الآلات هيئة ومدلولا وتركب من حلقة تقام مقام منطقة فلك البروج

وحلقة تقام مقام المارة بالأقطاب تركب أحدها في الأخرى بالتصنيف والتقطيع وحلقة الطول الكبرى وحلقة الطول الصغرى تركب الأولى في محدب المنطقة والثانية في مقعرها وحلقة نصف النهار وقطر مقعرها مساو لقطر محدب حلقة الطول الكبرى من حلقة الأرض قطر محدبها قدر قطر مقعر حلقة الطول الصغرى فتوضع هذه على كرسي. ومنها: ذات السمت والارتفاع: وهي نصف حلقة قطرها سطح من سطوح أسطوانة متوازية السطوح يعلم بها السمت وارتفاعها وهذه الآلة من مخترعات الرصاد الإسلاميين. ومنها: ذات الشعبتين: وهي ثلاث مساطر على كرسي يعلم بها الارتفاع. ومنها: ذات الجيب: وهي مسطرتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين. ومنها: المشبهة بالناطق قال: وهي من مخترعاتنا كثيرة الفوائد في معرفة ما بين الكوكبين من البعد وهي ثلاث مساطر اثنتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين. ومنها: الربع المسطري وذات النقبتين والبنكام الرصدي وغير ذلك وللعلاقة غياث الدين جمشيد رسالة فارسية في وصف تلك الآلات سوى ما أخترعه تقي الدين. واعلم أن الآلات الفلكية كثيرة منها: الآلات المذكورة ومنها السدس الذي ذكره جمشيد. ومنها: ذات المثلث. ومنها: أنواع الإسطرلابات: كالتام والمسطح والطوماري والهلالي والزورقي والعقربي والأسي والقوسي والجنوبي والشمالي والكبري والمبطح والمسرطق وحق القمر والمغني والجامعة وعصا موسى ومنها: أنواع الأرباع: كالتام والمجيب والمقنطرات والأفاقي والشكازي ودائرة المعدل وذات الكرسي والزرقالة وربع الزرقالة وطبق المناطق. وذكر ابن الشاطر في النفع العام: أنه أمعن النظر في الآلات الفلكية فوجد مع كثرتها أنها ليس فيها ما يفي بجميع الأعمال الفلكية في كل عرض قال: ولا بد أن يداخلها الخلل في غالب الأعمال أما من جهة تعسر تحقيق الوضع كالمبطحات أو من جهة تحرك بعضها على بعض وكثرة تفاوت ما بين خطوطها وتزاحمها كالإسطرلاب والشكازية والرزقالية وغالب الآلات أو من جهة الخيط أو تحريك المري وتزاحم الخطوط كالأرباح المقنطرات والمجيبة وإن بعضها يعسرها غالب المطالب الفلكية وبعضها لا يفي إلا بالقليل أو بعضها مختص بعرض واحد وبعضها بعروض مختصة وبعضها تكون أعمالها ظنية غير برهانية وبعضها يأتي بعض الأعمال بطريق مطولة خارجة عن الحد وبعضها يعسر حملها ويقبح شكلها كالآلة الشاملة فوضع آلة يخرج بها جميع الأعمال في جميع الآفاق بسهولة مقصد ووضوح برهان فسماها الربع التام. علم آلات الساعة من الصناديق والضوارب وأمثال ذلك ونفعه بين لكل واحد وفيها مجلدات عظيمة. هذا حاصل ما ذكره أبو الخير في فروع الهيئة ونحوه في: مدينة العلوم وأقول لا يخفى عليك أنه هو علم البنكامات الذي جعله من فروع الهندسة وسيأتي في الباء وكيفية وضعها مسطورة في كتاب حيل بني موسى.

علم الآلات الظلية هو علم يتعرف منه مقادير ظلال المقائس وأحوالها الأخر والخطوط التي ترسم في أطرافها وأحوال الظلال المستوية والمنكوسة. ومنفعته معرفة ساعات النهار بهذه الآلات كالبسائط والقائمات والمائلات من الرخامات وفيه كتاب مبرهن لإبراهيم بن سنان الحراني ذكره أبو الخير في فروع علم الهيئة ومثله في: مدينة العلوم. علم الآلات العجيبة الموسيقائية هو علم يتعرف منه كيفية وضعها وتركيبها كالعود والمزامير والقانون سيما الأرغنوك وغير ذلك ولقد أبدع واضعها فيها الصنائع العجيبة والأمور الغريبة. قال أبو الخير: ولقد شاهدته واستمعت به مرات عديدة ولم تزد المشاهدة والنظرة إلا دهشة وحيرة. ثم ثال وإنما تعرضت لها مع كونها محرمة في شريعتنا لكونها من فروع العلوم الرياضية. أقول وسيأتي بيان حكمة الحرمة في الموسيقى وعبارة: مدينة العلوم ولا نطول الكلام بذكر أنواع الآلات الموسيقية لأنها محرمة في شريعتنا وعمر طالب الآخرة أشرف من أن يضيع أوقاته في أمثال هذه وإنما تعرضت لها ههنا لأتمم أنواع العلوم. انتهى. قلت: ومن قول أصحاب هذا العلم هذا الشعر: من كل شيء لذيذ احتسى قدحا وكل ناطقة في الكون يطربني ومن أنواع تلك الآلات الكوس والطبل والنقارة والدائرة. ومن أنواع المزامير الناي والسورنا والنفير والمثقال والفوال وآلة يقال لها بوري ودودك. ومن أنواع ذات الأوتار: الطنبور والششتا والرباب وآلة يقال لها قيوزوجنك وغير ذلك. وقد أورد الشيخ في: الشفا بصورها وكذا العلامة الشيرازي في: درة التاج. علم الآلات الروحانية وهو علم تتبين منه: كيفية إيجاد الآلات المرتبة المبنية على ضرورة عدم الخلاء ونحوها كقدح العدل وقدح الحور. أما الأول: فهو إناء إذا امتلأ منها قدر معين يستقر فيها الشراب وإن زيد عليها ولو بشيء يسير ينصب الماء ويتفرغ الإناء عنه بحيث لا يبقى منه قطرة. وأما الثاني: فله مقدار معين إن صب فيه الماء بذلك القدر القليل يثبت وإن ملئ يثبت أيضا وإن كان بين المقدارين يتفرغ الإناء كل ذلك لعدم إمكان الخلاء. وهذا العلم من حيث تعلقه بمقدار معين من الإناء من فروع علم الهندسة ومن حيث كونه مبنيا على عدم الخلاء من فروع علم الطبيعي ومن هذا القبيل دوران الساعات ويسمى علم آلات روحانية: لارتياح النفس وارتياضها بغرائب هذه الآلات. وأشهر كتب هذا الفن: حيل بني موسى بن شاكر وفيه كتاب: مختصر لغيلن وكتاب: مبسوط للبديع الجزري كذا قال أبو الخير.

علم الألغاز هو علم يتعرف منه دلالة الألفاظ على المراد دلالة خفية في الغاية لكن لا بحيث تنبو عنها الأذهان السليمة بل تستحسنها وتنشرح إليها بشرط أن يكون المراد من الألفاظ الذوات الموجودة في الخارج وبهذا يفترق من المعمى لأن المراد من الألفاظ اسم شيء من الإنسان وغيره. وهو من فروع علم البيان لأن المعتبر فيه وضوح الدلالة كما سيأتي. والغرض فيهما: الإخفاء وستر المراد ولما كان إرادة الإخفاء على وجه الندرة عند امتحان الأذهان لم يتلفت إليهما البلغاء حتى لم يعد وهما أيضا من الصنائع البديعة التي يبحث فيها عن الحسن العرضي. ثم هذا المدلول الخفي إن لم يكن ألفاظا وحروفا بلا قصد دلالتهما على معان أخر بل ذوات موجودة يسمى اللغز. وإن كان ألفاظا وحروفا دالة على معان مقصودة يسمى معمى. وبهذا يعلم أن اللفظ الواحد يمكن أن يكون معمى ولغزا باعتبارين. لأن المدلول إذا كان ألفاظا: فإن قصد بها معان أخر يكون معمى. وإن قصد ذوات الحروف على أنها من الذات: يكون لغزا. وأكثر مبادئ هذين العلمين مأخوذ من تتبع كلام الملغزين وأصحاب المعمى وبعضها أمور تخييلية تعتبرها الأذواق. ومسائلها راجعة إلى المناسبة الذوقية بين الدال والمدلول الخفي على وجه يقبلها الذهن السليم ومنفعتها تقويم الأذهان وتشحيذها:. ومن أمثلة الألغاز قول القائل في القلم: وما غلام راكع ساجد ... أخو نحول دمعه جاري ملازم الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري وآخر في الميزان: وقاضي قضاة يفصل الحق ساكتا ... وبالحق يقضي لا يبوح فينطق قضى بلسان لا يميل وإن يمل ... على أحد الخصمين فهو مصدق ومن الكتب المصنفة فيه أيضا كتاب: الألغاز للشريف عز الدين حمزة بن أحمد الدمشقي الشافعي المتوفى سنة أربع وسبعين وثمانمائة. وصنف فيه جمال الدين عبد الرحيم بن حسن الأسنوي - المتوفى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة. ومن الكتب المصنفة فيه: الذخائر الأشرفية في الألغاز الخفية للقاضي عبد البر بن شحنة الحلبي - المتوفى سنة إحدى وعشرين وتسعمائة - وهو الذي انتخب ابن نجيم في الفن الرابع من الأشباه وذكر أن خبرة الفقهاء والعدة اشتملا على كثير من ذلك لكن الجميع ألغاز فقهية.

علم الإلهي هو علم يبحث فيه عن الحوادث من حيث هي موجودات. وموضوعه الوجود من حيث هو. وغايته تحصيل الاعتقادات الحقة والتصورات المطابقة لتحصيل السعادة الأبدية والسيادة السرمدية كذا في: مفتاح السعادة. وفي كشاف اصطلاحات الفنون: هو علم بأحوال ما يفتقر في الوجودين أي الخارجي والذهني إلى المادة. ويسمى أيضا بالعلم الأعلى وبالفلسفة الأولى وبالعلم الكلي وبما بعد الطبيعة وبما قبل الطبيعة والبحث فيه عن الكميات المتصلة والكيفيات المحسوسة والمختصة بالكميات وأمثالها مما يفتقر إلى المادة في الوجود الخارجي استطرادي وكذا البحث عن الصورة مع أن الصورة تحتاج إلى المادة في التشكل كذا في العلمي وفي الصدر أمن الحكمية النظرية ما يتعلق بأمور غير مادية مستغنية القوام في نحوي الوجود العيني والذهني عن اشتراط المادة كالإله الحق والعقول الفعالة والأقسام الأولية للموجود كالواجب والممكن والواحد والكثير والعلة والمعلول والكلي والجزئي وغير ذلك فإن خالط شيء منها المواد الجسمانية فلا يكون على سبيل الافتقار والوجوب. وسموا هذا القسم: العلم الأعلى فمنه العلم الكلي المشتمل على تقاسيم الوجود المسمى بالفلسفة الأولى ومنه الإلهي الذي هو فن من المفارقات. وموضوع هذين الفنين: أعم الأشياء وهو الموجود المطلق من حيث هو. انتهى. وأصول الإلهي خمسة: الأول: الأمور العامة. الثاني: إثبات الواجب وما يليق به. الثالث: إثبات الجواهر الروحانية. الرابع: بيان ارتباط الأمور الأرضية بالقوى السماوية. الخامس: بيان نظام الممكنات. وفروعه قسمان: الأول: البحث عن كيفية الوحي وصيرورة العقل محسوسا ومنه تعريف الإلهيات ومنه الروح الأمين. الثاني: العلم بالمعاد الروحاني. انتهى. وقال صاحب: إرشاد القاصد: يعبر عنه بالإلهي لاشتماله على علم الربوبية. وبالعلم الكلي لعمومه وشموله لكليات الموجودات. وبعلم ما بعد الطبيعة لتجرد موضوعه عن المواد ولواحقها. قال: وأجزاؤه الأصلية خمسة: الأول: النظر في الأمور العامة مثل الوجود والماهية والوجوب والإمكان والقدم والحدوث والوحدة والكثرة. والثاني: النظر في مبادئ العلوم كلها وتبيين مقدماتها ومراتبها.

والثالث: النظر في إثبات وجود الإله ووجوبه والدلالة على وحدته وصفاته. والرابع: النظر في إثبات الجواهر المجردة من العقول والنفوس والملائكة والجن والشياطين وحقائقها وأحوالها. والخامس: النظر في أحوال النفوس البشرية بعد مفارقتها وحال المعاد. ولما اشتدت الحاجة إليه اختلفت الطرق. فمن الطالبين: من رام إدراكه بالبحث والنظر وهؤلاء زمرة الحكماء الباحثين ورئيسهم أرسطو وهذا الطريق أنفع للتعلم لو وفى بجملة المطالب وقامت عليها براهين يقينية وهيهات. ومنهم: من سلك طريق تصفية النفس بالرياضة وأكثرهم يصل إلى أمور ذوقية يكشفها له العيان ويجل أن توصف بلسان ومنهم: ابتدأ أمره بالبحث والنظر وانتهى إلى التجريد وتصفية النفس فجمع بين الفضيلتين وينسب مثال هذا الحال إلى سقراط وأفلاطون والسهروردي والبيهقي. انتهى. وقال أبو الخير: وهذا العلم هو المقصد الأقصى والمطلب الأعلى لكن لمن وقف على حقائقه واستقام في الإطلاع على دقائقه لأن حظي به فقد فاز فوزا عظيما ومن زلت فيه قدمه أو طغى به قلمه فقد ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا إذ الباطل يشاكل الحق في مأخذه والوهم يعارض العقل في دلائله جل جناب الحق عن أن يكون شريعة الكل وارد أو يطلع على سرائر قدسه إلا واحد بعد واحد وقلما يوجد إنسان يصفو عقله عن كدر الأوهام ويخلص فهمه عن مهاوي الإيهام ويستسلم لما قرره الأعلام. واعلم أن من النظر رتبة تناظر طريق التصفية ويقرب حدها من حدها وهو طريق الذوق ويسمونه الحكمة الذوقية. وممن وصل إلى هذه الرتبة في السلف السهروردي وكتاب: حكمة الإشراق له صادر عن هذا المقام برمز أخفى من أن يعلم وفي المتأخرين: الفاضل الكامل مولانا شمس الدين الفناري في بلاد الروم ومولانا جلال الدين الدواني في بلاد العجم ورئيس هؤلاء الشيخ صدر الدين القونوي والعلامة قطب الدين الشيرازي. انتهى. ملخصا أو سيأتي تمام التفصيل في الحكمة عند تحقيق الأقسام إن شاء الله العزيز العلام. واعلم أن منبع العلوم الحكمية النظرية وأستاذ الكل فيها إدريس عليه السلام آتاه الله الحكمة والنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وعلم النجوم. وأفهمه عدد السنين والحساب وعلمه الألسنة حتى تكلم الناس في زمنه باثنين وتسعين لسانا ولد بمصر وسموه هرمس الهرامس وباليونانية أرمس بمعنى عطارد وعرب بهرمس واسمه الأصلي هنوخ وعرب أخنوخ وسماه الله تعالى في كتابه العربي المبين إدريس لكثرة دراسة كتاب الله تعالى. وقيل: إن معلمه غوثاديمون أو أغثاذيمون المصري وتفسيره السعيد الجد قيل: وهو شيث عليه السلام. ثم إن إدريس عرف الناس صفة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه يكون بريئا عن المذمات والآفات كلها كاملا في الفضائل الممدوحات لا يقصر عما يسأل عنه مما في الأرض والسماء ومما فيه دواء وشفاء وأنه يكون

مستجاب الدعوة في كل ما يطلبه ويكون مذهبه ودينه ما يصلح به العالم. وكانت قبلة إدريس جهة الجنوب على خط نصف النهار كان رجلا تام الخلقة حسن الوجه أجلح كث اللحية مليح الشمائل والتخاطيط تام الباع عريض المنكبين ضخم العظام قليل اللحم براق العين أكحلها متأنيا في كلامه كثير الصمت وإذا اغتاظ أخذ يحرك سبابته إذا تكلم وكانت مدة مقامه في الأرض اثنتين وثمانين سنة ثم دفعه الله مكانا عليا. وهو أول من خاط الثياب وحكم بالنجوم وأنذر بالطوفان وأول من بنى الهياكل ومجد الله فيها وأول من نظر في الطب وأول من ألف القصائد والأشعار وهو الذي بنى أهرام بمصر وصور فيها جميع العلوم والصناعات وآلاتها خشية أن يذهب رسمها بالطوفان. واعلم أيضا أن من أساتذة الحكمة الحكيم أفلاطون أحد الأساطين الخمسة للحكمة من يونان كبير القدر مقبول القول البليغ في مقاصده. أخذ عن فيثاغورس وشارك مع سقراط في الأخذ عنه وصنف في الحكمة كتبا لكن اختار فيها الرمز والإغلاق وكان يعلم تلاميذه وهو ماش ولهذا سموا المشائين وفوض الدرس في آخر عمره إلى أرشد أصحابه وانقطع هو للعبادة وعاش ثمانين سنة وولد في مدينة أنيس ولازم سقراط خمسين سنة وكان عمره إذ ذاك عشرون سنة وتزوج امرأتين وكانت نفسه في التعليم مباركة تخرج بها علماء اشتهروا من بعده. ومن جملة أساتذة الحكمة أرسطاطاليس تلميذ أفلاطون لازم خدمته مدة عشرين سنة وكان أفلاطون يؤثر على غيره ويسميه العقل وهو خاتم حكماءهم وسيد علمائهم وأول من استخرج المنطق وله كتب شريفة في الفلسفة وكان معلم الإسكندر بن فيلقوس وبآدابه وسياسته عمل هو فظهر الخير وفاض العدل وبه انقمع الشرك في بلاد اليونانيين. ومعنى أرسطاطاليس محب الحكمة أو الفاضل الكامل عاش سبعا وستين سنة ومصنفاته تنيف على ثمانين وكان أبيض أجلح حسن القامة عظيم العظام صغير العينين والفم عريض الصدر كث اللحية أشهل العينين أقنى الأنف يسرع في مشيته ناظرا في الكتب دائما يقف عند كل كلمة ويطيل الإطراق عند السؤال قليل الجواب ينتقل في أوقات النهار في الفيافي ونحو الأنهار محبا لاستماع الألحان والاجتماع بأهل الرياضة وأصحاب الجدل منصفا في نفسه إذا خصم ويعرف بموضع الإصابة والخطأ معتدلا في الملابس والمآكل مات وله ثمان وتسعين سنة ثم إنه تخلف عن خدمة الملوك وبنى موضع التعليم وأقبل على العناية بمصالح الناس. وكان جليل القدر كثير التلاميذ من الملوك وأبناءهم وكان أهل مدينة أسطا إذا أشكل عليهم أمر يجتمعون إلى قبره حتى يفتح لهم ويزعمون أن قبره يصحح فكرهم ويذكي عقولهم واستيفاء أخباره لا يمكن إلا في مجلد. ومن جملة أساتذة الحكمة الفارابي وهو أبو نصر محمد بن محمد كان ذكيا حكيما مشهورا صاحب التصانيف في المنطق والمحكمة وغيرهما من العلوم وهو أكبر فلاسفة الإسلاميين لم يكن فيهم من بلغ

رتبته في فنونه وتخرج ابن سينا في كتبه وبعلومه انتفع في تصانيفه كان رجلا تركيا تنقلت به الأسفار إلى أن وصل بغداد وهو يعرف كثيرا من اللغات غير العربي ثم تعلمه وأتقنه. ثم اشتغل بالحكمة فقرأ على أبي بشر - متى بن يونس الحكيم - من شرح كتاب أرسطو في المنطق سبعين سفرا وكان هو شيخا كبيرا له صيت عظيم يجتمعون في حلقته كل يوم المئون من المنطقيين ثم أخذ طرفا من المنطق من أبي حنا ابن خيلان الحكيم النصراني بمدينة حران ثم نقل إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة وتمهر في كتب أرسطو جميعها يقال وجد كتاب النفس لأرسطو عليه مكتوب بخط الفار أبي: إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة وقال: قرأت السماع الطبعي لأرسطو أربعين مرة ومع ذلك إني محتاج إلى معاودته وكان يقول: لو أدركت أرسطو لكنت أكبر تلامذته. ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ثم عاد إلى دمشق فأحسن إليه سلطانها1 سيف الدولة بن حمدان وأجرى عليه كل يوم أربعة دراهم لأنه كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكتسب ولا مسكن لذلك أقتصر على أربعة دراهم وكان منفردا بنفسه لا يكون إلا في مجتمع ماء أو مشبك رياض ويؤلف كتبه هناك وكان أكثر تصانيفه في الرقاع ولم يصنف في الكراريس إلا قليلا فلذلك كانت أكثر تصانيفه فصولا وتعليقات وبعضها ناقصا. يحكى أن الآلات المسماة بالقونون من تركيبه. توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة. وعدد مصنفاته من الكتب والرسالة سبعون كلها نافعة سيما كتابان في العلم الإلهي والمدني لا نظير لهما. أحدهما: المعروف بالسياسة المدنية. والأخرى: بالسيرة الفاضلة وصنف كتابا شريفا في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه أحد ولا ذهب أحد مذهبه ولا يستغني عنه أحد من طلاب العلم وكذا كتابه في أغراض أفلاطون وأرسطو أطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما علما وبين كيفية التدرج من بعضها إليها بعض شيئا فشيئا ثم بدأ بفلسفة أرسطو ووصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية فلا أعلم كتابا أجدى على طلب الفلسفة منه. وفاراب: إحدى مدن الترك فيما وراء النهر.

_ 1 يحكى أنه دخل على مجلس سيف الدولة وهو بزي الأنراك وكان ذلك زيه دائماً، فتخطى رقاب الناس وكان المجلس مجمع الفضلاء حتى انتهى إلى مجلس سيف الدولة وزاحمه حتى أخرجه عنه فقال سيف الدولة لمماليكه بلسان خاص يسار بهم هذا الشيخ قد أسار الأدب، وإني لسائلة عن أشياء إن لم يعرف بها فأخرجوه، فقال له أبو بو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها فقال سيف الدولة: أتحسن بهذا اللسان؟ فقال: نعم، بل أكثر من سبعين لساناً، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم في كل فن حتى بز حميع الحاضرين فخلى به سيف الدولة فقال له: تشرب؟ فقال: لا فقال: أتسمع؟ قال نعم، فأحضر الآلات فما حرك احد منها شيئاً إلا ادعى به أبو نصر، ثم أخرج من وسط خريطته عيداناً فركبها فلعب بها فضحك كل من حضر، ثم فكها وركبها آخر فضرب بها فبكى كلهم، ثم فكها وغيّر تركيبها وحركها فنام كلهم حتى البواب فتركهم نياماً وخرج. كذا في مدينة العلوم، منه دام مجده.

ومن جملة أساطين الحكمة: أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور وكان أبوه من بلخ ثم انتقل منها إلى بخارا وكان من العمال الكفاة وتولى العمل بقرية من بخارا يقال لها هرمين ثم انتقلوا إلى بخارا وانتقل الرئيس بعد ذلك في البلاد وأشتغل بالعلوم وحصل الفنون ولما بلغ عشر سنين من عمره أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة ثم قرأ كتاب: إيساغوجي علي أبي عبد الله النابلي وأحكم عليه ظواهر المنطق: لأنه لم يكن يعرف دقائقها ثم حل هو نفسه دقائق غفل عنها الأوائل وأحكم عليه إقليدس والمجسطي وفاقه أضعافا كثيرة. وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد يقرأ ويبحث ويناظرهم ثم اشتغل بتحصيل الطبعي والإلهي وغير ذلك وفتح الله عليه أبواب العلوم ثم فاق في علم الطب الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح عديم القرين فقيد المثيل. وقرأ عليه فضلاء هذا الفن أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة وسنه إذ ذاك نحو ستة عشر وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولم يشتغل في النهار بشيء سوى العلم والمطالعة وكان إذا أشكلت عليه مسئلة توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له فتح الله - تبارك وتعالى – مشكلاتها. ثم اتصل بخدمة نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان بسبب الطب ودخل إلى خزانة كتبه واطلع على كتب لم تقرع آذان الزمان بمثلها وحصل نخب فوائدها وتحلى بنفائس فرائدها. ويحكى عنه أنه لم يطلع على مسئلة إلى آخر عمره إلا وكان يعرفها وكان في ثمانية عشر سنين من سنه حتى حكي عنه أنه قال: كل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزد عليه إلى اليوم وهذا أمر عظيم لا يكاد يقبله العقل لولا عرف حد ذكائه. ثم تنقلت به الأحوال بأمور يطول شرحها حتى استوزر ثم عزل وحبس وبعد هذه الأحوال كلها مرض ثم صلح ثم دخل إلى أن ضعف جدا ثم اغتسل وتاب1 وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة ثم مات يوم الجمعة من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة بهمذان وكانت ولادته سنة سبعين وثلاثمائة في شهر صفر وقيل: توفي بأصبهان وفضائله كثيرة شهيرة وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه. وعدة مؤلفاته ثمانية وستون على الأشهر وقيل: يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر.

_ 1 قلت: إن صحت رواية التوبة فذاك، وإلا فقد صرح شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، وتلميذه الحافظ ابن القيم رحمه الله في مؤلفاتهما بأنه رئيس الملاحدة لما في كتبه من الشفاء وغيره ما يضاد الشريعة الحقة ويخالف طريقة الإسلام ويهدم بنيان الإيمان، وموطا سر لا يخفى على من طالع كتبه وعرف منشأة. وذكر الشيخ عبد الحق الدبلومي شيخ الحنفية في كتابة مجمع البحرين بالفارسية مالفظه، بعض إزار كشف له بصحبه معنوي سيد كائنات صلى الله عليه وسلم مشرف شدند وازحقيقت حال فخر رازي از حضرتش استفسار نمودند، وفرمود ذلك رجل معاتب وجون ازحال أبو علي بن سينا برسيدند فرمود ذلك رجل أضله الله على علم ووشان شهاب الدين مقتول فرمود هو من تبعية يعني دي نيزازنا بعان وبيردان أبو علي بن سيناست، والله أعلم منه دام مجده.

ورسائله بديعة منها: رسالة حي بن يقظان و: رسالة سلامان و: إبسال و: رسالة الطب و: قصيدة الورقاء يرمز بها عن النفس الناطقة. ومن جملة أساطين الحكمة الإمام فخر الدين الرازي وممن نحا نحو ابن سينا والرازي: نصير الدين الطوسي وهو محمد بن محمد سلطان الحكماء المدققين وقدوتهم في زمانه جامع علوم المتقدمين والمتأخرين. ولد يوم السبت حادي عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وخمسمائة توفي آخر نهار الاثنين ثامن عشر ذي الحجة وقت مغيب الشمس سنة اثنتين وسبعين وستمائة ودفن بالمشهد الكاظمي. وكان آية في التدقيق والتحقيق وحل المواضع المشكلة سيما: لطف التحرير الذي لم يلتفت إليه المتقدمون بل التفتوا إلى جانب المعنى فقط ثم إن الفاضل الشريف قلده في أمر التحرير والتقرير كما يظهر ذلك بالنظر في تصانيفهما. وكان1 غاليا في التشيع كما يفصح عنه المقصد السادس من التجريد إلا أن الشيخ أكمل الدين قال: في أواخر شرحه للتجريد سمعت شيخي العلامة قطب الدين الشيرازي قال: كان الناس مختلفين في أن هذا الكتاب يعني التجريد لخواجه نصير الدين أولا فسأل عن ذلك ابنه خواجه أصيل الدين فقال: كان والدي وضعه إلى باب الإمامة وتوفي فكمله ابن المطهر الحلي وكان من الشيعة وهو زائغ زيغا عظيما فعلى هذه الرواية يكون بريئا عن نقيصة التشيع إلا أن المشهور عند الجمهور خلاف. وبمن يلي هؤلاء في معرفة الحكمة الشيخ شهاب الدين السهروردي بل فاق كثيرا في الحكمة الذوقية. وممن خرط في سلكهم الشيخ قطب دن الشيرازي والشيخ قطب الدين الرازي وسعد الدين التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني ثم الجلال الدواني. قال الأرنيقي: بعد ما ذكر في: مدينة العلوم ومن فضلاء بلادنا مولانا مصلح الدين مصطفى الشهير بخواجه زاده ومصلح الدين مصطفى الشهير بالقسطلاني لكن هؤلاء السبعة قد فاقوا على أكثر المتقدمين في الحديث والتفسير والأصول والفروع إلا أن الإمام فخر الدين الرازي فإنه تمهر فيها مع مشاركته لهؤلاء في علوم الحكمة بأقسامها وإن اتقانه أقوى من إتقانهم. انتهى قلت: وفي قوله فاق على أكثر المتقدمين إلى آخره نظرا لأن العلم المجرد بالحديث والتفسير لا يكفي في صحة الاعتقاد والعمل حتى يستعملها على وجههما ويقول بمقتضاهما ويحقق فحواهما وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. والفخر الرازي أكثر كلاما من هؤلاء في علوم التفسير ولكن قال أهل التحقيق في حق كتابه: مفاتيح الغيب فيه كل شيء إلا التفسير وقد بحث في تفسيره هذا عن كل شيء لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقد أخطأ في مواضع مما يتعلق بفهم القرآن الكريم ويقال: إنه لم يكمل تفسيره بل كمله

_ 1 قلت: وسماه الحافظ الواحد للمتكلم ابن القيم رحمه الله في كتابة إغاثة اللهفان تبصير الشرك وهو كذلك، وكان رأسا في الضلالة والإلحاد بلا شك ولا شبهة، اتفق على ذلك من عرف مذهبه وكتبة اعتنى بدركهما منه.

بعض من جاء بعده والخطأ منه وقد أصاب في مواضع منها: رد التقليد واثبات الاتباع. والله أعلم. ثم قال في: مدينة العلوم: إن الكتب المؤلفة في العلم الإلهي لما لم يخل عن الرياضي والطبعي أيضا أحببنا أن نذكره بعد الفراغ عن الكل - اللهم إلا نادرا -: كالمباحث المشرقية للإمام فخر الدين الرازي وأمثاله ولا تظن أن العلوم الحكمية مخالفة للعلوم الشرعية مطلقا بل الخلاف في مسائل يسيرة وبعضها مخالف في مسائل قليلة ظاهرا لكن إن حقق يصافح أحدهما الآخر ويعانقه. انتهى. قال في: كشف الظنون ثم اعلم أن البحث والنظر في هذا العلم لا يخلو إما: أن يكون على طريق النظر أو: على طريق الذوق فالأول: إما على قانون فلاسفة المشائين فالمتكفل له كتب الحكمة أو على قانون المتكلمين فالمتكفل حينئذ كتب الكلام لأفاضل المتأخرين والثاني: إما على قانون فلاسفة الإشراقين فالمتكفل له حكمة الإشراق ونحوه أو على قانون الصوفية واصطلاحهم فكتب التصوف. وقد علم موضوع هذا الفن ومطالبه فلا تغفل فإن هذا التنبيه والتعليم مما فات عن أصحاب الموضوعات - وفوق كل ذي علم عليم. وعبارة ابن خلدون في: تاريخه هكذا. قال: علم الإلهيات: هو علم ينظر في الوجود المطلق. فأولا: في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك. ثم ينظر في مبادئ الموجودات وأنها روحانيات. ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها. ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدأ. وهو عندهم: علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وإن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الرد عليهم وهو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه: علم ما وراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجود بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب: الشفاء والنجاة وكذلك لخصها ابن رشد من حكماء الأندلس. ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لعروضها في مباحثهم وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في: المباحث المشرقية وجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كان الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس وهي غير صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد ملتقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن

معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثيرا ما بين المقامين من التفاوت في ذلك مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه. والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية والبطلان فليس من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلمين فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتأليف والحق مغايرة كل منه لصاحبه بالموضوع والمسائل وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل وليس كذلك بل إنما هو رد على الملحدين والمطلوب مفروض الصدق معلومه وكذا جاء المتأخرين من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحدا فيه كلها مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك. والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم -. انتهى كلامه. علم أمارات النبوة من الإرهاصات والمعجزات القولية والفعلية وأمثال ذلك وكيفية دلالة هذه على النبوة والفرق بينها وبين السحر وتمييز الصادق من الكاذب. وموضوعه وغايته: ظاهرة جدا ومنفعته أعظم المنافع. وفي هذا العلم مصنفات كثيرة لكنه لا أنفع ولا أحسن من كتاب: أعلام النبوة للشيخ الإمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي وهو كان من كبراء الفقهاء الشافعية توفي سنة 450، وعمره ست وثمانون سنة ذكره في مدينة العلوم. علم الأمثال وهذا من فروع علم اللغة وهو: معرفة الألفاظ الصادرة عن البليغ المشتهرة بين الأقوام بخصوص ألفاظها وهيئاتها وموردها وسبب ورودها وقائلها وزمانها ومكانها لئلا يقع الغلط عند استعمالاتها في مضاربها وهي: المواضع والمقامات المشبهة بمواردها ولا بد لمعاني تلك الألفاظ المذكورة من حيث ورودها في مواردها مضاربها بالنوع ومباديه مقدمات حاصلة بالتواتر من ألفاظ الثقات.

وأما غرضه ومنفعته: فغنيان عن البيان فإن الأمثال أشد ما يحتاج إليه المنشئ والشاعر لأنها تكسو الكلام حلة التزيين وترقيه أعلى درجات التحسين. ومن الكتب النافعة فيه: كتاب لابن الأنباري. ومنها: المستقصى في الأمثال للزمخشري. ومنها: مجمع الأمثال للإسفرائني وهو كتاب عظيم جامع كذا في: مدينة العلوم. وقلت: ومنها كتاب: الأمثال للميداني وهو أجمع ما جمع فيه. قال في كشف الظنون: علم الأمثال: يعني ضروبها وسيأتي في حرف الضاد. علم إملاء الخط هو علم فيه بحسب الأينية والكمية عن الأحوال العارضة لنقوش الخطوط العربية لا من حيث حسنها في السطور بل من حيث دلالتها على الألفاظ العربية بحسب الآلات الصناعية من القلم وأمثاله بعد رعاية حال بسائط الحروف من حيث الدلالة على الحروف التي هي من أجزاء الألفاظ. وهذا العلم من حيث حصول نقش الحروف بالآلة من أنواع علم الخط. ومن حيث دلالتها على الألفاظ من فروع علم العربية هذا حاصل ما ذكره أبوا لخير وجعله من العلوم التي تتعلق بإملاء الحروف المفردة وكتاب: المطالع النصرية للمطابع المصرية أحسن ما جمع في هذا العلم جمعه الشيخ العلامة نصر الوفا الهوريني في هذا الزمان وقد طبع بمصر القاهرة الآن. علم أنباط المياه هو علم يتعرف منه كيفية استخراج المياه الكامنة في الأرض وإظهارها ومنفعته ظاهرة وهي إحياء الأرضين وإفلاحها ونقل عن بعض العلماء أنه قال: لو علم عباد الله تعالى رضاء الله تعالى في إحياء أرضه لم يبق في وجه الأرض موضع خراب. وللكرخي فيه كتاب مختصر وفي خلال كتاب الفلاحة النبطية مهمات هذا العلم. انتهى ما في: مدينة العلوم و: مفتاح السعادة وأورده العلامة أبو الخير رحمه الله في فروع علم الهندسة. علم الأنساب هو علم يتعرف منه أنساب الناس. وقواعده الكلية والجزئية والغرض منه: الاحتراز عن الخطأ في نسب شخص وهو علم عظيم النفع جليل القدر أشار الكتاب العظيم في: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} إلى تفهمه. وحث الرسول الكريم في: "تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم" على تعلمه والعرب قد اعتنى في ضبط نسبه إلى أن اكثر أهل الإسلام واختلط أنسابهم بالأعاجم فتعذر ضبطه بالآباء فانتسب كل مجهول النسب إلى بلده أو حرفته أو نحو ذلك حتى غلب هذا النوع. قال صاحب: كشف الظنون: وهذا العلم من زياداتي على: مفتاح السعادة والعجب من ذلك الفاضل كيف غفل عنه مع أنه علم مشهور طويل الذيل وقد صنفوا فيه كتبا كثيرة.

والذي فتح هذا الباب وضبط علم الأنساب هو: الإمام النسابة هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة أربع ومائتين فإنه صنف فيه خمسة كتب: المنزلة و: الجمهرة و: الوجيز و: الفريد و: الملوك ثم اقتفى أثره جماعة أوردنا آثارهم هنا. منها: أنساب الأشراف لأبي الحسن أحمد بن يحيى البلاذري وهو كتاب كبير كثير الفائدة كتب منه عشرين مجلدا ولم يتم. و: أنساب حمير وملوكها لعبد الملك بن هشام صاحب: السيرة. و: أنساب الرشاطي. و: أنساب الشعراء لأبي جعفر محمد بن حبيب البغدادي النحوي. و: أنساب السمعاني. و: أنساب قريش لزبير بن بكار القرشي. و: أنساب المحدثين للحافظ محب الدين محمد بن محمود بن النجار البغدادي. وأنساب القاضي المهذب. انتهى ملخصا. ولعلنا تكلمنا عن النسب في رسالتنا: لقطة العجلان فيما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان فليراجعها المحقق فإنه مفيد جدا. علم الإنشاء أي إنشاء النثر وهو: علم يبحث فيه عن المنثور من حيث أنه بليغ وفصيح ومشتمل على الآداب المعتبرة عندهم في العبارات المستحسنة واللائقة بالمقام وموضوعه وغرضه وغايته: ظاهرة مما ذكر. ومباديه: مأخوذة من تتبع الخطب والرسائل بل له استمداد من جميع العلوم سيما الحكمة العملية والعلوم الشرعية وسير الكمل وحكايات الأمم ووصايا الحكماء العقلاء وغير ذلك من الأمور الغير المتناهية هذا ما ذكره الأرنيقي وأبو الخير. وأما ابن صدر الدين فإنه لم يذكر سوى معرفة المحاسن والمعائب ونبذة من آداب المنشئ وزبدة كلامه: أن للنثر من حيث أنه نثر محاسن ومعائب يجب على المنشئ أن يفرق بينهما فيتحرز عن المعائب ولا بد أن يكون أعلى كعبا في العربية محترزا عن استعمال الألفاظ الغريبة وما يخل بفهم المراد ويوجب صعوبته وأن يتحرز من التكرار وأن يجعل الألفاظ تابعة للمعاني دون العكس إذ المعاني إذا تركت في سجيتها طلب لأنفسها ألفاظا تليق فيها فيحسن اللفظ والمعنى جميعا. وأما جعل الألفاظ متكلفة والمعاني تابعة لها فهو كلباس مليح على منظر قبيح. فيجب أن يجتنب عما يفعله بعض من لهم شغف بإيراد شيء من المحسنات اللفظية فيصرفون العناية إلى المحسنات ويجعلون الكلام كأنه غير مسوق لإفادة المعنى فلا يبالون بخفاء الدلالات وركاكة المعنى. ومن أعظم ما يليق لمن يتعاطى صناعة الإنشاء أن يكتب ما يراد لا ما يريد. كما قيل في الصاحب والصابي: إن الصابي يكتب ما يراد والصاحب يكتب ما يريد. ولا بد أن يلاحظ في كتاب النثر حال المرسل والمرسل إليه ويعنون الكتاب بما يناسب المقام. انتهى. والكتب المصنفة فيه كثيرة جدا منها: أبكار الأفكار للوطواط جمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى

الكتبي المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ومنها كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لأبي الفتح ابن الأثير الجزري وهو في مجلدين. وكتاب: المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء لموفق الدين وله كتاب: الوشي المرقوم في حل المنظوم و: ديوان الترسل في عدة مجلدات. قال الأرنيقي: ومن العجب العجاب في علم الإنشاء: المقامات للحريري وقد عمل على أسلوبها كثير من الناس رأيت منها ثلاثة و: تواريخ العتبي وهذا يمكن عدهما من المحاضرات أيضا. و: قهوة الإنشاء لأبي بكر بن حجة أيضا. والعتبي: هو ابن النصر محمد بن عبد الجبار ذكر فيه أحوال محمود بن سبكتكين وحروبه مع الأعداء وهذا الكتاب علم في الفصاحة والبلاغة واللطافة. انتهى. قلت: ومن هذا الباب كتاب: عجائب المقدور في أحوال تيمور. و: مقامات البديع الهمذاني و: مقامات السيوطي. و: ريحانة الألباء و: نفحة الريحانة وما يليها من كتب الأدب العربية فإنها في علم الإنشاء. وقد طبع في هذا الزمن بمصر القاهرة كتب كثيرة لها تعلق بهذا الفن وبقي شيء كثير لم يطبع وبالجملة فهذا العلم طويل الذيل عظيم السيل كثير النفع لكن قصرت عنه همم العلماء حتى اندرس وطمس - ولله الأمر من قبل ومن بعد - وعندنا ذخائر من صحف هذا الفن قد من الله - تعالى - لها علينا - ولله الحمد - وانتفعنا بها كثيرا. علم الأوائل هو علم يتعرف منه أوائل الوقائع والحوادث بحسب المواطن والنسب وموضوعه وغايته ظاهرة. وهذا العلم من فروع علم التواريخ والمحاضرات لكنه ليس بمذكور في كتب الموضوعات وقد ألحق بعض المتأخرين مباحث الأواخر إليه وفيه كتب كثيرة منها: كتاب: الأوائل لأبي هلال حسن بن عبد الله العسكري المتوفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وهو أول من صنف فيه وهو رسالة مختصرة وملخصة المسمى بالوسائل لجلال الدين السيوطي. ومنها: إقامة الدلائل لابن حجر و: محاسن الوسائل للشبلي. ومحاضرة الأوائل لعلي دده. و: أزهار الجمال لابن دوقة كين و: الوسائل أرجوزة أيضا. وكتاب: الأوائل للطبراني وكتاب: الأوائل لمحمد بن أبي القاسم الراشدي وكتاب الجلال بن خطيب داريا. علم الأوراد المشهورة والأدعية المأثورة قد تقدم في هذا الباب بلفظ علم الأدعية والأوراد فراجعه فإنه ينفعك. علم الأوزان والموازين وهذا العلم لضبط أثقال الأحجار في البناء وضبط أثقال الأحمال ومعرفة مقاديرها ومعرفة الآلات التي

توزن بها الأشياء من الميزان والقسطاس والصاع والكيل وأمثال ذلك وضبط هذه الأمور لا يتيسر إلا لمن له حظ في علم الهندسة كما لا يخفى. علم الأوزان والمقادير المستعملة في علم الطب من الدرهم والأوقية والرطل وغير ذلك ولقد صنف له كتب مطولة ومختصرة يعرفها مزاولها هذا ما في: مفتاح السعادة وقد جعله من فروع علم الطب. قال في: الكشف: فيا ليت شعري ما هذه الكتب المطولة نعم هو باب من أبواب الكتب المطولة في الطب فلو كان أمثال ذلك علما متفرعا على علم الطب لكان له فرع بل وأزيد منه. انتهى وقال ابن خلدون في تاريخه المسمى ب: العبران: الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالآفاق والأمصار وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيرا من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما. فاعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرعي: هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درهما وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتان وسبعون حبة من الشعير فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع فإن الدرهم الجاهل ي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري: وهو ثمانية دوانق والبغلي: وهو أربعة دوانق فجعلوا الشرعي بينهما وهو: ستة دوانق فكانوا يوجبون الزكاة في مائة درهم بغلية ومائة طبرية خمسة دراهم وسطا. وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع الناس بعد عليه ذكر ذلك الخطابي في كتاب: معالم السنن والماوردي في: الأحكام السلطانية وأنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها. والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج وإنما كان متعارفا بينهم بالحكم الشرعي على المقدر في مقدارهما وزنتهما حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في: الدهر ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه أثر الشهادتين الإيمانيتين وطرح النقود الجاهلية رأسا حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه. ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم واختلفت في كل الأقطار والآفاق ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهنا كما كان في الصدر الأول وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية.

وأما وزن الدينار باثنين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم فإنه خالف ذلك وزعم أن وزنه أربعة وثمانون حبة نقل ذلك عنه القاضي عبدا لحق ورده المحققون وعدوه وهما وغلطا وهو الصحيح - والله يحق الحق بكلمته - وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحدة ذهنا لا اختلاف فيها - والله خلق كل شيء فقدره تقديرا -. انتهى كلامه. علم الاهتداء بالبراري والأقفار هو علم يتعرف به أحوال الأمكنة من غير دلالة عليه بالأمارات المحسوسة دلالة ظاهرة بل خفية بقوة الشامة فقط لا يعرفها إلا من تدرب فيه كالاستدلال برائحة التراب ومسامتة الكواكب الثابتة ومنازل القمر إذ لكل بقعة رائحة مخصوصة ولكل كوكب سمت يهتدي به كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . ونفع هذا العلم عظيم بين وإلا لهلك القوافل وضلت الجيوش وضاعت في البراري والقفار. وقيل: قد يكون بعض من هو بليد في سائر العلوم ماهرا في هذا الفن كما يمكن عكسه وقد يحصل هذا النوع من التمييز في الإبل والفرس هذا إصلاح ما في: مفتاح السعادة. وهو فرع من فروع علم الفراسة. قال في: مدينة العلوم: حكى بعض المصنفين أني كنت في قافلة في مفازة خوارزم وضللنا الطريق وعجز الكل عن الاهتداء فقدموا جملا هرما وألقوا حبله على غاربه فأخذ يتنقل من جانب إلى جانب ومن تل إلى تل ويتذبذب يمينا وشمالا وصعودا ونزولا واستمر على هذا الحال مقدار فرسخين وخفنا على أنفسنا حتى وصل إلى الجادة المستقيمة والصراط السوي والنهج القويم وتعجبنا منه كل العجب. انتهى. ولم أقف على تأليف في ذلك. علم الآيات المتشابهات كإبراز القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة بأن يأتي في موضع مقدما وفي آخر مؤخرا وفي موضع بزيادة وفي موضع بدونها أو مفردا ومنكرا وجمعا أو بحرف وبحرف أخرى أو مدغما ومنونا إلى غير ذلك من الاختلافات. وهو من فروع التفسير. وأول من صنف فيه الكسائي ونظمه السخاوي. ومما صنف فيه: البرهان في توجيه متشابه القرآن و: درة التنزيل وغرة التأويل وهو أحسن منه و: كشف المعاني عن متشابه المثاني و: ملاك التأويل أحسن من الجميع و: قطف الأزهار في كشف الأسرار. علم أيام العرب هو علم يبحث فيه عن الوقائع العظيمة والأهوال الشديدة بين قبائل العرب وتطلق الأيام فتراد هذه على طريق ذكر المحل وإرادة الحال والعلم المذكور ينبغي أن يجعل فرعا من فروع التواريخ

وإن لم يذكره أبو الخير مع أنه ذكر ما هو ليس بمثابة ذلك. وصنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري المتوفى سنة عشرة ومائتين كبيرا وصغيرا ذكر في الكبير ألفا ومائتي يوم وفي الصغير خمسة وسبعين يوما. وأبو الفرج علي بن حسين الأصبهاني المتوفى سنة ست وخمسين وثلاثمائة زاد عليه وجعل ألفا وسبعمائة يوم. علم الإيجاز والإطناب ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير ولا يخفى أنه من مباحث علم البلاغة فلا وجه لجعله فرعا من فروع علم التفسير إلا أنه التزم تسمية ما أورده السيوطي في: إتقانه من الأنواع علما وليس كما ينبغي وسيأتي تفصيل تلك الأنواع في باب الميم.

باب الباء الموحدة

باب الباء الموحدة علم الباطن هو معرفة أحوال القلب والتخلية ثم التحلية وهذا العلم يعبر عنه ب: علم الطريقة والحقيقة أيضا واشتهر علم التصوف به وسيأتي تمام تحقيقه فيه. وأما دعوى التقابل بين الظاهر والباطن كما يدعيه جهلة القوم فزعم باطل بشهادة العموم والخصوص. علم الباه هو: علم باحث عن كيفية المعالجة المتعلقة بقوة المباشرة من الأغذية المصلحة لتلك القوة والأدوية المقوية والمزيدة للقوة أو الملذذة للجماع أو المعظمة أو المضيقة وغير ذلك من الأعمال والأفعال المتعلقة بها كذكر أشكال الجماع وآدابه الذين لهما مدخل في اللذة وحصول أمر الخيال إلا أنهم يذكرون لأجل إكثار الصناعة أشكالا يعسر فعلها بل يمتنع ويذيلون ذلك الإشكال بحكايات مشهية تحصل باستماعها الشهوة وتحرك قوة المجامعة وإنما وضعوها لمن ضعفت قوة مباشرته أو بطلت فإنها تعيدها له بعد الإياس. روي أن ملكا بطلت عنه القوة فزوج عبدا من مماليكه جارية حسناء وهيأ لهما مكانا بحيث يراهما الملك ولا يريانه فعادت قوته بمشاهدة أفعالهما حتى خرجت من إحليله شبيهة الخبز الرطب فقدر بعد ذلك قدرة زائدة. انتهى ملخصا من: المفتاح ومثله في: مدينة العلوم. وما يبعد أن يقال: وكذا النظر إلى تسافد الحيوانات ولكن النظر إلى فعل الإنسان أقوى في تأثير عود القوة. وهذا العلم من فروع علم الطب بل هو باب من أبوابه كبير غير أنهم أفردوه بالتأليف اهتماما بشأنه. ومن الكتب المصنفة فيه كتاب: الألفية والشلفية. قال أبو الخير: يحكى أن ملكا بطلت عنه قوة المباشرة بالكلية وعجز الأطباء عن معالجتها بالأدوية،

فاخترعوا حكايات عن لسان امرأة مسماة بالألفية لما أنها جامعها ألف رجل فحكت عن كل منهم أشكالا مختلفة وأوضاعا متشتة فعادت باستماعها قوة الملك. انتهى ومثله في: مدينة العلوم. و: الإيضاح في أسرار النكاح أي في الباه للشيخ عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيرازي وهو مختصر أوله: الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين وأنشد فيه: عليك بمضمون الكتاب فإننا ... وجدناه حقا عندنا بالتجارب يزيدك في الاتعاظ بطشا وقوة ... ويحظيك عند الغانيات الكواعب قال في: مدينة العلوم: ومن الكتب الجامعة في هذا الباب كتاب: رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه وكتاب: رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب وكتاب: الفتح المنصوب إلى صيد المحبوب وكتاب: تحفة العروس وجلاء النفوس وكتاب نصير الطوسي نافع في هذا الباب وقد طبع الكتاب الأول بمصر القاهرة في هذا الزمان فليعلم. علم بدائع القرآن ذكره أبو الخير من جملة فروع علم التفسير ولا يخفى أنه: هو علم البديع إلا أنه وقع في الكلام القديم. علم البديع هو علم تعرف به وجوه تفيد الحسن في الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال وبعد رعاية وضوح الدلالة على المرام فإن هذه الوجوه إنما تعد محسنة بعد تينك الرعايتين وإلا لكان كتعليق الدرر على أعناق الخنازير ومرتبة هذه العلم بعد مرتبة علمي: المعاني والبيان حتى أن بعضهم لم يجعله علما على حدة وجعله ذيلا لها لكن تأخر رتبته لا يمنع كونه علما مستقلا ولو أعتبر ذلك لما كان كثير من العلوم علما على حدة فتأمل وظهر من هذا موضوعه وغرضه وغايته. قال في: مدينة العلوم: موضوعه: اللفظ العربي من حيث التحسين والتزيين العرضيين بعد تكميل دائرتي الفصاحة والبلاغة. وغرضه: تحصيل ملكة تحلية الكلام بالمحسنات العرضية وغايته: الاحتراز عن خلو الكلام عن التحلية المذكورة ومنفعته: النظرية لنشاط السامع وزيادة القبول في العقول ومباديه: تتبع الخطب والرسائل والأشعار المتحلية بالصنائع البديعية. انتهى. وعبارة: الكشاف: موضوعه اللفظ البليغ من حيث أن له توابع. قال في: الكشف: وأما منفعته: فإظهار رونق الكلام حتى يلج الأذن بغير إذن ويتعلق بالقلب من غير كد وإنما دونوا هذا العلم لأن الأصل وإن كان الحسن الذاتي وكان المعاني والبيان مما يكفي في تحصيله لكنهم اعتنوا بشأن الحسن العرضي أيضا لأن الحسناء إذا عريت عن المزينات ربما يذهل بعض القاهرين عن تتبع محاسنها فيفوت التمتع بها ثم إن وجوه التحسين الزائد إما: راجعة إلى تحسين المعنى أصالة وإن كان لا يخلو عن تحسين اللفظ تبعاً.

وإما: راجعة إلى تحسين اللفظ كذلك فالأولى: تسمى معنوية والثانية: لفظية. وهذا الفن ذكره أهل البيان في أواخر علم البيان إلا أن المتأخرين زادوا عليها شيئا كثيرا ونظموا فيه قصائد وألفوا كتباً. ومن الكتب المختصة بعلم البديع كتاب: البديع لأبي العباس عبد الله بن المعتز العباسي المتوفى سنة ست وتسعين ومائتين وهو أول من صنف فيه وكان جملة ما جمع منها سبع عشرة نوعا ألفه سنة أربع وسبعين ومائتين ولأبى أحمد حسن العسكري وشهاب الدين أحمد بن شمس الدين الخولي المتوفى سنة ثلاث وتسعين وستمائة و: زهرة الربيع للشيخ المطرزي ومنها: بديعيات الأدباء وهي قصائد مع شروحها. قال في: مدينة العلوم و: البديع للتيفاشي و: التحرير والتحبير لابن أبي الأصبع و: شرح البديعيات لابن حجة ومن الكتب المشتملة على الفنون الثلاثة: روض الأذهان وكذا: المصباح لابن مالك وكتاب: مفتاح العلوم للسكاكي اشتمل على هذه الثلاثة وقدم عليها الاشتقاق والنحو والصرف وأورد عقيب الثلاثة المذكورة بطريق التكملة على الاستدلال علم العروض والقوافي ودفع المطاعن عن القرآن وله شروح كثيرة ذكرها في: كشف الظنون منها: شرح السعد التفتازاني. ومن الكتب النافعة في العلوم المذكورة: تلخيص المفتاح و: الإيضاح وهو يجري مجرى الشرح ل: التخليص كلاهما لقاضي القضاة جلال لدين القزويني الشافعي. ومن أراد الوقوف في علم البلاغة على العجب العجاب والسحر في هذا الباب فعليه بكتاب: دلائل الإعجاز و: أسرار البلاغة كلاهما من مؤلفات الشيخ عبد القاهر الجرجاني وقيل: إن كتابيه في هذه الفنون بحران تنشعب منهما العيون - والله أعلم - و: حدائق البلاغة للشيخ شمس الدين الفقير وهي بالفارسية. علم البرد ومسافاتها البرد بضمتين: جمع بريد وهو عبارة عن أربعة فراسخ وهو: علم يتعرف منه كمية مسالك الأمصار فراسخ وأميالا وأنها مسافة شهرية أو أقل أو أكثر ذكره أبو الخير من فروع علم الهيئة وذلك أولى بأن يسمى: علم مسالك الممالك مع أنه من مباحث جغرافيا. علم البلاغة عبارة عن علم البيان والبديع والمعاني والغرض من تلك العلوم: أن البلاغة سواء كانت في الكلام أو في المتكلم رجوعها إلى أمرين: أحدهما: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد أي: ما هو مراد البليغ من الغرض المصوغ له الكلام كما هو المتبادر من إطلاق المعنى المراد في كتب علم البلاغة فلا يندرج فيه الاحتراز عن التعقيد المعنوي كما توهمه البعض ولا الاحتراز عن التعقيد مطلقاً. والثاني: تمييز الفصيح عن غيره ومعرفة أن هذا الكلام فصيح وهذا غير فصيح فمنه: ما يبين في علم متن اللغة والتصريف أو: النحو أو يدرك بالحس وهو: أي ما يبين في هذه العلوم ما عدا التعقيد المعنوي فمست الحاجة للاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد إلى علم واللاحتراز عن التعقيد المعنوي إلى

علم آخر فوضعوا لهما علمي: المعاني والبيان وسموهما: علم البلاغة لمزيد اختصاص لهما بها ثم احتاجوا لمعرفة ما يتبع البلاغة من وجوه التحسين إلى علم آخر فوضعوا له علم البديع فما يحترز به عن الأول أي الخط في التأدية: علم المعاني وما يحترز به عن الثاني أي التعقيد المعنوي: علم البيان وما يعرف به وجوه التحسين: علم البديع. علم البنكامات يعني: الصور والأشكال الموضوعة لمعرفة الساعات المستوية والزمانية فإذا هو علم يعرف به كيفية اتخاذ آلات يقدر بها الزمان. وموضوعه: حركات مخصوصة في أجسام مخصوصة تنقضي بقطع مسافات مخصوصة. وغايته: معرفة أوقات الصلوات وغيرها من غير ملاحظة حركات الكواكب وكذلك معرفة الأوقات المفروضة للقيام في الليل إما: للتهجد أو: للنظر في تدابير الدول والتأمل في الكتب والصكوك والخرائط المنضبط بها أحوال المملكة والرعايا ولا يخفى أن هذين الأمرين فرض كفاية - وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب - واستمداده من قسمي الحكمة الرياضي والطبيعي ومع ذلك يحتاج إلى إدراك كثير وقوة تصرف ومهارة في كثير من الصنائع وهذا العلم عظيم النفع في الدين فانقسمت البنكامات إلى: الرملية وليس فيها كثير طائل وإلى: بنكامات الماء وهي: أصناف ولا طائل فيها أيضا وإلى: بنكامات دورية معمولة بالدواليب يدير بعضها بعضا. قال في: كشف الظنون: وهذا العلم من زياداتي على: مفتاح السعادة فإن ما ذكر صاحبه من أنه: علم بآلات الساعات ليس كما ينبغي فتأمل ومن الكتب المصنفة فيه: الكواكب الدرية و: الطرق السنية في الآلات الروحانية في بنكامات الماء وكلاهما للعلامة تقي الدين الراصد وكتاب: بديع الزمان في الآلات الروحانية. انتهى. وفي: مدينة العلوم كتاب أرشميدس هو العمدة في هذا الفن وللمتأخرين فيه تصانيف مفيدة حسنة جدا. علم البيان هو: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المقصود بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض. وموضوعه: اللفظ العربي من حيث وضوح الدلالة على المعنى المراد. وغرضه: تحصيل ملكة الإفادة بالدلالة العقلية وفهم مدلولاتها ليختار الأوضح منها مع فصاحة المفردات. وغايته: الاحتراز من الخطأ في تعيين المعنى المراد بالدلالة الواضحة. ومباديه: بعضها: عقلية كأقسام الدلالات والتشبيهات والعلاقات المجازية ومراتب الكنايات وبعضها: وجدانية ذوقية كوجوه التشبيهات وأقسام الاستعارات وكيفية حسنها ولطفها وإنما اختاروا في علم البيان وضوح الدلالة لأن بحثهم لما اقتصر على الدلالة العقلية - أعني التضمنية والالتزامية - وكانت تلك الدلالات

خفية سيما إذا كان اللزوم بحسب العادات والطبائع وبحسب الألف فوجب التعبير عنهما بلفظ أوضح مثلا إذا كان المرئي دقيقا في الغاية تحتاج الحاسة في إبصارها إلى شعاع قوي بخلاف المرئي إذا كان جليا وكذا الحال في الروية العقلية أعني الفهم والإدراك. والحاصل: أن المعتبر في علم البيان دقة المعاني المعتبرة فيها من الاستعارات والكنايات مع وضوح الألفاظ الدالة عليها. قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: علم البيان: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه كذا ذكر الخطيب في: التلخيص وقد احترز به عن ملكة الاقتدار على إيراد المعنى العادي عن الترتيب الذي يصير به المعنى معنى الكلام المطابق لمقتضى الحال بالطرق المذكورة فإنها ليست من علم البيان وهذه الفائدة أقوى مما ذكره السيد السند من أن فيما ذكره القوم تنبيها على أن علم البيان ينبغي أن يتأخر عن علم المعاني في الاستعمال وذلك لأنه يعلم منه هذه الفائدة أيضا فإن رعاية مرابت الدلالة في الوضوح والخفاء على المعنى ينبغي أن يكون بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال فإن هذه كالأصل في المقصودية وتلك فرع وتتمة لها وموضعه: اللفظ البليغ من حيث أنه كيف يستفاد منه المعنى الزائد على أصل المعنى وإن شئت زيادة التوضيح فارجع إلى الأطول. انتهى. قال ابن خلدون في: بيان علم البيان: هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني. وذلك وأن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض والدالة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف. وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة ويدل عليها بتغير الحركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات وهذه كلها هي صناعة النحو يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة ألا ترى أن قولهم: زيد جاءني مغاير لقولهم: جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم. ومن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه. ومن قال زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند. وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم زيد قائم وإن زيدا قائم وإن زيدا القائم متغايرة كلها في الدلالة وإن استوت من طريق الأعراف. فإن الأول: العادي عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن. والثاني: المؤكد بأن يفيد المتردد. والثالث: يفيد المنكر فهي مختلفة.

وكذلك تقول جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية: وهي التي لها خارج تطابقه أولا وإنشائية: وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب ثم يقتضي المحل الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما ثم قد يدل باللفظ ولا يريد منطوقه ويريد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنما تزيد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة. وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير الرماد وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما فهي دالة عليهما وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ المفرد والمركب وإنما هي هيئات وأحوال لواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى ب: البيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى: علم البلاغة. والصنف الثاني: يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى: علم البيان وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه وترصيع يقطع أوزانه أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه لاشتراك اللفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمى عندهم: علم البديع. وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم: البيان وهو: اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى. وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم ملاءات غير وافية. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من الترتيب وألف كتابه المسمى ب: المفتاح في النحو الصرف والبيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب: التبيان وابن مالك في كتاب: المصباح وجلال الدين القزويني في كتاب: الإيضاح والتلخيص وهو أصغر حجما من الإيضاح. والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسببه - والله أعلم -: أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمراناً من المغرب. أو نقول: لعناية العجم وهو معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري وهو كل مبني على هذا الفن وهو

أصله وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه: علم البديع خاصة وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقابا وعددوا أبوابا ونوعوا وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك: الولوع بتزيين الألفاظ. وأن علم البديع سهل المأخذ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. ومن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب: العمدة له مشهور وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منبه لجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن دركه وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجهابذته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير حيث جاء بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة فمن أحكم عقائد أهل السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها ولا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع - والأهواء والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل -. انتهى كلام ابن خلدون. وأقول: إن تفسير أبي السعود قد وفى بحق المعاني والبيان والبديع التي في القرآن الكريم على نحو ما أشار إليه ابن خلدون بيد أنه رجل فقيه لا يفسر الكتاب على مناحي السلف ولا يعرف علم الحديث حق المعرفة فجاء الله - سبحانه - بقاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني اليمني - رحمه الله - ووفقه لتفسير كتابه العزيز - على طريقة الصحابة والتابعين وحذا حذوهم وميز بين الأقوال الصحيحة والآراء السقيمة وفسر بالأخبار المرفوعة والآثار المأثورة وحل المعضلات وكشف القناع عن وجوه المشكلات إعرابا وقراءة فجزاه الله عنا خير الجزاء. ثم وفق الله - سبحانه - هذا العبد بتحرير تفسير جامع لهذه كلها على أبلغ أسلوب وأمتن طريقة يغني عن تفاسير الدنيا بتمامها وهو في أربعة مجلدات وسماه: فتح البيان في مقاصد القرآن ولا أعلم تفسيرا على وجه البسيطة يساويه في اللطافة والتنقيح أو يوازيه في الرقة والتصحيح ومن يرتاب في دعواي هذه فعليه بتفاسير المحققين المعتمدين ينظر فيها أولا ثم يرنو في ذلك يتضح له الأمر كالنيرين ويسفر الصبح لذي عينين وبالله التوفيق.

قال في: مدينة العلوم: ومن الكتب المفردة فيه: الجامع الكبير لابن أثير الجزري و: نهاية الإعجاز للإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله - تعالى -. انتهى. علم البيرزة هو: علم يبحث فيه عن أحوال الجوارح من حيث حفظ صحتها وإزالة مرضها ومعرفة العلامات الدالة على قوتها في الصيد وضعفها فيه. وموضوعه وغايته وغرضه: ظاهر لا يخفى على أحد وكتاب: القانون الواضح كاف في هذا العلم كذا في: مفتاح السعادة ومثله في: مدينة العلوم. علم البيطرة هو: علم يبحث فيه عن أحوال الخيل من جهة ما يصح ويمرض وتحفظ صحته ويزول مرضه وهذا في الخيل بمنزلة الطب في الإنسان. وموضوعه وغايته: ظاهره للمتبصر ومنفعته: عظيمة لأن الجهاد والحج لا يقوم ويقوى صاحبه إلا به وعبارة: مدينة العلوم: وأما منفعته فمن أعظم المنافع جدا: لأنه عمود الإسلام وبه يقوى أحد مباني الإسلام أعني الجهاد في سبيل الله بل الحج أيضا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقها: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة" إلى غير ذلك من أوصافها. والخيل ما زال ممدوحا بكل الألسنة في كل زمان وكتاب حنين بن إسحق كاف في هذا الباب. انتهى وقد طبع بمصر القاهرة كتاب: مشكوة اللائذين في علم الأقراباذين البيطري وهو للماهر المعلم لابتوت وترجمه من اللغة الفرنساوية إلى اللغة العربية الحاذق الطبيب محمد أفندي عبد الفتاح قال فيه: اعلم أن المادة البيطرية الطبية أهم فروع البيطرة وهي: علم يبحث فيه عن الأحوال المختلفة التي للأدوية وبه يتمكن الطبيب من انتخاب الأدوية ويعرف قوتها واستعمالها وكيفيات تحصيلها المختلفة فعلم من هذا التعريف موضوع المادة الطبية مع اختصار على حسب الآراء العامة المتعلقة به. والواقع أن الكليات التي يتخذها هذا الفرع من علم تاريخ الحيوانات الطبيعي من حيث أصل الجواهر الطبية وأوصافها الطبيعية وكيفية تركيبها وخواصها الكيمياوية واعتبار تأثيرها في بنية الحيوان فحينئذ يتمكن الطبيب من معرفة مقاديرها والأوقات الملائمة لاستعمالها يتم الفرع المذكور ويصير بها كاملا ويعلم منه كيفية تأثيرها الفيزيولوجي وكيفية تحصيلها واستعمالها في الأمراض ثم إن الأدوية المذكورة في هذا القانون: هي الأدوية التي جعلت وخصصت لمعالجة الحيوانات في الاسبيتاليات المصرية. انتهى كلامه وهذا الكتاب مجلد لطيف يحتوي على مسائل من هذا العلم وقفت عليه.

باب التاء

باب التاء علم التاريخ التاريخ في اللغة: تعريف الوقت مطلقا يقال أرخت الكتاب تأريخا وورخته توريخا كما في: الصحاح قيل: وهو معرب من ماه وروز.

وعرفاً: هو تعيين وقت لينسب إليه زمان يأتي عليه أو مطلقا: يعني سواء كان ماضيا أو مستقبلاً. وقيل: تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع من ظهور ملة أو دولة أو أمر هائل من الآثار العلوية والحوادث السفلية مما يندر وقوعه جعل ذلك مبدأ لمعرفة ما بينه وبين أوقات الحوادث والأمور التي يجب ضبط أوقاتها في مستأنف السنين. وقيل: عدد الأيام والليالي بالنظر إلى ما مضى من السنة والشهر وإلى ما بقي وفيه كتاب: لقطة العجلان مما تمس إليه حاجة الإنسان للمؤلف عفا الله عنه. وعلم التاريخ هو: معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم إلى غير ذلك. وموضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والملوك والشعراء وغيرهم. والغرض منه: الوقوف على الأحوال الماضية وفائدته: العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن ليحترز عن أمثال ما نقل من المضار ويستجلب نظائرها من المنافع كذا في مدينة العلوم. وهذا العلم كما قيل: عمر آخر للناظرين والانتفاع في مصره بمنافع تحصل للمسافرين. كذا في: مفتاح السعادة وقد جعل صاحبه لهذا العلم فروعا: كعلوم الطبقات والوفيات لكن الموضوع مشتمل عليها فلا وجه للإفراد والتفصيل في مقدمة الفذلكة من مسودات جامع المجلة. وأما الكتب المصنفة في التاريخ فقد استقصيناها إلى ألف وثلاثمائة. انتهى ما في: كشف الظنون. ومن الكتب المصنفة فيه: تاريخ ابن كثير الحافظ عماد الدين وتاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها. وتاريخ ابن أثير الجزري سماه: الكامل ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخر سنة 832، وهو من خيار التواريخ. وتاريخ ابن الجوزي المحدث وهو مجلدات سماه: المنتظم في تواريخ الأمم. وتاريخ: مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي قال ابن خلكان: رأيته بخطه في أربعين مجلداً. وقال الأرنيقي: وأنا رأيته في ثمان مجلدات لكن في مجلدات ضخام بخط دقيق. و: تاريخ ابن خلكان البرمكي الشافعي قال الأرنيقي: رأيته في خمس مجلدات بخطه قلت: قد طبع بمصر القاهرة في مجلدين ضخمين. و: تاريخ الحافظ ابن حجر العسقلاني مجلدان. وتاريخ آخر له المسمى ب أنباء الغمر وهو مجلدان. وله أيضا: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. وتاريخ الخطيب البغدادي عشر مجلدات. و: ذيل تاريخ بغداد للحافظ محب الدين بن النجار جاوز ثلاثين مجلداً.

و: تاريخ أبي سعيد السمعاني نحو خمسة عشر مجلدا و: ذيل تاريخ السمعاني للدبيثي1 قرية من نواحي واسط في ثلاث مجلدات. و: تاريخ الحافظ محمد بن أحمد الذهبي المحدث الإمام وصنف: التاريخ الكبير ثم الأوسط المسمى ب العبر والصغير المسمى: دول الإسلام. وكتاب: البارع لهان روبن علي المنجم البغدادي. و: تاريخ يتيمة الدهر للثعالبي و: دمية القصر للباخوزي و: زينة الدهر للخطري. و: خريدة القصر تجريدة العصر للعماد الأصبهاني. و: تاريخ بدر الدين العيني الحنفي. و: تاريخ الحافظ ابن عساكر سبعة وخمسون مجلدا قال الأرنيقي: ومن أصح التواريخ وأحسنها وألطفها: لوروده بعبارات عذبة وأنفعها للناس: لاشتماله على المهمات تاريخ اليافعي مجلدان كبيران وكتب التواريخ أكثر من أن تحصى لكن إن فزت بما ذكر فزت المرام وإن أردت التوغل فيه فعليك بكتاب: مروج الذهب للمسعودي و: أخبار الزمان له أيضا وبستان التواريخ و: معادن الذهب و: بوادر الأخبار و: عيون التواريخ. انتهى. وعد كتبا من التواريخ لا نطول بذكرها الكتاب ثم قال: وأما التواريخ: لسان الفرس فأكثر من أن تحصى تركنا ذكرها للاستغناء بما ذكرنا منها. انتهى. قلت: وقد استوفى في: الكشف أسماء التواريخ مع أسماء مؤلفيها فإن شئت الاطلاع فارجع إليه. ومن الكتب النفيسة المعتبرة في هذا العلم: تاريخ القاضي عبد الرحمن بن محمد الإشبيلي الحضرمي المالكي المتوفى سنة ثمان وثمانمائة وهو كبير عظم النفع والفائدة رتب على السنين وروي أنه كان في وقعة تيمور قاضيا بحلب فحصل في قبضته أسيرا سميرا فكان يصاحبه وسافر معه إلى سمرقند فقال له يوما: لي تاريخ كبير جمعت فيه الوقائع بأسرها فخلفته بمصر وسيظفر به المجنون يشير إلى برقوق فقال له: هل يمكن تلافي هذا الأمر واستخلاص الكتاب فاستأذنه في أن يعود إلى مصر ليجيء به فأذن له. ولعل ذلك الكتاب هو كتاب: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر وقد اشتهر نحو ثلاثة بالمقدمة ودون مفردا وهو كتاب مفيد جامع لمنافع لا توجد في غيره شرح الشيخ أحمد المغربي المتوفى سنة إحدى وأربعين وألف مؤرخ الأندلس مقدمته كذا أخبر به ابن البيلوني وترجم أوائل المقدمة شيخ الإسلام محمد صاحب المعروف ببيري زاده المتوفى سنة اثنتين وستين ومائة وألف. انتهى. علم تاريخ الخلفاء هو: علم من فروع التواريخ وقد أفرد بعض العلماء تاريخ الخلفاء الأربعة وهم أحقاء بالاعتناء

_ 1 دبثي بضم أوله مقصوراً: قرية بواسط. قاموس.

وبعضهم ضم معهم الأمويين والعباسيين لاشتمال أحوالهم على مزيد الاعتبار. والكتب المصنفة فيه كثيرة لا تخفى على ذوي الإحاطة منها: تحفة الظرفاء في تاريخ الخلفاء وفيه كتاب لجلال الدين السيوطي - رحمه الله - تعالى - سماه: تاريخ الخلفاء وقد طبع بمصر. علم التأويل أصله: من الأول وهو الرجوع فكان المأول صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني. وقيل: من الإيالة وهي: السياسة فكأنه ساس الكلام ووضع المعنى موضعه واختلف في التفسير والتأويل فقال أبو عبيد وطائفة: هما بمعنى وقد أنكر ذلك قوم. وقال الراغب: التفسير أعم من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية. وقال غيره: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا والتأويل: توجيه لفظ متوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة. وقال الماتريدي: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا والشهادة على الله - سبحانه وتعالى - أنه عني باللفظ هذا والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة وقال أبو طالب الثعلبي: التفسير: بيان وضع اللفظ: إما حقيقة أو: مجازا والتأويل: تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الأول وهو: الرجوع لعاقبة الأمر فالتأويل: إخبار عن حقيقة المراد والتفسير: إخبار عن دليل المراد مثاله: قوله - سبحانه وتعالى - {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وتفسيره: أنه من الرصد مفعال منه وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله سبحانه وتعالى. وقال الأصبهاني: التفسير: كشف معاني القرآن وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ أو بحسب المعنى والتأويل: أكثره باعتبار المعنى. والتفسير: إما أن يستعمل في غريب الألفاظ أو في وجيز يتبين بشرحه وإما في كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها. وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق وتارة في جحود الباري خاصة. وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة. وقيل: يتعلق التفسير بالرواية والتأويل بالدراية. وقال أبو نصر القشيري: التفسير مقصور على السماع والاتباع والاستنباط فيما يتعلق بالتأويل. وقال قوم: ما وقع مبينا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: يسمى تفسير أو ليس لأحد أن يتعرض إليه باجتهاد بل يحمل على المعنى الذي ورد فلا يتعداه والتأويل: ما استنبطه العلماء العالمون بمعنى الخطاب الماهرون في آلات العلوم. وقال قوم منهم: البغوي والكواشي: هو صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها تحتمله الآية غير

مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط انتهى ولعله هو الصواب هذا خلاصة ما ذكره أبو الخير في مقدمة علم التفسير. وقد ذكر في فروع علم الحديث علم تأويل أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا علم معلوم موضوعه وبين نفعه وظاهر غايته وغرضه وفيه رسالة نافعة لمولانا شمس الدين الفناري. وقد استخرج للأحاديث تأويلات موافقة للشرع بحيث يقول من رآها: لله دره وعلى الله أجره. وأيضا للشيخ صدر الدين القونوي شرح بعض الأحاديث على التأويلات لكن بعضها مخالف لما عرف من ظاهر الشرع مثل قوله: إن الفلك الأطلس المسمى بلسان الشارع العرش وفلك الثوابت المسمى عند أهل الشرع الكرسي قديمان وأحال ذلك إلى الكشف الصحيح والعيان الصريح وادعى أن هذا غير مخالف للشرع. لأن الوارد فيه حدوث السموات السبع والأرضين إلا أن هذا الشيخ قد أبدع في سائر التأويلات بحيث ينشرح الصدر والبال والله - سبحانه وتعالى - أعلم بحقيقة الحال. انتهى. أقول شرح تسعة وعشرين حديثا سماه: كشف أسرار جواهر الحكم وما ذكره من القول بالقدم ليس هو أول من يقول به بل هو مذهب شيخه ابن عربي وشيوخ شيخه كما لا يخفى على من تتبع كلامهم. علم تبيين المصالح المرعية في كل باب من الأبواب الشرعية وهو: علم يعرف به حكمة وضع القوانين الدينية وحفظ النسب الشرعية بأسرها. وأما موضوعه: فهو النظام التشريعي المحمدي الحنفي على صاحبه الصلاة والسلام من حيث المصلحة والمفسدة. وأما غايته: فهو عدم وجدان الحرج فيما قضى الله ورسوله والانقياد التام للأحكام الإلهية وكمال الوثوق والاطمئنان بها والمحافظة عليها بحيث تنجذب إليها النفس بالكلية ولا تميل إلى خلاف مسلكها. وفي هذا العلم كتاب: حجة الله البالغة للشيخ الأجل أحمد ولي الله بن عبد الرحيم العمري الدهلوي المتوفى سنة 1174 الهجرية وقل من صنف فيه أو خاض في تأسيس مبانيه أو رتب منه الأصول والفروع أو أتى بما يسمن أو يغني من جوع كيف ولا تتبين أسراره إلا لمن تمكن في العلوم الشرعية بأسرها واستبد بالفنون الإلهية عن آخرها ولا يصفو مشربه إلا لمن شرح الله صدره لعلم لدني وملأ قلبه بسر وهبي وكان مع ذلك وقاد الطبيعة سيال القريحة حاذقا في التقرير والتحرير بارعا في التوجيه والتحبير وقد عرف كيف يوصل الأصول ويبني عليها الفروع وكيف يمهد القواعد ويأتي لها بشواهد المعقول والمسموع ولم أعرف أحد آتاه الله منه حظا وجعل له منه نصيبا إلا صاحب الحجة فإنه قد تفرد بالتأليف في هذا العلم وهدى الناس إلى المحجة - والله أعلم. علم التجويد هو: علم باحث عن تحسين تلاوة القرآن العظيم من جهة مخارج الحروف وصفاتها وترتيل النظم المبين بإعطاء حقها من الوصل والوقف والمد والقصر والروم والإدغام والإظهار والإخفاء والإمالة،

والتحقيق والتفخيم والتشديد والتخفيف والقلب والتسهيل إلى غير ذلك. وموضوعه وغايته ونفعه ظاهر. وهذا العلم نتيجة فنون القراءة وثمرتها وهو كالموسيقى من جهة أن العلم لا يكفي فيه بل هو: عبارة عن ملكة حاصلة عن تمرن امرؤ بمكة وتدربه بالتلقف عن أفواه معلميه ولذلك لم يذكره أبو الخير واكتفى عنه بذكر القراءة وفروعه والتجويد أعم من القراءة. وأول من صنف في التجويد موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الخاقاني البغدادي المقري المتوفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ذكره ابن الجزري ومن المصنفات فيه: الدر اليتيم وشرحه و: الرعاية و: غاية المراد المقدمة الجزرية وشروحها واضحة. علم تحسين الحروف سيأتي تحقيقه في علم الخط هكذا في: الكشف قال في: مدينة العلوم: هو علم يعرف منه تحسين تلك النقوش وما يتعلق به من كيفية استعمال أدوات الكتابة وتمييز حسنها عن رديها وأسباب الحسن في الحروف آلة واستعمالا وترتيبا ومبنى هذا الفن الاستحسانات الناشئة من مقتضى الطباع السليمة وتختلف صورها بحسب الإلف والعادة والمزاج بل بحسب كل شخص ولهذا لا يكاد يوجد خطان متماثلان من كل الوجوه. انتهى. علم تدبير المنزل هو: قسم من ثلاثة أقسام الحكمة العملية. وعرفوه: بأنه علم يعرف منه اعتدال الأحوال المشتركة بين الإنسان وزوجته وأولاده وخدامه وطريق علاج الأمور الخارجة عن الاعتدال ووجه الصواب فيها. وموضعه: أحوال الأشخاص المذكورة من حيث الانتظام ونفعه عظيم لا يخفى على أحد حتى العوام: لأن حاصله انتظام أحوال الإنسان في منزله ليتمكن بذلك من رعاية الحقوق الواجبة بينه وبينهم ويتفرع على اعتدالها كسب السعادة الآجلة والعاجلة. والأخصر: أن يقال: هو علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل. وفائدته: أن يعرف كيفية المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل المنزل. واعلم: أنه ليس المراد بالمنزل في هذا المقام البيت المتخذ من الأحجار والأشجار بل المراد التآلف المخصوص الذي يكون بين الزوج والزوجة والوالد والولد والخادم والمخدوم والمتمول والمال سواء كانوا من أهل المدر أو أهل الوبر. وأما سبب الاحتياج إليه: فكون الإنسان مدنيا بالطبع وكتب علم الأخلاق متكفلة ببيان مسائل هذا الفن وقواعده وأشهر كتب هذا العلم كتاب: بردوش وفي هذا العلم كتب كثيرة غير هذا. علم ترتيب حروف التهجي سيأتي بيانه في الخط قال في مدينة العلوم: هو علم يبحث فيه عن كيفية ترتيب حروف التهجي في

الكتابة هذا التريب المعهود فيما بيننا واشتراك بعضها ببعض في صورة الخط وإزالة التباسها بالنقط واختلاف تلك النقط بكونها تحتانية في البعض وفوقانية في الآخر ومثناة أو مثلثة كذلك إلى غير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن. وموضوع هذا العلم ومباديه وغرضه وغايته ومنفعته ظاهرة ولابن الجني والجزري رسالة في هذا الباب وكذا أورد القلقشندي ما فيه كفاية في كتاب: صبح الأعشى. علم ترتيب العساكر هو: علم باحث عن قود الجيوش وترتيبهم ونصب الرؤساء لضبط أحوالهم وتهيئة أرزاقهم وتمييز الشجاع عن الجبان واستمالة قلوبهم بالإحسان إليهم فوق الإحسان إلى الضعفاء من الأقران وتهيئة آلات القتال وألبسة الحروب والسلاح. ومن آداب قود العساكر أن يأمر كلا منهم بالزهد والصلاح ليفوز بالخير والفلاح يأمرهم أن لا يظلموا أحدا ولا ينقضوا عهدا ولا يهملوا ركنا من أركان الشريعة فإن إهمالها إلى استئصال الدولة ذريعة أي ذريعة هذا تلخيص ما ذكره أبو الخير وجعله من فروع الحكمة العملية لكنه على الوجه الذي ذكره مندرج في علم سياسة الملوك بل الأمور المذكورة من مسائل ذلك العلم. فأقول: ينبغي أن يكون موضوع هذا العلم ما ذكره الحكماء في كتب الثعلبي الحربية فهو علم يبحث فيه عن ترتيب الصفوف يوم الزحف وخواص أشكال التعابي وأحوال ترتيب الرجال والغرض منه والغاية لا يخفى على كل أحد. وقالوا: إن الرجال كالأشباح والتعابي كالأرواح فإذا حلت الأرواح الأشباح حصلت الحياة. وقد أجرى الله سنته أن كل عسكر مرتب التعابي منصور. وقد صنف فيه بعض الكبار رسائل ظفرت ببعضها - ولله الحمد - وسيأتي في علم التعابي وأنه: هو ترتيب العساكر كما عرفه به ذلك الفاضل وفي: كتاب الأحكام السلطانية للماوردي ما يكفي في هذا الباب. علم الترسل من فروع علم الإنشاء لأن هذا بطريق جزئي وذلك بطريق كلي. وهو: علم تذكر فيه أحوال الكاتب والمكتوب والمكتوب إليه من حيث الآدب والاصطلاحات الخاصة الملائمة لكل طائفة طائعة ومن حيث العبارات التي يجب الاحتراز عنها مثل: الاحتراز عن الدعاء للمخدرات بقولهم: أدام الله - سبحانه وتعالى - حراستها المكان لفظ الحر والأست وعن ذكر لفظ القيام كقولهم: إلى قيام الساعة وأمثال ذلك. وموضوعه وغايته وغرضه ظاهرة للمتأمل. ومباديه: أكثرها بديهية وبعضها أمور استحسانية كذا في مدينة العلوم. قال: ومن الكتب المصنفة فيه: مصطلح الكتاب و: بلغة الدواوين و: الحساب. انتهى وله استمداد من الحكمة العملية وفيه كتب كثيرة مذكورة في علم الإنشاء فلا حاجة إلى التعرض لها.

علم تركيب الأشكال يعني أشكال بسائط الحروف وسيأتي بيانه في علم الخط. وهو: علم يبحث فيه عن التراكيب بين أشكال بسائط الحروف مطلقا لا من حيث دلالتها على الألفاظ بل من حيث حسنها في السطور فكما أن للحروف حسنا حال بساطتها فكذلك لها حسن مخصوص حال تركيبها من تناسب الشكل والنقط وتناسب خلال الكلمات والسطور. وموضوع هذا العلم وأغراضه وغاياته ظاهرة. ومباديه أمور استحسانية يرجع كلها أو جلها إلى غاية النسبة الطبيعية في الأشكال. وله استمداد من الهندسة وفي هذا الفن رسالة لابن جني ووضع القلقشندي في هذا العلم بابا مستقلا في كتابه: صبح الأعشى. علم تركيب المداد هو: علم يبحث فيه عن تركيب أنواع المداد من السواد والحمرة والصفرة وسائر الألوان مثل: الذهب واللازورد والياقوت والزمرد والسواد البراق ويسمونه: المداد الطاؤسي إلى غير ذلك من الألوان العجيبة اللطيفة كذا في مدينة العلوم وذكره أبو الخير في الشعبة الخامسة من فروع العلم الطبيعي ولا يخفى أنه من قبيل تكثير السواد وتضييع القرطاس والمداد لأنه أمر صناعي جزئي لا يعد مثله علما وإلا لبلغ العلوم إلى ألوف. علم تسطيح الكرة هو: علم يتعرف منه كيفية إيجاد الآلات الشعاعية كذا في: كشاف اصطلاحات الفنون. وقال في: كشف الظنون: كيفية نقل الكرة إلى السطح مع حفظ الخطوط والدوائر المرسومة على الكرة وكيفية نقل تلك الدوائر عن الدائرة إلى الخط وتصور هذا العلم عسير جدا يقرب من خرق العادة لكن عملها باليد كثيرا ما يتولاه الناس ولا عسر فيه مثل عسر التصور. انتهى ما ذكره أبو الخير. وقد جعله من فروع علم الهيئة وهو: من فروع علم الهندسة ودعوى عسر التصور ليست على اطلاقها بل هو بالنسبة إلى من لم يمارس في علم الهندسة. انتهى. ومنفعته: الإرتياض بعلم هذه الآلات وعملها وكيفية انتزاعها من أمور ذهنية مطابقة للأوضاع الخارجية والتوصل بها إلى استخراج المطالب الفلكية. ومن الكتب المصنفة فيه: كتاب: تسطيح الكرة لبطليموس و: الكامل للفرغاني و: الاستيعاب للبيروتي و: الدستور والرجيح في قواعد التسطيح لتقي الدين و: آلات التقويم للمراكشي - رحمهما الله تعالى. علم تشبيه القرآن واستعاراته ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير وقال: التشبيه نوع من أشرف أنواع البلاغة. انتهى فهو إذا من مباحث علم البيان كما لا يخفى.

علم التشريح هو: علم باحث عن كيفية إجراء البدن وترتيبها من العروق والأعصاب والغضاريف والعظام واللحم وغير ذلك من أحوال كل عضو منه. وموضوعه: أعضاء بدن الإنسان والغرض والمنفعة. والفائدة ظاهرة وكتب التشريح أكثر من أن تحصى ولا أنفع من تصنيف ابن سينا والإمام الرازي ورسالة لابن الهمام ومختصر نافع في هذا الباب. انتهى ما ذكره في مدينة العلوم. ومثله ذكر أبو الخير وجعله من فروع علم الطبيعي والرسالة المذكورة ليست لابن الهمام وإنما هي لابن جماعة وقد قرأها ابن الهمام عليه. وقال ابن صدر الدين: هو علم بتفاصيل أعضاء الحيوان وكيفية نضدها وما أودع فيها من عجائب الفطرة وآثار القدرة ولهذا قيل: من لم يعرف الهيئة والتشريح فهو عنين في معرفة الله تعالى. انتهى. وأكثر كتب الطب متكفلة ببيان هذا العلم سوى ما فيه من التصانيف المستقلة المصورة. علم التصحيف وهذا من أنواع علم البديع حقيقة لكن بعض الأدباء توغل فيه وأفرده بالتصنيف وجعله من فروعه. وموضوعه: الكلمات المصحفة التي وردت عن البلغاء وبهذا الإعتبار يكون من فروع المحاضرات وفائدته وغرضه ومنفعته ظاهرة غير خافية على أهل البصائر. قال عبد الرحمن البسطامي: أول من تكلم في التصحيف الإمام علي - كرم الله وجهه - ومن كلامه في ذلك: خراب البصرة بالريح بالراء والحاء المهملتين بينهما آخر الحروف قال الحافظ الذهبي: ما علم تصحيف هذه الكلمة إلا بعد المائتين من الهجرة يعني خراب البصرة بالزنج بالزاي والنون والجيم. وللإمام في هذا العلم صنائع بديعة. ومن أمثلة التصحيف قولهم: متى يعود إشارة إلى رجل اسمه مسعود وقس عليه نظائره. قال الأرنيقي: ومن بدائع التصحيف ما نقشه نجم السائس على خاتم لابن أستاذه واسمه يحيى وكان يهواه وهو هذا نجم غسق بختي يريد نجم عشق يحيى. ومن بديع كلام علي - كرم الله وجهه - كل عنب الكرم يعطيه يعني كل عيب الكرم يغطيه. ومن أمثلة التصحيف قولهم في المستنصرية: جنة والمستنصرية: اسم موضع وأراد به المس تضربه حية. انتهى. قلت: وفي كتب أصول الحديث أبحاث مستقلة لذلك مع أمثلة للتصحيف. ومن الكتب المصنفة فيه: كتاب: التصحيف للإمام أبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري الأديب المتوفى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة الذي جمع فيه فأوعب. علم التصرف بالاسم الأعظم ذكره أبو الخير من فروع علم التفسير قال: وهذا العلم قلما وصل إليه أحد من الناس خلا الأنبياء

والأولياء ولهذا لم يصنفوا في شأنه تصنيفا يعين هذا الاسم لأن كشفه على آحاد الناس لا يحل أصلا إذ فيه فساد العالم وارتفاع نظام بني آدم. انتهى. ومن التصانيف المفردة فيه: جواب من استفهم قال في: مدينة العلوم: وتفصيل هذا العلم في كتاب: الدر للنظيم في خواص القرآن العظيم للإمام اليافعي وغير ذلك من كتب المشائخ. انتهى قلت: ولكن لا يعتمد عليها لما اختص به الأنبياء - عليهم السلام. علم التصريف هو علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتية لمفردات كلام العرب من حيث صورها وهيئاتها كالإعلال والإدغام أي المفردات الموضوعة بالوضع النوعي ومدلولاتها والهيئات الأصلية العامة للمفردات والهيئات التغيرية كبيان المعتلات قبل الإعلال وبعد الإعلال وكيفية تغيرها عن هيئاتها الأصلية على الوجه الكلي بالمقاييس الكلية كصيغ الماضي والمضارع ومعانيهما ومدلولاتهما. وموضوعه: الصيغ المخصوصة من الحيثية المذكورة. وغرضه: تحصيل ملكة يعرف بها ما ذكر من الأحوال. وغايته: الاحتراز عن الخطأ من تلك الجهات. ومباديه: مقدمات مستنبطة من تتبع استعمال العرب. وأول من دون علم التصريف: أبو عثمان المازني وكان قبيل ذلك مندرجا في النحو ذكره أبو الخير. وكتب التصريف كثيرة معظمها ما ذكره كاتب الجلبي في هذا المحل ولا نطول بذكرها وسيأتي ذكر هذا العلم في باب الصاد. علم التصرف بالحروف والأسماء قال أبو الخير وهذا علم شريف يتوصل بالمداومة عليه على شرائط معينة ورياضة خاصة إلى ما يناسب تلك الحروف أو الأسماء من الخواص قال في: مدينة العلوم: هذا علم لا يتوصل إليه إلا برياضة ومجاهدة مراعيا لقواعد الشريعة حتى ينفتح له باب الملكوت فيتصرف في روحانيات تلك الحروف ويتوصل بها إلى مقاصدهم الدنيوية والأخروية. انتهى. وموضوعه وغايته ظاهرة وقيل: تحت هذا العلم مائة وثمانية وأربعون علما وكتب الشيخ أحمد البوني والبسطامي مشهورة في هذا العلم. انتهى وقد جعله أبو الخير من فروع علم التفسير وسيأتي تفصيله في علم الحروف مع كتبها. علم التصوف هو: علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم والأمور العارضة لهم في درجاتهم بقدر الطاقة البشرية. وأما التعبير عن هذه الدرجات والمقامات كما هو حقه فغير ممكن لأن العبارات إنما وضعت للمعاني التي وصل إليها فهم أهل اللغات. وأما المعاني التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه فليس بممكن أن توضع لها

الألفاظ فضلا عن أن يعبر عنها بالألفاظ. فكما أن المعقولات لا تدرك بالأوهام والموهومات لا تدرك بالخياليات والتخيلات لا تدرك بالحواس كذلك ما من شأنه أن يعاين اليقين لا يمكن أن يدرك بعلم اليقين. فالواجب على من يريد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه بالعيان دون أن يطلبه بالبيان فإنه طور وراء طور العقل. علم التصوف علم ليس يعرفه ... لا أخو فطنة بالحق معروف وليس يعرفه من ليس يشهده ... وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف هذا ما ذكره ابن صدر الدين. وأما أبو الخير فإنه جعل الطرف الثاني من كتابه في العلوم المتعلقة بالتصفية التي هي ثمرة العمل بالعلم. ولهذا العلم أيضا ثمرة تسمى: علوم المكاشفة لا يكشف عنها العبارة غير الإشارة كما قال النبي1 - صلى الله عليه وسلم -: "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفها إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا لا ينكره إلا أهل الغرة". فرتب هذا الطرف في مقدمة ودوحة لها شعب وثمرة وقال: الدوحة في علوم الباطن لها أربع شعب: العبادات والعادات والمهلكات والمنجيات فلخص فيه كتاب: الإحياء للغزالي ولم يذكر الثمرة فكأنه لم يذكر التصوف المعروف بين أهله. قال القشيري: اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لا أفضلية فوقها فقيل لهم الصحابة. ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة: بالتابعين. ثم اختلف الناس وتباينت المراتب. فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد. ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله - سبحانه وتعالى - الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف. واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة. انتهى. وأول من سمي بالصوفي: أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمس ومائة. واعلم: أن الإشراقيين من الحكماء الإلهيين كالصوفيين في المشرب والاصطلاح خصوصا المتأخرين منهم إلا ما يخالف مذهبهم مذهب أهل الإسلام ولا يبعد أن يؤخذ هذا الاصطلاح من اصطلاحهم كما لا يخفى على من تتبع كتب حكمة الإشراق وفي هذا الفن كتب غير محصورة ذكرها في: كشف الظنون على ترتيبه إجمالا ولشيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني كتاب: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان رد فيه على المتصوفة ردا لطيفا وهو سفر نافع جداً.

_ 1 هذا الحديث ذكره الشيخ محييى الدين بن عربي تيعاً للإمام الغزالي، ولم يوجد في الكتب الموضوعة في الأحاديث المشهورة بعد التتبع والله أعلم، مولانا الشيخ القاضي حسين بن القاضي محسن اليمني الأنصاري، سلمه الله تعالى وأبقاه.

فصل قال عبد الرحمن بن خلدون: هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة. وأصله: أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية. وأصلها: العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم: الصوفية والمتصوفة. وقال القشيري - رحمه الله -: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس والظاهر إنه لقب ومن قال: اشتقاقه من الصفا أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي قال: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه قلت: والأظهر إن قيل: بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضاء والغضب والصبر والشكر. وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال وهي التي يميز بها الإنسان وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به والنشاط عن الحمام والكسل عن الإعياء وكذلك المريد في مجاهدته لا بد وأن ينشأ عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة وتلك الحالة: إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن وسرور ونشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة" فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار وأصلها كلها الطاعة والإخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها وتنشأ عن الأحوال والصفات نتائج وثمرات ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه عن أسبابه ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع إنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والأمثال وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير

أولا فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما ويترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه فلهذا أختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص الفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقة وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله القشيري في كتاب: الرسالة والسهروردي في كتاب: عوارف المعارف وأمثالهم وجمع الغزالي - رحمه الله - بين الأمرين في كتاب: الإحياء فدون فيه أحكام الورع والاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم وصار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك. ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس والإطلاع على علم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم وسبب هذا الكشف: أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشوه وأعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس والعلوم اللدنية والفتح الإلهي وتقرب ذاته في تحقق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية وتصير طوع إرادتهم فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - على مثل هذه المجاهدة وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم تقع لهم بها عناية وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - كثير منها وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت: رسالة القشيري على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم. ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والمدارك التي وراءه واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها التي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في

مداركها حينئذ وأنهم اكتشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش هكذا قال الغزالي في كتاب: الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة. ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة: لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم تكن هناك استقامة كالسحرة والنصارى وغيرهم من المرتاضين وليس مراده إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة ومثاله أن المرآة الصقلية إذا كانت محدبة أو مقعرة وحوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معرجا على غير صورته وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك وأهل القيابين منكر عليهم ومسلم لهم وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق ردا وقبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في: الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه: أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير ويسمون هذا الصدور بالتجلي وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث1 الذي يتناقلونه: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني. وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين والكمال من أهل الملة المحمدية وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة البهائية وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق ويسمى هذا المذهب: مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات وهو كلام يقتدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول: بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة

_ 1 قال الحافظ الربيع في تمييز الطيب من الخبيث: قال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وتبعه الزركشي وابن حجر، ومولانا الشيخ حسين بن القاضي محسن اليمني الأنصاري، سلمه الله تعالى.

في القوة التي كان بها التركيب كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بميولها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي: القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان: من أن وجودها مشروطة بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدرك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره ويعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس وهو في تلك الحالة إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركة فقد التفصيل وهذا هو معنى قولهم: الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية. وهذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه وإليه يقينا مع غيبته عن أعيننا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا. والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون: إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة. ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب: المقامات له وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم.

وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلاهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب معناه: رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب: الإشارات في فصول التصوف منها فقال: جل جناب الحق أن يكون شرحه لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في: النقباء حتى أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخليهم رفعوه إلى علي - رضي الله عنه - وهو من هذا المعنى أيضا وإلا فعلي - رضي الله عنه - لم يختص من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال بل كان أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شجنوا كتبهم به في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم - والله يهدي إلى الحق. ثم إن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير وسائر ما وقع لهم في الطريقة والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما ويترقى منه إلى غيره كما قلناه. وثانيها: الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل: الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها وتكونها كما مر. وثالثها: التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات. ورابعها: ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من كثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحيات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول. فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتحقيق بها هو عين السعادة. وأما الكلام في كرامات القوم وأخبارهم1 بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر،

_ 1 وأقول أن الأخبار بالمغيبات والتصرف في الكائنات مما لم يدل عليه لهم شييء من الكتاب والسنة، بل بما يردان ذلك عليهم كما يعرف ذلك من مارسهما ولا اعتداد بقول من قال بهما يخالفهما، وإن جاء بألف دليل من العقل فقول القائل أمر صحيح غير منكر من القول. نعم صدور الكرامة ثابت ولكن ليس ذلك باختيارهم أيضاً فليعلم، مولوي محمد يسير سهسواني سلمه الله تعالى.

وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي وهو: دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور: لأن دلالة المعجرة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابرة وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور. وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثر من المحسوسات فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة - فأكرم بها سعادة. وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطيحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنهما بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وإن العبارة عن المواجد صعبة: لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد وأمثاله ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه وأما من تكلم بمثلها وهو حاضر في حسه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضا ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج: لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله والله أعلم. وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا ومن عرض له شيء من ذلك عرض عنه ولم يحفل به بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد والله الموفق للصواب. انتهى كلام ابن خلدون رحمه الله. وما ذكر من كرامات الأولياء فهو حق يدل عليه القرآن والسنة وما ذكر من التصرفات في العوالم والأخبار عن المغيبات ففيه نظر وتفصيل ذكر في محله فليعلم - والله أعلم. علم التعابي العددية في الحروب هو: علم يتعرف منه كيفية ترتيب العساكر في الحروب وكيفية تسوية صفوفها أزواجا وأفرادا وتعيين أعداد الصفوف وأعداد الرجال في كل صف منها وهيئة الصفوف: إما على التدوير أو التثليث أو التربيع

إلى غير ذلك حسبما تقتضيه الأحوال وبينوا أن في رعاية ترتيب المذكور ظفر بالمرام ونصرة على الأعداء ولا يكون مغلوبا أبدا بإذن الله - سبحانه وتعالى - إلا أن العلماء أخفوا هذا العلم وضنوا به عن الأغيار. وللشيخ عبد الرحمن من السادة الحرفية تصنيف في هذا العلم لكن ضن بعض الضن إلا أن من وقف على أسرار الخواص الحرفية والعددية لا تخفى عليه خافية. هذا ما ذكره أبو الخير وجعله من فروع علم العدد وذكر علم ترتيب العسكر من فروع الحكمة العملية كما مر. وفيه من الخلط والتكرار ولو بتغاير الاعتبار ما لا يخفى. وعبارة: مدينة العلوم: هكذا قالوا أن للهيئات المخصوصة وخصوصيات الأعداد حسبما يقتضيه الحال تأثيرا عظيما في قهر العدو والغلبة على الخصم وهذا العلم مما اختص به سادات الحرفية وأرباب الكشف والشهود من الصوفية الواقفين على أسرار الآيات القرآنية. ومن يخطب الحسناء من غير أهلها ... بعيد عليه أن يفوز بوصلها والعلماء أخفوا هذا العلم ولم يبرزوه ولم يظهروه إلا لبعض من الكاملين من أرباب العفة والتقوى لما أن في إظهاره فسادا عظيما كما لا يخفى ومن أراد الوقوف على هذا العلم فعليه خدمة السادات الصوفية حتى يستأهل للمكاشفات القرآنية والأسرار الفرقانية وإلا فهو عن مثل هذا العلم بمعزل ومن الوصول إلى هذا المقصد بألف منزل ولله در الإمام الشافعي حيث قال: كيف الوصول إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف الرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخوف ولعبد الرحمن الأنطاكي رسالة لطيفة في هذا العلم لكن ضن ببيان أسراره كل الضنة. انتهى. علم تعبير الرؤيا هو: علم يتعرف منه المناسبة بين التبخيلات النفسانية والأمور الغيبية لينتقل من الأولى إلى الثانية وليستدل بذلك على الأحوال النفسانية في الخارج أو على الأحوال الخارجية في الآفاق ومنفعته: البشرى أو الإنذار بما يروه. هذا ما ذكره الأرنيقي وأبو الخير وأورده في فروع العلم الطبيعي وذكر فيه أيضا ماهية الرؤيا وأقسامها وكذا فعل ابن صدر الدين لكني لست في صدد بيان ذلك فهو مبين في كتب هذا الفن. وقال في: كشاف اصطلاحات الفنون: هو علم يتعرف منه الاستدلال من المتخيلات الجملية على ما شاهدته النفس حالة النوم من عالم الغيب فخيلته القوة المتخيلة مثالا يدل عليه في عالم الشهادة وقد جاء أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة وهذه النسبة تعرفها من مدة الرسالة ومدة الوحي قبلها مناما وربما طابقت الرؤيا مدلولها دون تأويل وربما اتصل الخيال بالحس كالاحتلام ويختلف مأخذ التأويل بحسب الأشخاص وأحوالهم ومنفعته البشرى بما يرد على الإنسان من خير. والإنذار بما يتوقعه من شر والاطلاع على الحوادث في العالم قبل وقوعها. انتهى.

وأما الكتب المصنفة في التعبير فكثيرة جدا منها: الآثار الرابعة في أسرار الواقعة و: أرجوزة العبير و: أصول دانيال وتعبير ابن المقري وأبي سهل المسيحي وأرسطو وأفلاطون وإقليدس وبطليموس والجاحظ وجالينوس و: التعبير المنيف والتأويل الشريف لمحمد بن قطب الدين1 الرومي الأرنيقي المتوفى سنة خمس وثمانين وثمانمائة ذكر فيه أقوال المعبرين ثم عبر على اصطلاح أهل السلوك و: تعبير نامج لأبي طاهر إبراهيم بن يحيى الحنبلي المعبر المتوفى سنة ثلاث وتسعين وستمائة وأيضا ليحيى الفتاحي النيسابوري الشاعر فارسي منظوم و: حواب وخيال للشيخ بير محمد اللكهنوي فارسي مختصر منثور. قال في: مدينة العلوم: والذي تمهر في علم التعبير من السلف هو محمد بن سيرين ومن عجائب تعبيراته أنه رأى رجل يختم على أفواه الرجال والنساء وفروج هؤلاء فعبرها ابن سيرين: بأنك مؤذن أذنت في رمضان قبل طلوع الفجر وكان كذلك. ويحكى أن رجلا سأله أنه رأى أنه يدخل الزيت في الزيتون فقال ابن سيرين: إن صدقت فالتي تحتك أمك فاضطرب الرجل فتفحص عنها فكانت أمه لأنها سبيت بعد أبيه فاشتراها ابنها. انتهى. قال ابن خلدون - رحمه الله -: هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع وكتب الناس فيها. وأما الرؤيا والتعبير لها: فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف وربما كان في الملوك والأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها فلقد كان يوسف الصديق - عليه السلام - يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن المجيد وكذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" وقال: "لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له" وأول ما بدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزازه. وأما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو: أن الروح القلبي وهو: البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس وتصرف القوى الظاهرة وغشى سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها وذلك هو معنى النوم. ثم إن هذا الروح القلبي هو: مطية للروح العاقل من الإنسان والروح العاقل مدرك لجميع في ما عالم

_ 1 قال في مدينة العلوم: وهو من مشاهير بلادنا علماً وفضلاً وزهداً وورعاً وكشفاً، بالجملة هو جامع بين ديانتي النظر والكشف انتهى، سيد علي حسن ولد المؤلف سلمه الله تعالى.

الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته وهو: عين الإدراك فيعقل كل مدرك فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلا بد من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها وهي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع إلى بدنه إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية. والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية والمتصرف منها هو الخيال فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر والاستدلال وكذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما ولذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي والخيال أيضا واسطة هذه حقيقة الرؤيا. ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم. لكن إن كانت تلك الصور متنزلة من الروح العقلي المدرك فهو: رؤيا وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي: أضغاث أحلام. وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة وأن المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا: هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه به السلطان وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك ومن الرؤيا ما يكون صحيحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه. ولهذا وقع في الصحيح: الرؤيا ثلاث رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان فالرؤيا التي من الله هي الصريحة: التي لا تفتقر إلى تأويل والتي من الملك: هي الرؤيا الصادقة: التي تفتقر إلى التعبير والرؤيا التي من الشيطان: هي الأضغاث. واعلم أيضا أن الخيال إذا ألقى أليه الروح مدركة فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس ما لم يكن الحس أدركه قط فلا يصور فيه فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر ولا العدو بالحية ولا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذه وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات والمشمومات وليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير وفسد قانونه. ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه وتأويله كما يقولون: البحر

يدل على السلطان وفي موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ وفي موضع آخر يقولون: البحر يدل على الهم والأمر الفادح. ومثل ما يقولون: الحية تدل على العدو وفي موضع آخر يقولون: هي كاتم سر وفي موضع آخر يقولون: تدل على الحياة وأمثال ذلك فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليف بالرؤيا. وتلك القرائن منها: في اليقظة ومنها: في النوم ومنها: ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه وكل ميسر لما خلق. ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها الناس لهذا العهد وألف الكرماني فيه من بعده ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل: الممتع وغيره وكتاب: الإشارة للسالمي وهو: علم مضيء بنور النبوة للمناسبة بينهما كما وقع في الصحيح والله علام الغيوب. انتهى. علم التعديل هو: علم يتعرف منه كيفية تفاوت الليل والنهار وتداخل الساعات فيهما عند تفاوتها في الصيف والشتاء ونفع هذا العلم عظيم. انتهى كلام أبي الخير. وقد أورده من فروع علم الهندسة ولعل ما ذكره هو: التعديلات المستعملة في الدستور الموضوع لاستخراج التقويم من الزيج وفيه جدول تعديل الأيام وفي الزيج جداول لهذا العلم ولا يخفى على الأهل أنه إن كان مراده هذا المعنى فهو: من مسائل علم الزيج والتقويم لكن يأباه تعريفه بكيفية تفاوت الليل والنهار فإن ذلك العمل لتعديل حركات الكواكب. وأما التعديل بالمعنى الذي ذكره فلم ير في كتب الهندسة ولم يسمع مثله مسئلة فضلا عن كونه علما ولو قال: هو مسئلة من مسائل علم التقويم يعرف بالحساب الإسطرلاب لكان له وجه وجيه. علم تعلق القلب هذا علم ربما يظهره بعض المتبتلين لمن في عقله خفة حتى يظنون أنه يعرف الاسم الأعظم أو أن الجن تطيعه وربما أداه انفعاله إلى مرض ونحوه أو مطاوعة ذلك المتبتل فيما قصده كذا في: مدينة العلوم وأورده من جملة العلوم المتفرعة على السحر وهذا كما ترى شعبة من علم أهل الحيل ولا وجه لإفراده. علم تعمير المساكن ويسمى بعلم عقود الأبنية كما سيأتي في باب العين والمساكن: حماية للناس عن تأثيرات الجو وهي أقوى الوسائط في تغيير عوارض اللاهوية. والكلام عليها منحصر في طرفين:

الأول: في اختيار الأماكن. الثاني: في اختيار مؤن العمارة وطرق عمارة المساكن بها وما يتعلق بذلك من الاحتراسات والأول: له مراتب: وهي درجة ارتفاع الأماكن وهي تختلف باختلاف الأشخاص وعيوب البقعة وجيرة الغابات والبحور والأنهار والبلاد. والثاني: له مراتب أيضا وهي علو البيوت وسفلها وفتحاتها وقياس البيوت واحتراسات تخص حفظ الصحة في البيوت. والمساكن أنواع: منها: الحمام والكلام على الاستحمام البارد والحار وعلى الأشياء التابعة له يطول. ومنها: المحال التي ترتب فيها العمارات. ومنها: المراحيض. ومنها: مقابر الموتى. ومنها: الأماكن العمومية وهي العمارات الحاوية لأناس كثيرين مثل: المارستان والسجون والمعابد والمدارس والربط ودواوين الحكم ومجمع الناس وبيوت العساكر وكتاب: قانون الصحة المسمى بالمنحة في سياسة الصحة للحكيم الماهر محمد الهراوي تكفل لبيان الكلام على تلك الأماكن وهذه المساكن على أحسن أسلوب وأبدع وضع وفيه ما يكفي لإدراك حقائق صحة الهواء والمسكن والملبس والسفن وغير ذلك. علم التفسير: أي تفسير القرآن هو: علم باحث عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية. ومباديه: العلوم العربية وأصول الكلام وأصول الفقه والجدل وغير ذلك من العلوم الجمة. والغرض منه: معرفة معاني النظم بقدر الطاقة البشرية. وفائدته: حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة والاتعاظ بما فيه من القصص والعبر والاتصاف بما تضمنه من مكارم الأخلاق إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يمكن تعدادها لأنه بحر لا تنقضي عجائبه وسبحانه من أنزله وأرشد به عباده. وموضوعه: كلام الله - سبحانه وتعالى - الذي هو: منبع كل حكمة ومعدن كل فضيلة. وغايته: التوصل إلى فهم معاني القرآن واستنباط حكمه ليفاز به إلى السعادة الدنيوية والأخروية وشرف العلم وجلالته باعتبار شرف موضوعه وغايته فهو أشرف العلوم وأعظمها هذا ما ذكره أبو الخير وابن صدر الدين والأرتيقي. قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: علم التفسير: علم يعرف به نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وامتثالها وغيرها. قال أبوحيان: التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية

والتركيبية ومعانيها التي يحمل عليه حالة التركيب وتتمات ذلك. وقال الزركشي: التفسير: علم يفهم به كتاب الله المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات وأما وجه الحاجة إليه فقال بعضهم: اعلم أن من المعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتابه على لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة وهي: أن كل من وضع من البشر كتاب فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة: أحدها: كمال فضيلة المصنف فإنه بقوته العلمية بجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز فربما عسر فهم مراده فقصد بالشروح ظهور تلك المعاني الدقيقة من ههنا كان شرح بعض الأئمة لتصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له" وثانيها: إغفاله بعض متممات المسئلة أو شروطها اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المتروك ومراتبه. وثالثها: احتمال اللفظ لمعان مختلفة كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط أو تكرار الشيء أو حذف المهم أو غير ذلك فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك وإذا تقرر هذا فنقول: إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن فصحاء العرب وكانوا يعلمون ظاهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكثر كسؤالهم لما نزل: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك واستدل عليه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وغير ذلك مما سألوا عنه - صلى الله عليه وسلم - ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه مع أحكام الظاهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد احتياجا إلى التفسير. وأما شرفه: فلا يخفى قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} . وقال الأصبهاني: شرفه من وجوه: أحدها: من جهة الموضوع: فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة. وثانيها: من جهة الغرض: فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى. وثالثها: من جهة شدة الحاجة: فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى. واختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن وأن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار،

وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علما: اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع وعلم القراءات: لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن وبالقراءات يرجح بعض الوجوه المحتملة على بعض وأصول الدين: أي الكلام وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه والناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المبهم والمجمل وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم وإليه الإشارة بحديث: من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم. قال البغوي والكواشي وغيرهما: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتملها الآية غير مخالف للكتاب والسنة غير محظور على العلماء بالتفسير كقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . وقيل: أغنياء وفقراء. وقيل: نشاطا أو غير نشاط. وقيل: أصحاء ومرضى وكل ذلك سائغ والآية تحتمله. وأما التأويل المخالف للآية والشرخ فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أنهما علي وفاطمة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يعني الحسن والحسين. انتهى. وذكر العلامة الفناري في: تفسير الفاتحة فصلا مفيدا في تعريف هذا العلم ولا بأس بإيراده اذ هو مشتمل على لطائف التعريف. قال قطب الدين الرازي في شرحه ل: الكشاف: هو ما يبحث فيه عن مراد الله - سبحانه وتعالى - من قرآنه المجيد ويرد عليه أن البحث فيه ربما كان عن أحوال الألفاظ: كمباحث القراءات وناسخية الألفاظ ومنسوخيتها وأسباب نزولها وترتيب نزولها إلى غير ذلك فلا يجمعها أحده. وأيضا يدخل فيه البحث في الفقه الأكبر والأصغر عما يثبت بالكتاب فإنه بحث عن مراد الله تعالى من قرآنه فلا يمنعه أحد فكان الشارح التفتازاني إنما عدل عنه لذلك إلى قوله: هو العلم الباحث عن أحوال الألفاظ كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث الدلالة على مراد الله وترد على مختاره أيضا وجوه: الأول: أن البحث المتعلق بألفاظ القرآن ربما لا يكون بحيث يؤثر في المعنى المراد بالدلالة والبيان: كمباحث علم القراءة عن أمثال التفخيم والإمالة إلى ما لا يحصى فإن علم القراءة جزء من علم التفسير أفرز عنه لمزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطب والفرائض من الفقه. وقد خرج بقيد الحيثية ولم يجمعه فإن قيل: أراد تعريفه بعد إفراز علم القراءة قلنا: فلا يناسب الشرح المشروح للبحث في التفسير عما لا يتغير به المعنى في مواضع لا تحصى الثاني: أن المراد بالمراد إن كان المراد بمطلق الكلام فقد دخل العلوم الأدبية وإن كان مراد الله تعالى بكلامه. فإن أريد مراده في نفس الأمر فلا يفيده بحث التفسير لأن: طريقه غالبا إما رواية الآحاد أو الدراية

بطريق العربية وكلاهما ظني كما عرف ولأن فهم كل أحد بقدر استعداده ولذلك أوصى المشائخ - رحمهم الله - في الإيمان أن يقال: آمنت بالله وبما جاء من عنده على مراده وآمنت برسول الله وبما قاله على مراده ولا يعين بما ذكره أهل التفسير ويكرر ذلك على الهدي في تأويلاته. وإن أريد مراد الله - سبحانه وتعالى - في زعم المفسر ففيه خرازة من وجهين: الأول: كون علم التفسير بالنسبة إلى كل مفسر بل إلى كل أحد شيئا آخر وهذا مثل ما اعترض على حد الفقه لصاحب: التنقيح وظن وروده وإلا فإني أجيب عنه بأن التعدد ليس في حقيقته النوعية بل في جزئياتها المختلفة باختلاف القوابل. وأيضا ذكر الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : أن جميع المعاني المفسر بها لفظ القرآن رواية أو دراية صحيحتين مراد الله - سبحانه وتعالى - لكن بحسب المراتب والقوابل لا في حق كل أحد. الثاني: أن الأذهان تنساق بمعاني الألفاظ إلى ما في نفس الأمر على ما عرف فلا بد لصرفها عنه من أن يقال من حيث الدلالة على ما يظن أنه مراد الله سبحانه وتعالى. الثالث: أن عبارة العلم الباحث في المتعارف ينصرف إلى الأصول والقواعد أو ملكتها وليس لعلم التفسير قواعد يتفرع عليها الجزئيات إلا في مواضع نادرة فلا يتناول غير تلك المواضع إلا بالعناية فالأولى: أن يقال علم التفسير معرفة أحوال كلام الله سبحانه وتعالى من حيث القرآنية ومن حيث دلالته على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله سبحانه وتعالى بقدر الطاقة الإنسانية فهذا يتناول أقسام البيان بأسرها. انتهى كلام الفناري بنوع تلخيص. ثم أورد فصولا في تقسيم هذا الحد إلى تفسير وتأويل وبيان الحاجة إليه وجواز الخوض فيهما ومعرفة وجوههما المسماة بطونا أو ظهرا أو بطنا فمن أراد الإطلاع على حقائق علم التفسير فعليه بمطالعته ولا ينبؤه مثل خبير. ثم إن أبا الخير أطال في ذكر: طبقات المفسرين ونحن أشرنا إلى من ليس لهم تصنيف فيه من مفسري الصحابة والتابعين إشارة جمالية والباقي مذكور عند ذكر كتابه. أما المفسرون من الصحابة فمنهم: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. ثم اعلم أن الخلفاء الأربعة أكثر من روي عنه علي بن أبي طالب والرواية عن الثلاثة في ندرة جدا والسبب فيه تقدم وفاتهم وأما علي رضي الله عنه فروي عنه الكثير وروي عن ابن مسعود أنه قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وإن عليا - رضي الله عنه - عنده من الظاهر والباطن. وأما ابن مسعود فروي عنه أكثر مما روي عن علي مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. وأما ابن عباس المتوفى سنة ثمان وستين بالطائف فهو: ترجمان القرآن وحبر الأمة ورئيس المفسرين

دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". وقد روي عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة لكن أحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة واعتمد على هذه البخاري في صحيحه. ومن جيد الطرق عنه طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة عشرين ومائة عن عطاء بن السائب. وطريق ابن إسحاق صاحب: السير. وأوهى طريقة طريق الكلبي عن أبي صالح والكلبي: هو أبو النصر محمد بن السائب المتوفى بالكوفة سنة ست وأربعين ومائة فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير المتوفى سنة ست وثمانين ومائة فهي سلسلة الكذب وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي المتوفى سنة خمسين ومائة إلا أن الكلبي يفضل عليه لما في مقاتل من المذاهب الردية وطريق ضحاك بن مزاحم الكوفي المتوفى سنة اثنتين مائة عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه وإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر وقد أخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وإن كان من رواية جرير عن الضحاك فأشد ضعفا لأن جريرا شديد الضعف متروك وإنما أخرج عنه ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان دون ابن جرير وأما أبي ابن كعب المتوفى سنة عشرين على خلاف فيه فعن نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح وهو أحد الأربعة الذي جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أقرأ الصحابة وسيد القراء. ومن الصحابة من ورد عنه اليسير من التفسير غير هؤلاء منهم أنس بن مالك بن النضر المتوفى بالبصرة سنة إحدى وتسعين. وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على خلاف المتوفى بالمدينة سنة سبع وخمسين. وعبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى بمكة المكرمة سنة ثلاث وسبعين. وجابر بن عبد الله الأنصاري المتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين. وأبو موسى عبد الرحمن بن قيس الأشرعي المتوفى سنة أربع وأربعين. وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي المتوفى سنة ثلاث وستين وهو أحد العبادلة الذين استقر عليهم أمر العلم في آخر عهد الصحابة. وزيد بن ثابت الأنصاري كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - المتوفى سنة خمس وأربعين وأما المفسرون من التابعين فمنهم أصحاب ابن عباس وهم: علماء مكة المكرمة - شرفها الله تعالى. ومنهم: مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة ثلاث ومائة قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري. وسعيد بن جبير المتوفى سنة أربع وتسعين. وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة خمس ومائة. وطاووس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة ست ومائة. وعطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة أربع عشرة ومائة.

ومنهم أصحاب ابن مسعود وهم علماء الكوفة. كعلقمة بن قيس المتوفى سنة اثنتين ومائة والأسود بن يزيد المتوفى سنة خمس وسبعين. وإبراهيم النخعي المتوفى سنة خمس وتسعين. والشعبي المتوفى سنة خمس ومائة. ومنهم: أصحاب زيد بن أسلم كعبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس. ومنهم: الحسن البصري المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة وعطاء بن أبي سلمة ميسرة الخراساني ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة سبع عشرة ومائة وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة تسعين والضحاك بن مزاحم وعطية بن سعيد العوفي المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة وقتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة عشرة ومائة والربيع بن أنس والسدي ثم بعد هذه الطبقة الذين صنفوا كتب التفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهويه وروح بن عبادة وعبد لله بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وآخرين. ثم بعد هؤلاء طبقة أخرى منهم: عبد الرزاق علي بن أبي طلحة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان وابن المنذر في آخرين. ثم انتصبت طبقة بعدهم إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل: أبي أسحق الزجاج وأبي علي الفارسي. وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما ومثل مكي بن أبي طالب وأبي العباس المهدوي. ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بترا فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل ثم صار كل من سنح له قول يورده ومن خطر بباله شيء يعتمده ثم ينقل ذلك خلف عن سلف ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن هم القدوة في هذا الباب. ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيء من العلوم ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن واقتصر فيه على ما تمهر هو فيه وكان القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير مع أن فيه تبيان كل شيء. فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه وإن كانت بعيدة وينقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته ك: الزجاج و: الواحدي في البسيط وأبي حيان في: البحر والنهر. والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها والأخبار عن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة ومنهم الثعلبي. والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعا وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلو لها بالآية أصلا والجواب عن الأدلة للمخالفين كالقرطبي. وصاحب العلوم العقلية خصوصا الإمام فخر الدين الرازي قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة

وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب قال أبو حيان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير ولذلك قال بعض العلماء فيه: كل شيء إلا التفسير وللمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه كما نقل عن البلقيني أنه قال: استخرجت من: الكشاف اعتزالا بالمناقيش منها أنه قال في قوله - سبحانه وتعالى -: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي فوز أعظم من دخول الجنة أشار به إلى عدم الرؤية والملحد لا تسأل عن كفره وإلحاده في آيات الله تعالى وافترائه على الله تعالى ما لم يقله كقول بعضهم: {ِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} وما علي العباد أضر من ربهم وينسب هذا القول إلى صاحب قوت القلوب أبي طالب المكي. ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف ولا رعاية للأصول الشرعية والقواعد العربية كتفسير محمود بن حمزة الكرماني في مجلدين سماه: العجائب والغرائب ضمنه أقوالا هي: عجائب عند العوام وغرائب عما عهد عن السلف بل هي أقوال منكرة لا يحل الاعتقاد عليها ولا ذكرها إلا للتحذير من ذلك قول من قال في: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إنه الحب والعشق ومن ذلك قولهم في: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} إنه الذكر إذا قام وقولهم: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس ويشف من الشفاء جواب من وع أمر من الوعي. وسئل البلقيني عمن فسر بهذا؟ فأفتى بأنه ملحد. وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير. قال ابن الصلاح في فتاواه: وجدت عن الإمام الواحدي أنه قال: صنف السلمي حقائق التفسير إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال النسفي في: عقائده: النصوص تحمل على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحادا وقال التفتازاني في: شرحه: سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعلمها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية. وقال: وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان. وقال تاج الدين عطاء الله في: لطائف المنن: اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله - سبحانه وتعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني الغريبة ليست إحالة الظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله تعالى قلبه. وقد جاء في الحديث: لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل: هذا إحالة كلام الله - تعالى - وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قال: لا معنى للآية إلا هذا وهم لا يقولون ذلك بل يفسرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها. انتهى.

قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: أما الظهر والبطن ففي معناهما أوجه ثم ذكرها قال: قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم فهذا يدل على أن في فهم المعاني من القرآن مجالا متسعا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير لتتقى به مواضع اللغط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لا بد منه أولا إذ لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر وإن شئت الزيادة فارجع إلى: الإتقان. انتهى. قال صاحب مفتاح السعادة: الإيمان بالقرآن هو التصديق بأنه كلام الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل - عليه السلام - وأنه دال على صفة أزلية له - سبحانه وتعالى - وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية مما هو مراد الله - سبحانه وتعالى - حق لا ريب فيه ثم تلك الدلالة على مراده - سبحانه وتعالى - بواسطة القوانين الأدبية الموافقة للقواعد الشرعية والأحاديث النبوية مراد الله سبحانه وتعالى. ومن جملة ما علم من الشرائع أن مراد الله - سبحانه - من القرآن لا ينحصر في هذا القدر لما قد ثبت في الأحاديث أن لكل آية ظهرا وبطنا وذلك المراد الآخر لما لم يطلع عليه كل أحد بل من أعطي فهما وعلما من لدنه تعالى يكون الضابط في صحته أن لا يرفع ظاهر المعاني المنفهمة عن الألفاظ بالقوانين العربية وأن لا يخالف القواعد الشرعية ولا يباين إعجاز القرآن ولا يناقض النصوص الواقعة فيها فإن وجد فيه هذه الشرائط فلا يطعن فيه وألا فهو بمعزل عن القبول. قال الزمخشري: من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سليما من القادح وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية بالمشاهدات الكشفية فهم القدوة في هذه المسالك ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك ثم ذكر ما وجب على المفسر من آداب. وقال: ثم اعلم أن العلماء كما بينوا في التفسير شرائط بينوا في المفسر أيضا شرائط لا يحل التعاطي لمن عري عنها وهو فيها راجل وهي: أن يعرف خمسة عشر علما على وجه الإتقان والكمال: اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمعنى والبيان والبديع والقراءات وأصول الدين وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو: علم يورثه الله - سبحانه وتعالى - لمن عمل بما علم وهذه العلوم التي لا مندوحة للمفسر عنها وإلا فعلم التفسير لا بد له من التبحر في كل العلوم. ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام: الأول: علم ما لم يطلع الله تعالى عليه أحدا من خلقه وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه. والثاني: ما أطلع الله - سبحانه وتعالى - نبيه عليه من أسرار الكتاب واختص به فلا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام أو لمن أذن له قيل: وأوائل السور من هذا القسم وقيل: من الأول. والثالث علوم علمها الله تعالى نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها وهذا ينقسم إلى قسمين:

منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع: كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقرآن واللغات وقصص الأمم وأخبار ما هو كائن. ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستنباط من الألفاظ وهو قسمان: قسم اختلفوا في جوازه وهو: تأويل الآيات المتشابهات. وقسم اتفقوا عليه وهو: استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية: لأن مبناها على الأقيسة وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه لمن له أهلية ذلك وما عدا هذه الأمور هو التفسالمسمى ب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ثم تفسير هذا العبد القاصر المسمى ب: فتح البيان في مقاصد القرآن وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال وكان المصروف في وليمة طبعه عشرين ألف ربية وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب والعجم ورزق القبول من علماء الكتاب والسنة القاطنين ببلد الله الحرام ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ومحدثي اليمن وصنعاء والقدس والمغرب وغير هؤلاء ولله الحمد كل الحمد على ذلك. فصل قال ابن خلدون في: بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات: أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع منها: ما هو في العقائد الإيمانية ومنها: ما هو في أحكام الجوارح ومنها: ما يتقدم ومنها: ما يتأخر ويكون ناسخا له وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه كما علم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} : أنها نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي: معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود والسبب في ذلك: أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل: أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ير بالرأي الذي نهى عنه وفيه خمسة أنواع: الأول: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها. التفسير الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه ألا الله - سبحانه وتعالى -. الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا. والرابع: التفسير بأن مراد الله - سبحانه وتعالى - كذا على القطع من غير دليل. الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى. وإذا عرفت هذه الفوائد وإن أطنبنا فيها لكونه رأس العلوم ورئيسها فاعلم أن كتب التفاسير كثيرة ذكرنا منها في كتابنا: الإكسير في أصول التفسير ما هو مسطور في: كشف الظنون وزدنا عليه أشياء على ترتيب حروف الهجاء. قال في: مدينة العلوم: والكتب المصنفة في التفسير ثلاثة أنواع: وجيز ووسيط وبسيط. ومن الكتب الوجيزة فيه: زاد المسيرة لابن الجوزي و: الوجيز للواحدي و: تفسير الواضح للرازي و: تفسير الجلالين إذ عمل نصفه الآخر جلال الدين المحلى وكمله جلال الدين السيوطي والشهير لأبي حيان ومن الكتب المتوسطة: الوسيط للواحدي و: تفسير الماتريدي و: تفسير التيسير لنجم الدين النسفي و: تفسير الكشاف للزمخشري و: تفسير الطيبي و: تفسير البغوي و: تفسير الكواشي و: تفسير البيضاوي و: تفسير القرطبي و: تفسير سراج الدين الهندي و: تفسير مدارك التنزيل لأبي البركات النسفي. ومن الكتب المبسوطة: البسيط للواحدي و: تفسير الراغب للأصفهاني وتفسير أبي حيان المسمى ب: البحر و: التفسير الكبير للرازي و: تفسير العلامي ورأيته في أربعين مجلدا و: تفسير ابن عطية الدمشقي و: تفسير الخرقي نسبة إلى بائع الخرق والثياب و: تفسير الحوفي و: تفسير القشيري1 و: تفسير ابن عقيل وتفسير السيوطي المسمى ب: الدر المنثور في التفسير المأثور و: تفسير الطبري ومن التفاسير: إعراب القرآن للسفاقسي. انتهى. قلت: ومن الحسن التفاسير المؤلفة في هذا الزمان الأخير تفسير شيخنا الإمام المجتهد العلامة قاضي القضاة بصنعاء اليمن محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف الهجرية

_ 1 القشيري نسبة إلى قبيلة من قشير بن كعب

المسمى بفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ثم تفسير هذا العبد القاصر المسمى بفتح البيان في مقاصد القرآن وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال وكان المصروف في وليمة طبعه عشرين ألف ربية وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب والعجم ورزق القبول من علماء الكتاب والسنة القاطنين ببلد الله الحرام ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ومحدثي اليمن وصنعاء والقدس والمغرب وغير هؤلاء ولله الحمد كل الحمد على ذلك. فصل قال ابن خلدون في: بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات: أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع منها: ما هو في العقائد الإيمانية ومنها: ما هو في أحكام الجوارح ومنها: ما يتقدم ومنها: ما يتأخر ويكون ناسخا له وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه كما علم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} : أنها نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي: معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود والسبب في ذلك: أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل: أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما

ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم وعظمة أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ لما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيض. وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالغرب فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق. والصنف الآخر من التفسير وهو: ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة نعم قد يكون في بعض التفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب: الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في أي في القرآن من طرق البلاغة فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة وإذا كان الناظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السنية محسنا للحجاج عنها فلا جرم أنه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة - وفوق كل ذي علم عليم -. انتهى كلامه فصل قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستكون فتن", قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله: فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره. وقال أبو مسعود: من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين أخرجه سعيد بن منصور في سننه قال البيهقي: أراد به أصول العلم. وقال بعض السلف: ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله تعالى وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله أخرجه ابن أبي حاتم. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنزل في هذا القرآن كل علم وميز لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة" أخرجه أبو الشيخ في كتاب: العظمة. وقال الشافعي: جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ما فهمه من القرآن قلت: ويؤيد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا

أحل إلا ما أحل الله في كتابه" رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها لا يقال: إن من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة لأن ذلك مأخوذ من كتاب الله تعالى في الحقيقة لأن الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع من القرآن وفرض علينا الأخذ بقوله دون من عداه ولهذا نهى عن التقليد وجميع السنة شرح للقرآن وتفسير للفرقان. قال الشافعي مرة بمكة المكرمة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله. فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور. فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ثم روى عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده أنه قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ثم روى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور ومثل ذلك حكاية ابن مسعود في لعن الواشمات وغيرهن واستدلاله بالآية الكريمة المذكورة وهي معروفة رواها البخاري. ونحوه حكاية المرأة التي كانت لا تتكلم إلا بالقرآن وهي: أنها قال عبد الله بن المبارك: خرجت قاصدا بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - فبينما أنا سائر في الطريق وإذا بسواد فمررت به وإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقالت: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فقلت لها يرحمك الله تعالى ما تصنعين في هذا المكان؟ فقالت: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} فقلت: أنها ضالة عن الطريق فقلت: أين تريدين؟ فقالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فعلمت أنها قضت حجها وتريد بيت المقدس فقلت: أنت مذ كم في هذا المكان؟ فقالت: ثلاث ليال سويا فقلت أما أرفعك طعاما. فقالت: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فقلت لها ليس هذا شهر رمضان. فقالت: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فقلت لها قد أبيح لنا الإفطار في السفر. فقالت: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فقلت لها لم لا تكلميني مثل ما أكلمك به فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فقلت لها: من أي الناس أنت؟ فقالت: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فقلت لها: قد أخطأت فاجعلني في حل. فقالت: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم قلت لها: هل لك أن أحملك على ناقتي وتلحقي القافلة؟ قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} فأنخت مطيتي لها. فقالت: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فغضضت بصري عنها فقلت: اركبي فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها ومزقت ثيابها. فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فقلت لها: اصبري حتى أعقلها. فقالت: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فشددت لها الناقة وقلت لها: اركبي فلما ركبت قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ

لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح طربا. فقالت لي: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} فجعلت أمشي وأترنم بالشعر. فقالت: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فقلت: ليس هو بحرام. قالت: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} فطرقت عنها ساعة فقلت لها: هل لك ربع؟ قالت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فسكت عنها ولم أكملها حتى أدركت بها القافلة فقلت: لها هذه القافلة فمن لك فيها؟ فقالت: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فعلمت أن لها أولادا ومالا فقلت لها: ما شأنهم في الحاج؟ قالت: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت بي القبابات والعمارات فقلت: من لك فيها؟ فقالت: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فناديت: يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فجاءوني بالتلبية فإذا هم شبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر بهم الجلوس قالت لهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} فقام أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي وقالت: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} فقلت لهم: طعامكم هذا علي حرام حتى تخبروني بامرأتكم هذه فقالوا: هذه لها أربعون سنة ما تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل في كلامها فيسخط الله عليها - فسبحان الله القادر على كل شيء -. انتهت الحكاية1 وهي تدل على أن القرآن الكريم فيه كل شيء. قال بعض السلف: ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين سنة من قوله تعالى في سورة المنافقين: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فإنها رأس ثلاث وستين وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده. قال المرسي: جمع القرآن وعلوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادة الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتقال أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علمه وقامت كل طائفة بفن من فنونه فاعتزم قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعدد كلماته وآياته وسوره وأجزائه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهات والآيات المتماثلات من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسموا: القراء. واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها وأوسعوا الكلام في

_ 1 هذه الحكاية قد وجدتها قي بياض سيدي الوالد العلامة حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري-رحمه الله- ولم ينسبها إلى كتاب ولا صاحب كتاب منه مد ظله.

الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة. واعتنى المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ولفظا يدل على معنيين ولفظا يدل على أكثر فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره. واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وسموا هذا العلم ب: أصول الدين وتأملت طائفة منهم معاني خطابه وإن منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغات من الحقيقة والمجاز وتكلموا في التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا الفن: أصول الفقه. وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام فابتنوا أصوله وفروعه وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا وسموه ب: علم الفروع وب: الفقه أيضاً. وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا أول الأشياء حتى سموا ذلك بالتاريخ والقصص. وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي ترقق قلوب الرجال وتكاد تدكدك شوامخ الجبال فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولا من المواعظ وأصولا من الزواجر فسموا بذلك: الخطباء والوعاظ. واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان وفي منامي صاحبي السجن وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة وسموه: تعبير الرؤيا واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب فإن عز عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب فإن عسر فمن الحكم والأمثال. ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطبتهم وعرف عادمهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} . وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك: علم الفرائض واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول1 واستخرجوا منها أحكام الوصايا.

_ 1 قال الإمام العلامة الشوكاني في الفتح الرباني: انقضى زمن النبوة وأيام نزول الوحي من السماء ولم تحدث مسألة عائلة إنما حدث العول في زمن الصحابة فاختلفوا إلى آخر ما قال، وقد أطاب في بيان ذلك وأطال فمن شاء فليرجع إليه. حكيم معز الدين خالص بوري متوسل الرياسة سلمه الله تعالى.

ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والنجوم والبروج غير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت. ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جلالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع. ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها من الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك. هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه وقد احتوى على علوم أخر مثل: الطب والجلد والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك. أما الطب: فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة وغير ذلك وإنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاطه وحدوث الشفاء للبدن بعد إعلاله في قوله: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} . وأما الهيئة: ففي تضاعيف سور من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات. وأما الهندسة: ففي قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} فإن فيه القاعدة الهندسية وهي: أن الشكل المثلث لا ظل له. وأما الجدل: فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئا كثيرا ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم. وأما الجبر والمقابلة: فقد قيل: أن أوائل السور فيها ذكر مدد أعوام وأيام وتواريخ أمم سابقة وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة وتاريخ هذه الدنيا وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض. وأما النجامة: ففي قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} فقد فسره ابن عباس بذلك وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها فمن الصنائع: الخياطة في قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} والحدادة في قوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} والبناء في آيات والنجارة: {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} . والغزل: {َقَضَتْ غَزْلَهَا} . والنسج: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} . والفلاحة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} وفي آيات أخر. والصيد في آيات. والغوص: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} . والصياغة: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} .

والزجاجة: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} و: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} . والفخارة: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} . والملاحة: {أَمَّا السَّفِينَةُ} الآية. والكتابة: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وفي آيات أخر. والخبز والعجن: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} . والطبخ: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} . والغسل والقصارة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} و {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم القصارون. والجزارة: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} والبيع والشراء في آيات كثيرة. والصبغ {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} و {بِيضٌ وَحُمْرٌ} . والحجارة: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} والكيالة والوزن في آيات كثيرة. والرمي: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . وفيه من أسماء الآلات وضرب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء. انتهى كلام المرسي ملخصا مع زيادات. قال السيوطي في: الإكليل: وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسئلة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها وفيه علم عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق وأسماء مشاهير الرسل والملائكة وعيون أخبار الأمم السابقة: كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة. وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ورفع إدريس وغرق قوم نوح. وقصة عاد الأولى والثانية وقوم تبع ويونس وأصحاب الرس وثمود والناقة وقوم لوط وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين وقصة موسى في ولادته وإلقائه في اليم وقتله القبطي ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب وكلامه تعالى بجانب الطور ومجيئه إلى فرعون وخروجه وإغراق عدوه وقصة العجل والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصاعقة وقصة القتيل وذبح البقرة وقصته في قتل الجبارين وقصته مع الخضر والقوم ساروا في سرب من الأرض إلى الصين وقصة طالوت وداود مع جالوت وفتنته وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته وقصة القوم الذي خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم وقصة إبراهيم في مجادلة قومه ومناظرة نمرود وقصة وضعه ابنه إسماعيل مع أمه بمكة وبنائه البيت وقصة الذبيح وقصة يوسف وما أبسطها وأحسنها قصصا وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه وقصة زكريا وابنه يحيى وقصة أيوب وذي الكفل وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبناء السد وقصة أهل الكهف وقصة أصحاب الرقيم وقصة بخت نصر وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة وقصة أصحاب الجنة وقصة مؤمن آل يس وقصة أصحاب الفيل وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء. انتهى. وبقيت قصص لم يشر إليها السيوطي منها: قصة قتل قابيل أخاه هابيل وقصة دفن هابيل بدلالة الغراب

وقصة وصية يعقوب بنيه إلى غير ذلك قال: وفيه من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم وبشارة عيسى وبعثه وهجرته. ومن غزواته: غزوة بدر في سورة الأنفال وأحد في آل عمران وبدر الصغرى فيها والخندق في الأحزاب والنضير في الحشر والحديبية في الفتح وتبوك في براءة وحجة الوداع في المائدة. ونكاحة زينب بنت جحش وتحريم سرية وتظاهر أزواجه عليه وقصة الإفك وقصة الإسراء وانشقاق القمر وسحر اليهود. وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته وكيفية الموت وقبض الروح وما يفعل بها بعد عودها إلى السماء وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة وعذاب القبر والسؤال فيه ومقر الأرواح وأشراط الساعة الكبرى العشرة وهي: نزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان ورفع القرآن وطلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة والخسف وأحوال البعث: من نفخ الصور للفزع وللصعق وللقيام والحشر والنشر وأهوال الموقف وشدة الشمس وظل العرش والصراط والميزان والحوض والحساب لقوم ونجاه آخرين. ومنه: شهادة الأعضاء وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهر والشفاعة أي بالإذن. والجنة1 وأبوابها وما فيها من الأنهار والأشجار والثمار والحلي والأواني والدرجات ورؤية الله تعالى. والنار2 وما فيها من الأودية وأنواع العقاب وأصناف العذاب والزقوم والحميم إلى غير ذلك مما لو بسط لجاء في مجلدات وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في الحديث وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم وفيه: من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة أي سبعون اسما ذكرها السيوطي في آخر: الإكليل. وفيه: شعب الإيمان البضع والسبعون. وفيه: شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر وفيه: أنواع الكبائر وكثير من الصغائر وفيه تصديق كل حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الحسن البصري: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها: التوارة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ثم أودع علوم الفرقان المفصل ثم أودع علوم الفصل فاتحة الكتاب فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة. أخرجه البيهقي. قلت: ولذلك كانت قراءتها في كل ركعة من الصلاة وإن كان مأموما واجبة عند أهل المعرفة بالحق وكانت السبع المثاني والقرآن العظيم وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها ما خلا ما صرح بوضعها أهل النقد من علم الحديث وقد فسرها جماعة من أهل العلم مفردة بالتأليف وأبسطوا القول فيها وأجملوا

_ 1 وفيه كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، للحافظ ابن القيم الذي لخصه السيد العلامة المؤلف لهذا الكتاب وسماه مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام، وهو كتاب لم يؤلف مثله قبله في الإسلام مولوي محمد عبد المجيد خان مهتم المطابع الرياسة سلمه ربه. 2 وقد ألف في ذلك السيد الإمام مؤلف هذا الكتاب كتاباً نفسياً في مجلد لطيف سماه يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر الناس وأصحاب النار وهو من مبتكراته في هذا الباب حافظ سيد محمد سورتي مهتم وظائف الرياسة سلمه الله.

واستنبط الفخر الرازي الإمام منها عشرة آلاف مسئلة كما صرح بذلك في أول: تفسيره الكبير وكل ذلك يدل على عظم مرتبة الكتاب العزيز ورفعة شأن الفرقان الكريم قال الشافعي - رحمه الله -: جميع ما تقول الأئمة شرح للسنة وجميع السنة شرح للقرآن. قلت: ولذا كان الحديث والقرآن أصلي الشرع لا ثالث لهما وقول الأصوليين أن أدلة الشرع وأصوله أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس تسامح ظاهر كيف وهما كفيلان لحكم كل ما حدث في العالم ويحدث فيه إلى يوم القيامة دلت على ذلك آيات من الكتاب العزيز وآثار من السنة المطهرة وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر وهم الذين قال فيهم رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" الحديث قال بعض السلف: ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء إلا وهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد فهم من فهم وعمي منه من عمي وكذا كل ما حكم أو قضى به. انتهى. فإذا كانت السنة شرحا للكتاب فماذا يقال من فضل الكتاب نفسه وكفى له شرفا أنه كلام ربنا الخلاق الرزاق المنعم بلا استحقاق أنزله حكما عدلا جامعا للعلوم والفضائل كلها والفنون بأسرها والفواضل والمحاسن والمكارم والمحامد والمناقب والمراتب بقلها وكثرها لا يساويه كتاب ولا يوازيه خطاب وهذه جملة القول فيه. وقد أكثر الناس التصنيف في أنواع علوم القرآن وتفاسيرها وألف الشيخ الحافظ جلال الدين السيوطي - رحمه الله - في جملة من أنواعه: كأسباب النزول والمعرب والمبهمات ومواطن الورود وغير ذلك وما من كتاب منها إلا وقد فاق الكتب المؤلفة في نوعه ببديع اختصاره وحسن تحريره وكثرة جمعه. وقد أفرد الناس في أحكامه كتبا: كالقاضي إسماعيل والبكر بن العلاء وأبي بكر الرزاي والكيا الهراسي وأبي بكر بن العربي وابن الفرس والموزعي وغيرهم وكل منهم أفاد وأجاد وجمع فأبدع وأوعى. وللسيوطي في ذلك كتاب: الإكليل في استنباط التنزيل أورد فيه كل ما استنبط منه واستدل به عليه من مسئلة فقهية أو أصولية أو اعتقادية فاشدد بذلك الكتاب يديك وعض عليه بناجذيك. وألفت أنا في الأحكام خاصة كتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام وبالجملة فعلوم الكتاب لا تحصى وتفاسيره لا تستقصى وفنونه لا تتناهى وبركاته لا تقف عند حد وأنواره لا ترسم برسم ولا تحد بحد. وإذا تقرر ذلك عرفت أن العلوم التي ذكرناها في هذا الكتاب كلها موجودة في ذلك الكتاب دلالة وإشارة منطوقا أو مفهوما مفسرا أو مجملا ولا يعرفها إلا من رسخ قدمه في الكمال وسبح فهمه في بحار العلم بالتفصيل والإجمال والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. علم تقاسيم العلوم هو: علم يبحث فيه عن التدرج من أعم الموضوعات إلى أخصها ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم ولما كان أعم العلوم موضوعا العلم الإلهي جعل تقسيم العلوم من فروعه ويمكن

التدرج فيه من الأخص إلى الأعم على عكس ما ذكر لكن الأول أسهل وأيسر. وموضوع هذا العلم وغايته والغرض منه ومنفعته كلها لا يخفى على أحد. وصنف ابن سينا في هذا العلم رسالة وهذا الكتاب الذي نحن بصدد تنقيحه وتهذيبه عظيم النفع في هذا الباب - إن شاء الله تعالى - وتقدم الكلام على هذه التقاسيم في القسم الأول من هذا الكتاب على وجه التفصيل. علم تلفيق الحديث هو: علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتنافية ظاهرا إما بتخصيص العام تارة أو بتقييد المطلق أخرى أو بالحمل على تعدد الحادثة إلى غير ذلك من وجوه التأويل وكثيرا ما يورده شراح الأحاديث أثناء شروحهم إلا أن بعضا من العلماء قد اعتنى بذلك فدونوه على حده ذكره أبو الخير من فروع علم الحديث والتصانيف في هذا الفن قليلة.

باب الثاء المثلثة

باب الثاء المثلثة علم الثقات والضعفاء من رواة الحديث هو: من أجل نوع وأفخمه من أنواع علم الأسماء والرجال فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه. وإلى الاحتياط في أمور الدين وتمييز مواقع الغلط والخطأ في بدء الأصل الأعظم الذي عليه مبنى الإسلام وأساس الشريعة. وللحافظ فيه تصانيف كثيرة منها: ما أفرد في الثقات ككتاب: الثقات للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي - المتوفى سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وكتاب: الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة للشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة تسع وسبعين وثمانمائة وهو كبير في أربع مجلدات وكتاب: الثقات لخليل بن شاهين وكتاب: الثقات للعجلي. ومنها: ما أفرد في الضعفاء ككتاب: الضعفاء للبخاري وكتاب: الضعفاء للنسائي و: الضعفاء لمحمد بن عمرو العقيلي المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. ومنها: ما جمع بينهما ك: تاريخ البخاري و: تاريخ ابن أبي حيثمة قال ابن الصلاح - رحمه الله -: وما أغزر فوائده وكتاب: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - رحمه الله -.

باب الجيم

باب الجيم علم الجبر والمقابلة هو: من فروع علم الحساب لأنه: علم يعرف فيه كيفية استخراج مجهولات عديدية بمعادلتها المعلومات مخصوصة على وجه مخصوص. ومعنى الجبر: زيادة قدر ما نقص من الجملة المعادلة بالاستثناء في الجملة الأخرى لتتعادلا.

ومعنى المقابلة: إسقاط الزائد من إحدى الجملتين للتعادل. وبيانه: أنهم اصطلحوا على أن يجعلوا للمجهولات مراتب من نسبة تقتضي ذلك بطريق التضعيف بالضرب. أولها: العدد لأنه به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة للمجهول إليه. وثانيها: الشيء لأن كل مجهول فهو من حيث إبهامه: شيء وهو أيضا: جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية. وثالثها: المال وهو: مربع مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأس في المضروبين. ثم يقع العمل للفروض في المسئلة فيخرج العمل المفروض إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض ويجبرون ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحا ويحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يؤول إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم وهي: العدد والشيء والمال. توضحيه: أن كل عدد يضرب في تفسير يمسي بالنسبة إلى حاصل ضربه في نفسه شيئا في هذا العلم يفرض هناك كل مجهول يتصرف فيه شيئا أيضا ويسمى الحاصل من الضرب: بالقياس إلى العدد المذكور مالا في هذا العلم فإن كان في أحد المتعادلين من الأجناس استثناء كما في قولنا: عشرة الأشياء يعدل أربعة اشياء. فالجبر: رفع الإسنثناء: بأن يزاد مثل المستثنى على المستثنى منه فيجعل العشرة كاملة كأنه يجبر نقصانها أو يزاد مثل المستثنى على عديله كزيادة الشيء في المثال بعد جبر العشرة على أربعة أشياء حتى تصير خمسة. وإن كان في الطرفين أجناس متماثلة: فالمقابلة أن تنقص الأجناس من الطرفين بعدة واحدة وقيل: هي تقابل بعض الأشياء ببعض على المساواة كما في المثال المذكور إذا قوبلت العشرة بالخمسة على المساواة. وسمي العلم بهذين العملين: علم الجبر والمقابلة لكثرة وقعهما فيه. قال ابن خلدون: فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعين فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعين. والمال وإن عادل الجذور يتعين بعدتها وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفضيل الصرف في الاثنين. وأكثر ما انتهت المعادلة عندهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد وجزر أي شيء ومال مفردة أو مركبة تجيء ستة. ومنفعته: استعلام المجهولات العددية إذا كانت معلومة العوارض ورياضة الذهن. وأول من كتب هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا. ومن أحسن شروحه كتاب: القرشي وقد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعادلات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلها أعمالا وأتبعه ببراهين

هندسية - والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى -. انتهى. قال الشيخ عمر بن إبراهيم الخيامي: إن أحد المعاني التعليمية من الرياضي هو: الجبر والمقابلة وفيه ما يحتاج إلى أصناف من المقدمات معتاصة جدا متعذر حلها أما المتقدمون: فلم يصل إلينا منهم كلام فيها العلم لم يتفطنوا لها بعد الطلب والنظر أو لم يضطر البحث إلى النظر فيها ولم ينقل إلى لساننا كلامهم. وأما المتأخرون: فقد عن لهم تحليل المقدمة استعملها أرخميدس في الرابعة من الثانية في الكرة والأسطوانة بالجبر فنادى إلى كتاب وأموال وأعداد متعادلة فلم يتفق له حلها بعد أن أنكر فيها مليا فجزم بأنه ممتنع حتى تبعه أبو جعفر الخازن وحلها بالقطوع المخروطية ثم افتقر بعده جماعة من المهندسين إلى عدة أصناف منها فبعضهم حل البعض. انتهى. قال في: مدينة العلوم: ومن الكتب المختصرة فيه: نصاب الجبر لابن فلوس المارديني و: المفيد لابن المحلي الموصلي. ومن المتوسطة: كتاب: الظفر للطوسي. ومن المبسوطة: جامع الأصول لابن المحلي و: الكامل لأبي شجاع بن أسلم وبرهن السموك على مسائله بالبراهين العددية والهندسية و: أرجوزة ابن الياسمين و: شرحه مختصر نافع أورد فيه ما لا بد منه. ومن الرسائل الوافية بالمقصود: رسالة شرف الدين محمد بن مسعود بن محمد المسعودي. علم الجدل هو: علم باحث عن الطرق التي يقتدر بها على إبرام أي وضع أريد ونقض أي وضع كان. وهو: من فروع علم النظر ومبني لعلم الخلاف. مأخوذ: من الجدل الذي هو: أحد أجزاء مباحث المنطق لكنه خص بالعلوم الدينية. ومبادئه: بعضها أمور مبينة في علم النظر وبعضها خط أبية وبعضها أمور عادية. وله استمداد من علم المناظرة المشهور بآداب البحث. وموضوعه: تلك الطرق. والغرض منه: تحصيل ملكة النقض والإبرام والهدم والأحكام. وفائدته: كثيرة في الأحكام العملية والعلمية من جهة الإلزام على المخالفين ودفع شكوكهم كذا في: مفتاح السعادة. ولا يبعد أن يقال: إن علم الجدل هو: علم المناظرة لأن المال منهما واحد إلا أن الجدل أخص منه ويؤيده كلام ابن خلدون في: المقدمة حيث قال: هو: معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا وكل واحد من المناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول وكيف يكون حال المستدل والمجيب وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا وكيف يكون مخصوصا منقطعا ومحل اعتراضه أو معارضته وأين يجب عليه السكوت 2 / 209 ولخصمه الكلام والاستدلال ولذلك قيل فيه: إنه معرفة بالقواعد من الحدود

والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي وهدمه كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره وهي طريقتان: طريقة البزدوي: وهي خاصة بالأدلة الشرعية من النص والإجماع والاستدلال. وطريقة العميدي: وهي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان وأكثره استدلال وهو من المناحي الحسنة والمغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. وإذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي والسوفسطائي إلا أن صور الأدلة والأقيسة فيه محفوظة مراعاة تتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. وهذا العميدي: هو أول من كتب فيها ونسبت الطريقة إليه وضع الكتاب المسمى ب: الإرشاد مختصرا وتبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي وغيره جاؤوا على أثره وسلكوا مسلكه وكثرت في الطريقة التآليف وهي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم والتعليم في الأمصار الإسلامية وهي مع ذلك كمالية وليست ضرورية والله - سبحانه وتعالى - أعلم وبه التوفيق. انتهى وقال أبو الخير: وللناس فيه طرق أحسنها: طريق ركن الدين العميدي. وأول من صنف فيه من الفقهاء الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي الشافعي المتوفى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. وعن بعض العلماء: إياك أن تشتغل بهذا الجدل الذي ظهر بعد انقراض الأكابر من العلماء فإنه يبعد عن الفقه ويضيع العمر ويورث الوحشة والعداوة وهو من أشراط الساعة وارتفاع العلم والفقه كذا ورد في الحديث حيثما ذكر في تعليم المتعلم ولله در القائل: أرى فقهاء العصر طرا ... أضاعوا العلم واشتغلوا بلم لم إذا ناظرتهم لم تلق منهم ... سوى حرفين لم لم لا نسلم قلنا: والإنصاف أن الجدل لإظهار الصواب على مقتضى قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} لا بأس به وربما ينتفع به في تشحيذ الأذهان وتصقيل الخواطر وتمرين الطبائع والممنوع: هو الجدل الذي يضيع الأوقات ولا يحصل منه طائل وكثيرا مالا يخلو عن التحاسد والتنافس المذمومين في الشرع فعليك الاحتياط لئلا تقع في المهالك من حيث لا تشعر. انتهى. قال في: مدينة العلوم: ومن الكتب المختصرة فيه: المغني للأبهري و: الفصول للنسفي و: الخلاصة للمراغي و: مقدمة النسفي وعليها شروح أحسنها: شرح السمرقندي. ومن المتوسطة: النفائس للعميدي و: الرسائل للأرموي و: تهذيب النكت للأبهري. وفي هذا العلم مصنفات كثيرة لكنها لم تشتهر في بلادنا غير ما ذكرناه. انتهى علم الجراحة هو: علم باحث عن أحوال الجراحات العارضة لبدن الإنسان وكيفية برئها وعلاجها ومعرفة أنواعها وكيفية القطع أن احتيج إليه ومعرفة كيفية المراهم والضمادات وأنواعها ومعرفة الأدوات اللازمة لها. وهذا العلم: جزء من علم الطب وقد يفرد عنه بالتدوين ومنفعته عظيمة جدا وهذا العلم بالعمل أشبه

منه بالعلم وفي كتاب: منهاج البيان ما فيه كفاية في هذا الشأن. أقول: الأصل فيه: عمدة الجراحين لأبي الفرج. ومن الكتب المؤلفة فيه: جراح نامة تركي لإبراهيم بن عبد الله الجراج ذكر فيه أن قلعة متون لما فتحت وجد فيها كتابا يونانيا اسمه: جندار فترجمه ورتب على ثلاثة وعشرين بابا و: جراحات الرأس لبقراط وغيره والله أعلم بالصواب. علم جر الأثقال هو: علم يبحث فيه عن كيفية اتخاذ آلات تجر الأشياء الثقيلة بالقوة اليسيرة. ومنفعته: ظاهرة حتى للعوام وقد برهن إيدن في كتابه: في هذا العلم على نقل مائة ألف رطل بقوة خمسمائة وهذا أمر يستبعده العقول القاصرة. وهو: من فروع علم الهندسة وبرهن الإمام في آخر: جامع العلوم على بعض مسائله ولم يذكر صاحب: مفتاح السعادة كتابا في هذا الفن وكذا صاحب: مدينة العلوم ولكن حدثت في هذا الزمان كتب كثيرة في هذا العلم بلسان الفرنج ولهم يد طولى في ذلك وقد أوجدوا في زماننا هذا أشياء تجر الأثقال والأحمال الكثيرة إلى مسافات شاسعة عسيرة في أزمنة قليلة يسيرة تحار منها الأفهام وتأبى عن ضبطها الأقلام منها: العجلة الدخانية تقطع مسيرة شهر في يوم وليلة. علم الجرح والتعديل هو: علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ. وهذا العلم: من فروع علم رجال الأحاديث ولم يذكره أحد من أصحاب الموضوعات مع أنه فرع عظيم والكلام في الرجال جرحا وتعديلا ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم جوز ذلك تورعا وصونا للشريعة لا طعنا في الناس وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في ذلك وأول من عني بذلك من الأئمة الحفاظ شعبة بن الحجاج ثم تبعه يحيى بن سعيد. قال الذهبي في: ميزان الاعتدال: أول من جمع في ذلك الإمام يحيى بن سعيد القطان وتكلم فيه بعده تلامذته يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وعمرو بن علي القلانسي وأبوحيثمة زهير وتلامذتهم كأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري ومسلم وأبي إسحاق الجوزجاني والنسائي وابن خزيمة والترمذي والدولابي والعقيلي وابن عدي وأبي الفتح الأزدي والدارقطني والحاكم إلى غير ذلك. أقول: ومن الكتب المصنفة فيه كتاب: الجرح والتعديل لأبي الحسن أحمد بن عبد الله العجلي الكوفي نزيل طرابلس المغرب المتوفى سنة إحدى وستين. وكتاب: الجرح والتعديل للإمام الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد الرازي المتوفى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وهو: كتاب كبير أوله: الحمد لله رب العالمين بجميع محامده كلها ذكر فيه أنه

لما لم يجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله - سبحانه وتعالى - ولا من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من جهة النقل والرواية وجب أن يميز بين العدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الحديث الكاذب والكذب. انتهى. و: الكامل لابن عدي وهو: أكمل الكتب فيه و: ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي وهو أجمع ما جمع فيه و: لسان الميزان لابن حجر العسقلاني - رحمه الله. علم جغرافيا هي: كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض ويقال: جغراويا بالواو على الأصل. وهو: علم يتعرف منه أحوال الأقاليم السبعة الواقعة في الربع المسكون من كرة الأرض وعروض البلدان الواقعة فيها وأطوالها وعدد مدنها وجبالها وبراريها وبحارها وأنهارها إلى غير ذلك من أحوال الربع المعمور كذا في: مفتاح السعادة و: مدينة العلوم. قال الشيخ داود في تذكرته: جغرافيا علم بأحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى الأقاليم والجبال والأنهار وما يختلف حال السكان باختلافه. انتهى. وهو الصواب لشموله على غير السبعة وجغرافيا علم لم ينقل له في العربية لفظ مخصوص. وأول من صنف فيه: بطلميوس القلوزي فإنه صنف كتابه المعروف ب: جغرافيا بعد ما صنف المجسطي وذكر أن عدد المدن أربعة آلاف وخمسمائة وثلاثون مدينة في عصره وسماها مدينة مدينة وإن عدد جبال الأرض مائتا جبل ونيف وذكر مقدارها وما فيها من المعادن والجواهر وذكر البحار أيضا وما فيها من الجزائر والحيوانات وخواصها وذكر أقطار الأرض وما فيها من الخلائق على صورهم وأخلاقهم وما يأكلون وما يشربون وما في كل سقع1 مما ليس في الآخر غيره من الأرزاق والتحف والأمتعة فصار أصلا يرجع إليه من صنف بعده لكن اندرس كثير مما ذكره وتغيرت أسماؤه وخبره فانسد باب الانتفاع منه وقد عربوه في عهد المأمون ولم يوجد الآن تعريبه. انتهى. أقول: وفي كتابي: لقطة العجلان طرف من هذا العلم على سبيل الاختصار وكذا في: مقدمة ابن خلدون وأريد أن أفرز هذا العلم منها فإنه أحسن في بيانه وأجاد وحرر وأفاد. وفي لسان الإفرنج والهندكية حدثت كتب كثيرة في هذا العلم في عصرنا هذا يعسر عدها ويطول حدها وأوضحوا فيها ما عليه الأقاليم السبعة الآن من المدن والأمصار والقرى والأبحار والسواحل والأنهار والبراري والقفار مع اختلاف لغات الأمم في أسمائها - ولله الأمر من قبل ومن بعد. علم الجفر والجامعة قال أهل المعرفة بهذا العلم: هو عبارة عن العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر المحتوي على كل ما كان وما يكون كليا وجزئياً.

_ 1 السقع والصقع الناحية، كذا في القاموس.

والجفر: عبارة عن لوح القضاء الذي هو عقل الكل. والجامعة: لوح القدر الذي هو نفس الكل وقد ادعى طائفة أن الإمام علي ابن أبي طالب - كرم الله وجهه - وضع الحروف الثمانية والعشرين على طريق البسط الأعظم في جلد الجفر يستخرج منها بطرق مخصوصة وشرائط معينة ألفاظ مخصوصة تدل على ما في لوح القضاء والقدر. وهذا علم توارثه أهل البيت ومن ينتمي إليهم ويأخذ منهم من المشائخ الكاملين وكبار الأولياء وكانوا يكتمونه عن غيرهم كل الكتمان وقيل: لا يفقه في هذا الكتاب حقيقة إلا المهدي المنتظر خروجه في آخر الزمان. وورد هذا في كتب الأنبياء السالفة كما نقل عن عيسى بن مريم - عليهما الصلاة والسلام -: نحن معاشر الأنبياء نأتيكم بالتنزيل وأما التأويل فسيأتيكم به البارقليط الذي سيأتيكم بعدي. نقل أن الخليفة المأمون لما عهد بالخلافة من بعده إلى علي بن موسى الرضا وكتب إليه كتابه عهده كتب هو في آخر ذلك الكتاب: نعم إلا أن الجفر والجامعة يدلان على أن هذا الأمر لا يتم وكان كما قال لأن: المأمون استشعر لأجل ذلك فتنة من طرف ابن العباس فسم الإمام علي بن موسى الرضا في عنب على ما هو المسطور في كتب التواريخ كذا في: مفتاح السعادة ومدينة العلوم. قال ابن طلحة: الجفر و: الجامعة: كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي بن أبي طالب وهو يخطب على المنبر بالكوفة والآخر أسره إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره بتدوينه فكتبه علي حروفا متفرقة على طريق سفر آدم في جفر يعني في رق صنع من جلد البعير فاشتهر بين الناس به لأنه وجد فيه ما جرى للأولين والآخرين. والناس مختلفون في وضعه وتكسيره فمنهم: من كسره بالتكسير الصغير وهو: جعفر الصادق وجعل في حافية البار الكبير اب ت ث إلى آخرها والباب الصغير أبجد إلى قرشت وبعض العلماء قد سمى الباب الكبير بالجفر الكبير والصغير بالجفر الصغير فيخرج من الكبير ألف مصدر ومن الصغير سبعمائة. ومنهم: من يضعه بالتكسير المتوسط وهي: الطريقة التي توضع بها الأوفاق الحرفية وهو الأولى والأحسن وعليه مدار الحافية القمرية والشمسية. ومنهم: من يضعه بطريق التكسير الكبير وهو الذي يخرج منه جميع اللغات والأسماء. ومنهم: من يضعه بطريق التركيب الحرفي وهو مذهب أفلاطون. ومنهم: من يضعه بطريق التركيب العددي وهو مذهب سائر أهل السنة وكل موصل إلى المطلوب. ومن الكتب المصنفة فيه: الجفر الجامع والنور اللامع للشيخ كمال الدين أبي سالم محمد بن طلحة النصيبي الشافعي المتوفى سنة اثنتين وخمسين وستمائة مجلد صغير أوله: الحمد لله الذي أطلع من اجتباه. إلخ ذكر فيه أن الأئمة من أولاد جعفر يعرفون الجفر فاختار من أسرارهم فيه. انتهى ما في: كشف الظنون أقول: وهذه أقوال ساقطة جدا والحق في الباب ما ذكرناه وحققناه في كتابنا: لقطة العجلان فارجع إليه.

علم الجناس وهو وإن كان من أنواع البديع لكن لما كان البحث هناك على وجه كلي في مطلق الكلام وهنا على وجه جزئي في كلام منقول عن الفضلاء والبلغاء أفردوه بالتدوين وجعلوه فرعا على البديع أو على المحاضرات. وهو: علم باحث عن اللفظين الذين بينهما تشابه في اللفظ فقط أو فيه وفي الخط مع تغايرهما في المعاني وإلا فلا تجنيس أصلا ووجوه التشابه. وأقسامه: مذكورة في موضعها وليس هذا المقام موضع الاستقصاء فيه قبل التجنيس على نوعين: جناس شكلي وجناس غير شكلي قال أبو الفتح البستي: من أصلح فاسده أرغم حاسده ومن أطاع غضبه أضاع أدبه عادات السادات سادات العادات من سعادة جدك وقوفك عند حدك الروشة رشا الحاجات المنية تضحك من الأمنية حد العفاف الرضا بالكفاف ومن ذلك قول رشيد الدين الوطواط: رب رب غني غي سرته شرته فجاءه فجاءة بعد بعد عشرته عسرته أي: يا رب كم من غني متصف بالغباوة سرته إضراره بالناس حتى جاءه بغته بعد طول معاشرته ونعمه العسر والفقر. ومنه: إن لم يكن لنا حظ في درك درك فخلصنا من شرك شرك. ومنه: إن أخليتنا من مبارك مبارك فأرحنا من معارك معارك. ومن غرائب التجنيس قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: عزك عزل فصار قصارى ذلك فاخش فاحش فعلك وفعلك تهدى بهذا فأجابه معاوية: على قدري غلى قدري. علم الجواهر هو: علم يبحث فيه عن كيفية الجواهر المعدنية البرية: كالألماس واللعل والياقوت والفيروز والبحرية: كالدر والمرجان وغير ذلك ومعرفة جيدها من رديها بعلامات تختص بكل نوع منها ومعرفة خواص كل منها. وغايته وغرضه: ظاهرة لا تخفى على الإنسان والتصانيف فيه كثيرة شهيرة بالعربية والفارسية أيضاً. علم الجهاد هو: علم يعرف به أحوال الحرب وكيفية ترتيب العسكر واستعمال السلاح ونحو ذلك وهو باب من أبواب الفقه تذكر فيه أحكامه الشرعية وقد بينوا أحواله العادية وقواعده الحكمية في كتب مستقلة ولم

يذكره أصحاب الموضوعات بلفظ علم الجهاد ولكنهم ذكروه في ضمن علوم: كعلم ترتيب العسكر وعلم الآلات الحربية ونحو ذلك لكن الأولى أنه يذكر ههنا. ومن الكتب المصنفة فيه: الاجتهاد في طلب الجهاد وجمعت كتابا في أحكام الجهاد سميته: العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة وللسيد الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة مستقلة في ذلك الباب ذكر فيها مسئلة: هل قتال الكفار لطلب إسلامهم أم لدفع شرهم؟ وله - رحمة الله - أيضا كلام فيها في: منحة الغفار حاشية ضوء النهار من كتاب: السير.

باب الحاء المهملة

باب الحاء المهملة علم الحجامة علم: يتعرف به أحوال الحجامة وكيفية مصها وشرطها بالمحجمة وأنها في أي موضع من البدن نافعة وفي أي موضع مضرة إلى غير ذلك من الأحوال ذكره في: مدينة العلوم فروع العلم الطبيعي. علم الحديث الشريف ويسمى ب: علم الرواية والأخبار أيضا على ما في: مجمع السلوك ويسمى جملة: علم الرواية والأخبار: علم الأحاديث. انتهى فعلى هذا علم الحديث يشتمل على علم الآثار أيضا بخلاف ما قيل فإنه لا يشمله والظاهر أن هذا مبني على عدم إطلاق الحديث على أقوال الصحابة وأفعالهم على ما عرف وهو الحق ولا حجة في قول أحد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلم الحديث هو: علم يعرف به أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله فاندرج فيه معرفة موضوعه. وأما غايته: فهي الفوز بسعادة الدارين كذا في: الفوائد الخاقانية. وهو ينقسم إلى: العلم برواية الحديث وهو: علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول - عليه الصلاة والسلام - من حيث أحوال رواتها ضبطا وعدالة ومن حيث كيفية السند اتصالا وانقطاعا وغير ذلك وقد اشتهر بأصول الحديث كما سبق. وإلى: العلم بدراية الحديث وهو: علم باحث عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث وعن المراد منها مبنيا على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقا لأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم وموضوعه: أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث دلالتها على المعنى المفهوم أو المراد. وغايته: التحلي بالآداب النبوية والتخلي عما يكرهه وينهاه. ومنفعته: أعظم المنافع كما لا يخفى على المتأمل. ومبادئه: العلوم العربية كلها ومعرفة القصص والأخبار المتعلقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة الأصلين والفقه وغير ذلك كذا في: مفتاح السعادة و: مدينة العلوم. والصواب: ما ذكر في: الفوائد إذ الحديث أعم من القول والفعل والتقرير كما حقق في محله. وفي: كشاف اصطلاحات الفنون: علم الحديث: علم تعرف به أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأفعاله. أما أقواله: فهي الكلام العربي فمن لم يعرف حال الكلام العربي فهو بمعزل عن هذا العلم وهو كونه

حقيقة ومجازا وكناية وصريحا وعاما وخاصا ومطلقا ومقيدا ومنطوقا ومفهوما ونحو ذلك مع كونه على قانون العربية الذي بينه النحاة بتفاصيله وعلى قواعد استعمال العرب وهو المعبر بعلم اللغة وأما أفعاله: فهي الأمور الصادرة عنه التي أمرنا باتباعه فيها أولا: كالأفعال الصادرة عنه طبعا أو خاصة كذا في: العيني شرح صحيح البخاري و: زاد الكرماني وأحواله. ثم في العيني وموضعه ذات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حيث أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم ومبادئه: هي ما تتوقف عليه المباحث وهي: أحوال الحديث وصفاته ومسائله: هي الأشياء المقصودة منه وغايته: الفوز بسعادة الدارين. انتهى. قال ابن الأثير في: جامع الأصول: علوم الشريعة تنقسم إلى: فرض ونفل والفرض: ينقسم إلى: فرض عين وفرض كفاية. ومن أصول فروض الكفايات علم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه التي هي ثاني أدلة الأحكام وله أصول وأحكام وقواعد واصطلاحات ذكرها العلماء وشرحها المحدثون والفقهاء يحتاج طالبه إلى معرفتها والوقوف عليها بعد تقديم معرفة اللغة الإعراب اللذين هما أصل المعرفة الحديث وغيره لورود الشريعة المطهرة على لسان العرب وتلك الأشياء كالعلم بالرجال وأساميهم وأنسابهم وأعمارهم ووقت وفاتهم والعلم بصفات الرواة وشرائطهم التي يجوز معها قبول روايتهم والعلم بمستند الرواة وكيفية أخذهم الحديث وتقسيم طرقه والعلم بلفظ الرواة وإيرادهم ما سمعوه واتصاله إلى من يأخذه عنهم وذكر مراتبه والعلم بجواز نقل الحديث بالمعنى ورواية بعضه والزيادة فيه والإضافة إليه بما ليس منه وانفراد الثقة بزيادة فيه والعلم بالمسند وشرائطه والعالي منه والنازل والعلم بالمرسل وانقسامه إلى المنقطع والموقوف والمعضل وغير ذلك لاختلاف الناس في قبوله ورده والعلم بالجرح والتعديل وجوازهما ووقوعهما وبيان طبقات المجروحين والعلم بأقسام الصحيح من الحديث والكذب وانقسام الخبر إليهما وإلى الغريب والحسن وغيرهما والعلم بأخبار التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما توافق عليه أئمة أهل الحديث وهو بينهم متعارف فمن أتقنها أتى دار هذا العلم من بابها وأحاط بها من جميع جهاتها وبقدر ما يفوته منها تزل درجته وتنحط رتبته إلا أن معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وإن تعلقت بعلم الحديث إن المحدث لا يفتقر إليه لأن ذلك من وظيفة الفقيه لأنه يستنبط الأحكام من الأحاديث فيحتاج إلى معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ فأما المحدث فوظيفته أن ينقل ويروي ما سمعه من الأحاديث كما سمعه فإن تصدى لما رواه فزيادة في الفضل. وأما مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره فإنه لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به والاهتمام بضبطه وحفظه ولذلك يسر الله - سبحانه وتعالى - للعلماء الثقات الذين حفظوا قوانينه وأحاطوا فيه فتناقلوه كابرا عن كابر وأوصله كما سمعه أول إلى آخر وحيه الله تعالى إليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته فما زال هذا العلم من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين خلفا بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله - سبحانه وتعالى - إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يسمع من الحديث عنه فتوفرت الرغبات فيه فما زال لهم

من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن انعطفت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ويقطع الفيافي والمفاوز ويجوب البلاد شرقا وغربا في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه. فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه وإما لعلو إسناده فانبعثت العزائم إلى تحصيله. وكان اعتمادهم أولا على الحفظ والضبط في القلوب غير ملتفتين إلى ما يكتبونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله - سبحانه وتعالى - فلما انتشر الإسلام واتسعت البلاد وتفرقت الصحابة في الأقطار ومات معظمهم قل الضبط احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة ولعمري إنها الأصل فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة مثل عبد الملك بن جريج ومالك بن أنس وغيرهما فدونوا الحديث حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج وقيل: موطأ مالك بن أنس وقيل: إن أول من صنف وبوب الربيع بن صبيح بالبصرة ثم انتشر جمع الحديث وتدوينه وتسطيره في الأجزاء والكتب. وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري فدونا كتابيهما وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته وثبت عندهما نقله وسميا الصحيحين من الحديث ولقد صدقا فيما قالا والله مجازيهما عليه ولذلك رزقهما الله تعالى حسن القبول شرقاً وغرباً. ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف وكثر في الأيدي وتفرقت أغراض الناس وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي قد اجتمعوا واتفقوا فيه مثل: أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ومثل: أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وغيرهم فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم وإليه المنتهى. ثم نقص ذلك الطلب وقل الحرص وفترت الهمم فكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها فإنه يبتدئ قليلا قليلا ولا يزال ينمو ويزيد إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود وكأن غاية هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرها ثم نزل وتقاصر إلى ما شاء الله. ثم إن هذا العلم على شرفه وعلو منزلته كان علما عزيزا مشكل اللفظ أو المعنى ولذلك كان الناس في تصانيفهم مختلفي الأغراض فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقا ليحفظ لفظه ويستنبط منه الحكم كما فعله عبد الله بن موسى الضبي وأبو داود الطيالسي وغيرهما أولا. وثانيا: أحمد بن حنبل ومن بعده فأنهم أثبتوا الأحاديث من مسانيد رواتها فيذكرون مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويثنون فيه كل ما رووا عنه ثم يذكرون بعده الصحابة واحدا بعد واحد على هذا النسق. ومنهم: من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها فيضعون لكل حديث بابا يختص به فإن كان في معنى الصلاة ذكروه في باب الصلاة وإن كان في معنى الزكاة ذكروه فيها كما فعل مالك في الموطأ إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث قلت أبوابه ثم اقتدى به من بعده.

فلما انتهى الأمر إلى زمن البخاري ومسلم وكثرت الأحاديث المودعة في كتابيهما كثرت أبوابهما واقتدى بهما من جاء بعدهما وهذا النوع أسهل مطلبا من الأول لأن الإنسان قد يعرف المعنى وإن لم يعرف رواية بل ربما لا يحتاج إلى معرفة رواية فإذا أراد حديثا يتعلق بالصلاة طلبه من كتاب الصلاة لأن الحديث إذا أورد في كتاب الصلاة علم الناظر أن ذلك الحديث هو دليل ذلك الحكم فلا يحتاج أن يفكر فيه بخلاف الأول. ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظ لغوية ومعاني مشكلة فوضع لها كتابا قصره على ذكر متن الحديث وشرح غريبه وإعرابه ومعناه ولم يتعرض لذكر الأحكام كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة وغيرهما. ومنهم من أضاف إلى هذا الاختيار ذكر الأحكام وآراء الفقهاء مثل: أبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي في معالم السنن وأعلام السنن وغيره من العلماء. ومنهم من قصد ذكر الغريب دون متن الحديث واستخراج الكلمات الغريبة ودونها ورتبها وشرحها كما فعل أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي وغيره من العلماء. ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تتضمن ترغيبا وترهيبا وأحاديث تتضمن أحكاما شرعية غير جامعة فدونها وأخرج متونها وحدها كما فعله أبو محمد الحسين بن مسعود والبغوي في المصابيح وغير هؤلاء ولما كان أولئك الأعلام هم السابقون فيه لم يأت صنيعهم على أكمل 2 / 225 الأوضاع فإن غرضهم كان أولا حفظ الحديث مطلقا وإثباته ودفع الكذب عنه والنظر في طرقه وحفظ رجاله وتزكيتهم واعتبار أحوالهم والتفتيش عن أمورهم حتى قدحوا وجرحوا وعدلوا وأخذوا وتركوا هذا بعد الاحتياط والضبط والتدبر فكان هذا مقصدهم الأكبر وغرضهم الأوفى ولم يتسع الزمان لهم والعمر لأكثر من هذا الغرض الأعم والمهم الأعظم ولا رأوا في أيامهم أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع بل ولا يجوز لهم ذلك فإن الواجب أولا إثبات الذات ثم ترتيب الصفات والأصل إنما هو عين الحديث ثم ترتيبه وتحسين وضعه ففعلوا ما هو الغرض المتعين واخترمتهم المنايا قبل الفراغ والتخلي لما فعله التابعون لهم والمقتدون بهم فتعبوا الراحة من بعدهم. ثم جاء الخلف الصالح فأحبوا أن يظهروا تلك الفضيلة ويشيعوا هذه العلوم التي أفنوا أعمارهم في جمعها إما بإيداع ترتيب أو بزيادة تهذيب أو اختصار أو تقريب أو استنباط حكم وشرح غريب. فمن هؤلاء المتأخرين من جمع بين كتب الأولين بنوع من التصرف والاختصار كمن جمع بين كتابي البخاري ومسلم مثل: أبي بكر أحمد بن محمد الرماني وأبو مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي وأبي عبد الله محمد الحميدي فإنهم رتبوا على المسانيد دون الأبواب. وتلاهم أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري فجمع بين كتب البخاري ومسلم والموطأ لمالك وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي ورتب على الأبواب إلا أن هؤلاء أودعوا متون الحديث عارية من الشرح وكان كتاب رزين أكبرها وأعمها حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها وبأحاديثها أخذ العلماء واستدل الفقهاء وأثبتوا الأحكام ومصنفوها أشهر علماء

الحديث وأكثرهم حفظا وإليهم المنتهى. وتلاه الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري فجمع بين كتاب رزين وبين الأصول الستة بتهذيبه ترتيب أبوابه وتسهيل مطالبه وشرح غريبه في جامع الأصول فكان أجمع ما جمع فيه. ثم جاء الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي فجمع بين الكتب الستة والمسانيد العشرة وغيرها في جمع الجوامع فكان أعظم بكثير من جامع الأصول من جهة المتون إلا أنه لم يبال بما صنع فيه من جمع الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة. وكان أول ما بدأ به هؤلاء المتأخرون أنهم حذفوا الأسانيد اكتفاء بذكر من روى الحديث من الصحابي إن كان خبرا وبذكر من يرويه عن الصحابي إن كان أثرا والرمز إلى المخرج لأن الغرض ممن ذكر الأسانيد كان أولا إثبات الحديث وتصحيحه وهذه كانت وظيفة الأولين وقد كفوا تلك المؤنة فلا حاجة بهم إلى ذكر ما فرغوا منه. ووضعوا الأصحاب الكتب الستة علامة ورمزا بالحروف. فجعلوا البخاري خ لأن نسبته إلى بلده أشهر من اسمه وكنيته وليس في حروف باقي الأسماء خاء. ولمسلم م لأن اسمه أشهر من نسبه وكنيته. ولمالك طه لأن اشتهار كتابه بالموطأ أكثر. ولأن الميم أول حروف اسمه وقد أعطوها مسلما وباقي حروفه مشتبه بغيرها. والترمذي ت لأن اشتهاره بنسبه أكثر. ولأبي داود د لأن كنيته أشهر من اسمه ونسبه والدال أشهر حروفها وأبعدها من الاشتباه وللنسائي س لأن نسبه أشهر من اسمه وكنيته والسين أشهر حروف نسبه وكذلك وضعوا لأصحاب المسانيد بالإفراد والتركيب كما هو مسطور في الجامع. قال في كشاف اصطلاحات الفنون: لأهل الحديث مراتب. أولها الطلب وهو المبتدئ الراغب فيه. ثم المحدث وهو الأستاذ الكامل وكذا الشيخ والإمام بمعناه. ثم الحافظ وهو الذي أحاط علمه بمائة ألف حديث متنا وإسنادا وأحوال رواته جرحا وتعديلا وتاريخاً. ثم الحجة وهو الذي أحاط علمه بثلاثمائة ألف حديث كذلك قاله ابن المطري. وقال الجزري: الراوي ناقل الحديث بالإسناد والمحدث من تحمل بروايته واعتنى بدرايته. والحافظ من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج إليه انتهى. قال أبو الخير: اعلم أن قصارى نظر أبناء هذا الزمان في علم الحديث النظر في مشارق الأنوار فإن ترفعت إلى مصابيح البغوي ظننت أنها تصل إلى درجة المحدثين وما ذلك إلا لجهلهم بالحديث بل لو حفظهما عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثليهما لم يكن محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط وإنما الذي يعده أهل الزمان بالغا إلى النهاية وينادونه محدث المحدثين وبخاري العصر من اشتغل بجامع الأصول لابن الأثير مع حفظ علوم الحديث لابن الصلاح أو التقريب للنووي إلا أنه ليس في شيء من

رتبة المحدثين وإنما المحدث من عرف المسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند الإمام أحمد بن حنبل وسنن البيهقي ومعجم الطبراني وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة هذا أقل فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطبقات ورد على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والأسانيد كان في أول درجة المحدثين. ثم يزيد الله - سبحانه وتعالى - من يشاء ما يشاء هذا ما ذكره تاج الدين السبكي وذكر صدر الشريعة في تعديل العلوم أن مشائخ الحديث مشهورون بطول الأعمار وذكر السبكي. في طبقات الشافعية أن أبا سهل قال: سمعت ابن الصلاح يقول: سمعت شيوخنا يقولون: دليل طول عمر الرجل اشتغاله بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويصدقه التجربة فان أهل الحديث إذا تتبعت أعمارهم تجدها في غاية الطول انتهى. الكتب المصنفة في علم الحديث أكثر من أن تحصى لكن استوعبنا ما وقفنا عليه في كتابنا إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين بالفارسية على ترتيب حروف المعجم. قال في مدينة العلوم لكن اتفق السلف من مشائخ الحديث على أن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى صحيح البخاري وصحيح مسلم وأصحهما صحيح البخاري وهو الإمام شيخ السنة ونور الإسلام وحافظ العصر وبركة الله في أرضه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري رحمه الله كان والي بخارا جعفيا وهو نسبة إلى قبيلة باليمن ونسب البخاري إليها بالولاء. والإمام مسلم بن الحجاج القشيري البغدادي أحد الأئمة الحفاظ وأعلم المحدثين إمام خراسان في الحديث بعد البخاري. ومن الصحاح كتاب سنن أبي داود الأزدي السجستاني وكتاب الترمذي وكتاب النسائي والنووي عدد هذه الخمسة في الأصول إلا أن الجمهور جعلها ستة وعدوا منها كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة وقدوة المتقين وأحد الأئمة المجتهدين الإمام مالك بن انس. وجعل بعضهم كتاب الموطأ بعد الترمذي وقيل النسائي والأصح انه بعد مسلم في الرتبة. وعد بعضهم بدل الموطأ كتاب ابن ماجة محمد بن يزيد الحافظ القزويني. واعلم أن المحدثين ألحقوا بالكتب الستة جامع أبي الحسن رزين العبدري صاحب الجمع بين الصحاح وجامع الحميدي بين الصحيحين وجامع البرقاتي لجمعه بينهما وجامع أبي مسعود الدمشقي أيضا لجمعه بين الصحيحين. ثم اختاروا من المصنفين سبعة وألحقوا كتبهم بالصحاح لعظم نفعها منهم الدارقطني والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وأبو محمد عبد الغني الأزدي المصري وأبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية وابن عبد البر حافظ المغرب والبيهقي والخطيب البغدادي انتهى ملخصاً. فصل في ذكر علوم الحديث قال ابن خلدون: وأما علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوعة لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفا من الله بعباده وتخفيفا عنهم باعتبار مصالحهم التي

تكفل لهم بها قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فإذا تعارض الخبران بالنفي والإثبات وتعذر الجمع بينهما ببعض التأويل وعلم تقدم أحدهما تعين أن المتأخر ناسخ ومعرفة الناسخ والمنسوخ من أهم علوم الحديث وأصعبها. قال الزهري: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منسوخه وكان للشافعي - رحمه الله - قدم راسخة فيه1. ومن علوم الأحاديث النظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة ويكون لنا ذلك دليلا على القبول أو الترك. وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين وتفاوتهم في ذلك تميزهم فيه واحدا واحدا وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها بأن يكون الراوي الذي نقل عنه وبسلامتها من العلل الموهنة لها وتنتهي بالتفاوت إلى الطرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل ويختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة هذا الشأن أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد ثم أتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو مصحف أو مفترق منها أو مختلف وما يناسب ذلك هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه. وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين معروفة عند أهل بلدة فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشام ومصر والجميع معروفون مشهورون في أعصارهم. وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك. وسند الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة ثم أصحابه مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وأمثالهم.

_ 1 وهذا العلم فيه كتاب (إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ لمؤلف هذا الكتاب جمع فيه ما ألف فيله في ذلك العلم. فجاء أجمع ماجمع في هذا الباب وانتهت الأحاديث المنسوخات إلى أحد عشر حديثاً وانحصر العدد في ذلك وهو بالفارسية. حافظ علي حسين اللكنوي كاتب هذا الكتاب سلمه الله الوهاب.

وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفا شمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك - رحمه الله - كتاب الموطأ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيده المختلفة وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضا في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام الحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال انه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري - رحمه الله - فألف مسنده الصحيح حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه وحذف المتكرر منها وجمع الطرق والأسانيد وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه ومع ذلك فلم يستوعب الصحيح كله وقد استدرك الناس عليهما في ذلك ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح كما هو معروف وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماما للسنة. والعمل وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها وإن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها هي علم الحديث وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ فيجعل فنا برأسه وكذا الغريب وللناس فيه تآليف مشهورة. ثم المؤتلف والمختلف وقد ألف الناس في علوم الحديث وأكثروا. ومن فحول علمائه وأئمتهم أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه وأشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوائل المائة السابعة وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئا من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر هذا بعيد عنهم وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى صحيح الأمهات المكتوبة وضبطها بالرواية عن مصنفيها والنظر في أسانيدها إلى مؤلفيها وعرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط والأحكام لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمسة إلا في القليل. فأما البخاري وهو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه واستغفلوا منحاه من اجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو

طريق ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فلم يوف حق الشرح كابن بطال وابن المهلب وابن التين ونحوهم ولقد سمعت كثيرا من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة. يعنون أن أحدا من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار. قال في كشف الظنون أقول ولعل ذلك الدين قضي بشرحي المحقق ابن حجر العسقلاني والعيني بعد ذلك انتهى. قلت وشرح الحافظ ابن حجر أو في الشروح لا يعادله شرح ولا كتاب ولذا لما قيل للشوكاني لشرح البخاري أجاب: أنه لا هجرة بعد الفتح يعني فتح الباري وما ألطف هذا الجواب عند من يفهم لطف الخطاب. ثم قال ابن خلدون: وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به وأكبوا عليه وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له في التراجم وأملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحا وسماه المعلم بفوائد مسلم اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه ثم أملاه القاضي عياض من بعده وتممه وسماه إكمال المعلم. وتلاهما محيي الدين النووي بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء شرحاً وافياً. وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعلم الحديث فكتب الناس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاته والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السنة. واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها لم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه. ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قلبوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه ولكن حدثني فلان.. ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح ورد كل متن إلى سنده وأقروا له بالإمامة قف. قال ابن خلدون: واعلم أيضا أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال. فأبو حنيفة1 رضي الله عنه يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها.

_ 1 هذا التشديد يعكر عليه أن الأمام أبا حنيفة عدة أهل الرأي من التابعين، وإن لم يصح ذلك عند نقاد الحديث فلا تكون روايته إلا عن الصحابة فأي معنى لتشديد شروط الرواية، وقد أجمع أهل العلم بالحديث والفقة أن الصحابة كلهم عدول وإن فرض أنه رضي الله عنه ليس من التابعين بل من يتبع التابعين كما رجح ذلك أصحاب الحديث، فذلك أيضاً لا يقتضي التشديد المذكور، ثم هذا قول بلا برهان إذا الأحاديث المروية من طريق الإمام ليس في حديث واحد منها شرط كشرط الحفاظ المتوسطين، فضلاً عن الشرائط المعتبرة عند كبارهم فقوله: إن شرطه أشد من شرائطهم وثم ليس لهذا المفهوم مصداق. مولوي محمد عبد الرشيد كاشميري سلمه الله تعالى وأبقاه وأوصله إلى ما يتمناه.

ومالك - رحمه الله - إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها. وأحمد بن حنبل - رحمه الله - تعالى في مسنده خمسون ألف حديث ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت روايته ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها وإنما قلل منهم من قلل الرواية الأجل المطاعن التي تعترضه فيها والعلل التي تعرض في طرقها سيما والجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر. والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي وقلت من أجلها روايته فقل حديثه لأنه ترك رواية الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتعويل عليه واعتباره ردا وقبولاً. وأما غيره من المحدثين وهم الجمهور فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم والكل عن اجتهاد وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم. وروى الطحاوي فأكثر وكتب مسنده وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه وشروط الطحاوي غير متفق عليها كالرواية عن المستور الحال وغيره فلهذا قدم الصحيحان بل وكتب السنن المعروفة عليه لتأخر شرطه عن شروطهم ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم والتماس المخارج الصحيحة لهم والله - سبحانه وتعالى - أعلم بما في حقائق الأمور. علم الحروف والأسماء قال الشيخ داود الأنطاكي وهو علم باحث عن خواص الحروف أفرادا وتركيبا وموضوعه الحروف الهجائية ومادته الأوفاق والتراكيب. وصورته تقسيمها كما وكيفا وتأليف الأقسام والعزائم وما ينتج منها وفاعله المتصرف وغايته التصرف على وجه يحصل به المطلوب إيقاعا وانتزاعا ومرتبته بعد الروحانيات والفلك والنجامة.

قال ابن خلدون في المقدمة: علم أسرار الحروف وهو المسمى لهذا العهد السيميا نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة فاستعمل استعمال العام في الخاص وحدث هذا العلم في الملة بعد الصدر الأول عند ظهور الغلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر وزعموا أن الكمال الاسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي سارية في الأكوان وهو من تفاريع علوم السيميا لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله تعددت فيه تأليف البوني وابن العربي وغيرهما. وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان. ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بم هو. فمنهم من جعله للمزاج الذي فيه وقسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر واختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلا وانفعالا بذلك الصنف فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير. ومنهم من جعل هذا السر للنسبة العددية فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعا وطبعا وللأسماء أوفاق كما للأعداد. ويختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف وامتزج التصرف من السر الحرفي والسر العددي لأجل التناسب الذي بينهما فأما سر هذا التناسب الذي بينهما يعني بين الحروف وأمزجة الطبائع أو بين الحروف والأعداد فأمر عسر على الفهم وليس من قبيل العلوم والقياسات وإنما مستندهم فيه الذوق والكشف. قال البوني: ولا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي وإنما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهي. وأما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المركبة فيها وتأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواترا وقد يظن أن تصرف هؤلاء وتصرف أصحاب أسماء الطلسمات واحد وليس كذلك. ثم ذكر الفرق بينهما وأطال وقد ذكرنا طرفا من التفصيل في كتابنا المسمى بروح الحروف والكتب المصنفة في هذا العلم كثيرة جدا انتهى ما في كشف الظنون. وقد أطال ابن خلدون في بيان هذا العلم إلى ثلاثة عشر ورقا وعقد له فصولا لسنا بصدد ذكره لقلة الفائدة منه في هذا العصر وعدم الحاجة إليه في ذلك الدهر. علم الحروف النورانية والظلمانية قال في مدينة العلوم أن الحروف قسمان: أحدهما حروف نورانية تستعمل في أعمال الخير وهي نص حكيم له سر قاطع. والآخر حروف ظلمانية تستعمل في الشر وهي ما عدا الحروف النورانية وأجمعوا على أنه ليس في

سورة الفاتحة ولا في المقطعات في أوائل السور القرآنية شيء من الحروف الظلمانية وتفصيل هذا العلم في كتاب غاية للمغنم في أسرار العلم الأعظم انتهى. علم الحساب هو علم بقواعد تعرف بها طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية المخصوصة من الجمع والتفريق والتصنيف والتضعيف والضرب والقسمة. والمراد بالاستخراج معرفة كمياتها. وموضوعه العدد إذ يبحث فيه عن عوارضه الذاتية والعدد هو الكمية المتألفة من الوحدات فالوحدة مقومة للعدد وأما الواحد فليس بعدد ولا مقوم له وقد يقال لكل ما يقع تحت العد فيقع على الواحد وعبارة ابن خلدون هي صناعة عملية في حساب الأعداد بالضم والتفريق فالضم يكون في الأعداد بالإفراد هو الجمع وبالتضعيف وهو تضاعف عددا بآحاد عدد آخر وهذا هو الضرب والتفريق أيضا يكون في الأعداد. أما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح. أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة وهو القسمة وسواء كان هذا الضم التفريق في الصحيح من العدد أو الكسر. ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد تلك النسبة تسمى كسر أو كذلك يكون بالضم والتفريق في الجذور ومعناها العدد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع فإن تلك الجذور أيضا يدخلها الضم والتفريق. وهذه الصناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات انتهى. ومنفعته ضبط المعاملات وحفظ الأموال وقضاء الديون وقسمة المواريث والتركات وضبط ارتفاعات المماليك وغير ذلك. ويحتاج إليه في العلوم الفكلية وفي المساحة والطب وقيل يحتاج إليه في جميع العلوم بالجملة ولا يستغني عنه ملك ولا عالم ولا سوقة وزاد شرفا بقوله - سبحانه وتعالى -: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وبقوله تعالى: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقوله تعالى: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} ولذلك ألف فيه الناس كثيرا وتداولوه في الأمصار بالتعليم للولدان. ومن أحسن التعليم عند الحكماء الابتداء به لأنه معارف متضحة وبراهينه منتظمة فينشأ عنه في الغالب عقل مضيء يدل على الصواب وقد يقال إن من أخذ نفسه بتعلم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومنافسة النفس فيصير له ذلك خلقا ويتعود الصدق ويلازمه مذهبا. وهو مستغلق على المبتدئ إذا كان من طريق البرهان وهذا شأن علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة وإذا قصد شرحها وهو التعليل في تلك الأعمال ظهر من العسر على الفهم مالا يوجد في أعمال المسائل. وهو فرع علم العدد المسمى بالأرتماطيقي وله فروع أوردها صاحب مفتاح السعادة بعد أن جعل علم

العدد أصلا وعلم الحساب مرادفا له مع كونه فرعا حيث قال: الشعبة الثامنة في فروع علم العدد وقد يسمى بعلم الحساب فعرفه بتعريف مغاير لتعريف علم العدد. قال في مدينة العلوم ولعلم الحساب فروع. منها علم حساب التخت والميل وهو علم يتعرف منه كيفية مزاولة الأعمال الحسابية برقوم تدل على الآحاد وتغني عما عداها بحفظ المراتب وتنسب هذه الأرقام إلى الهند انتهى. وقال صاحب الكشف: بل هو علم بصور الرقوم الدالة على الأعداد مطلقا ولكل طائفة أرقام دالة على الآحاد الأرقام الهندية والرومية والمغربية والإفرنجية والنجومية وغيرها ويقال له التخت والتراب أيضا انتهى ونفع هذا العلم ظاهر ولابن الهيثم كتاب برهن فيه بمعرفة أصول أعماله ببراهين عددية لما فيسه من تسيهل الأعمال الحسابية. ومن الكتب الشاملة فيه كتاب نصير الدين الطوسي وكتاب: البهائية وشرحه وكتاب المحمدية لعلي القوشجي وغير ذلك من الكتب التي لا تحصى. ولأهل المغرب طرق ينفردون بها في الأعمال الجزئية من هذا العلم فمنها قريبة المآخذ لطرق ابن الياسين ومنها بعيدة كطرق الحضار كذا في المدينة. ومنها علم الجبر والمقابلة وقد سبق في الجيم. ومنها علم حساب الخطأين وهو قسم من مطلق الحساب وسيأتي في الخاء المعجمة وإنما جعل علما برأسه لتكثير الأنواع. ومنها علم حساب النجوم وهو علم يبحث فيه عن كيفية حساب الأرقام الواقعة في الزيجات وهذا وإن كان من فروع علم العدد إلا أنه لما امتازت عن سائر علم الحساب بقواعد مخصوصة يعرفها أهلها وتوقف علم التقويم عليه جعلوه علما برأسه. ومنها علم حساب الدور والوصايا وهو علم يتعرف منه مقدار ما يوصي به إذا تعلق بدور في بادئ النظر. مثال: رجل وهب لعتقه في مرض موته مائة درهم لا مال له غيرها فقبضها ومات قبل موت سيده وخلف بنتا والسيد المذكور ثم مات السيد فظاهر المسئلة أن الهبة تمضي من المائة في ثلثها فإذا مات المعتق رجع إلى السيد نصف الجائز بالهبة فيزداد مال السيد من إرثه وهلم جراً. وبهذا العلم يتعين مقدار الجائز بالهبة. وظاهر أن منفعة هذا العلم جليلة وإن كانت الحاجة إليه قليلة ومن كتبه كتاب لأفضل الدين الخونجي. أقول هذا العلم يؤول إلى علم الجبر والمقابلة وفيه تأليف لطيف لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري المتوفى سنة إحدى وثمانين ومائتين وكتاب نافع لأحمد بن محمد الكرابيسي وكتاب مفيد لأبي كامل شجاع بن مسلم ذكر فيه كتاب الوصايا بالجذور للحجاج بن يوسف.

ومنها: علم حساب الدرهم والدينار وهي علم يتعرف منه كيفية استخراج المجهولات العددية التي تزيد عدتها على المعادلات الجبرية ولهذه الزيادة لقبوا تلك المجهولات بالدرهم والدينار والفلس وغير ذلك ومنفعته كمنفعة الجبر والمقابلة فيما يكثر فيه الأجناس المعادلة: ومن الكتب المؤلفة فيه كتاب لابن فلوس إسماعيل بن إبراهيم بن غازي المارديني الحنبلي المتوفى سنة سبع وثلاثين وستمائة والرسالة المغربية والرسالة الشاملة للخرقي والكافي الكرخي. ومختصره للسمؤل بن يحيى بن عباس المغربي الإسرائيلي المتوفى سنة ست وسبعين وخمسمائة كذا في إرشاد القاصد وكتاب لابن المحلي الموصلي. ومن المبسوطة فيه الكافي والكامل لأبي القاسم بن السمح. ومنها علم حساب الفرائض وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة مما نصح باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها وذلك إذا هلك أحد الورثة وانكسرت سهامه على فروض ورثته فإنه حينئذ يحتاج إلى حساب يصحح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعا في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزية. وقد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد واثنين وتتعدد لذلك بعدد أكثر وبقدر ما تتعدد تحتاج إلى الحسبان. وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقر بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ وينظر مبلغ السهام ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة وكل ذلك يحتاج إلى الحسبان وكان غالبا فيه وجعلوه فناء مفردا وللناس فيه تآليف كثيرة. أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي. ومن متأخري إفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم. وأما الشافعية والحنفية والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب وقد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه إن الفرائض ثلث العلم وإنها أول ما ينسى وفي رواية نصف العلم خرجه أبو نعيم الحافظ واحتج به أهل الفرائض بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة. والذي يظهر أن هذا المحمل بعيد وأن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات والعادات والمواريث وغيرها وبهذا المعنى يصحح فيها المنصفية والثلثية وأما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علم الشريعة كلها أو يعين هذا المراد أن حمل اللفظ للفرائض على هذا الفن المخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة إنما لهو صلاح ناشئ للفقهاء عند حدوث الفنون 2 / 243 والاصطلاحات ولم يكن صدر الإسلام يطلق على هذا الأعلى عموم مشتقا من الفرض الذي هو لغة التقدير أو القطع وما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشرعية فلا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم والله - سبحانه وتعالى - أعلم وبه التوفيق انتهى كلام ابن خلدون ملخصا.

ومنها علم حساب الهواء وهو علم يتعرف منه كيفية حساب الأموال العظيمة في الخيال بلا كتابة ولها طرق وقوانين مذكورة في بعض الكتب الحسابية وهذا العلم عظيم النفع للتجار في الأسفار وأهل السوق من العوام الذين لا يعرفون الكتابة وللخواص إذا عجزوا عن إحضار آلات الكتابة. ومنها علم حساب العقود أي عقود الأصابع وقد وضعوا كلا منها بإزاء عدد مخصوص ثم رتبوا الأوضاع الأصابع آحادا وعشرات ومئات وألوفا ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة. وهذا عظيم النفع للتجار سيما عند استعجام كل من المتبايعين لسان الأخر عند فقد آلات الكتابة والعصمة عن الخطأ في هذا العلم أكثر من حساب الهواء. وكان هذا العلم يستعمله الصحابة رضي الله عنهم كما وقع في الحديث في كيفية وضع اليد على الفخذ. ومنه في التشهد أنه عقد خمسا وخمسين وأراد بذلك هيئة وضع الأصابع لأن هيئة عقد خمس وخمسين في علم العقود هي عقد أصابع اليد غير السبابة والإبهام وتحليق الإبهام معها وهذا الشكل في العلم المذكور دال على العدد المرقوم فالراوي ذكر المدلول وأراد الدال. وهذا دليل على شيوع هذا العلم عندهم والمراد بالعقود في تمثيل الدلالة غير اللفظية الوضعية هي عقود الأصابع حيث مثلوها بالخطوط والعقود والإشارات والنصب وفي هذا العلم أرجوزة لابن الحرب أورد فيها مقدار الحاجة ورسالة لشرف الدين اليزدي أورد فيها قدر الكفاية. ومنها علم إعداد الوفق وتقدم في الألف. ومنها علم خواص الأعداد المتحابة والمتباغضة وسيأتي في الخاء. ومنها علم التعابي العددية وقد سبق في التاء وهذه الثلاثة من فروع علم العدد من حيث الحساب ومن فروع الخواص من جهة أخرى ولذلك أوردناها إجمالا كما أوردها صاحب مفتاح السعادة ومدينة العلوم وأما علم حساب النجوم فهو علم يتعرف منه قوانين حساب الدرج والدقائق والثواني والثوالث بالضرب والقسمة والتجذير والتفريق ومرابتها في الصعود والنزول وتقدم وفيه كتب مفردة غير ما بين في مبسوطات الكتب الحسابية وأما المصنفات في علم الحساب مطلقا فكثيرة ذكرها صاحب كشف الظنون على ترتيب الكتاب إجمالا لا نطول بذكرها. علم الحضري والسفري من الآيات هو من فروع علم التفسير ذكره أبو الخير لمجرد تكثير السواد وإلا فلا وجه لعده علما برأسه وكذا أكثر ما ذكره من التفاريع قال: وأمثلة الحضري كثيرة وأما أمثلة السفري فقد ضبطوها وارتقت إلى نيف وأربعين كما في الإتقان. علم حكايات الصالحين قال أبو الخير: هو من فروع علم التواريخ والمحاضرة وقد اعتنى بجمعها طائفة وافردوها بالتدوين

كصفوة الصفوة لابن الجوزي وروض الرياحين لليافعي وغير ذلك وغايته وغرضه ظاهرة ومنفعته أجل المنافع وأعظمها انتهى1 ما في كشف الظنون. علم الحكمة هو علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية وموضوعه الأشياء الموجودة في الأعيان والأذهان. وعرفه بعض المحققين بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية عني بذل جهده الإنساني بتمامه في أن يكون بحثه مطابقا لنفس الأمر فدخلت في التعريف المسائل المخالفة لنفس الأمر المبذولة الجهد بتمامه في تطبيقها على نفس الأمر فيكون موضوعه الأعيان الموجودة وفوائد قيود هذه الحدود مذكورة في كشاف اصطلاحات الفنون بما لها وعليها. وغايته هي التشريف بالكمالات في العاجل والفوز بالسعادة الأخروية في الآجل. وتلك الأعيان إما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا اختيارنا أولا فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد يسمى حكمة عملية لأن غايتها ابتداء الأعمال التي لقدرتنا مدخل فيها فنسبت إلى الغاية الابتدائية. والعلم بأحوال الثاني يسمى حكمة نظرية لأن المقصود منها حصل بالنظر وهو الإدراكات التصورية والتصديقية المتعلقة بالأمور التي لا مدخل لقدرتنا واختيارنا فيها ولا يرد أن الحكمة العملية أيضا منسوبة إلى النظر لأن النظر ليس غايتها ولأن وجه التسمية لا يلزم اطراده وذكر الحركة والسكون والمكان في الحكمة الطبيعية بناء على كونها من أحوال الجسم الطبيعي الذي ليس وجوده بقدرتنا وإن كانت تلك مقدورة لنا. وكل منهما ثلاثة أقسام: أما العلمية فلأنها أمام علم بمصالح شخص بانفراده ويسمى تهذيب الأخلاق وقد ذكر في علم الأخلاق ويسمى الحكمة الخلقية وفائدتها تنقيح الطبائع بأن تعلم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكي بها النفس وإن تعلم الرذائل وكيفية توقيها لتطهر عنها النفس. وأما علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والولد والمالك والمملولك ونحو ذلك ويسمى تدبير المنزل والحكمة المنزلية وقد سبق في التاء.

_ 1 قال القاضي العلامة الشوكاني في الفتح الرباني: قد علمنا من أجل الإسلام سابقهم ولا حقهم سيد الصالحين منهم أنهم يدعون الله عزوجل، فيستجيب لهم ويحصل لهم ما طلبوه من المطالب المختلفة بعد أن كانوا فاقدين لها ومنهم من يدعو المريض قد أشرف على الموت أن يشفيه الله فيعافى في الحال، ومنهم من يدعو على فاجر بأن يهلكه الله فيهلك في الحال، ومن شك في شيْ من هذا فليطالع الكتب الصحيحة في أخبار الصالحين كحلية أبي نعيم، وصفوة الصفوة لابن الجوزي، ورسالة القشميري فإنه يجد فيهما من هذا القبيل ما ينشرح له صدره ويتثلج به قلبه إلى آخر ما قال. ونحوه في كتاب دليل الطالب إلى راجح المطالب، لمؤلف الكتاب فسح الله في مدته القاضي زين العابدين ابن المحسن السبعي الأنصاري اليمني سلمه الله المغني.

وأما علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة ويسمى: السياسة المدنية وسيأتي في السين. وفائدتها: أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان كما أن فائدة تدبير المنزل أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهم بين زوج وزوجة ومالك ومملوك ووالد ومولود وفائدة هذه الحكمة عامة شاملة لجميع أقسام الحكمة العملية ثم مبادئ هذه الثلاثة من جهة الشريعة وبها تتبين كمالات حدودها أي بعض هذه الأمور معلومة من صاحب الشرع على ما يدل عليه تقسيمهم الحكمة المدنية إلى ما يتعلق بالسلك والسلطنة إذ ليس العلم بهما من عند صاحب الشرع كذا ذكر السيد السند في حواشي شرح حكمة العين. وأما النظرية فلأنها إما علم بأحوال مالا يفتقر في الوجود الخارجي والتعقل إلى المادة كالإله وهو العلم الإلهي وقد سبق في الألف. وأما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون التعقل كالكرة وهو العلم الأوسط يسمى بالرياضي والتعليمي وسيأتي في الراء. وأما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والعقل كالإنسان وهو العلم الأدنى ويسمى بالطبيعي وسيأتي في الطاء. وجعل بعضهم ما لا يفتقر إلى المادة أصلا قسمين ما لا يقارنها مطلقا كالإله والعقول وما يقارنها لكن لا على وجه الافتقار كالوحدة والكثرة وسائر الأمور العامة فيسمى العلم بأحوال الأول: علما إلهيا والعلم بأحوال الثاني: علما كليا وفلسفة أولى. واختلفوا في أن المنطق من الحكمة أم لا؟ فمن فسرها بما يخرج النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل جعله منها بل جعل العمل أيضا منها وكذا من ترك الأعيان من تعريفها جعله من أقسام الحكمة النظرية إذ لا يبحث فيه إلا عن المعقولات الثانية التي ليس وجودها بقدرتنا واختيارنا. وأما من فسرها بأحوال الأعيان الموجودة وهو المشهور بينهم فلم يعده منها لأن موضوعه ليس من أعيان الموجودات والأمور العامة ليست بموضوعات بل محمولات تثبت بالأعيان فتدخل في التعريف. ومن الناس من جعل الحكمة اسما لاستكمال النفس الإنسانية في قوتها النظرية أي: خروجها من القوة إلى الفعل في الإدراكات التصورية والتصديقية بحسب الطاقة البشرية. ومنهم من جعلها اسما لاستكمال القوة النظرية بالإدراكات المذكورة واستكمال القوة العملية باكتساب الملكة التامة على الأقوال الفاضلة المتوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط وكلام الشيخ في عيون الحكمة يشعر بالقول الأول وهو جعل الحكمة اسما للكمالات المعتبرة في القوة النظيرة فقط وذلك لأنه فسر الحكمة باستكمال النفس الإنسانية بالتصورات والتصديقات سواء كانت في الأشياء النظرية أو في الأشياء العملية فهي مفسرة عنده باكتساب هذه الإدراكات. وأما اكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة فما جعلها جزء منها بل جعلها غاية للحكمة العملية. وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية كما إن الحكمة الطبيعية

والإلهية منها بمنزلة الكلام منها وبيان ذلك أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان بما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة. والجملة معرفة المبدأ والمعاد والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين: أحدهما: طريقة أهل النظر والاستدلال. وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات. والسالكون للطريقة الأولى إن التزموا ملة من ملل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم المتكلمون إلا فهم الحكماء المشاؤون والسالكون إلى الطريقة الثانية إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع فهم الصوفية وإلا فهم الحكماء الإشراقيون فلكل طريقة طائفتان. وحاصل الطريقة الأولى: الاستكمال بالقوة النظرية والترقي في مراتبها الأربعة - أعني مرتبة العقل الهيولاني والعقل بالفعل والعقل بالملكة والعقل المستفاد - والأخيرة هي الغاية القصوى لكونها عبارة عن مشاهدة النظريات التي أدركتها النفس بحيث لا يغيب عنها شيء ولهذا قيل لا يوجد المستفاد لأحد في هذه الدار بل في دار القرار اللهم إلا لبعض المتجردين عن علائق البدن والمنخرطين في سلك المجردات. وحاصل الطريقة الثانية: الاستكمال بالقوة العملية والترقي في درجاتها التي أولها: تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع والنواميس الإلهية. وثانيها: تهذيب الباطن عن الأخلاق الذميمة وثالثها: تحلي النفس بالصور القدسية الخالصة عن شوائب الشكوك والأوهام. ورابعها: ملاحظة جمال الله - سبحانه وتعالى - وجلاله وقصر النظر على كماله والدرجة الثالثة من هذه القوة وإن شاركتها المرتبة الرابعة من القوة النظرية فإنها تفيض على النفس منها صور المعلومات على سبيل المشاهدة كما في العقل المستفاد إلا أنها تفارقها من وجهين: أحدهما: إن الحاصل المستفاد لا يخلو عن الشبهات الوهمية لأن الوهم له استيلاء في طريق المباحثة بخلاف تلك الصور القدسية فإن القوى الحسية قد تسخرت هناك للقوة العقلية فلا تنازعها فيما تحكم به وثانيهما: إن الفائض على النفس في الدرجة الثالثة قد تكون صورا كثيرة استعدت النفس بصفائها عن الكدورات وصقالتها عن أوساخ التعلقات لأن تفيض تلك الصور عليها كرات صقلت وحوذي بها ما فيه صور كثيرة فإنه يتراءى فيها ما تسع هي من تلك الصور والفائض عليها في العقل المستفاد هو العلوم التي تناسب تلك المبادئ التي رتبت معا للتأدي إلى مجهول كمرآة صقل شيء يسير منها فلا يرتسم فيها إلا شيء قليل من الأشياء المحاذية لها. ذكره ابن خلدون في المقدمة. وأما العلوم العقلية التي هي طبيعة للإنسان من حيث أنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها وهي موجودة في النوع الإنساني مذ كان عمران الخليقة وتسمى هذه العلوم: علوم الفلسفة والحكمة. وهي سبعة: المنطق وهو المقدم. وبعده التعاليم فالأرثماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه.

واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الأمتان العظيمتان فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم لما كان العمران موفورا فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام لهم وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين والقبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعهما من التأثيرات والطلسمات. وأخذ عنهم الأمم من فارس ويونان ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه إلا بقايا تناقلها المنتحلون. وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما ولقد يقال: إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل إسكندر دارا وغلب على مملكته واستولى على كتبهم وعلومهم إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله تعالى بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله تعالى فطرحوها في الماء أو في النار فذهبت علوم الفرس فيها. وأما الروم: فكانت الدولة فيهم ليونان أولا وكان لهذه العلوم شأن عظيم وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة واختص فيها المشاؤون منهم أصحاب الذوق واتصل سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه إسكندر الأفرودوسي وكان أرسطو أرسخهم في هذه العلوم ولذلك يسمى: المعلم الأول ولما انقرض أمر اليونانيين وصار الأمر للقياصرة وتنصروا هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع وبقيت من صحفها ودواوينها مجلدات في خزائنهم. ثم جاء الإسلام وظهر أهله عليهم وكان ابتداء أمرهم بالغفلة عن الصنائع حتى إذا اتضح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم: أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات وقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها وجاء المأمون من بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة فأوفد الرسل إلى ملك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فأخذ منها واستوعب وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها وخالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول ودونوا في ذلك الدواوين. وكان من أكابرهم في الملة: أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا في المشرق والقاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصانع بالأندلس بلغوا الغاية في هذه العلوم. واقتصر كثير على انتحال التعاليم وما يضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات ووقفت الشهرة على مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منه إلا قليلا من رسومه وبلغنا عن أهل المشرق: أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما وراء النهر لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم وكذلك يبلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الفرنجة وما يليها من العدوة الشمالية نافقة

الأسواق وإن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة انتهى خلاصة ما ذكره ابن خلدون. أقول: وكانت سوق الفلسفة والحكمة نافقة في الروم أيضا بعد الفتح الإسلامي إلى أواسط الدولة العثمانية وكان شرف الرجل في تلك الأعصار بمقدار تحصيله وإحاطته من العلوم العقلية والنقلية وكان في عصرهم فحول ممن جمع بين الحكمة والشريعة كالعلامة شمس الدين الفناري والفاضل قاضي زاده الرومي والعلامة خواجه زاده والعلامة علي القوشجي والفاضل ابن المؤيد وميرجلبي والعلامة ابن الكمال والفاضل ابن الحنائي وهو آخرهم. ولما حل أوان الانحطاط ركدت ريح العلوم وتناقصت بسبب منع بعض المفتين عن تدريس الفلسفة وسوقه إلى درس الهداية والأكمل فاندرست العلوم بأسرها إلا قليلا من رسومه فكان المولى المذكور سببا لانقراض العلوم من الروم وذلك من جملة أمارة انحطاط الدولة كما ذكره ابن خلدون والحكم لله العلي العظيم. ونقل في الفهرس: أنه كانت الحكمة في القديم ممنوعا منها إلا من كان من أهلها ومن علم أنه يتقبلها طبعا. وكانت الفلاسفة تنظر في مواليد من يريد الحكمة والفلسفة فإن علمت منها أن صاحب المولد في مولده حصول ذلك استخدموه وناولوه الحكمة وإلا فلا. وكانت الفلسفة ظاهرة في اليونانيين والروم قبل شريعة المسيح عليه السلام فلما تنصرت الروم منعوا منها وأحرقوا بعضها وخزنوا البعض إذ كانت بضد الشرائع. ثم إن الروم عادت إلى مذهب الفلاسفة وكان السبب في ذلك أن جوليانوس بن قسطنطين وزر له تامسطيوس مفسر كتب أرسطاطاليس. ثم قتل جوليانوس في حرب الفرس ثم عادت النصرانية إلى حالها وعاد المنع أيضا وكانت الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية فنقل ذلك إلى العربي عبد الله بن المقفع وغيره وكان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى: حكيم آل مروان فاضلا في نفسه له همة ومحبة للعلوم خطر بباله الصنعة فأحضر جماعة من الفلاسفة فأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اليوناني إلى العربي وهذا أول نقل كان في الإسلام. ثم إن المأمون رأى في منامه رجلا حسن الشمائل فقال: من أنت؟ فقال: أرسطاطاليس فسأل عن الحسن فقال: ما حسن في العقل ثم ماذا؟ فقال: فما حسن في الشرع فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب وكان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله إنفاد ما يختار من الكتب القديمة المخزونة بالروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم: الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلما صاحب بيت الحكمة فأخذوا ما اختاروا وحملوا إليه فأمرهم بنقله فنقل. وكان يوحنا بن مأسويه ممن ينفد إلى الروم وكان محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم ممن عني بإخراج الكتب وكان قسطا بن لوقا البعلبكي قد حمل معه شيئا فنقل له. وأول من تكلم في الفلسفة على زعم فرفوريوس الصوري في تاريخه السرياني سبعة أولهم: ثاليس.

قال آخرون: قوتاغورس وهو أول من سمى الفلسفة بهذا الاسم وله رسائل تعرف بالذهبيات لأن جالينوس كان يكتبها بالذهب. ثم تكلم على الفلسفة سقراط من مدينة أيتنه بلد الحكمة. ومن أصحاب سقراط أفلاطون كان من أشراف يونان وكان في قديم أمره يميل إلى الشعر فأخذ منه بحظ عظيم ثم حضر مجلس سقراط فرآه يسب الشعراء فتركه ثم انتقل إلى قول فيثاغورس في الأشياء المعقولة وعنه أخذ أرسطاطاليس وألف كتبا وترتيب كتبه هكذا: المنطقيات الطبيعيات الإلهيات الخلقيات. أما المنطقية فهي ثمان كتب قاطيغورياس معناه: المقالات نقله حنين وفسره فرفوريوس والفارابي. ياريمنياس: معناه العبارة نقله حنين إلى السريانية وإسحاق إلى العربي وفسره الكندي. أنالوطيقا معناه: تحليل القياس نقله تيودورس إلى العربي وفسره الكندي. أنورطيقا ومعناه: البرهان نقله إسحاق إلى السرياني ونقل متى نقل إسحاق إلى العربي وشرحه الفارابي. طوبيقا ومعناه: الجدل نقله إسحاق إلى السرياني ونقل يحيى هذا النقل إلى العربي وفسره الفارابي. سوفسطيقا ومعناه: المغالطة والحكمة المموهة نقله ابن ناعمة إلى السرياني ونقله يحيى بن عدي إلى العربي من السرياني وفسره الكندي. ريطوريقا معناه: الخطابة قيل: إن إسحاق نقله إلى العربية وفسره الفارابي. أنوطيقا معناه: الشعر نقله متى من السرياني إلى العربي. وأما الطبيعيات والإلهيات ففيهما كتاب السماع الطبيعي بتفسير الإسكندر وهو ثمان مقالات فوجد تفسير مقالة بجماعة. وكتاب السماء والعالم وهو أربع مقالات نقله متى وشرح الأفرودات. وكتاب الكون والفساد نقله حنين إلى السرياني وإسحاق إلى العربي. وكتاب الأخلاق فسره فرفوريوس. أسماء النقلة اصطفن القديم نقل لخالد بن يزيد كتب الصنعة وغيرها. والبطريق كان في أيام المنصور ونقل أشياء بأمره. وابن يحيى الحجاج بن مطر وهو الذي نقل المجسطي وإقليدس للمأمون. وابن ناعمة عبد المسيح الحمصي وسلام الأبرش من النقلة القدماء في أيام البرامكة. وحسين بن بهريق فسر المأمون عدة كتب وهلال بن أبي هلال الحمصي وابن آوى وأبو نوح بن الصلت وابن رابطة وعيسى بن نوح وقسطا بن لوقا البعلبكي جيد النقل وحنين وإسحاق وثابت وإبراهيم بن الصلت ويحيى بن عدي وابن المقفع نقل من الفارسية إلى العربية وكذا موسى ويوسف ابنا خالد والحسن ابن سهل والبلاذري وكنكه الهندي نقل من الهندية إلى العربية وابن وحشية نقل من النبطية إلى العربية. وذكر الشهرستاني في الملل والنحل: إن فلاسفة الإسلام الذين فسروا ونقلوا كتبها من اليونانية إلى العربية

وأكثرهم على رأي أرسطو منهم: حنين وأبو الفرج وأبو سليمان السنجري ويحيى النحوي ويعقوب بن إسحاق الكندي وأبو سليمان محمد ابن بكير المقدسي وثابت بن قرة الحراني وأبوتمام يوسف بن محمد النيسابوري وأبو زيد أحمد بن سهل البلخي وأبو الحارث حسن بن سهل القمي وأبو حامد بن محمد الإسفرائني وأبو زكريا يحيى الصيمري وأبو نصر الفارابي وطلحة النسفي وأبو الحسن العامري وابن سينا. وفي حاشية المطالع لمولانا لطفي أن المأمون جمع مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق وثابت بن قرة وترجموها بتراجم متخالفة مخلوطة غير ملخصة ومحررة لا توافق ترجمة أحدهم للآخر فبقيت تلك التراجم هكذا غير محررة بل أشرف إن عفت رسومها إلى زمن الحكيم الفارابي. ثم إنه التمس منه ملك زمانه مصور بن نوح الساماني أن يجمع تلك التراجم ويجعل من بينها ترجمة ملخصة محررة مهذبة مطابقة لما عليه الحكمة فأجاب الفارابي وفعل كما أراد وسمى كتابه بالتعليم الثاني فلذلك لقب: بالمعلم الثاني. وكان هذا في خزانة المنصور إلى زمان السلطان مسعود من أحفاد منصور كما هو مسودا بخط الفارابي غير مخرج إلى البياض إذ الفارابي غير ملتفت إلى جمع تصانيفه وكان الغالب عليه السياحة على زي القلندرية وكانت تلك الخزانة بأصفهان وتسمى: صوان الحكمة. وكان الشيخ أبو علي بن سينا وزير المسعود وتقرب إليه بسبب الطب حتى استورده وسلم إليه خزانة الكتب فأخذ الشيخ الحكمة من هذه الكتب ووجد فيما بينها التعليم الثاني ولخص منه كتاب الشفاء. ثم إن الخزانة أصابها آفة فاحترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أخذ من تلك الخزانة الحكمة ومصنفاته ثم أحرقها لئلا ينتشر بين الناس ولا يطلع عليه فإنه بهتان وإفك لأن الشيخ مقر لأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح في بعض رسائله. وأيضا يفهم في كثير من مواضع الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني انتهى إلى هنا خلاصة ما ذكروه في أحوال العلوم العقلية وكتبها ونقلها إلى العربية والتفصيل في تاريخ الحكماء. ثم إن الإسلاميين لما رأوا في العلوم الحكمية ما يخالف الشرع الشريف صنفوا فنا للعقائد واشتهر بعلم الكلام لكن المتأخرين من المحققين أخذوا من الفلسفة ما لا يخالف الشرع وخلطوا به الكلام لشدة الاحتياج إليه كما قال العلامة سعد الدين في شرح المقاصد فصار كلامهم حكمة إسلامية ولم يبالوا برد المتعصبين وإنكارهم على خلطهم لأن المرء مجبول على عداوة ما جهله لكنهم لما لم يكن أخذهم وخلطهم على طريق النقل والاستفادة بل على سبيل الرد والاعتراض والنقص والإبرام في كثير من الأمور الطبيعية والفلكية والعنصرية. قام أشخاص من الإسلاميين كالنصير وابن رشد ومن غير الإسلاميين وانتصبوا في ردهم وتزييفهم فصار فن الكلام كالحكمة في النقض وتزييف الدلائل كما قال الفاضل القاضي مير حسين الميبذي في آخر رسالته المعرفة بجام كيتي نما: فاللائق بحال الطالب أن ينظر في كلام الفريقيين وكلام أهل المتصوف ويستفيد من كل منهما ولا ينكر إذ الإنكار سبب البعد عن الشيء كما قال الشيخ في آخر الإشارات. وأما الكتب المصنفة في الحكمة الطبيعية والإلهية والرياضية فأكثرها ليس بإسلامي بل يوناني ولاتيني،

لأن معظم الكتب بقي في بلادهم ولم ينقل إلى العربي إلا الشاذ النادر وما نقل لم يبق على أصل معناه لكثرة التحريفات في خلال التراجم كما هو أمر مقرر في نقل الكتب من لسان إلى لسان. وقد اختبرنا وحققنا ذلك حين الاشتغال بنقل كتاب أطلس وغيره من لغة لاتن إلى اللغة التركية فوجدناه كذلك ولم نر أعظم كتابا من الشفا في هذا الفن مع أنه شيء يسير بالنسبة إلى ما صنف أهل أقاديميا التي في بلاد أورفا ثم إن بعض المحققين أخذ طرفا من كتب الشيخ كالشفا والنجاة والإشارات وعيون الحكمة وغيرها وجعل مقدمة ومدخلا للعلوم العقلية كالهداية لأثير الدين الأبهري وعين القواعد للكابر القزويني فصار قصارى همم أهل زماننا الاكتفاء بشيء من قراءة الهداية ولو تجرد بعض المشتغلين وسعى إلى مذاكرة حكمة العين لكان ذلك أقصى الغاية فيما بينهم وقليل ما هم. انتهى ما في كشف الظنون. علم الحمامات ويقال له: علم الديماس والحمام: وضع صناعي مركب الكيفية للتدبير والاستفراغ في الداخل والخارج معا. وغايته: جلب المنافع للبدن ودفع المضار عنه باعتبار حالة عناصر ذلك البدن فيتبعها صحة أو فساد والحاجة باعثة إلى اتخاذه. وهذا العلم من فروع علم الطب وفيه رسالة للسيوطي1 ورسالة للحكيم محمد أحسن الحاجي فوري نزيل بهوبال لطف الله به في الحال والمآل. قال الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني في كتابه وبل الغمام: إنها قد وردت في الحمامات روايات غالبها الضعاف فيها ما هو في رتبة الحسن وحاصل ما دلت عليه تحريم دخوله على النساء مطلقا وعلى الرجال إلا في المآزر وقد استوفيت ذلك في الرسالة المسماة تفويق النبال إلى إرسال المقال جعلتها جوابا لرسالة سماها مؤلفها إرسال المقال إلى حل الإشكال انتهى2 كلامه - رحمه الله – تعالى. علم الحيل الساسانية ذكره أبو الخير من فروع علم السحر وقال: هو: علم يعرف به طريق الاحتيال في جلب المنافع وتحصيل الأموال والذي باشرها يتزيا في كل بلدة بزي يناسب تلك البلدة بأن يعتقد أهلها في أصحاب ذلك الزي فتارة يختارون زي الفقهاء وتارة زي الوعاظ وتارة زي الأشراف وتارة زي الصوفية إلى غير ذلك. ثم

_ 1 هذه الرسالة ضمنتها مطالب نافعة قلما توجد في غيرها، وهي من أول من اتخذ الحمام، ثم من اخترعه بعد الاندراس ومن دخله من الصحابة؟ وماورد فيه من الأحاديث ومادلت عليه وتكلمت فيها على هيئته ومنافعه ومضاره وما يجب مراعاته في الدخول فيه والخروج عنه، وما قيل في الحمام الجديد والعتيق ومرده وما يتصل بذلك، وسميتها تطهير الأدناس بالغسل في ديماس. حكيم محمد أحسن حامي بوري ومتوسل الرياسة سلمه الله. 2 قلت: وحل الإشكال رسالة للشوكاني، أجاب بها عل ى السيد العلامة عيسى بن محمد بن الحسين أمير كوكبان لما سأله عن وجه إجبار اليهود على التقاط الأزبال، فاجاب عليها ولده السيد العلامة عبد الله بن عيسى برسالة سماها "إرسال المقال" فأجاب عليها الشوكاني برسالة سماها "تفويق النبال" وكانت هذه المراسلة والشباب في عنفوانه. مولوي محمد عبد الرشيد سلمه الله تعالى.

إنهم يحتالون في خداع العوام بأمور تعجز العقول عن ضبطها والتفطن لها منها ما حكى واحد أنه رأى في جامع البصرة قردا على مركب مثل ما يركبه أبناء الملوك وعليه ألبسة نفيسة نحو ملبوساتهم وهو يبكي وينوح وحوله خدم يتبعونه ويبكون ويقولون: يا أهل العافية اعتبروا بسيدنا هذا فإنه كان من أبناء الملوك عشق امرأة ساحرة وبلغ حاله بسحرها إلى أن مسخ إلى صورة القرد وطلبت منه مالا عظيما لتخليصه من هذه الحالة والقرد يبكي بأنين وحنين والعامة يرقون عليه ويبكون وجمعوا لأجله شيئا عظيما من الأموال ثم فرشوا له في الجامع سجادة فصلى عليها ركعتين ثم صلى الجمعة مع الناس ثم ذهبوا بعد الفراغ عن الجمعة بتلك الأموال وأمثال هذه الحيل كثيرة جدا قلت: ذكرت هذه الحكاية في تاريخ ميراخوند أيضا وكتاب المختار في كشف الأستار بالغ في كشف هذه الأسرار والله أعلم. علم الحيل الشرعية هو: باب من أبواب الفقه بل فن من فنونه كالفرائض وقد صنفوا فيه كتبا أشهرها: كتاب الحيل للشيخ الإمام أبي بكر أحمد بن عمر المعروف بالخصاف الخفي المتوفى سنة إحدى وستين ومائتين وهو في مجلدين ذكره التميمي في طبقات الحنفية. وله شروح منها شرح شمس الأئمة الحلواني. وشرح شمس الأئمة السرخسي وشرح الإمام خواهر زاده. ومنها: كتاب محمد بن علي النخعي. وابن سراقة. وأبي بكر الصيرفي. وأبي حاتم القزويني. وغير ذلك ذكروا فيه الحيل الدافعة للمغالبة وأقسامها من المحرمة والمكروهة والمباحة. وقد أطال الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين في إبطال الحيل التي أحدثها الفقهاء وأجاد. علم الحيوان هو: علم باحث عن أحوال خواص أنواع الحيوانات وعجائبها ومنافعها ومضارها. وموضوعه: جنس الحيوان البري والبحري والماشي والزاحف والطائر وغير ذلك. والغرض منه: التداوي والانتفاع بالحيوانات والاجتناب عن مضارها والوقوف على عجائب أحوالها وغرائب أفعالها مثلاً: في غرب الأندلس حيوان لو أكل الإنسان أعلاه أعطي بالخاصية علم النجوم وإذا أكل وسطه أعطي علم النبات وإذا أكل عجزه - وهو ما يلي ذنبه - أعطي علم المياه المغيبة في الأرض فيعرف إذا أتى أرضا لا ماء فيها على كم ذراع يكون الماء فيها. وفيه كتب قديمة وإسلامية منها كتاب الحيوان لديموقراس ذكر فيه طبائعه ومنافعه وكتاب الحيوان لأرسطاطاليس تسع عشرة مقالة نقله ابن البطريق من اليوناني إلى العربي وقد يوجد سريانيا نقلا قديما أجود من العربي ولأرسطو أيضا كتاب في نعت الحيوان الغير الناطق وما فيه من المنافع والمضار وكتاب الحيوان لأبي عثمان عمرو ابن بحر الجاحظ البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وهو

كبير أوله جنبك الله تعالى الشبهة وعصمك من الحيرة.... الخ. قال الصفدي: ومن وقف على كتابه هذا وغالب تصانيفه ورأى فيها الاستطرادات التي استطردها والانتقالات التي ينتقل إليها والجهالات التي يعترض بها في غصون كلامه بأدنى ملابسه علم ما يلزم الأديب وما يتعين عليه من مشاركة المعارف. أقول: ما ذكره الصفدي من إسناد الجهالات إليه صحيح واقع فيما يرجع إلى الأمور الطبيعية فإن الجاحظ من شيوخ الفصاحة والبلاغة لا من أهل هذا الفن ومختصر حيوان الجاحظ لأبي القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد جعفر المتوفى سنة ثمان وستمائة. وكتاب حياة الحيوان للشيخ كمال الدين محمد بن عيسى الدميري الشافعي المتوفى سنة ثمان وثمانمائة وهو كتاب مشهور في هذا الفن جامع بين الغث والسمين لأن المصنف فقيه فاضل محقق في العلوم الدينية لكنه ليس من أهل هذا الفن كالجاحظ وإنما مقصده تصحيح الألفاظ وتفسير الأسماء المبهمة كما أشار إليه في أول كتابه هذا وذكر أنه جمعه من خمسمائة وستين كتاب أو مائة وتسعة وتسعين ديوانا من دواوين شعراء العرب وجعله نسختين صغرى وكبرى في كبيراه زيادة التاريخ وتعبير الرؤيا وله مختصرات ذكرها في كشف الظنون. وعبارة مدينة العلوم: وقد صنف فيه كمال الدين الدميري تصنيفا حسنا مطولا ومختصرا ورأيت مختصرا يسمى بخواص الحيوان وهو كاف في هذا الباب إلا أني لم أعرف مصنفه انتهى. قلت: وقد طبع كتاب حياة الحيوان الكبرى بمصر القاهرة ولهذا الزمان وعم نفعه في البلاد.

باب الخاء المعجمة

باب الخاء المعجمة علم الخطأين من فروع علم الحساب وهو علم يتعرف منه استخراج المجهولات العددية إذا أمكن صيرورتها في أربعة أعداد متناسبة ومنفعته: نحو منفعة الجبر والمقابلة إلا أنه أقل عموما منه وأسهل عملاً. وإنما سمي به: لأنه يفرض المطلوب شيئا ويختبر وإن وافق فذاك وإلا حفظ ذلك الخطأ وفرض المطلوب شيئا آخر ويختبر فإن وافق فذاك وإلا حفظ الثاني ويستخرج المطلوب منهما ومن المقدارين المفروضين. وعلى هذا فإذا اتفق وقوع المسألة أولا في أربعة أعداد متناسبة أمكن استخراجها بخطأ واحدا ومن الكتب الكافية فيه كتاب لزين الدين المغربي وبرهن عليه ابن علي الحسن بن الحسن بن الهيثم الفيلسوف المتوفى سنة ثلاثين وأربعمائة على طرق. علم الخط هو: معرفة كيفية تصوير اللفظ بحروف هجائه إلى أسماء الحروف إذا قصد بها المسمى هو في بإحداكم رحيم معين فإنما يكتب هذه الصورة جعفر لأنه سماها خطا ولفظا ولذلك قال الخليل لما سألهم: كيف تنطقون بالجيم جعفر؟ فقالوا: جيم إنما نطقتم بالاسم ولم تنطقوا بالمسؤول عنه والجواب: جه لأنه المسمى فإن سمي به مسمى آخر كتب كغيرها نحو ياسين وحاميم يس وحم هذا ما ذكروه في تعريفه

والغرض والغاية ظاهران لكنهم أطنبوا في بيان أحوال الخط وأنواعه ونحن نذكر خلاصة ما ذكروا في فصول. فصل في فضل الخط اعلم أن الله - سبحانه وتعالى - أضاف تعليم الخط إلى نفسه وامتن به على عباده في قوله: علم بالقلم وناهيك بذلك شرفاً. وقال عبد الله بن عباس: الخط لسان اليد قيل: ما من أمر إلا والكتابة موكل به مدبر له ومعبر عنه وبه ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل وامتاز به عن سائر الحيوانات. وقيل: الخط أفضل من اللفظ لأن اللفظ يفهم الحاضر فقط والخط يفهم الحاضر والغائب وفضائله كثيرة معروفة. فصل في وجه الحاجة إليه اعلم أن فائدة التخاطب لما لم تتبين إلا بالألفاظ وأحوالها وكان ضبط أحوالها مما اعتنى العلماء كان ضبط أحوال ما يدل على الألفاظ أيضا ما يعتني بشأنه وهو الخطوط والنقوش الدالة على الألفاظ فبحثوا عن أحوال الكتابة الثابتة نقوشها على وجه كل زمان وحركاتها وسكناتها ونقطها وشكلها وضوابطها من شداتها ومداتها وعن تركيبها وتسطيرها لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف ومنها إلى المعاني الحاصلة في الأذهان. فصل في كيفية وضعه وأنواعه قيل: أول من وضع الخط آدم عليه السلام كتبه في طين وطبخه ليبقى بعد الطوفان وقيل: إدريس وعن ابن عباس أن أول من وضع الخط العربي ثلاثة رجال من بولان قبيلة من طي نزلوا مدينة الأنبار فأولهم: مراز وضع الصور وثانيهم: أسلم وصل وفصل وثالثهم: عامر وضع الأعجام ثم انتشر. وقيل: أول من اخترعه ستة أشخاص من طلسم أسماؤهم: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت فوضعوا الكتابة والخط وما شذ من أسمائهم من الحروف وألحقوها ويروى: أنها أسماء ملوك مدين. وفي السيرة لابن هاشم: أن أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ. قال السهيلي في التعريف والأعلام والأصح ما رويناه من طريق ابن عبد البر يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول من كتب بالعربية إسماعيل عليه السلام". قال أبو الخير: واعلم أن جميع كتابات الأمم اثنتا عشرة كتابة: بالعربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبرية والأندلسية والهندية والصينية. فخمس منها اضمحلت وذهب من يعرفها وهي: الحميرية واليونانية والقبطية والأندلسية والبريرية. وثلاثة بقي استعمالها في بلادها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي: الرومية والهندية والصينية. وبقيت أربع هي المستعملات في بلاد الإسلام هي: العربية والفارسية والسريانية والعبرانية. أقول: في كلامه بحث من وجوه:

أما أولاً: فلأن الحصر في العدد المذكور غير صحيح إذ الأقلام المتداولة بين الأمم الآن أكثر من ذلك سوى المنقرضة فإن من نظر في كتب القدماء المدونة باللغة اليونانية والقبطية وكتب أصحاب الحرف الذين بينوا فيها أنواع الأقلام والخطوط علم صحة ما قلنا وهذا الحصر يبنى عن قلة الإطلاع. وأما ثانيا: فلأن قوله خمس منها اضمحلت ليس بصحيح أيضا لأن اليونانية مستعملة في خواص الملة النصرانية أعني: أهل أقاديميا المشهورة الواقعة في بلاد إسبانيا وفرنسا ونمسه وهي مماليك كثيرة واليونانية أصل علومهم وكتبهم. وأما ثالثا: فلأن قوله وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي الرومية كلام سقيم أيضا إذ من يعرف الرومية في بلاد الإسلام أكثر من أن يحصى وينبغي أن يعلم أن الرومية المستعملة في زماننا منحرفة من اليونانية بتحريف قليل وأما القلم المستعمل بين كفرة الروم فغير القلم اليوناني. وأما رابعا: فلأن جعله السريانية والعبرانية من المستعملات في بلاد الإسلام ليس كما ينبغي لأن السرياني خط قديم بل هو أقدم الخطوط منسوب إلى سوريا وهي البلاد الشامية وأهلها منقرضون فلم يبق منهم أثر ثبت في التواريخ والعمرانية المستعملة فيما بين اليهود وهي مأخذ اللغة العربية وخطها. والعبراني يشبه العربي في اللفظ والخط مشابهة قليلة. فصل واعلم: أن جميع الأقلام مرتب على ترتيب أبجد إلا القلم العربي وجميعها منفصل إلا العربي والسرياني والمغولي واليوناني والرومية والقبطية من اليسار إلى اليمين والعبرانية والسريانية والعربية من اليمين إلى اليسار وكذا التركية والفارسية. الخط السرياني: ثلاثة أنواع: المفتوح المحقق ويسمى: أسطريحالا وهو أجلها والشكل المدور ويقال له: الخط الثقيل ويسمى أسكولينا وهو أحسنها والخط الشرطاوي يكتبون به الترسل والسرياني أصل النبطي. الخط العبراني: أول من كتب به عامر بن شالح وهو مشتق من السرياني وإنما لقب بذلك حيث عبر إبراهيم الفرات يريد الشام وزعمت اليهود والنصارى لا خلاف بينهم أن الكتابة العبرانية في لوحين من حجارة و: أن الله - سبحانه وتعالى - دفع ذلك إليه. الخط الرومي: وهو أربعة وعشرون حرفا كما ذكرنا في المقدمة ولهم قلم يعرف ب المسميا ولا نظير له عندنا فإن الحرف الواحد منه يدل على معان وقد ذكره جالينوس في ثابت كتبه. الخط الصيني: خط لا يمكن تعلمه في زمان قليل لأنه يتعب كاتبه الماهر فيه ولا يمكن للخفيف اليد أن يكتب به في

اليوم أكثر من ورقتين أو ثلاثة وبه يكتبون كتب ديانتهم وعلومهم ولهم كتابة يقال لها كتابة المجموع وهو أن كل كلمة تكتب بثلاثة أحرف أو أكثر في صورة واحدة ولكل كلام طويل شكل من الحروف يأتي علم المعاني الكثيرة فإذا أرادوا أن يكتبوا ما يكتب في مائة ورقة كتبوه في صفحة واحدة بهذا القلم. الخط المانوي: مستخرج من الفارسي والسرياني استخرجه ماني كما أن مذهبه مركب من المجوسية والنصرانية وحروفه زائدة على حروف العربي وهذا القلم يكتب به قدماء أهل ما رواء النهر كتب شرائعهم وللمرقنونية قلم يختصون به. الخط الهندي والسندي: هو أقلام عدة يقال أن لهم نحو مائتي قلم بعضهم يكتب بالأرقام التسعة على معنى أبجد وينقطون تحته نقطتين أو ثلاثا. الخط الزنجي والحبشي: على ندرة لهم قلم حروفه متصلة كحروف الحميري يبتدئ من الشمال إلى اليمين يفرقون بين كل اسم منها بثلاث نقط. الخط العربي: في غاية تعويج إلى يمنة اليد وقال ابن إسحاق أول خطوط العربية: الخط المكي وبعده المدني ثم البصري ثم الكوفي وأما المكي والمدني ففي شكله انضجاع يسير قال الكندي: لا أعلم كتابة يحتمل منها تحليل حروفها وتدقيقها ما تحتمل الكتابة العربية ويمكن فيها سرعة ما لا يمكن في غيرها من الكتابات. فصل في أهل الخط العربي: قال ابن اسحق: أول من كتب المصاحف في الصدر الأول ويوصف بحسن الخط خالد بن أبي الهياج وكان سعد نصبه لكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك وكان الخط العربي حينئذ هو المعروف الآن بالكوفي ومنه استنبطت الأقلام كما في شرح العقيلة. ومن كتاب المصاحف: خشنام البصري والمهدي الكوفي وكانا في أيام الرشيد ومنهم أبو حدى وكان يكتب المصاحف في أيام المعتصم من كبار الكوفيين وحذاقهم. وأول من كتب في أيام بني أمية: قطبة وقد استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض وكان أكتب الناس. ثم كان بعده الضحاك بن عجلان الكاتب في أول خلافة بني العباس فزاد على قطبة. ثم كان إسحاق بن حماد في خلافة المنصور والمهدي وله عدة تلامذة كتبوا الخطوط الأصلية الموزونة وهي اثنا عشر قلما: قلم الجليل قلم السجلات قلم الديباج قلم أسطورمار الكبير قلم الثلاثين قلم الزنبور قلم المفتح قلم الحرم قلم المدامرات قلم العهود قلم القصص قلم الحرفاج فحين ظهر

الهاشميون حدث خط يسمى العراقي وهو المحقق ولم يزل يزيد حتى انتهى الأمر إلى المأمون فأخذ كتابه بتجويد خطوطهم وظهر رجل يعرف بالأحوال المحرر فتكلم على رسومه وقوانينه وجعله أنواعاً. ثم ظهر قلم المرضع وقلم النساخ وقلم الرياسي اختراع ذي الرياستين: الفضل بن سهل وقلم الرقاع وقلم غبار الحلية. ثم كان إسحاق بن إبراهيم التميمي المكنى بأبي الحسن معلم المقتدر وأولاده أكتب أهل زمانه وله رسالة في الخط اسماها تحفة الوامق. ومن الوزراء الكتاب: أبو علي محمد بن علي بن مقلة المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وهو أول من كتب الخط البديع ثم ظهر صاحب الخط البديع علي بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ولم يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة وله بذلك فضيلة السبق وخطه أيضا في نهاية الحسن لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها حلاوة وبهجة وكان شيخه في الكتابة محمد بن أسد الكاتب. ثم ظهر أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي المتوفى سنة ست وعشرين وستمائة. ثم ظهر أبو المجد ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى سنة ثمان وتسعين وستمائة وهو الذي سار ذكره في الآفاق واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته. ثم اشتهرت الأقلام الستة بين المتأخرين وهي: الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمحقق والرقاع. ومن الماهرين في هذه الأنواع: ابن مقلة وابن البواب وياقوت وعبد الله أرغون وعبد الله الصيرفي ويحيى الصوفي والشيخ أحمد السهروردي ومبارك شاه السيوفي ومبارك شاه القطب وأسد الله الكرماني. ومن المشهورين في البلاد الرومية: حمد الله بن الشيخ الأماسي وابنه دده جلبي والجلال والجمال وأحمد القرة الحصاري وتلميذه حسن وعبد الله القريمي وغيرهم من النساخين ثم ظهر قلم التعليق والديواني والدشتي وكان ممن اشتهر بالتعليق سلطان علي المشهدي ومير علي ومير عماد وفي الديواني تاج وغيرهم مدون في غير هذا المحل مفصلا ولسنا نخوض بذكرهم لأن غرضنا بيان علم الخط. وأما أبو الخير فأورد في الشعبة الأولى من مفتاح السعادة علوم متعلقة بكيفية الصناعة الخطية فنذكرها إجمالا في فصل فمما ذكره: أولا: علم أدوات الخط من القلم وطريق بريها وأحوال الشق والقط ومن الدواة والمداد والكاغد. فأقول هذه الأمور من أحوال علم الخط فلا وجه لإفراده ولو كان مثل ذلك علما لكان الأمر عسيراً. وذكر ابن البواب نظم فيه قصيدة رائية بليغة استقصى فيها أدوات الكتابة ولياقوت رسالة فيه أيضا ومنها علم قوانين الكتابة: أي معرفة كيفية نقص صور الحروف البسائط وكيف يوضع القلم ومن أي جانب يبتدئ في الكتابة وكيف يسهل تصوير تلك الحروف. ومن المصنفات فيه: الباب الواحد من كتاب صبح الأعشى وما ذلك إلا علم الخط. ومنها علم تحسين الحروف وتقدم في باب التاء وهو أيضا من قبيل تكثير السواد قال: ومبنى هذا

الفن الاستحسانات الناشئة من مقتضى الطباع السليمة بحسب الألف والعادة والمزاج بل بحسب كل شخص وغير ذلك مما يؤثر في استحسان الصور واستقباحها ولهذا يتنوع هذا العلم بحسب قوم وقوم ولهذا لا يكاد يوجد خطان متماثلان من كل الوجوه. أقول ما ذكره في الاستحسان مسلم لكن تنوعه ليس بمتفرع عليه وعدم وجدان الخطين المتماثلين لا يترتب على الاستحسان بل هو أمر عادي قريب إلى الجبلي كسائر أخلاق الكاتب وشمائله وفيه سر إلهي لا يطلع عليه إلا الأفراد. ومنها علم كيفية تولد الخطوط عن أصولها بالاختصار والزيادة وغير ذلك من أنواع التغيرات بحسب قوم وقوم وبحسب أغراض معلومة في فنه وحداق الخطاطين صنفوا فيها رسائل كثيرة سيما كتاب صبح الأعشى فإن فيه كفاية في هذا الباب لكن هو أيضا من هذا القبيل. ومنها علم ترتيب حروف التهجي بهذا الترتيب المعهود فيما بيننا واشتراك بعضها ببعض في صورة الخط وإزالة التباسها بالنقط واختلاف تلك النقط وتقدم ذكره في باء التاء ولابن جني والجزي1 رسالة في هذا الباب أما ترتيب الحروف فهو من أحوال علم الحروف وإعجامها من أحوال علم الخط. ذكر النقط والإعجام في الإسلام اعلم أن الصدر الأول أخذ القرآن والحديث من أفواه الرجال بالتلقين ثم لما كثر أهل الإسلام اضطروا إلى وضع النقط والإعجام فقيل: أول من وضع النقط مراد والإعجام عامر وقيل: الحجاج وقيل: أبو الأسود الدؤلي بتلقين علي كرم الله وجهه إلا أن الظاهر أنهما موضوعان مع الحروف إذ يبعدان الحروف مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المصحف وقد روي أن الصحابة جردوا المصحف من كل شيء حتى النقط ولو لم توجد في زمانهم لما يصح التجريد منها. وذكر ابن خلكان في ترجمة الحجاج أنه حكم أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف أن الناس مكثوا يقرؤون في مصحف عثمان - رضي الله عنه - نيفا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات. فيقال: أن نصر بن عاصم وقيل: يحيى بن يعمر قام بذلك فوضع النقط وكان معه ذلك أيضا يقع التصحيف فأحدثوا الإعجام انتهى. واعلم أن النقط والإعجام في زماننا واجبات في المصحف وأما في غير المصحف فعند خوف اللبس واجبان البتة لأنهما ما وضعا إلا لإزالته وأما مع أمن اللبس فتركه أولى سيما إذا كان المكتوب إليه أهلا. وقد حكي أنه عرض على عبد الله بن طاهر خط بعض الكتاب فقال: ما أحسنه لولا أكثر شونيزة. ويقال: كثرة النقط في الكتاب سوء الظن بالمكتوب إليه. وقد يقع بالنقط ضرر كما حكي أن جعفر المتوكل كتب إلى بعض عماله: أن أخص من قبلك من الذميين

_ 1 وكذا أورد القلقشندي في كتاب صبح الأعشى مافيه كفاية. سنة ظله العالي.

وعرفنا بمبلغ عددهم فوقع على الحاء نقطة فجمع العامل من كان في عمله منهم وخصاهم فماتوا غير رجلين إلا في حروف لا يحتمل غيرها كصورة الياء والنون والقاف والفاء المفردات وفيها أيضا مخير. ثم أورد في الشعبة الثانية علوما متعلقة بإملاء الحروف المفردة وهي أيضا كالأولى. فمنها: علم تركيب أشكال بسائط الحروف من حيث حسنها فكما أن للحروف حسنا حال بساطتها فكذلك لها حسن مخصوص حال تركيبها من تناسب الشكل ومباديها أمور استحسانية ترجع إلى رعاية النسبة الطبيعية في الأشكال وله استمداد من الهندسيات وذلك الحسن نوعان: حسن التشكيل في الحروف يكون بخمسة: أولها: التوفية: وهي أن يوفى كل حرف قسمته من الأقدار في الطول والقصر والرقة والغلظة. والثاني: الإتمام: وهو أن يعطى كل حرف قسمته من الأقدار في الطول والقصر والغلظة. والثالث: الانكباب والاستلقاء. والرابع: الإشباع. والخامس: الإرسال: وهو أن يرسل يده بسرعة. وحسن الوضع في الكلمات وهي ستة: الترصيف: وهو وصل حرف إلى حرف. والتأليف: وهو جمع حرف غير متصل. والتسطير: وهو إضافة كلمة إلى كلمة. والتفصيل: وهو مواقع المدات المستحسنة ومراعات فواصل الكلام وحسن التدبير في قطع كلمة واحدة بوقوعها إلى آخر السطر وفصل الكلمة التامة ووصلها بأن يكتب بعضها في آخر السطر وبعضها في أوله ومنها علم إملاء الخط العربي: أي الأحوال العارضة لنقوش الخطوط العربية لا من حيث حسنها بل من حيث دلالتها على الألفاظ وهو أيضا من قبيل تكثير السواد. ومنها علم خط المصحف: على ما اصطلح عليه الصحابة عند جمع القرآن الكريم على ما اختاره زيد بن ثابت ويسمى الاصطلاح السلفي أيضا وهذا العلم وإن كان من فروع علم الخط من حيث كونه باحثا عن نوع من الخط لكن بحث عنه صاحب مدينة العلوم في علوم تتعلق بالقرآن الكريم وإنما تعرضنا له هنا تتميما للأقسام. وفيه العقيلة الرائية للشاطبي. ومنها علم خط العروض: وهو ما اصطلح عليه أهل العروض في تقطيع الشعر واعتمادهم في ذلك على ما يقع في السمع دون المعنى المعبثة به في صنعة العروض إنما هو اللفظ لأنهم يريدون به عدد الحروف التي يقوم بها الوزن متحركا وساكنا فيكتبون التنوين نونا ساكنة ولا يراعون حذفها في الوقف ويكتبون الحرف المدغم بحرفين ويحذفون اللام مما يدغم فيه في الحرف الذي بعده كالرحمان والذاهب والضارب ويعتمدون في الحروف على أجزاء التفاعيل ويقطعون حروف الكلم بحسب قطعها كما في قول الشاعر: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فيكتبون على هذه الصورة: ستبدي لكلايا مما كن تجاهلا ... ويأتي كبلا خبار منلم تزودي قال في الكشاف: وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياس ثم ما دعا ذلك بضير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الخط وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف. وقال ابن درستوري في كتاب الكتاب: خطان لا يقاسان خط المصحف لأنه سنة وخط العروض لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه هذا خلاصة ما ذكروه في علم الخط1 ومتفرعاته. وأما الكتب المصنفة فيه فقد سبق ذكر بعض الرسائل وما عداها نادر جدا سوى أوراق ومختصرات كأرجوزة عون الدين. علم الخفاء هو علم يتعرف منه كيفية إخفاء الشخص نفسه عن الحاضرين بحيث يراهم ولا يرونه ذكره أبو الخير من فروع علم السحر وقال: وله دعوات وعزائم إلا أن الغالب على ظني أن ذلك لا يمكن إلا بالولاية بطريق خرق العادة لا بمباشرة أسباب يترتب عليها ذلك عادة وكثيرا ما نسمع هذا لكن لم نر من فعله إلا أن خوارق العادات لا تنكر سيما من أولياء هذه الأمة. انتهى. أقول كونه علما من جهة تفرعه على السحر لا من جهة الكرامة فلا وجه لغلبة ظنه في عدم إمكانه إذ هو بطريق السحر ممكن لا شبهة فيه بل طريق الدعوة والعزائم أيضا كما يدعيه أهله وعدم الرؤية لا يدل على عدم الوقوع ويقال له علم الإخفاء ولذا تقدم في باب الألف. علم الخلاف هو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية وهو الجدل الذي هو قسم من المنطق إلا أنه خص بالمقاصد الدينية. وقد يعرف بأنه علم يقتدر به على حفظ أي وضع وهدم أي وضع كان بقدر الإمكان ولهذا قيل الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا أو سائل يهدم وضعا وقد سبق في علم الجدل. قال في مدينة العلوم: الفرق بين الجدل الواقع بين أصحاب المذاهب الفرعية كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما وبين علم الخلاف.

_ 1 وفي ذلك نفيسة لبعض الأعلام قد وقفت عليها ولم أقف على اسم مؤلفها قد سماها مؤلفها بلمحة المختطف في صناعة الخط الصلف ذكر فيها أبو إيلو فصولا باب في اختيار الأقلام والسكين باب في بري القلم فصل في كيفية قط القلم فصل في كيفية القط فصل في ذكر اختلاف الكتاب فيقط القلم علة خمسة مذاهب فصل في أن القط لا يخلو من ثلاثة أحوال فصل في أن لكل قلم الأقلام على مرتبتين رطب ويابس فصل في أن لكل قلم السبعة شيء يختص به فصل في كيفية إمساك القلم حين الكتابة، وغير ذلك فصل في أن الكتابة سبعة أقسام فصل في أن الأحرف على ضربين مفرد ومركب باب في الكلام على المفردات فصل في المد وغير ذلك هذا تمام الرسالة المذكورة مولوي محمد يوسف علي صاحب لكهنوي سلمه الله الولي.

أن البحث في الجدل بحسب المادة وفي الخلاف بحسب الصورة. وقد صنف بعض العلماء في الخلاف المسائل العشرة وبعضهم العشرين وبعضهم الثلاثين لتكون مثالا يحتذى بها في غيرها انتهى. وقال ابن خلدون في مقدمته: اعلم أن هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافا لا بد من وقوعه لما قدمناه واتسع ذلك إلى الأمة الأربعين من علماء الأمصار وكانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم ومنعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبة وتشعب العلوم التي هي مواده باتصال الزمان وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة فأقامت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة وأجري الخلاف بين المتمسكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصول الفقهية وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتج بها كل على مذهبه الذي قلده وتمسك به وأجريت في مسائل الشريعة كلها وفي كل باب من أبواب الفقه. فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما. وتارة بين مالك وأبو حنيفة والشافعي يوافق أحدهما. وتارة بين الشافعي وأبي حنيفة ومالك يوافق أحدهما وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة مثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته. وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومن أن المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه. وتآليف الحنفية والشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت لذلك أهل النظر والبحث. وأما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر وأيضا فأكثرهم أهل المغرب وهم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. وللغزالي وفيه كتاب المآخذ. ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة. ولابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة وقد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما يبتنى عليها من الفقه الخلافي مدرجا في كل مسئلة ما يبتنى عليها من الخلافيات انتهى. ومن الكتب المؤلفة فيه أيضا المنظومة النسفية وخلافيات الإمام الحافظ أبي بكر احمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة جمع فيه المسائل الخلافية بين الشافعي -رحمه الله- وأبي حنيفة رحمه الله.

وقال في مدينة العلوم: وعلم الخلاف علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلة الإجمالية أو التفصيلية الذاهب إلى كل منها طائفة من العلماء أفضلهم وأمثلهم: أبو حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي ومن أصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر والإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل. ثم البحث عنها بحسب الإبرام والنقض لأي وضع أريد في تلك الوجوه ومباديه مستنبطة من علم الجدل والجدل بمنزلة المادة والخلاف بمنزلة الصورة. وله استمداد من العلوم العربية الشرعية. وغرضه تحصيل ملكة الإبرام والنقض. وفائدته: دفع الشكوك عن المذاهب وإيقاعها في المذهب المخالف وقد أورد علم الخلاف والجدل الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المعالم وغير ذلك من الرسائل والتعليقات لكن قد ضاع كتبه وانطمس آثاره وبطل معالمه في زماننا هذا. واعلم أن أول من أخرج علم الخلاف في الدنيا أبو زيد الدبوسي المتوفى سنة وهو ابن ثلاث وستين ناظر مرة رجلا فجعل الرجل يبتسم ويضحك فأنشد أبو زيد لنفسه: مالي إذا ألزمته حجة ... قابلني بالضحك والقهقهة إن كان ضحك المرء من فقهه ... فالضب في الصحراء ما أفقهه ويمكن جعل علم الجدل والخلاف من فروع علم أصول الفقه انتهى كلامه رحمه الله. علم خواص الأقاليم علم يتعرف منه ما في كل إقليم أو بلد من المنافع والمضار والغرائب وهذا علم جليل ترتاح إليه النفوس مثل ما روي أن ببلاد الهند وردا مكتوب في الورقة منها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه الذهبي في الميزان ونظيره ما ذكره ابن العديم في تاريخه في ترجمة الحسن بن أحمد بن الحسن الوراق المصيصي أنه روى مسند إلى علي بن عبد ربه الهاشمي أنه رأى في بعض الهند وردة طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق قال: ظننت أنه معمول ففتحت وردة فلم تفتح بعد فكان فيها مثل ذلك وفي البلد منه شيء كثير. وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة ولا يعرفون الله عز وجل. وحكى الشيخ اليافعي في كتابه المسمى بروض الرياحين عن بعض الشيوخ أنه رأى ببلاد الهند شجرة مكتوبة عليها بالحمرة لا إله إلا الله محمد رسول الله كتابة جليلة وهم يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا من الغيث فحدث بها أبا يعقوب الصياد فقال: ما أستعظم هذا كنت أصطاد على نهر أبلة فاصطدت سمكة مكتوب على جبينها الأيمن وأذنها اليمنى لا إله إلا الله وعلى جنبها الأيسر وأذنها اليسرى محمد رسول الله فقذفتها في الماء احتراما لما عليها. قلت: سمعت ممن أثق به أنه يروي عمن يثق به أنه رأى جرادة في إحدى جناحيها لا إله إلا الله وفي الأخرى محمد رسول الله وأمثال هذه الغرائب في الآفاق خارجة عن إحاطة الأوراق سبحان مبدعها ومخترعها جل جلاله وعم نواله.

وكتاب عجائب المخلوقات للقزويني التي فيه بالعجيب العجاب وكتاب آخر في هذه الباب أحسن من كتاب القزويني لكني لم أتذكر اسمه ثم سألت واحدا من أصحابي فقال: أنه خريدة العجائب لابن الوردي وفيها كتاب آخر وهو نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف1 الصقلي وتقويم البلدان للياقوت الحموي وغير ذلك وانتهى ما في مدينة العلوم. وأقول: قد وقفت على الكتابين الأولين ورأيت فيهما من ذكر العجائب وغرائب الدنيا ما يستبعده العقل ولا يصدقه القلب المستقيم وإن كان الله عز وجل قادرا على كل محال وما ذكر من أوراد الهند أعجب من كل عجاب لأن إقليم الهند حاله مع بعد مسافة بلاده معلوم لكل واحد ولم يسمع ممن يسكنه إلى الآن أن مثل هذه الأوراد في بلد من بلدانها موجود ولم يعين الحاكي لها اسم ذلك البلد أو كانت تلك الأوراد في وقت من الأزمنة الخالية ولم يبق لها الآن أثر ولا عين مع أن كل محال في حقه - سبحانه وتعالى - ممكن سهل الحصول والقدرة صالحة لأمثال تلك الأحوال لكن الكلام في صحة هذا الكلام وفيما ذكره من عجائب الأنام ولا توجد ولا تعلم منها إحدى العلامات والله أعلم. علم خواص الحروف اعلم أن الحروف لا سيما المقطعات التي في أوائل السور لها خواص شريفة وأحوال عجيبة يعرفها أهلها وقد فصلها أحسن تفصيل الشيخ عبد الرحمن البسطامي في كتبه المؤلفة في هذا الشأن كذا مدينة العلوم للأرنيفي رحمه الله. علم الخواص وهو علم باحث عن الخواص المترتبة على قراءة أسماء الله سبحانه وتعالى وكتبه المنزلة وعلى قراءة الأدعية ويترتب على كل من تلك الأسماء والدعوات خواص مناسبة لها كذا في مفتاح السعادة لطاشكبري زاده. قال: واعلم أن النفس بسبب اشتغالها بأسماء الله تعالى والدعوات الواردة في الكتب المنزلة تتوجه إلى الجناب المقدس وتتخلى عن الأمور الشاغلة لها عنه فبواسطة ذلك التوجه والتخلي تفيض عليها آثار وأنوار تناسب استعدادها الحاصل لها بسبب الاشتغال ومن هذا القبيل الاستعانة بخواص الأدعية بحيث يعتقد الراقي أن ذلك بفعل السحر انتهى. أقول: خواص الأشياء ثابتة وأسبابها خفية لأننا نعلم أن المغناطيس يجذب الحديد ولا نعرف وجهه وسببه وكذلك في جميع الخواص إلا أن علل بعضها معقولة وبعضها غير معقولة المعنى. ثم إن تلك الخواص تنقسم إلى أقسام كثيرة منها خواص الأسماء المذكورة الداخلة تحت قواعد علم

_ 1 قال في كشف الظنون: صنفه له جار الفرنجي صاحب صقلية وهو من أصحابه ورتبة على الأقاليم السبعة، وأورد فيه أوصاف البلاد والممالك مستوفية في ذكر المسافات بالميل والفرسخ، لكنه لم يذكر الأحوال وكان تأليفة هذا الكتاب في منتصف المائة السادسة والمعروف أنه اختصره بعضهم مولوي حكيم معز الدين صاحب سلمه الله.

الحروف وكذلك خواص الحروف المركبة عنها الأسماء وخواص الأدعية المستعملة في العزائم وخواص القرآن. قال أبو الخير: غاية ما يذكر في ذلك تجارب الصالحين وورد في ذلك بعض من الأحاديث أوردها السيوطي في الإتقان وقال: بعضها موقوفات على الصحابة والتابعين وما لم يرد أثره فقد ذكر الناس من ذلك كثيرا والله - سبحانه وتعالى - أعلم بصحته. ويقال: أن الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفا بإذن الله سبحانه وتعالى. فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني ويشير إلى هذا قوله1 عليه الصلاة والسلام: "لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال". وأجاز القرطبي الرقية بأسماء الله وكلامه - سبحانه وتعالى - قال: فإن كان مأثورا استحب. قال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله تعالى وبما يعرف من ذكر الله. قال الحسن البصري ومجاهد والأوزاعي: لا بأس بكتب القرآن في إناء ثم غسله وسقيه المريض وكرهه النخعي. ومنها: خواص العدد والوفق والتكسير. ومنها: خواص الأعداد المتحابة والمتباغضة. قال في مدينة العلوم: أن كنكة الملك من حكماء الهند استنبط الأعداد المتحابة وذكر أنها إذا وضعت في طعام أو شراب أو غير ذلك مما يستعمله شخصان تآلف بينهما محبة عجيبة وإن رسمتها على ثوبك لم يفارقك والعدد الأصغر منها كزد والعدد الأكبر منها فرد ترسمها برسم قلم الغبار وتعطي الأصغر من شئت وتأكل أنت الأكبر فإن الأصغر يطيع الأكبر بخاصية ظريفة ويستعمل في الزبيب وحب الرمان وأشباههما عدد الأسماء. ثم إن أفلاطون الآلهي بين خواص الأعداد المتحابة والمتباغضة وذكر أنه لو كتب أعداد المتحابة في كوز لم يمسه الماء وشرب منه شخصين فإنه يتولد بينهما محبة أكيدة لم يعهد ذلك قبل وأنه لو فعل في الأعداد المتباغضة مثل ذلك فإنه يظهر بينهما عداوة راسخة بإذن الله انتهى. وبينه في تذكرة الأحباب في بيان التحاب مستوفى ببراهين عددية وخواص البروج والكواكب وخواص المعدنيات وخواص النباتات وخواص الحيوانات وخواص الأقاليم والبلدان وخواص البر والبحر وغير ذلك. وصنف في هذه الخواص جماعة منهم: أحمد البوني والغزالي والتميمي والجلنكي في كنز الاختصاص وهو كتاب مفيد في تلك المقاصد وغيرهم وخواص الأسرار في بواهر الأنوار وخواص الأسماء الحسنى للشيخ أبي العباس أحمد البوني مختصر وللشيخ جمال الدين قال في مدينة العلوم: علم الخواص علم

_ 1 هذا الحديث لا يصلح لللاعتماد حتى يحصل العليم بصحة سنده فلينظر فيه. مولوي سبط أحمد سهواني سلمه الله تعالى.

يحصل بسبب ترتيب ما له الخواص من المعادن والإبحار وغير ذلك آثار عجيبة وأمور غريبة يتحير فيها الناظرون. ومنها أن بعضا من الأوائل بنى دارا وجعل في جدرانها الأربعة والسقف والأرض ومن أحجار المغناطيس متساوية المقدار وجعل في وسطها صليبا إلى نفسه فوقف ذلك الحديد بالضرورة في الهواء في وسط البيت وافتتن بذلك جمع من النصارى. ومنها: أن في النبات نبتا إذا طلى به الإنسان بدنه لم تحرقه النار وأمثال ذلك كثيرة مذكورة في كتب الخواص. واعلم أن الخواص قد تترتب على أسماء الله تعالى وعلى الآيات التنزيلية وآيات التوراة والإنجيل لكن تلك الخواص ليست من فروع علم السحر بل هي من فروع علم القرآن انتهى1.

_ 1 قلت: ولكن تلك الخواص لا تصلح للعمل بها حتى تشهد له الأحاديث الصحيحة ولم يرد في السنة ما يصححها فلا عبرة بذلك وإن نفعت وإن ضرت. مولوي محمد أيوب مفتي بهوبال، سلمه الله المتعال.

باب الدال المهملة

باب الدال المهملة علم دراية الحديث تقدم الكلام عليه في علم الحديث. وقال الشيخ شمس الدين الأكفاني السخاوي: دراية الحديث علم تتعرف منه أنواع الرواية وأحكامها وشروط الرواية وأصناف المرويات واستخراج معانيها ويحتاج إلى ما يحتاج إليه علم التفسير من اللغة والنحو والتصريف والمعاني والبيان والبديع والأصول ويحتاج إلى تاريخ النقلة انتهى. ولنا كتاب سميناه الحطة بذكر الصحاح الستة ذكرنا فيه جميع فروع علم الحديث. وشرف هذا العلم وأحوال الأمهات الست وتراجم أصحابها فإن شئت الزيادة فارجع إليه. وذكر في مدينة العلوم أن لفظ الصحيح في علم الحديث إذا أطلق يراد به عند المحدثين البخاري وإذا أطلق لفظ الصحيحين يراد به عندهم صحيح البخاري وصحيح مسلم. وإذا أطلق لفظ الصحاح يراد به عندهم الصحيحان وصحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن عوانة وصحيح مستدرك الحاكم وهذه هي الصحاح الستة انتهى. وفيه نظر واضح. قال: ثم إن السنن إذا أطلقت يراد بها في اصطلاحهم سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة القزويني وأما سنن غير هؤلاء فتذكر مقيدة كسنن الدارقطني وسنن البيهقي وإذا أطلق المسانيد يراد بها في اصطلاحهم مسندا للإمام أحمد بن حنبل ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند الدارمي ومسند البزار. ثم إن المعاجم إذا أطلقت يراد بها المعجم الكبير والأوسط والصغير الثلاثة للطبراني قال: ولما فرغنا عن ذكر الأقدمين من المحدثين اقتضى الرأي أن نورد ههنا بعضا من المتأخرين منهم وعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.

ثم ذكر أبا سليمان الخطابي وابن الجوزي والنووي وأبا السعادات الجزري وأبا محمد حسين البغوي وابن الصلاح والحسن الصغاني اللاهوري الهندي وأكمل الدين البابرني شارح المشارق والقاضي عياض وذكر تراجمهم بالاختصار وكتابنا إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين قد قضى الوطر عن ذكر الكتب المؤلفة في علم الحديث وتراجم أكابر هذا العلم. علم دعوة الكواكب قال في مدينة العلوم: كما أن استحضار الجن وبعض الملائكة ممكن فكذلك يمكن تسخير روحانية الكواكب سيما السبعة السيارة فيتوصل بذلك إلى المقاصد المهمة. من قتل الأعداء وإحضار المال والغائب وأمثال ذلك فيستحضرها متى شاء بعد الدعوة بلا تكلف ومشقة. حكي أن ملكا كان مشتغلا بدعوة زحل وكان أصحابه يلومونه في ذلك وفي بعض الأيام عرض له عدو وكان ذلك العدو ملكا عظيما أعجزه دفعه بالمحاربة فاشتغل ذلك الملك بدعوة زحل فإذا نزل من السماء شيء فخاف أهل المجلس عنه فتفرقوا فدعاهم الملك وأحضروا عنده فرأوا ظروفا من نحاس مثلث الشكل وفيه رأس الملك الذي خاصمه مقطوعا ففرحوا بذلك وهرب العسكر ونصر الملك بروحانية زحل وقال أنتم سفهتموني باشتغالي بالدعوة وهذا نفعه الأدنى فاعتقدوا الدعوة كلهم. وأما كون الظرف من النحاس وكونه مثلثا فلاقتضاء طبيعة زحل ذلك المعدن وذلك الشكل. واعلم أن دعوة الكواكب كانت مما اشتغل فيها الصابئة فبعث عليهم إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم وإذا جاء نهر الله بطل نهر العقل انتهى. قلت: وليست هذه الدعوة بعد ما نزل شرع نبينا - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أمر الدين بل هو شرك بحت وكفر محض أعاذنا الله وإخواننا المسلمين عن أمثال هذه العلوم. علم دفع مطاعن الحديث لم يزد في كشف الظنون على ذلك والظاهر أنه من فروع علم الحديث قال في مدينة العلوم: موضوعه ونفعه ظاهران لأولي الألباب وقد طعن في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من الملاحدة وهم القرامطة وعلماء الإسلام جزاهم الله تعالى خير الجزاء انتصبوا لدفع تلك الأوهام الفاضحة بأدلة قوية وبراهين واضحة وصنفوا فيه كتبا يجدها من يطلبها انتهى. علم دفع مطاعن القرآن علم باحث عن دفع شبهات أرباب الضلال الموردة على القرآن الكريم بحسب لفظه أو بحسب معناه ومباديه العلوم العربية وعلم الأصلين والله أعلم. علم دلائل الإعجاز هكذا في كشف الظنون ولم يكشفه والظاهر أنها من فروع: علم البيان والمعاني.

علم الدواوين لم يزد في كشف الظنون على هذا وذكر تحته أسماء دواوين الشعراء من العرب والعجم وأكثر وأطنب وأجاد. قال في مدينة العلوم: اعلم أن الكلام إما منثور أو منظوم. ولما كانت المحاضرة تقع بالمنظوم كما تقع بالمنثور دونوا الدواوين المشتملة بالقصائد والمقاطيع والأراجيز والمجاميع. وموضوعه وغايته وغرضه ومنفعته ظاهرة مما تقدم. ولا يخفي أن أفضل الشعراء شرفا وفضلا وأولاهم بالتقدم: حسان بن ثابت رضي الله عنه لفضيلته بشرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرفه بمدحه - صلى الله عليه وسلم - وهو شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بروح القدس يكنى1 بأبي الحسام لمناضلته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغازي به أعراض المشركين عاش مائة وعشرين سنة. ستين في الإسلام وستين في الجاهلية وكذا أبوه وجده وأبو جده ولا يعرف في العرب أربعة من صلب واحد اتفقت مدة عمرهم غيرهم وكان له القدر الجليل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى ثم ذكر دواوين كثيرة وقال منها: نهاية الأرب في أشعار العرب يشتمل على ألف قصيدة مختارة ومنها2 الحماسة اختيار أبي تمام الطائي وله مجموع آخر سماه: فحول الشعراء جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين. وكتاب الاختيارات من شعر الشعراء ومنها: الذخيرة لابن بسام3 وديوان أبي العلاء4 المعري وكان مهتما في دينه يرى رأي البراهمة لا يرى أكل اللحم ولا يؤمن بالبعث

_ 1 ويكنى أيضاً بأبي عبد الرحمن، وأبي الوليد. 2 وهو حبيب بن أوس الشاعر المشهور، كان واحد عصره في ديباحة لفظ وبضاعة شعره وحسن أسلوبه، وله كتاب الحماسة التي دلت على غزارة فضله وإتقان معرفته، وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره. قيل: إنه كان يحفظ أربع عشرة ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع ومدح الخلفاء وأخذ جوائزهم. قال العلماء: خرجت من قبيلة طي ثلاثة كل واحد منهم مجيد في بابه حاتم في جودة: داود الطائي في زهدة وأبو تمام الطائي في شعره. ولد سنة تسعين أو اثنين وتسعين أو ثمان وثمانين ومائة، وتوفي بالموصل سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقيل: توفي في ذي القعدة أو جمادى الأولى سنة ثمان أو تسع وعشرين وما ئتين وقيل: في المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ولها شرح جديد للمولوي فيض الحسن السهارنفوري دام ظله سماه بالفيضي وقد طبع الآن ببلدة لكنؤ من بلاد الهند. حافظ علي حسين عفا الله عنه. 3 وهي أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور بن بسام المعروف بالبسام الشاعر المشهور، وكانت أمة أمامة ابنة حمدون صغير ولا كبير. توفي في صفر سنة اثنين أو ثلاث وثلثمائة عن نيف وسبعين سنة مولوي محمد أحمد سلمه ربه. 4 هو أحمد بن عبد الله بن سليمان بن داود التنوخي أو العلاء المعري من معرة النعمان من الشام، غزير الفضل شايع الذكر وافر العلم غاية في الفهم، وعالماً باللغة حاذقاً بالنحو جيد الشعر جزل الكلام، وشهرته تغني عن صفته ولد يوم الجمعة عند الغروب لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلثمائة، وجدر من السنة الثالثة من عمره فعمي منه ومات ليلة الجمعة ثالث أو ثاني أو ثالث عشر ربيع الأول سنة تسع وأربيعن وأربعمائة. مولوي محمد عبد الله بلكرامي مد الله ظله السامي.

والنشر وبعث الرسل وشعره المتضمن للإلحاد كثير قال ابن العميد في كتابه وقع التحري على أبي العلاء المعري: كان يرميه أهل الحسد بالتعطيل ويعملون على لسانه أشعار أو يضمنونها أقوال الملاحدة قصدا لهلاكه وقد نقل عنه أشعار تتضمن صحة عقيدته وكذب ما ينسب إليه من إسناد الإلحاد إليه. وقال الذهبي: أنه ملحد وحكم بزندقته. وقال السلفي أظنه تاب أناب. وديوان أبي الطيب المتنبي1 وكان شعره بلغ الغاية من الفصاحة والبلاغة والحكمة وسائر المحاسن بحيث لا حاجة إلى مدحه والناس في شعره على اختلاف. منهم من يرجحه على شعر أبي تمام ومن بعده. ومنهم من يرجح شعر أبي تمام عليه. واعتنى العلماء بشرح ديوانه حتى قال بعضهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحا ما بين مطول ومختصر وكان رجلا مسعودا ورزق السعادة في شعره وإنما يقال له المتنبي لأنه ادعى النبوة حتى حبس ثم تاب وأطلق. وديوان البحتري2 سئل المعري أي الثلاثة أشعر: أبو تمام أم البحتري أم المتنبي فقال: هما حكيمان والشاعر البحتري وشعره سائر وديوانه موجود. وديوان3 جرير بن عطية الخطفي التميمي كان من فحول شعراء الإسلام وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة وهو أشعر من الفرزدق عند أكثر أهل العلم وأجمعت العلماء على أنه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة جرير وفرزدق وأخطل ويقال: أن بيوت الشعر أربعة فخر ومديح ونسيب وهجاء وفي الأربعة فاق جرير على غيره. وديوان الفرزدق4.

_ 1 هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور وقيل: أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار وهو من أهل الكوفة، قدم الشام في صباه وجال أقطاره واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، قيل: قتل يوم الاثنين لثمان بقين من رمضان أو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه ومولده في سنة ثلاث ولثمائة بمحلة كندة في الكوفة والله أعلم. مولوي أنور على صاحب مهم مدارس من بهربال سلمه الله. 2 هو أبو عبادة وليد بن يحيى الطائي البحتري الشاعر المشهور، مدح كثيراً من الخلفاء أولهم المتوكل على الله وكثيراً جيدي ورديي خير من ردية، وله كتاب الحماسة على مثال حماسة أبي تمام كتاب معاني الشعر، ولد سنة ست أو سبع أو خمس أو ثلاث وثلاثين ومائتين والأول أصح مولوي عبد الحق صاحب مد ظله العالي. 3 هو أبو حريزة جرير بن عليه الخطفي التميمي، توفي في سنة عشر ومائة وفيها مات الفرزدق وعمر نيفاً وثمانين سنة.. مولوي عبد الحق كابلي مدرس مدرسة شاهجاني. 4 هو أبو نواس همام أبو هميم بن غالب، وكنيته أبو الأخطل التميمي الشاعر المشهور بالفرزدق، صاحب جرير كان أبوه من جلة قومه، وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس توفي بالبصرة سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين أو ثمانين يوماً، وقيل: أنهما توفيا سنة إحدى عشرة ومائة، قيل: أنه لقي علي بن أبي طالب مولوي إلهي بخش صاحب.

وديوان أبي نواس حسن بن هاني الشاعر المشهور كان المأمون يقول: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قوله: ألا كل حي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وديوان الطغرائي1 ومن محاسن شعره قصيدة لامية العجم وكان عملها ببغداد في سنة يصف حاله ويشكو زمانه وشرحها الصفدي في مجلدين وسماه الغيث الذي انسجم وقد ملأ شرحه بالفوائد الأدبية والغرائب الجدية والهزلية وبالجملة أنه من أحسن المجاميع وأنفعها. وديوان ابن نباته بالضم وديوان ابن المعتز بالله الخليفة العباسي وديوان ابن فارض وشعره لطيف وأسلوبه فيه رائق طريف وديوان بهاء الدين زهير وديوان دعبل الخزاعي بكسر الدال مدح علي بن موسى الرضا بقصيدة أولها: مدارس آيات خلت عن تلاوة ... ومهبط وحي مقفر العرصات وديوان التنوخي وله كتاب الفرج بعد الشدة. وديوان شمس الدين بن عفيف التلمساني وديوان ابن سناء الملك وديوان القاضي الفاضل وديوان ابن الوكيل. وديوان التهامي هؤلاء شعراء الإسلام وأما الشعراء القدماء فأشعرهم عشرة نذكر أسماءهم ههنا: منهم امرئ القيس الكندي والنابغة الذبياني ومنهم زهير بن أبي سلمى وابنه كعب أسلم ومدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأعشى وطرفة بن العبد وأوس بن حجر ولبيد بن ربيعة وعدي بن زيد وعبيد بن الأبرص وبشر الأسدي وهو عاشرهم وأهل الحجاز يقدمونه عليهم ويرون أنه أشعرهم وأسدهم سياقا للحديث.

_ 1 هو عبد الملك فخر الكتاب أبو اسماعيل الحسن بن علي بن محمد بن عبد الصمد، الملقب مؤيد الدين الأصبهاني المعروف بالطغرائي كان غزير الفضل لطيف الطبع فاق أهل عصره بصنعة النضم والنثر. مولوي أعظم حسين صاحب خير أبادي سلمه الله ذو الأيادي.

باب الذال المعجمة

باب الذال المعجمة علم: الذكر والأنثى لم أر من ذكره في موضوعات العلوم وأن كان يستحق لذلك لما ألف في هذا الباب كتب مستقلة وهو في الأصل فرع من علم النحو ولذا دونوه معه. وأقول: هو علم يبحث فيه عن ألفاظ ولغات استعملت في العبارات مذكرة ومؤنثة أو مؤنثة وهي على شكل الألفاظ الغير المؤنثة.

وموضوعه اللفظ من حيث أنه يذكر ويؤنث. والغرض من استعمال الألفاظ على وجهها في التذكير والتأنيث. وغايته الاحتراز عن الخطأ في ذلك الاستعمال والإتيان به على ما هو عليه في كتب الأدباء. والمؤنث: ما فيه علامة التأنيث لفظا حقيقة كامرأة وظلمة أو حكما كزينب وعقرب فإن الحرف الزائد في المؤنث في حكم تاء التأنيث ولهذا لا يظهر التاء في تصغير غير الثلاثي من المؤنثات أو تقديرا كهند ودار والمذكر بخلافه أي ما لم يوجد فيه علامة التأنيث لا لفظا ولا تقديرا ولا حكما. ولجماعة من أئمة النحو كتب في هذا العلم. منها كتاب المذكر والمؤنث لابن خالويه حسين بن أحمد النحوي المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة ولأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني. ولأبي الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. وليحيى بن زياد العزي المتوفى سنة سبع ومائتين. ولابن شقير أحمد بن حسن النحوي المتوفى سنة سبع عشرة وثلاثمائة. ولأبي جعفر أحمد بن عبيد الكوفي الدئلمي المتوفى سنة ثلث وسبعين وسبعمائة. ولكمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة مختصر سماه المبلغة أوله الحمد لله المتفرد بجلال الأحدية. ولأبي محمد القاسم بن محمد الأنباري المتوفى سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. ولابنه أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المتوفى سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. قال ابن خلكان: ما عمل أتم منه. ولأبي بكر محمد بن عثمان المعروف بالجعد أحد أصحاب بن كيسان. ولابن مقسم محمد بن حسن بن أبي بكر العطار المقري النحوي المتوفى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. ولأبي عبيدة قاسم بن سلام النحوي المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين. ولأبي الحسن عبد الله بن محمد بن سفيان الجزار النحوي المتوفى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ولأبي الجود قاسم بن محمد العجلاني وكان في عصر ابن جني وطبقته كذا في كشف الظنون ولابن الحاجب المالكي صاحب الكفاية والشافية في النحو والصرف قصيدة مختصرة في المؤنث السماعي أولها. نفسي الفداء لسائل وافاني ... بمسائل فاحت كغصن البان وللشيخ الفاضل اللغوي النحوي عبد الرحيم الصفي بوري أيضا رسالة مختصرة في ذلك سماها بضرورة الأديب. ولصاحب المكمل شارح المفصل أيضا رسالة في ذلك فكذا الكمال باشا. ولمحمد باقر الطهراني أيضا.

وللسيد الفاضل العلامة النحوي ذو الفقار أحمد بن السيد المرحوم همت علي التقوي البهوبالي طابت له الأيام والليالي كتاب1 في ذلك جمع فيه ما لم يتفق لغيره واستقرأه من كتب شتى ومواضع مختلفة حتى جاء حافلا في بابه خطيبا في محرابه قلما يوجد كتاب حاو لمثله في هذا الباب كما يظهر ذلك من النظر في هذا الكتاب.

_ 1 وهذا الكتاب سماه المؤلف العلامة المبتكر في المؤنث والمذكر، وسيطبع إن شاه الله تعالى في بلده بهوبال صانها الله وأهلها عن الفتن والزوال. علي حسين بن الحافظ محمد صادق بن أحمد علي اللكنوي كاتب هذا الكتاب عفا عنه الله الوهاب.

باب الراء المهملة

باب الراء المهملة علم ربع الدائرة لم يزد عليه في كشف الظنون والظاهر أنه من فروع علم الهيئة وسيأتي في الهاء. علم رجال الأحاديث قال فيه سبط أبي شامة العلامة في وصف علم التاريخ وذم من عابه وشانه وقد ألف العلماء في ذلك تصانيف كثيرة لكن قد اقتصر كثير منهم على ذكر الحوادث من غير تعرض لذكر الوفيات كتاريخ ابن جرير ومروج الذهب والكامل وإن ذكر اسم من توفي في تلك السنة فهو عار عما له من المناقب والمحاسن. ومنهم من كتب في الوفيات مجردا عن الحوادث ك تاريخ نيسابور للحاكم وتاريخ بغداد لأبي بكر الخطيب والذيل عليه للسمعاني وهذا وإن كان أهم النوعين فالفائدة إنما تتم بالجمع بين الفنين وقد جمع بينهما جماعة من الحفاظ منهم: أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم وأبو شامة في الروضتين والذيل عليه وصل إلى سنة خمس وستين وستمائة. وقد ذيل عليه الحافظ علم الدين البرزالي. وممن جمع بين النوعين أيضا الحافظ شمس الدين الذهبي لكن الغالب في العبر الوفيات وجمع بينهما عماد الدين بن كثير في البداية والنهاية وأجود ما فيه السير النبوية وقد أخل بذكر خلائق من العلماء وقد يكون من أخل بذكره أولى ممن ذكره مع الإسهاب المخل وفيه أوهام قبيحة لا يسامح فيها وقد صار الاعتماد في مصر والشام في نقل التواريخ في هذا الزمان على هؤلاء الحفاظ الثلاثة: البرزالي والذهبي وابن كثير. أما تاريخ البرزالي فانتهى إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ومات في السنة الآتية. وأما الذهبي فانتهى تاريخه إلى آخر سنة أربعين وسبعمائة. وأما ابن كثير فالمشهور أن تاريخه انتهى إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وهو آخر ما لخصه من تاريخ البرزالي وكتب حوادث إلى قبيل وفاته بسنتين ولما لم يكن من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ما

يجمع الأمرين على الوجه الأتم شرع شيخنا الحافظ مفتي الشام شهاب الدين أحمد بن يحيى السعدي في كتابه ذيل من أول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة على وجه الاستعياب للحوادث والوفيات فكتب منه سبع سنين ثم شرع من أول سنة تسع وستين وسبعمائة فانتهى إلى أثناء ذي القعدة سنة خمس عشرة وثمانمائة وذلك قبل ضعفه ضعفة الموت غير أنه سقط منه سنة خمس وسبعين فعدمت وكان قد أوصاني أن أكمل الخرم من أول سنة ثمان وأربعين إلى آخر سنة ثمان وستين فاستخرت الله تعالى في تكميل ما أشار إليه ثم التذييل عليه من حين وفاته ثم رأيت في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة فما بعدها إلى آخر سنة ثمان وأربعين فوائد جمة من حوادث ووفيات قد أهملها شيخنا ويحتاج الكتاب إليها فألحقت كثيرا منها والحوادث وشرعت من أول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة جامعا بين كلامه وتلك الفوائد على أن الجميع في الحقيقة له. علم رسم كتابة القرآن في المصاحف وهذا العلم وإن كان من فروع علم الخط لكن باختصاصه بخط المصحف جعله صاحب مدينة العلوم من فروعه. وموضوعه رسم خط المصحف من الحذف والزيادة والبدل والفصل والوصل وما فيه قراءتان فيكتب على إحداهما. وغايته حفظ المصحف الإمام نقل عن مالك أنه لم يجوز كتابة المصحف على ما عليه الناس من الهجاء وأوجب اتباع المصحف الإمام ونقل عن أحمد أنه حرم مخالفته. وصنف فيه أبو عمرو الداني المقنع وأبو العباس المراكشي عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل والقصيدة الرائية الموسومة بالعقلية للشيخ الشاطبي وشرحها برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري المتوفى سنة 733 وسماه جميلة أرباب المراصد. علم الرصد أول رصد وضع في الإسلام رصد وضع بدمشق سنة أربع عشرة ومائتين قلت: قال الفاضل أبو القاسم صاعد الأندلسي في كتاب التعريف بطبقات الأمم: لما أفضت الخلافة إلى عبد الله المأمون بن الرشيد العباسي وطمحت نفسه الفاضلة إلى درك الحكمة وسمت همته الشريفة إلى الإشراف على علوم الفلسفة ووقف العلماء في وقته على كتاب المجسطي وفهموا صورة آلات الرصد الموصوفة فيه فجمع علماء عصره من أقطار مملكته وأمرهم أن يصنعوا مثل تلك الآلات وأن يقيسوا بها الكواكب ويتعرفوا أحوالها بهما كما صنعه بطليموس ومن كان قبله. ففعلوا ذلك وتولوا الرصد بها بمدينة الشماسية وبلاد دمشق من أرض الشام سنة أربع عشرة ومائتين. فوقفوا على زمان سنة الشمس الرصدية ومقدار ميلها وخروج مراكزها ومواضع أوجها وعرفوا مع ذلك بعض أحوال ما في الكواكب من السيارة والثابتة ثم قطع بهم عن استيفاء عرفهم موت الخليفة المأمون في سنة ثمان عشرة ومائتين فقيدوا ما انتهوا إليه وسموه الرصد المأموني. وكان الذي تولى ذلك يحيى بن

أبي منصور كبير المنجمين في عصره وخالد بن عبد الملك المروزي وسند بن علي والعباس بن سفيد الجوهري وألف كل منهم في ذلك زيجا منسوبا إليه وكان إرصاد هؤلاء أول إرصاد كان في مملكة الإسلام وذكر تقي الدين في سدرة منتهى الأفكار: أن المعلم الكبير بطليموس ختم كتب التعاليم ب المجسطي الذي أعيت أولي الألباب عبارته وكان له مسك الختام تحرير النصير فلقد أتى فيه من الإيجاز ما تبهر به العقول ومن الاستدراكات والزيادات المهمة بما تحير فيه الفحول ولم يزل أصحاب الإرصاد ماشين على تلك الأصول إلى أن جاء العلامة الماهر والفهامة الباهر علي بن إبراهيم الشاطر فأصل أصولا عظيمة وفرع منها فروعا جسيمة وهي وإن لم تكن بصورها النوعية خارجة عن الأصل التدويري المبرهن على صحته في المجسطي برد مقدمات وقعت في أمثالها ونقود عبارات لم تسلم من النسج على منوالها وزيادات أفلاك مخلة بالقرب من المساحة والبساطة سلم ذلك الكتاب عن أمثالها تالله إنه لكتاب لا يتيسر لأحد كشف مجملاته إلا بتطليق الشهوات ولا يتيسر لبشر حل مشكلاته إلا بالانقطاع في الخلوات مع عقد القلب وربط اللب على ما عقد هو عليه قلبه من طلب الحق وإيثار الصدق وعدم قصد التكبر والفخار والوصول إلى درجات الاعتبار. قال: ولما كنت ممن ولد ونشأ في البقاع المقدسة وطالعت الأصلين بالجمل مطالعة وفتحت مغلقات حصولها بعد الممانعة والمدافعة ورأيته ما في الزيجات المتداولة من الخلل الواضح والزلل الفاضح تعلق البال والخلد بتجديد تحرير الرصد ومن الله - سبحانه وتعالى - علي بتلقي جملة الطرائق الرصدية من الكتب المعتبرة ومن أفواه المشائخ العظام واخترعت آلات أخرى من المهمات بطريق التوفيق وأقمت على صحة ما يتعاطى بها من الأرصاد البراهين ونصبتها بأمر الملك الأعظم السلطان مراد خان وبإشارة الأستاذ الأعظم حضرة سعد الدين أفندي ملقن الحضرة الشريفة وشرعت في تقرير التحريرات الرصدية الجديدة حاذيا حذو العلامة النصير ومقتفيا أثر المعلم الكبير وربما نقلت عبارته بعينها وزدت فيه من الوجوه القريبة والتحريرات الغريبة. حكي أن نصير الدين لما أراد العمل بالرصد رأى هولاكو ما ينصرف عليه فقال له: هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته أيرفع ما قدر فقال: أنا أضرب لمنفعته مثالا ألقاه أن يأمر من يطلع إلى أعلى هذا المكان ويدعه يرمي من أعلاه طشت نحاس كبير من غير أن يعلم به أحد ففعل ذلك فلما وقع ذلك كانت له وقعة عظيمة هائلة روعت كل من هناك وكاد بعضهم يصعق وأما هو وهولاكو فإنهما ما تغير عليهما شيء لعلمها بأن ذلك يقع فقال له: هذا العلم النجومي بهذه الفائدة يعلم المتحدث فيه ما يحدث فلا يحصل له من الروعة والاكتراث ما يحصل للغافل الذاهل منه. فقال: لا بأس بهذا وأمره بالشروع فيه وحكى من دخل الرصد وتفرجه أنه رأى فيه من آلات الرصد شيئا كثيراً. منها ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس: الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض ودائرة معدل النهار ودائرة منطقة البروج ودائرة العرض ودائرة الميل. وفيه الدائرة السمتية يعرف بها سمت الكواكب واصطرلاب يكون سعة قطره ذراعا واصطرلابات

كثيرة وحكي عن العرضي أن نصير الدين أخذ من هولاكو بسبب عمارة الرصد ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى وأقل ما كان يأخذ بعد فراغ الرصد لأجل الآلات وإصلاحها عشرين ألف دينار. رصد ابرخس قبل الهجرة بسنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ومنه إلى رصد مراغة أربعون ومائة سنة. رصد ابن الشاطر بالشام. رصد أبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري بأصبهان سنة خمس وثلاثين ومائتين. رصد أبي الريحان البيروني. رصد الغ بيك وبسمرقند سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة. رصد أيلخاني بمراغة سنة سبع وخمسين وستمائة. رصد بطليموس بعد رصد ابزخس بسنة خمس وثمانين ومائتين وقبل الهجرة بسنة ثمان وخمسين وأربعمائة. رصد بني الأعلم ببغداد سنة خمسين ومائتين. رصد تانجو بسواحل المحيط الغربي. رصد التباني بالشام. رصد ثاون الإسكندراني قبل الهجرة بسنة إحدى وعشرين وتسعمائة استعمل في زيجه المسمى بالقانون المحصول من الرصد المذكور تاريخ سلس الرومي أخ ذي القرنين. رصد الحاكمي بمصر سنة خمسين ومائتين ومنه الزيج المصطلح. رصد طيموحارس بالإسكندرية سنة أربع وخسمين وأربعمائة لبخت نصر قبل الهجرة بسنة خمس عشرة وتسعمائة. رصد مأمون الخليفة ببغداد سنة سبع وعشرين ومائتين. رصد مالانوس برومة سنة أربع وخمسين وثمانمائة قبل الهجرة بسنة خمس عشرة وخمسمائة. رصد راجه جي سنكة بالهند ببلدة جيبور1. علم الرقص لم يزد صاحب الكشف على هذا قال في مدينة العلوم: هو علم باحث عن كيفية صدور الحركات الموزونة عن الشخص بحيث يورث الطرب والسرور لمن يشاهدها ويرغب فيها أصحاب الرفه والأغنياء ومن يحذو حذوهم وأهل الهند ماهرون في الرقص ولهم فيها يد طولى إلا أن هذا العلم محرم في شريعتنا وإنما تعرضنا له تتميما لأقسام العلوم انتهى كلامه. علم الرقى هكذا في كشف الظنون وقال في مدينة العلوم: هو علم باحث عن مباشرة أفعال مخصوصة كعقد

_ 1 وأيضاً رصد بمصر القاهرة وبدهلي ما ببنارس من بلاد الهند، علي حسين لكهنوي سلمه الله القوي.

الخيط والشعر وغيرهما أو كلمات مخصوصة بعضها بهلوية وبعضها قبطية وبعضها هندكية تترتب على تلك الأعمال والكلمات آثار مخصوصة من إبراء المرض ورفع أثر النظرة وحل المعقود وأمثال ذلك. وإنما سميت رقية لأنها كلمات رقيت من صدر الراقي وأهل الفرس يسمونها أبسون وإنما سموا بذلك لأنهم كثيرا ما يقرؤونها على الماء ويسقونه المريض أو يصبونه عليه والشرع أذن بالرقية لكن إذا كانت بكلمات معلومة من أسماء الله تعالى والآيات التنزيلية والدعوات المأثورة وهذا الذي أذن به الشرع من الرقي ليس من فروع علم السحر بل هي من فروع علم القرآن. انتهى. وفيه فضل واحد من كتاب القول الجميل في بيان سواء السبيل للشيخ المحدث ولي الله أحمد الدهلوي رحمه الله وحكم المسألة1 مصرح في نيل الأوطار وشرح منتقى الأخبار لشيخنا القاضي محمد بن علي الشوكاني. علم الرمل هو علم يعرف به الاستدلال على أحوال المسئلة حين السؤال بأشكال الرمل وهي اثنا عشر شكلا على عدد البروج وأكثر مسائل هذا الفن أمور تخمينية مبنية على التجارب فليس بتام الكفاية ولا يفيد اليقين في مثل هذه الأمور الخفية لأنهم يقولون كل واحد من البروج يقتضي حرفا معينا وشكلا من أشكال الرمل فإذا سئل عن المطلوب فح يقتضي وقوع أوضاع البروج شكلا معينا فبدل بسبب المدلولات وهي البروج على أحكام مخصوصة مناسبة لأوضاع تلك البروج لكن المذكورات أمور تقريبية لا يقينية ولذلك قال عليه السلام: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك قيل هو: إدريس عليه السلام وهو معجزة له والمراد التعليق بالمحال وإلا لما بقي الفرق بين المعجزة والصناعة. روي عن بعض المشايخ أنه سئل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقال من جملة الآثار التي ذكر الله - سبحانه وتعالى - قال: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وفي مصباح الرمل أين علم معجزة ششن بيغمبراست عليهم السلام: الأول آدم، الثاني إدريس، الثالث لقمان، الرابع أرميا، الخامس أشعيا، السادس دانيال عليهم السلام يس اكر خط موافق خط بيغمبران أمدكما ينبغي حلال بود. والكتب المؤلفة في هذا الباب كثيرة يعرفها أهلها. منها أبواب الرمل أصل مفاتيح أصول الرمل. أنوار إقليدي تأليف مولانا بشه تحفه شاهي تقويم الرمل تلخيص توضيح تهذيب جامع الأسرار جهان رمل خلاصة البحرين ذخيرة رسالة يونس. رسالة سرخواب رسالة كله كبود روشي رياض الطالبين أوزان نزهة العقول وافي نصير طوسي هداية النقطة وكتاب تجارب العرب وكتاب الزماني أصح طرق هذا الفن.

_ 1 وقد أجبت على هذه المسألة في كتابي "دليل الطالب على أصح المطالب" بما يكفي ويشفي، منه دام ظله العالي.

علم رموز الحديث لم يذكر في الكشف غير ذلك وقال في مدينة العلوم: علم رموز أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإشاراته وهذا علم ظاهر الموضوع باهر النفع لا يخفى غايته وغرضه ورأيت في هذا الفن تصنيفا لطيفا انتهى. علم الرمي لم يزد في الكشف على ذلك وقال في مدينة العلوم: علم الرمي مثل: رمي القوس والبنادق علم يتعرف منه رمي الأمور المذكورة بالمزاولة ليكون عملها على وجه الإصابة ومنفعته عظيمة في كل الأمور انتهى. قلت: ويلتحق بالبناديق المدافع وما يشابهها وحكام البرطانية أكمل الناس في هذا العلم في هذا الزمان وكذا الأتراك ويدل له قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. علم رواة الحديث وهو: علم أسماء الرجال وقد مر. وهذا العلم من فروع علم التواريخ من وجه لأنه يبحث فيه عن وفياتهم وقبائلهم وأوطانهم وتعديلهم وجرحهم وغير ذلك والمصنفات في هذا العلم كثيرة وقد سبق نبذ منها. علم رواية الحديث هو علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث أحوال رواتها ضبطا وعدالة ومن حيث كيفية السند اتصالا وانقطاعا وغير ذلك من الأحوال يعرفها نقاد الأحاديث. وموضوعه: ألفاظ الرسول من حيث صحة صدورها عنه - صلى الله عليه وسلم - وضعفه إلى غير ذلك. وفي هذا الفن منفعة بينة وغاية عظيمة بل هو أحد أركان الدين. والكتب المصنفة في هذا العلم أكثر من أن تحصى. منها: كتاب ابن الصلاح وفيه تصنيف النووي. وكتاب الشيخ الإمام حافظ العصر نخبة الدهر أمير المؤمنين في الحديث شهاب الدين أحمد المعروف: بابن حجر العسقلاني مولدا المصري محتدا كذا في مدينة العلوم وقد تقدم الكلام عليه تحت علم الحديث مفصلا. علم الرياضة الرياضي من أقسام الحكمة النظرية. وهو: علم باحث عن أمور مادية يمكن تجريدها عن المادة في البحث سمي به لأن من عادة الحكماء أن يرتاضوا به في مبدأ تعليمهم إلى صبيانهم ولذا يسمى: علما تعليميا أيضا. وبالعلم الأوسط المتوسطة بين ما لا يحتاج إلى المادة وبين ما يحتاج إليها مطلقا لافتقاره من وجه وعدم افتقاره من وجه آخر. وله أصول ولكل منها فروع فأصوله أربعة: الهندسة والهيئة والحساب والموسيقى وذلك لأن

موضوعه الكم. وهو إما متصل أو منفصل. والأول متحرك أو ساكن فالمتحرك هو: الهيئة والساكن هو: الهندسة. والثاني: إما أن يكون له نسبة تأليفة أو لا. فالأول هو: الموسيقى. والثاني هو: الحساب وفروعه ستة: الأول: علم الجمع والتفريق. الثاني: علم الجبر والمقابلة. الثالث: علم المساحة. الرابع: علم جر الأثقال. الخامس: علم الزيجات والتقاويم. السادس: علم الأرغنوة وهو اتخاذ الآلات الغريبة. قال صاحب كشاف اصطلاحات الفنون الرياضي علم بأحوال ما يفتقر في الوجود الخارجي دون التعقل إلى المادة كالتربيع والثتليث والتدوير والكروية والمخروطية والعدد وخواصه فإنها أمور تفتقر إلى المادة في وجودها لا حدودها ويسمى: بالحكمة الوسطى. وقد اختلف قدماء الفلاسفة في ترجيح أحد من الرياضي والطبعي على الآخر في الشرف والفضل وكل قد مال إلى طرف بحجج مذكورة فيما بينهم والحق أن الحكم بجزم فضيلة أحدهما على الآخر غير سديد بل كل واحد أفضل من الآخر من وجه. فالطبعي أفضل من الرياضي من جهة أن موضوعه جسم طبعي وهو جوهر والرياضي موضوعه كم وهو عرض والجواهر أشرف من العرض وأيضا الطبعي في الأغلب معطي اللم والرياضي الآن ومعطي اللم أفضل وأيضا هو يشتمل على علم النفس وهو أم الحكمة وأصل الفضائل. والرياضي أفضل من الطبعي من جهة أن الأحوال الوهمية والخيالية غير متناهية القسمة فهناك لا تقف عند حد فهو أفضل مما هو محصور بين الحواصر. وأيضا الأمور الرياضية أصفى وألطف وألذ وأتم عن الأمور المكدرة الجسمانية وأيضا يقل التشويش والغلط في براهينه العددية والهندسية بخلاف الطبعي بل الإلهي ومن أجل ذلك قيل: إدراك الإلهي والطبعي من جهة ما هو أشبه وأحرى لا باليقين كذا في الصدر انتهى حاصله. علم رياضة النفس وتهذيب الأخلاق قال في مدينة العلوم: الخلق عبارة عن هيئة راسخة للنفس تصدر عنها الأفعال المحمودة بسهولة من غير حاجة إلى فكر وروية فإن صدر عنها الأفعال المحمودة عقلا وشرعا كذلك يسمى: خلقا حسنا وإن صدر عنها الأفعال الذميمة عقلا وشرعا كذلك. ويسمى: خلقا سيئا وقد ثبت بالأدلة العقلية والنقلية تغيير الأخلاق السيئة إلى الأخلاق الحسنة. وقد دلت الشواهد النقلية والتجارب الحسية على أن ذلك التغيير لا يمكن إلا برياضة النفس وتلك

الرياضة ليست في شريعتنا هذه إلا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن ذلك إلا بمجاهدات ورياضات يعرفها أهلها ويشعر بها أهل السلوك وليس هذا المختصر موضع تفصيلها انتهى. علم الريافة وهو: معرفة استبناط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده. فيعرف بعده وقربه بشم التراب أو برائحة النباتات فيه أو بحركة حيوان مخصوص وجد فيه فلا بد لصاحبه من حس كامل وتخيل قوي شامل ونفع هذا العلم بين وهو من فروع الفراسة من جهة معرفة وجود الماء والهندسة من جهة الحفر وإخراجه إلى وجه الأرض.

باب الزاء المعجمة

باب الزاء المعجمة علم الزائرجة هو: من القوانين الصناعية لاستخراج الغيوب المنسوبة إلى العالم المعروف: بأبي العباس أحمد السبتي وهو من أعلام المتصوفة بالمغرب كان في آخر المائة السادسة بمراكش وبعهد يعقوب بن منصور من ملوك الموحدين وهي كثيرة الخواص يولعون باستفادة الغيب منها بعملها وصورتها التي يقع العمل عندهم فيها دائرة عظيمة في داخلها دوائر متوازنها للأفلاك والعناصر وللمكونات والروحانيات إلى غير ذلك من أصناف الكائنات الموجودات والعلوم وكل دائرة منها مقسومة بانقسام فلكها إلى البروج والعناصر وغيرهما وخطوط كل منها مارة إلى المركز ويسمونها: الأوتار وعلى كل وتر حروف متتابعة موضوعة فمنها أعداد مرسومة برسوم الزمام التي هي من أشكل الأعداد عند أهل الدواوين والحساب بالمغرب. ومنها برسوم قلم الغبار متناسقة كلها مع تلك الحروف وفي داخل الزايرجة وبين الدوائر أسماء العلوم ومواضع الأكوان وعلى ظهور الدوائر جدول مستكفي البيوت المتقاطعة طولا وعرضا يشتمل على خمسة وخمسين بيتا في العرض ومائة وإحدى وثلاثين في الطول جوانب منه معمورة البيوت تارة بالعدد وأخرى بالحروف ومن جوانب أخرى منه خالية البيوت ولا يعلم نسبة تلك الأعداد في أوضاعها نسبة البيوت العامرة من الخالية وجانبي الزائرجة أبيات من عروض بحر الطويل الكامل على روي اللام المنصوبة تتضمن صورة العمل في استخراج المطلوب من تلك الزائرجة إلا أنها من قبيل اللغز في عدم الوضوح ومستعجمة غير جلية. فإذا أرادوا استخراج الجواب عما يسألون عنه أحضروا آلة الاصطرلاب لأخذ الارتفاع واستخراج الطالع فإذا علموا درجة من البرج أحصوه وأخذوا أس ذلك البرج في تلك الزائرجة وسموه: سلطان الطالع. ثم يعملون بعضا من الأعمال المتداولة بينهم المعروفة عندهم حتى يخرجون حروفا مقطعة إذا ركبت يخرج منها بيت منظومة على الوزن والروي الذي لأبيات القصيدة المرسومة مع الجدول. وقد يزعم بعضهم أنه يخرج منها أبيات أكثر من واحد وعلى أعاريض أخرى ولا بد عندهم لمن أحكم العمل بهذا القانون أن يخرج له الجواب عن سؤاله منظوما مفهوما وقد يكون مستغلقا على الفهم

لقصور الملكة في العمل بذلك القانون وهي من الأعمال الغريبة في استخراج الأجوبة. قال في الكشف: وفي بعض جوانب الزائرجة بيت من الشعر منسوب إلى بعض أكابر أهل الحذاقة بالمغرب وهو مالك بن وهيب الذي كان من علماء إشبيلية في الدولة اللمتونية والبيت هذا: سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذا ... غرائب شك ضبطه الجد مثلا وفيه استخراج الجواب لما سئل عنه من المسائل على قانونه. وذلك إنما وقع من مطابقة الجواب للسؤال لأن الغيب لا يدرك بأمر صناعي البتة. وإنما المطابقة فيها بين الجواب والسؤال من حيث الإفهام ووقوع ذلك بهذه الصناعة في تكسير الحروف المجتمعة من السؤال والأوتار غير مستنكر وقد وقع اطلاع بعض الأذكياء على التناسب فحصل به معرفة المجهول منها بالتناسب بين الأشياء وهو سر الحضور على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس بطريق حصوله سيما الرياضة فإنها تفيد العقل زيادة ولذلك ينسبون الزائرجة إلى أهل الرياضة في الغالب. وزائرجة منسوبة إلى سهل بن عبد الله أيضا وهي من الأعمال الغريبة. في تاريخ ابن خلدون وهي غريبة العمل وصنعة عجيبة وكثير من الخواص يعملون بها بإفادة الغيب وحلها صعب على الجاهل انتهى. وعبارة مدينة العلوم: مبنى هذا العلم هو أنهم يدعون أن العالم كله بما فيه من كلي وجزئي علوا وسفلا أفلاكا وعناصر ذواتا ومعاني ألفاظا وحروفا وأسماء وأفعالا متناسبة كلها على مقادير مقدرة ومرتبط بعضها ببعض ارتباطا غير منفصل. ومن ذلك السؤال والجواب في ألفاظها وحروفها ومعانيها. قال الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون في كتابه المسمى بعنوان العبر وديوان المبتدأ والخبر: إن الناس افترقوا في هذا العلم فرقتين. لأن منهم: المولعون به منها لكون في أحكام العمل بقانونه يعتقدون استخراج الغيوب بذلك القانون وعمله. وآخرون: مذعنون بإنكاره ويزعمون أن العمل بقانونه غير صحيح في نفسه وأنه من الحيل ظنا منهم أن صاحب ذلك العمل يعد البيت منظوما ويخبر به جوابا عن السؤال فيطير به الغراب كل مطار ثم قال: والحق أن مبنى هذا العلم كما مر على مراعاة التناسب بين الأمور المذكورة فيمكن أن يرفع الله - سبحانه وتعالى - الحجاب عن عقول بعض عباده فيطلع على وجه التناسب بينها فيقف على بعض الأمور الكائنة في عالم الملك ومع ذلك لا يمكن للبشر أن يطلع على علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه إذ التناسب بين العلم الرباني الذي من عالم الملكوت وبين عالم الملك بعيد فكيف يندرج تحت هذا القانون الذي مبناه على التناسب بين الكائنات في عالم الملك فالقوانين والصناعة لا توصل إلى معرفة الغيب بوجه من الوجوه والله يعلم وأنتم لا تعلمون انتهى. علم الزهد والورع قال في مدينة العلوم: الزهد: الإعراض عن الدنيا.

والورع: ترك الحلال خوفا من الوقوع في الشبهات. وقيل الزهد: ترك الشبهات خوفا من الحرام وكتب الشيخ الإمام العلامة الغزالي - رحمه الله - تعالى نافعة في هذا العلم. علم الزيج هكذا في كشف الظنون ولم يزد عليه والزيجات كثيرة ذكرها صاحب الكشف فمن شاء فليرجع إليه وقد تقدم في الألف في علم الأزياج. قال في مدينة العلوم: علم الزيجات والتقاويم: علم يتعرف منه مقادير حركات الكواكب سيما السبعة السيارة وتقويم حركاتها وإخراج الطوالع وغير ذلك منتزعا من الأصول الكلية ومنفعته: معرفة الاتصالات من الكواكب من المقارنة والمقابلة والتربيع والتثليث والتسديس والخسوف والكسوف وما يجري في هذا المجرى. وقال في كشاف اصطلاحات الفنون: منفعته معرفة موضع كل واحد من الكواكب السبعة بالنسبة إلى فلكه وإلى فلك البروج وانتقالاتها ورجوعها واستقامتها وتشريقها وتغريبها وظهورها واختفائها في كل زمان ومكان وما أشبه ذلك من اتصال بعضها ببعض وكسوف الشمس وخسوف القمر وما يجري هذا المجرى انتهى. والغرض منه أمران: أحدهما: ما ينتفع به في الشرع وهو: معرفة أوقات الصلوات وسمت القبلة والساعات وأحوال الشفق والفجر. وثانيهما: معرفة الأحكام الجارية في عالم العناصر وهذه المعرفة لكونها مبنية على أمور واهية ودلائل ضعيفة لا تفيد شبهة فضلا عن حجة ولهذا لا يعتد بها في الشرع والذي يصح منها في بعض الأوقات فإنما هو بطريق الاتفاق وذلك لا يدل على الصحة. وأنفع الزيجات الأيلخاني الذي تولاه خواجه نصير الدين الطوسي. وأتقنها زيج الغ بيك بن شاهرخ مرزا ابن أمير تيمور وقد تولاه بسمرقند غياث الدين جمشيد وتوفاه الله تعالى في مبادئ أحواله ثم تولاه قاضي زاده الرومي وتوفاه الله تعالى أيضا قبل إتمامه وإنما أتمه وأكمله علي بن محمد القوشجي. وأهل مصر يعتنون بالزيج المصطلح. وأهل الشام يعتنون بزيج ابن شاطر. والزيجات غير ما ذكر كثيرة يعرفها أهلها انتهى ما في مدينة العلوم للأرنيقي رحمه الله.

باب السين المهملة

باب السين المهملة علم السباحة هذا من فروع علم الملاحة وأنه يحصل بالمزاولة والإدمان وأكثر ما يحتاج إليه الملاحون كذا في مدينة العلوم.

ورأيت أشخاصا لهم يد طولي في هذا العلم ولها أنواع كثيرة منها: السباحة في الأبحار والأنهار قائما ومنها: قاعدا ومنها: مستلقيا على الظهر إلى غير ذلك من الصور التي يعرفها أهلها. والأصل في معرفة هذا العلم دون المعرفة الساذجة. علم السجلات والشروط وهذا باعتبار اللفظ من فروع علم الإنشاء وباعتبار مدلوله من فروع علم الفقه. وهو: علم يبحث فيه عن إنشاء الكلمات المتعلقة بالأحكام الشرعية. وموضوعه ومنفعته ظاهرة. ومباديه: علم الإنشاء وعلم الفقه. وله استمداد من العرف. والكتب في هذا الفن كثيرة يجدها من يطلبها كذا في مدينة العلوم وسيأتي أيضا في باب الشين المعجمة إن شاء الله تعالى. علم السحر هو: علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأشياء خفية قاله في كشاف اصطلاحات الفنون. وفي كشف الظنون: هو ما خفي سببه وصعب استنابطه لأكثر العقول. وحقيقته: كل ما سحر العقول وانقادت إليه النفوس بخدعة وتعجب واستحسان فتميل إلى إصغاء الأقوال والأفعال الصادرة عن الساحر. فعلى هذا التقدير هو: علم باحث عن معرفة الأحوال الفلكية وأوضاع الكواكب وعن ارتباط كل منها مع الأمور الأرضية من المواليد الثلاثة على وجه خاص ليظهر من ذلك الارتباط والامتزاج عللها وأسبابها وتركيب الساحر في أوقات المناسبة من الأوضاع الفلكية والأنظار الكوكبية بعض المواليد ببعض فيظهر ما جل أثره وخفي سببه من أوضاع عجيبة وأفعال غريبة تحيرت فيها العقول وعجزت عن حل خفاها أفكار الفحول. أما منفعة هذا: العلم فالاحتراز عن عمله لأنه محرم شرعا إلا أن يكون لدفع ساحر يدعي النبوة فعند ذلك يفترض وجود شخص قادر لدفعه بالعمل ولذلك قال بعض العلماء: إن تعلم السحر فرض كفاية وإباحة الأكثرون دون عمله إلا إذا تعين لدفع المتنبي. واختلف الحكماء في طرق السحر: فطريق الهند: بتصفية النفس وطريق النبط: بعمل العزائم في بعض الأوقات المناسبة. وطريق اليونان: بتسخير روحانية الأفلاك والكواكب. وطريق العبرانيين والقبط والعرب: بذكر بعض الأسماء المجهولة المعاني فكأنه قسم من العزائم زعموا أنهم سخروا الملائكة القاهرة للجن.

فمن الكتب المؤلفة في هذا الفن: الإيضاح للأندلسي والبساطين لاستخدام الأنس وأرواح الجن والشياطين وبغية الناشد ومطلب القاصد على طريقة العبرانيين والجمهرة أيضا ورسائل أرسطو إلى الإسكندر وغاية الحكيم للمجريطي وكتاب طيماؤس وكتاب الوقوفات للكواكب على طريقة اليونانيين وكتاب سحر النبط لابن وحشية وكتاب العمي على طريقة العبرانيين ومرآة المعاني في إدراك العالم الإنساني على طريقة الهند انتهى ما في كشف الظنون وفي تاريخ ابن خلدون علم السحر والطلسمات هو: علم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية والأول هو: السحر والثاني: هو الطلسمات. ولما كانت هذه العلوم مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره كانت كتبها كالمفقود بين الناس إلا ما وجد في كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السلام مثل: النبط والكلدانيين فإن جميع من تقدمه من الأنبياء لم يشرعوا الشرائع ولا جاؤوا بالأحكام إنما كانت كتبهم مواعظ توحيد الله وتذكير بالجنة والنار وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين وفي أهل مصر من القبط وغيرهم وكان لهم فيها التأليف والآثار ولم يترجم لنا من كتبهم فيها إلا القليل مثل: الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل: مصاحف الكواكب السبعة وكتاب طمطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرهم. ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فتصفح كتب القوم واستخرج الصناعة وغاص على زبدتها واستخرجها ووضع فيها غيرها من التآليف وأكثر الكلام فيها وفي صناعة السيمياء لأنها من توابعها لأن إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى إنما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية فهو من قبيل السحر ثم جاء مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فلخص جميع تلك الكتب وهذبها وجمع طرقها في كتابه الذي سماه غاية الحكيم ولم يكتب أحد في هذا العلم بعده ولنقدم هنا مقدمة يتبين بها حقيقة السحر وذلك أن النفوس البشرية وإن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواص وهي أصناف كل صنف مختص بخاصية واحدة بالنوع لا توجد في الصنف الآخر وصارت تلك الخواص فطرة وجبلة لصنفها. فنفوس الأنبياء عليهم السلام لها خاصية تستعد بها للمعرفة الربانية ومخاطبة الملائكة عليهم السلام عن الله - سبحانه وتعالى - كما مر وما يتبع ذلك من التأثير في الأكوان واستجلاب روحانية الكواكب للتصرف فيها والتأثير بقوة نفسانية أو شيطانية. فأما تأثير الأنبياء فمدد إلهي وخاصية ربانية ونفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات بقوى شيطانية وهكذا كل صنف مختص بخاصية لا توجد في الآخر. والنفوس الساحرة على مراتب ثلاثة يأتي شرحها: فأولها: المؤثرة بالهمة فقط من غير إله ولا معين وهذا هو الذي تسميه الفلاسفة: السحر. والثاني: بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد ويسمونه: الطلسمات وهو أضعف رتبة من الأول.

والثالث: تأثير في القوى المتخيلة يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف ويلقي فيها أنواعا من الخيالات والمحاكات وصورا مما يقصده من ذلك ثم ينزلها إلى الحسن من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه فينظر الراؤون كأنها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك كما يحكي عن بعضهم أنه يرى البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك ويسمى هذا عند الفلاسفة: الشعوذة أو الشعبذة هذا تفصيل مراتبه. ثم هذه الخاصية تكون في الساحرة بالقوة شأن القوى البشرية كلها وإنما تخرج إلى الفعل بالرياضة ورياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلل فهي لذلك وجهه إلى غير الله وسجود له والوجهة إلى غير الله كفر فلهذا كان السحر كفرا والكفر من مواده وأسبابه كما رأيت ولهذا اختلف الفقهاء في قتل الساحر هل هو لكفره السابق على فعله أو لتصرفه بالإفساد وما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان والكل حاصل منه. ولما كانت المرتبتان الأوليان من السحر لهما حقيقة في الخارج والمرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو إنما هو تخييل؟ فالقائلون بأن له حقيقة: نظروا إلى المرتبتين الأوليين. والقائلون بأن لا حقيقة له: نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر بل إنما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب والله أعلم. واعلم أن وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه وقد نطق به القرآن قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . وسحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله وجعل سحره في مشط ومشاقة وجف طلعة ودفن في بئر ذروان فأنزل الله عز وجل عليه في المعوذتين {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} . قالت عائشة رضي الله عنها: فكان لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت. وأما وجود السحر في أهل بابل وهم الكلدانيون من النبط والسريانيون فكثير ونطق به القرآن وجاءت به الأخبار وكان للسحر في بابل ومصر زمان بعثه موسى عليه السلام أسواق نافقة ولهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون ويتناغون فيه وبقي من آثار ذلك في البرابي بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك ورأينا بالعيان من يصور صورة الشخص المسحور بخواص أشياء مقابلة لما نواه وحلوله موجودة بالمسحور وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التأليف والتفريق ثم يتكلم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عينا أو معنى ثم ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء ويعقد على ذلك المعنى في سبب أعده لذلك تفاؤلا بالعقد واللزام وأخذ العهد على من أشرك به من الجن في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة ولتلك البنية والأسماء السيئة

روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلقة بريقه الخارج من فيه بالنفث فتنزل عنها أرواح خبيثة ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر. وشاهدنا أيضا من المنتحلين للسحر عمله من يشير إلى كساء أو جلد ويتكلم عليه في سره فإذا هو مقطوع مترف ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض. وسمعنا أن بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتت قلبه ويقع ميتا وينقب عن قلبه فلا يوجد في حشاه ويشير إلى الرمانة وتفتح فلا يوجد من حبوبها شيء. وكذلك سمعنا أن بأرض السودان وأرض الترك من يسحر السحاب فيمطر الأرض المخصوصة. وكذلك رأينا من عمل الطلسمات عجائب في الأعداد المتحابة وهي رك رف د أحد العددين مائتان وعشرون والآخر مائتان وأربعة وثمانون. ومعنى المتحابة: أن أجزاء كل واحد التي فيه من نصف وثلث وربع وسدس وخمس وأمثالها إذا جمع كان مساويا للعدد الآخر صاحبه فيسمى لأجل ذلك: المتحابة. ونقل أصحاب الطلسمات: أن لتلك الأعداد أثرا في الإلفة بين المتحابين واجتماعهما إذا وضع لهما مثالان أحدهما بطالع الزهرة وهي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودة وقبول ويجعل طالع الثاني سابع الأول ويضع على أحد التمثالين أحد العددين والآخر على الآخر ويقصد بالأكثر الذي يراد ائتلافه أعني المحبوب ما أدري الأكثر كمية أو الأكثر أجزاء فيكون لذلك من التأليف العظيم بين المتحابين ما لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر قاله صاحب الغاية وغيره من أئمة هذا الشأن وشهدت له التجربة. وكذا طابع الأسد ويسمى أيضا: طابع الحصى وهو أن يرسم في قالب هذا الطابع صورة أسد شائلا ذنبه عاضا على حصاة قد قسمها بنصفين وبين يديه صورة حية منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها إلى فيه وعلى ظهره صورة عقرب تدب ويتحين برسمه حلول الشمس بالوجه الأول أو الثالث من الأسد بشرط صلاح النيرين وسلامتهما من النحوس فإذا وجد ذلك وعثر عليه طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذهب وغمس بعد في الزعفران محلولا بماء الورد ورفع في خرقة حرير صفراء فإنهم يزعمون أن لممسكه من العز على السلاطين في مباشرتهم وخدمتهم وتسخيرهم له ما لا يعبر عنه وكذلك السلاطين فيه من القوة والعز على من تحت أيديهم ذكر ذلك أيضا أهل هذا الشأن في الغاية وغيرها وشهدت له التجرية. وكذلك وفق المسدس المختص بالشمس ذكروا أنه يوضع عند حلول الشمس في شرفها وسلامتها من النحوس وسلامة القمر بطالع ملوكي يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطالع نظر مودة وقبول ويصلح فيه ما يكون في مواليد الملوك من الأدلة الشريفة ويرفع خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطيب فزعموا أنه له أثرا في صحابة الملوك وخدمتهم ومعاشرتهم وأمثال ذلك كثيرة. وكتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطي هو مدون هذه الصناعة وفيه استيفاؤها وكمال مسائلها.

وذكر لنا1 أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتابا في ذلك وسماه: بالسر المكتوم وإنه بالمشرق يتداوله أهله ونحن لم نقف عليه والإمام لم يكن من أئمة هذا الشأن فيما نظن ولعل الأمر بخلاف ذلك وبالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين وهم الذين ذكرت أولا أنهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فتنبعج ويسمى أحدهم لهذا العهد باسم: البعاج لأن أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام يرتب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم متسترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكام لقيت منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك وأخبروني أن لهم وجهة ورياضة خاصة بدعوات كفرية وإشراك روحانيات الجن والكواكب سطرت فيها صحيفة عندهم تسمى الخزيرية يتدارسونها وإن بهذه الرياضة والوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم وإن التأثير الذي لهم إنما هو فيما سوى الإنسان الحر من المتاع والحيوان والرقيق يعبرون عن ذلك بقولهم: إنما انفعل فيما تمشي فيه الدراهم أي: ما يملك ويباع ويشترى من سائر الممتلكات هذا ما زعموه وسألت بعضهم فأخبرني به. وأما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفنا على الكثير منها وعاينتها من غير ريبة في ذلك هذا شأن السحر والطلسمات وآثارهما في العالم فأما الفلاسفة ففرقوا بين السحر والطلسمات بعد أن أثبتوا أنهما جميعا أثر للنفس الإنسانية واستدلوا على وجود الأثر للنفس الإنسانية بأن لها آثارا في بدنها على غير المجرى الطبعي وأسبابه الجسمانية بل آثار عارضة من كيفيات الأرواح تارة كالسخونة الحادثة عن الفرح والسرور من جهة التصورات النفسانية أخرى كالذي يقع من قبل التوهم فإن الماشي على حرف حائط أو على حبل منتصب إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك ولهذا تجد كثيرا من الناس يعودون أنفسهم ذلك حتى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب ولا يخافون السقوط فثبت أن ذلك من آثار النفس الإنسانية وتصورها للسقوط من أجل الوهم وإذا كان ذلك أثرا للنفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانية الطبيعية فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النوع من التأثير واحدة لأنها غير حالة في البدن ولا منطبعة فيه فثبت أنها مؤثرة في سائر الأجسام. وأما التفرقة عندهم بين السحر والطلسمات فهو: أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى معين وصاحب الطلسمات يستعين بروحانيات الكواكب وأسرار الأعداد وخواص الموجودات وأوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر كما يقوله المنجمون. ويقولون: السحر اتحاد روح بروح.

_ 1 أقول: السر المكتوم في مخاطبة النجوم للإمام فخر الدين محمود بن عمر الرازي المتوفى سنة ست وثلاثين وخمسمائة قيل أنه مختلق عليه فلم يصحح أنه له وبتقدير نسبته إليه ليس بسحر فليتأمله من يحسن السحر. قاله التاج السبكي في هامش هذا الكتاب وعليه رد للشيخ زين الدين سريحا بن محمد الملطي المتوفي سنة ثمان وثمانين وسبعمائة سماه "انقضاض البازي في قصاص الرازي" وقد رأيت في كتاب أنه للحوالي أبي الحسن علي بن أحمد المغربي والله أعلم. قال الذهبي في الميزان أن له كتاب أسرار النجوم سحر صريح، كذا في كشف الظنون حكيم مغز الدين خالص فوري متوسل الرياسة سلمه الله تعالى.

والطلسم: اتحاد روح بجسم. ومعناه عندهم: ربط الطبائع العلوية السماوية بالطبائع السفلية. والطبائع العلوية هي: روحانيات الكواكب ولذلك يستعين صاحبه في غالب الأمر بالنجامة. والساحر عندهم: غير مكتسب لسحره بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلة المختصة بذلك النوع من التأثير. والفرق عندهم بين المعجزة والسحر أن المعجزة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك والساحر إنما يفعل ذلك من عند نفسه وبقوته النفسانية وبإمداد الشياطين في بعض الأحوال. فبينهما الفرق في المعقولية والحقيقة والذات في نفس الأمر وإنما نستدل نحن على التفرقة بالعلامات الظاهرة وهي: وجود المعجزة لصاحب الخير وفي مقاصد الخير وللنفوس المتمحضة للخير والتحدي بها على دعوى النبوة والسحر إنما يوجد لصاحب الشر وفي أفعال الشر في الغالب من التفريق بين الزوجين وضرر الأعداء وأمثال ذلك وللنفوس المتمحضة للشر هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيين وقد يوجد لبعض المتصوفة وأصحاب الكرامات تأثير أيضا في أحوال العالم وليس معدودا من جنس السحر وإنما هو بالإمداد الإلهي لأن طريقتهم ونحلتهم من آثار النبوة وتوابعها ولهم في المدد الإلهي حظ على قدر حالهم وإيمانهم وتمسكهم بكلمة الله وإذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشر فلا يأتيها لأنه متقيد فيما يأتيه ويذره للأمر الإلهي فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه ومن أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحق وربما سلب حاله. ولما كانت المعجزة بإمداد روح الله والقوى الإلهية فلذلك لا يعارضها شيء من السحر وانظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقفت ما كانوا يأفكون وذهب سحرهم واضمحل كأن لم يكن وكذلك لما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعوذتين {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قالت عائشة رضي الله عنها: فكان لا يقرؤها على عقدة من العقد التي سحر فيها إلا انحلت فالسحر لا يثبت مع اسم الله وذكره. وقد نقل المؤرخون أن زركش كاويان وهي راية كسرى كان فيه الوفق المئيني العددي منسوجا بالذهب في أوضاع فلكية رصدت لذلك الوفق ووجدت الراية يوم قتل رستم بالقادسية واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس وشتاتهم وهو الطلسمات والأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب وإن الراية التي يكون فيها أو معها لا تنهزم أصلا إلا أن هذه عارضها المدد الإلهي من إيمان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمسكهم بكلمة الله فانحل معها كل عقد سحري ولم يثبت وبطل ما كانوا يعملون. وأما الشريعة فلم تفرق بين السحر والطلسمات وجعلتهما بابا واحدا محظورا لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا وما لا يهمنا في شيء منهما فإن كان فيه ضرر ونوع ضرر كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع يلحق به الطلسمات لأن أثرهما واحد وكالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله تعالى

فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضرر وإن لم يكن مهما علينا ولا فيه ضرر فلا أقل من أن تركه قربة إلى الله فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات والشعوذة بابا واحدا لما فيها من الضرر وخصته بالحظر والتحريم. وأما الفرق عندهم بين المعجزة والسحر: فالذي ذكره المتكلمون أنه راجع إلى التحدي وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه قالوا: والساحر مصروف عن مثل هذا التحدي فلا يقع منه وقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية لأن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصادق كاذبا وهو محال فإذا لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق. وأما الحكماء: فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه فرق ما بين الخير والشر في نهاية الطرفين فالساحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل في أسباب الخير وصاحب المعجزة لا يصدر منه الشر ولا يستعمل في أسباب الشر فكأنهما على طرفي النقيض في أصل فطرتهم والله يهدي من يشاء وهو القوي العزيز لا رب سواه. ومن قبيل هذه التأثيرات النفسانية الإصابة بالعين وهو تأثير من نفس المعيان عندما يستحسن بعينه مدركا من الذوات أو الأحوال ويفرط في استحسانه وينشأ عن ذلك الاستحسان حينئذ أنه يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به فيؤثر فساده وهو جبلة فطرية أعني هذه الإصابة بالعين. والفرق بينها وبين التأثيرات وإن كان منها ما لا يكتسب أن صدورها راجع إلى اختيار فاعلها والفطري منها قوة صدروها لا نفس صدروها ولهذا قالوا: القاتل بالسحر أو بالكرامة يقتل والقاتل بالعين لا يقتل وما ذلك إلا لأنه ليس مما يريده ويقصده أو يتركه وإنما هو مجبور في صدوره عنه والله أعلم بما في الغيوب ومطلع على ما في السرائر انتهى كلام ابن خلدون ومن عينه نقلت هنا وفي كل موضع من هذا الكتاب والله تعالى الموفق للحق والصواب. علم السلوك هو: معرفة النفس ما لها وما عليها من الوجدانيات ويسمى: بعلم الأخلاق وبعلم التصوف أيضا وفي مجمع السلوك وأشرف العلوم علم الحقائق والمنازل والأحوال وعلم المعاملة والإخلاص في الطاعات والتوجه إلى الله تعالى من جميع الجهات. ويسمى هذا العلم: بعلم السلوك. فمن غلط في علم الحقائق والمنازل والأحوال المسمى: بعلم التصوف فلا يسأل عن غلطه إلا عالما منهم كامل العرفان ولا يطلب ذلك من البزدوي والهداية والوقاية وغير ذلك وعلم الحقائق ثمرة العلوم كلها وغايتها فإذا انتهى السالك إلى علم الحقائق وقع في بحر لا ساحل له وهو أي علم الحقائق علم القلوب وعلم المعارف وعلم الأسرار ويقال له علم الإشارة. وموضوعه: أخلاق النفس إذ يبحث فيه عن عوارضها الذاتية مثلا حب الدنيا في قولهم: حبا الدنيا رأس كل خطيئة خلق من أخلاق النفس حكم عليه بكونه رأس الخطايا ورأس الأخلاق الرذيلة التي تضرر بسببها النفس وكذا الحال في قولهم: بغض الدنيا رأس الحسنات وغرضه التقرب والوصول إلى الله

تعالى انتهى ما في كشاف اصطلاحات الفنون وتقدم الكلام على هذا العلم في باب التاء الفوقانية تحت علم التصوف فلا نعيده. علم السماء والعالم هو من أصول الطبعي وهو: علم يبحث فيه عن أحوال الأجسام التي هي أركان العالم وهي السموات وما فيها والعناصر الأربعة من حيث طبائعها وحركاتها ومواضعها وتعرف الحكمة في صنعها وترتيبها وموضوعه: الجسم المحسوس ومن حيث هو معرض للتغير في الأحوال والثبات فيها ويبحث فيه عما يعرض له من حيث هو كذلك كذا في التلويح وقيد الحيثية احترازا عن علم الهيئة. علم السياسية اقتصر صاحب كشف الظنون على ذلك ولم يزد عليه. قال في مدينة العلوم: هو: علم يعرف منه أحوال السياسات والاجتماعات المدنية وأحوالها مثل أحوال السلاطين والملوك والأمراء وأهل الإحستاب والقضاة والعلماء وزعماء الأموال ووكلاء بيت المال وما يجري مجرى هؤلاء. وموضوعه: المراتب المدنية وأحكامها. ومنفعته: معرفة الاجتماعات المدينة الفاضلة والمراد به وجه استيفاء كل واحد منها ودفع علل زوالها وجهات انتقالها ومن أعظم أسباب انتقال الدولة الإخلال بركن من أركان الشريعة وقواعد العمارات وكتاب السياسة الذي أرسله أرسطاطاليس إلى الإسكندر يشتمل على مهمات هذا العلم وكتاب آراء المدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي جامع لقوانينه. ومن الكتب الجامعة لهذه العلوم الثلاثة كتاب الأخلاق الناصرية لنضير الدين الطوسي وكتاب الأخلاق الجلالية لجلال الدين الدواني. ومن الكتب1 المختصرة الجامعة لأصول هذه الفنون الثلاثة: رسالة مولانا عضد الدين وشرحها تلميذه مولانا شمس الدين الكرماني وقد شرحها شرحا جامعا في عنفوان الشباب فعاد بحمد الله نافعا في هذا الباب انتهى. وأقول فيه كتاب السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه مختصر وجدته في مكة المكرمة واستنسختها بيدي لنفسي ولمن أخلفه وهو موجود في دار الكتب لي والله الحمد. وترجمه بير محمد بن علي العاشق لإعلام حاله إلى السلطان سليم خان وبيان عجزه عن القضاء وسماه معراج الأيالة ومنهاج العدالة زاد فيه أشياء متعلقة بالحرب وبيت المال. وفي كتابنا إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة فصول مستقلة في هذا الباب

_ 1 ومنها كتاب الطهارة لابن مسكوية الحكيم، وقد طمع من قبل ببلدة لكنؤ، سيد علي حسن خان سلمه الله المنان.

علم السير قال في مدينة العلوم: علم سير الصحابة والتابعين من فروع المحاضرات وفيها كتاب سير الصحابة والتابعين وهو كتاب عظيم لم يعهد مثله انتهى. قال في كشف الظنون: أول من صنف فيه الإمام المعروف بمحمد بن إسحاق رئيس أهل المغازي المتوفى سنة إحدى وخمسين ومائة. فإنه جمعها ودونها أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري المتوفى سنة ثمان عشرة ومائتين فأحسن وأجاد وله كتاب في شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب. ثم اعتنى به المتأخرون فشرح الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي المتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة غريب السير وسماه الروض الأنف وهو كتاب مفيد معتبر. ونظم أبو نصر فتح بن موسى الخضراوي القصري المتوفى سنة ثلاث وستين وستمائة سيرة ابن هشام. وعبد العزيز بن أحمد المعروف بسعد الديري المتوفى في حدود سنة سبع وتسعين وستمائة وأبو إسحاق الأنصاري التلمساني على قافية اللام وفتح الدين محمد بن إبراهيم المعروف بابن الشهيد المتوفى سنة ثلث وتسعين وسبعمائة في بضع عشر ألف بيت وسماه فتح الغريب في سيرة الحبيب. وصنف علاء الدين علي بن محمد الخلاطي الحنفي المتوفى سنة ثمان وسبعمائة كتابا فيه وصنف فيه الحافظ الكبير عبد المؤمن بن خلف الدمياطي المتوفى سنة خمس وسبعمائة والشيخ ظهير الدين علي بن محمد الكازروني المتوفى سنة أربع وتسعين وستمائة وهو غير سعيد الكازروني صاحب المبتغى. وصنف الشيخ محمد بن علي بن يوسف الشافعي الشامي المتوفى سنة ستمائة كتابا في السير وشرحه قطب الدين عبد الكريم الحنبلي الحلبي المتوفى سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وسماه المورد العذب الهني في الكلام على سيرة عبد الغني ومختصر سيرة ابن هشام البرهان إبراهيم بن محمد بن المرحل وزاد عليه أمورا ورتبه على ثمانية عشر مجلسا وسماه الذخيرة في مختصر السيرة وممن صنف في السير ابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي المتوفى سنة ثلاثين وستمائة في ثلاث مجلدات وسيرة مغلطائي لخصها قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة خمس وخمسين وثمانمائة وشرح منها قطعة كبيرة العلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفى سنة خمس وخمسين وثمانمائة وسماه كشف اللثام. وصنف الشيخ عز الدين بن عمر بن جماعة الكناني مختصرا في السير أوله أما بعد حمد الله على جزيل أفضاله. علم السيميا اعلم أنه قد يطلق هذا الاسم على ما هو غير الحقيقي من السحر وهو المشهور. وحاصله إحداث مثالات خيالية في الجو لا وجود لها في الحس وقد يطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحس فحينئذ يظهر بعض الصور في جوهر الهواء فتمول سريعة لسرعة تغير جوهر الهواء ولا مجال لحفظ ما يقبل من الصورة في زمان طويل لرطوبته فيكون سريع القبول وسريع الزوال.

وأما كيفية إحداث تلك الصور وعللها فأمر خفي لا اطلاع عليه إلا لأهله وليس المراد وصفه وتحقيق ههنا بل المقصود هنا الكشف وإزالة الالتباس عن أمثاله. وحاصله ومجمله أن يركب الساحر أشياء من الخواص والأدهان أو المانعات أو كلمات خاصة توجب بعض تخيلات خاصة كدارك الحواس بعض المأكول والمشروع وأمثاله ولا حقيقة له. وفي هذا الباب حكايات كثيرة عن ابن سينا والسهروردي المقتول انتهى ما في كشف المظنون وأطال ابن خلدون في بيان هذا العلم إلى أوراق لسنا بصدد نقله في هذا الموضع. قال: في المدينة ومن جملة ما حكى الأوزاعي عن يهودي لحقه في السفر وأنه أخذ ضفدعا فسحرها بطريقة علم السيميا حتى صارت خنزيرا فباعها من قوم من النصارى فلما صاروا إلى بيوتهم عاد ضفدعا فلحقوا اليهودي وهو مع الأوزاعي فلما قربوا منه رأوا رأسه قد سقط ففزعوا وولوا هاربين وبقي الرأس يقول للأوزاعي: يا أبا عمرو هل غابوا إلى أن بعدوا عنه فصار الرأس في الجسد. هذا ما حكاه ابن السبكي في رسالته معيد النعم ومبيد النقم. ومنفعة هذا العلم وغرضه ظاهران جدا ولفظ سيميا عبراني معرب أصله سيم يه ومعناه: اسم الله وأما المقالات السبع عشرة للحلاج فإنما هي على سبيل الرمز وللشيخ ابن سينا أمور غريبة تنقل عنه في هذا العلم وكذا للشيخ شهاب الدين السهروردي المقتول انتهى. وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مؤلفاته أن الحلاج كان من الساحرين المشعبذين ولم يكن من أولياء الله تعالى كما زعم جماعة من الصوفية والله أعلم وعلمه أتم.

باب الشين المعجمة

باب الشين المعجمة علم الشامات والخيلان هكذا في كشف الظنون ولم يزد على ذلك قال في مدينة العلوم: هو علم باحث عن أحوال العلامات المذكورة بحسب دلالتها على الأحوال الباطنة والأخلاق الموجودة في الإنسان بحسب الفطرة وقد صنف فيه بعض الحكماء رسائل لكنها قليلة الوجود جدا انتهى. علم شرح الحديث هو: من فروع الحديث اعتنى العلماء بجمع حديث الأربعين وشرحه لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة كنت له شفيعا يوم القيامة". وفي رواية: "من حمل عني من أمتي أربعين حديثا لقي الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالماً". وفي رواية: "من تعلم أربعين حديثا ابتغاء وجه الله تعالى ليعلم به أمتي في حلالهم وحرامهم حشره الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة عالما. انتهى ما في كشف الظنون أقول وهذا الحديث من جميع طرقه ضعيف عند محققي أهل الحديث لا يعتمد عليه ولا يصير إليه إلا من لم يرسخ في علم الحديث قدمه. وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ولا يختص شرح الحديث بشرح أربعين حديثا بل كل من شرح

كتابا من كتب السنة المطهرة وأتى بما ينبغي له وقضى حقه فقد شرح الحديث كما فعلنا في مسك الختام شرح بلوغ المرام وفي عون الباري لحل أدلة البخاري وكما فعل قبلنا جماعة من الأئمة الحفاظ يطول ذكرهم. منها فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ الإمام الحجة ابن حجر العسقلاني. ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لشيخنا المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني رضي الله عنهما. قال في مدنية العلوم: علم شرح الحديث علم باحث عن مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديثه الشريفة بحسب القواعد العربية والأصول الشرعية بقدر الطاقة البشرية ونفعه وغايته بمكان لا يخفى على إنسان والكتب المصنفة فيه أكثر من أن تحصى. وأشهرها شروح البخاري للكرماني والبرماوي وابن الملقن والعيني والحافظ ابن حجر والكوراني والسيوطي وغير ذلك وشرح مسلم النووي والسيوطي وشروح المصابيح للخلخالي والتوريشتي ومظهر وزين العرب وغير ذلك. ومن شروح المشارق المبارق وشرح صاحب القاموس وشرح أكمل الدين وشرح ابن الملك وغير ذلك انتهى قلت: وقد استوفيت شروح الكتب الحديثة في كتابي إتحاف النبلاء تحت ذكر المتون فارجع إليه. علم الشرع هو: علم صدر عن الشرع أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود كعلم الكلام أو توقف كمال كعلم العربية والمنطق كذا قال أبو حجر المكي في شرح أربعين النووي. ومن آلات هذا العلم: علم الصرف والنحو واللغة والمعاني والبيان. والعلم الشرعي عبارة عن التفسير والحديث. وأما الفقه: فهو من علوم الدنيا والشرع ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها كتابه المنزل ونبيه المرسل الموحي إليه منه تعالى سواء كانت متعلقة بكيفية عمل وتسمى: فرعية وعملية ودون لها علم الفقه أو بكيفية الاعتقاد وتسمى: أصلية واعتقادية ودون لها علم الكلام ويسمى الشرع أيضا: بالدين والملة. فإن تلك الأحكام من حيث أنها تطاع لها دين. ومن حيث أنها تملي وتكتب ملة. ومن حيث أنها مشروعة شرع فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار لا بالذات إلا أن الشريعة والملة تضافان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى الأمة فقط استعمالا والدين يضاف إلى الله تعالى أيضاً. وقد يعبر عنه بعبارة أخرى فيقال: هو وضع إلهي يسوق ذوي العقول باختبارهم المحمود إلى الخير بالذات وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم. فإن الوضع الإلهي هو: الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء عليهم السلام. وقد يخص الشرع بالأحكام العملية الفرعية وإليه يشعر ما في شرح العقائد النسفية. العلم المتعلق بالأحكام الفرعية يسمى: علم الشرائع والأحكام.

وبالأحكام الأصلية يسمى: علم التوحيد والصفات. انتهى. وما في التوضيح من أن الحكم بمعنى خطاب الله تعالى على قسمين: شرعي: أي خطاب الله بما يتوقف على الشرع ولا يدرك لولا خطاب الشارع كوجوب الصلاة. وغير شرعي: أي خطابه تعالى بما لا يتوقف على الشرع بل الشرع يتوقف عليه كوجوب الإيمان بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم – انتهى. وما في شرح المواقف من أن الشرعي هو الذي يجزم العقل بإمكانه ثبوتا وانتفاء ولا طريق للعقل إليه ويقابله العقلي وهو ما ليس كذلك انتهى. وقد يطلق الشرع على القضاء أي حكم القاضي. ثم الشرعي كما يطلق على ما مر كذلك يطلق على مقابل الحسي. فالحسي: ما له وجود حسي فقط. والشرعي: ما له وجود شرعي مع الوجود الحسي كالبيع فإن له وجودا حسيا ومع هذا له وجود شرعي فإن الشرع يحكم بأن الإيجاب والقبول الموجودين حسا يرتبطان ارتباطا حكميا فيحصل معنى شرعي يكون الملك أثرا له فذلك المعنى هو البيع حتى إذا وجد الإيجاب والقبول في غير المحل لا يعتبره الشرع كذا في التوضيح وفي التلويح. وقد يقال: إن الفعل إن كان موضوعا في الشرع لحكم مطلوب فشرعي وإلا فحسي انتهى وقيل: الشرع المذكور على لسان الفقهاء بيان الأحكام الشرعية. والشريعة كل طريقة موضوعة بوضع إلهي ثابت من نبي من الأنبياء ويطلق كثيرا على الأحكام الجزئية التي يتهذب بها المكلف معاشا ومعادا سواء كانت منصوصة من الشارع أو راجعة إليه. والشرع كالشريعة كل فعل أو ترك مخصوص من نبي من الأنبياء صريحا أو دلالة فإطلاقه على الأصول الكلية مجاز وإن كان بخلاف الملة فإن إطلاقها على الفروع مجاز وتطلق على الأصول حقيقة كالإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه وغيرها ولا يتطرق النسخ فيها ولا تختلف الأنبياء فيها. والشرع عند أهل السنة ورد منشأ للأحكام وعند أهل الاعتزال ورد مجيزا لحكم العقل ومقررا له لا منشأ وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} قال ابن عباس: الشرعة ما ورد به القرآن والمنهاج ما ورد به السنة. والشريعة هي: الإئتمار بالتزام العبودية وقيل: هي الطريق في الدين وحينئذ الشرع والشريعة مترادفان كذا في الجرجاني وكذا في كشاف اصطلاحات الفنون. علم الشروط والسجلات هو: علم باحث عن كيفية ثبت الأحكام الثابتة عند القاضي في الكتب والسجلات على وجه يصح الاحتجاج به عند انقضاء شهود الحال. وموضوعه: تلك الأحكام من حيث الكتابة. وبعض مباديه مأخوذ من الفقه وبعضها من علم الإنشاء وبعضها من الرسوم والعادات والأمور الاستحسانية.

وهو من فروع الفقه من حيث كون ترتيب معانيه موافقا لقوانين الشرع وقد يجعل من فروع الأدب والإنشاء باعتبار تحسين الألفاظ. وأول من صنف فيه هلال بن يحيى البصري الحنفي المتوفى سنة خمس وأربعين ومائتين. ولأبي زيد أحمد بن زيد الشروطي الحنفي فيه ثلاث كتب كبير وصغير ومتوسط وليحيى بن بكر الحنفي مؤلف ولأبي جعفر أحمد بن محمد الإمام الطحاوي المتوفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة مؤلف في أربعين جزءا أوله أما بعد حمد الله عز وجل ولمحمد بن أفلاطون الرومي البرسوي الشهير بأفلاطون المتوفى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وكان مقدما فيه ذكر الجرجاني في ترجيح مذهب أبي حنيفة أن الشروطي لم يسبقه أحد وأجاب أبو منصور عبد القاهر ابن طاهر البغدادي في رده: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من أملى كتب العهود والمواثيق. منها: عهده لنصارى إبلة بخط علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه واستقصى محمد ابن جرير الطبري الشروط في كتاب على أصول الشافعي وسرق أبو جعفر الطحاوي من كتابه ما أودعه كتابه وأخبرهم أنه من نتيجة أهل الري ثم جاء بعده شيخ الشروط والمواثيق أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي فصنف في أدب القضاء والشروط والمواثيق وممن صنف في الشروط المزني أملى فيه كتابا جامعا وأبو ثور وكتابه فيها مبسوط وأبو علي الكرابيسي وبين في تأليفه ما وقع في كتب أهل الري من الخلل في شروطهم وداود بن علي الأصبهاني وشرح في كتابه أصول الشافعي وذكر ما عابه الأئمة على يحيى بن أكتم من الشروط وابنه أبو بكر وزاد على أبيه أبوابا وفصولا وقبله أبو عبد الرحمن الشافعي. علم الشعبذة قد تقدم الكلام عليه في ذيل علم السحر. قال في مدينة العلوم: علم الشعبذة والتخيلات والأخذ بالعيون المخيلة لسرعة فعل صناعها برؤية الشيء على خلاف ما هو عليه. والشعبذة: وقد يقال: الشعوذة معرب شعبادة وهي اسم رجل ينسب إليه هذا العلم. وهو: علم مبني على خفة اليد بأن يرى الناس الأمر المكرر واحدا والواحد مكرر بسرعة التحريك ويرى الجماد حيا ويخفي المحسوس عن أعين الناس بلا أخذ من عندهم باليد إلى غير ذلك من الأحوال التي تعارفها الناس بالآنية دون اللمية وهذا ليس من السحر في شيء لكن لشبهه به في رأي العين جعلناه من فروعه انتهى. علم الشعر لم يتكلم عليه في كشف الظنون سوى ذكر اسمه وسيأتي في باب القاف. وفي المستطرف من كل فن مستطرف فصل في ذكر الشعر والشعراء وسرقاتهم وكذا في محاضرات الأدباء وغيرهما من كتب الأدب. والشعر بالكسر وسكون العين لغة الكلام الموزون المقفى كما في المنتخب.

وعند أهل العربية: الكلام الذي قصد إلى وزنه وتقفيته قصدا أوليا والمتكلم بهذا الكلام يسمى شاعراً. فمن يقصد المعنى فيصدر عنه كلام موزون مقفى لا يكون شاعرا وعلى هذا فلا يكون القرآن والحديث شعر العدم القصد إلى وزن اللفظ قصد أوليا ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزونا واقعا في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعرا ولا الكلام شعر العدم القصد إلى اللفظ أولا وبالجملة. فالشعر ما قصد وزنه أولا بالذات ثم يتكلم به مراعى جانب الوزن فيتبعه المعنى فلا يرد ما يتوهم من أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية وفاعل بالاختيار فالكلام الموزون الصادر عنه سبحانه معلوم له تعالى كونه موزونا وصادرا عن قصد واختيار فلا معنى لنفي كون وزنه مقصودا لأن الكلام الموزون وإن صدر عنه تعالى عن قصد واختيار ولكن لم يصدر عن قصد أولي هو المراد ههنا فتأمل كذا ذكره الحلبي في حاشية شرح المواقف. ولا بأس بالشعر إذا كان توحيدا أو حثا على مكارم الأخلاق من جهاد وعبادة وحفظ فرج وغض بصر وصلة رحم وشبهها أو مدحا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين بما هو الحق وكان أبو بكر وعمر شاعرين وكان علي أشعر الثلاثة ولما نزل {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} الآية جاء حسان وابن رواحة وغيرهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان غالب شعرهم توحيدا وذكرا فقالوا: يا رسول الله قد نزلت هذه الآية والله يعلم إنا شعراء فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه وإن الذي ترمونهم به نضح النبل". ذكره أحمد الرازي في تفسيره. وقال البيضاوي تحت قوله سبحانه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم وذكر صفات النساء والغزل والابتهاء وتمزيق الأعراض في القدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه ثم قال قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله والحث على طاعته ولو قالوا: اهجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم مكافحة هجاة المسلمين كابن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وكان عليه السلام يقول لحسان: قل وروح القدس معك. انتهى. ذكر أبو الحسن الأهوازي في كتاب القوافي أن الشعر عند العرب ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول: القصيدة وهو الوافي الغير المجز ولأنهم يصدوا به إثم ما يكون من ذلك الجنس. الثاني: الرمل وهو المجز ورباعيا كان أو سداسيا لأنه اقصر عن الأول فشبه بالرمل في الطواف وقد يسمى هذا أيضا قصيدة. والثالث: الرجز وهو ما كان على ثلاثة أجزاء كمشطور الرجز والسريع سمي بذلك لتقارب أجزائه وقلة حروفه تشبيها بالناقة التي في مشيها ضعف لداء يعتريها. الرابع: الخفيف وهو المنهوك وأكثر ما جاء في ترقيص الصبيان واستقاء الماء من الآبار وإنما يدعى الرامل شاعرا إذا كان الغالب على شعره القصيدة فإن كان الغالب عليه الرجز سمي راجزا انتهى.

قلت: وللشعر أقسام كثيرة غير ما ذكر يعرفها الشاعرون وهي مدونة في كتب هذا الفن وقد تقدم الكلام منا على ذلك في القسم الأول من هذا الكتاب وإنما تعرضنا بالشعر في هذا المقام ضبطا لأطراف العلوم. والشعر عند المنطقيين هو القياس المركب من مقدمات يحصل للنفس منها القبض والبسط ويسمى قياسا شعريا كما إذا قيل: الخمر ياقوتية سيالة تنبسط النفس ولو قيل العسل مرة مهوعة تنقبض والغرض منه ترغيب النفس وهذا معنى ما قيل هو قياس مؤلف من المخيلات. والمخيلات تسمى: قضايا شعرية وصاحب القياس الشعري يسمى: شاعرا كذا في شرح المطالع وحاشية السيد علي إيساغوجي. وشعراء العرب على طبقات: جاهليون: كامرئ القيس وطرفة وزهير. ومخضرمون: المخضرم من قال الشعر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام كلبيد وحسان. ومتقدمون: ويقال الإسلاميون وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق. ومولدون: وهم من بعدهم كبشار. ومحدثون: وهم من بعدهم كأبي تمام والبحتري. ومتأخرون: كمن حدث بعدهم من شعراء الحجاز والعراق ولا يستدل في استعمال الألفاظ بشعر هؤلاء بالاتفاق كما يستدل بالجاهلين والمخضرمين والإسلاميين بالاتفاق. واختلف في المحدثين فقيل: لا يستشهد بشعرهم مطلقا واختاره الزمخشري ومن حذا حذوه وقيل لا يستهشد بشعرهم إلا بجعلهم بمنزلة الراوي فيما يعرف أنه لا مساغ فيه سوى الرواية ولا مدخل فيه للدراية هذا خلاصة ما في الخفاجي وغيره من حواشي البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} كذا في كشاف اصطلاحات الفنون والكلام على فن الشعر وحسنه وقبحه والشعراء يطول جدا لا يسع له هذه المقام. علم الشواذ من فروع علم القراءة

باب الصاد المهلمة

باب الصاد المهلمة علم الصرف وهو: علم يعرف منه أنواع المفردات الموضوعة بالوضع النوعي ومدلولاتها والهيئات الأصلية العامة للمفردات والهيئات التغيرية وكيفية تغيراتها عن هيئاتها الأصلية على الوجه الكلي بالمقايس الكلية كذا في الموضوعات. وموضوعه: الصيغ المخصوصة من الحيثية المذكورة. وغرضه: ملكة يعرف بها ما ذكر من الأحوال. وغايته: الاحتراز عن الخطأ من تلك الجهات. ومباديه: مقدمات مستنبطة من تتبع استعمال العرب.

وفي كشاف اصطلاحات الفنون علم الصرف ويسمى بعلم التصريف أيضا وهو: علم بأصول تعرف بها أحوال أبنية الكلم التي ليست بإعراب ولا بناء هكذا قال ابن الحاجب والمراد من بناء الكلمة وكذا من صيغتها ووزنها هيئتها التي يمكن أن يشاركها فيها غيرها وهي عدد حروفها المرتبة وحركاتها المعينة وسكونها مع اعتبار حروفها الزائدة والأصلية كل في موضعه. وموضوعه: هو الكلمة من حيث أن لها بناء ولا محذور في البحث عن قيد الحيثية إذا كانت بيانا للموضوع فلا محذور في البحث عن الأبنية في هذا العلم ويؤيد هذا ما ذكروه في تقسيم العلوم العربية من أن الصرف يبحث فيه عن المفردات من حيث صورها وهيئاتها وكذا ما ذكر المحقق عبد الحكيم في حاشية شرح الجامي من أن التصريف والمعاني والبيان والبديع والنحو بل جميع العلوم الأدبية تشترك في أن موضوعها الكلمة والكلام إنما الفرق بينها بالحيثيات انتهى. وفي شرح الشافية للجار بردي أن موضوعه الأبنية من حيث تعرض الأحوال لها والأبنية عبارة عن الحروف والحركات والسكنات الواقعة في الكلمة فيبحث عن الحروف من حيث أنها ثلاثة أو أربعة أو خمسة ومن حيث أنها زائدة أو أصلية وكيف يعرف الزائد عن الأصلي وعن الحركات والسكنات من أنها خفيفة أو ثقيلة. فيخرج عن هذا العلم معرفة الأبنية ويدخل فيه معرفة أحوالها لأن الصرف علم بقواعد تعرف بها أحوال الأبنية أي الماضي والمضارع والأمر الحاضر إلى غير ذلك فإن جميع ذلك أحوال راجعة إلى أحوال الأبنية لا إلى نفس الأبنية انتهى. فعلى هذا إضافة أحوال الأبنية ليست بيانية ويرد عليه أن الماضي ونحوه ليس بناء ولا حال بناء بل هو شيء ذو بناء وأضعف منه ما وقع في بعض كتب الصرف من أن موضوعه الأصول والقواعد. ومباديه: حدود ما تتبنى عليه مسائله كحد الكلمة والاسم والفعل والحرف ومقدمات حججها أي أجزاء على المسائل كقولهم: إنما يوقع الإعلال في الكلمة لإزالة الثقل منها ومسائله الأحكام المتعلقة بالموضوع كقولهم: الكلمة إما مجردة أو مزيدة أو جزئه كقولهم: ابتداء الكلمة لا يكون ساكنا أو جزئية كقولهم: الاسم إما ثلاثي أو رباعي أو خماسي أو عرضه كقولهم الإعلال إما بالقلب أو الحذف أو الإسكان. وغايته: غاية الجدوى حيث يحتاج إليه جميع العلوم العربية والشرعية كعلم التفسير والحديث والفقه والكلام ولذا قيل أن الصرف أم العلوم والنحو أبوها. قال الرضي: إن التصريف جزء من أجزاء النحو بلا خلاف من أهل الصيغة والتصريف على ما حكى سيبويه عنهم هو أن تبني من الكلمة بناء لم تبنه العرب على وزن ما بنته ثم تعمل في البناء الذي بنيته ما يقتضيه قياس كلامهم كما يتبين في مسائل التمرين والمتأخرون على أن التصريف علم بأبنية الكلمة وبما يكون لحروفها من أصالة وزيادة وحذف وصحة وإعلال وإدغام وإمالة وبما يعرض لآخرها مما ليس بإعراب ولا بناء من الوقف وغير ذلك انتهى. فالصرف والتصريف عند المتأخرين مترادفان والتصريف على ما حكى سيبويه عنهم جزء من الصرف

الذي هو جزء من أجزاء النحو انتهى ما في الكشاف وقد أطال الكلام على قيود حد الصرف تركنا ذكره ههنا لقلة فائدته في هذا الكتاب. قال في مدينة العلوم: إن أول من دون علم الصرف أبو عثمان المازني البصري ومن شعره: شيئان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأي النساء وإمرة الصبيان أما النساء فإنهن عواهر ... وأخو الصبا يجري بغير عنان وصنف في التصريف أبو الفتح بن جني مختصرا سماه التصريف الملوكي وصنف ابن مالك في ضروري التصريف مختصرا وشرحه ووسمه بالتعريف من المتوسطات في هذا العلم كتاب ابن الحاجب المسمى بالشافية وأمثلها الممتع1 لابن عصفور علي بن مؤمن الإشبيلي وشرح الشافية لأحمد بن حسن الجاربردي ولرضي الدين الأسترآبادي ولحسن بن محمد النيسابوري المشهور بالنظام الأعرج وشرحه ممزوج مشهور متداول ومما اشتهر في ديارنا مختصر مسمى بالمقصد وهو كتاب مبارك مشهور بأيدي الناس اليوم وعليه شروح مفيدة مشهورة عند أبناء الزمان ومختصر لعز الدين عبد الوهاب بن إبراهيم الزنجاني وله التصريف المشهور بتصريف العزي وعلى مختصره شروح أفضلها وأحسنها شرح السعد التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني. ومن المختصرات: مراح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود وعليه شروح مفيدة يعرفها المتأدبون من الصبيان. وأكثر المصنفات في علم النحو مذيلة بعلم التصريف ومختصر النجاح مفيد في الغاية لكنه غير مشهور وهو لحسام الدين الصغنافي شارح الهداية ومختصر نزهة الطرف في علم الصرف للميداني انتهى ملخصا. وتركت ما ذكر من تراجم علماء الصرف تحت كل كتاب مذكور فإنه ليس من غرضنا في هذا الموضع. قال في كشف الظنون ومن الكتب المصنفة في الصرف أساس الصرف تصريف الأفعال جامع الصرف عنقود للزواهر قصارى لامية الأفعال مقصود مضبوط مطلوب منازل الأبنية نجاح هارون انتهى. قلت: ومنها نقود الصرف للشيخ المفتي ولي الله الفرخ آبادي وفصول أكبري وشفاء الشافية للشيخ المولوي عبد الباسط القنوجي وبنج كنج وصرف مير للسيد الشريف الجرجاني رحمه الله. ورسائل أخرى وهي كثيرة جدا متداولة بين الصبيان ومؤدبيهم وهي بالفارسية والعربية. علم صلاة الحاجات الواردة في الأحاديث. وهي كثيرة جدا أشهرها: الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وغير ذلك من نوافل الصلاة وقد دونها الشيخ فخر الدين الرومي في كتاب دعوات الليل والنهار ويجده من يطلبه هكذا في مدينة العلوم ولا حاجة تدعو إلى تسمية ذلك علما مستقلا فإنه داخل تحت كتاب الصلوات من كتب

_ 1 قال في الكشف: قلما يخلو من مسائلة كتاب من كتب النحو، وكان أبو حيان لا يفارقة مولوي محمد أحسن بلكرامي سلمه الله تعالى.

الحديث الشريف وشرح السنة صرحوا بما صح من ذلك وما لم يصح. وقد أكثر أهل البدع والضلالات في إيجاد الصلوات التي لا أصل لها في دين الإسلام كصلاة الرغائب وغيرها وأشنعها الصلاة التي تصلى إلى بغداد لأجل الشيخ الأجل السيد عبد القادر الجيلاني - رحمه الله - فهذه الصلاة وأمثالها مما تكون للعباد أشد كبا للناس في النار الحامية أعاذنا الله تعالى من الشرك والبدعة ووفقنا لاتباع صرائح الكتاب والسنة. علم صور الكواكب هكذا في الكشف ولم يزد عليه شيئاً. وقال في مدينة العلوم: هو: علم يتعرف منه الصور التي تخيلوها من اجتماع الكواكب الثابتة من تلك الصور اثني عشر صورة تخيلوها على منطقة فلك البروج وسموا البروج الإثني عشر بأسماء تلك الصور ومنها ثمانية وعشرون صورة هي منازل القمر وضبطوا لهذه الصور مواضع ألف واثنين وعشرين كوكبا من الكواكب الثابتة ولعبد الرحمن الصوفي كتاب نافع في هذا العلم وكذا لمحيي الدين المولى. علم الصيدلية من فروع علم الطب وهو علم يبحث فيه عن تمييز المتشابهات من أشكال النباتات من حيث أنها صينية أو هندية أو رومية وعن معرفة زمانها صيفية أو خريفية وعن تمييز جيدها عن الردي وعن معرفة خواصها والغرض والفائدة منه ظاهران لمن تأمل. والفرق بينه وبين علم النباتات: أن علم الصيدلية باحث عن تمييز أحوالها أصالة وعلم النباتات باحث عن خواصها أصالة والأول أشبه للعمل والثاني أشبه للعلم وكل منهما مشترك بالآخر كذا في مدينة العلوم وغيرها. ومن الكتب الجديدة فيه: كتاب عمدة المطببين المعروف بالأقراباذين للشيخ منصور أحمد أفندي ترجمه من الفرنساوية وأفرغه في القوالب العربية وطبع بمصر القاهرة في سنة 1283 للهجرية في عهد إسماعيل باشا مصر قال فيه: علم الصيدلية أي: علم الأقراباذين علم يبحث فيه عن جمع وانتخاب الجواهر الدوائية وتحضيرها ومزجها وتهيئتها للاستعمال الطبي بقطع النظر عن الظواهر الكيماوية التي قد تظهر مدة هذه العمليات انتهى وقد وقفت على هذا الكتاب ووجدته أنفس الكتب المؤلفة في هذا الباب ولله الحمد حمدا كثيراً. علم الصيفي والشتائي من فروع التفسير وموضوعه وغايته ومنفعته ظاهرة للناظرين. قال الواحدي: أنزل الله - سبحانه وتعالى - في الكلالة آيتين: إحداهما وهي التي في أول النساء في الشتائي والأخرى وهي التي في آخرها الصيفي ومن الصيفي: فأنزل في حجة الوداع كأول المائدة وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ} وآية الدين وسورة النصر والآيات التي في غزوة الخندق.

باب الضاد المعجمة

باب الضاد المعجمة علم ضروب الأمثال قال الميداني: إن عقود الأمثال يحكم بأنها عديمة أشباه وأمثال تتحلى بفرائدها صدور المحافل والمحاضر ويتسلى بفوائدها قلب البادي والحاضر وتفيدوا بها في بطون الدفاتر والصحائف وتطير نواهضها في رؤوس الشواهق وظهور المنائف ويحتاج الخطيب والشاعر إلى إدماجها وإدراجها لاشتمالها على أساليب الحسن والجمال وكفى جلالة قدرها أن كتاب الله - سبحانه وتعالى - لم يعر من وشاحها وإن كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يخل في إيراده وإصداره من مثل يحوز قصب السبق في حلبة الإيجاز وأمثال التنزيل كثيرة. وأما الكلام النبوي من هذا الفن فقد صنف العسكري فيه كتابا برأسه من أوله إلى آخره ومن المعلوم أن الأدب سلم إلى معرفة العلوم به يتوصل إلى الوقوف عليها ومن يتوقع الوصول إليها غير أن له مسالك ومدارج ولتحصيله مراقي ومعارج وإن أعلى تلك المراقي وأقصاها وأوعر تلك المسائل أعصاها هذه الأمثال الواردة كل مرتضع در الفصاحة يافعا ووليدا فينطق بما يعبر عنها حشوا في ارتقاء معارج البلاغة ولهذا السبب خفي أثرها وظهر أقلها ومن حام حول حماها علم أن دون الوصول إليها أحرق من خرط القتاد وأن لا وقوف عليها إلا للكامل المعتاد كالسلف الماضيين الذي نظموا من شملها ما تشتت وجمعوا من أمرها ما تفرق فلم يبقوا في قوس الإحسان منزعاً. علم الضعفاء والمتروكين في رواة الحديث صنف فيه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى بخرتنك سنة ست وخمسين ومائتين يرويه عنه أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي وأبو جعفر شيخ ابن سعيد وآدم بن موسى الجفاري وهو من تصانيفه الموجودة قاله الحافظ ابن حجر والإمام عبد الرحمن بن أحمد النسائي والإمام حسن بن محمد الصنعاني وأبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة. قال الذهبي في ميزان الاعتدال: إنه يسرد الجرح ويسكت من التوثيق وقد اختصره ثم ذيله كما قال. وذيله أيضا: علاء الدين مغلطائي بن قليج المتوفى سنة اثنتين وستين وسبعمائة. وصنف فيه علاء الدين علي بن عثمان المارديني المتوفى سنة خمسين وسبعمائة. وصنف فيه محمد بن حيان البستي ووضع له مقدمة قسم فيها الرواة إلى نحو عشرين قسما ذكره البقاعي في حاشية شرح الألفية.

باب الطاء المهملة

باب الطاء المهملة علم الطب هو: علم يبحث فيه عن بدن الإنسان من جهة ما يصح ويمرض لحفظ الصحة وإزالة المرض قال جالينوس: الطب حفظ الصحة وإزالة العلة.

وموضعه: بدن الإنسان من حيث الصحة والمرض. ومنفعته: لا تخفى وكفى بهذا العلم شرفا وفخرا أقوال الإمام الشافعي: العلم علمان: علم الطب للأبدان وعلم الفقه للأديان. ويروى عن علي كرم الله وجهه: العلوم خمسة: الفقه للأديان والطب للأبدان والهندسة للبنيان والنحو للسان والنجوم للزمان ذكره في مدينة العلوم. قال في كشاف اصطلاحات الفنون: وموضوع الطب: بدن الإنسان وما يشتمل عليه من الأركان والأمزجة والأخلاط والأعضاء والقوى والأرواح والأفعال وأحواله من الصحة والمرض وأسبابهما من المآكل والمشرب والأهوية المحيطة بالأبدان والحركات والسكنات والاستفراغات والاحتقانات والصناعات والعادات والواردات الغريبة والعلامات الدالة على أحواله من ضرر أفعاله وحالات بدنه وما يبرز منه والتدبير بالمطاعم والمشارب واختيار الهواء وتقدير الحركة والسكون والأدوية البسيطة والمركبة وأعمال اليد لغرض حفظ الصحة وعلاج الأمراض بحسب الإمكان انتهى. قال: وعلم الطب من فروع الطبعي وهو: علم بقوانين تتعرف منها أحوال أبدان الإنسان من جهة الصحة وعدمها لتحفظ حاصلة وتحصل غير حاصلة ما أمكن وفوائد القيود ظاهرة وهذا أولى ممن قال من جهة ما يصح ويزول عنه الصحة فإنه يرد عليه: إن الجنين غير الصحيح من أول الفطرة لا يصح عليه أنه زال عن الصحة أو صحته زائلة كذا في السديدي شرح الموجز فالمراد هنا بالعلم: التصديق بالمسائل ويمكن أن يراد به الملكة أي: ملكة حاصلة بقوانين ... الخ. وفي شرح القانوجه هو: علم بأحوال بدن الإنسان وما يتركب منه من حيث الصحة والمرض انتهى. اعلم: أن تحقيق أول حدوث الطب عسير لبعد العهد واختلاف آراء القدماء فيه وعدم المرجح فقوم يقولون بقدمه والذين يقولون بحدوث الأجسام يقولون بحدوثه أيضا وهم فريقان: الأول: يقول أنه خلق مع الإنسان. والثاني: وهم الأكثر يقول: إنه مستخرج بعده إما بإلهام من الله - سبحانه وتعالى - كما هو مذهب بقراط وجالينوس وجميع أصحاب القياس وإما بتجربة من الناس كما ذهب إليه أصحاب التجربة والحيل وثاسلس المغالط وفنين وهم مختلفون في الموضع الذي به استخرج وبماذا استخرج. فبعضهم يقول: إن أهل مصر استخرجوه ويصححون ذلك من الدواء المسمى بالرأس. وبعضهم يقول: إن هرمس استخرجه مع سائر الصنائع. وبعضهم يقول: أهل تونس. وقيل: أهل سوريا وأفروجيا وهم أول من استخرج الزمر أيضا وكانوا يشفون بالألحان والإيقاعات آلام النفس. وقيل: أهل قو وهي الجزيرة التي كان بها بقراط وآباؤه وذكر كثير من القدماء: أنه ظهر في ثلاث جزائر إحداها: رودس والثانية: تسمى: قندس والثالثة: قو. وقيل: استخرجه الكلدانيون.

وقيل: استخرجه السحرة من اليمن. وقيل: من بابل. وقيل: فارس. وقيل: استخرجه الهند. وقيل: الصقالبة. وقيل: أقريطش. وقيل: أهل طور سينا. والذين قالوا بإلهام يقول بعضهم: هو إلهام بالرؤيا واحتجوا بأن جماعة رأوا في الأحلام أدوية استعملوها في اليقظة فشفتهم من أمراض صعبة وشفت كل من استعملها. وبعضهم يقول: بإلهام من الله - سبحانه وتعالى – بالتجربة. وقيل: إن الله - سبحانه وتعالى - خلق الطب لأنه لا يمكن أن يستخرجه عقل إنسان وهو رأي جالينوس فإنه قال كما نقله عنه صاحب عيون الأنباء. وأما نحن فالأصوب عندنا أن نقول: إن الله - سبحانه وتعالى - خلق صناعة الطب وألهمها الناس وهو أجل من أن يدرجه العقل لأنا نجد الطب أحسن من الفلسفة التي يرون أن استخراجها كان من عند الله - سبحانه وتعالى - بإلهام منه للناس فوجود الطب بوحي وإلهام من الله - سبحانه وتعالى - قال ابن أبي صاد في آخر شرحه لمسائل حنين: وجدت الناس في قديم الزمان لم يكونوا يقنعون من هذا العلم دون أن يحيطوا علما بجل أجزائه وبقوانين طرق القياس والبرهان التي لا غنى لشيء من العلوم عنها ثم لما تراجعت الهمم عن ذلك أجمعوا على أنه لا غنى لمن يزاول هذا العلم من أحكام ستة عشر كتابا لجالينوس كان أهل الإسكندرية لخصوها لنقبائها المتعلمين ولما قصرت الهمم بالمتأخرين عن ذلك أيضا وظف أهل المعرفة على من يقنع من الطب بأن يتعاطاه دون أن يتمهر فيه أن يحكم ثلاث كتب من أصوله. أحدها: مسائل حنين. والثاني: كتاب الفصول لبقراط. والثالث: أحد الكناشتين الجامعتين للعلاج وكان خيرها كناش ابن سرافيون. وأول من شاع عنه الطب إسقلنينوس عاش تسعين سنة منها وهو صبي وقبل أن تصح له القوة الإلهية خمسون سنة وعالما معلما أربعون سنة وخلف ابنين ماهرين في الطب وعهد إليهما أن لا يعلما الطب إلا لأولادهما وأهل بيته وعهد إلى من يأتي بعده كذلك وقال ثابت: كان في جميع المعمور لإسقلنينوس اثنا عشر ألف تلميذ وإنه كان يعلم مشافهة وكان آل إسقلنينوس يتوارثون صناعة الطب إلى أن تضعضع الأمر في الصناعة على بقراط ورأى أن أهل بيته وشيعته قد قلوا ولم يأمن أن تنقرض الصناعة فابتدأ في تأليف الكتب على جهة الإيجاز. قال علي بن رضوان: كانت صناعة الطب قبل بقراط كنزا وذخيرة يكنزها الآباء ويدخرونها للأبناء وكانت في أهل بيت واحد منسوب إلى إسقلنينوس وهذا الاسم اسم لملك بعثه الله سبحانه وتعالى يعلم

الناس الطب أو اسم قوة الله تعالى علمت الناس الطب وكيف كان فهو أول من علم صناعة الطب ونسب المعلم الأول إليه على عادة القدماء في تسمية المعلم أبا للمتعلم وتناسل من المعلم الأول أهل هذا البيت المنسوبون إلى إسقلنينوس وكان ملوك اليونان والعظماء منهم ولم يكونوا غيرهم من تعلم الطب وكان تعليمهم إلى أبنائهم. فيفسر ذلك اللغز للابن وكان الطب في الملوك والزهاد فقط يقصدون به الإحسان إلى الناس من غير أجرة ولم يزل ذلك إلى أن نشأ بقراط من أهل قو ودمقراط من أهل إيديرا وكانا متعاصرين أما دمقراط فتزهد وأما بقراط فعمد إلى أن دونه بإغماض في الكتب خوفا على ضياعه وكان له ولدان: ثاسالوس ودراقر وتلميذ وهو: قولونس فعلمهم ووضع عهدا وناموسا ووصية عرف منها جميع ما يحتاج إليه الطبيب في نفسه. وعبارة مدينة العلوم: إن أول من دون علم الطب بقراط ثم ظهر من بعده جالينوس من مدينة فرغاموس من أرض اليونانيين ولا أعلم بعد أرسطاطاليس أعلم بالطبعي من هذين بقراط وجالينوس وظهر جالينوس بعد ستمائة وخمس وستين سنة من وفاة بقراط وبينه وبين المسيح سبع وخمسون سنة المسيح أقدم منه. واعلم: أن من وفاة جالينوس إلى هذا التاريخ - وهو ثمان وأربعون وتسعمائة سنة من هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم -: ألف وأربعمائة وستة وسبعون سنة تقريباً. ومن مشاهير العلماء في الطب: محمد بن زكريا أبو بكر الرازي ألف كتبا كثيرة في الطب. ومن الكتب المختصرة النافعة غاية النفع المباركة للطلاب كتاب الموجز لابن النفيس المصري ومن المبسوطة: القانون لابن سينا وعليه شرح لابن النفيس وللعلامة الشيرازي انتهى. حاصله قلت: يحتاج القانون إلى إصلاح عبارة وتلخيص وتهذيب فقد أطال فيه وجاء بعبارات سخيفة بشعة كما لا يخفى على الماهر فيه. ومن الكتب الجديدة التأليف: كتاب الحكيم أحمد بن حسن أفندي الرشيدي المطبوع بمصر القاهرة سماه بعمدة المحتاج في علمي الأدوية والعلاج ألفه باسم إسماعيل باشا مصر وهو في أجزاء جمعه من المؤلفات العربية والإفرنجية وله كتاب بهجة الرؤساء في علاج أمراض النساء طبع بمصر القاهرة في سنة 1260، ألفه باسم محمد علي باشا وأفاد وأجاد. وله كتاب نزهة الإقبال في مداواة الأطفال وهو مجلد كبير طبع بمصر في سنة 1261 الهجرية باسم محمد علي باشا أيضاً. ومن الكتب الجديدة كتاب المنحة في سياسة حفظ الصحة للحكيم الأجل محمد الهراوي طبع بمصر في سنة 1249، ترجمة من الفرنساوي إلى العربي وهو مجلد متوسط. والكتب المؤلفة في هذا العلم كثيرة جدا ذكرها ملا كاتب الجلبي في كشف الظنون على ترتيب حروف الأعجام وأما الذي في مقدمة ابن خلدون فنصه هكذا: ومن فروع الطبيعيات: صناعة الطب وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن وأسباب تلك الأمراض التي تنشأ

عنها وما لكل مرض من الأدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها على المرض بالعلامات المؤذنة بنضجه وقبوله الدواء أولا: في السجية والفضلات والنبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض وإنما الطبيب يحاذيها ويعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة والفصل والسن ويسمى العلم الجامع لهذا كله: علم الطب. وربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علما خاصا كالعين وعللها وأكحالها. وكذلك ألحقوا بالفن من منافع الأعضاء ومعناها المنفعة التي لأجلها خلق كل عضو من أعضاء البدن الحيواني وإن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا أنهم جعلوه من لواحقه وتوابعه. وإمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين: جالينوس يقال: إنه كان معاصرا لعيسى - عليه السلام - ويقال: إنه مات بصقلية في سبيل تغلب ومطاوعة اغتراب وتأليفه فيها هي الأمهات التي اقتدى بها جميع الأطباء بعده. وكان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاؤوا من وراء الغاية مثل: الرازي والمجوسي وابن سينا. ومن أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم: ابن زهر وهي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران وتناقصه وهي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة والترف. قف: وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشائخ الحي وعجائزه وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي ولا على موافقة المزاج وكان عند العرب من هذا الطب كثير وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء وإنما هو أمر كان عاديا للعرب ووقع في ذكر أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم1 إلا إذا استعلم على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع وليس ذلك في الطب المزاجي وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه.

_ 1 ويدفعه ما قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد إلى هدي خير العباد وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتداد الشفاء به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائه، بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً الى رجسهم ومرضاً إلى مرضهم، واين يقع طب الأبدان منه فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن لايناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع، وليس ذلك لقصور في الدواء ولكن بحيث الطبيعة وفساد المحل وعدم قبوله. انتهى. سيد نور الحسن خان بهادر سلمه الله تعالى.

علم الطب الشرعي قال في المنحة في سياسة حفظ الصحة: هو المعارف الطبية والطبيعية المستعملتان في الأحكام الواقعة بين الناس في المحاكم فمن ذلك يعلم أن تسميته بالطب الشرعي اصطلاح إفرنجي وحقه أن يسمى بالطب المحكمي ولذا سميناه بذلك في جميع ما يأتي. وهو فن به يهتدي أرباب المحاكم لما يناط بها من القضايا فيعرف كل من تصدر عنه حكومة كيف تكوين الحكومات والتراتيب القانوينة التي غايتها استراحة شعبه واطمئنانه وبه يهتدي القضاة لإدراك الأشياء التي تفعل على خلاف الشرع ولمعرفة الجاني وخلاص البريء المتهم ظلما بل ولمعرفة أحكام المشاجرات المدنية الواقعة في غير الجنايات أيضا وكل من القاضي ومن تصدر عنه الحكومة من حيث أنه غير عارف للأشياء التي تكون المعارف الطبية واسطة للاهتداء إليها محتاج للالتجاء للطبيب المحكمي ليهتدي به في فعل ما هو نافع للشعب حتى لا يحكم على إنسان بأنه مذنب بغير حق. وعلى الطبيب الذي يدعوه الحاكم لواقعة حكمية أن يحرر تقريرا بما يراه ليكون أساسا للحاكم يحكم بموجبه ومما تقدم من تفسير الطب المحكمي وما يتفرع عليه يعلم أن منفعته ليست قاصرة على تحرير التقارير التي يكتبها الطبيب بما يظهر له حين الكشف عن شيء ليتنور بذلك الحاكم فقط بل أعظم منافع هذا العلم أنه يلزم الناس باستعمال الرئيس من المعارف الطبية وما يتبعها في تكوين أحكام المشاجرات الواقعة أمام الحكام ومسائلها وسواء في الجنايات وغيرها. وفوائد الطب المحكمي لا حصر لها إذ لا توجد حركة من حركات الإنسان في مدة معيشته مع الناس بدون أن يستدعي ذلك الطب الموجود في جميع الأماكن في كل الأزمان فهو أول الفنون الحكمية وأفضلها لأن غاية استراحة الناس واطمئنانهم وأساس المعارف الطبية المستعملة في الطب المحكمي استخراج ما هو أكثر تعلقا بالقضايا المحكمية من تلك المعارف أو ترتيبه وجعله طريقا ومذهبا يتبع ونظن أنه لا يوجد شيء تستفاد منه قواعد كلية بما يستعمل في المحاكم من المعارف الطبية أقرب من التفتيش في الفنون المحتوية على تلك المعارف. علم طب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علم باحث عن الطب الذي ورد في الأحاديث النبوية الذي داوى به المرضى وفيه الطلب البتوني لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني المتوفى سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة ولجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة أوله: الحمد لله الذي أعطى كل نفس خلقها وهو مرتب على ثلاثة فنون: الأول: في قواعد الطب. الثاني: في الأدوية والأغذية. الثالث: في علاج الأمراض. وكتب أبو الحسن علي بن موسى الرضا للمأمون رسالة مشتملة عليه والحبيب النيسابوري جمعه أيضاً

وابن السني وعبد الملك بن حبيب ولابن طرخان تصنيف في هذا الفن وكذا للإمام المستغفري ونفع هذا العلم لا يخفى على أحد فليتذكره. علم طبخ الأطعمة والشربة والمعاجين هو علم يعرف به كيفية تركيب الأطعمة اللذيذة النافعة بحسب الأمزجة المتخالفة وكيفية تركيب المركبات الدوائية من جهة الوزن والوقت والتقديم والتأخير وفي المزج ومعرفة ما يسحق منه وما يذاب وكيفية ضبطه في الظروف ومعرفة بقاء نفعه وبطلان فائدته إلى غير ذلك من الأحوال التي يعرفها من يزاولها وهو من فروع الطب. غير طبخ الأطعمة. علم الطبقات أي طبقات كل صنف من أهل العلم كالأدباء والأصوليين والأطباء والأولياء والبيانيين والتابعين والحفاظ والحكماء والحنفية والحنابلة والمالكية والشافعية والمفسرين والمحدثين والخطاطين والرواة والخواص والشعراء والصحابة والمجتهدين والصوفية والطالبين والأمم والعلوم والفرسان والعلماء والقرضيين والفقهاء ورؤساء الزمن والقراء والنحاة واللغويين والمتكلمين والمعبرين والمعتزلين والممالك والنسابين والنساك إلى غير ذلك وفي كل من هذا كتب مستقلة تكفلت لبيان طبقة من تلك الطبقات قال في مدينة العلوم. علم طبقات القراء هو عمل يذكر فيه القراء السبعة بل العشرة بل الثلاثة عشر بل الخمسة عشر ورواة هؤلاء وغير ذلك من الشيوخ والمصنفين في هذا العلم ويذكر فيه أيضا قراء الصحابة والتابعين وتبع تابعيهم إلى هذا الآن وطبقات الحافظ الذهبي تصنيف مفيد في هذا العلم ولا أجمع ولا أنفع من طبقات الشيخ الجزري رحمه الله تعالى. علم طبقات المفسرين هو من فروع التواريخ أيضا فيه المجلدات الكبار للعلماء رحمهم الله تعالى. علم طبقات المحدثين من فروع التواريخ أيضا وفيها المصنفات العظام. علم طبقات الشافعية صنف فيها ابن السبكي الكبرى والصغرى وأطنب فيها وأجمع وأوعب كل من انتسب إلى مذهب الشافعية وقد اشتمل على فوائد لا تكاد توجد في كتاب. علم طبقات الحنفية صنف فيها العلماء مثل الجواهر المضيئة في طبقات الخفية ومثل مختصر قاسم بن قطلوبغا سماه

تاج التراجم وهو كان في الباب مع اشتمالها على المهمات. علم طبقات المالكية صنف فيها ابن فرحون برهان الدين إبراهيم المتوفى سنة تسع وتسعين وسبعمائة سماه الديباج المذهب في علماء المذاهب. علم طبقات الحنابلة صنف فيه ابن رجب الحنبلي وقد وقفت عليه في مكة المكرمة زادها الله سبحانه وتعالى شرفاً. علم طبقات النحاة صنف فيه كثيرون مثل ياقوت الحموي ومجد الدين الشيرازي وصلاح الدين الصفدي وجلال الدين عبد الرحمن السيوطي وغيرهم من العلماء. علم طبقات الحكماء قد اعتنى بذلك كثيرون منهم الصاعد الذي من مشاهير الحكماء وصنف فيه كتاب صوان الحكمة ورأيته في عنفوان الشباب وهو كتاب لطيف لكني نسيت اسم1 مؤلفه. علم طبقات الأطباء قد صنف في ذلك العلماء ورأيت في هذا العلم كتابا موسوما بعيون الأنباء في طبقات الأطباء. وطبقات هؤلاء المذكورين من فروع علم التواريخ وموضوع كل منها وغايتها ومنفعتها ظاهرة على من تتبع تلك العلوم. قلت قد قصر همم أبناء الزمان عن إدراك هذه العلوم وهي مما يحتاج إليه العالم والعاقل في كل وقت وما أشد حاجة المحدثين إلى ذلك لكن طمست آثار كتبها واندرست معالم زبرها فلا يوجد منه إلا كتاب وأحد في بعض البلاد وعند أفراد من أهل العلم والله الموفق للصواب. علم الطبعي هو علم يبحث فيه عن أحوال الأجسام الطبعية وموضوعه الجسم ويسمى أيضا بالعلم الأدنى وبالعلم الأسفل وهو علم بأحوال ما يفتقر إلى المادة في الوجودين. وموضوعه الجسم الطبعي من حيث إن يستعد للحركة والسكون. وفي إرشاد القاصد للشيخ الأكفاني السخاوي العلم الطبعي: علم يبحث فيه عن أحوال الجسم المحسوس من حيث هو معرض للتغير في الأحوال والثبات فيها. فالجسم من هذه الحيثية موضوعه.

_ 1 قال في كشف الطنون: هو الصاعد المذكور، مولانا الشيخ حسين بن محسن سلمه ربه.

وأما العلوم التي تفرع عليه وتنشأ منه فهي عشرة. وذلك لأن نظره إما أن يكون فيما يفرع على الجسم البسيط أو الجسم المركب أو ما يعمهما. والأجسام البسيطة أما الفلكية فأحكام النجوم. وأما العنصرية فالطلسمات. والأجسام المركبة أما ما لا يلزمه مزاج وهو: علم السيميا. وما يلزمه مزاج فإما بغير ذي نفس فالكيمياء أو بذي نفس. فأما غير مدركة فالفلاحة. وأما مدركة فأما لها مع ذلك أن يعقل أولا. الثاني البيطرة والبيزرة وما يجري مجراهما. والذي بذي النفس العاقلة هو الإنسان وذلك إما في حفظ صحته واسترجاعها وهو الطب أو أحواله الظاهرة الدالة على أحواله الباطنة وهو الفراسة أو أحوال نفسه حال غيبته عن حسه وهو تعبير الرؤيا والعام للبسيط والمركب السحر انتهى. وأصول الطبعي ثمانية: الأول: العلم بأحوال الأمور العامة للأجسام. الثاني: العلم بأركان العالم وحركاتها وأماكنها المسمى بعلم السماء والعالم. الثالث: العلم بكون الأركان وفسادها. الرابع: العلم بالمركبات الغير التامة لكائنات الجو. الخامس: العلم بأحوال المعادن. السادس: العلم بالنفس النباتية. السابع: العلم بالنفس الحيوانية. الثامن: العلم بالنفس الناطقة. قال ابن خلدون: هو علم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسكون فينظر في الأجسام السماوية والعنصرية وما يتولد عنها من حيوان وإنسان ونبات ومعدن وما يتكون في الأرض من العيون والزلازل وفي الجو من السحاب والبخار والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك وفي مبدأ الحركة للأجسام وهو النفس على تنوعها في الإنسان والحيوان والنبات. وكتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون وألف الناس على حذوها. وأوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفا جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة. ثم لخصه في كتاب النجاة. وفي كتاب الإشارات وكأنه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها ويقول برأيه فيها وأما ابن رشد فلخص كتب أرسطو وشرحها متبعا له غير مخالف وألف الناس في ذلك كثيرا لكن هذه هي

المشهورة لهذا العهد والمعتبرة في الصناعة. ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا وللإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن وكذا الآمدي وشرحه أيضا نصير الدين الطوسي المعروف بخواجه من أهل المشرق وبحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره وبحوثه وفوق كل ذي علم عليم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. علم الطلسمات قد تقدم الكلام عليه في بيان علم السحر ومعنى الطلسم: عقد لا ينحل وقيل: هو مقلوب اسمه أي: المسلط لأنه من جواهر القهر والتسلط. وهو علم باحث عن كيفية تركيب القوى السماوية الفعالة مع القوى الأرضية المنفعلة في الأزمنة المناسبة للفعل والتأثير المقصود مع بخورات مناسبة مقوية جالبة لروحانية ذلك الطلسم ليظهر من تلك الأمور في عالم الكون والفساد فعال غريبة وهو قريب المأخذ بالنسبة إلى علم السحر لكون مبادئه وأسبابه معلومة. وأما منفعته فظاهرة لكن طريق تحصيله شديد العنا وبسط المجريطي قواعد هذا الفن في كتابه غاية الحكيم فأبدع لكنه اختار جانب الإغلاق والدقة لفرط ضنته وكمال بخله في تعليمه. وللسكاكي كتاب جليل فيه ونقل ابن الوحشية من النبط كتاب طبتانا في ذلك العلم. علم الطيرة والزجر هذا ضد الفال إذ الفال سبب للإقدام وهذا سبب للإحجام وهو تشاؤم بشيء يرد المناظر والمسامع مما نفر منه النفس وأما ما ينفر منه الطبع كصرير الحديد وصوت الحمار فليس من ذلك والطيرة مأخوذ من الطير وهو الأصل في هذا الباب وألحق به ما عداه. وكانت العرب إذا أرادوا سفرا يطيرون طيرا فإذا طار عن اليمين يتوجهون إلى المقصد وإن طار عن اليسار يرجعون عن السفر ويسمون الأول السانح والثاني البارح والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الطيرة وأمر بالفال. قال في مدينة العلوم قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة: إن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف وأما من لم يبال به ولم يخشه فلا يضره البتة لا سيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو عند سماعه: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك. وقال ابن عبد الحكم: خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة والقمر في الدبران فكرهت أن أخرج به فقلت: ما أحسن استواء القمر في هذه الليلة فنظر فقال: كأنك أردت أن تخبرني أن القمر في الدبران إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكنا نخرج بالله الواحد القهار. قال في مفتاح دار السعادة أيضا وأما من كان معتنيا بالطيرة فهي أسرع إليه من السيل إلى منحدره قد فتحت له أبواب الوسواس فيما يسمعه ويراه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة ما يفسد

عليه دينه وينكر عليه معيشته هذا ما ذكره. واعلم أن بعضا من الناس قد فتح له باب الوسواس واعتبر أمورا بعيدة يضحك منه الشيطان ويستهزئ به الصبيان مثلا يتشاءم بعضهم بالسفرجل إذا سمعه ورآه يقول: إنه سفرجل. وبعضهم يتشاءم بالياسمين ويقول: إنه يأس ومين. وبعضهم يتشاءم بالسوسنة ويقول: إنه سوء ويبقى سنة. حكي أن جعفر البرمكي اختار وقتا لينتقل إلى داره التي بناها فاختاروا له ساعة من ليلة عينوها فخرج في ذلك الوقت والطرق خالية إذ سمع منشدا يقول: يدبر بالنجوم وليس يدري ... ورب النجم يفعل ما يريد فتطير ودعا بالرجل وقال له: ما أردت بهذا؟ قال: ما أردت به معنى من المعاني لكنه شيء عرض لي وجرى على لساني فأمر له بدينار ومضى لوجهه وقد تنغص سروره وتكدر عيشه فلم يمض إلا قليلا حتى أوقع به الرشيد ما هو المشهور انتهى ما في مدينة العلوم.

باب الظاء المعجمة

باب الظاء المعجمة علم الظاهر والباطن أما الظاهر فهو علم الشرع وقد تقدم. وأما الباطن فيقال له: علم الطريقة وعلم التصوف وعلم السلوك وعلم الأسرار وقد تقدم أيضا ولا حاجة لنا إلى الإعادة ولكن نتحفك هنا بفائدة جديدة وعائدة سديدة اشتملت على حكم هذا العلم. قال شيخنا الإمام العلامة القاضي محمد بن علي الشوكاني رضي الله عنه وأرضاه في الفتح الرباني ولفظه: اعلم أن معنى التصوف المحمود يعني: علم الباطن هو الزهد في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وترابها. ثم الزهد فيما يصدر عن الناس من المدح والذم حتى يستوي عنده مدحهم وذمهم. ثم الاشتغال بذكر الله وبالعبادة المقربة إليه فمن كان هكذا فهو الصوفي حقا وعند ذاك يكون من أطباء القلوب فيداويها بما يمحو عنها الطواغيت الباطنية من الكبر والحسد والعجب والرياء وأمثال هذه الغرائز الشيطانية التي هي أخطر المعاصي أقبح الذنوب ثم يفتح الله له أبوابا كان عنها محجوبا كغيره لكنه لما أماط عن ظاهره وباطنه في غشاوة صار حينئذ صافيا عن شوب الكدر مطهرا عن دنس الذنوب فيبصر ويسمع ويفهم بحواس لا يحجبها عن حقائق الحق حاجب ولا يحول بينها وبين درك الصواب حائل ويدل على ذلك أتم دلالة وأعظم برهان ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزته بالمحاربة" وفي رواية: "فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما

ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه". ومعلوم أن من كان يبصر بالله سبحانه ويسمع به ويبطش به ويمشي به له حال يخالف حال من لم يكن كذلك لأنها تنكشف له الأمور كما هي وهذا هو سبب ما يحكى عنهم من المكاشفة لأنه قد ارتفع عنهم حجب الذنوب وذهب عنهم أدران المعاصي وغيرهم من لا يبصر ولا يسمعه به ولا يبطش به ولا يمشي به لا يدرك من ذلك شيئا بل هو محجوب عن الحقائق غير مهتد إلى مستقيم الطريق كما قال الشاعر: وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع وتلتذ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في خروق المسامع أجلك يا ليلى عن العين إنما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع وأما من صفا عن الكدر وسمع وأبصر فهو كما قال الآخر: ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه ... من المسك كافورا وأعواده رندا وما ذاك إلا أن هندا عشية ... تمشت وجوت في جوانبه بردا ومما يدل على هذا المعنى الذي أفاده حديث أبي هريرة حديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله" وهو حديث صححه الترمذي فإنه أفاد أن المؤمنين من عباد الله يبصرون بنور الله سبحانه وهو معنى ما في الحديث الأول من قوله صلى الله عليه وسلم: "فبي يبصر". فما وقع من هؤلاء القوم الصالحين من المكاشفات هو من هذه الحيثية الواردة في الشريعة المطهرة وقد ثبت أيضا في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه في هذه الأمة محدثين وإن منهم عمر بن الخطاب ففي هذا الحديث فتح باب المكاشفة لصالحي عباد الله وأن ذلك من الله سبحانه فيحدثون بالوقائع بنور الإيمان الذي هو من نور الله سبحانه فيعرفونها كما هي حتى كان محدثا يحدثهم بها ويخبرهم بمضمونها. وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقع له من ذلك الكثير الطيب في وقائع معروفة منقولة في دواوين الإسلام ونزل بتصديق ما تكلم به القرآن1 الكريم فمن كان من صالحي العباد متصفا بهذه الصفات متسما بهذه السمات فهو رجل العالم فرد الدهر وزين العصر والاتصال به مما تلين به القلوب وتخشع له الأفئدة وتنجذب بالاتصال به العقول الصحيحة إلى مراضي الرب سبحانه وكلماته هي الترياق المجرب وإشاراته هي طب القلوب القاسية وتعليماته كيمياء السعادة وإرشاداته هي الموصلة إلى الخير الأكبر والكرمات الدائمة التي لا نفاذ لها ولا انقطاع ولم تصف البصائر ولا صلحت السرائر

_ 1 كقوله عزوجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وقوله سبحانه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} إلى غير ذلك من الموافقات وقد جمعها السيوطي في رسالة مستقلة وبلغها إلى ثمانية عشر أو أزيد، سيد علي حسن خان ولد المؤلف سلمه الله تعالى.

بمثل الاتصال بهؤلاء القوم الذين هم خيرة الخيرة وأشرف الذخيرة فيا لله قوم لهم السلطان الأكبر على قلوب هذا العالم يجذبونها إلى طاعات الله سبحانه والإخلاص له والاتكال عليه والقرب منه والبعد عما يشغل عنه ويقطع عن الوصول إليه وقل أن يتصل بهم ويختلط بخيارهم إلا من سبقت له السعادة وجذبته العناية الربانية إليهم لأنهم يخفون أنفسهم ويطهرون في مظاهر الخمول ومن عرفهم لم يدل عليهم إلا من أذن الله له ولسان حاله يقول كما قال الشاعر: وكم سائل عن سر ليلى كتمته ... بعمياي عن ليلى بعين يقين يقولون خبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن خبرتهم بأمين فيا طالب الخير إذا ظفرت يدك بواحد من هؤلاء الذين هم صفوة الصفوة وخيرة الخيرة فاشددها عليه واجعله مؤثرا على الأهل والمال والقريب والحبيب والوطن والسكن فإنا إن وزنا هؤلاء بميزان الشرع واعتبرناهم بمعيار الدين وجدناهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقلنا لمعاديهم أو للقادح في علي مقامهم أنت ممن قال فيه الرب سبحانه كما حكاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وقد آذنته بالحرب" لأنه لا عيب لهم إلا انهم أطاعوا الله كما يحب وآمنوا به كما يحب ورفضوا الدنيا الدنية وأقبلوا على الله عز وجل في سرهم وجهرهم وظاهرهم وباطنهم وإذا فرضنا أن في المدعين للتصوف والسلوك من لم يكن بهذه الصفات وعلى هذا الهدى القويم فإن بدا منه ما يخالف هذه الشريعة المطهرة وينافي منهجها الذي هو الكتاب والسنة فليس من هؤلاء والواجب علينا رد بدعته عليه والضرب بها في وجهه كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وكل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل بدعة ضلالة" ومن أنكر علينا ذلك قلنا له وزنا هذا بميزان الشرع فوجدناه مخالفا له ورددنا أمره إلى الكتاب والسنة فوجدناه مخالفا لهما وليس المدين إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والخارج عنهما المخالف لهما ضال مضل ولا يقدح على هؤلاء الأولياء وجود من هو هكذا فإنه ليس معدودا منهم ولا سالكا طريقتهم ولا مهديا بهديهم فاعرف هذا فإن القدح في قوم بمجرد فرد أو أفراد منسوبين إليهم نسبة غير مطابقة للواقع لا تقع إلا ممن لا يعرف الشرع ولا يهتدي بهديه ولا يبصر بنوره. وبالجملة فمن أراد أن يعرف أولياء هذه الأمة وصالحي المؤمنين المتفضل عليهم بالفضل الذي لا يعد له فضل والخير الذي لا يساويه خير فليطالع الحلية لأبي نعيم وصفوة الصفوة لابن الجوزي فإنهما تحريا ما صح وأودعا كتأبيهما من مناقب الأولياء المروية بالأسانيد الصحيحة ما يجذب بعضه بطبع من يقف عليه إلى طريقتهم والاقتداء بهم وأقل الأحوال أن يعرف مقادير أولياء الله وصالحي عباده ويعلم أنهم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنت مع من أحببت" فمحبة الصالحين قربة لا تهمل وطاعة لا تضيع وإن لم يعمل كعملهم ولا جهد نفسه كجهدهم انتهى حاصله. وأما ما يحدث من أولياء الله سبحانه وتعالى من الكرامات الظاهرة التي لا شك فيها ولا شبهة فهو حق صحيح لا يمتري فيه من له أدنى معرفة بأحوال صالحي عباد الله المخصوصين بالكرامات التي أكرمهم بها وتفضل بها عليهم ومن شك في شيء من ذلك نظر في كتب الثقات المدونة في هذا الشأن كحلية الأولياء للشرجي وكتاب روض الرياحين لليافعي وسائر الكتب المصنفة في

تاريخ العالم فإن كلها مشتملة على تراجم كثير منهم ويغني عن ذلك كله ما قصه الله إلينا في كتابه العزيز عن صالحي عباده الذين لم يكونوا أنبياء كقصة ذي القرنين وما تهيأ له مما تعجز عنه الطباع البشرية وقصة مريم كما حكاه الله تعالى. ومن ذلك قصة أصحاب كهف فقد قص الله علينا فيها أعظم كرامة وقصة آصف من برخيا حيث حكى عنه قوله: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} وغير ذلك مما حكاه عن غير هؤلاء والجميع ليسوا بأنبياء وثبت في الأحاديث الثابتة في الصحيح مثل حديث الثلاثة الذي انطبقت عليهم الصخرة وحديث جريج الراهب الذي كلمه الطفل وحديث المرأة التي قالت سائلة الله عز وجل أن يجعل الطفل الذي ترضعه مثل الفارس فأجاب الطفل بما أجاب وحديث البقرة التي كلمت من أراد أن يحمل عليها وقالت إني لم أخلق لهذا. ومن ذلك وجود القطف من العنب عند خبيب الذي أسرته الكفار. وحديث أن أسيد بن حضير وعبادة بن بشر خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصاحبين وحديث رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره. وحديث لقد كان فيمن قبلكم محدثون. وحديث إن في هذه الأمة محدثين وإن منهم عمر. ومن ذلك كون سعد بن أبى وقاص مجاب الدعوة وهذه الأحاديث كلها ثابتة في الصحيح وورد لكثير من الصحابة رضي الله عنهم كرامات قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير. ومن ذلك الأحاديث الواردة في فضلهم والثناء عليهم كما ثبت في الصحيح أنه قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من شعاب يعبد ربه". وحديث "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وهذه الأحاديث كلها في الصحيح وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.

باب العين المهملة

باب العين المهملة علم عجائب القلب وله معنيان: أحدهما: اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدور وفي باطنه دم أسود ينبعث منه بخار لطيف يسري إلى سائر البدن ويحدث منه الحواس الظاهرة والباطنة والحيوانات كلها متشاركة في هذا النوع من القلب ولهذا يسمى الروح الحيواني. وثانيهما: لطيفة ربانية نورانية نازلة من عالم القدس يتعلق بالقلب بالمعنى الأول وهو المخاطب والمكلف وبه يثاب الإنسان ويعاقب ولهذا يسمى الروح الإنساني. ثم إن للإنسان نفسا وهي قوة حالة في البدن تنشأ منها الشهوة والغضب وبين الروح الإنساني والنفس

مجادلة مستمرة ولكل منهما قوى تعين وتجادل مع الأخرى والعقل هو المميز بينهما وتفاصيل تلك القوى وكيفية المخاصمة بينهما وحكم العقل بين الطرفين مفصلة في موضعها ولسنا نحن بصدد بيانها في هذا المختصر ذكره في مدينة العلوم تحت ذكر الأخلاق المهلكات. علم العدد هكذا في كشف الظنون ويسمى الأرتماطيقي وقد تقدم في باب الألف من أول الكتاب وقال في كشاف اصطلاحات الفنون: علم العدد هو من أصول الرياضي ويسمى بعلم الحساب أيضا وهو نوعان: نظري: وهو علم يبحث فيه من ثبوت الأعراض الذاتية للعدد وسلبها عنه وهو المسمى بالأرتماطيقي وتشتمل عليه المقالات الثلاث السابعة والثامنة والتاسعة من كتاب الأصول وموضوعه العدد مطلقاً. وعملي: وهو علم يعرف به طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية والمراد بها مجهولات لها نسبة إلى العدد نسبة الجزئي إلى الكلي وكذا الحال في المعلومات العددية مثلا: في الضرب المضروب والمضروب فيه معلومان ومنهما يستخرج الحاصل الذي هو عدد مجهول بالطريق المعين وكذا في سائر الأعمال. فهو علم تعرف به الطرق التي يستخرج بها عدد مجهول من عدد معلوم وقيد من المعلومات العددية احتراز عما إذا استخرج المجهول العددي بغير علم الحساب كاستخراج عدد الدراهم من علم الرمل ولا يخرج عنه علم المساحة لأنها علم بطرق استخراج المجهولات المقدارية من حيث عروض العدد لها فيؤول إلى المجهولات العددية عند التأمل. ثم اعلم أن الحساب العملي نوعان أحدهما هوائي تستخرج منه المجهولات العددية بلا استعمال الجوارح كالقواعد المذكورة في كتاب البهائية. ثانيهما: غير هوائي وهو المسمى بالتخت والتراب يحتاج إلى استعمال الجوارح كالشبكة وضرب المحاذاة. ثم النظري والعملي ههنا بمعنى ما لا يتعلق بكيفية العمل وما يتعلق بها فتسميه النوع الأول بالنظري ظاهرة وكذا تسمية القسم الثاني من النوع الثاني بالعملي. وأما تسمية القسم الأول منه بالعملي فعلى تشبيه الحركات الفكرية بالحركات الصادرة عن الجوارح أو يقال المراد بالعمل في تعريفي النظري والعملي أعم من العمل الذهني والخارجي ثم اعلم أن لاستخراج المجهولات العددية من معلوماتها طرقا مختلفة وهي إما محتاجة إلى فرض المجهول شيئا وهو الجبر والمقابلة وإما غير محتاجة إليه وهو علم المفتوحات وهي كمقدمات الحساب التي سوى المساحة أو مما يحصل ببعض من تلك المقدمات واستعانة بعض القوانين من النسبة وهو شامل أسئلة الخطأين أيضاًظ. وموضوعه العدد مطلقا كما هو المشهور. والتحقيق أن موضوعه العدد المعلوم تتعقل عوارضه، من حيث أنه كيف يمكن التأدي منه إلى بعض

عوارضه المجهولة. وأما العدد المطلق فإنما هو موضوع علم الحساب النظري هذا كله خلاصة ما في شرح خلاصة الحساب والله أعلم بالصواب. علم العرافة هو معرفة الاستدلال ببعض الحوادث الخالية على الحوادث الآتية بالمناسبة أو المشابهة الخفية التي تكون بينهما أو الاختلاط أو الارتباط على أن يكونا معلولي أمر وأحد أو يكون ما في الحال علة لما في الاستقبال وشرط كون الارتباط المذكور خفيا أن لا يطلع عليه إلا الأفراد وذلك إما بالتجارب أو بالحالة المودعة في أنفسهم عند الفطرة بحيث عبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمحدثين المصيبين في الظن والفراسة. حكي أن الاسكندر حين أراد قتال ملك الفرس قال: ذلك الملك لا حاجة إلى مقابلة عساكرهم نقاتل معك فإما أن تقتلني وإما أن أقتلك ففرح الاسكندر بهذا الكلام حيث قدم ذلك الملك نفسه في ذكر القتل فكان كما قال. ويحكى عنه أيضا أنه لما دخل بلاد المغرب فمر على امرأة في مدينة تنسج ثوبا فقالت له: أيها الملك أعطيت ملكا ذا طول وعرض ثم مر عليها الملك الأول فقالت له: سيقطع الاسكندر ملكك فغضب الملك فقالت: لا تغضب إن النفوس قد تشاهد أمور قبل وقوعها بعلامات تحكم النفس بصدقها لما مر علي الاسكندر كنت أنسج طول الثوب وعرضه ولما مررت أنت فرغت وأردت قطعه وكان الأمر كما قالت. ويحكى أنه كان في زمن هارون الرشيد رجل أعمى من أهل العرافة وكان يستدل على المسئول عنه بكلام مصدر عن الحاضرين عقيب السؤال فسرق يوما من خزانة هارون بعض من الأشياء فطلب الرجل وأمر أن لا يتكلم أحد بعد السؤال أصلا ففعلوا كما أمر هارون والأعمى ألقى سمعه ولم يسمع شيئا فأمر يده على البساط فوجد فيه نواة تمرة فقال: إن المسئول عنه در وزبرجد وياقوت. فقال الرشيد: في أين هو؟ قال: في بئر فوجدوه كما ذكر الأعمى فتحير الرشيد فيه. فسأل عن سبب معرفته. فقال: وجدت نواة تمرة وطلع النخل أبيض وهو كالدرة ثم يكون بسرا وهو أخضر وهو لون الزمرد ثم يكون رطبا وهو أحمر وهو لون الياقوت ثم لما سألتم عن مكان المسروق سمعت صوت دلو فعرفت أنه في بئر فاستحسن الرشيد فراسته فأعطاه مالا جزيلاً. وحكي أن أبا معشر وصاحبه ذهبا إلى عراف فسألاه عن شيء فقال: أنكما سألتما عن مسجون فقالا: إنه يخلص قال: نعم يخلص فسألاه عن سبب معرفته فقال: إنكما لما سألتماني وقع نظري على قربة ماء فعرفت أن السؤال عن مسجون ولما سألتماني عن خلاصة نظرت فإذا هو قد فرغ قربته. وحكى عن المهدي أنه رأى رؤيا فنسيها فأمر بعراف فأحضر فسأله عن رؤياه فقال: يا أمير المؤمنين صاحب العرافة ينظر إلى الحركة فغضب المهدي من أنه يدعي العرافة ولا يعرف شيئا فوضع يده على رأسه ثم مسح وجهه ثم ضرب يده على فخذه من شدة غضبه قال العراف: يا أمير المؤمنين أخبرك عن رؤياك.

إنك صعدت على جبل ثم نزلت إلى أرض ملساء فيها عينان مالحتان ثم لقيت رجلا من قريش فسأله المهدي عن سبب معرفته فقال: مسحت الرأس وهو الجبل ومسحت الجبهة وهي أرض ملساء فيها عينان مالحتان ثم مسحت الفخذ وهي قبيلتك قال المهدي: صدقت وأمر له بمال جزيل وأمثال هذه الحكايات كثيرة يعرفها من تتبع المحاضرات ذكر ذلك صاحب مدينة العلوم. علم العروض هو علم يبحث فيه عن أحوال الأوزان المعتبر للشعر العارضة للألفاظ والتراكيب العربية. وموضوعه الألفاظ العربية من حيث إنها معروضة للإيقاعات المعتبرة في البحور الستة عشر عند العرب على ما وضعه واضع هذا الفن خليل بن أحمد. فعلى الأول: يكون من فروع الموسيقى. وعلى الثاني: من فروع علم الشعر على مذهب المتأخرين. وإن اعتبرت في الأشعار العربية تكون من فروع العلوم الأدبية. وغايته الاحتراز عن الخطأ في إيراد الكلام على الإيقاعات المعتبرة. ومباديه مقدمات حاصلة من تتبع أشعار العرب كذا في مدينة العلوم. قال ابن صدر الدين الشرواني في الفوائد الخاقانية: هو علم يبحث فيه عن المركبات الموزونة من حيث وزنها. واعلم إن أول من اخترع هذا الفن الإمام خليل بن أحمد تتبع أشعار العرب وحصرها في خمسة عشر وزنا ويسمى كلا منها: بحرا قيل إنما وضعه أحمد وهذبه الجوهري وزاد الأخفش بحرا آخر سماه المتدارك ولا حاكم في هذه الصناعة إلا استقامة الطبع وسلامة الذوق. فالذوق إن كان فطريا سليقيا فذاك وإلا احتيج في اكتسابه إلى طول خدمة هذا الفن. ومن الكتب المؤلفة فيه عروض ابن الحاجب والخطيب التبريزي. وعروض ابن القطاع. وعروض أبي الجيش الأندلسي. وعروض الخزرجي. وعروض الخيل بن أحمد النحوي إلى غير ذلك. وللآيكي مختصر بديع وشفاء العليل في علم الخليل لأمين الدين المحلي وفيما أورده السكاكي في تكملة مفتاح العلوم كفاية في هذا الفن والكتب والرسائل في هذا العلم بالفارسية والعربية كثيرة شهيرة متداولة بين أيدي الناس. علم العزائم العزائم مأخوذ من العزم وتصميم الرأي والانطواء على الأمر والنية فيه والإيجاب على الغير يقال: عزمت عليك أي أوجبت عليك حتمت.

وفي الاصطلاح: الإيجاب والتشديد والتغليظ على الجن والشياطين ما يبدو للحائم حوله المتعرض لهم به وكلما تلفظ بقوله: عزمت عليكم فقد أوجب عليهم الطاعة والإذعان والتسخير والتذليل لنفسه وذلك من الممكن والجائز عقلاً وشرعاً1 ومن أنكرها لم يعبأ به لأنه يفضي إلى إنكار قدرة الله سبحانه وتعالى لأن التسخير والتذليل إليه وانقيادهم للإنس من بديع صنعه. وسئل آصف بن برخيا هل يطيع الجن والشياطين للإنس بعد سليمان عليه السلام؟ فقال: يطيعونهم ما دام العالم باقيا وإنما يتسق بأسمائه الحسنى وعزائمه الكبرى وأقسامه العظام والتقرب إليه بالسير المرضية. ثم هو في أصله وقاعدته على قسمين محظور ومباح. الأول: هو السحر المحرم. وأما المباح فعلى الضد والعكس إذ لا يستم منه شيء إلا بورع كامل وعفاف شامل وصفاء خلوة وعزلة عن الخلق وانقطاع إلى الله تعالى. وقد علمت أن التسخير إلى الله تعالى غير أن المحققين اختلفوا في كيفية اتصاله بهم منه تعالى فقيل: على نهج لا سبيل لأحد دونه عز وجل. وقيل: بالعزيمة كالدعاء وإجابته. وقيل: بها والسير المرضية. وقيل: بالجواسيس الطائعين المتهيئين. وقيل: بالمحتسبة والسيارة. وقيل: بالعمار هذا ما يعتمد من كلام المحققين. قال فخر الأئمة: أما الذي عندي أنه إذا استجمع الشرائط وصوب العزائم صيرها الله تعالى عليهم نارا عظيمة محرقة لهم مضيقة أقطار العالم عليهم كيلا يبقى لهم ملجأ ولا متسع إلا الحضور والطاعة فيما يأمرهم به وأعلى من هذا أنه إذا كان ما هو مسيرا في سيرة الرضية وأخلاقه الحميدة فإنه يرسل عليهم ملائكة أقوياء غلاظ أشداد ليزجروهم ويسوقوهم إلى طاعته وخدمته. وأثبت المتكلمون وغيرهم من المحققين هذه الأصول حيث قالوا: أما يمنع من أن يكون من الكلام أسماء الله تعالى أو غيرها في الكتب والعزائم والطلمسات ما إذا حفظه الإنسان وتكلم به سخر الله تعالى بعض الجن وألزم قلبه وطاعته واختياره بما طلب منه من الأمور الكائنة فيما عرفه الجني وشاهده ليخبر به الإنسي وهذا هو بيان قول من قال: إن منهم متهيئين

_ 1 فيه نظر واضح لأن المشرع لم يرد بالعزائم وإنما ورد بجواز بعض الرقى، وليست العزائم في شيء وقد بين ذلك للمؤلف مد ظله في جواب سؤال ورد من جهة بعض أهل البصرة، في كتابة دليل الطالب إلى أرجع المطالب فليراجع إليه، مولوي محمد أيوب صاحب مفتي رياسة بهوبال سلم الله تعالى.

وجواسيس. قالوا: وطاعتهم للإنس غير ممتعة في عقل ولا سمع. علم عقود الأبنية علم يتعرف منه أحوال أوضاع الأبنية وكيفية أحكامها وطرق حسنها كبناء الحصون المحكمة وتنضيد المنازل البهية والقناطر المشيدة وأمثالها وأحوال كيفية شق الأنهار وتقنية القنئي وسد البثوق1 وإنباط المياه ونقلها من الأغوار إلى النجود وغير ذلك ومنفعته في عمارة المدن والمنازل والقلاع وفي الفلاحة ظاهرة عظيمة. وفيه كتاب لابن الهيثم وكتاب آخر للكرخي وللنصارى حكام الهند وهم البرطانية يد طولى في هذا العلم. علم علل القراءات علم باحث عن لمية القراءات كما إن علم القراءات باحث عن آنيتها فالأول دراية والثاني رواية. ولما كانت الرواية أصلا في العلوم الشرعية جعل الأول فرعا والثاني أصلا ولم يعكس الأمر وإن أمكن ذلك باعتبار آخر وموضوع هذا العلم وغايته ظاهران للمتأمل المتيقظ ذكره في مدينة العلوم. علم عمل الإصطرلاب علم يتعرف منه كيفية استخراجا الأعمال الفلكية من الإسطرلاب بطريق خاصة في كتبه وهذا أيضا علم نافع يستخرج منه كثير من الأعمال من معرفة ارتفاع الشمس ومعرفة المطالع والطوالع ومعرفة أوقات الصلاة وسمت القبلة ومعرفة طول الأشياء بالذراع وعرضها إلى غير ذلك وفي هذا العلم رسائل كثيرة مشهورة عند أهله. علم عمل ربع الدائرة وهو علم يعرف منه كيفية استخراج الأعمال الفلكية بطرق مختصة وفي هذا العلم رسائل كثيرة أيضا يعرفها أهله. وصنفت فيه في عنفوان الشباب رسالة نافعة جامعة لجميع الأعمال وللأعمال الفلكية آلات أخر سوى ما ذكر كالعصا والزرقالة والشكازية وأمثالها فلا نطول الكلام بذكرها لأن الكلام فيها كالكلام فيما سبق ذكره في مدينة العلوم. علم العيافة ويسمى قيافة الأثر وهو علم باحث عن تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر في المقابلة للأثر وهي التي تكون في تربة حرة يتشكل بشكل القدم. ونفع هذا العلم بين إذ القائف يجد بهذا العلم الفار من الناس والضوال من الحيوان يتتبع آثارها وقوائمها بقوة الباصرة وقوة الخيال والحافظة حتى يحكى أن بعض من اعتنى به يفرق بين أثر قدم

_ 1 يثق النهر بثاً وبثقاء تبثاقاً كسر نشطه لينبثق الماء كبثقة واسم ذلك الموضع البثق ويكسر جمعه بثوق، قاموسس.

الشاب والشيخ وقدم الرجل والمرأة وهو غريب كذا في مدينة العلوم لكن الذي يفيده المصباح والقاموس أن العيافة هي زجر الطير فلينظر في ذلك.

باب الغين المعجمة

باب الغين المعجمة علم غريب الحديث والقرآن قال أبو سليمان محمد الخطابي الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم كما إن الغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل والغريب من الكلام يقال به على وجهين: أحدهما: أن يراد به أأأنه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر. والوجه الآخر: يراد به كلام من بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب فإذا وقعت إلينا الكلمة من كلامهم استغربناها انتهى. وقال ابن الأثير في النهاية: وقد عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا حتى قال له علي رضي الله عنه وقد سمعه يخاطب وفد بني نمر: يا رسول الله نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود الغرب بما لا نفهم أكثره فقال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. فكان عليه الصلاة والسلام يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم بما يفهمونه فكان الله عز وجل قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره وكان أصحابه يعرفون أكثر ما يقوله وما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم واستمر عصره إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام. وجاء عصر الصحابة جاريا على هذا النمط فكان اللسان العربي عندهم صحيحا لا يتداخله الخلل إلى أن فتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم فامتزجت الألسن ونشأ بينهم الأولاد فتعلموا من عصر الصحابة وجاء التابعون فسلكوا سبيلهم فما انقضى زمانهم إلا واللسان العربي قد استحال أعجميا فلما أعضل الداء الهم الله سبحانه وتعالى جماعة من أولي المعارف انصرفوا إلى هذا الشأن طرفا من عنايتهم فشرعوا فيه حراسة لهذا العلم الشريف فقيل إن أول من جمع في هذا الفن شيئا أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المتوفى سنة عشر ومائتين فجمع كتابا صغيرا ولم تكن قلته لجهله بغيره وإنما ذلك لأمرين: أحدهما: إن كل مبتدئ بشيء لم يسيق إليه يكون قليلا ثم يكثر. والثاني: إن الناس كان فيهم يؤمئذ بقية وعندهم معرفة فلم يكن الجهل قد عم وله تأليف آخر في غريب القرآن وقد صنف عبد الواحد بن أحمد المليح المتوفى سنة اثنتين وستين وأربعمائة كتابا في رده وأبو سعيد أحمد بن خالد الضرير وموفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي المتوفى سنة تسع وعشرين وستمائة صنفا في رد غريب الحديث. ثم جمع أبو الحسن النضر بن شميل المازني النحوي بعده أكثر منه المتوفى سنة أربع ومائتين ثم جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي كتابا أحسن فيه وأجاد وكذلك محمد بن المستنير المعروف بقطرب وغيره من الأئمة جمعوا أحاديث وتكلموا على لغتها في أوراق ولم يكد أحدهم ينفرد عن غيره بكثير حديث لم يذكره الآخر.

ثم جاء أبو عبيد القاسم بن سلام بعد المائتين فجمع كتابه فصار هو القدوة في هذا الشأن فإنه أفنى فيه عمره حتى لقد قال فيما يروى عنه: أني جمعت كتابي هذا في أربعين سنة وربما كنت استفيد الفائدة من الأفواه فأضعها في موضعها فكان خلاصة عمري وبقي كتابه في أيدي الناس يرجعون إليه في غريب الحديث وعليه كتاب مختصر لمحب الدين أحمد بن عبد الله الطبري المتوفى سنة أربع وتسعين وستمائة سماه بقريب المرام في غريب القاسم بن سلام مبوبا على الحروف. ثم جاء عصر أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ست وسبعين ومائتين فصنف كتابه المشهور حذا فيه حذو أبي عبيدة فجاء كتابه مثل كتابه أو أكبر. وقال في مقدمته: أرجو أن لا يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال. وقد كان في زمانه الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي الحافظ وجمع كتابه فيه وهو كبير في خمس مجلدات بسط القول فيه واستقصى الأحاديث بطرق أسانيدها وأطاله بذكر متونها وإن لم تكن فيها إلا كلمة واحدة غريبة فطال ذلك كتابه فترك وهجر وإن كان كثير الفوائد توفي رحمه الله ببغداد سنة خمس وثمانين ومائتين. ثم صنف الناس غير من ذكر منهم شمر بن حمدويه وأبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب المتوفى سنة خمس وثمانين ومائتين وأبو بكر محمد بن قاسم الأنباري المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وأحمد بن حسن الكندي وأبو عمر ومحمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب ثعلب المتوفى سنة خمس وأربعين وثلث مائة وغريبه غريب مسند الإمام أحمد. وغير هؤلاء أقول كأبي الحسين عمر بن محمد القاضي المالكي المتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ولم يتم وأبي محمد سلمة بن عاصم النحوي وأبي مروان عبد الملك بن حبيب المالكي المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائتين وأبي القاسم محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الملقب ببيان الحق وقاسم بن محمد الأنباري المتوفى سنة أربع وثلاثمائة وأبي شجاع محمد بن علي بن الدهان البغدادي المتوفى سنة تسعين وخمسمائة وهو كبير في ستة عشر مجلدا. وأبي الفتح سليم بن أيوب الرازي المتوفى سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة وابن كيسان محمد بن أحمد النحوي المتوفى سنة تسع وستين ومائتين ومحمد بن حبيب البغدادي النحوي المتوفى سنة خمس وأربعين ومائتين وابن درستويه عبد الله بن جعفر النحوي المتوفى سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وإسماعيل بن عبد الغافر راوي صحيح مسلم المتوفى سنة خمس وأربعين وأربعمائة وكتابه جليل الفائدة مجلد مرتب على الحروف. واستمر الحال إلى عهد الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي البستي المتوفى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فألف كتابه المشهور سلك فيه نهج أبي عبيدة وابن قتيبة فكانت هذه الثلاثة فيه أمهات الكتب إلا أنه لم يكن كتاب صنف مرتبا يرجع الإنسان عند طلبه إلا كتاب الحربي وهو على طوله لا يوجد إلا بعد تعب وعناء فلما كان زمان أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة إحدى وأربعمائة صاحب الأزهري وكان في زمن الخطابي صنف كتابه المشهور في الجمع بين غريبي القرآن والحديث ورتبه على

حروف المعجم على وضع لم يسبق فيه وجمع ما في كتب من تقدمه فجاء جامعا في الحسن إلا أنه جاء الحديث مفرقا في حروف كلماته فانتشر فصار هو العمدة فيه وما زال الناس بعده يتبعون أثره على عهد أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري فصنف الفائق ورتبه على وضع اختاره مقفى على حروف المعجم ولكن في العثور على طلب الحديث منه كلفة ومشقة لأنه جمع في التقفية بين إيراد الحديث مسرودا جميعه أو أكثره ثم شرح ما فيه من غريب فيجيء بشرح كل كلمة غريبة يشتمل عليها ذلك الحديث في حرف وأحد فرد الكلمة في غير حروفها وإذا طلبها الإنسان تعب حتى يجدها فكان كتاب الهروي أقرب متناولا وأسهل مأخذاً. وصنف الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني كتابا فيه ما فات الهروي من غريب القرآن والحديث مناسبة وفائدة ورتبه كما رتبه ثم قال: واعلم أنه سيبقى بعد كتابي أشياء لم تقع لي ولا وقفت عليها لأن كلام العرب لم ينحصر. وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة سماه كتاب الغث كمل به الغريبين ومعاصره أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الإمام ابن الجوزي صنف كتابا في غريب الحديث نهج فيه طريق الهروي مجردا عن غريب القرآن وكان فاضلا لكنه يغلب عليه الوعظ وقال فيه: قد فاتهم أشياء فرأيت أن أبذل الوسع في جمع غريب وأرجو أن لا يشذ عني مهم من ذلك قال ابن الأثير: ولقد تتبعت كتابه فرأيته مختصرا من كتاب الهروي منتزعا من أبوابه شيئا فشيئا ولم يزد عليه إلا الكلمة الشاذة وأما أبو موسى فإنه لم يذكر في كتابه مما ذكره الهروي لا كلمة اضطر إلى ذكرها فإن كتابه أيضا يضاهي كتاب الهروي لأن وضعه استدراك ما فات الهروي ولما وقفت على ذينك الكتابين وهما في غاية من الحسن وإذا أراد أحد كلمة غريبة يحتاج إليهما وهما كبيران ذوا مجلدات عدة فرأيت أن أجمع بين ما فيهما من غريب الحديث مجرد من غريب القرآن وأضيف كل كلمة إلى أختها وتمادت بين الأيام فحينئذ أمعنت النظر في الجمع بين ألفاظهما فوجدتهما على كثرة ما أودع فيهما قد فاتهما الكثير فإني في بادئ الأمر مر بذكري كلمات غريبة من أحاديث البخاري ومسلم لم يرد شيء منها في هذين الكتابين فحيث عرفت نبهت لاعتبار ما سوى هذين من كتب الحديث فتتبعتها واستقصيت قديما وحديثا فرأيت فيها من الغريب كثيرا وأضفت ما عثرت عليه. وأنا أقول: كم يكون ما قد فاتني من الكلمات الغريبة تشتمل عليها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم ذخيرة لغيري انتهى كلام ابن الأثير من كتابه المسمى بالنهاية ملخصاً. أقول: وصنف الأرموي بعده كتابه في تتمة كتابه وصنف مهذب الدين بن الحاجب عشر مجلدات وتصنيف قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي المتوفى سنة ثلاثين وثلاثمائة بسرقسطة كان في عصر الحربي ذلك في الشرق هذا في الغرب ولم يطلع أحدهما على ما صنع الأخر ذكره البقاعي رحمه الله تعالى. علم غرائب لغات الحديث وهذا علم شريف موضوعه لطيف نفعه وغايته ولقد صنف فيه العلامة الزمخشري كتاب الفائق والإمام ابن الأثير الجزري كتاب النهاية قال في مدينة العلوم: وقد ذكرنا هذين الكتابين في علم اللغة لأن

هذا العلم قد يعد من فروع علم اللغة أيضا انتهى وهذا هو العلم المتقدم1. علم الغنج عده صاحب الموضوعات من فروع علم الموسيقى وقال: هو علم باحث عن كيفية صدور الأفعال الموزونة المهيجة للشوق والميل الطبعي التي تصدر عن العذارى والنسوان الفائقات الجمال المتصفات بالظرف والكمال إذا اقترن الحسن الذاتي بالغنج الطبعي كاملا في الغاية وإن كان الغنج متكلفا أو عرضيا يكون دون الأول لكن كل شيء من المليح مليح وهذا الغنج إن وقع أثناء المباشرة وحال المخالطة والتقبيل وغير ذلك كان محركا لقوة الوقاع وينتفع به العاجزون عن القربان كل الانتفاع وهذا الغنج مرخص في الشرع ويحمد هو من النساء في تلك الحال بل قد تؤجر هي عليه في الجماع الحلال. ونساء العرب مشهورات بين الرجال بحسن الغنج ولطف الدلال يتعلمنه في صغرهن ومثله في مدينة العلوم.

_ 1 فيه كتاب مجمع البحار للشيخ محمد طاهر الفتني، وهو أجمع ما جمع في هذا العلم وعليه التعويل في شرح غريب الكتب الستة الأمهات وغيرها، وقد طبع بهند وعم نفعه. مولانا عبد القيوم بن المولوي محمد عبد الحي المرحوم سلمه الله تعالى وأبقاه.

باب الفاء

باب الفاء علم الفال هو علم يعرف به بعض ما يحدث من الحوادث الآتية بطريق اتفاق حدوث أمر من جنس الكلام المسموع من الغير أو بفتح المصحف أو كتب الأنبياء والمشائخ كديوان الحافظ والمثنوي ونحوهما. وموضوع هذا العلم ظاهر من تعريفه. ومنفعته وفائدته كعلم الرمل. وقد اشتهر ديوان الحافظ بالتفاؤل حتى صنفوا فيه وهو ديوان معروف متداول بين أهل الفرس ويتفاءل به وكثيرا ما جاء بيت منه مطابقا بحسب حال المتفائل ولهذا يقال له لسان الغيب وقد ألف في تصديق هذا المدعا محمد بن الشيخ محمد الهروي رسالة مختصرة وأورد أخباره متعلقة بالتفاؤل به ووقع مطابقا لمتقضى حال المتفائل. وأفرط في مدح الشيخ المذكور وللكفري حسين المتوفى بعد سنة ثمانين وتسعمائة رسالة تركية في تفاؤلات ديوان الحافظ مشحونة بالحكايات الغريبة. وقد شرحه مصطفى بن شعبان المتخلص بسروري المتوفى سنة تسع وستين تسعمائة شرحا تركياً. وأما التفاؤل بالقرآن الكريم فجوزه بعضهم لما روي عن الصحابة وكان عليه الصلاة والسلام يحب الفال وينهي عن الطيرة. ومنعه آخرون، وقد صرح الإمام العلامة أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام في سورة المائدة بتحريم

أخذ الفال وهو الحق ونقله الإمام القرافي عن الإمام الطرطوشي أيضاً. قال الدميري: ومقتضى مذهبنا كراهيته لكن أباحه ابن بطة الحنبلي. قال في مدينة العلوم: الأصح الذي شهد الشرع بجوازه التجربة بصدقه هو التفاؤل بالقرآن العظيم وقد نقل عن الصحابة وعن السلف الصالحين وطريق فتح الفال من المصحف كثير مشهور عند الناس لكن الأحسن الاعتبار بالمعاني دون الألفاظ والحروف انتهى. قلت: والمعتمد عدم التفاؤل من كتاب الله ولم يرو عن السلف بطريق يعمد عليها في هذا الباب ولم يقل به أحد من أهل العلم بالحديث وإذا كان فتح الفال من التنزيل ممنوعا فكيف بغيره من كتب الأنبياء والأولياء والمشائخ؟ وقد تدرب بهذا نوع من الشرك في عقائد المسلمين أعاذنا الله منه نعم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه الفال ولا يتطير. ولما هاجر إلى المدينة وقاربها سمع مناديا ينادي: يا سالم فقال لأصحابه: سلمنا. فلما دخل المدينة سمع قول الأخر يقول: يا غانم فقال: غنمنا. فلما نزل أتي برطب فقال: حلانا البلد رواه أهل السير والله أعلم بسنده وأمثال ذلك كثيرة والاقتصار على ما وردت به السنة أسلم وأصون للدين وأما الطيرة والزجر فهو عكس الفال لأن المطلوب في الفال الإقدام وفي الطيرة والإحجام وأصل الزجر أن يتشاءم الإنسان من شيء تتأثر النفس من وروده على المسامع والمناظر تأثرا لا بالطبع فإن التنفر الطبيعي كالنفرة من صوت صرير الزجاج أو الحديد ليس من هذا القبيل. واشتقاق التطير من الطير لأن أصل الزجر في العرب كان من الطير كصوت الغراب فألحق به غيره في التعبير وأمثاله من الطيرة في العرب كثيرة. وقد تكون في غيرهم فيتكدر به عيشهم وينفتح عليهم أبواب الوسوسة من اعتبارهم إلى المناسبات البعيدة من حيث اللفظ والمعنى كالسفر والجلاء من السفرجل واليأس والمين من الياسمين وسوء سنة من السؤسنة والمصادفة إلى معلول حين الخروج وأمثال ذلك. قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح السعادة اعلم: أن مضرة التطير وتأثيره لمن يخاف به ويتغير منه وأما من لم يكن له مبالاة منه فلا تأثير له أصلا خصوصا إذا قال عند المشاهدة أو السماع: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك انتهى. قلت: وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التطير وقال: "لا طيرة ولا هامة ولا صفر" والمسئلة مصرحة في كتب الأحاديث لا سيما في فتح الباري شرح صحيح البخاري ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار وغير ذلك. علم الفتاوى هو من فروع علم الفقه. قال في مدينة العلوم: هو علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الواقعات الجزئية ليسهل الأمر على القاصرين من بعدهم.

والكتب المصنفة في هذا العلم أكثر من أن تحصى فلا مطمع لاستقصاء ما فيها وأشهر من أن تخفى فلا حاجة إلى التعرض لها انتهى. ولنا كتاب في آداب الفتوى المسمى بذخر المحتي من آداب المفتي وهو نفيس جدا وقد اشتمل كتب الفتاوى على قياسات وتفريعات لا تشهد له أدلة الكتاب ولا نصوص المنة وكثرت بحيث لا يمكن الإحاطة بها. واختلفت أقوال المفتين من أهل المذاهب فيها اختلافا لا تكاد تضبط والحق ترك النظر في أمثال هذه الخرافات والأباطيل وعدم تضييع الأوقات في الاشتغال بها لعدم ابتنائها على الدليل والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. علم الفراسة عده صاحب مفتاح السعادة من فروع العلم الطبيعي وقال: هو علم تعرف منه أخلاق الناس من أحوالهم الظاهرة من الألوان والأشكال والأعضاء وبالجملة الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن. وموضوعه ومنفعته ظاهران. ومن الكتب المؤلفة فيه كتاب الإمام الرازي خلاصة كتاب أرسطو مع زيادات مهمة ولأقليمون كتاب في الفراسة يختص بالنسوان وكتاب السياسة لمحمد بن الصوفي مختصر مفيد في هذا العلم وكفى بهذا العلم شرفا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وقوله سبحانه: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن بأنه ينظر بنور الله" وقوله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن كان قبلكم من الأمم المحدثون وإنه لو كان في أمتي لكان عمر". قلت: المحدث المصيب في ظنه وفرسته كأنه حديث الأمر وهذا العلم نافع للملوك والصعاليك في اختيار الزوج والصديق والمماليك إلى غير ذلك ولا بد للإنسان من ذلك العلم لأنه مدني الطبع محتاج إلى معرفة الضار من النافع ذكره في مدينة العلوم. علم الفرائض هو علم بقواعد وجزئيات تعرف بها كيفية صرف التركة إلى الوارث بعد معرفته وموضوعه التركة والوارث لأن الفرضي يبحث عن التركة وعن مستحقها بطريق الإرث من حيث إنها تصرف إليه إرثا بقواعد معينة شرعية ومن جهة قدر ما يحرزه ويتبعها متعلقات التركة. ووجه الحاجة إليه الوصول إلى إيصال كل وارث قدر استحقاقه: وغايته الاقتدار على ذلك وإيجاده وما عنه البحث فيه هو مسائله. واستمداده من أصول الشرع كذا في أقدار الرائض. واختلف في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها نصف العلم" فقال: طائفة سماهم في ضوء السراج وغيره وهم أهل السلامة لا ندري وليس علينا ذلك بل يجب علينا اتباعه عقلنا المعني أو لم نعقل لاحتمال خطأ التأويل.

وأول الآخرون على أربعة عشر قولاً. والأول: سماعا نصفا باعتبار البلوى رواه البيهقي. والثاني: لأن الخلو بين طوري الحياة والممات قاله في النهاية وعليه الأكثرون. الثالث: إن سبب الملك اختياري وضروري فالاختياري كالشراء وقبول الهبة والوصية والضروري كالإرث قاله صاحب الضوء وغيره. الرابع: تعظيما لها كذا في الابتهاج. الخامس: لكثرة شعبها وما يضاف إليها من الحساب قاله صاحب إغاثة اللهاج. السادس: لزيادة المشقة قاله نزيل حلب. السابع: باعتبار العلمين لأن العلم نوعان: علم يحصل به معرفة أسباب الإرث وعلم يعرف به جميع ما يجب قاله صاحب الضوء وغيره. الثامن: باعتبار الثواب لأنه يستحق الشخص بتعليم مسئلة واحدة من الفراض مائة حسنة وبتعليم مسئلة واحدة من الفقه عشر حسنات ولو قدرت جميع الفراض عشر مسائل وجميع الفقه مائة مسئلة يكون حسنات كل واحد منهما ألف حسنة وحينئذ تكون الفرائض باعتبار الثواب مساوية لسائر العلوم. التاسع: باعتبار التقدير يعني أنك لو بسطت علم الفرائض كل البسط لبلغ حجم فروعه مثل حجم فروع سائر الكتب كما في شرح السراجية. العاشر: سماها نصف العلم ترغيبا لهم في تعلم هذا العلم لما علم أنه أول علم ينسى وينتزع من بين الناس. وورد أنها ثلث العلم وفي الجمع بينهما ما أجاب ابن عبد السلام المالكي في شرحه لفروع ابن الحاجب أن الجمع ليس واجبا على الفقيه قال الفقيه الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر المتوفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة في كتاب الرد علي الجرجاني في ترجج مذهب أبي حنيفة: إنه أدعى تقدمهم في الفرائض ونقض بسعيد بن جبير وعبيدة وأبو الزناد وفي زمن أبي حنيفة كان ابن أبي ليلى وابن شبرمة قد صنفا في الفرائض ولأصحاب مالك والشافعي أيضا كتب منها كتاب أبي ثور وكتاب الكرابيسي وكتاب رواه الربيع عن الشافعي وأبسط الكتب فيها كتب أبي العباس ابن سريج وأبسط من الجميع كتاب محمد بن نصر المروزي وما صنف فيها أتقن وأحكم منه وحجمه يزيد على خمسين جزءا قال: وكتابنا في الفرائض يزيد على ألف ورقة. قال ابن السبكي: وهو كتاب جليل القدر لا مزيد على حسنه انتهى1 وبالله التوفيق علم الفروع هو المعروف بعلم الفقه وسيأتي قريباً.

_ 1 وقد تقدم الكلام على هذا العلم تحت علم الحساب فليعلم، علي حسين كاتب عفا الله عنه.

علم الفصد علم باحث عن كيفية آلات الفصد ومعرفة أنواع العروق ومعرفة ما يخص كل مرض من فصد عرق مخصوص إلى غير ذلك من الأحوال التي يعرفها مزاولها وغايته وغرضه ومنفعته لا تخفى كذا في مدينة العلوم. علم فضائل القرآن أول من صنف فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة أربع ومائتين وأبو العباس جعفر بن محمد المستغفري المتوفى سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وداود بن موسى الأودني وأبو العطاء المليح وأبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي ولابن أبي شيبة ولأبي عبد القاسم بن سلام الجمحي المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين ولابن الغريس ولأبي الحسن بن صخر الأزدي ولأبي ذر وللضياء المقدسي ولأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة ثمان وستين وأربعمائة مختصر فهي أخذ شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي أربعين حديثا منه وأدلة فضائل القرآن لبعض المتأخرين أولها الحمد لله الذي أمتن على عباده بنبيه المرسل. علم فضيلة كسر الشهوتين المراد بهما شهوة البطن والفرج وإنما وجب كسرهما لأن للقلب جهتين جهة إلى عالم الغيب المبرأ عن الشهوات والعيب وجهة إلى عالم الشهادة للمتحلي بالألف والعادة وهي تعلقه بالبدن ويحتاج بحسب هذه الجهة إلى الشهوتين. فمن غلب ميله إليهما لن يلج الملكوت ويكون في عداد الحيوانات. ومن اكتفى منهما بقدر الحاجة كما فعله نبينا صلى الله عليه وسلم يكون سالكا لطريقه ويصل إلى المقامات العلمية والمراتب السنية وطريق كسرهما معروف عند أهل الطريق وليس هذا موضع تفصيله ذكره في مدينة العلوم وفي الإحياء للغزالي ما يكفي في هذا الباب والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. علم الفقه قال في كشاف اصطلاحات الفنون: علم الفقه ويسمى هو وعلم أصول الفقه بعلم الدراية أيضا على ما في مجمع السلوك وهو معرفة النفس ما لها وما عليها هكذا نقل عن أبي حنيفة والمراد بالمعرفة: إدراك الجزئيات عن دليل فخرج التقليد. قال التفتازاني: القيد الأخير في تفسير المعرفة مما لا دلالة عليه أصلا لا لغة ولا اصطلاحاً. وقوله: وما لها وما عليها يمكن أن يراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة والمشعر بهذا شهرة أن علم الفقه من العلوم الدينية ويمكن أن يراد به ما يجوز لها وما يجب عليها أو ما يجوز لها وما يحرم عليها. ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقادات كوجوب الإيمان ونحوه. والوجدانيات أي: الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية.

والعمليات: كالصوم والصلاة والبيع ونحوها. فالأول: علم الكلام. والثاني: علم الأخلاق والتصوف. والثالث: هي الفقه المصطلح. وذكر الغزالي أن الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على دلائلها وعللها واسم الفقه في العصر الأول كان مطلقا على علم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا. قال أصحاب الشافعي: الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية والمراد بالحكم النسبة التامة الخبرية التي العلم بها تصديق وبغيرها تصور. فالفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العمل تصديقا حاصلا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا وهي الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ثم إن إطلاق العلم على الفقه وإن كان ظنيا باعتبار أن العلم قد يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه. ثم إن أصحاب الشافعي جعلوا للفقه أربعة أركان فقالوا: الأحكام الشرعية إما أن تتعلق بأمر الآخرة وهي العبادات أو بأمر الدنيا وهي إما أن تتعلق ببقاء الشخص وهي المعاملات أو ببقاء النوع باعتبار المنزل وهي المناكحات أو باعتبار المدينة وهي العقوبات وههنا أبحاث تركناها مخافة الإطناب فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى التوضيح والتلويح. وموضوعه فعل المكلف من حيث الوجوب والندوب والحل والحرمة وغير ذلك كالصحة والفساد وقيل موضوعه أعم من الفعل لأن قولنا: الوقت سبب أو وجوب الصلاة من مسائله وليس موضوعه الفعل وفيه أن ذلك راجع إلى بيان حال الفعل بتأويل إن الصلاة تجب لسبب الوقت كما أن قولهم النية في الوضوء مندوبة في قوة أن الوضوء يندب فيه النية. وبالجملة تعميم موضوع الفقه مما لم يقل به أحد ففي كل مسئلة ليس موضوعها راجعا إلى فعل المكلف يجب تأويله حتى يرجع موضوعها إليه كمسئلة المجنون والصبي فإنه راجع إلى فعل الولي هكذا في الخيالي وحواشيه ومسائله الأحكام الشرعية العملية كقولنا: الصلاة فرض. وغرضه النجاة من عذاب النار ونيل الثواب في الجنة وشرفه مما لا يخفى لكونه من العلوم الدينية انتهى كلام الكشاف. قال صاحب مفتاح السعادة: وهو علم باحث عن الأحكام الشرعية الفرعية العملية من حيث استنباطها من الأدلة التفصيلية. ومباديه مسائل أصول الفقه. وله استمداد من سائر العلوم الشرعية والعربية. وفائدته: حصول العمل به على الوجه المشروع.

والغرض منه: تحصيل ملكة الاقتدار على الأعمال الشرعية ولما كان الغاية والغرض في العلوم العملية يحصلان بالظن دون اليقين بناء على أن أقوى الأدلة الكتاب والسنة وإنه وإن كان علم الفقه قطعي الثبوت لكن أكثره ظني الدلالة فصار محلا للاجتهاد وجاز الأخذ فيه أولا بمذهب أي مجتهد أراد المقلد والمذاهب المشهورة التي تلقتها الأمة بالقبول وقبلها أهل الإسلام بالصحة هي المذاهب الأربعة للأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل ثم الأحق والأولى من بينها مذهب أبي حنيفة رحمه الله لأنه المتميز من بينهم بالإتقان والإحكام وجودة القريحة وقوة الرأي في استبناط الأحكام وكثرة المعرفة بالكتاب والسنة وصحة الرأي في علم الأحكام إلى غير ذلك لكن ينبغي لمن يقلد مذهبا معينا في الفروع أن يحكم بأن مذهبه صواب يحتمل الخطأ ومذهب المخالف خطأ يحتمل الصواب. ويحكم في الاعتقاديات بأن مذهبه حق جزما ومذهب المخالف خطأ قطعا انتهى ونحوه في مدينة العلوم. أقول أحق المذاهب إتقانا وأحسنها اتباعا وأحكمها وأحراها بالتمسك به ما ذهب إليه أهل الحديث والقرآن والترجيح لمذهب دون مذهب تحكم لا دليل عليه بل المذاهب الأربعة كلها سواسية في الحقيقة والواجب على الناس كلهم اتباع صرائح الكتاب العزيز والسنة المطهرة دون اتباع آراء الرجال وأقوال العلماء والأخذ باجتهاداتهم سيما فيما يخالف القرآن الكريم والحديث الشريف. وقد حققنا هذا البحث في كتابنا الجنة1 في الأسوة الحسنة بالسنة وذكر الغزالي في بيان تبديل أسامي العلوم ما تقدم ذكره وتمام هذا البحث ذكرناه في كتابنا قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل. والكتب المؤلفة على المذاهب الأربعة كثيرة جدا لا تكاد تحصى. ودواوين الإسلام من كتب الحديث وشروحه تغني الناس كلهم قرويهم وبدويهم عالمهم وجاهلهم ودانيهم وقاصيهم عن كتب الرأي والاجتهاد. والأئمة الأربعة منعوا الناس عن تقليدهم ولم يوجب الله سبحانه وتعالى على أحد تقليد أحد من الصحابة والتابعين الذين هم قدوة الأمة وأئمتها وسلفها فضلا عن المجتهدين وآحاد أهل العلم بل الواجب على الكل اتباع ما جاء به الكتاب والسنة المطهرة وإنما احتيج إلى تقليد المجتهدين لكون الأحاديث والأخبار الصحيحة لم تدون ولكن الآن بحمد الله تعالى قد دون أهل المعرفة بالسنن علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغنوا الناس عن غيره فلا حيا الله عبدا قلد ولم يتبع ولم يعرف قدر السنة وحمد على التقليد. ثم القول بأن المذهب الفلاني من المذاهب الأربعة أقدم وأحكم من أباطيل المقولات وأبطل المقالات وصدوره من مدعي العلم يدل على أنه ليس من أهل العلم لأن التقليد من صنيع الجاهل والمقلد ليس معدودا في العلماء انظر في الكتب التي الفت لرد التقليد كأعلام الموقعين عن رب العالمين وغير ذلك يتضح لك الصواب من الخطأ بلا ارتياب والكتب المؤلفة في الأخبار الصحاح

_ 1 وقد طبع هذا الكتاب في بلدة بهوبال المحتمية صانها الله عن البلية، علي حسين عفا الله عنه.

والحسان والضعاف كثيرة جدا ذكرناها في كتابنا إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين والمعتمد كل الاعتماد من بينها الأمهات الست وهي معروفة متيسرة في كل بلد وكذلك الكتب المؤلفة في أحكام السنة المطهرة خاصة كثيرة أيضا والمستند كل الاستناد من بينها هو مثل منتقى الأخبار وشرحه نيل الأوطار وبلوغ المرام وشرحه مسك الختام وسبل السلام والعمدة وشرحه العدة وغير ذلك مما ألف في ضبط الأحكام الثابتة بالسنة وما يليها مثل السيل الجرار ووبل الغمام ومنح الغفار حاشية ضوء النهار والهدي النبوي وسفر السعادة وكذا مؤلفات شيوخنا اليمانيين فإن فيها ما يكفي والمقلد المسكين يظن الخرافات في الكتاب والسنة. وقد أطال الأرنيقي في مدينة العلوم في ذكر تراجم الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفقهاء الحنفية كأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وابن المبارك وداود الطائي الكوفي ووكيع بن الجراح ويحيى بن زكريا وإسماعيل بن حماد ويوسف بن خالد وعافية بن يزيد وحبان ومندل ابني علي الغزي وعلي بن مسهرق القاسم بن معن وأسد بن عامر وأحمد بن حفص وخلف ابن أيوب وشداد بن حكم وموسى بن نصر وموسى بن سليمان الجوزجاني وهلال بن يحيى ومحمد بن سماعة وحكم بن عبد الله وأطال في ترجمة هؤلاء. وقال: اعلم أن الأئمة الحنفية أكثر من أن تحصى لأنهم قد طبقوا أكثر المعمورة حتى قيل إن للإمام أبي حنيفة سبعمائة وثلاثين رجلا من تلامذته وهذا ما عرف منهم وما لم يعرف أكثر من ذلك لكنا اكتفينا منهم ههنا بما سمح به الوقت والآن فلنذكر من الكتب المعتبرة في الفقه ما هو المشهور في الزمان انتهى. ثم ذكر كتبا سماها قال: وإن استقصاء الأئمة الحنفية وتصانيفهم خارج عن طوق هذا المختصر ولنذكر بعد ذلك نبذا من أئمة الشافعية ليكون الكتاب كامل الطرفين حائز الشرفين وهؤلاء صنفان أحدهما: من تشرف بصحبة الإمام الشافعي والآخر: من تلاهم من الأئمة انتهى. ثم ذكر هذين الصنفين وأطال في بيانهما وفضائلها إطالة حسنة والكتب التي ألفت في بيان طبقات أهل المذاهب الأربعة تغني عن ذكر جماعة خاصة من المقلدة المذهب واحد وإن كانوا أئمة أصحاب التصانيف ولا عبرة بكثرة المقلدة الذين قلدوا مذهبا واحدا من المذاهب الأربعة بل الاعتبار باختيار الحق والصواب وهو ترك التقليد لآراء الرجال وإيثار الحق على الحق والتمسك بالسنة. وقد ألف جماعة كتبا كثيرة في طبقات المتبعين وتراجم الحفاظ والمحدثين وهم ألوف لا يحصيهم كتاب وإن طال الفصل والباب وهم أكثر وأطيب إن شاء الله تعالى بالنسبة إلى المقلدة. وقد تعصب أصحاب الطبقات المذهبية في تعداد أهل نحلتهم حيث أدخلوا فيها من ليس منهم وغالب أئمة المذاهب ليسوا بمقلدين وإن انتسبوا إلى بعضهم بل هم مجتهدون مختارون لهم أحسن الأقوال وأحق الأحكام وبعد النظر والاجتهاد فعدهم في زمرة المقلدة بأدنى شركة في العلم ليس من الإنصاف في شيء وإنما خافوا فتنة العوام في ادعاء الاجتهاد أو عدم الاعتداد بالتقليد فصبروا على نسبتهم إلى مذهب من تلك المذاهب كما يعرف ذلك من له إلمام بتصانيف هؤلاء الكرام وليس هذا موضع بسط الكلام على

هذا المرام وإلا أريتك عجائب المقام وأتيتك بما لم يقرع سمعك من الأمور العظام. واعلم أن أصول الدين اثنان لا ثالث لهما: الكتاب والسنة وما ذكروه من أن الأدلة أربعة: القرآن والحديث والإجماع والقياس فليس عليه إثارة من علم وقد أنكر إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه الإجماع الذي اصطلحوا عليه اليوم وأعرض سيد الطائفة المتبعة داود الظاهري عن كون القياس حجة شرعية وخلاف هذين الإمامين نص في محل الخلاف ولهذا قال بقولهما عصابة عظيمة من أهل الإسلام قديما وحديثا إلى زماننا هذا ولم يروا الإجماع والقياس شيئا مما ينبغي التمسك به سيما عند المصادمة بنصوص التنزيل وأدلة السنة الصحيحة وهذه المسئلة من معارك المسائل بين المقلدة والمتبعة وأكثر الناس خلافا فيها الحنفية لأنهم أشد الناس تعصبا للمذهب وتقرير ذلك مبسوط في المبسوطات المؤلفة في هذا الباب. ومن له نظر في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه الواحد المتكلم الحافظ ابن القيم ومن حذا حذوهما من علماء الحديث والقرآن خصوصا أئمة اليمن الميمون وتلامذتهم فهو يعلم بأن هذا القول هو الحق المنصور والمذهب المختار والكلام المعتمد عليه ما سواه سراب وتباب ولولا مخافة الإطالة وخشية الملالة لذكرت ههنالك ما تذعن له من الأدلة على ذلك ومفاسد ما هنالك وبالله التوفيق وهو العاصم عن التنكيب عن سواء الطريق اللهم أرحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة. فصل قال ابن خلدون رحمه الله تعالى: الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والخطر والإباحة والندب والكراهة وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة على اختلاف فيها بينهم ولا بد من وقوعه ضرورة أن الأدلة غالبها من النصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها اختلاف بينهم معروف أيضاً. فالسنة1 مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضا فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها وأيضا فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص وما كان منها غير ظاهر في النصوص فحمل على منصوص لمشابهة بينهما وهذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقوع ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم. ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهة ومحكمة وسائر دلالته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم سمعه منهم من عليتهم وكانوا يسمون لذلك القراء أي الذين يقرؤون الكتاب لأن العرب كانوا

_ 1 فيه مباحث طويلة والحق كفاية الأصليين لجميع الحوادث إلى يوم القيامة، وعدم التعارض في الأحاديث وما ذكره ابن خلدون في هذا المقام كله متعقب فيه عليه، كما يظهر من الرجوع إلى إرشاد الفحول، وإلى الفتح الرباني وغيرهما. حكيم محمد أحسن سلمه الله تعالى.

أمة أمية فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب وتمكن الاستنباط وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلما فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء. وانقسم الفقه إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي والقياس وهم أهل العراق. وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلا في أهل العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرأي ومقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشافعي من بعده. ثم أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به وهم الظاهرية وجعلوا المدارك كلها منحصرة في النصوص والإجماع وردوا القياس الجلي والعلة المنصوصة إلى النص لأن النص على العلة نص على الحكم في جميع محالها وكان إمام هذا المذهب داود بن علي وابنه وأصحابه. وكانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح على قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلها أصول واهية وشذ بمثل ذلك الخوارج ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم ولا أثر لشيء منهم إلا في مواطنهم فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن والخوارج كذلك ولكل منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة. ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله ولم يبق إلا في الكتب المجلدة وربما يعكف كثير من الطالبين ممن تكلف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم فلا يحلو بطائل ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه وربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بنقله العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين. وقد فعل ذلك ابن حزم1 بالأندلس على علو رتبته في حفظ الحديث وصار إلى مذهب أهل الظاهر ومهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم وخالف إمامهم داود وتعرض للكثير من أئمة المسلمين فنقم الناس ذلك عليه وأوسعوا مذهبه استهجانا وإنكارا وتلقوا كتبه بالإغفال والترك حتى إنها ليحظر بيعها بالأسواق وربما تمزق في بعض الأحيان ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق وأهل الحديث من الحجاز. فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان ابن ثابت ومقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلدته وخصوصا مالك والشافعي. وأما أهل الحجاز فكان إمامهم مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى واختص

_ 1 هذ التحامل على ابن حزم العلامة الأوحد والمجتهد الأمجد ليس كما ينبغي. انظر إلى ترجمته في كتب التاريخ والطبقات يتضح عليك ماهو الخطأ من الصواب. مولوي محمد عبد الصمد صاحب بشاوري سلمه الله القوي.

بزيارة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره وهو عمل أهل المدينة لأنه رأى أنهم فيما يتفقون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم واقتدائهم وهكذا إلى الجيل المباشرين لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآخذين ذلك عنه وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية ظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة ممن سواهم بل هو شامل للأمة. واعلم أن الإجماع إنما هو الاتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد مالك رحمه الله لم يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلى الله عليه وسلم وضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة ذكرت في باب الإجماع الأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها وبين الإجماع إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر واجتهاد في الأدلة واتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم ولو ذكرت المسئلة في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب لكان أليق. ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحل إلى العراق من بعد مالك ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق واختص بمذهب وخالف مالكا رحمه الله في كثير من مذهبه. وجاء من بعدهما أحمد بن حنبل وكان من علية المحدثين وقرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ودرس المقلدون لمن سواهم وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه فصرحوا بالعجز والأعواز وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب ولم يبق إلا نقل مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة1. فأما أحمد بن حنبل فمقلدوه قليلون لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية للأخبار بعضها ببعض وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر الناس حفظا للسنة ورواية الحديث. وأما أبو حنيفة: فمقلدوه اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين وما وراء النهر وبلاد العجم كلها لما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام وكانت تلاميذه صحابة الخلفاء من بني العباس فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية وحسن مباحثهم في الخلافيات وجاؤوا منها بعلم مستطرف وأنظار غريبة

_ 1 انظر حكم التقليد وما له وعليه في كتاب إرشاد الفحول، وفي كتاب أدب الطلب، وكتاب القول المفيد، ومايلي تلك من الصحف المؤلفة في ذلك بين المختصرة والمطولة، تعلم أن كل ما ذكره ابن خلدون في هذا المقام هو من أبطل الباطلات التي لا يعرفها أحد من الأعلام. سيد علي حسن خان بهادر سلمه الله تعالى وأبقاه.

وهي بين أيدي الناس وبالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي ابن العربي وأبو الوليد الباجي في رحلتهما. وأما الشافعي رحمه الله فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وما وراء النهر وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الأمصار وعظمت مجالس المناظرات بينهم وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم ثم درس ذلك كله بدروس المشرق وأقطاره وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة من بني عبد الحكم وأشهب وابن القاسم وابن المواز وغيرهم ثم الحارث بن مسكين وبنوه. ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة وتداول بها فقه أهل البيت وتلاشى من سواهم إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب ورجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام فعاد إلى أحسن ما كان ونفق سوقه واشتهر منهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام وعز الدين بن عبد السلام أيضا ثم ابن الرفعة بمصر وتقي الدين بن دقيق العيد ثم تقي الدين السبكي بعد هما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد وهو سراج الدين البلقيني فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر. وأما مالك رحمه الله فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس وإن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج العراق ولم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك رحمه الله وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته وأيضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضا عندهم ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. ولما صار مذهب كل إمام علما مخصوصا عند أهل مذهبه ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم وصار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة واتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا وهذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد وأهل المغرب جميعا مقلدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلامذته افترقوا بمصر والعراق فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويز منداد وابن اللبان والقاضي أبو بكر الأبهري والقاضي أبو الحسين بن القصار والقاضي عبد الوهاب من بعدهم وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكيم والحارث بن مسكين وطبقتهم ورحل من الأندلس عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم وطبقته وبث مذهب مالك في الأندلس ودون فيه كتاب الواضحة ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية ورحل من إفريقية أسد بن الفرات فكتب عن

أصحاب أبي حنيفة أولا ثم انتقل إلى مذهب مالك وكتب علي بن القاسم في سائر أبواب الفقه وجاء إلى القيروان بكتابه وسمى الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات فقرا بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه وعارضه بمسائل الأسدية فرجع عن كثير منها وكتب سحنون مسائلها ودونها وأثبت ما رجع عنه وكتب لأسد أن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك الناس كتابه واتبعوا مدونة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة والمختلطة وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية. ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة والمختلطة في كتابة المسمى بالمختصر ولخصه أيضا أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب واعتمده المشيخة من أهل إفريقية وأخذوا به وتركوا ما سواه وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية وهجروا الواضحة وما سواها ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح والإيضاح والجمع. فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز التونسي وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر فاشتمل على جميع أقوال المذهب وفرع الأمهات كلها في هذا الكتاب ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة وزخرت بحار المذهب المالكي في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب وتعديد أقوالهم في كل مسئلة فجاء كالبرنامج للمذهب وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين وابن المبشر وابن اللهيث وابن رشيق وابن شاس وكانت بالإسكندرية في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنه جاء بعدا نقراض دولة العبيديين وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية. ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة عكف عليه الكثير من طلبة المغرب وخصوصا أهل بجاية لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلاميذه ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام وابن رشد وابن هارون وكلهم من مشيخة أهل تونس وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. علم الفلاحة قال صاحب مفتاح السعادة: هو علم يتعرف منه كيفية تدبير النبات من أول نشؤه إلى منتهى كماله وبدء كونه إلى تمام نشؤه بإصلاح الأرض إما بالماء أو بما يخلخلها ويحميها من المعفنات كالسماد

والرماد ونحوهما أو يحميها في أوقات البرد مع مراعات الأهوية فيختلف باختلاف الأماكن ولذلك تختلف قوانين الفلاحة باختلاف الأقاليم ومنفعته زكاة الحبوب والثمار ونحوها وهو ضروري للإنسان في معاشه ولذلك اشتق اسمه من الفلاح وهو البقاء انتهى. وقال ابن خلدون: هذه الصناعة من فروع الطبيعيات وهي النظر في النبات من حيث تنمسته ونشؤه بالسقي والعلاج وتعهده بمثل ذلك وكان للمتقدمين بها عناية كثيرة وكان النظر فيها عندهم عاما في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحاينات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك وترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير ولما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب وكان باب السحر مسدودا والنظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك وحذفوا الكلام في الفن الآخر منه مغفلا تقل منه مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله وكتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة ولا يعدون فيها الكلام في الغراس والعلاج وحفظ النبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كله وهي موجودة انتهى كلامه. قال في مدينة العلوم: ومن لطائف علم الفلاحة اتخاذ بعض نتائجه في غير أوقاته واستخراج بعض مباديه من غير أصله وتركيب الأشجار بعضها ببعض إلى غير ذلك ذكر أبو بكر بن وحشة في كتابه المسمى: بالفلاحة عن النبط أن من دار حول شجرة الخطمي وتطلع بالنظر إلى وردها وأدام ذلك فإنها تحدث فرحا في النفس وتزيل عنه الهم والحزن والغم. انتهى. علم الفلسفيات العلوم الفلسفية أربعة أنواع: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية. فالرياضية على أربعة أقسام. الأول: علم الأرتماطيقي وهو معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورس نيقوماخس وتحته علم الوفق وعلم الحساب الهندي وعلم الحساب القبطي والزنجي وعلم عقد الأصابع. الثاني: علم الجومطريا وهو علم الهندسة بالبراهين المذكورة في إقليدس ومنها علمية وعملية وتحتها علم المساحة وعلم التكسير وعلم رفع الأثقال وعلم الحيل المائية والهوائية والمناظر والحزب. الثالث: علم الإسطرلاب قوميا وهو: علم النجوم بالبراهين المذكورة في المجسطي وتحت علم الهيئة والميقات والزيج والتحويل. الرابع: علم الموسيقى وتحته علم الإيقاع والعروض، والثاني العلوم المنطقية وهي خمسة أنواع: الأول: أنولوطيقيا وهو معرفة صناعة الشعر. الثاني: بطوريقا وهو معرفة صناعة الخطب. الثالث: بوطيقيا وهو معرفة صناعة الجدل. الرابع: الولوطيقي وهو معرفة صناعة البرهان.

الخامس: سوفسطيقا وهو معرفة المغالطة. والثالث العلوم الطبيعية وهي سبعة أنواع: الأول: علم المبادئ وهو: معرفة خمسة أشياء لا ينفك عنها جسم وهي: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة. الثاني: علم السماء والعالم وما فيه. الثالث: علم الكون والفساد. الرابع: علم حوادث الجو. الخامس: علم المعادن. السادس: علم النبات. السابع: علم الحيوان ويدخل فيه علم الطب وفروعه. الرابع: العلوم الإلهية وهي خمسة أنواع: الأول: علم الواجب وصفته. الثاني: علم الروحانيات وهي معرفة الجواهر البسيطة العقلية الفعالة التي هي الملائكة. الثالث: العلوم النفسانية وهي معرفة النفوس المتجسدة والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من الفلك المحيط إلى مركز الأرض. الرابع: علم السياسات وهي خمسة أنواع: الأول: علم سياسة النبوة. الثاني: علم سياسة الملك وتحته الفلاحة والرعايا وهو الأول المحتاج إليه في أول الأمر لتأسيس المدن. الثالث: علم قود الجيش ومكائد الحرب والبيطرة والبيزرة وآداب الملوك. الرابع: العلم المدني كعلم سياسة العامة وعلم سياسة الخاصة وهي سياسة المنزل. الخامس: علم سياسة الذات وهو علم الأخلاق. فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها من كلام ابن خلدون رحمه الله وهذا الفصل مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن وضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها وذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه وما وراء الحسي تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعلل بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وإن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف وهو باللسان اليوناني محب الحكمة فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق. ومحصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولا صورا منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع وهذه المجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل؛

ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معاني أخرى وقد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معاني أخرى وهي التي اشتركت بها ثم تجرد ثانيا أن شاركها غيرها وثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني والأشخاص ولا يكون منها تجريد بعد هذا وهي الأجناس العالية. وهذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني. فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة وطلب تصور الوجود كما هو فلا بد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر وصنف التصديق الذي هو تلك الإضافة والحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية والتصور متقدم عليه في البداية والتعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية لطلب الإدراك وإنما التصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور وتوقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو. ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين. وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس. ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس والحيوانات ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان. ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر تسع مفصلة ذواتها جمل واحد أول مفرد وهو العاشر ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالقضاء وإن ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته وذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة وإن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم. وأمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها ودون علمها وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون وهو معلم الإسكندر1 ويسمونه

_ 1 الإسكندر بن الفيلسوف الرومي بالكسر وتفتح الهمزة ذكر الوجهين أبو العلاء المعري وقال: ليس له مثال في كلام العرب كذا في شفاء الغليل للخفاجي. وفي العناية له إثناء سورة آل عمران، ألزموا بعض الأعلام العجمية إلى علامة للتعريف كالإسكندرية فإن أبا زكريا التبريزي قال: لا تستعمل بدونها ولحن من استعمله بدونها ولا خلاف في أعجميته. ونقل الفاسي عن التبريزي في شرح قول أبي تمام: من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد شابت نواصي =

المعلم الأول على الإطلاق ويعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات. ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل وذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها. وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة. أبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما. واعلم: إن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفائهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك ويخلق ما لا تعلمون وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل والعقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء. وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات ويعرضوا على مغيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض. أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقينية لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة والموجودات الخارجية متشخصة بموادها ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا ما يشهدوا له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها وربما يكون تصرف الذهن أيضا في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ

_ = الليالي وهي لم تشب، المتعارف بين الناس الإسكندر بالألف واللام فحذفها منه وبعض الناس ينشده من عهد إسكندر فيثبت في آخره ألفا وذلك من كلام المنبسط لأنهم يزيدون الألف إذا نقلوا الاسم من كلام غيرهم فيقولون: خمراً ويريدون الخمر والإسكندر ملك مشهور قتل دارا بن واراب آخر ملوك الفرس، وملك البلاد وكلها وقصته مشهورة في التوارخي. ويقال: هو ابن فيلبس اليوناني وهو أخو فرا وفي كتب الإنسان أن الفيلسوف هو ابن صريم بن هرمس بن نطروس بن رومي بن ليطي بن ثابت بن سرحان بن رومة قرمط بن نوفل عيص بن إسحاق النبي عليه السلام كذا في تاج العروس. وقال محمد عارف باشا: هو رومي ويناني شخص واحد وهو ابن فيلبوس معربة فيلقوس وفيليب بلد من بلاد روم إيلي منسوب إلى فيلقوس، فرسم ابن الفيلسوف هو من تحريم النساخ من فيلقوس وتفصيل القول فيه وفي ابنه الإسكندر في ص899 من الأوقيانوس وإلا يقال لذي القرنين الإسكندر لأن الإسكندر يوناني وذو القرنين حميري، ومن هذا وهذا تفاوت عظيم نسباً وديناً وزمناً وهو ألف وتسعماية وثمان وخمسون سنة، سيد ذو الفقار أحمد التقوى البهوبالي طابت له الأيام والليالي.

دعاويهم في ذلك إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها. وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لها ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه وقد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية. وقال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين وإنما يقال فيها بالأحق الأولى يعني الظن وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط فيكفينا الظن الذي كان أولا فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسن من الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيف مردود وتفسيره أن الإنسان مركب من جزئين. أحدهما: جسماني والآخر روحاني ممتزج به ولكل واحد من الجزئين مدارك مختصة به والمدرك فيهما واحد وهو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة والمدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الاتبهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة والمتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس حصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة أمانة القوى الجسمانية ومداركها حتى الفكر من الدماغ ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والموانع الجسمانية فيحصل لهم بهجة ولذة لا يعبر عنها وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم. فأما قولهم إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين والأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر ونحن أول شيء نعني به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له فادحة فيه وتجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء والإشارات والنجاة وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها ولا يعلم أنه يستكثر بذلك الموانع عنها ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل

الفعال واتصل به في حياته فقد حصل حظه من هذه السعادة والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي وقد رأيت فساده. وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس. وأما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه إن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة وإنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة. وأما قولهم أن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه وبينا فساد ذلك وأن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفي إدراكه بجمله روحانيا أو جسمانيا والذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المدارك وهي الموجودات التي أحاط بها علمنا وليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر وأنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشرة ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا به الشارع إن لم نعمل لها هيهات هيهات لما توعدون. وأما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية والروحانية فهذا التهذيب الذي توصولنا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس وقوانين. وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا به الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق فأملا يحيط به مدارك المدركين وقد تنبه لذلك زعميهم أبو علي بن سينا فقال في كتاب المبدأ والمعاد ما معناه أن المعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة قلنا في البراهين عليه سعة. وأما المعاد الجسماني أحواله فلا يمكننا إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلينظر فيها ولنرجع في أحواله إليها فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها وليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية وهم كثيرا ما يستعلمونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكه الإتقان والصواب في الحجاج والاستدلالات لأنها وإن

كانت غير وافية بمقصودهم هم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطيها فليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والإطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو عن علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطيها والله الموفق للصواب وللحق والهادي إليه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. قال الغزالي في الإحياء: الفلسفة ليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء. أحدها: الهندسة والحساب وهما مباحان ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع فيصان الضعيف عنهما لا لعينهما خوفا عليه من أن القوي يندب إلى مخالطتهم. قال الثاني: المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه وهما داخلان في علم الكلام. الثالث: الإلهيات وهو بحث عن ذات الله تعالى وصفاته وهو داخل في الكلام أيضا والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم بل انفرد بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة. الرابع: الطبيعيات بعضها مخالف للشرع والدين الحق فهو جهل وليس بعلم حتى يورد في أقسام العلوم وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها وهو شبيه بنظر الأطباء ولا حاجة إليها وإنما حدث ذلك بحدوث البدع إلى آخر ما قال والله أعلم. علم الفلقطيرات وهو خطوط طويلة عقدت عليها حروف وأشكال أي حلق ودوائر وزعموا أن لها تأثيرات بالخاصة وبعضها مقروء الخطوط. قال في مدينة العلوم: وقد خفي علي طريق هذا العلم لمية وانية ولم نر فيه تصنيفا يبين حاله انتهى. وقال صاحب المفتاح في موضوعاته: وقد رأينا كثيرا منها على الأوراق المتفرقة لكن لم نر فيها تصنيفا مفردا ولم نقف أيضا على كيفية وضعها وما جرينا بها تأثيرا أم لا فبقيت عندنا مجهولة الحال أولا وآخرا انتهى. علم فواصل الآي قال في مفتاح السعادة: الفاصلة: كلمة آخر الآية كقافية الشعر وفقرة السجع. وفرق بين الفواصل ورؤوس الآي بأن الفاصلة هي الكلام المنفصل عما بعده والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وقد يكون غيره ورؤوس الآي قد تكون منفصلة وقد لا تكون انتهى. وفواصل الآيات كتاب للطوفي سليمان بن عبد القوي الحنبلي المتوفى سنة سبعمائة وعشرة.

باب القاف

باب القاف علم القافية قال في الموضوعات: هو علم يبحث فيه عن تناسب إعجاز البيت وعيوبها. وغرضه تحصيل ملكة إيراد الأبيات على أعجاز متناسبة خالية عن العيوب التي ينفر عنها الطبع السليم على الوجه الذي اعتبره العرب. وغايته الاحتراز عن الخطأ فيه ومباديه مقدمات حاصلة عن تتبع إعجاز أشعار العرب انتهى ومثله في مدينة العلوم. وقال العلامة ابن الصدر الشرواني في الفوائد الخاقانية: هو علم يبحث فيه عن المركبات الموزونة من حيث أواخر أبياتها. واعلم أن الأدباء اختلفوا في تفسير القافية فعند الخليل من آخر حرف في البيت إلى اقرب ساكن إليه مع المتحرك الذي قبل الساكن. وعند الأخفش هي الكلمة الأخيرة من البيت. وعند قطرب الرومي هي الحرف الذي تبنى عليه القصيدة وتنسب إليه فيقال: دالية ولامية فالقافية في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول1 فحومل عند الخليل من الخاء إلى اللام وعند الأخفش هي لفظ حومل وعند قطرب هي اللام. انتهى ومن الكتب المختصرة فيه كتاب الأيكي ومن المتوسطة كتاب المعروف لابن القطاع الصقيلي ومن المبسوطة كتاب لابن سيده وكتاب الكافي في علمي العروض والقوافي في شرح القصيدة الغراء والخريدة الحسناء لصدر الدين الشاوي ولابن عصفور كتاب جم الفوائد وما أورده السكاكي في كتاب المفتاح كاف وفيه أكثر كتب العروض مذيلة بعلم القوافي علم القراءة هو: علم يبحث فيه عن صور ونظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلاف المتواترة ومباديه مقدمات وتواترية وله أيضا استمداد من العلوم العربية. والغرض: منه تحصيل ملكة ضبطا الاختلافات المتواترة. وفائدته: صون كلام الله تعالى عن تطريق التحريف والتغيير وقد يبحث أيضا عن صور نظم الكلام من

_ 1 بالخاء كقبول موضع كذا في القاموس وقال الفاكهي في فتح المغلقات والدخول بفتح المهملة لا غير وبعض الفضلاء أنشد الدخول بخاء معجمة وهو محتمل لما في الصحاح أنه اسم موضع فيحتمل أنه المراد فلا ترجيح لواحد من الاحتمالين انتهى، سيد ذو الفقار أحمد سلمه الله الأحد.

حيث اختلافات الغير المتواترة الواصلة إلى حد الشهرة. ومباديه مقدمات مشهورة أو مروية عن الآحاد الموثوق بهم ذكره صاحب مفتاح السعادة ومثله في مدينة العلوم. وقال: وأشهر الكتب في هذا الفن القصيدة اللامية للشيخ أبي القاسم بن فيرة1 الشاطبي ومعناه بلغة عجم الأندلس الجديد. وشاطبة: قرية قريبة من أندلس. ولد رحمه الله أعمى وله قصيدة رائية ضمنها رسوم المصحف وهي أخت القصيدة المذكورة في الشهرة ونباهة الشأن ولها شروح منها لأبي الحسن السخاوي وسماه بفتح الوصيد في شرح القصيد ولأبي إسحاق الجعبري سماه بكنز المعاني وله شرح القصيدة الرائية. ومنها شرح الإمام محمد بن محمد الجزري ولها شروح كثيرة غير هذا بحيث لا يمكن تعدادها ومن أتقن الشروح المذكورة فله غنى عن غيرها. وفي هذا الفن مصنفات غير القصيدة المذكورة منها التيسير. ومنها: النشر في القراءات العشر للجزري وغير ذلك من المختصرات والمطولات انتهى. قال في كشف الظنون: قال الجعبري في شرح الشاطبية: واعلم أن القراء اصطلحوا على أن يسموا القراءة باسم الإمام والرواية للأخذ عنه مطلقا والطريق للأخذ عن الرواية فيقال: قراءة نافع رواية قالون طريق أبي نشيط ليعلم منشأ الخلاف فكما أن لكل إمام راو فلكل راو طريق انتهى. قال ابن الجزري في نشره: كان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام وجعلها فيما أحسب خمسة وعشرين قراءة مع السبعة مات سنة أربع وعشرين ومائتين انتهى. وقال ابن خلدون: القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف وهو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على طرق مختلفة في بعض ألفاظه وكيفيات الحروف في أدائها وتنوقل ذلك واشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها أيضا بأدائها واختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير فصارت هذه القراءات السبع أصولا للقراءة وربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء وهو غير منضبط وليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن وأباه الأكثر وقالوا بتواترها وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع دونت فكتبت فيما كتب من العلوم وصارت صناعة مخصوصة وعلما منفردا وتناقله الناس بالمشرق والأندلس في جيل بعد جيل إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين واجتهد في تعليمه وعرضه على من

_ 1 بكسر الفاء وبعدها ياء تحتية وبعدها راء مهملة مشددة مضمومة كما يفهم من مدينة العلوم والقاموس.

كان أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافرا واختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية والجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراء خصوصا فظهر لعهده أبو عمرو الداني وبلغ الغاية فيها وعول الناس عليها وعدلوا عن غيرها واعتمدوا من بينها كتاب التيسير له. ثم ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والأجيال أبو القاسم ابن فيرة من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دونه أبو عمرو وتلخيصه فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف اب ج د ترتيبا أحكمه ليتيسر عليه ما قصده من الاختصار وليكون أسهل للحفظ الأجل نظمها فاستوعب فيها الفن استيعابا حسنا وعنى الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس وربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضا وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط كزيادة الياء في بأييد وزيادة الألف في لا أذبحنه ولا أوضعوا والواو في جزاؤ الظلمين وحذف الألفات في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التاءات ممدودا والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك. وقد مر تعليل هذا الرسم المصحفي عند الكلام في الخط فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج إلى حصرها فكتب الناس فيها أيضا عند كتبهم في العلوم وانتهت بالمغرب إلى أبي عمرو الداني المذكور فكتب فيها كتاب من أشهرها كتاب المقنع وأخذ به الناس وعولوا فيه ونظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء وولع الناس بحفظها. ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات وحروف أخرى ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في كتبه وهو من تلاميذ أبي عمرو الداني والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه. ثم نقل بعده خلاف آخر فنظم الخراز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافا كثيرا وعزاه لناقليه واشتهرت بالمغرب واقتصر الناس على حفظها وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو والشاطبي في الرسم والله أعلم. علم القرانات قال صاحب مفتاح السعادة: اعلم أن القرآن هو اجتماع كوكبين أو أكثر الكواكب السبعة السيارة في درجة واحدة من برج واحد ويبحث في هذا العلم عن الأحكام الجارية في هذا العالم بسبب قران السبعة كلها أو بعضها في درجة واحدة من برج معين انتهى. قال في مدينة العلوم: وزعموا أن لقرانات الكواكب كلها أو بعضها آثارا في عالم الكون والفساد كحدوث طوفان عظيم مثل: طوفان نوح عليه السلام أو تبدل ملة: كبعثة الأنبياء أو تبدل دولة: كغلبة الاسكندر وجنكيز خان وتيمور وأمثال ذلك. وزعموا أن منها ما يكون في كل عشرين سنة ومنها ما يكون في كل مائتين وأربعين سنة ومنها ما يكون في كل سبعمائة وستين سنة ومنها ما يكون في ثلاثة آلاف سنة وثمانية وأربعين سنة مرة. ومنها: ما يكون في كل سبعة آلاف سنة مرة. والله أعلم بحقيقة الحال. فيبحث في هذا العلم عن

الأحكام الجارية في هذا العالم بسبب القرانات المذكورة. ولنصير الدين الطوسي تأليف في هذا الباب وكذا الجاماسب الحكيم انتهى. أقول: وفي كتاب حجج الكرامة في آثار القيامة جملة كافية في ضبط حوادث القرانات الخالية فانظر إليه يتسل قلبك. علم قرض الشعر وهو: علم باحث عن أحوال الكلمات الشعرية لا من حيث الوزن والقافية بل من حيث حسنها وقبحها من حيث أنها شعر. وحاصله تتبع أحوال خاصة بالشعر من حيث الحسن والقبح والجواز والامتناع وأمثالها قاله في مفتاح السعادة ومدينة العلوم. قال ابن الصدر في الفوائد: هو معرفة محاسن الشعر ومعائبه كما عاب الصاحب أبا تمام في قوله: كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي إذا ما لمته لمته وحدي حيث قابل المدح باللوم والصواب مقابلته بالذم والهجاء وأيضا عيب على أبي تمام التكرير في أمدحه مع الجمع بين الحاء الهاء وهما من حروف الحلق انتهى. وغرضه تحصيل ملكة إيراد الشعر على تلك الأحوال الخاصة. وغايته الاحتراز عن الخطأ في ذلك الإيراد. ومباديه مقدمات حاصلة من تتبع أشعار الغرب واستحسانات تقبلها الطباع السليمة. قال الأرنيقي في المدينة: رأيت كتابا منظوما في هذا العلم وأنا في عنفوان الشباب في زمن اشتغالي بالعلوم الأدبية لكن لم أتذكر اسمه واسم مصنفه في هذا الآن والله المستعان. علم القرعة وهو: علم1 يعرف به الاستدلال على الأحوال الحادثة في الاستقبال بكتابة الحروف على شكل من الأشكال ثم يستدل بوقوعه على وقوع المطلوب وهو كالرمل فتعتبر أحواله فيه أيضا لكن دلالاته أضعف من دلالات الرمل والله أعلم. علم القضاء هو: علم يبحث فيه عن آداب القضاة في أحوالهم وقضاياهم وفصل الخصومات ونحو ذلك واشهر الكتب فيه كتاب أدب القاضي للخصاف كذا في مدينة العلوم قلت: وأحسنها وأجمعها دليلا كتابنا ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي.

_ 1 وقد ثبت اعتبار القرعة في شريعة الإسلام كما صرح به المؤلف مد ظله في كتاب القضاء له. فليعلم، سيد نور الحسن خان سلمه الله تعالى وأبقاه.

علم قلع الآثار وتعريفه من اسمه ظاهر لكنه علم شريف يقتدر به الإنسان على إزالة الأدهان والصموغ والألوان التي يعسر إزالتها عن الثياب ونحوها بأدنى شيء أو أدنى حيلة ويقتدر أيضا على إزالة الخط من الأوراق من غير كشط ولا بقاء أثر فيها وهذا من أعظم الحيل ولا بد من كتمانها إذ يؤول إلى إبطال الصكوك والسجلات وأمثالها. قال في مدينة العلوم: دبغ التوت الشامي يزول بورقها وكذا دبغ التوت الحلو يزول بورق التوت الحلو ودبغ العنب الأبيض يزول بالعنب الأسود وبالعكس والآثار المجهولة في الثياب تزول بالنقع في خرء الحمام طول الليل ثم يغسل بكرة بالصابون فإنه ينقلع انتهى. علم قوانين الكتابة قال أبو الخير في موضوعاته: هو علم يعرف منه كيفية نقش صور الحروف البسائط وكيف يوضع القلم ومن أي جانب يبتدئ في الكتابة وكيف يسهل تصدير تلك الحروف وفيه من المصنفات الباب الواحد من كتاب صبح الأعشى انتهى ومثله في مدينة العلوم. وكتاب صبح الأعشى جعله مؤلفه سبعة أجزاء قال الأرنيقي: لم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بعلم الإنشاء إلا أوردها وزعم أن المنشئ لا بد له من معرفة جميع العلوم والأخبار والأحوال فأتى في كتابه ما أمكن له التعرض انتهى. علم القوافي قد مر تعريفه في علم القافية. علم قود العساكر والجيوش هو علم باحث عن ترتيب العساكر ونصب الرؤساء لضبط أحوالهم وتهيئة أرزاقهم وتمييز الشجاع عن الجبان والقوي عن الضعيف. ومن آدابه أن يحسن إلى الأقوياء والشجعان فوق إحسان الضعفاء من الأقران ثم يستميل قلوب الشجعان بأنواع اللطف والإحسان ويهيئ لهم ألبسة الحروب وما يليق بهم من السلاح ثم يأمر كلا منهم بالزهد والصلاح ليفوز بالخير والفلاح ويأمرهم أن لا يظلموا أحدا ولا ينقصوا عهدا ولا يهملوا ركنا من أركان الشريعة فإنه إلى استئصال الدولة ذريعة أي ذريعة ذكره أبو الخير ومثل له مثالا في موضوعاته ومثله في مدينة العلوم. قال: وفي كتاب الأحكام السلطانية للماوردي ما يكفي في هذا الباب. علم قوس قزح هو علم باحث عن كيفية حدوثه وسبب حدوثه وسبب استدارته واختلاف ألوانه وحصوله عقيب الأمطار وطرفي النهار وحصوله في النهار كثيرا وفي ضوء القمر في الليل أحيانا وأحكام حدوثه في عالم الكون والفساد إلى غير ذلك من الأحوال ذكره أبو الخير وعده من علم الطبيعي ومثله في مدينة العلوم.

علم القيافة هو على قسمين: قيافة الأثر ويقال لها العيافة وقد مرت. وقيافة البشر وهي المرادة ههنا وهو علم باحث عن كيفية الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة والاتحاد بينهما في النسب والولادة في سائر أحوالهما وأخلاقهما. والاستدلال بهذا الوجه مخصوص ببني مدلج وبني لعب ومن العرب وذلك لمناسبة طبيعة حاصلة فيهم لا يمكن تعلمه. وحكمة الاختصاص تؤول إلى صيانة النسبة النبوية كما قال بعض الحكماء. وخص ذلك بالعرب ليكون سببا لارتداع نسائهم عما يورث خبث الحس وشوب النسب من فساد البذر والزرع وحصول هذا العلم بالحدس والتخمين لا بالاستدلال واليقين والله سبحانه وتعالى أعلم. حكي أن الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن رأيا رجلا فقال محمد: أنه نجار. وقال الشافعي: إنه حداد فسألاه عن صنعته فقال: كنت حدادا والآن نجار. وإنما سمي بقيافة البشر لكون صاحبه متتبع بشرات الإنسان وجلوده وأعضاءه وأقدامه. وهذا العلم لا يحصل بالدراسة والتعليم ولهذا لم يصنف فيه. وذكروا أن إقليمون صاحب الفراسة كان يزعم في زمانه أنه يستدل بتركيب الإنسان على أخلاقه فأراد تلامذة بقراط أن يمتحنوه به فصوروا صورة بقراط ثم نهضوا بها إليه وكانت يونان تحكم الصورة بحيث تحاكي المصورة من جميع الوجوه في قليل أمرها وكثيره لأنهم كانوا يعظمون الصورة ويعبدونها فلذلك يحكمونها وكل الأمم تبع لهم في ذلك ولذلك يظهر التقصير من التابعين في التصوير وظهورا بينا فلما حضروا عند إقليمون ووقف على الصورة وتأملها وأمعن النظر فيها قال: هذا رجل يحب الزنا وهو لا يدري من هو فقالوا له: كذبت هذه صورة بقراط فقال: لا بد لعملي أن يصدق فاسألوه فلما رجعوا إليه وأخبروه بما كان قال: صدق إقليمون أنا أحب الزنا ولكن أملك نفسي كذا في تاريخ الحكماء. قال في مدينة العلوم: ومبنى هذا العلم ما يثبت في المباحث الطبية من وجود المناسبة والمشابهة بين الولد ووالديه وقد تكون تلك المناسبة في الأمور الظاهرة بحيث يدركها كل أحد وقد يكون في أمور خفية لا يدركها إلا أرباب الكمال. ولهذا اختلف أحوال الناس في هذا العلم كمالا وضعفا إلى حيث لا يشتبه عليه شيء أصلا لسبب كماله في القوتين أي القوة الباصرة والقوة الحافظة اللتين لا يحصل هذا العلم إلا بهما وهذا العلم موجود في قبائل العرب ويندر في غيرهم لأن هذا العلم لا يحصل إلا بالتجارب والمزاولة عليه مددا متطاولة ولهذا لم يقع في هذا العلم تصنيف وإنما هو متوارث ولاهتمام العرب بهذا العلم اختص بهم وتوارثه خلف عن سلف ولهذا لم يوجد في غيرهم انتهى. أقول: وقد اعتبر القيافة الشارع أيضا في بعض الأحكام كما ورد في الصحيح من حديث مجزز الأسلمي أنه دخل فرأى أسامة بن زيد وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامها فنظر

إليهما مجزز الأسلمي وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وجه إدخال هذا الحديث في كتاب الفرائض الرد على من زعموا أن القائف لا يعتبر به فإن اعتبر قوله فعمل به لزم منه حصول التوارث بين الملحق والملحق به انتهى. وقد بسط القول في ذلك القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني في مؤلفاته فارجع إليها.

باب الكاف

باب الكاف باب كتابة التقاويم هو علم يتعرف به كيفية إثبات ما خرج من حساب الزيج في الأوراق الإثني عشر على وجه خاص وترتيب خاص يعرفه أهل هذا الشأن وبين نصير الدين الطوسي جميع أحوال التقويم ومصطلحاته في رسالة له ورتبها على ثلاثين فصلاً. علم الكحالة هو من فروع علم الطب وهو علم باحث عن حفظ صحة العين وإزالة مرضها وموضوعه عين الإنسان وغرضه ونفعه ظاهران لا يخفيان على المتأمل والكتب التي ألفت فيه كثيرة حسنة. ومنها تذكرة الكحالين وتركيب العين ورسالة الكي وشفاء العيون وكشف الرين في أحوال العين وصور العيون ونتيجة الفكر في أحوال البصر ونور العين والمهذب وغير ذلك ومن الكتب الجديدة التأليف فيه كتاب ضياء النيرين في مداواة العينين طبع بمصر ووقفت عليه فوجدته أنفس الكتب في علاج أمراض العين وهو للشيخ العالم الماهر أحمد بن حسن الرشيدي ألفه باسم محمد علي باشا مصر. علم الكسر والبسط هو علم بوضع الحروف المقطعة بأن يقطع الإنسان حروف اسم من أسماء الله تعالى ويمزج تلك الحروف مع حروف مطلوبة ويوضع في سطر ثم يعمل على طريقة يعرفها أهلها حتى يغير ترتيب الحروف الموجودة في السطر الأول وفي السطر الثاني ثم وثم إلى أن ينتظم عين السطر الأول فيؤخذ منه أسماء ملائكة ودعوات يشتغل بها حتى يتم مطلوبه قاله صاحب مفتاح السعادة ونحوه في مدينة العلوم. علم الكشف لم يزد في الكشف على هذا والظاهر أنه من فروع علم الباطن. علم كشف الدك وإيضاح الشك قال في مفتاح السعادة هو علم تعرف منه الحيل المتعلقة بالصنائع الجزئية من التجارات وصنعة السمن واللازورد واللعل والياقوت وتغرير الناس في ذلك ولما كان مبناه محرما في الشرع أضربنا عن تفصيله وإن أردت الوقوف عليه فارجع إلى كتاب المختار في كشف الأستار فإنه بالغ في

كشف هذه الأسرار انتهى ومثله في مدينة العلوم. علم الكلام قال أبو الخير في الموضوعات: هو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها وموضوعه ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته عند المتقدمين. وقيل: موضوعه الموجود من حيث هو موجود. وعند المتأخرين موضوعه المعلوم من حيث ما يتعلق به من إثبات العقائد الدينية متعلقا قريبا أو بعيدا أو أرادوا بالدينية المنسوبة إلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم انتهى ملخصاً. والكتب المؤلفة فيه كثيرة ذكرها صاحب كشف الظنون. وللسيد الإمام العلامة محمد بن الوزير كتاب ترجيح أساليب القرآن لأهل الإيمان على أساليب اليونان وبيان ذلك بإجماع الأعيان بأوضح التبيان وكتاب البرهان القاطع في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع رد في هذين الكتابين على المتكلمين والكلام وأثبت أن جميع مسائل هذا العلم تثبت بالسنة والقرآن ولا يحتاج معهما إلى قوانين المتكلمين وقواعد الكلام وهما نفيسان جدا وما أحسن ما قال الغزالي في الإحياء. وحاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيئا منها مألوفا في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع انتهى. قال ابن خلدون: علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق والمآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علمه وفيما ينظر ويشير إلى حدوثه في الملة وما دعا إلى وضعه. فنقول إن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة وعنها يتم كونه وكل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلا بد له من أسباب أخر ولا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلا هو وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسح وتتضاعف طولا وعرضا ويحار العقل في إدراكها وتعديدها فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية والحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد المقصود والإرادات إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته والقصد إليه والقصود والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا وتلك التصورات هي أسباب قصد الفعل وقد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى وكل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية ولا على ترتيبها إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا والإنسان عاجز عن معرفة مباديها وغاياتها وإنما يحيط علما في

الغالب بالأسباب التي هي طبيعية ظاهرة يوقع في مداركها على نظام وترتيب لأن لا طبيعة محصورة للنفس وتحت طورها. وأما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة بها وتأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب والوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر ولا يحلو منه بطائل ولا يظفر بحقيقة {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} وربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمه وأصبح من الضالين الهالكين نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه في قدرتك واختيارك بل هو لون يحصل للنفس وصبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها إذ لو عملناها لتحرزنا منها فلنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة وأيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد بالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير وكيفية مجهولة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها وإلغائها جملة والتوجه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس على ماعلمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا لاطلاعه على ما وراء الحس قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة" فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقت عليه كلمة الكفر وإن سبح في بحر النظر والبحث عنها وعن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فأنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب وأمرنا بالتوحيد المطلق {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات وساقطة لديه بالكلية فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من خلق الناس والحصر مجهول الوجود أوسع نطاقا من ذلك {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} فاتهم إدراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك واعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال ومثال ذلك: مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال وهذا لا يدرك على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له

أن يحيط بالله وبصفاته فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه وتفطن في هذا الغلط من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك إذا تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره وكلها ترتقي إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين العجز عن الإدراك إدراك. ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس وإنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس كما أن المطلوب من الأعمال والعبادات أيضا حصول ملكة الطاعات والانقياد وتفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانياً. والفرق بين الحال والعلم في العقائد فرق ما بين القول والاتصاف. وشرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم والمسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها ويقول بذلك ويعترف به ويذكر مأخذه من الشريعة وهو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفر عنه واستنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة وما بعد ذلك من مقامات العطف والحنو والصدقة فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم ولم يحصل له مقام الحال والاتصاف ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم والاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول وهو الاتصاف بالرحمة وحصول ملكتها فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه ومسح عليه والتمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك ولو دفع عنه ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده وكذا علمك بالتوحيد مع اتصافك وليس الاتصاف ضرورة هو أوثق مبني من العلم الحاصل قبل الاتصاف وليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل ويتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل ويتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة ويحصل الاتصاف والتحقيق ويجيء العلم الثاني النافع في الآخرة فان العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى والنفع وهذا علم أكثر النظار والمطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة. واعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف وما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف والتحقق بها ثم إن الإقبال على العبادات والمواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة قال صلى الله عليه وسلم في رأس العبادات: "جعلت قرة عيني في الصلاة" فإن الصلاة صارت له صفة وحالا يجد فيها منتهى لذته وقرة عينه وأين هذا من صلاة الناس ومن لهم بها {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} اللهم وفقنا واهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فقد تبين لك من جميع ما قررنا أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد وهو: العقيدة الإيمانية وهو: الذي تحصل به السعادة وإن ذلك

سواء في التكاليف القلبية والبدنية ويتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف وينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب: أولها: التصديق القلبي الموافق اللسان. وأعلاها: حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي وما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الخوارج وتندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. وهذا ارفع مراتب الإيمان وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغير ولا كبيرة إذ حصول الملكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وفي حديث هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله فقال في أصحابه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ قال: لا قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. ومعناه: أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة والفطرة وهذه هي المرتبة العالية من الإيمان وهي في المرتبة الثانية من العصمة لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا وهذه حاصلة للمؤمنين حصولا تابعا لأعمالهم وتصديقهم وبهذه الملكة ورسوخها يقع التفاوت في الإيمان كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف وفي تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه مثل: أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وأن الصلاة والصيام من الإيمان وإن تطوع1 رمضان من الإيمان والحياء من الإيمان والمراد بهذا كله الإيمان الكامل الذي أشرنا إليه وإلى ملكته وهو فعلي. وأما التصديق الذي هو أول مراتبه ومن اعتبروا آخر الأسماء وحمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت وليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنه أقل ما يطلق عليه اسم الإيمان وهو المخلص من عهدة الكفر والفيصل بين الكافر والمسلم فلا يجزى أقل منه وهو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت وإنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. واعلم أن الشارع وصف لنا هذه الإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق وعين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بألسنتنا وهي العقائد التي تقررت في الدين قال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" وهذه هي العقائد الإيماينة المقررة في علم الكلام. ولنشر إليها بجملة لتتبين لك حقيقة هذا الفن وكيفية حدوثه فنقول. اعلم أن الشارع لما أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الذي رد الأفعال كلها إليه وأفرده به كما قدمناه وعرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود إذ ذاك متعذر

_ 1 أي تطوع قيام رمضان.

على إدراكنا ومن فوق طورنا فكلفنا أولا اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين وإلا لما صح أنه خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقديم ثم تنزيهه عن صفات النقص وإلا لشابه المخلوقين ثم توحيده بالاتحاد وإلا لم يتم الخلق للتمانع ثم اعتقاد أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الاتحاد والخلق. ومريد وإلا لم يخصص شيء من المخلوقات. ومقدر لكل كائن وإلا فالإرادة حادثة. وأنه يعيدنا بعد الموت ثم اعتقاد بعثة الرسل لنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحواله بالشقاء والسعادة وعدم معرفتنا بذلك وتمام لطفه بنا في الإيتاء بذلك وبيان الطريقين وأن الجنة للنعيم وجهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية وأدلتها من الكتاب والسنة كثيرة وعن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققتها الأئمة إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر. والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل فحدث بذلك علم الكلام ولنبين لك تفصيل هذا المجمل وذلك. أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخر قليلة توهم التشبيه مرة في الذات وأخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل وهذا معنى قول الكثير منهم اقرؤوها كما جاءت أي: آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء فيجب الوقف والإذعان له. وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه. ففريق أشبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظاهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق الذي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية وجمع بين الدليلين بتأويلهم ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام وليس ذلك بدافع لأنه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كان بالمعقولية واحدا من الجسم وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه ويتوقف مثله على الأذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كثبات الجبهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم وصوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات،

ونزول لا كالنزول يعنون من الأجسام واندفع ذلك بما اندفع به الأول ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له وفي كتاب الحافظ ابن عبد البر وغيرهم فإنهم يحومون على هذا المعنى ولا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غصون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء وألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب. فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم وهو مردود بأن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها. وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام وهو مردود لعدم اشتراط البينة في مدلول هذا اللفظ وإنما هو إدراك المسموع أو المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق بدعة صرح السلف بخلافها وعظم ضرر هذه البدعة ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها وخالفهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم أيسار كثير منهم ودماءهم كان ذلك سببا لإنتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري ما المتكلمين فوسط بين الطرق ونفي التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل ورد على المبتدعة في ذلك كله وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح وكمل العقائد في البعثة وأحوال الجنة والنار والثواب والعقاب وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم: أنها من عقائد الإيمان وأنه يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له وكذلك على الأمة وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية لا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام. أما لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل. وأما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي. وكثر اتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للأمة في طريقتهم وهذبها ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء وإن العرض لا يقوم بالعرض وأنه لا يبقى زمانين وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها وإن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية إلا أن صور الأدلة تعتبر بها الأقيسة ولم تكن حينئذ ظاهرة في الملة،

ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل وأوسع القول فيه ثم لخصه في كتاب الإرشاد واتخذه الناس إماما لعقائدهم ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة وقرأه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط يسير به الأدلة منها كما يسير من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك وربما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات فلما سيروها لمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة من مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى وتسمى طريقة المتأخرين وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم. وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيها واحدا من اشتباه المسائل فيهما. واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته وهو نوع استدلالهم غالبا والجسم الطبيعي ينظر فيه الفيلسوفي في الطبيعيات وهو بعض من هذه الكائنات إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم وهو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن. والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوفي في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته. ونظر المتكلم في الوجود من حيث أنه يدل على الموجد وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك والشبه عن تلك العقائد. وإذا تأملت حال الفن في حدوثه وكيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر وكلهم يفرض العقائد صحيحة ويستنهض الحجج والأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن وأنه لا يعدوه. ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع ومن جاء بعده من علماء العجم في جميع تآليفهم إلا أن هذه الطريقة قد يعني بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب والإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. وأما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو الطريقة القديمة للمتكلمين وأصلها كتاب الإرشاد وما حذا حذوه.

ومن أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي والإمام ابن الخطيب فإنها وإن وقع فيها مخالفة للاصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل والالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهما. وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته وإطلاقه. ولقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب. لكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها والله تعالى ولي المؤمنين. علم الكون والفساد هو علم باحث عن كيفية الأمطار والثلوج والرعد وأمثالها ووجودها في بعض البلاد دون بعض وفي بعض الأزمان دون آخر وسبب نفع بعضها وضرر الآخر إلى غير ذلك من الأحوال ذكره الأرنيقي في كتابه المسمى بمدينة العلوم. علم الكهانة المراد منه مناسبة الأرواح البشرية مع الأرواح المجردة من الجن والشياطين والاستعلام بهم عن الأحوال الجزئية الحادثة في عالم الكون والفساد المخصوصة بالمستقبل وأكثر ما يكون في العرب. وقد اشتهر فيهم كاهنان أحدهما: شق والآخر سطيح وقصتهما مشهورة في السير. وقيل كان وجود ذلك في العرب أحد أسباب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يخبر به ويحث على اتباعه كما يحكى منهم أخبار مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولادته المباركة وكونه نبي آخر الزمان وخاتم الأنبياء وفي هذا الباب حكايات غريبة لا يليق إيرادها بهذا المختصر فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بكتب السير والتواريخ ولا سيما كتاب أعلام النبوة للماوردي لكنهم كانوا محرومين بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام من الإطلاع على المغيبات ومحجوبين عنها بغلبة نور النبي صلى الله عليه وسلم حتى ورد في بعض الروايات أنه لا كهانة بعد النبوة فلا يجوز الآن تصديق الكهنة والإصغاء إليهم بل هو من إمارات الكفر والمصدق يكون كافرا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". لكن المفهوم من كتاب السر المكتوم للفخر الرازي جواز ذلك في الشرع حيث جوز النبي صلى الله عليه وسلم إصابة العين وقال: "العين حق". قال الرازي: إن الكهانة على قسمين: قسم يكون من خواص بعض النفوس فهو ليس بمكتسب.

وقسم يكون بالعزائم ودعوة الكواكب والاشتغال بهما فبعض طرقه مذكورة فيه وإن السلوك في هذا الطريق محرم في شريعتنا فعلى ذلك وجب الاحتراز عن تحصيله واكتسابه والقسم الأول داخل في علم العرافة وقد تنبه عليه في محله فلا تغفل. حكي أن السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين حاصر حصنا فصعب عليه فتحها فخرج من ذلك الحصن رجل فقال: لا يمنعكم عن فتحها إلا أصحاب الأوهام والساكنون فيها ولا يمنعهم عن ذلك إلا تشويشهم بما يمنعهم عن توجيه الأوهام من ضروب الطبول المزعجة وغلبات العساكر المقلقة عند طلوع الشمس ففعلوا كما قاله وانفتح لهم الحصن كذا في مدينة العلوم. علم كيفية الأرصاد علم يعرف به كيفية التوصل إلى تحصيل مقادير الحركات الفلكية وأوضاع الأفلاك ومقادير أجرامها وأبعادها بآلات مخصوصة يعرفها أهلها ومنفعته تكميل علم الهيئة وتحصيل الزيجات والاقتدار على تدوينها وحصول عمله بالفعل وكتاب الأرصاد لابن الهيثم يشتمل على نظري هذا الفن ورسالة غياث الدين جمشيد تشتمل على ترتيب الآلات الرصدية. علم كيفية إنزال القرآن قال صاحب مفتاح السعادة وفي معرفة كيفية إنزاله ثلاثة أقوال: الأول: وهو الأصح الأشهر أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجما في ثلث أو خمس وعشرين سنة على حسب الاختلاف في مدة إقامته بمكة بعد البعثة. الثاني: أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدرا وثلث وعشرين أو خمس وعشرين في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ثم نزل بعد ذلك منجما في جميع السنة وهذا القول نقله مقاتل وقال به الحليمي والماوردي وذكره فخر الدين الرازي بقوله: ويحتمل ثم توقف هل هذا أولى أو الأول؟ الثالث: أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات. واعلم أن العلماء اختلفوا في معنى الإنزال. فمنهم من قال: هو إظهار القراءة. ومنهم قال: ألهم صلى الله عليه وسلم كلامه وعلم قراءته. ومنهم من قال: يتلقفه الملك من الله تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه. ومنهم من قال: إن الذين يقولون القرآن معنى قائم بذاته يقولون إنزاله إيجاد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى وإثباته في اللوح به. وأما الذين يقولون: إنه اللفظ فإنزاله عندهم مجرد إتيانه في اللوح ثم في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اللفظ والمعنى.

وثانيها: أن جبرئيل نزل بالمعاني خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم علمها وعبر عنها بلغة العرب وتمسك صاحب هذا القول بظاهر قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} . وثالثها: أن جبريل ألقى عليه المعنى وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية ثم نزل به كذلك انتهى وفيه أقوال غير ذلك إن أردتها وجدتها في التفاسير وحواشي البيضاوي والإتقان للسيوطي رحمهما الله. علم الكيمياء هو علم يعرف به طرق سلب الخواص من الجواهر المعدنية وجلب خاصية جديدة إليها وإفادتها خواصا لم تكن لها والاعتماد فيه عن أن الفلزات كلها مشتركة في النوعية والاختلاف الظاهر بينها إنما هو باعتبار أمور عرضية يجوز انتقالها. قال الصفدي في شرح لامية العجم: وهذه اللفظة معربة من اللفظ العبراني وأصله كيم يه معناه أنه من الله وذكر الاختلاف في شأنه بامتناعه عنهم. وحاصل ما ذكره أن الناس فيه على طريقتين: فقال: كثير ببطلانه منهم الشيخ الرئيس ابن سينا أبطله بمقدمات من كتاب الشفاء والشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله صنف رسالة في إنكاره وصنف يعقوب الكندي أيضا رسالة في إبطاله جعلها مقالتين وكذلك غيرهم لكنهم لم يوردوا شيئا يفيد الظن لامتناعه فضلا عن اليقين بل لم يأتوا إلا بما يفيد الاستبعاد. وذهب آخرون إلى إمكانه منهم الإمام فخر الدين الرازي فإنه في المباحث المشرقية عقد فصلا في بيان إمكانه. والشيخ نجم الدين بن أبي الدر البغدادي رد على الشيخ ابن تيمية وزيف ما قاله في رسالته. ورد أبو بكر محمد بن زكريا الرازي على يعقوب الكندي ردا غير طائل ومؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي المعروف بالطغرائي صنف فيه كتبا منها حقائق الإشهادات وبين إثباته ورد على ابن سينا. ثم ذكر الصفدي نبذة من أقوال المثبتين والمنكرين. وقال الشيخ الرئيس: نسلم إمكان صبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص فأما أن يكون المصبوغ يسلب أو يكسى أما الأول فحال وأما الثاني فلم يظهر إلى إمكانه بعد إذ هذه الأمور المحسوسة يشبه أن لا تكون هي الفصول التي تصير بها هذه الأجساد أنواعا بل هي أعراض ولوازم وفصولها مجهولة وإذا كان الشيء مجهولا كيف يمكن أن يقصد قصد إيجاد أو إفناء؟ وذكر الإمام حججا أخرى للفلاسفة على امتناعه وأبطل بعد ذلك ما قرره الشيخ وغيره وقرر إمكانه واستدل في الملخص أيضا على إمكانه فقال: الإمكان العقلي ثابت لأن الأجسام مشتركة الجسمية فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الكل على ما ثبت. وأما الوقوع فلأن انفصال الذهب عن غيره باللون والرزانة وكل واحد منهما يمكن اكتسابه ولا منافاة بينهما نعم الطريق إليه عسير.

وحكى أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن ماجة الأندلسي في بعض تآليفه عن الشيخ أبي نصر الفارابي أنه قال: قد بين أرسطو في كتابه من المعادن أن صناعة الكيمياء داخلة تحت الإمكان إلا أنها من الممكن الذي يعسر وجوده بالفعل اللهم إلا أن تتفق قرائن يسهل بها الوجود وذلك أنه فحص عنها أولا على طريق الجدل فأثبتها بقياس وأبطلها بقياس على عادته فيما يكثر عناده من الأوضاع ثم أثبتها أخيرا بقياس ألفه من مقدمتين بينهما في أول الكتاب. وهما أن الفلزات واحدة بالنوع والاختلاف الذي بينها ليس في ماهياتها وإنما هو في أعراضها فبعضه في أعراضها الذاتية وبعضه في أعراضها العرضية. والثانية: أن كل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل واحد منهما إلى الآخر فإن كان العرض ذاتيا عسر الانتقال وإن كان مفارقا سهل الانتقال والعسير في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسير جدا انتهى كلامه. وقال الإمام شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري: إذا أراد المدبر أن يصنع ذهبا نظير ما صنعته الطبيعة من الزيبق والكبريت الظاهرين فيحتاج إلى أربعة أشياء. كمية كل واحد من ذنيك الجزئين. وكيفيته. ومقدار الحرارة الفاعلة للطبخ. وزمانه وكل واحد منها عسر التحصيل. وأما إن أراد ذلك بأن يدبر دواء وهو المعبر عنه بالإكسير مثلا ويلقيه على الفضة ليمتزج بها ويستقر خالدا حال جميع المعدنيات وخواصها وإن استخرجه بالقياس فمقدماته مجهولة ولا خفاء في عسر ذلك ومشقته انتهى وقال الصفدي: زعم الطبيعون في علة كون الذهب في المعدن إن الزيبق لما كمل طبخه جذبه إليه كبريت المعدن فاجنه في جوفه لئلا يسيل سيلان الرطوبات فلما اختلطا واتحدا وزالت الحرارة الفاعلة للطبخ وزمان تكون الذهب وكل منهما عسر التحصيل. وأما إن أراد ذلك بأن يدبر دواء وهو المعبر عنه بالإكسير مثلا ويلقيه على الفضة في طبخها ونضجها انعقد من ذلك ضروب المعادن فإن كان الزئبق صافيا والكبريت نقيا واختلطت أجزاؤهما على النسبة وكانت حرارة المعدن معتدلة لم يعرض لها عارض من البرد واليبس ولا من الملوحات والمرارت والحموضات انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز وهذا المعدن لا يتكون إلا في البراري الرملة والأحجار الرخوة ومراعاة الإنسان النار في عمل الذهب بيده على مثل هذا النظام مما تشق معرفة الطريق إليه والوصول إلى غايته: فيا دارها بالخيف إن مزراها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال وذكر يعقوب الكندي في رسالته: تعذر فعلل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله وخداع أهل هذه الصناعة

وجهلهم وبطل دعوى الذين يدعون صنعة الذهب والفضة. قال المنكرون: لو كان الذهب الصباغي مثلا للذهب الطبيعي لكان ما بالصناعة مثلا لما بالطبيعة ولو جاز ذلك لجاز أن يكون ما بالطبيعة مثلا لما بالصناعة فكنا نجد سيفا أو سريرا أو خاتما بالطبيعة وذلك باطل. وقالوا أيضا: الجواهر الصابغة إما أن تكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوغ أصبر أو تكونا متساويين. فإن كان الصابغ أصبر وجب1 أن يكون المصبوغ أصبر ووجب أن يفنى الصابغ ويبقى المصبوغ على حاله الأول عريا من الصبغ. وإن تساويا في الصبر على النار فهما من جنس واحد لاستوائهما في المصابرة عليها فلا يكون أحدهما صابغا ولا مصبوغا وهذه الحجة الثانية من أقوى حجج المنكرين. والجواب من المثبتين عن الأولى: إنا نجد النار تحصل بالقدح واصطكاك الأجرام والريح تحصل بالمراوح وأكواز الفقاع والنوشادر قد تتخذ من الشعر وكذلك كثير من الزاجات ثم بتقدير أن لا يوجد بالطبيعة ما لا يوجد بالصناعة لا يلزمنا الجزم بنفي ذلك ولا يلزمنا من إمكان حصول الأمر الطبعي بالصناعة إمكان العكس بل الأمر موقوف على الدليل. وعن الثانية: أنه لا يلزم من استواء الصابغ. والمصبوغ على النار استواؤهما في الماهية لما عرفت أن المختلفين يشتركان في بعض الصفات وفي هذا الجواب نظر. وحكى بعض من أنفق عمره في الطلب أن الطغرائي ألقى المثقال من الإكسير أولا على ستين ألف مثقال من معدن آخر فصار ذهبا ثم أنه ألقى آخر المثقال على ثلاثمائة ألف وأن مر يانس الراهب معلم خالد بن يزيد ألقى المثقال على ألف ألف ومائتي ألف مثقال وقالت مارية القبطية: والله لولا الله لقلت أن المثقال بملأ ما بين الخافقين. والجواب الفصل ما قاله الغزي: كجوهر الكيمياء ليس ترى ... من ناله والأنام في طلبه وصاحب الشذور من جملة أئمة هذا الفن صرح بأن نهاية الصبغ إلقاء الواحد على الألف في قوله: فعاد بلطف الحل والعقد جوهرا ... يطاع في النيران واحده الألفا وزعم بعضهم أن المقامات للحريري وكليلة ودمنة رموز في الكيمياء ويزعمون أن الصناعة مرموزة في صورة البراري وقد كتب بعض من جرب وتعب وأقلقه الجد وظن أن جدها لعب على مصنفات جابر تلميذ إمام جعفر الصادق: هذا الذي مقاله ... غر الأوائل والأواخر ما أنت إلا كاسر ... كذب الذي سماك جابر وكان قد شغل نفسه بطلب الكيمياء فأفنى بذلك عمره. وذكر الصفدي أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وإمام الحرمين كان كل منهما مغرى به.

_ 1 في هذه العبارة لفظ.

واعلم أن المعتنين به بعضهم يدبر مجموع الكبريت والزيبق في حر النار لتحصل امتزاجات كثيرة في مدة يسيرة لا يحصل في المعدن إلا في زمان طويل وهذا أصعب الطرق لأنه يحتاج إلى عمل شاق وبعضهم يؤلف المعادن على نسبة أوزان الفلزات وحجمها. وبعضهم يجهل القياس فيحصل لهم الاشتباه والالتباس فيستمدون بالنباتات والجمادات والحيوانات كالشعر والبيض والمرارة وهم لا يهتدون إلى النتيجة. ثم إن الحكماء أشاروا إلى طريقة صنعة الإكسير على طريق الأحاجي والألغاز والتعمية لأن في كتمه مصلحة عامة فلا سبيل إلى الاهتداء بكتبهم والله يهدي من يشاء قال أبو الأصبع عبد العزيز بن تمام العراقي يشير إلى مكانة الواصل لهذه الحكمة: فقد ظفرت بما لم يؤته ملك ... لا المنذران ولا كسرى بن ساسان ولا ابن هند ولا النعمان صاحبه ... ولا ابن ذي يزن في رأس غمدان قال الجلدكي في شرح المكتسب بعد أن بين انتسابه إلى الشيخ جابر وتحصيله في خدمته: وبالله تعالى أقسم أنه أراد بعد ذلك أن ينقلني عن هذا العلم مرارا عديدة ويورد علي الشكوك يريد لي بذلك الإضلال بعد الهداية ويأبى الله إلا ما أراد فلما فهمت مراده وعلمت أن الحسد قد داخله مني حصرته في ميدان البحث ومددت إليه سنان اللسان وعجز عن القيام بسيف الدليل ونادى عليه برهان الحق بالإفحام فجنح للسلم وقام واعتنقني وقال: إنما أردت أن اختبرك وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك. واعلم أن من لا مفترض علينا كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا وأن لا نكتمه عن أهله لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة ولأن في إذاعته خراب العالم وفي كتمانه عن أهله تضييع لهم. وقد رأينا أن الحكمة صارت في زماننا مهدمة البنيان لا سيما وطلبة هذا الزمان من أجهل الحيوان قد اجتمعوا على المحال فإنهم ما بين سوقة وباعة وأصحاب دهاء وشعبذة لا يدرون ما يقولون فأخذوا يتذاكرون الفقر ويذكرون أن الكيمياء غناء الدهر ويأتون على ذلك بزخارف الحكايات ومع ذلك لا يجتمع أحد منهم مع الآخر على رأي واحد ولا يدرون كيف الطلب مع أن حجر القوم لا يعد. وهذه المولدات الثلاث لكن جهالاتهم أوقعتهم في الضلال البعيد ورأينا أنه وجب علينا النصيحة على من طلب الحكمة الإلهية وهذه الصناعة الشريفة الفلسفية فوضعنا لهم كتابنا الموسوم ببغية الخبير في قانون طلب الإكسير ثم وضعنا الشمس المنير في تحقيق الإكسير. وفي هذا الفن رسالة للبخاري ذكر فيها حملة دلائل نقلية وعقلية تبلغ ستة وثلاثين. وفيه أيضا: رسالة ابن سينا المسماة بمرآة العجائب وأول من تكلم في علم الكيمياء ووضع فيها الكتب وبين صنعة الإكسير والميزان ونظر في كتب الفلاسفة من أهل الإسلام خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وأول من اشتهر هذا العلم عنه جابر بن حيان الصوفي من تلامذة خالد كما قيل:

حكمة أورثناها جابر ... عن إمام صادق القول وفي لوصي طاب في تربته ... فهو مسك في تراب النجف وذلك لأنه وفي لعلي واعترف له بالخلافة وترك الإمارة. واعلم أنه فرقها في كتب كثيرة لكنه أوصل الحق إلى أهله ووضع كل شيء في محله وأوصل من جعله الله سبحانه وتعالى سببا له في الإيصال ولكن اشغلهم بأنواع التدهيش والمحال لحكمة ارتضاها عقله ورأيه بحسب الزمان ومع ذلك فلا يخلو كتاب من كتبه عن فوائد عديدة. وأما من جاء بعد جابر من حكماء الإسلام مثل مسلمة بن أحمد المجريطي وأبي بكر الرازي وأبي الأصبع بن تمام العراقي والطغرائي والصادق محمد بن أميل التميمي والإمام أبي الحسن علي صاحب الشذور فكل منهم قد اجتهد غاية الاجتهاد في التعلم والجلدكي متأخر عنهم. ثم اعلم أن جماعة من الفلاسفة كالحكيم هرمس وأرسطاطاليس وفيثاغورس لما أرادوا استخراج هذه الصناعة الإلهية جعلوا أنفسهم في مقام الطبيعة فعرفوا بالقوة المنطقية والعلوم التجاربية ما دخل على كل جسم من هذه الأجسام من الحر والبرد واليبوسة وما خالطه أيضا من الأجسام الأخر. فعملوا الحيلة في تنقيص الزائد وتزييد الناقص من الكيفيات الفاعلة والمفعولة والمنفعلة لعلة تلك الأجسام على ما يراد منها بالأكاسير الترابية والحيوانية والنباتية المختلفة في الزمان والمكان وأقاموا التكليس مقام حرق المعادن والتهابها والتسقية مقام التبريد والتجميد والتساوي مقام التجفيف والتشميع مقام الترطيب والتليين والتقطير مقام التجوهر والتفصيل مقام التصفية والتخليص والسحق والتحليل مقام الالتيام والتمزيج والعقد مقام الاتحاد والتمكين واتخذوا جواهر الأصول شيئا واحدا فاعلا فعلا غير منفعل محتويا على تأثيرات مختلفة شديدة القوة نافذة الفعل والتأثير فيما يلاقي من الأجسام بحصول معرفة ذلك بالإلهامات السماوية والقياسات العقلية والحسية وكذلك فعل أيضا أسقليقندر يونس وأبدروماخس وغيرهم في تراكيب الترياق المعاجين والحبوب والأكحال والمراهم فإنهم قاسوا قوى الأدوية بالنسبة إلى مزاج أبدان البشر والأمراض الغامضة فيها وركبوا من الحار والبارد والرطب واليابس دواء واحدا ينتفع به في المداواة بعد مراعاة الأسباب كما فعل ذي مقراط أيضا في استخراج صنعة إكسير الخمر فإنه نظر أولا في أن الماء لا يقارب الخمر في شيء من القوام والاعتدال لأنه ماء العنب ووجد من خواص الخمر خمسا: والطعم والرائحة والتفريح والإسكار فأخذ إذ شرع من أول تركيبه للأدوية العقاقير الصابغة للماء بلون الخمر ثم المشاكلة في الطعم ثم المعطرة للرائحة ثم المفرحة ثم المسكرة فسحق منها اليابسات وسقاها بالمائعات حتى اتحدت فصارت دواء واحدا يابسا أضيف منه القليل إلى الكثير صبغه انتهى من رسالة أرسطو. قال الجلدكي في نهاية الطب: إن من عادة كل حكيم أن يفرق العلم كله في كتبه كلها ويجعل له من بعض كتبه خواص يشير إليها بالتقدمة على بقية الكتب لما اختصوا به من زيادة العلم. كما خص جابر من جميع كتبه كتابه المسمى ب الخمسمائة. وكما خص مؤيد الدين من كتبه كتابه المسمى ب المصابيح والمفاتيح.

وكما خص المجريطي كتابه الرتبة. وكما خص ابن أميل كتابه المصباح. ثم قال الجلدكي: ومن شروط العالم أن لا يكتم ما علمه الله تعالى من المصالح التي يعود نفعها على الخاص والعام إلا هذه الموهبة فإن الشرط فيها أن لا يظهرها بصريح اللفظ أبدا ولا يعلم بها الملوك لا سيما الذين لا يفهمون. ومن العجب أن المظهر لهذه الموهبة مرصد لحلول البلاء به من عدة وجوه: أحدها: أنه إن أظهرها لم ينم عليه فقد حل به البلاء لأن ما عنده مطلوب الناس جميعا فهو مرصد لحلول البلاء لأنهم يرون انتزاع مطلوبهم من عنده وربما حملهم الحسد على إتلافه إن أظهره للملك يخاف عليه منه فإن الملوك أحوج الناس إلى المال لأن به قوام دولتهم فربما يخيل منه أنه يخرج عنه دولته بقدرته على المال لا سيما ومال الدنيا كله حقير عند الواصل لهذه الموهبة. قال صاحب كنز الحكمة: فأما الواصل إلى حقيقته فلا ينبغي له أن يعترف به لأنه يضره وليس له منفعة البتة في إظهاره وإنما يصل إليه كل عالم بطريق يستخرجها لنفسه إما قريبة وإما بعيدة والإرشاد إنما يكون نحو الطريق العام وأما الطريق الخاص فلا يجوز أن يجتمع عليه اثنان اللهم إلا أن يوفق إنسان بسعادة عظيمة وعناية إلهية لأستاذ يلقنه إياها تلقينا وهيهات من ذلك إلا من جهة واحدة لا غير وهو أن يجتمع فيلسوفان أحدهما واصل والآخر طالب ولا يسعه أن يكتمه إياه وهذا أعز من الكبريت الأحمر1 وطلب الأبلق العقوق. انتهى. ونحن اقتفينا أثر الحكماء في كل ما وضعناه من كتبنا. قال في شرح المكتسب إلا أن كتابنا هذا امتن من كل كتبنا ما خلا الشمس المنير وغاية السرور فإن لكل واحد منهم مزية في العلم والعمل فمن ظفر بهذه الكتب الثلاثة فقط من كتبنا فلعله لا يفوته شيء من تحقيق هذا العلم. والكتب المؤلفة في هذا العلم كثيرة منها حقائق الاستشهادات وشرح المكتسب وبغية الخبير والشمس المنير في تحقيق الإكسير ورسالة للبخاري ومرآة العجائب لابن سينا والتقريب في أسرار التركيب وغاية السرور شرح الشذور والبرهان وكنز الاختصاص والمصباح في علم المفتاح ونهاية الطلب في شرح المكتسب ونتائج الفكرة ومفاتيح الحكمة ومصابيح الرحمة وفردوس الحكمة وكنز الحكمة انتهى. ما في كشف الظنون. وقد أطال ابن خلدون في بيان علم الكيمياء ثم عقد فصلا في إنكار ثمرتها واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها. ثم قال وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهما فليست من باب الصنائع الطبيعية ولا تتم بأمر صناعي وليس

_ 1 أي ما لا يمكن لأن الأبلق الذكر والعقوق الحامل، قاموس.

كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلاج وغيره وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى وهذا كلام جابر في رسائله ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه. وبالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع فكما لا يتدبر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع. فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله وعمله ويقال لهذا التدبير الصناعي: التدبير العقيم لأن نيلها إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الطبائع والصنائع فهو كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها فربما أوتيها الصالح ويؤتيها غيره فتكون عنده معارة. وربما أوتيها الصالح ولا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره ومن هذا الباب يكون عملها سحريا فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس وخوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحرا ولهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها ألغاز لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها والله بما يعملون محيط. وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة والنجارة والصناعة فيستصعب العاجز ابتغاؤه من هذه ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها وأكثر من يعني بذلك الفقراء من أهل العمران حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها واستحالتها. فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان عليه الوزراء فكان من أهل الغنى والثروة. والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها وانتحالها والله الرزاق ذو القوة المتين لا رب سواه. قال في مدينة العلوم: إ ن علم الكيمياء كان معجزة لموسى عليه السلام علمه القارون فوقع منه ما وقع ثم ظهر في جبابرة قوم هود وتعاطوا ذلك وبنوا مدينة من ذهب وفضة لم يخلق مثلها في البلاد. وممن اشتهر بالوصول إليه مؤيد الدين الطغرائي يقال: أنه وصل إلى الإكسير وهو الدواء الذي يدبره الحكماء ويلقونه على الجسد حال انفعاله بالذوبان فيحيله كإحالة السم الجسد الوارد عليه لكن إلى الصلاح دون الفساد ويعبرون عن مادة هذا الدواء بالحجر المكرم وربما يقولون حجر موسى لأنه الذي علمه موسى عليه السلام لقارون ويختلف حال هذا الدواء بقدر قوة التدبير وضعفه. يحكى أن واحدا سأل من مشائخ هذا الصنعة أن يعلمه هذا العلم وخدمه على ذلك سنين فقال: إن من شرط هذه الصنعة تعليمها لأفقر من في البلد فاطلب رجلا لا يكون أفقر منه في البلد حتى نعلمه وأنت تبصرها فطلب مدة مثل ما يقول الأستاذ فوجد رجلاً يغسل قميصا له في غاية الرداءة والدرن وهو

يغسله بالرمل ولم يقدر على قطعة صابون فقال في نفسه: لم أر أفقر منه فأخبر الأستاذ فقال: وجدت رجلا حاله وصفته كيت وكيت فقال الأستاذ: والله إن الذي وصفته هو شيخنا جابر بن حيان الذي تعلمت منه هذه الصنعة وبكى. قال إن من خاصية هذه الصنعة إن الواصلين إليها يكونون في غاية الإفلاس كما نقل عن الإمام الشافعي من طلب المال بالكيمياء أو الإكسير فقد أفلس إلا أنهم يقولون: إن حب الدنانير تفع عن قلب من عرفها ولا يؤثر التعب في تحصيلها على الراحة في تركها حتى قالوا: إن معرفة هذه الصنعة نصف السلوك لأن نصف السلوك رفع محبة الدنيا عن القلب وذلك يحصل بمعرفتها أي: حصول ومن قصد الوصول إلى ذلك بكتبهم وبتعبيراتهم وإشاراتهم فقد صار منخرطا في الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يسحبون أنهم يحسنون صنعا بل الوقوف على ذلك إن كان فبموهبة عظيمة من الملك المنان أو بواسطة الكشف والإلهام من الله ذي الجلال الإكرام أو بإنعام من الواصلين إلى هذا الأمر المكتوم إشفاقا وإحسانا ولا تتمن الوصول إلى ذلك بالجد والاهتمام وإنما نذكر بعضا من كتبه إكمالا للمرام لا إطماعا في الوصول إلى ذلك السول: منها: كتاب جابر بن حيان وتذكرة لابن كمونة. وكتاب الحكيم المجريطي. وشرح الفصول لعيون بن المنذر وتصانيف الطغرائي كثيرة في هذا الفن ومعتبرة عند أربابها والكتب والرسائل في هذا الباب كثيرة لكن لا خير في الاستقصاء فيها وإنما التعرض لهذا القدر لئلا يخلو الكتاب عنها بالمرة نسأل الله تعالى خيري الدنيا والآخرة انتهى حاصله. والله أعلم بالصواب.

باب اللام

باب اللام علم اللدني هو العلم الذي تعمله العبد من الله تعالى من غير واسطة ملك ونبي بالمشافهة والمشاهدة كما كان الخضر عليه السلام قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} . وقيل: هو معرفة ذات الله تعالى وصفاته علما يقينيا من مشاهدة وذوق ببصائر القلوب كذا في مجمع السلوك وهكذا في كشاف اصطلاحات الفنون. علم اللغة هو: علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات وهيئاتها الجزئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي وعما حصل من تركيب كل جوهر وهيئاتها من حيث الوضع والدلالة على المعاني الجزئية. وغايته: الاحتراز عن الخطأ في فهم المعاني الوضعية والوقوف على ما يفهم من كلمات العرب ومنفعته: الإحاطة بهذه المعلومات وطلاقة العبارة وجزالتها والتمكن من التفنن في الكلام وإيضاح المعاني بالبيانات الفصيحة والأقوال البليغة.

فإن قيل: علم اللغة عبارة عن تعريفات لفظية والتعريف من المطالب التصورية وحقيقة كل علم مسائله وهي قضايا كلية أو التصديقات بها وأيا ما كان فهي من المطالب التصديقية فلا تكون اللغة علماً. أجيب: بأن التعريف اللفظي لا يقصد به تحصيل صورة غير حاصلة كما في سائر التعاريف من الحدود والرسوم الحقيقية أو الاسمية بل المقصود من التعريف اللفظي: تعيين صورة من بين الصور الحاصلة ليلتفت إليه ويعلم أنه موضوع له اللفظ فما له إلى التصديق بأن هذا اللفظ موضوع بإزاء ذلك المعنى فهو من المطالب التصديقية لكن يبقى أنه حينئذ يكون علم اللغة عبارة عن قضايا شخصية حكم فيها على الألفاظ المعينة المشخصة بأنها وضعت بإزاء المعنى الفلاني والمسئلة لا بد وأن تكون قضية كلية. واعلم: أن مقصد علم اللغة مبني على أسلوبين. لأن منهم: من يذهب من جانب اللفظ إلى المعنى بأن يسمع لفظا ويطلب معناه. ومنهم: من يذهب من جانب المعنى إلى اللفظ فلكل من الطريقين قد وضعوا كتبا ليصل كل إلى مبتغاه إذ لا ينفعه ما وضع في الباب الآخر. فمن وضع بالاعتبار الأول فطريقه ترتيب حروف التهجي. إما باعتبار أواخرها أبوابا وباعتبار أوائلها فصولا تسهيلا للظفر بالمقصود كما اختاره الجوهري في الصحاح ومجد الدين في القاموس. وإما بالعكس أي: باعتبار أوائلها أبوابا واعتبار أواخرها فصولا كما اختاره ابن فارس في المجمل والمطرزي في المغرب. ومن وضع بالاعتبار الثاني فالطريق إليه أن يجمع الأجناس بحسب المعاني ويجعل لكل جنس بابا كما اختاره الزمخشري في قسم الأسماء من مقدمة الأدب. ثم إن اختلاف الهمم قد أوجب أحداث طرق شتى: فمن واحد أدى رأيه إلى أن يفرد لغات القرآن. ومن آخر إلى أن يفرد غريب الحديث. وآخر إلى أن يفرد لغات الفقه كالمطرزي في المغرب. وأن يفرد اللغات الواقعة في أشعار العرب وقصائدهم وما يجري مجراها كنظام الغريب والمقصود هو الإرشاد عند مساس أنواع الحاجات. والكتب المؤلفة في اللغة كثيرة ذكرها صاحب كشف الظنون على ترتيب حروف الهجاء وألفت كتابا في أصول اللغة سميته البلغة وذكرت فيه كل كتاب ألف في هذا العلم إلى زمني هذا وذكر صاحب مدينة العلوم كتاب في هذا العلم وأورد لكل كتاب ترجمة مؤلفه وبسط فيها فليراجعه. قال ابن خلدون: علم اللغة هو بيان الموضوعات اللغوية. وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلاً مع هجنة المتعربين في

اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي ألف فيها كتاب العين فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي وتأتي له حصر ذلك بوجوه عددية حاصرة. وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك ثم الثالث والرابع ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة وعشرين فتجمع كما هي بالعلم المعروف عند أهل الحساب ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة وعشرين لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية وهي ستة وعشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم يضرب الخارج في ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف المعجم وكذلك في الرباعي والخماسي فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة وجعل حروف العلة آخرا وهي: الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصى منها فلذلك سمى كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا وهو تسمية بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ ثم بين المهمل منها من المستعمل وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله تلحق به الثنائي لقلة دورانه وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. وضمن الخليل ذلك في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوعاه وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصر مع المحافظة على الاستيعاب وحذف منه المهمل كله وكثيرا من شواهد المستعمل ولخصه للحفظ أحسن تلخيص. وألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم وحصر اللغة اقتداء بحصر الخليل. ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيدة من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب وعلى نحو ترتيب كتاب العين وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدواوين.

ولخصه محمد بن أبي الحسن صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة. هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها إلا أن وجه الحصر فيها خفي ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضا في اللغة: كتاب الزمخشري في المجاز بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ وفيما تجوزت به من المدلولات وهو كتاب شريف الإفادة. ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فرق ذلك عندنا بين الوضع والاستعمال واحتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحنا وخروجا عن لسان العرب. واختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي وأفرده في كتاب له سماه فقه اللغة وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه فليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها وهو أشد من اللحن في الإعراب وأفحش. وكذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر. وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل: الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ والله الخلاق العليم لا رب سواه انتهى. وذكر في مدينة العلوم من المختصرات: كتاب العين للخليل بن أحمد والمنتخب والمجرد لعلي بن حسن المعروف بكراع النمل والمنضد في اللغة المجرد. ومن المتوسطات: المجمل لابن حسن الفارس وديوان الأدب للفارابي. ومن المبسوطات: المعلم لأحمد بن أبان اللغوي والتهذيب والجامع للأزهري والعباب الزاخر للصغاني والمحكم لابن سيدة والصحاح للجوهري واللامع المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب والقاموس المحيط1 قال: ومن الكتب الجامعة: لسان العرب جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة والنهاية للشيخ محمد بن مكرم بن علي وقيل: رضوان بن أحمد بن أبي القاسم. ومن المختصرات: السامي في الأسامي للميداني والدستور ومرقاة الأدب والمغرب في لغة الفقهيات

_ 1 للفيروز آبادي سمع من تقي الدين السبكي وولده تاج الدين ابن نباتة وابن جماعة وغيرهم.

خاصة للمطرزي ومختصر الإصلاح لابن السكيت وكتاب طلبة الطلبة لنجم الدين أبي حفص عمر بن محمد ويختص بالفقهيات. ومما يختص بغريب الحديث: نهاية الجزري والغريبين جمع فيه وبين غريب الحديث والقرآن ومنهم من أفرد اللغات الواقعة في أشعار العرب وقصائدهم إلى غير ذلك انتهى. وذكر تراجم اللغويين تحت الكتب المذكورة ومن أبسط الكتب في اللغة وأنفعها كتاب تاج العروس في شرح القاموس للسيد مرتضى الزبيدي المصري البلجرامي وبلجرام قصبة بنواحي قنوج موطن هذا العبد الضعيف. وكتاب المصباح ومختار الصحاح. وفي كتابنا البلغة كفاية لمن يريد الإطلاع على كتب هذا العلم.

باب الميم

باب الميم علم مبادي الإنشاء وأدواته هو علم باحث عما يحتاج إليه المنشي من الخط والعربية والعلوم الشرعية والتواريخ وما يناسب ذلك. وموضوعه وغايته وغرضه ظاهرة للمتدبر ومن المصنفات في هذا العلم بحيث لا يغادر قليلا ولا كثيرا إلا أحصاه ولا يدع شيئا من المهمات إلا كشف عنها واستقصاها كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشاء للشيخ الإمام العلامة جامع أشتات الفنون أبي العباس أحمد بن علي القلقشيدي الشافعي وهو كتاب نافع في بابه في الغاية. قال في مدينة العلوم: ولقد طالعت بعضا منه وانتفعت به لكن لم أقف على ترجمة مصنفه إلا أنه مصري الدار مات في جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثمانمائة عن خمس وستين سنة كذا في تاريخ السخاوي. ومن الكتب النافعة المختصرة فيه كتاب مناظر الإنشاء لمحمود الشهير بخواجه جهان إلا أنه وقع باللسان الفارسي وصاحبه من مشاهير الدنيا كان ذا ثروة ومال عظيم وكان يصل إحسانه من الهند إلى علماء الروم وفضلاء العجم ويقال أنه كان وزيرا في بلاد الهند انتهى. علم مبادئ الشعر هو علم باحث عن مقدمات تخييلية يحصل منها الترغيب أو الترهيب وتختلف تلك المقدمات بحسب قوم وقوم. وموضوعه: الشعر من حيث مقدماته المناسبة من تتبع الأمور التخييلية. ومباديه تحصل من تتبع أشعار الناس بحسب قوم وقوم والغرض منه تحصيل ملكة إيراد الكلام الشعري على مواد متناسبة وغايته الاحتراز عن الخطأ فيها وكتاب الشعر من مواد الأقيسة المذكورة في الكتب الحكمية نافع في هذا الباب. علم مبهمات القرآن قال أبو الخير: اعلم أن علم المبهمات مرجعه النقل المحض لا مجال للرأي فيه قال: وللإبهام في

القرآن أسباب ثم سرد أسبابه وذكر ستة أسباب. ومبهمات القرآن للسهيلي ولابن عساكر وللقاضي بدر الدين بن جماعة وللسيوطي1 فيه تأليف جمع فيه فوائد الكتب المذكورة مع زوائد أخرى كما ذكره في الإتقان. علم متشابه القرآن أول من صنف فيه الكسائي كما قال السيوطي في الإتقان ونظمه السخاوي ومن الكتب المصنفة فيه البرهان: ودرة التنزيل وكشف المعاني وقطف الأزهار وغير ذلك. علم متن الحديث المتن ما اكتنف الصلب من الحيوان فمتن كل شيء ما يتقوم به ذلك الشيء فمتن الحديث ألفاظه التي يتقوم بها المعنى. علم المحاضرات قال أبو الخير في مفتاح السعادة: هو علم يحصل منه ملكة إيراد كلام للغير مناسب للمقام من جهة معانيه الوضعية أو من جهة تركيبة الخاص. والغرض منه تحصيل تلك الملكة. وفائدته الاحتراز عن الخطأ في تطبيق كلام منقول عن الغير على ما يقتضيه مقام التخاطب من جهة معانيه الأصلية ومن جهة خصوص ذات التركيب نفسه. انتهى. والفرق بينه وبين علم المعاني. إن المعاني تطبيق المكلم كلام على مقتضى الحال وكلام الغير على خواص لائقة بحاله. والمحاضرات: استعمال كلام البلغاء أثناء الكلام في محل مناسب له على طريق الحكاية. وموضوعه وغايته وغرضه ومباديه ظاهرة للمتدبر. ومن الكتب المصنفة فيه: ربيع الأبرار لجار الله الزمخشري. وفنون المحاضرة للراغب الأصفهاني. والتذكرة الحمدونية لأبي المعالي. وريحانة الأدب لابن سعد. والعقد الفريد لابن عبد ربه وهو من الكتب الممتعة حوى من كل شيء وقد طبع في هذا الزمان بمصر القاهرة. وفصل الخطاب للتيفاشي. ونثر الدر للآبي.

_ 1 سماه مفحمات الأقران في مبهمات القرآن، وقد طبع بمصر القاهرة لهذا الأوان وانتشر في أكثر الأقاليم والبلدان. حافظ علي حسين عفا عنه الله المنان.

والأغاني لابن الفرج الأصفهاني وطبع بمصر أيضا ووقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله يقال: جمعه في خمسين سنة وحمله إلى سيف الدولة فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. وحكي عن الصاحب بن عباد: أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملا من الكتب فلما وصل إليه كتاب الأغاني استغنى به عنها. والسكردان لابن أبي حجلة وكان حنفي المذاهب حنبلي المعتقد وكان كثير الحط على الاتحادية وصنف كتابا عارض به قصائد ابن فارض كلها نبوية وكان يحط عليه لأنه لم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويحط على أهل نحلته ويرميه ومن يقول بمقالته ومن يقول بمقالته بالغطائم وقد امتحن بسبب ذلك على يد سراج الدين الهندي وكان يقول الشعر ولا يحسن العروض وجمع مجامع حسنة منها ديوان الصبابة وطبع بمصر وله مصنفات كثيرة ذكرها في مدينة العلوم وحياة الحيوان لكمال الدين الدميري وقد طبع بمصر أيضا ومونس الوحيد للثعالبي ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار لابن عربي الطائي والفتوحات المكية له وضمن فيها غرائب المعارف الكشفية والذوقية وطبع بمصر وسلوان1 المطاع في عدوان الاتباع لابن ظفر محمد الصقلي المنعوت بحجة الدين وله مصنفات جليلة أخرى وكتاب المحاضرات والمناظرات وكتاب الإمتاع والموانسة كلاهما لأبي حيان التوحيدي نسبة إلى نوع من التمر يسمى التوحيد وقال ابن حجر: يحتمل أن ينسب إلى التوحيد الذي هو الدين فإن المعتزلة يسمون أنفسهم أهل التوحيد 2 / 481 قال في مدينة العلوم: بعد ذكر تلك الكتب المذكورة وكتب المحاضرات كثيرة مثل نزهة الأصحاب في معاشرة الأحباب وأوثق المجالس وأنيس المحاضرة والروض الخصيب ومونس الحبيب ونظم السلوك في مسامرة الملوك ونشوان المحاضرات وعجائب الغرائب وترويح الأرواح غير ذلك مما يطول تعدادها. انتهى. علم مخارج الألفاظ لا يخفى أن للألفاظ مخارج تخصها مغايرة لمخارج الحروف يعرفها أهلها ولا يعرف هذين العلمين إلا من أحدهما من أفواه المشائخ وهذا العلم أيضا ربما يجعل من فروع علم الألفاظ. علم مخارج الحروف وهذا علم يبحث فيه عن أحوال الألفاظ العربية خارجة وإنها من أي موضع تخرج ويبحث عن صفاتها من الجهر والهمس وأمثالهما وقد تقدم في فروع علم الألفاظ لأنه يمكن أن يجعل فرعا لهذين العلمين لكن من جهتين هكذا في مدينة العلوم في آخر الكتاب. وقال في كشف الظنون: هو من فروع القراءة والتصريف ثم قال في المدينة بموضع آخر ما لفظه: وهو تصحيح مخارج الحروف كيفية وكمية وصفاتها العارضة لها بحسب ما تقتضيه طباع العرب. فموضوعه بسائط الحروف العربية بحسب مخارجها وصفاتها ومباديه بعضها بديهي وبعضها استقرائي.

_ 1 وقد طبع بأستنبول أيضاً كما يظهر من الجوانب، أحمد حسين خوشنويس.

ويستمد من العلم الطبيعي وعلم التشريح. وغرضه تحصيل ملكة إيراد تلك الحروف في المخارج على ما هي عليه في لسان العرب. وغايته الأولية الاحتراز عن الخطأ في لفظ كلام العرب بحسب مخارج حروفه وغايته الأخرية القدرة على قراءة القرآن كما أنزل بحسب مخارج حروفها وصفاتها ولقد صنف الشيخ الجزري في هذا العلم أرجوزة هي مقدمة لهذا الفن وعليها شرح لولد المصنف. قال في مدينة العلوم: وشرحتها أنا في عنفوان الشباب وانتفع بذلك بحمد الله تعالى كثير من الأحباب ولقد أدرج الشيخ الشاطبي في قصيدته ما فيه كفاية في هذا الفن ولا يرجى المزيد عليها انتهى كلام الأرنيقي رحمه الله تعالى. علم مخارج اللسان ذكره في الكشف ولم يكشفه. علم المراحيات هكذا في كشف الظنون. علم مراكز الأثقال قال أبو الخير في مفتاح السعادة: هو علم يتعرف منه كيفية استخراج مركز ثقل الجسم المحمول والمراد بمركز الثقل حد في الجسم عنده يتعادل بالنسبة إلى الحامل. ومنفعته معرفة كيفية معادلة الأجسام العظيمة بما دونها لتوسط المسافة. انتهى. وفيه كتاب لأبي سهيل الكوهي تساهل في مقدمات براهينه ولابن الهيثم في كتاب مفيد. علم المرايا المحرقة قال أبو الخير: هو علم يتعرف منه أحوال الخطوط الشعاعية المنعطفة والمنعكسة والمنكسرة ومواقعها وزواياها ومراجعها وكيفية عمل المرايا المحرقة بانعكاس أشعة الشمس عنها ونصبها وحاذاتها ومنفعته بليغة في محاصرات المدن والقلاع انتهى. ومثله في كشاف اصطلاحات الفنون وقد كانت القدماء تعمل المرايا من أسطحة مستوية بعضهم من مقعر كرة إلى أن ظهر ونوقلس وبرهن على أنها: إذا كانت أسطحتها مقعرة بحسب القطع المكاني فإنها تكون في غاية القوة والإحراق وكتاب ابن الهيثم في المرايا المحرقة على هذا الرأي قاله في مدينة العلوم. علم المساحة هكذا في الكشف وأقول: هو من فروع علم الهندسة وهو فن يحتاج إليه في مسح الأرض. ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما أو نسبة أرض من أرض إذا

قويست بمثل ذلك ويحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع والفدن1 وبساتين الغراسة وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء أو الورثة وأمثال ذلك وللناس فيها موضوعات حسنة كثيرة والله الموفق للصواب بمنه وكرمه انتهى ما في ابن خلدون. وعبارة مدينة العلوم هكذا هو علم يتعرف منه مقادير الخطوط والسطوح والأجسام بما يقدرها من الخط والمربع والمكعب. ومنفعته جليلة في أمر الخراج وقسمة الأرضيين وتقدير المساكن وغيرها. ومن الكتب المختصرة فيه: كتاب لابن محلي الموصلي. ومن المتوسطة: كتاب لابن المختار وكتاب شميدس انتهى. وهذا العلم متداول اليوم في الناس وأكثرهم علما به النصارى حكام الهند والله تعالى أعلم بالصواب. علم مسالك البلدان والأمصار علم باحث عن أحوال الطرق الواقعة بين البلاد وإنها برية أو بحرية عامرة أو غامرة سهلية أو جبلية مستقيمة أو منحرفة والعلامات المنصوبة لتلك الطرق من الجبال والتلال وأمثالهما ومعرفة ما في تلك المسالك من المخاوف الحيوانية أو النباتية وأمثال ذلك. ومنفعة هذا العلم لا تخفى على أحد ذكره في مدينة العلوم ورأيت فيه كتابا بالفارسي لبعض علماء الهند. علم مسامرة الملوك هذا من فروع المحاضرات وهو علم باحث عن أحوال يرغب فيها الملوك من القصص والأخبار والمواعظ والعبر والأمثال وغرائب الأقاليم وعجائب البلدان وغير ذلك من الأحوال التي فيها ترغب الملوك والأمراء والرؤساء وأهل الرفاهة والأتراف. ومن الكتب المصنفة فيه سلوان المطاع في عدوان الاتباع لابن ظفر وكتاب مفاكهة الخلفاء وكتاب نظم السلوك في مسامرة الملوك. وأكثر كتب المحاضرات وافية بهذا المطلب سيما كتاب حياة الحيوان ومحاضرات الراغب. وموضوعه وغايته وغرضه ومنفعته ظاهرة للعاقل الذكي. علم مشكل القرآن 2 هكذا في كشف الظنون علم المعادن أي: معادن الإبريز والجواهر وغير ذلك قال في مدينة العلوم: المعادن سبعمائة معدن وهو علم يتعرف

_ 1 آله الحرث. 2 فيه تأليف لجماعة من أهل العلم.

منه أحوال الفلزات من طبائعها وألوانها وكيفية تولدها في المعادن وكيفية استخراجها واستخلاصها عن الأجزاء الأرضية وتفاوت طبائعها وأوزانها وغايته. ومنفعته لا تخفى على أحد حتى العوام والتصانيف فيه كثير ولا أنفع ولا أجمع من تأليف الطوسي. علم المعاد أي دار الآخرة1. علم المعاني سبق في حرف الباء في علم البيان قال في مدينة العلوم: هو تتبع خواص تراكيب الكلام ومعرفة تفاوت المقامات حتى يمكن من الاحتراز عن الخطأ في تطبيق الأولى على الثانية وذلك لأن للتراكيب خواص مناسبة لها يعرفها الأدباء إما بسيلقتهم أو بممارسة علم البلاغة وتلك الخواص بعضها ذوقية وبعضها استحسانية وبعضها توابع ولوزام المعاني الأصلية لكن لزوما معتبرا في عرف البلغاء وإلا لما اختص فهمها بصاحب الفطرة السليمة وكذا مقامات الكلام متفاوتة كمقام الشكر والشكاية والتهنية والتعزية والجد والهزل وغير ذلك من المقامات وكيفية تطبيق الخواص على المقامات تستفاد من علم المعاني ومداره على الاستحسانات العرفية. وموضوعه: التراكيب الخبرية والطلبية من حيث تطبيق خواصها على مقتضى الحال. ومسائله: القواعد التي يتعرف منها أن أي مقام يقتضي أي خاصة من الخواص ومباديه المسائل النحوية واللغوية. وبالجملة المسائل الأدبية كلها ودلائله استقراء تراكيب البلغاء. والغرض منه: تطبيق الكلام على مقتضى الحال. وغايته: الاقتدار على التطبيق المذكور وتمام تفصيل هذا المقام لا يسعه نطاق الكلام. وأما الكتب المصنفة في علم المعاني فلما لم يفرز عن البيان والبديع ذكرناها هناك ولابن الهيثم الجزي كتاب في علم المعاني انتهى. قال في كشاف اصطلاحات الفنون: علم المعاني: علم تعرف به أحوال اللفظ العربي التي يطابق بها اللفظ لمتقضى الحال هكذا ذكر الخطيب في التلخيص. والمراد بأحوال اللفظ الأمور العارضة المتغيرة كما يقتضيه لفظ الحال من التقديم والتأخير والتعريف والتنكير وغير ذلك وأحوال الإسناد أيضا من أحوال اللفظ باعتبار أن كون الجملة مؤكدة أو غير مؤكدة اعتبار راجع إليها. وموضوعه العلم ليس مطلق اللفظ العربي كما توهمه العبارة بل الكلام من حيث أنه يفيد زوائد

_ 1 وفيه كتاب السيوطي سماه البدور السافرة في أحوال الآخرة، وكتاب شرح الصدور في أحوال القبور، وكتاب روح الروح للحافظ ابن القيم، وصلاح الأرواح، ومرآة الآخرة وغير ذلك، حافظ علي حسين كاتب هذا الكتاب سلمه الله تعالى.

المعاني فلو قال: أحوال الكلام العربي لكان أوفق وعرف صاحب المفتاح المعاني بأن تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقف عليها عن الخطأ في تطبيق ما يقتضي الحال ذكره والتعريف الأول أخصر وأوضح كما لا يخفى وأيضا التعريف بالتتبع تعريف بالمبائن إذا لنتتبع ليس بعلم ولا صادق عليه وإن شئت التوضيح فارجع إلى المطول والأطول انتهى حاصله. علم المعاملات من فروع علم الحساب وهو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات يصرف في ذلك صناعتا الحساب في المجهول والمعلوم والكسر والصحيح والجذور وغيرها. والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب ولأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها: معاملات الزهراوي وابن السمح وأبي مسلم بن خلدون من تلاميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم. علم المعاملة هو علم أحوال القلب إما ما يحمد منها كالصبر والشكر والخوف والرضاء والزهد والتقوى والسخاء ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال وحسن الظن والصدق والإخلاص.. فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي بها تكتسب وثمرتها وعلاماتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى وما زال حتى يعود من علم الآخرة. وأما ما يذم فخوف الفقر وسخط المقدر والغل والحسد والحقد والغش وطلب العلو وحب الثناء وحب طول البقاء والفخر والخيلاء والتنافس والمباهات والأنفة والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والرغبة والبذخ والأشر والبطر وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء إلى غير ذلك مما ذكره الغزالي في الأحياء. فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمرتها وعلاجها هو علم الآخرة. وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة كما أن العرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاءها. ولو سئل فقيه عن معنى هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلا أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة. ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها وإن احتيج لم يخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها فلا يزال يتعب فيها ليلا ونهارا وفي حفظه ودرسه ويغفل عما هو مهم نفسه في الدين هيهات هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء فالله المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان.

علم معرفة الأرضي والسماوي أما الأرضي: فظاهر. وأما السماوي: فما نزل ليلة المعراج كالآيتين من آخر سورة البقرة. قال ابن العربي: إن من القرآن سمائيا1 وأرضيا وما نزل بين السماء والأرض وما نزل تحت الأرض في الغار. أما الأرضي والسمائي فظاهران. وأما ما نزل بين السماء والأرض فلعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض كالتي نزلت ليلة المعراج. وأما ما نزل تحت الأرض في الغار فسورة المرسلات كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه. علم معرفة أول ما نزل والأمر في أحواله ظاهر وفي أول ما نزل أقوال أصحها: أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} . وقيل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . والتوفيق أول سورة نزلت المدثر فلا ينافي أن يكون صدر سورة القلم أول ما نزل على الإطلاق والمدثر أول بالنسبة إلى ما بعد فترة الوحي لا مطلقاً. وقيل: أول ما نزل سورة الفاتحة وإليه ذهب أكثر المفسرين. وقيل: أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم. وأما آخر سورة نزلت براءة. وآخر آية نزلت يستفتونك. وقيل: أنها آخر سورة نزلت في الفرائض. وأما آخر آية نزلت على الإطلاق فقيل: آية الربا وقيل آخر آية نزلت {َقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} إلى آخر السورة. وقيل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . علم معرفة أسماء القرآن وأسماء سوره اعلم أن الله تعالى سمى القرآن بخمسة وخمسين اسماً. أما السور فمنها ما له اسم واحد وهو الأكثر ومنها ما له اسمان وأكثر لأن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى من ذلك الفاتحة ولها نيف وعشرون اسما وتفصيل الأسماء مذكور في كتاب الإتقان للسيوطي رحمه الله. علم معرفة الإمالة والفتح وما بينهما وكذا علم معرفة الإشمام والإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب كل هذه مفصلة في علم القراءة.

_ 1 قال القيومي في المصباح المنير النسبة إلى السماء سمائي بالهمز على لفظها وسماوي بالواو اعتباراً بالأصل وهذا حكم الهمزة إذا كانت بدلاً او أصلاً وكانت للإلحاق، مولوي حافظ عبد العزيز سلمه الله القوي العزيز.

وكذا علم معرفة المد والقصر. وكذا علم معرفة تخفيف الهمزة وقد أفرد جماعة بالتصنيف في هذه العلوم الثلاثة. علم معرفة آداب تلاوة القرآن وتاليه أفرده بالتصنيف جماعة منهم النووي في البيان وتلك نيف وثلاثون آداباً. علم 1 معرفة الاقتباس وما جرى مجراه حرمه المالكية مطلقا هذا هو المشهور من مذهب مالك إلا أن استعمال القاضي عياض الاقتباس في مواضع من خطبة الشفاء يدل على جوازه وقد يخصص إنكارهم بالنظم دون النثر صرح بذلك القاضي أبو بكر من المالكية فأما قدماء الشافعية فلم يتعرضوا له وكذا أكثر متأخريهم مع شيوع الاقتباس في أعصارهم وأجازه عز الدين بن عبد السلام. قال: بأن حجة الاقتباس ثلاثة أنواع: مقبول ومباح ومردود. فالأول: ما كان في الخطب والمواعظ والعهود. والثاني: ما كان في الغزل والرسائل والقصص. والثالث: على ضربين: أحدهما: ما نسبه الله إلى نفسه وينقله القائل إلى نفسه فنعوذ بالله. وثانيهما: تضمين آية كلاما فيه معنى الهزل ونعوذ بالله من ذلك. علم معرفة إعرابه أفرده جماعة بالتصنيف. منهم مكي وكتابه في المشكل خاصة. والحوفي وكتابه أوضحها. وأبو البقاء العكبري وكتابه أشهرها. والسمين وكتابه أجلها على ما فيه من حشو وتطويل ولخصه السفاقسي فأوجزه وتفسير أبي حيان مشحون بذلك. علم معرفة الإيجاز والإطناب وهما من أعظم أنواع البلاغة والتفصيل في علم المعاني مذكور. علم معرفة الآيات المشتبهات صنف فيه جماعة أولهم الكسائي ونظمه السخاوي وألف في توجيهه الكرماني كتاب البرهان في

_ 1 وفيه جواب سؤال لحضرة المؤلف-دام مجده- في كتابه دليل الطالب فليرجع إليه، منشىء أحمد حسين خوشنويس سلمه الله تعالى.

متشابه القرآن وأحسن من منه درة التنزيل وغرة التأويل لأبي عبد الله الرازي وأحسن من هذا ملاك التأويل لأبي جعفر بن الزبير. وللقاضي بدر الدين بن جماعة كتاب لطيف سماه كشف المعاني عن متشابه المثاني وفي كتاب أسرار التنزيل المسمى بقطف الأزهار في كشف الأسرار والقصد به أسرار القصة الواحدة في صور شتى يعرف ذلك بالتتبع في هذه المؤلفات النفيسة. علم معرفة إعجاز القرآن صنف فيه خلائق منهم الخطابي والرماني والزملكاني والإمام الرازي وابن سراقة والقاضي أبو بكر الباقلاني قال ابن العربي: ولم يصنف مثل كتابه. علم معرفة أمثال القرآن والمثل تصور المعاني بصورة الأشخاص وفائدته جمة منها تقرير المراد وتقريبه للعقل وتصويره بصورة المحسوس إلى غير ذلك قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله والناس في غفلة عنه. علم معرفة أقسام القرآن صنف فيه ابن القيم رحمه الله مجلدا سماه: التبيان والمراد بالقسم تحقيق الخبر وتأكيده والتفصيل في كتاب الإتقان. علم معرفة أسماء من نزل فيهم القرآن وأفرده بالتأليف بعض القدماء لكنه وقع غير محرر وكتاب أسباب النزول والمبهمات يغنيان عن ذلك. علم معرفة أفضل القرآن وفاضله اتفق العلماء على إن جميع سور القرآن وآياته متساوية في الفضيلة من حيث إنها كلام الله تعالى منزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم لهداية أمته لكنهم اختلفوا في أن بعضها أفضل من بعض أم لا؟ ومن القائلين بالأول: إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي والغزالي والقرطبي وعز الدين بن عبد السلام وغيرهم. ومن القائلين بالثاني: الإمام أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني وأبو حيان وروي المنع عن مالك وقال ابن عبد البر: السكوت في هذه المسئلة أفضل من الكلام فيها. علم معرفة بيان الموصول لفظا والمفصول معنى وهذا العلم من أعظم مهمات الدين قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} . وساق الآية في قصة آدم وحواء وختمها بقوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وآخر الآية مشكل حيث نسب الإشراك إليهما مع أن الإجماع منعقد على أن الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة وبعدها فظهر أن آخر الآية مفصول عن قصة آدم وحواء نزل آخرها في آلهة العرب كذا قال السدي ولهذا غير نظير في القرآن فلا تغفل.

علم معرفة بدائع القرآن أورد فيها أبو الأصبع نحو مائة نوع وصنف فيه مستقلا فارجع إليه وذكره أهل البيان في أواخر علم البيان أن المتأخرين زادوا عليها شيئا كثيرا وابن الأصبع والسيوطي ذكرا منها ما وجد في القرآن والتفصيل في كتاب الإتقان للسيوطي رحمه الله. علم معرفة تشبيه القرآن واستعاراته وتفسيرهما وأقسامهما مذكورة في علم البيان وكلاهما واقعان في القرآن بحيث لا يرتاب فيه أحد وهما من مراتب البلاغة ولطائفها ولم يذكر في المدينة كتاب في هذا العلم. علم معرفة تفسير القرآن وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه قد بين معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما في علم الأصول وأما شرف تفسير القرآن فأظهر من أن يخفى وأما وجه الحاجة إلى التفسير فلأنه لا يمكن لكل عالم أن يفهم معنى القرآن بدون تفسيره. علم معرفة جمعه وترتيبه قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات: الأول: بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يكتبون في العسب واللخاف والرقاع وقطع الأديم والأكتاف والأضلاع والثاني: لأبي بكر جمع القرآن في صحف والثالث: ترتيب السور في زمن عثمان رضي الله عنه فإنه كتب مصاحف بإجماع الصحابة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا أرسل إلى مكة والشام واليمن والبصرة والكوفة والبحرين وحبس بالمدينة واحداً. علم معرفة جدل القرآن صنف فيه نجم الدين الطوفي قال العلماء: اشتمل القرآن على جميع أنواع البراهين والأدلة إلا أن الوارد في القرآن أوضحها وأقواها لينتفع بها الخاصة والعامة والعدول إلى الدقيق هو للعاجز عن القوي الجلي والله أعلم بالصواب. علم معرفة الحضري والسفري وموضوعه ونفعه وغايته في غاية الظهور أما أمثلة الحضري فكثيرة وأما أمثلة السفري فقد ضبطوها وارتقت إلى نيف وأربعين استقصاها السيوطي في الإتقان في علوم القرآن. علم معرفة حفاظه ورواته هم خلق كثير من الصحابة ولكن المشتهرين بأقرأ القرآن منهم سبعة: عثمان وعلي وأبي وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري كذا ذكرهم الذهبي. علم معرفة حقيقة القرآن ومجازها لم يختلف أحد في وقوع الحقائق في القرآن واختلف العلماء في وقوع المجاز فيه والأصح وقوعه فيه والتفصيل في علم الأصول.

علم معرفة حصر القرآن والاختصاص أما الحصر فيقال له: القصر: وهو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص ويقال أيضا: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه وقد يفرق بين الحصر والاختصاص والتفصيل في علم المعاني والسيوطي ذكر في كتاب الإتقان تفاصيل أقسامهما. علم معرفة حكم الشرائع علم يبحث فيه عن حكم الشرائع ومحاسنها والفقهاء لم يتعرضوا لها إذ وظيفة العباد معرفة دلائل الأحكام والعمل بها حتى قال قائلهم: لم يخلق العقل درا كالحكمة ... لكن ليقبل ما يأتيه من حكم إلا أن بعض العلماء استنبطوا حكم الشرائع ومحاسنها على وجه يطابق قواعد الشريعة بقدر الطاقة البشرية ليزداد نشاط العباد في قبولها ومن الكتب المصنفة فيه كتاب محاسن الشرائع والإسلام للشيخ العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري روح الله روحه ذكره في مدينة العلوم. علم معرفة الخبر والإنشاء وقد بين تفاصيلهما في المعاني وفصل السيوطي في الإتقان في بيان أحوالهما: علم معرفة خواتم السور هي أيضا مثل الفواتح في الحسن لتضمنها المعاني البديعة من الحكم والمواعظ والعبر ونحوها ووقوعها بحيث ينبئ عن الانتهاء لئلا يتشوق ذهن السامع إلى ما بعدها ويظهر ذلك لمن تأمل ببصيرة تامة نافذة. علم معرفة خواص القرآن صنف فيه جماعة من المتقدمين منهم التميمي وحجة الإسلام الغزالي ومن المتأخرين اليافعي سماه الدر النظيم في خواص القرآن العظيم وغالب ما يذكر في ذلك كان مستنده تجارب الصالحين وورد في ذلك بعض من الأحاديث أوردها السيوطي في الإتقان. علم معرفة الخواص الروحانية من العددية والحرفية والتكسيرات العددية والحرفية وهو: علم باحث عن كيفية تمزيج الأعداد والحروف على التناسب والتعادل بحيث يتعلق بواسطة هذا التعديل أرواح متصرفة تؤثر في القوابل حسبما يراد ويقصد عن ترتيب الأعداد والحروف وكيفياتها وموضوعه الأعداد والحروف وغايته الوصول إلى المطالب الدينية أو الدنيوية أو الأخروية. وغرضه وفائدته لا يخفى وكتب عبد الرحمن الأنطاكي نافعة في هذا الباب وكذا كتب الشيخ أحمد البوني وغير ذلك من المشائخ الكرام ذكره في مدينة العلوم. علم معرفة سبب النزول وفائدته: أنه ربما لا يمكن الوقوف على تفسير الآية بدون معرفة قصتها وصنف فيه على بن المديني

شيخ البخاري وصنف فيه الواحدي واختصره الجعبري وألف فيه شيخ الإسلام ابن حجر إلا أنه مات فبقي في المسودة وألف فيه السيوطي كتابا حافلا سماه لباب النقول في أسباب النزول. علم معرفة شروط المفسر وآدابه 1 ومن شروطه يجب أن يطلب تفصيل المجمل في موضع آخر من القرآن لأن القرآن يفسر بعضه بعضا وكذا يطلب تفصيل ما اختصر في موضع آخر لأن القرآن يفصل بعضه بعضا وإن أعياه ذلك فليطلب من السنة لأن السنة تفسير القرآن وإن لم يجد في السنة رجع إلى أقوال الصحابة لأنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح وإذا تعارضت أقوالهم فإن أمكن الجمع فذاك وإلا فقدم ابن عباس لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وإن لم يوجد قول من الصحابي فيعتمد على أقوال التابعين وإلا فيجتهد مراعيا للمدلولات اللغوية والاستعمالات العربية ومراعيا لوجه الإعجاز. وأما آداب المفسر فصحة الاعتقاد ومتابعة السنة ظاهرا وباطنا ويجب أن يكون اعتماده على النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ومن عاصرهم ويجتنب المحدثات والبدعات كلها. علم معرفة الشتائي والصيفي وأمر موضوعه وغايته ومنفعته لا يخفى وقد استقصى تلك الآيات السيوطي في الإتقان. علم معرفة الشواذ وتفرقتها من المتواتر والمتواتر عند الأكثرين سبعة: أحدهم: نافع وله راويان قالون وورش. وثانيهم: ابن كثير وله راويان البزي وقنبل. وثالثهم: أبو عمرو وله راويان الدوري والسوسي. ورابعهم: ابن عامر وله راويان هشام وابن ذكوان. وخامسهم: عاصم وله راويان شعبة وحفص. وسادسهم: حمزة وله راويان خلف وخلاد. وسابعهم: الكسائي وله راويان أبو الحارث والدوري ولا تظنن أن لكل من هؤلاء المشائخ راويين فقط حتى إذا وجدت لهم راويا غير هؤلاء تحكم بالشذوذ بل لكل منهم رواة كثيرة وإنما اختاروا منهم اثنين لشهرتهما ثم إن في انحصار المتواتر في السبعة خلافا إذ بعض العلماء الحقوا بهم يعقوب الحضرمي وأما ما وراء هؤلاء الثمانية إلى الثلاثة عشر بل إلى ما فوقها فقد اتفقوا على شذوذها كذا في مدينة العلوم.

_ 1 وللمؤلف دام مجده جواب سؤال في ذلك ذكره في كتابه دليل الطالب فليرجع إليه، منشىء أحمد حسين خوشنويس سلمه ربه.

علم معرفة طبقات المفسرين أولهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وهم عشرة: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم ويليهم التابعون وهؤلاء من الكثرة بحيث لا يحصون: كمجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وطاؤس وغيرهم وهم علماء مكة وطبقة أخرى تجمع أقوال الصحابة والتابعين: كسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون وآخرين. وبعد هؤلاء: ابن جرير الطبري وكتابه أجل التفاسير وأعظمها ثم ابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ وابن حبان وابن المنذر في آخرين. ثم أتت بعد هؤلاء جماعة ألفوا التفاسير واختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بتراء فدخل من ههنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل هذا الذي ذكرته من فروع علم التفسير هو ما وقع في كتاب الإتقان وهذا بعض من علوم عدوها من فروع علم التفسير بأدنى الملابسة كذا في مدينة العلوم. علم معرفة عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه أما سوره فمائة وأربع عشرة بإجماع من يعتد به وأما عدد الآي فستة آلاف وستمائة آية وست عشرة آية وجميع حروفه ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة حرف واحد وسبعون حرفاً. وأما كلمات القرآن فسبعة وسبعون ألف كلمة وستمائة وأربع وثلاثون كلمة وفائدة معرفة عدد الآي معرفة الوقف ولأن الإجماع انعقد على أن الصلاة لا تصح بنصف آية. وقال جمع من العلماء تجزي بآية وآخرون بثلاث آيات والآخرون لا بد من سبع والإعجاز لا يقع بدون آية فللعدد غاية عظيمة وفي الأعداد المذكورة اختلافات ذكرها السيوطي في الإتقان في علوم القرآن. علم معرفة العالي والنازل من أسانيده وأعلاها القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم القرب من الأئمة المشهورين. ثم العلو بالنسبة إلى الكتب المشهورة كالتيسير والشاطبية. ومن أقسام العلو تقدم وفاة الشيخ عن قرينه الذي أخذ عن شيخ ذلك الشيخ. ومن أقسامه أيضا العلو بموت الشيخ لا مع الالتفات إلى أمر آخر وشيخ آخر متى يكون. وإذا عرفت العلو بأقسامه عرفت النزول فإنه ضده وههنا تفاصيل ذكرها السيوطي رحمه الله في كتابه الإتقان. علم معرفة عام القرآن وخاصه ومجمله ومبينه ومباحث هذا العلم في علم الأصول. علم معرفة العلوم المستنبطة من القرآن وقد أفرد الناس كتبا في ذلك كالقاضي إسماعيل وبكر بن العلاء وأبي بكر الرازي والكيا الهراسي،

وأبي بكر بن العربي وعبد المنعم بن القرس وابن خويز منداد وأفراد آخرون كتبا فيما فيه من علوم الباطن وأفرد ابن برجان كتابا فيما تضمنه من معاضدة الأحاديث. وألف جلال الدين السيوطي رحمه الله كتابا سماه الإكليل1 في استنباط التنزيل ذكر فيه كل ما استنبط منه من مسئلة فقهية أو أصلية أو اعتقادية وبعضا مما سوى ذلك كثير الفائدة جم العائدة يجري مجرى الشرح لما أجمل من أنواعه في الإتقان فليراجعه. علم معرفة غريب القرآن وهذا العلم وإن كان مذكورا في كتب اللغة إلا أن بعض العلماء أفردوه بالتصنيف منهم: أبو عبيدة وأبو عمر والزاهد وابن دريد العزيزي وهذا أشهرها. قيل: قد أقام العزيزي في تأليف غريب القرآن خمس عشرة سنة يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنباري. ومن أحسنها مفردات الراغب ولأبي حيان في ذلك مختصر مقدار كراسين. علم معرفة غرائب التفسير ألف فيه محمود بن حمزة الكرماني كتابا في مجلدين سماه العجائب والغرائب لكن يجب أن تكون الغرائب المستنبطة من القرآن واردة على القواعد العربية والمدلولات اللفظية وإلا فلا عبرة لها كما فعله بعض السفهاء ممن يدعي المعرفة وقد أورد السيوطي بعضا منها في الإتقان. علم معرفة الفراشي والنومي أمر الموضوع والنفع لا يخفى والتفصيل مذكور في الإتقان للسيوطي رحمه الله. علم معرفة فواصل الآي الفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع وفرق بين الفواصل ورؤوس الآي بأن الفاصلة هي الكلام المنفصل عما بعده والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس وكذلك الفواصل تكون رؤوس آي وغيرها وكل رأس آية فاصلة وليس كل فاصلة رأس آية. علم معرفة فواتح السور صنف فيه ابن أبي الأصبع كتابا سماه خواطر السوانح في أسرار الفواتح وقسمها إلى عشرة أنواع ذكره السيوطي في الإتقان. علم معرفة فضائل القرآن صنف فيه أبو بكر بن أبي شيبة والنسائي وأبو عبيدة القاسم بن سلام وابن الضريس وصنف فيه

_ 1 وقد طبع لهذا العهد في سنة 1295 الهجرية بدهلي على هامش تفسير جامع البيان فليعلم، شيخ حافظ عبد العزيز بن حمزة البهوبالي سلمه الله تعالى.

جلال الدين السيوطي كتابا سماه حمائل الزهر في فضائل السور. علم معرفة قواعد مهمة يحتاج إليها المفسر وقد فصلها السيوطي في الإتقان ولا بد للمفسر من معرفتها. علم معرفة كيفية إنزال القرآن وفيها ثلاثة أقوال: الأول وهو الأصح: أنه نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ونزل منجما الثاني: أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة القدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين في كل ليلة ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ثم نزل بعد ذلك منجما في جميع السنة الثالث: أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات. علم معرفة كيفية تحمل القرآن اعلم أن حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة لئلا ينقطع عدد التواتر فيه وتعليمه أيضا فرض كفاية وهو من أفضل القرب وأوجه التحمل في القرآن السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه والسماع عليه بقراءة غيره والقراءة على الشيخ هي المسئلة سلفا وخلفا وأما السماع منه فلم يأخذ به أحد من القراء لاحتياجهم إلى التمرن في الأداء واكتفاء الصحابة بالسماع فلنزول القرآن على لغتهم وعدم احتياجهم إلى التمرن لفصاحتهم. علم معرفة كنايات القرآن وتريضاته وتفسيرهما أيضا في علم البيان وهما عند أهل المعاني من أنواع البلاغة وأساليب الفصاحة ومن الكناية شيء كثير في القرآن. علم معرفة المعاد وهو علم باحث عن أحوال النفس بعد المفارقة عن البدن حيث تتعلق بالبدن الآخر أم لا وهل تمكن لها السعادة1 أو الشقاوة؟ وهل يتبدل إحداهما بالأخرى؟ وما سبب كل منهما؟ وموضوعه ونفعه وغرضه لا يحتاج إلى بيان. علم معرفة الملائكة هي العلم الباحث عن أحوال المجردات التي لا تتصرف في البدن وأحوالها وكيفية صدورها عن مبدئها وموضوعه وغايته وغرضه ظاهرة لمن تمهر في العلم الإلهي. علم معرفة المكي والمدني وفائدة معرفة المؤخر أن يكون ناسخا أو مخصصا صنف فيه جماعة منهم: مكي والعز الديري.

_ 1 انظر الكلام على ذلك للمؤلف، دام مجده في كتابة دليل الطالب، ينسل قلبك إن شاء الله تعالى، سيد علي حسين خان سلمه ربه.

وله أقسام يطول ذكرها وقد استقصاها أبو القاسم الحسن بن محمد ابن حبيب النيسابوري في كتاب التنبيه. علم معرفة ما نزل على لسان بعض الصحابة هو في الحقيقة من أسباب النزول وقد أفرد بالتصنيف جماعة1 موافقات عمر رضي الله تعالى عنه قال عمر: وافقت ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر الفاجر فلو أمرتهن أن يحجبن فنزلت آية الحجاب واجتمعت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} فنزلت كذلك وأمثاله كثيرة يعرفها أهلها. علم معرفة تكرر نزوله قال الزركشي في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سبب خوف نسيانه قيل الأحرف السبعة للقرآن من قبيل تكرار النزول. علم معرفة تأخر حكمه عن نزوله وما تأخر نزوله عن حكمه مثال الأول: قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} فالسورة مكية وقد ظهر أثر الحل يوم فتح مكة وقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} نزلت بمكة وظهر حكمها في يوم بدر. ومثال الثاني: آية الوضوء وإنها مدنية إجماعا وفرضه كان بمكة مع فرض الصلاة وكآية الجمعة فإنها مدنية والجمعة فرضت بمكة قيل والحكمة في ذلك تأكيدا الحكم السابق بالآية المتلوة. علم معرفة ما نزل مفرقا وما نزل جمعاً مثال الأول: {اقْرَأْ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} وأول {وَالضُّحَى} إلى قوله: {فَتَرْضَى} ومثال الثاني: من القصار: سورة الفاتحة والإخلاص والكوثر وتبت والمعوذتان نزلتا معا ومن الطوال: المرسلات وسورة الصف وسورة الإنعام. علم معرفة ما نزل مشيعا وما نزل مفرداً وغالب القرآن نزل به جبريل عليه مفردا بلا تشييع وأما المشيع: فسورة الإنعام شيعها سبعون ألف ملك وفاتحة الكتاب نزلت ومعها ثمانون ألف ملك وآية الكرسي نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك وسورة يونس نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك وآية {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} نزلت معها عشرون ألف ملك قيل وسورة الكهف أيضا شيعها سبعون ألف ملك.

_ 1 وللسيوطي رسالة في موافقات الفاروق رضي الله عنه، ذكر فيها نحو ثمانية عشر موافقة، سيد علي حسين خان سلمه الله تعالى وأبقاه.

علم معرفة ما أنزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ومن الثاني: فاتحة الكتاب وآية الكرسي وخاتمة البقرة ومن الأول: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وأول سورة الجمعة وعشر آيات من سورة الإنعام وهي: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الخ فإنها مكتوبة فالتوراة وتفصيل هذا الباب مذكور في كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي رحمه الله. علم معرفة المتواتر والمشهور والآحاد والشاذ قال البلقيني القراءة المتواترة هي السبعة المشهورة والآحاد هي الثلاثة التي هي تمام العشر والشاذ قراءات التابعين. قال ابن الجوزي: في النشر كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه وافقت إحدى المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحمل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين. ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها شاذة أو ضعيفة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكثر منهم والتفصيل في كتاب الإتقان. علم معرفة ما وقع في القرآن من غير لغة الحجاز وقد أفردوه بالتصنيف ذكره السيوطي في الإتقان قال أبو بكر الواسطي في كتابه الإرشاد في القراءات العشر في القرآن: من اللغات العربية خمسون لغة وقد عدها السيوطي في الإتقان ومن غير العربية الفرس والروم والقبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية وقد فصلها السيوطي في الإتقان. علم معرفة ما وقع في القرآن من غير لغة العرب أفرده بالتصنيف السيوطي وسماه المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب وأنكر بعض العلماء منهم الشافعي وقوع المعرب في القرآن مستدلين بقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} . وذهب آخرون إلى وقوعه فيه وقالوا: الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تنافي واستدل بمنع صرف إبراهيم للعجمة والعلمية ورد بأن الكلام في غير الأعلام والحكمة في وقوعه أن القرآن حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن إلا أنه اختير من كل لغة أعذبها أخفها وأكثرها استعمالا للعرب والتفصيل في كتاب الإتقان للسيوطي رحمه الله. علم معرفة معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسر والمراد بالأدوات: الحروف وما شاكلها من الأسماء والأفعال والظروف وقد صنف فيها جماعة كالهروي في الأزهية وابن أم قاسم في الجني الداني وأدرجه السيوطي في الإتقان. علم معرفة المحكم والمتشابه وقد بين تفسيرهما في الأصول واختلفت عباراتهم في تفسيرهما وبيانهما في الإتقان.

علم معرفة مقدم القرآن ومؤخره وهو أقسام: ما أشكل معناه ظاهرا واتضح بالتقديم والتأخير نحو قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} والأصل هواه إلهه لأنه من اتخذ إلهه هواه غير مذموم فقدم المفعول. الثاني: للعناية به وقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} والأصل لولا أن رأى برهان ربه لهم بها. والثالث: ما ليس كذلك وقد ألف فيه العلامة شمس الدين بن الصائغ كتاب المقدمة في سر الألفاظ المقدمة والحكمة في الكل الاهتمام بشأن المقدم لكن الاهتمام أمر إجمالي يقتضي تفصيلا بحسب المقام والتفصيل في كتاب الإتقان للسيوطي. علم معرفة مطلق القرآن ومقيده قالوا: متى وجد دليل على تقييد المطلق صير إليه وإلا فلا بل يبقى كل منهما على حاله والتفصيل في كتب الأصول. علم معرفة مناسبات الآيات والسور صنف فيه أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيان في كتاب سماه البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن وصنف فيه أيضا الشيخ جلال الدين كتابا سماه تناسق الدرر في تناسب السور وذكر مناسبات السور والآيات وكتابه في أسرار التنزيل كافل بذلك جامع لمناسبات السور والآيات مع ما تضمنه من بيان جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة. علم معرفة ما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب ذكر الله تعالى أسماء الأنبياء والرسل خمسا وعشرين من مشاهيرهم وذكر فيه من أسماء الملائكة بعضا ومن أسماء الشياطين والأصنام بعضا والتفصيل في الإتقان. علم معرفة مبهمات القرآن والمراد بالمبهم ما ذكر الموصولية نحو قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أو بطريق العموم نحو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ونحو ذلك وطريق تعيين مبهمات القرآن الرواية لا غير وأسباب الإبهام إما الاستغناء عن بيانه لذكره في مقام آخر أو تعيينه لاشتهاره أو قصد الستر أو نحو ذلك صنف فيه السهيلي وابن العسكر وابن جماعة والسيوطي رحمه الله. علم معرفة مفردات القرآن وهو علم يبحث فيه عن أحوال آية آية من جهة أحكامها ومعانيها كالبحث عن آية هي أعظم القرآن وعن آية هي أحكم القرآن وعن آية هي أجمع القرآن وعن آية هي أحزن آيات القرآن وعن آية هي أرجى من آيات القرآن ونحو ذلك.

علم معرفة مرسوم الخط وآداب كتابته وهذا العلم قد يعد من فروع علم القراءة أيضا وقد فصلناه هناك فلا نعيده. علم معرفة مشكل القرآن وموهم الاختلاف والتناقض وصنف في هذا العلم قطرب وإنما قلنا موهم الاختلاف والتناقض إذ كلام الله تعالى عنهما حقيقة وإنما يكون ذلك بالنسبة إلى الأوهام القاصرة. علم معرفة النهاري والليلي وموضوعه ومنفعته وغايته ظاهرة على الناظرين قالوا: أنزل أكثر القرآن نهارا وأما الليلي فقد تتبعوه فبلغ إلى خمسة عشر آية ذكرت في الإتقان في علوم القرآن. علم معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ولا يجوز تفسير القرآن إلا لمن يعرفهما وقد أفرده بالتصنيف جماعة منهم: أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو داود السجستاني وأبو جعفر النحاس وابن الأنباري ومكي وابن العربي وآخرون1 رحمهم الله تعالى. علم معرفة وجوه مخاطبات القرآن والخطاب: إما عام وإما خاص والعام قد يراد به الخصوص والخاص قد يراد به العموم ولهما أقسام أخر استوفاها السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن. علم المعمى كتاب المعمى المسمى بألفية الشريف للسيد الشريف المعمائي فارسي ذكر فيه أنه صنع بيتا واحدا خرج منه ألف اسم بطريق التعمية مع التزام تعدد الإيهام في كل اسم والبيت هذا: أزقد وأبر وبديد آن ماه جهر ... موج آبى ديده أم بالآي مهر جون: أغلب وأكثر آنست كه أزيك معمايك اسم بيدا آيد بنابر آن خر وخرده وان برسبيل استعجاب بزبان مي آروع كه بيك خانة تنك اين همه مهمان عجب ست. ثم بين استخراج الأسماء من هذا البيت في مجلد ضخم وقال في اسمه وتاريخه: بيتي كه يك كتاب بوددر بيان أو ... معلوم نسيت كفته كسى غيراين ضعيف كرده شريف تعميه دروى هزار نام ... زان رو لمقب ست بالفية الشريف ألفه في سنة ثمان وتسعمائة ورتبه على مقدمة وثمان وعشرين مقالة وخاتمة والكتب المؤلفة في المعميات كثيرة ما بين مطول منها ومختصر قال في مدينة العلوم علم المعمى مثاله:

_ 1 ذكرهم المؤلف دام ظله في أول كتابة إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ، وهو بالفارسي فليراجعه، سيد سبط أحمد سهسواني سلمه الله تعالى.

الأخذ عد موسى مرتين ... وضع أصل الطبائع تحت ذين وسكن خان شطرنج فخذها ... وادرج بين ذين المدرجين فهذا اسم من يهواه قلبي ... وقلب جميع من في الخافقين واعلم أن أكثر من يعتني باللغز العرب لكن لم يدونوه في الكتب وأكثر من يعتني بالمعمى أهل فارس ولهذا وقع جل التصانيف في المعمى على لسان الفرس وقد رتبوا له قواعد عجيبة وتقسيمات غريبة وتنويعات لطيفة وأما ما يوجد في لسان العرب فشيء نزر جدا ولقد وجدت في لسان العرب خمسة معميات فقط مع شدة تنقيري له وكثرة تتبعي عنه على أنه لم يقع في مرتبة لطافة أهل فارس الذي لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال منهم وإن أردت صدق هذا المقال فارجع إلى كتاب مولانا عبد الرحمن الجامي قدس سره خصوصا كتاب مولانا حسين المعمائي فإنك إن طالعته وجدته السحر الحلال وترى فيه العجب العجاب انتهى. أقول: علم المعمى واللغز ليس مبنيا على أصل كلي وليست له قواعد وضوابط معينة مشخصة حتى يرجع إليها بل بناءه على خيال المعمائي وفكره وما أشده خرافة في العلوم وأكثره إضاعة للوقت بلا فائدة ترجع إلى أمر من الدين والدنيا وأكثر من ضيع به أوقاته الفرس ولهذا لا يوجد في علوم العرب إلا أقل قليل وهو أيضا باتباع العجم. والحديث المتقدم ليس المراد به علم المعمى وما يليه كما زعم صاحب1 مدينة العلوم بل المقصود منه علم الدين من الكتاب والسنة المطهرة كما ظهر مصداقه في أصحاب الحديث سيما البخاري ومسلم وليس المعمى من العلم في شيء حتى يستدل بالحديث عليه فما أبرد هذا الاستدلال وما أضعفه من الأقوال. علم المغازي والسير أي مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعها محمد بن إسحاق أولا ويقال أول من صنف فيها عروة بن الزبير وجمعها أيضا وهب بن منبه وأبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي الدمشقي الكاتب وأبو محمد يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي الحنفي المتوفى سنة إحدى وتسعين ومائة عن ثمانين سنة. ومنها: مغازي محمد بن مسلم الزهري وابن عبد البر القرطبي المتوفى سنة ثلث وستين وأربعمائة وعبد الرحمن بن محمد الأنصاري وأبي الحسن علي بن أحمد الواقدي المتوفى سنة ثمان وستين وأربعمائة موسى بن عقبة بن أبي عياش المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة ومغازيه أصح المغازي كذا في المقتفى وهو من فروع علم التواريخ. وموضوعه ومنفعته وغايته وغرضه لا يخفى على كل واحد من ذي اللب ولكن لما كان ثبوتها بالأحاديث والآثار جعلناها من فروع علم الحديث وفي هذا العلم مصنفات كثيرة أجلها وأفضلها تصنيف عبد الملك بن هشام ومغازي ابن إسحاق وغير ذلك ذكره في مدينة العلوم.

_ 1 يعني من حيث أنه أورد الحديث المذكور في صفة أهل الفارس وكونهم علماء وجعل المعمى من جملة العلوم وقال لفظ العلم موضع الإيمان وهذا تسامح آخر فليعلم، حافظ علي حسين عفا عنه الله رب المشرقين.

علم مفردات القرآن الكريم والفرقان الحكيم علم المقادير والأوزان المستعملة في علم الطب من الدراهم والأوقية والرطل وغير ذلك ولقد صنف له كتب مطولة ومختصرة يعرفها مزاولها وقد تقدم في باب الألف. علم مقادير العلويات هكذا في الكشف وقال في مدينة العلوم: هو: علم باحث عن قدر الكواكب والأفلاك بالأميال والفراسخ وقدر الشمس والقمر والأرض وبعد كل من هذه الأجرام بعضها عن بعض واعتنى القدماء بهذا العلم وبينوا مسائله ببراهين قطعية لا يرتاب من يتولاها في صحتها انتهى. علم مقالات الفرق هو: علم باحث عن ضبط المذاهب الباطلة المتعلقة بالاعتقادات الإلهية وهي على ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة اثنتان وسبعون فرقة. وموضوعه وغايته وغرضه ومنفعته ظاهرة جدا وقد تكفل بتفصيل مجملاته القاضي عضد الدين في آخر كتاب الموقف من علم الكلام وممن أورد فرق المذاهب في العلم كلها: محمد الشهرستاني في كتاب الملل والنحل وله نهاية الأقدام في علم الكلام والمناهج والبينات وكتاب المصارعة وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام. وشهرستان مدينة بخراسان ولنا كتاب مختصر في بيان فرق الإسلام سميناه خبية الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان وهو نفيس نافع جدا وفقنا الله للقول الصدق والمذهب الحق وأن لا تزل أقدامنا عن الصراط السوي والمنهج الواضح القوي والمسلك القويم النبوي والطريق المستبين السني ويسر لنا الاهتداء بهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والاقتفاء بمن اتبع سنته واختار شريعته واقتدى بسيرته اللهم آمين. علم المقلوب هكذا في كشف الظنون وهو من فروع علم البديع والمحاضرات كما عرفت في علم التصحيف وهو: أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته وابتدأت من حرفه الأخير إلى الحرف الأول كان الحاصل بعينه هو هذا الكلام وهذا مغائر لتجنيس القلب المذكور في علم البديع فإن المقلوب ههنا يجب أن يكون اللفظ الذي ذكر بخلافه ثمه ويجب ثمه ذكر اللفظين جميعا بخلافه هنا. والقلب قد يكون في النثر كقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} . أما في النظم: فقد يكون بحيث يكون كل من المصراعين قلبا للآخر كقوله1: أرانا الإله هلالا أنارا وقد لا يكون كذلك بل يكون مجموع البيت قلبا لمجموعه كقول الأرجاني: مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم

_ 1 ونحوه بالفارسي هذا المصراع شكر بترا زوي وزارات بركش. مولوي سبط أحمد سهسواني سلمه ربه.

وقول الحريري: إس أرملا إذا عرى ... وارع إذا المرء أسا إلا أن في قول الحريري نوع تكلف وهو زيادة همزة مرء وحذفها في القلب. وأما في النثر: فإما في مفرد نحو: سلس أو مركب كما في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وقوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} وللحروف المشددة في هذا الباب حكم المخفف لأن المعتبر هو الحروف المكتوبة ومنه: سر فلا كبا بك الفرس وهو قول عماد الكاتب. وقوله القاضي الفاضل دام علاء العماد. ومنه كمالك تحت كلامك ومنه عقرب تحت برقع. ومنه كبر رجا اجر ربك. ومنه لابقا للإقبال وله نظائر كثيرة وأمثال غير قليلة كذا في مدينة العلوم. علم المكاشفة ويسمى بعلم الباطن وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل وأسماءها فيتوهم لها معان مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة إلى غير ذلك مما يطول تفصيله إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى ذكرها الغزالي في الإحياء. قال: وهذه العلوم هي التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله تعالى عليه بشيء منها إلا مع أهله قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله. وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يفتح له شيء من هذا العلم: بدعة أو كبر. وقيل: من كان محبا للدنيا أو مصرا على هوى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئا وهو علم الصديقين والمقربين. علم الملاحة هو علم باحث عن كيفية صنعة السفن وكيفية ترتيب الانتهاء وكيفية أجرائها في البحر وإن مقدار هذا الثقل بهذا المقدار من الريح كم فرسخا يتحرك في مقدار هذه الساعات ويتوقف على معرفة سموت البحار والبلدان والأقاليم ومعرفة ساعات الأيام والليالي ومعرفة مهاب الرياح وعواصفها ورخائها وممطرها وغير ممطرها. ومن مباديه علم الميقات وعلم الهندسة. ويتوقف على معرفته عجائب البحر وطبائعها وخواصها وصور الأقاليم وغير ذلك مما يعرفه أهله وهذا العلم عظيم النفع وفيه كتب موجودة عند أهله وأكثر مباديه مستندة إلى التجربة. علم الملاحم جمع ملحمة وهي: الواقعة العظيمة في الفتنة مثل وقعة بخت نصر ووقعة جنكيزخان وهلاكو وتيمور

فيبحث في هذا العلم عن معرفة أوقات الفتن بالدلائل النجومية وقد عرفت أن علم أحكام النجوم من أضعف العلوم دلالة فلا تعويل عليه أصلا وإن أردت الوقوف على معرفة الملاحم فعليك بالأحاديث الواردة فيها ولا ينبئك مثل خبير هذه عبارة مدينة العلوم. وأقول: ليست ملحمة ولا فتنة صغرى أو كبرى من الملاحم والفتن التي تكون إلى يوم القيامة وقيام الساعة في مطلع الشمس ومغربها وسائر أقطار الأرض إلا وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها في أحاديثه الشريفة كما في حديث حذيفة بن اليمان المروي في السنن. وقد وقعت منها ملاحم وفتن كثيرة وسيقع ما بقي منها ولكن العلم بمواقيتها مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه ولا يتيسر لبشر أن يعلم بوقتها إلا بعد وقوعها وحصول التطبيق بالأحاديث الواردة فيها وقد أوعبت الفتن الواقعة منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى الآن في كتابي حجج الكرامة بالفارسي وكتبت رسالة نافعة جدا في ذكر الفتن على ما وردت به السنة المطهرة بالعربي المبين وسميتها بالإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة فعليك بهذين الكتابين فإنهما كافيان وافيان في بابيهما ولا تحتاج معهما إلى كتاب آخر يشفي علتك ويسقي غلتك وفيهما حكم الفتن وما ينبغي في زمنها للمسلم وكلها من مفاهيم الأخبار والآثار ولا ينبغي لمن يعتقد دين الإسلام بقلبه السليم أن يميل عند حدوث أمثال تلك الحوادث والأحوال إلى أقوال المشائخ وآراء الرجال بل الذي يجب على كل مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يستعلم حكم الفتن قبل الابتلاء بها من السنة كما قيل: أعط القوس باريها ولا منجأ من حوادث الدنيا لأحد كائنا من كان ولا ملجأ له إلا من الله تعالى وهو الذي يتولى الصالحين من عباده ويأمنهم من المخاوف والهلكة في أرضه وبلاده وبالله التوفيق. علم منازل القمر هكذا في كشف الظنون وقال في مدينة العلوم: هو: علم يتعرف منه صور المنازل الثمانية والعشرين وأسماؤها وخواص كل واحد منها وأحكام نزول القمر في كل منها إلى غير ذلك. انتهى. علم مناسبات الآيات والسور من متعلقات علم التفسير. علم المناظر من فروع الهندسة وهو علم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه يقطعه الباصر وقاعدته المرئي ثم يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا والبعيد صغيرا أو كذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء ووراء الأجسام الشفافة كبيرة ورؤية النقطة النازلة من المطر خطا مستقيما والشعلة دائرة وأمثال ذلك فيتبين في هذا العلم أسباب ذلك وكيفياته بالبراهين الهندسية ويتبين به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي يبتنى عليه معرفة رؤية الأهلة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا. وقد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين.

واشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم ولغيره فيه أيضا تأليف وهو من هذه الرياضة وتفاريعها ذكره ابن خلدون. وعبارة مدينة العلوم في بيان علم المناظر: هكذا هو علم يتعرف منه أحوال المبصران في كميتها وكيفيتها باعتبار قربها وبعدها عن الناظر واختلاف أشكالها وأوضاعها وما يتوسط بين الناظر والمبصرات وغلظته ورقته علل تلك الأمور ومنفعته معرفة أحوال الأبصار وتفاوت المبصرات والوقوف على سبب الأغاليط الحسية الواقعة فيها ويستعان بهذا العلم على مساحة الأجرام البعيدة والمرايا المحرقة. ومن الكتب المختصرة فيه كتاب إقليدس ومن المتوسط كتاب علي ابن عيسى الوزير ومن المبسوطة كتاب لابن الهيثم انتهى. ونحوه في كشاف اصطلاحات الفنون على وجه الاختصار علم مناظر الإنشاء. وفيه تأليف لمحمود بن الشيخ محمد الكيلاني المعروف بخواجه جهان رتبه على مقدمة ومقالتين وخاتمة وهو من الكتب النافعة. علم المناظرة علم باحث عن أحوال المتخاصمين ليكون ترتيب البحث بينهما على وجه الصواب حتى يظهر الحق بينهما ذكره في مدينة العلوم. علم المنطق ويسمى علم الميزان أيضا وهو: علم يتعرف منه كيفية اكتساب المجهولات التصورية والتصديقية من معلوماتها. وموضوعه: المعقولات الثانية من حيث الإيصال إلى المجهول أو النفع فيه. والغرض منه: عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر. ومنفعته: الإصابة في جميع العلوم. قال في الكشف: الغرض منه ومنفعته ظاهران من الكتب المبسوطة في المنطق كذا قال في مفتاح السعادة انتهى. والمنطق لكون حاكما على جميع العلوم في الصحة والسقم والقوة والضعف وأجلها نفعا وأعظمها سماه أبو نصر الفارابي: رئيس العلوم. ولكونه آلة في تحصيل العلوم الكسبية النظرية والعملية لا مقصودا بالذات سماه الشيخ الرئيس ابن سينا بخادم العلوم. وحكى أبو حيان في تفسيره البحر: إن أهل المنطق بجزيرة الأندلس كانوا يعبرون عن المنطق بالمفعل تحررا عن صولة الفقهاء حتى إن بعض الوزراء أراد أن يشتري لابنه كتابا من المنطق فاشتراه خفية خوفا منهم مع أنه أصل كل علم وتقويم كل ذهن انتهى. قال الغزالي: من لم يعرف المنطق فلا ثقة له في العلوم أصلا حتى روي عن بعضهم أنه فرض كفاية

وعن بعضهم فرض عين بناء على أن معرفة الله تعالى بطريق البرهان واجبة وإنها لا تتم إلا بعلم المنطق فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب قال القائل: إن رمت إدراك العلوم بسرعة ... فعليك بالنحو القويم ومنطق هذا الميزان العقول مرجح ... والنحو إصلاح اللسان بمنطق قال في كشف الظنون: قال الشيخ أبو علي بن سينا: المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها وقد رفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه عداوة لما جهل وبعض الناس ربما يتوهم أنه يشوش العقائد مع أنه موضوع للاعتبار والتحرير. وسبب هذا التوهم أن من الأغبياء الأغمار الذين لم تؤدبهم الشريعة من اشتغل بهذا العلم واستضعف حجج بعض العلوم واستخف بها وبأهلها ظنا منه أنها برهانية لطيشه وجهله بحقائق العلوم ومراتبها فالفساد لا من العلم. قالوا: ويستغنى عنه المؤيد من الله تعالى ومن علمه ضروري ويحتاج إليه من عداهما. فإن قلت: إذا كان الاحتياج بهذه المرتبة فما بال الأئمة المقتدى بهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهم الله لم ينقل عنهم الاشتغال به وإنما هو من العلوم الفلسفية وقد شنع العلماء على من عربها وأدخلها في علوم الإسلام ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي رحمه الله أنه كان يقول: ما أظن الله تعالى يغفل عن المأمون العباسي ولا بد أن يعاقبه بما أدخل على هذه الأمة. فجوابه إن ذلك مركوز في جبلاتهم السليمة وفطرتهم المستقيمة ولم يفتهم إلا العبارات والاصطلاحات كما ذكر في علم النحو. وأصول المنطق تسعة على المشهور: الأول: باب الكليات الخمس:. الثاني: باب التعريفات. الثالث: باب التصديقات. الرابع: باب القياس. الخامس: البرهان. السادس: الخطابة. السابع: الجدل. الثامن: المغالطة. التاسع: الشعر هذا خلاصة ما في العلمي حاشية شرح هداية الحكمة الميبذية وشرح حكمة العين وغيرها. والكتب المصنفة في المنطق كثيرة منها: إيساغوجي وبحر الفرائد وتيسير الفكر وجامع الدقاق والشمسية غرة النجاة والقواعد الجلية ولوامع الأفكار والمطالع ومجل النظر ومعيار الأفكار وناظر العين ونخبة الفكر وغير ذلك انتهى ما في الكشف وكشاف اصطلاحات الفنون.

ومن كتبه المرقاة للشيخ الفاضل فضل إمام الخير آبادي وهو مختصر مفيد وعليه شرح لحفيده المولوي عبد الحق. وتهذيب المنطق للتفتازاني والصغرى والكبرى بالفارسية للسيد السند الشريف الجرجاني رحمه الله إلى غير ذلك. قال بعضهم: والذي أجاب به شيخ الإسلام من كون المنطق مرتكزا في نفوسهم جواب ضعيف لا يخفى ضعفه على من يعقل ويعرف مقاصد الشريعة الغراء انتهى. أقول: ارجع إلى كتاب رد المنطقيين لابن تيمية رحمه الله واعلم أن جواباته كثيرة وكلها صواب حق لا يسع ذكرها هذا المقام وهذا الجواب أيضا صواب يعرفه من منحه الله طبعا سليما لا اعوجاج فيه وصاحب القلب الصحيح والفكر السليم لا يحتاج إلى علم المنطق بل يصدر عنه العلم المطابق له من غير درية بهذا الفن كما يصدر الكلام الموزون ممن لا يعلم بعلم العروض والقافية ولا يحسن تقطيعات الأشعار ويقول نظما كثيرا وينظم قصائد طويلة ولا يعرف أوزان الشعر ولا بحوره فأي استبعاد في كون المنطق مرتكزا في نفوس بعض العباد الصحيح الفؤاد السلم المراد. وقد اختلف أهل العلم في أن المنطق من العلم أم لا فتدبر. قال ابن خلدون في بيان هذا العلم: هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود والمعرفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات وذلك أن الأصل في الإدراكات إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق وغيره وإنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة هي الكلي ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتفقا فيه ولا يزال يرتقي في التجريد إلى الكل الذي لا يجد كليا آخر معه يوفاقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. وهذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها ثم ينظر بينه وبين الحيوان ويجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما ثم بينهما وبين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كليا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد. ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم والصنائع وكان العلم إما تصور للماهيات ويعني به إدراك ساذج من غير حكم معه. وأما تصديقا أي: حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصل المطلوبات. إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص وإما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقا وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم. وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح.

وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز فيها الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. وتكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملا جملا ومتفرقا ولم تهذب طرقه ولم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها ولذلك يسمى بالمعلم الأول وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى النص وهو يشمل على ثمانية كتب أربعة منها في صورة القياس وأربعة في مادته. وذلك إن المطالب التصديقية على أنحاء: فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه. ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن وهو على مراتب فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار ومن أي جنس يكون من العلم أو من الظن وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة. ويقال للنظر الأول: إنه من حيث المادة ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن ويقال للنظر الثاني: إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية. الأول: في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات وهي التي ليس فوقها جنس ويسمى كتاب المقولات. والثاني: في القضايا التصديقية وأصنافها ويسمى: كتاب العبارة. والثالث: في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمى كتاب القياس وهذا آخر النظر من حيث الصورة. ثم الرابع: كتاب البرهان وهو النظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية وأولية وغير ذلك وفي هذا الكتاب الكلام في المعرفات والحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب. والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختص أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض وهي مذكورة هناك وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه ومنه عكوس القضايا. والسادس: كتاب السفسطة: وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد وهذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه. والسابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. والثامن: كتاب الشعر وهو القياس الذي يفيد التمثيل والتشبيه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه

وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخييلية هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين. ثم أن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة ورتبت رأوا أنه لا بد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت تسعا وترجمت كلها في الملة الإسلامية وكتبها وتداولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص كما فعله الفارابي وابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس ولابن سينا كتاب الشفا استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها. ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاحات المنطق والحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته وهي: الكلام في الحدود والرسوم نقولها من كتاب البرهان وحدقوا كتاب المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس لأنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب المادة وحدقوا النظر فيه بحسب المادة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدول والخطابة والشعر والسفسطة وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن وهي المهم المعتمد في الفن. ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا نظروا فيه من حيث أنه فن برأسه لا من حيث أنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتسع. وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب ومن بعده فضل الدين الخونجي وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التعليم ثم مختصر المجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجمامع الفن وأصوله فتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه والله الهادي للصواب انتهى كلام ابن خلدون. قال في مدينة العلوم: وقد صح بشهادة أهل التواريخ والندماء أن أول من دون المنطق أرسطو وقد بذل ملك زمانه في مقابلة ذلك خمسمائة ألف دينار وأدر عليه في كل سنة مائة وعشرين ألف دينار. وقيل: أنه تنبه لوضعه وترتيبه من نظم كتاب إقليدس في الهندسة ثم إن أرسطو بعدما دون المنطق صارت كتبه مخزونة في أبنية ولاية موره من بلاد الروم عند ملك من ملوك اليونان ولما رغب الخليفة المأمون في علوم الأوائل أرسل إلى الملك المذكور وطلب الكتب فلم يرسل فغضب المأمون وجمع العساكر وبلغ الخبر إلى الملك فجمع البطاريق وشاورهم في الأمر فقالوا: إن أردت الكسر في دين المسلمين وتزلزل عقائدهم فلا تمنعهم عن الكتب فاستحسن الملك فأرسلها إلى المأمون فجمع المأمون مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق وثابت ابن قرة وغيرهما فترجموها بتراجم مختلفة بحيث لا يوافق ترجمة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت التراجم غير محررة إلى أن التمس منصور بن نوح الساماني من أبي نصر الفارابي أن يحررها ويخصها ففعل كما أراد ولهذا لقب بالمعلم الثاني وكانت كتبه في خزانة الكتب المبنية بأصبهان المسماة بصوان الحكمة إلى زمان السلطان مسعود لكن كانت غير مبيضة لأن الفارابي كان غير ملتفت إلى جمع التصانيف ونشرها بل غلب عليه السياحة ثم إن الشيخ أبا علي تقرب عند السلطان مسعود بسبب الطب حتى استوزره واستولى على تلك الخزانة وأخذ ما في تلك الكتب

ولخص منها كتاب الشفا وغير ذلك من تصانيفه وقد اتفق إن احترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أحرقها لينقطع انتساب تلك العلوم عن أربابها ويختص بنفسه لكن هذا كلام الحساد الذين ليس لهم هاد. واعلم أن الأوائل من الملوك كانوا يهتمون بجمع الكتب وخزانتها فحدثت في الإسلام خزائن ثلاث: إحداها: بمدينة دار السلام ببغداد وكانت فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة وقد ذهب الكل في وقعة تاتار ببغداد. وثانيتها: خزانة الفاطميين بمصر وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعا للكتب النفيسة ولما انقضت دولتهم باستيلاء الملك صلاح الدين على مصر فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة ووقفها على مدرسته بمصر فبقيت فيها إلى أن استولت عليها الأيدي فلم يبق منها إلا القليل. وثالثتها: خزانة بني أمية بالأندلس وكانت من أجل خزائن الكتب أيضا ولما انقرضت دولتهم باستيلاء ملوك الطوائف على الأندلس ذهب كلها. أو من الكتب المبسوطة في المنطق: البحر الخضم ومنطق الشفاء لأبي علي بن سينا كتبه بلا مطالعة كتاب وكان يكتب كل يوم خمسين ورقة من حفظه وله كتاب النجاة والقانون والإشارات. ومنها كتاب بيان الحق ومطالع الأنوار والمناهج كلها في المنطق والحكمة للأمور كان شافعيا وكتاب كشف الأسرار لمحمد بن عبد الملك الخونجي وهو صاحب الموجز في المنطق ومن الكتب اللطيفة التلويحات والمطارحات لأبي الفتوح يحيى بن حنش الملقب بشهاب الدين السهروردي الحكيم المقتول وقيل اسمه عمر. ومنها: الملخص وشرح الإشارات للرازي والمعتبر لأبي البركات البغدادي اليهودي أولا في أكثر عمره والمهتد إلى الإسلام في آخر عمره أتى في المعتبر بأقسام الحكمة غير الرياضي وهو أحسن كتاب في هذا الشأن في هذا الزمان استولت عليه آفات لو وضع واحد منها على رضوى لتخلخلت أصولها الرواسخ وتدكدكت رؤوسها الشوامخ وذلك أنه عمى وطرش وبرص وتجذم فنعوذ بالله من نقمة لا تطيقها الأبدان ومن زوال العافية وتقلب الإحسان ولما أحس بالموت أوصى من يتولاه أن يكتب على قبره: هذا قبر أوحد الزمان أبي البركات ذي العبر صاحب المعتبر فسبحان من لا يغلبه غالب ولا ينجو من قضائه متحيل ولا هارب نسأل الله في حياتنا العافية وفي مماتنا حسن العاقبة رب قد أحسنت فيما مضى فلك أن تحسن فيما بقي ولم يتحقق تاريخ وفاته إلا أنه كان في أوسط المائة السادسة. ومنها جامع الدقائق للكاتبي وتنزيل الأفكار وحواشي ملخص الرازي له أيضا وإن أردت بلوغ الغاية في المنطق فعليك بتعديل الميزان وهو أحد أقسام تعديل العلوم لصدر الشريعة وقد كشف في هذا الكتاب عن غوامض طالما تحير فيها عقول الأقدمين وأبرز قواعد لم يهتد إليها أحد من الأوحدين ومع هذا فهو لعلوم الشريعة أبو عذرها وابن بجدتها وكتب المنطق أكثر من أن تحصى وأجل من أن تستقصي انتهى حاصله. علم مواسم السنة قال الأرنيقي: إن لكل أمة من الأمم ولكل طائفة من الأقوام مواسم وأعياد يعينون لكل منها شغلا

مخصوصا فالعلم المذكور يعرف به أعياد كل قوم وإنها من السنة في أي يوم ويعرف شغل أهلها في ذلك ومن جملة ذلك يوم النيروز والمهرجان عند أهل الفارس وكان أهل القبط يأتي ملكهم في يوم النيروز ويرصدون من الليل فيقدمون رجلا حسن الاسم والوجه طيب الرائحة فيقف على الباب حتى يصبح فإذا أصبح دخل على الملك بغير أذن فيقف عنده. فيقول له الملك: ما اسمك؟ ومن أين أنت أقبلت؟ وأين تريد؟ ولأي شيء وردت وما معك؟ فيقول: أنا المنصور واسمي المبارك ومن قبل الله أقبلت والملك السعيد أردت وبالهنا والسلامة وردت ومعي السنة الجديدة ثم يجلس ويدخل بعده رجل معه طبق من فضة وفيه حنطة وشعير وجلبان وذرة وحمص وسمسم وأرز من كل سبع سنابل وسبع حبات وقطعة سكر ودينار فيضع الطبق بين يدي الملك ثم يدخل عليه الهدايا ويبتدئ من الوزير ثم الناس على قدر مراتبهم ثم يقدم الملك برغيف كبير مصنوع من تلك الحبوب فيأكل منه ويطعم من حضره ثم يقول: هذا يوم جديد من شهر جديد من عام جديد من زمان جديد يحتاج أن يجدد فيه ما أخلقه الزمان وأحق الناس بالفضل والإحسان الرأس لفضله على سائر الأعضاء ثم يخلع على وجوه دولته ويصلهم ويصرف عليهم ما حمل إليه من الهدايا. وكان من عادة الفرس في عيدهم أن يدهن الملك بدهن البان تبركا ويلبس القصب والوشي ويضع على رأسه تاجا فيه صورة الشمس ويكون أول من يدخل عليها المؤبد بطبق عليه أترجة وقطعة سكر ونبق وسفرجل وتفاح وعناب وعنقود عنب أبيض وسبع باقات آس ثم يدخل الناس مثل الأول على طبقاتهم ومن عادتهم في يوم النيروز أنهم: يجمعون بين سبع أشياء أول أسمائهن سينات يأكلونها هي السكر والسفرجل السمسم والسحاق والسذاب والسقنقور وعادات الناس في الأعياد خارجة عن التعداد انتهى. قلت: وقد ذكر الشيخ الإمام العلامة المقريزي في كتاب الخطط والآثار كثيرا من أعيادهم وبسط في بيان ذلك ولكن الشرع الشريف قد ورد بإبطال كل عيد للناس على اختلاف فرقهم وقبائلهم وعشائرهم إلا ما وردت به السنة المطهرة من الجمعة والعيدين والحجج وعليه عمل المسلمين إلى الآن. ولشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه كتاب سماه اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم في رد أعياد الأقوام ونهي المسلمين عن اعتياد عادات هؤلاء الطعام وفي الحديث من تشبه بقوم فهو منهم والتشبه يشمل كل شبه يكون في الأعياد والأخلاق وهيأت اللبس والآكل والركوب والبناء والكلام وقد تساهل الناس المسلمون اليوم في التحرز عن التشبه إلى الغاية وشابهوا الكفار وأهل الكتاب في مراسمهم ومواسهم إلى النهاية إلا من عصمه الله وقليل ما هم وتأويل هذا الحديث يستدعي بسطا تاما وليس هذا موضع بيان المسائل والأحكام فعليك بالنظر في اقتضاء الصراط المستقيم يتضح لك الحق مما هو باطل في دين الإسلام وبالله التوفيق. علم المواقيت كذا في كشف الظنون قال في مدينة العلوم: وهو علم يتعرف منه أزمنة الأيام والليالي وأحوالها وكيفية التوصل إليها ومنفعته معرفة أوقات العبادات والطوالع والمطالع من أجزاء البروج والكوكب الثابتة التي منها منازل القمر ومقادير الأظلال والارتفاعات وانحراف البلدان بعضها عن بعض وسموتها ومن

المصنفات فيه نفائس البواقيت في أحوال المواقيت وجامع المبادئ والغايات لأبي علي المراكشي انتهى. علم مواقيت الصلاة علم يتعرف منه أوقات الصلوات الخمس على الوجه الوارد في الشرع ويفترض علم تلك المواقيت تقريبا وأما علمه تحقيقا ففرض كفاية فلا بد في كل بلد من يعرفها على وجه التحقيق كذا في مدينة العلوم. قلت: للسيد الإمام العلامة المجتهد شيخ شيوخنا محمد بن إسماعيل الأمير اليماني رحمه الله رسالة سماها اليواقيت في المواقيت ألفها في ذكر أوقات الصلوات الخمس على ما وردت به السنة المطهرة صرح فيها بأن العمل في الصلاة والصوم على علم المواقيت بدعة قبيحة من أحداث الملوك ولا يتوقف عليه معرفة أوقات الصلاة وهذه الرسالة نفيسة جداً. علم الموسيقى قال صاحب الفتحية الموسيقى: علم رياضي يبحث فيه عن أحوال النغم من حيث الاتفاق والتنافر وأحوال الأزمنة المتخللة بين النقرات من حيث الوزن وعدمه ليحصل معرفة كيفية تأليف اللحن هذا ما قاله الشيخ في شفاءه إلا إن لفظه بين النقرات زيدت على كلامه. وعبارته بعينها أي: معرفة النغم الحاصل من النقرات ليعم البحث عن الأزمنة التي تكون نقراتها منغمة أو ساذجة وكلامه يشعر بكون البحث عن الأزمنة التي تكون نقراها منغمة فقط. وعرفها الشيخ أبو نصر: بأنها صوت واحد لابث لزمان فإذا قدر محسوسا في الجسم الذي فيه يوجد والزمان قد يكون غير محسوس القدر لصغره فلا مدخل للبحث والصوت اللابث فيه لا يسمى نغمة والقوم قدروا أقل المرتبة المحسوسة في زمان يقع بين حرفين متحركين ملفوظين على سبيل الاعتدال فظهر لنا أنه يشتمل على بحثين البحث: الأول: عن أحوال النغم والبحث الثاني: عن الأزمنة فالأول يسمى: علم التأليف. والثاني: علم الإيقاع. والغاية والغرض منه حصول معرفة كيفية تأليف الألحان وهو في عرفهم أنغام مختلفة الحدة والثقل رتبت ترتيبا ملائما وقد يقال: وقرنت بها ألفاظ دالة على معان محركة للنفس تحريكا ملذا وعلى هذا فما يترنم به الخطباء والقراء يكون لحنا بخلاف التعريف الثالث: وهو وقرنت بها ألفاظ منظومة مظروفة الأزمنة بالأول أعم من الثاني والثالث وبين الثاني والثالث عموم من وجه. وقال في مدينة العلوم: وهو علم تعرف منه أحوال النغم والإيقاعات وكيفية تأليف اللحون وإيجاد الآلات الموسيقائية وإنما وضعوا هذه الآلات لما ليس فيه الطبيعة فلم يرخصوا الإخلال به. وموضوعه: الصوت من جهة تأثيره في النفس إما بالبسط أو بالقبض لأن الصوت إما أن يحرك النفس عن المبدأ فيحدث البسط من السرور واللذة وما يناسبها وإما إلى مبدئها فيحدث القبض والفكر في العواقب وما يناسب ذلك ومن الكتب المصنفة فيه كتاب الفارابي وهو أشهرها وأحسنها وكذا كتاب الموسيقي من أبواب

الشفاء لابن سينا ولصفي الدين عبد المؤمن مختصر لطيف ولثابت بن قرة تصنيف نافع ولأبي الوفاء الجوزجاني مختصر نافع في فن الإيقاع والكتب في هذا الفن كثيرة وفيما ذكرناه كفاية انتهى كلامه. وقد اتفق الجمهور على أن واضع هذا الفن أولا: فيثاغورس من تلامذة سليمان عليه السلام وكان رأى في المنام ثلاثة أيام متوالية أن شخصا يقول له: قم واذهب إلى ساحل البحر الفلاني وحصل هناك علما غريبا فذهب من غد كل ليلة من الليالي إليه فلم ير أحدا فيه وعلم أنها رؤيا ليست مما يؤخذ جدا فانعكس وكان هناك جمع من الحدادين يضربون بالمطارق على التناسب فتأمل ثم رجع وقصد أنواع مناسبات بين الأصوات ولما حصل له ما قصده بتفكر كثير وفيض إلهامي صنع آلة وشد عليها إبريسما وأنشد شعرا في التوحيد وترغيب الخلق في أمور الآخرة فأعرض بذلك كثير من الخلائق عن الدنيا وصارت تلك الآلة معززة بين الحكماء وبعد مدة قليلة صار حكيما محققا بالغا في الرياضة بصفاء جوهره وأصلا إلى مأوى الأرواح وسعة السماوات وكان يقول: إني أسمع نغمات شهية وألحانات بهية من الحركات الفلكية وتمكنت تلك النغمات في خيالي وضميري فوضع قواعد هذا العلم. وأضاف بعده الحكماء مخترعاتهم إلى ما وضعه إلى أن انتهت النوبة إلى أرسطاطاليس فتفكر أرسطو فوضع الأغنون وهو آلة لليونانيين تعمل من ثلاثة زقاق كبار من جلود الجواميس يضم بعضها إلى بعض ويركب على رأس الزق الأوسط زق كبير آخر ثم يركب على هذه الزقاق أنابيب لها ثقب على نسب معلومة تخرج منها أصوات طيبة مطربة على حسب استعمال المستعمل وكان غرضهم من استخراج قواعد هذا الفن تأنيس الأرواح والنفوس الناطقة إلى عالم القدس لا مجرد اللهو والطرب فإن النفس قد يظهر فيها باستماع واسطة حسن التأليف وتناسب النغمات بسط فتذكر مصاحبة النفوس العالية ومجاورة العالم العلوي وتسمع هذا النداء وهو: ارجعي أيتها النفس الغريقة في الأجسام المدلهمة في فجور الطبع إلى العقول الروحانية والذخائر التوراتية والأماكن القدسية في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ومن رجال هذا الفن من صار له يد طولى كعبد المؤمن فإن له فيه شرفية وخواجه عبد القادر بن غيبي الحافظ المراغي له فيه كتب عديدة وقد أطال ابن خلدون في بيان صناعة الغناء فمن شاء ليرجع إليه فأنه بحث نفيس. علم الموعظة ويقال: علم المواعظ وهو علم يعرف به ما هو سبب الإنزجار عن المنهيات والانزعاج إلى المأمورات من الأمور الخطابية المناسبة لطباع عامة الناس. ومباديه الأحاديث المروية عن سيد المرسلين وحكايات العباد والزهاد والصالحين وكذا حكايات الأشرار المبتلين بالبليات بسوء أعمالهم وفساد أحوالهم ذكره في مدينة العلوم. قال ابن الجوزي في المنتخب: لما كانت المواعظ مندوبا إليها بقوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعماله: "تعاهدوا الناس التذكرة" ولأن أدواء القلوب تفتقر إلى أدوية كما تحتاج أمراض البدن إلى معالجة ألفت في هذا الفن كتبا تشتمل على أصوله وفروعه وكان السلف

يقتنعون من المواعظ باليسير من غير تحسين لفظ أو زخرفة نطق ومن تأمل مواعظ الحسين بن علي رضي الله عنهما وغيره علم ما أشرت إليه وكذلك كان الفقهاء في قديم الزمان يتناظرون من غير مفاوضة في تسمية قياس علة أو قياس شبه وأرجو أن يكون ما أخذته من الألفاظ والأسامي لا يخرج عن مرضاة الأوائل وكذلك ما أخذته عن علماء المذكورين من تحسين لفظ أو تسجيع وعظ لا يخرج عن قانون الجواز وما ذاك إلا بمثابة جمع القرآن الذي ابتدأ به أبو بكر رضي الله عنه وثنى به عثمان وجمع عمر الناس على قرائه في شهر رمضان وأذن لتميمي الداري أن يقص ومثل هذه لا تذم لكونها ابتدعت إذ ليست بخارجة عن أصل المشروع وقال الحسن: القصص بدعة كم من أخ يستفيد ودعوة يستجاب انتهى. وذكر الشيخ الأجل مسند الوقت أحمد ولي الله المحدث الدهولي رحمه الله في كتابة القول الجميل في بيان سواء السبيل فصل في بيان آداب الوعظ والواعظ وعبارته هذه قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} وقال لكليمه موسى عليه السلام: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} . فالتذكير ركن عظيم ولنتكلم في صفة المذكر وكيفية التذكير والغاية التي يلمحها المذكر ومن أي علم استمداده وماذا أركانه وما آداب المستمعين وما الآفات التي تعتري في وعاظ زماننا ومن الله الاستعانة. أما المذكر: فلا بد أن يكون مكلفا عدلا كما اشترطوا في راوي الحديث والشاهد محدثا مفسرا عالما بجملة كافية من أخبار السلف الصالح وسيرتهم ونعني بالمحدث المشتغل بكتب الحديث بأن يكون قرأ لفظها وفهم معناها وعرف صحتها وسقمها ولو بإخبار حافظ أو استنباط فقيه وكذلك بالمفسر المشتغل بشرح غريب كتاب الله وتوجيه مشكلة وبما روي عن السلف في تفسيره. ويستحب مع ذلك أن يكون فصيحا لا يتكلم مع الناس إلا قدر فهمهم وأن يكون لطيفا ذا وجه ومروة. وأما كيفية التذكير: فهو أن لا يذكر إلا غبا ولا يتكلم وفيهم ملال بل إذا عرف فيهم الرغبة ويقطع عنهم وفيهم رغبة وأن يجلس في مكان ظاهر كالمسجد وأن يبدأ الكلام بحمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويختم بها ويدعو للمؤمنين عموما وللحاضرين خصوصا ولا يخص في الترغيب والترهيب فقط بل يشوب كلامه من هذا ومن ذلك كما هو سنة الله من إرداف الوعد بالوعيد والبشارة بالإنذار وأن يكون ميسرا لا معسرا ويعم بالخطاب ولا يخص طائفة دون طائفة وأن لا يشافه بذم قوم أو الإنكار على شخص بل يعرض مثل أن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ولا يتكلم بسقط وهزل ويحسن الحسن ويقبح القبيح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يكون إمعة. وأما الغاية التي يلمحها المذكر فينبغي أن يزور في نفسه صفة المسلم في أعماله وحفظ لسانه وأخلاقه وأحواله القلبية ومداومته على الأذكار ثم ليتحقق فيهم تلك الصفة بكمالها بالتدريج على حسب فهمهم فيأمر أولا بفضائل الحسنات ومساوئ السيئات في اللباس والزي والصلوات وغيرها فإذا تأدبوا فليأمر بالأذكار فإذا أثر فيهم فليحرضهم على ضبط اللسان والقلب وليستعن في تأثير هذه في قلوبهم بذكر أيام الله ووقائعه من باهر أفعاله وتصريفه وتعذيبه لأمم في الدنيا ثم بهول الموت وعذاب القبر وشدة

يوم الحساب وعذاب النار وكذلك بترغيبات على حسب ما ذكرنا. وأما استمداده فليكن من كتاب الله على تأويله الظاهر وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المعروفة عند المحدثين وأقاويل الصحابة والتابعين وغيرهم من صالح المؤمنين وبيان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكر القصص المجازفة فإن الصحابة أنكروا على ذلك اشد الإنكار وأخرجوا أولئك المساجد وضربوهم وأكثر ما يكون هذا في الإسرائيليات التي لا تعرف صحتها وفي السيرة وشأن نزول القرآن. وأما أركانه: فالترغيب والترهيب والتمثيل بالأمثال الواضحة والقصص المرققة والنكات النافعة فهذا طريق التذكير والشرح والمسئلة التي يذكرها إما من الحلال والحرام أو من باب آداب الصوفية أو من باب الدعوات أو من عقائد الإسلام فالقول الجلي أن هناك مسئلة يعلمها وطريقها في تعليمها. وأما آداب المستمعين: فإن يستقبلوا المذكر ولا يلعبوا ولا يلغطوا ولا يتكلموا فيها بينهم ولا يكثروا السؤال من المذكر في كل مسئلة بل إذا عرض خاطر فإن كان لا يتعلق بالمسئلة تعلقا قويا أو كان دقيقا لا يتحمله فهوم العامة فليسكت عنه في المجلس الحاضر فإن شاء سأله في الخلوة. وإن كان له تعلق قوي كتفصيل إجمال وشرح غريب فلينتظر حتى إذا انقضى كلامه وليعد المذكر كلامه ثلث مرات فإن كان هناك أهل لغات شتى والمذكر يقدر أن يتكلم على ألسنتهم فليفعل ذلك. وليجتنب دقة الكلام وإجماله. وأما الآفات التي تعتري الوعاظ في زماننا فمنها: عدم تمييزهم بين الموضوعات وغيرها بل غالب كلامهم الموضوعات والمحرفات وذكر الصلوات والدعوات التي عدها المحدثون من الموضوعات. ومنها: مبالغتهم في شيء من الترغيب والترهيب. ومنها: قصصهم قصة كربلا والوفاة وغير ذلك وخطبهم فيها انتهى. قلت: ويشمل قوله غير ذلك مجالس قصة الولادة وما يكون فيها من القيام وعند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم وقد صرح جماعة من أهل العلم بالكتاب والسنة بأن محفل الميلاد بدعة لم يرد دليل ولم يدل عليه نص من الشرع. منهم الشيخ الأجل والصوفي الأكمل مجدد الألف الثاني الشيخ أحمد الفاروقي السهرندي وجم غفير من أتباعه. ومنهم: الإمام العلامة المجتهد المطلق الفهامة شيخنا القاضي محمد بن علي الشوكاني اليماني وجمع كثير من تلامذته. ومنهم: سيدي الوالد الماجد حسن بن علي الحسيني البخاري القنوجي رضي الله عنهم وعصابة من مستفيديه وأخلافه. وما ذهب إليه طائفة من العلماء المقلدة من أن البدعة تنقسم إلى كذا وكذا فهو قول ساقط مردود لا يعتد به ولا يلتفت إليه كيف والحديث الصحيح "كل بدعة ضلالة" نص قاطع وبرهان ساطع لرد البدع كلها كائنا ما كان.

والدليل في ذلك على من قال بالقسمة والمانع يكفيه القيام في مقام المنع حتى يظهر ما يخالفه ظهورا بينا لا شك فيه ولا شبهة. وأما آراء الرجال وأقوال الناس وروايات الكتب الفقهية والفتاوى المذهبية فلا تسأل عنها فإنها لكثرة العبائر ووفرة الوجوه والنظائر لا تكاد تنحصر في صحف السماء والأرض فضلا عن الأوراق ومن قلد ولم يتبع فقد ضل عن الحق وغاب عن الصواب ودخل في الباطل وهوى في مهوى التباب وبالله العصمة والتوفيق. علم الميزان ويسمى علم المنطق تقدم وإنما سمي بالميزان إذ به توزن الحجج والبراهين. وكان أبو علي يسميه: خادم العلوم إذ ليس مقصودا بنفسه بل هو وسيلة إلى العلوم فهو كخادم لها. وأبو نصر يسميه: رئيس العلوم لنفاذ حكمه فيها فيكون رئيسا حاكما عليها وإنما سمي بالمنطق لأن النطق يطلق على اللفظ وعلى إدراك الكليات وعلى النفس الناطقة. ولما كان هذا الفن يقوي الأول ويسلك بالثاني مسلك السداد ويحصل بسببه كمالات الثالث اشتق له اسم منه وهو المنطق. وهو: علم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المعلومات إلى المجهولات وشرائطها بحيث لا يعرض الغلط في الفكر. والمعلومات: تتناول الضرورية والنظرية. والمجهولات: تتناول التصورية والتصديقية وهذا أولى مما ذكره صاحب الكشف تفيد معرفة طرق الانتقال من الضروريات إلى النظريات لأنه يوهم بالانتقال الذاتي علم ما يتبادر من العبارة والمراد الأعم من أن يكون بالذات أو بالواسطة. وأما احترازاته: فقد ذكرها صاحب كشاف اصطلاحات الفنون وليس إيرادها ههنا من غرضنا في هذا الكتاب. والمنطق من العلوم الآلية لأن المقصود منه تحصيل المجهول من المعلوم ولذا قيل: الغرض من تدوينه العلوم الحكمية فهو في نفسه غير مقصود ولذا قيل المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر. وموضوعه: التصورات والتصديقات أي: المعلومات التصورية والتصديقية لأن بحث المنطقي عن أعراضها الذاتية فإنه يبحث عن التصورات من حيث إنها توصل إلى تصور مجهول إيصالا قريبا أي بلا واسطة كالحد والرسم أو إيصالا بعيدا ككونها كلية وجزئية وذاتية وعرضية ونحوها فإن مجرد أمر من هذه الأمور لا يوصل إلى التصور ما لم ينضم إليه آخر يحصل منها حد أو رسم. ويبحث عن التصديقات من حيث أنها توصل إلى تصديق مجهول إيصالا قريبا كالقياس والاستقراء والتمثيل أو بعيد ككونها قضية وعكس قضية ونقيضها فإنها ما لم تنضم إليه ضميمة لا توصل إلى التصديق. ويبحث عن التصورات من حيث أنها توصل إلى التصديق إيصالا أبعد ككونها موضوعات ومحمولات

ولا خفاء في أن إيصال التصورات والتصديقات إلى المطالب قريبا أو بعيدا من العوارض الذاتية لها فتكون هي موضوع المنطق. وذهب أهل التحقيق إلى أن موضوعه المعقولات الثانية لا من حيث إنها ما هي في أنفسها ولا من حيث أنها موجودة في الذهن فإن ذلك وظيفة فلسفية بل من حيث أنها توصل إلى المجهول أو يكون لها نفع في الإيصال. فإن المفهوم الكلي إذا وجد في الذهن وقيس إلى ما تحته من الجزئيات فباعتبار دخوله في ماهياتها يعرض له الذاتية وباعتبار خروجه عنها العرضية وباعتبار كونه نفس ماهياتها النوعية وما عرض له الذاتية جنس باعتبار اختلاف أفراده وفصل باعتبار آخر وكذلك ما عرض له العرضية إما خاصة أو عرض عام باعتبارين مختلفين. وإذا ركبت الذاتيات والعرضيات إما منفردة أو مختلطة على وجوه مختلفة عرض لذلك المركب الحدية والرسمية ولا شك أن هذه المعاني أعني كون المفهوم الكلي ذاتيا أو عرضيا أو نوعا ونحو ذلك ليست من الموجودات الخارجية بل هي مما يعرض للطبائع الكلية إذا وجدت في الأذهان وكذا الحال في كون القضية حملية أو شرطية وكون الحجة قياسا أو استقراء أو تمثيلا فإنها بأسرها عوارض تعرض لطبائع النسب الجزئية في الأذهان إما وحدها أو مأخوذة مع غيرها فهي أي المعقولات الثانية موضوع المنطق. ويبحث المنطقي عن المعقولات الثالثة وما بعدها من المراتب فإنها عوارض ذاتية للمعقولات الثانية فقط. فالقضية مثلا معقول ثان يبحث عن انقسامها وتناقضها وانعكاسها وإنتاجها إذا ركبت بعضها مع بعض فالانعكاس والإنتاج والانقسام والتناقض معقولات واقعة في الدرجة الثالثة من التعقل وإذا حكم على أحد الأقسام أو أحد المتناقضين مثلا في المباحث المنطقية بشيء كان ذلك الشيء في الدرجة الرابعة من التعقل وعلى هذا القياس. وقيل: موضوعه الألفاظ من حيث أنها تدل على المعاني وهو ليس بصحيح لأن نظر المنطقي ليس إلا في المعاني ورعاية جانب اللفظ إنما هي بالعرض. والغرض من المنطق: التمييز بين الصدق والكذب في الأقوال والخير والشر في الأفعال والحق والباطل في الاعتقادات. ومنفعته: القدرة على تحصيل العلوم النظرية والعملية. وأما شرفه: فهو أن بعضه فرض وهو البرهان لأنه لتكميل الذات وبعضه نقل وهو ماسوى البرهان من أقسام القياس، لأنه للخطاب مع الغير ومن أتقن المنطق فهو على درجة من سائر العلوم، ومن طلب العلوم الغير المتسقة وهي ما لا يؤمن فيها من الغلط ولا يعلم المنطق، فهو كحاطب ليل وكرامد العين لا يقدر على النظر إلى الضوء لا البخل من الموجد بل لنقصان في الأستعداد والصواب الذي يصدر من غير المنطقي كرمي من غير رام، وقد يندر للمنطقي خطأ في النوافل دون المهمات لكنه يمكنه استدراكه بعرضه على القوانين المنطقية.

ومرتبته في القراءة أن يقرأ بعد تهذيب الأخلاق وتقويم الفكر ببعض العلوم الرياضية مع الهندسة والحساب. وأما الأول: فلما قال أبقراط: البدن ليس بنقي كلما غذوته إنما يزيد شرا ووبالا ألا ترى أن الذين لم يهذبوا أخلاقهم إذا شرعوا في المنطق سلكوا منهج الضلال وانخرطوا في سلك الجهال وأنفوا أن يكونوا مع الجماعة ويتقلدوا ذل الطاعة فجعلوا الأعمال الطاهرة والأقوال الظاهرة من البدائع التي وردت بها الشرائع وقر آذانهم والحق تحت أقدامهم وأما الثاني: فلتستأنس طبائعهم إلى البرهان كذا في شرح إشراق الحكمة ومؤلف المنطق ومدونه أرسطو انتهى. ما في كشاف اصطلاحات الفنون. ولشيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني رسالة في هذا الباب سماه أمنية المتشوق في حكم المنطق قال فيها: الخلاصة في ذلك أنه ذهب إلى لزوم تعلم المنطق الغزالي وجماعة. وذهب إلى تكريهه قوم. وقال بإباحته جمع جم وصرح بتحريمه جماعة. قال السيوطي في الحاوي: المنطق هو: فن خبيث مذموم يحرم الاشتغال به مبني بعض ما فيه على القول بالهيولي الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة. وليس له ثمرة دينية أصلا بل ولا دنيوية نص على جميع ما ذكرته أئمة الدين وعلماء الشريعة. فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي ونص عليه من أصحابه إمام المحرمين والغزالي في آخر أمره وابن الصباغ صاحب الشامل وابن القشيري ونصر المقدسي والعماد بن يونس وحفيده والسلفي وابن بندار وابن عساكر وابن الأثير وابن الصلاح وابن دقيق العيد والبرهان الجعبري وأبو حيان والشرف الدمياطي والذهبي والطيبي والملوي والأسنوي والأذرعي والولي العراقي والشرف المقري قال: وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي. ونص عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد صاحب الرسالة والقاضي أبو بكر بن العربي وأبو بكر الطرطوسي وأبو الوليد الباجي وأبو طالب المكي صاحب قوت القلوب وأبو الحسن بن الحصار وأبو عامر بن الربيع وأبو الحسن بن حبيب وأبو حبيب المالقي وابن المنير وابن رشد وابن أبي حمزة وعامة أهل المغرب. ونص عليه من الأئمة الحنفية: أبو سعيد السيرافي والسراج القزويني وألف في ذمه كتابا سماه نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلى بعلم المنطق. ونصل عليه من أئمة الحنابلة: ابن الجوزي وسعد الدين الحارثي والتقي ابن تيمية وألف في ذمه ونقض قواعده مجلدا كبيرا اسمه نصيحة ذوي الإيمان في الرد على منطق اليونان انتهى كلامه. ومن عرف معنى الهيولي الذي جعله سببا لتحريم هذا الفن لابتناء بعضه عليه. علم أن السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الفن ناقة ولا جمل ورجل ولا حمل فهو معذور. وقد قال بقول هؤلاء جماعة من أهل البيت وابن حزم الظاهري قال في الجوهرة: وقد فرط الغزالي وأفرط.

وأما تفريطه: فكونه زعم أنه لا حاجة إلى علم الكلام. وأما إفراطه: فلأنه شرط للمجتهد ما لم يشترط أحد من علماء الإسلام معرفة صناعة المنطق ولهذا قال المهدي في أوائل البحر: وأما المنطق فالمحققون لا يعدونه لإمكان البرهان دونه يعني لا يعدونه من علوم الاجتهاد. وفي منهاج القرشي: أن الفلاسفة وضعوا علم المنطق خديعة وتوصلا إلى إبطال مسائل التوحيد لأنهم جعلوا قياس الغائب على الشاهد ظنيا وجميع مسائل التوحيد مبنية عليه فتوصلوا بهذا إلى أن الكلام في إثبات الصانع وصفاته ظني لا يمكن العلم به وتوصلا إلى إبطال مسائل العدل لأنهم جعلوا الحكم بقبح المظلم والكذب ونحو ذلك والحكم بحسن العدل ووجوب رد الوديعة وشكر المنعم ونحو ذلك أمورا مشهورات مسلمات ليس فيها إلا ظن ضعيف فلا يحكم الإنسان بقبح الظلم إلا لرقة قلبه أو الحمية أو لمحبة التعاون على المعاش ونحو ذلك فتوصلوا بذلك إلى إبطال العدل والوعيد والشرائع وتكلفوا للتوصل إلى هذه الخديعة فنا من أدق الفنون والبراهين الحاصلة عن أشكالهم نوع واحد من أنواع العلوم وهو إلحاق التفصيل بالجملة وهو أقل العلوم كلفة وإن لم يكن ضروريا كمن يعلم أن كل ظلم قبيح ثم يعلم في وقت معين أنه ظلم فإنه يعلم أن هذا المعين قبيح إلحاقا للتفصيل بالجملة ولا يحتاج إلى إيراد مقدمتين في شكل مخصوص انتهى. قال القاضي علي بن عبد الله بن رادع: ولقد عرفت صحة ما ذكره في المنهاج بسماعي لمعظم كتب المنطق كالرسالة الشمسية وشرحها وغيرهما ووجدت ما يذكرونه في أشكالهم لا فائدة فيه إلى آخر ما قال في شرحه للأثمار ولقد عجبت من قول هذا القاضي حيث قال: بسماعي لمعظم كتب المنطق ثم تكلم بعد ذلك بكلام يشعر بعدم معرفته لأول بحث من مباحث الرسالة الشمسية وكثيرا من يظن أنه قد عرف علم المنطق وهو لا يعرفه لأنه علم دقيق لا يفتح هذه الإشكالات الباردة. قال ابن رادع في شرح الأثمار: روي عن المؤلف أيده الله أنه قال: إن العلماء المتقدمين كانوا إذا اطلعوا على شيء من ألفاظ الفلاسفة في أي كلام يرد عليهم اكتفوا في رده وإبطاله بكون فيه شيء من عبارة الفلاسفة ولم يتشاغلوا ببيان بطلانه وإن كثيرا من العلماء المتقدمين وكثيرا من المتأخرين نهوا عن الخوض فيه أشد النهي. وصنف الشيخ جلال الدين السيوطي كتابا سماه القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق ولم يشتغل من اشتغل من المتأخرين إلا لما كثر التعبير بقواعده من المخالفين واستعانوا بالخوض فيه على تيسير الرد عليهم بالطريق التي سلكوها وكان الأولى السلوك في طريقة المتقدمين لأن قواعد التعبير بعبارة المنطق كثيرة الغلط وخارجة عن عبارة الكتاب والسنة واللسان العربي مع أنه مفسدة في كل من الأديان وقد روي أن بعض الخلفاء العباسيين لما طلب الفلاسفة ترجم علم المنطق باللغة العربية شاور كبيرا لهم فقال: ترجموه لهم فإن علمنا هذا لا يدخل في دين إلا أفسده. قال المؤلف رحمه الله: وقد وجد ذلك الكلام صحيحا فإن كثيراً من المتعمقين في علم المنطق من

المسلمين قد مال في كثير من الأصول إلى ما يفكر به قطعاً. وأما غير المسلمين من أهل الكتاب فقد تفلسف أكثرهم ولهذا إن كل من خرج عن الأصول الشرعية والعقلية لا يعتمد غيره مثل الباطنية والصوفية وغيرهم انتهى. وقال جماعة من العلماء: القول الفصل فيه أنه كالسيف يجاهد به شخص في سبيل الله ويقطع به آخر الطريق. قال الإمام يحيى بن حمزة: إن كان الإطلاع عليه لقصد حل شبهة ونقضها جاز ذلك بل هو الواجب على علماء الإسلام. وإن كان لغرض غير ذلك كالاقتفاء لآثارهم والتدين بدينهم فهو الكفر والفرية التي لا شبهة فيها ولا مرية وفي هذا القدر من أقوال العلماء كفاية وإن كان المجال يتسع لأضعاف أضعاف ذلك وليس مرادنا إلا الإشارة إلى الاختلاف في هذا العلم. وأما ما هو الحق من هذه الأقوال فاعلم أنه لا يشك من له مسكة في صحة أطراف ثلاثة نذكرها هاهنا نجعلها كالمقدمة لما نرجحه. الطرف الأول: إن علم المنطق علم كفري واضعه الحكيم أرسطاطاليس اليوناني وليس من العلوم الإسلامية بإجماع المسلمين والمنكر لهذا منكر للضرورة وليس للمشتهرين بمعرفته المكبين على تحقيق مطالبه من المسلمين كالفارابي وابن سينا ومن نحا نحوهم إلا التفهم لدقائقه والتعريف بحقائقه ولهذا قال الفارابي وهو أعلم المسلمين بهذا الفن لما قال له قائل: أيما أعلم أنت أم أرسطاطايس؟ فقال: لو أدركته لكنت من أكبر تلامذته. الطرف الثاني: إن المتأخرين من علماء الإسلام ولا سيما أئمة الأصول والبيان والنحو والكلام والجدل من أهل البيت وغيرهم قد استكثروا من استعمال القواعد المنطقية في مؤلفاتهم في هذه الفنون وغيرها وبالغ المحقق ابن الإمام الحسين بن القاسم في شرح غاية السول فقال: وهاهنا أبحاث يحتاج إليها. أما الأول: فلان هذا العلم لما كان علما بكيفية الاستنباط وطريقة الاستدلال عن دلائل وكان المنطق علما بكيفية مطلق الاستدلال والاستنباط شارك المنطق وشابهه من هذه الجهة حتى كأنه جزئي من جزئيات المنطق وفرع من فروعه ولا ريب في أن إتقان الأصل وتدبره أدخل لإتقان الفرع والتبصر فيه انتهى بلفظه. فانظر كيف جعل علم الأصول جزئيا من جزئيات المنطق وجعله فرعاً والمنطق أصلاً. وعلى الجملة فاستعمال المتأخرين لفن المنطق في كتبهم معلوم لكل باحث ومن أنكر هذا بحث أي كتاب شاء من الكتب المتداولة بين الطلبة التي هي مدارس أهل العصر في هذه العلوم فإنه يجد معرفة ذلك متعسرة إن لم تكن متعذرة بدون علم المنطق خصوصا علم الأصول. فإنها قد جرت عادة مؤلفيه باستفتاح كتبهم بهذا العلم كابن الحاجب في مختصر المنتهى وشرحه وابن الإمام في غاية السول وشرحها وغيرهما دع عنك المطولات والمتوسطات هذه المختصرات التي هي مدرس المبتدئ في

زماننا كالمعيار للإمام المهدي وشروحه والكافل لابن بهران وشروحه قد اشتمل كل واحد منها على مباحث من هذا العلم لا يعرفها إلا أربابه ومن ادعى معرفتها بدون هذا العلم فهو يعرف كذب نفسه. الطرف الثالث: إن كتب المنطق التي يدرسها طلبة العلوم في زماننا كرسالة إيساغوجي للأبهري وشروحها التهذيب للسعد وشروحه والرسالة الشمسية وشروحها وما يشابه هذه الكتب قد هذبها أئمة الإسلام تهذيبا صفت به عن كدورات أقوال المتقدمين فلا ترى فيها إلا مباحث نفيسة ولطائف شريفة تستعين بها على دقائق العلوم وتحل بها إيجازات المائلين إلى تدقيق العبارات فإن حرمت نفسك معرفتها فلاحظ لك بين أرباب التحقيق ولا صحة لنظرك بين أهل التدقيق فاصطبر على ما تسمعه من وصفك بالبلة والبلادة وقلة الفطنة وقصور الباع. فإن قلت: السلف أعظم قدوة وفي التشبه بهم فضيلة قلت: لا أشك في قولك ولكنه قد حال بينك وبينهم مئات من السنين وكيف لك بواحدة من أهل القرن الأول والثاني أو الثالث تأخذ عنه المعارف الصافية عن كدر المنطق هيهات هيهات حال بينك وبينهم عصور ودهور فليس في زمانك رجل يسبح في لجج مقدمات علم الكتاب والسنة إلا وعلم المنطق من أول محفوظاته ولا كتاب من على علماء الإسلام فنون هذه المقدمات إلا وقد اشتمل على أبحاث منه فأنت بخير النظرين: أما الجهل بالعلوم التي لا سبيل إلى معرفة الكتاب والسنة إلا بها. أو الدخول فيما دخل فيه أبناء عصرك والكون في أعدادهم ولا أقول لك: لا سبيل لك إلى كتب المتقدمين التي لم تشب بهذا لعلم بل ربما وجده منها ما يكفيك عن كتب المتأخرين ولكنك لا تجد أحدا من أبناء عصرك تأخذها عنه بسنده المتصل بطريق السماع كما تجد كتب المتأخرين كذلك ولا أقول لك أيضا: إن علم الكتاب والسنة متوقف لذاته على معرفة علم المنطق فإن دين الله أيسر من أن يستعان على معرفته بعلم كفري ولكن معرفة علم الأصول والبيان والنحو والكلام على التمام والكمال متوقفة على معرفته في عصرنا لما أخبرناك به ومعرفة كتاب الله وسنة نبيه متوقفة على معرفتها على نزاع والمتوقف على المتوقف متوقف. وسبب التوقف بهذه الواسطة محبة المتأخرين للتدقيق والإغراب في العبارات واستعمال قواعد المناطقة واصطلاحاتهم وليتهم لم يفعلوه فإنه قد تسبب عن ذلك بعد الوصول إلى المطلوب على طالبه وطول المسافة وكثرة المشقة حتى إن طالب الكتاب والسنة بما لا يبلغ حد الكفاءة لقراءتهما إلا بعد تفويت أعوام عديدة ومعاناة معارف شديد فيذهب في تحصيل الآلات معظم مدة الرغبة واشتغال القريحة وجودة الذكاء فيقطعه ذلك عن الوصول إلى المطلوب وقد يصل إليهما بذهن كليل وفهم عليل فيأخذ منه بأنزر نصيب وأحقر حظ وهذا هو السبب الأعظم في إهمال علمي الكتاب والسنة في المتأخرين لأنهم قد أذهبوا رواء الطلب وبهاء الرغبة في غيرهما ولو أنفقوا فيهما بعض ما أنفقوا في آلاتهما لوجدت فيهم الحفاظ المهرة والأئمة الكملة1 والله المستعان.

_ 1 ومثل هذا الحاصل قد أشار إليه بل صرح به الشاه ولي الله المحدث في رسالته في الوصية، واينه الشاه عبد العزيز في بعض فتاواه، وهو القول الوسط في الطرفين، والعلاوة بين العدلين والله أعلم، سيد علي حسين خان ولد المؤلف دام مجده.

وحاصل البحث: أنه لم يأت من قال بتحريم علم المنطق بحجة مرضية إلا قوله أنه علم كفري ونحن نسلم ذلك ولكنا نقول: قد صار في هذه الأعصار بذلك السبب من أهم آلات العلوم حلال أو حرام بل يتوقف كثير من المعارف عليه فاشتغل به اشتغالك بفن من فنون الآلات ولا تعبأ بتشغيبات المتقدمين وبتشنيعات المقصرين وعليك بمختصرات الفن كالتهذيب والشمسية واحذر من مطولاته المستخرجة على قواعد اليونان كشفاء ابن سينا وما يشابهه من كتبه وكتاب الشفاء والإشارات وما يليهما من المطولات والمتوسطات التي خلط فيها أهلها المنطق بالحكمة اليونانية والفلسفة الكفرية يضل أكثر المشتغلين بها ويبعدهم عن الصراط السوي والهدي النبوي الذي أمرنا باتباعه بنصوص الكتاب والسنة والله تعالى أعلم بالصواب. علم الميقات ذكره في كشف الظنون ولم يبينه ولعل المراد به علم مواقيت الصلوات الخمس أو ميقات الناس على اختلاف مساكنهم وبلدانهم عند إرادة الحج والعمرة وقد رود في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم قال: "فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله" وكذلك أهل مكة يهلون منها. وفائدة التوقيت: المنع عن تأخير الإحرام فلو قدم عليه جاز. والغرض منه والمنفعة والغاية ظاهرة لمن يعرف دين الإسلام. وميقات العمرة هو: الحل وأفضل بقاع الحل الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية وقال في العالمكيرية: التنعيم أفضل انتهى. لكن قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر لا في رمضان ولا في غيره والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة رضي الله عنها ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين. انتهى. وزاد تلميذه الحافظ الواحد المتكلم محمد بن أبي بكر بن القيم رحمه الله: أنه لم تكن في عمره صلى الله عليه وسلم عمرة واحدة خارجا من مكة كما يفعله كثير من الناس وإنما كانت عمرة كلها داخلا إلى مكة وقد قام بعد الوحي ثلاث عشرة سنة لم ينقل أنه اعتمر خارجا من مكة ولم يفعله أحد على عهده قط إلا عائشة لأنها أهلت بالعمرة فحاضت فأمرها فقرنت وأخبر أن طوافها بالبيت وبالصفا وبالمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها فوجدت في نفسها أن ترجع صواحبها بحجة وعمرة مستقلتين فإنهن كن ممتعات ولم يحضن وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم مطيبا لقلبها والله تعالى أعلم انتهى.

ولأسماء الميقات تفسير وتحقيق ذكره أهل الحديث في شروحه وذكرته في رسالتي رحلة1 الصديق إلى البيت العتيق مبسوطا فارجع إليه واعتمد عليه فأنه ينفعك نفعاً تاماً.

_ 1 وهذه الرسالة قد طبعت بحمد الله تعالى من قبل في بلدة لكنؤ من بلاد الهند، وهي متضمنه جميع مسائل الحج والعمرة وما يتعلق بهما نافعة في هذا الباب، علي حسين عفا الله عنه.

باب النون

باب النون علم النباتات ذكره في كشف الظنون. وقال في مدينة العلوم: هو: علم يبحث فيه عن خواص نوع النباتات وعجائبها وأشكالها ومنافعها ومضارها. وموضوع نوع النبات. وفائدته ومنفعته التداوي بها ولابن البيطار فيه تصنيف فائق ولا أجمع ولا أنفع من كتاب ما لا يسع الطبيب جهله ويوجد نبذ من خواصها في الصحف الطبية. علم النجوم هو: من فروع الطبعي وهو وعلم بأصول تعرف بها أحوال الشمس والقمر وغيرهما من بعض النجوم كذا في بعض حواشي الشافية قاله في كشاف اصطلاحات الفنون. وفي كشف الظنون هو: علم يعرف به الاستدلال على حوادث علم الكون والفساد بالتشكلات الفلكية وهي أوضاع الأفلاك والكواكب كالمقارنة والمقابلة والتثليث والتسديس والتربيع إلى غير ذلك وهو عند الإطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام حسابية وطبيعيات ووهميات. أما الحسابيات: فهي يقينية في علمها قد يعمل بها شرعاً. وأما الطبيعيات: كالاستدلال بانتقال الشمس في البروج الفلكية على تغيير الفصول كالحر والبرد والاعتدال فليست بمردودة شرعا أيضاً. أما الوهميات: كالاستدلال على الحوادث السفلية خيرها وشرها من اتصالات الكواكب بطريق العموم والخصوص فلا استناد لها إلى أصل شرعي ولذلك هي مردودة شرعا كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر النجوم فامسكوا". وقال: "تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البر والبحر ثم انتهوا". الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالنجوم فقد كفر" لكن قالوا هذا إن اعتقد أنها مستقلة في تدبير العالم. وقال الشافعي رحمه الله: إذا اعتقد المنجم أن المؤثر الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى لكن عادته سبحانه وتعالى جارية بوقوع الأحوال بحركاتها وأوضاعها المعهودة في ذلك لا بأس عندي. كذا ذكره السبكي في طبقاته الكبرى وعلى هذا يكون استناد التأثير حقيقة إلى النجوم مذموما فقط. قال بعض العلماء: إن اعتقاد التأثير إليها بذاتها حرام.

وذكر صاحب مفتاح السعادة أن الحافظ ابن القيم الجوزي أطنب في الطعن فيه والتنفير عنه. فإن قيل: لم لا يجوز أن تكون بعض الأجرام العلوية أسباب للحوادث السفلية فيستدل النجم العاقل من كيفية حركات النجوم واختلافات مناظرها وانتقالاتها من برج إلى برج على بعض الحوادث قبل وقوعها. يقال: يمكن على طريق إجراء العادة أن يكون بعض الحوادث سببا لبعضها لكن لا دليل فيه على كون الكواكب أسبابا للعادة وعللا للنحوسة لا حساً ولا عقلاً ولا سمعاً. أما حسا: فظاهر أن أكثر أحكامهم ليست بمستقيمة كما قال بعض الحكماء: جزئياتها لا تدرك وكلياتها لا تتحقق. وإما عقلا: فإن علل الأحكاميين وأصولهم متناقضة حيث قالوا: إن الأجرام العلوية ليست بمركبة من العناصر بل هي طبيعية خاصة ثم قالوا ببرودة زحل ويبوسته وحرارة المشتري ورطوبته فأثبتوا الطبيعة للكواكب وغير ذلك. وأما شرعا: فهو مذموم بل ممنوع كما قال صلى الله عليه وسلم: "من آتي كاهنا بالنجوم أو عرافا أو منجما فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد". الحديث وسبب المبالغة في النهي عن هذه الثلاثة ذكره الشيخ علاء الدولة في العروة الوثقى وقال علي بن أحمد النسوي: علم النجوم أربع طبقات: الأولى: معرفة رقم التقويم ومعرفة الإسطرلاب حسبما هو يتركب. والثانية: معرفة المدخل إلى علم النجوم ومعرفة طبائع الكواكب والبروج ومزاجاتها. والثالثة: معرفة حسنات أعمال النجوم وعمل الزيج والتقويم. والرابعة: معرفة الهيئة والبراهين الهندسية على صحة أعمال النجوم ومن تصور ذلك فهو المنجم التام على التحقيق وأكثر أهل زماننا قد اقتصروا من علم التنجيم على الطبقتين الأوليين وقليل منهم يبلغ الطبقة الثالثة. والكتب المصنفة فيه كثيرة منها: الأحكام وأبو قماش وأدوار وإرشاد والبارع ومختصر البارع وتحاويل وتنبيهات المنجمين وتفهيم الجامع الصغير ودرج الفلك والسراج والقرانات ولطائف الكلام ومجمل الأصول ومجموع ابن شرع ومسائل القصر وغير ذلك انتهى ما في كشف الظنون. وفي كشاف اصطلاحات الفنون: موضوعه النجوم من حيث يمكن أن تعرف بها أحوال العالم ومسائله كقولهم: كلما كان الشمس على هذا الموضع المخصوص فهي تدل على حدوث أمر كذا في هذا العالم انتهى. وقال ابن خلدون: هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية. فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو

اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد وأحقاب متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم وربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي وهو رأي قائل وقد كفونا مؤنة إبطاله. ومن أوضح الأدلة فيه: أن تعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبعد الناس عن الصنائع وأنهم لا يتعرضون للأخبار عن الغيب إلا أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق. وأما بطليموس ومن تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال: لأن فعل النيرين وأثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحدا جحده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول وأمزجتها ونضج الثمار والزرع وغير ذلك. وفعل القمر في الرطوبات والماء وإنضاج المواد المتعفنة وفواكه القناء وسائر أفعاله. ثم قال: ولنا فيما بعدهما من الكواكب طريقان: الأولى: التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس. الثانية: الحدس والتجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القرآن في قوته ومزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته ثم إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركبة وذلك عند تناظرها بأشكال التثليث والتربيع وغيرهما ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النير الأعظم. وإذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء وذلك ظاهر والمزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحتها من المولدات وتتخلق به النطف والبزر فتصير حالا للبدن المتكون عنها وللنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه ولما يتبع النفس والبدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة والنطفة كيفيات لما يتولد عنهما وينشأ منهما قال: وهو مع ذلك ظني وليس من اليقين في شيء وليس هو أيضا من القضاء الإلهي يعني: القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن والقضاء الإلهي سابق على كل شيء هذا محصل كلام بطليموس وأصحابه وهو منصوص في كتبه الأربع وغيره ومنه يتبين ضعف مدارك هذه الصناعة وذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل والقابل والصورة والغاية على ما تبين في موضعه. والقوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط والجزء العنصري هو القابل ثم إن القوى النجومية ليست هي الفاعلة بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل: قوة التوليد للأب والنوع التي في النطفة وقوى الخاصة التي تميز بها صنف صنف من النوع وغير ذلك فالقوى النجومية إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن ثم إنه يشترط مع العلم بقوى النجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين وحينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن والحدس والتخمين قوى للناظر في فكره وليس من علل الكائن ولا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس والتخمين رجعت

أدراجها عن الظن إلى الشك هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداد ولم تعترضه آفة وهذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها ولما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه ومدرك بطلميوس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبة لجميع القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبة لجميع القوى من الكواكب ومستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال وهذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة. ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته واحتج له أهل علم الكلام بما هو غني عن البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية والعقل متهم على ما يقضي به فيما يظهر بادي الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف والقدرة الإلهية رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علوا وسفلا سيما والشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ مما سوى ذلك. والنبوات أيضا منكرة لشأن النجوم وتأثيراتها واستقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله: إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته وفي قوله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. الحديث الصحيح فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقا لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها ثم ما ينشأ عنها كثيرا في الدول من توقع القواطع وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء والمتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة وقد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران لما ينشأ عنها من المضاد في الدين والدول ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيا للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم فالخير والشرط طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما وإنما يتعلق بالتكليف بأسباب حصولهم فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه ودفع أسباب الشر والمضار هذا هو الواجب على من عرف مفاسد العلم ومضاره وليعلم من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملة تحصيل علمها ولا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر وظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها وصار المولع بها من الناس وهم الأقل وأقل من الأقل إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متسترا عن الناس وتحت ربقه الجمهور مع تشعب الصناعة وكثرة فروعها واعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل ونحن نجد الفقه الذي علم نفعه دينا ودنيا وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة وعكف الجمهور على قراءته وتعليمه ثم بعد التحقيق والتجميع وطول المدارسة وكثرة المجالس وتعددها إنما يحذق فيه الواحد في الأعصار والأجيال فكيف بعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الحظر والتحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه إلى مزيد

حدس وتخمين يكتنفان به من الناظر فأين التحصيل والحذق فيه مع هذه كلها ومدعى ذلك من الناس مردود على عقبه ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة وقلة حملته فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبة أحدا ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن وحاصروه بالقيروان وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء وقال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس: استغفر الله كل حين ... قد ذهب العيش والهناء أصبح في تونس وأمسى ... والصبح لله والمساء الخوف والجوع والمنايا ... يحدثها الهرج والوباء والناس في مرية وحرب ... وما عسى ينفع المراء فاحمدي ترى عليا ... حل به الهلك والتواء وآخر قال سوف يأتي ... به إليكم صبا رخاء والله من فوق ذا وهذا ... يقضي لعبديه ما يشاء يا راصد الخنس الجواري ... ما فعلت هذه السماء مطلتمونا وقد زعمتم ... أنكم اليوم أملياء من خميس على خميس ... وجاء سبت وأربعاء ونصف شهر وعشرتان ... وثالث ضمه القضاء ولا نرى غير زور قول ... أذاك جهل أم ازدراء إنا إلى الله قدر علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء رضيت بالله لي إلها ... حسبكم البدر أو ذكاء ما هذه الأنجم السواري ... إلا عباديد أو إماء يقضي عليها وليس تقضي ... وما لها في الورى اقتضاء ضلت عقول ترى قديما ... ما شأنه الجرم والفناء وحكمت في الوجود طبعا ... يحدثه الماء والهواء لم ترحلوا إزاء مر ... تغذوهمو تربة وماء الله ربي ولست أدري ... ما الجوهر الفرد والخلاء ولا الهيولي التي تنادي ... ما لي عن صورة عراء ولا وجود ولا انعدام ... ولا ثبوت ولا انتفاء ولست أدري ما الكسب إلا ... ما جلب البيع والشراء وإنما مذهبي وديني ... ما كان والناس أولياء إذ لا فصول ولا أصول ... ولا جدال ولا ارتياء ما تبع الصدر واقتفنينا ... يا حبذا كان الاقتفاء

كانوا كما يعلمون منهم ... ولم يكن ذلك الهذاء يا أشعري الزمان إني ... أشعرني الصيف والشتاء أنا أجزي بالشر شرا ... والخير عن مثله جزاء وإنني إن أكن مطيعا ... فرب أعصي ولي رجاء وإنني تحت حكم بار ... أطاعه العرش والثراء ليس باستطاركم ولكن ... أتاحه الحكم والقضاء لو حدث الأشعري عمن ... له إلى رأيه انتماء فقال أخبرهم بأني ... مما يقولونه براء انتهى كلامه الشريف ولله دره وعلى الله أجره. علم النحو علم باحث عن أحوال المركبات الموضوعة وضعا نوعيا لنوع نوع من المعاني التركيبية النسبية من حيث دلالتها عليها. وغرضه: تحصيل ملكة يقتدر بها على إيراد تركيب وضع وضعا نوعيا لما أراده المتكلم من المعاني وعلى فهم معنى أي مركب كان بحسب الوضع المذكور. وغايته: الاحتراز عن الخطأ في تطبيق التراكيب العربية على المعاني الوضعية الأصلية. ومباديه: المقدمات الحاصلة من تتبع الألفاظ المركبة في موارد الاستعمالات. وموضوعه: المركبات والمفردات من حيث وقوعها في التراكيب والأدوات لكونها روابط التراكيب وإنما يبحث عنها في النحو على وجه المبدئية لأنها من مسائل اللغة حقيقة كذا في مدينة العلوم. وقال في كشف الظنون: وتعريفه وموضوعه مستغن عن التعريف فأنه مشهور والكتب المؤلفة فيه كثيرة معروفة. قال في مدينة العلوم: علم النحو من فروض الكفايات إذ يحتاج إليه الاستدلال بالكتاب والسنة. وفي كشاف اصطلاحات الفنون علم النحو ويسمى: علم الإعراب أيضا على ما في شرح اللب وهو علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقما وكيفية ما يتعلق بالألفاظ من حيث وقوعها فيه من حيث هو هو أولا وقوعها فيه كذا في الإرشاد. وموضوعه: اللفظ الموضوع مفردا كان أو مركبا وهو الصواب كذا قيل. يعني موضوع النحو: اللفظ الموضوع باعتبار هيئته التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية لا مطلقا فإنه موضوع العلوم العربية. وقيل: الكلمة والكلام. وقيل: هو المركب بإسناد أصلي. ومباديه: حدود ما تبتني عليه مسائله كحد المبتدأ والخبر مقدمات حججها أي أجزاء علل المسائل كقولهم في حجة رفع الفاعل أنه أقوى الأركان والرفع أقوى الحركات ومسائله الأحكام المتعلقة بالموضوع كقولهم.

الكلمة: إما معرب أو مبني أو جزئه كقولهم آخر الكلمة محل الأعراب أو جزئية كقولهم: الاسم بالسببين يمتنع عن الصرف أو عرضه كقولهم: الخبر. إما مفردا وجملة أو خاصته كقولهم الإضافة تزاحم التنوين ولو بواسطة أو وسائط أي ولو كان تعلق الأحكام بأحد هذه الأمور ثابتا بواسطة أو وسائط كقولهم الأمر يجاب بالفاء فالأمر جزئي من الإنشاء والإنشاء جزئي من الكلام. والغرض منه: الاحتراز عن الخطأ في التأليف والاقتدار على فهمه والإفهام به هكذا في الإرشاد وحواشيه وغيرها انتهى حاصله. قال ابن خلدون رحمه الله: اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل الساني فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم وكانت الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني مثل: الحركات التي تعين الفاعل من المفعول ومن المجرور أعني المضاف ومثل: الحروف التي تفضي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً". فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيئات أي: الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها إنما ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليه السمع من المخالفات التي للمتعربين والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على الفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل: أن الفاعل مرفوع المفعول منصوب والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغيير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التغير عاملا وأمثال ذلك وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها: أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة ويقال: بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففرغ إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب فهذب الصناعة وكمل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها ووضع فيها كتابه المشهور الذي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده.

ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة المصرين القديمين للعرب وكثرت الأدلة والحجاج بينهم وتباينت الطرق في التعليم وكثر الاختلاف في أعراب كثير من أي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل. كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله. أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له وربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتأليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو تحاط بها وطرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين غايرة لطريقة المتأخرين والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الأعراب مجملة ومفصلة وتكلم على الحروف والمفردات والجمل وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب ومفصول وقواعد انتظمت سائرها فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها وكأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه والله يزيد في الخلق ما يشاء انتهى. قال في مدينة العلوم: ومن الكتب المشهورة في علم النحو مقدمة لابن الحاجب المسماة بالكافية والناس قد اعتنوا بالكافية أشد الاعتناء بحيث لا يمكن إحصاء شروحها وأجلها الذي سار ذكره في الأمصار والأقطار مسير الصبا والأمطار شرح العرمة نجم الأئمة رضي الدين الإسترآبادي وهو شرح عظيم الشأن جامع لكل بيان وبرهان تضمن من المسائل أفضلها وأعلاها ولم يغادر من الفوائد صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قال السيوطي في طبقات النحاة: لم يؤلف عليها ولا في غالب كتب النحو مثله جمعا وتحقيقا وحسن تعليل وقد أكب الناس عليه وتداولوه واعتمده شيوخ العصر في مصنفاتهم ودروسهم وله فيه أبحاث كثيرة مع النحاة واختيارات جمة ومذاهب ينفرد بها وله شرح على الشافية انتهى. ويروى: أن رضي الدين كان على مذهب الرفض يحكى أنه: كان يقول العدل في عمر ليس بتحقيقي موضع قوله العدل في عمر تقديري نعوذ بالله من الغلو في البدعة والعصبية في الباطل. ومن شروح الكافية شرح السيد ركن الدين كبير ومتوسط صغير وهذا المتوسط متداول بين الناس على أيدي المبتدئين.

وشرح الفاضل السامي الشيخ عبد الرحمن الجامي بلغ غاية لا يمكن الزيادة عليها في لطف التحرير وحسن الترتيب وشهرة حاله في بلادنا أغنتنا عن التعرض لترجمته. وشرح جلال الدين الغجدواني أحمد بن علي قال السيوطي هذا الشرح مشهور بأيدي الناس وشرح النجم السعيدي. وشرح تقي الدين النيلي وشرح المصنف للمتن وفيه أبحاث حسنة. ومن المختصرات لب الألباب وعليه شروح أحسنها شرح السيد عبد الله العجمي نقره كار ومعناه: صانع الفضة ولب الإعراب لتاج الدين الإسفرائيني وله شروح منها شرح قطب الدين الفالي وشرح الإمام الزوزني محمد بن عثمان وزوزن بلدين هراة ونيسابور. وشرح الشيخ علي الشهير بمصنفك كان من أولاد الإمام فخر الدين الرازي والرازي يصرح في مصنفاته بأنه من أولاد عمر بن الخطاب وذكر أهل التاريخ أنه من أولاد أبي بكر الصديق. ومن المختصرات أيضا: المصباح للإمام المطرزي وشرحه ضوء المصباح للإسفرايئني. والعمدة لابن مالك وعليه شروح منها: شرح ابن جابر الأندلسي. وألفية جلال الدين السيوطي ومن المنظومات ملحة الإعراب لأبي القاسم الحريري. وأرجوزة الشيخ ابن الحاجب نظم الكافية على أحسن وجه خاليا عن تكلف النظم. ومن المبسوطات: شروح المفصل منها: الإيضاح لابن الحاجب وشرح ابن يعيش والإقليد للجندي وكتاب مغنى اللبيب عن كتب الأعازيب لابن هشام وله مختصر سماه قواعد الإعراب وعليهما شروح نافعة. قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له: ابن هشام أنحى من سيبويه وكان كثير المخالفة لأبي حيان شديد الانحراف عنه اشتهر في حياته وأقبل الناس عليه قال السيوطي: وقد كتبت عليه حاشية وشرحا لشواهده انتهى حاصل ما في مدينة العلوم وقد أطال في بيان تراجم النحاة المذكورين. علم نزول الغيث هو: علم باحث عن كيفية الاستدلال بأحوال الرياح والسحاب والبرق على نزول المطر وأخص الناس بهذا العلم العرب لاشتداد حاجتهم إلى الغيوث التي بها حصول معايشهم من السقي والرعي وقد حصل لهم هذا العلم بكثرة التجارب ودليله الدوران بين أحوال السحب والأمطار. وجاء في غريب أبي عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن سحابة مرت وقال: "كيف ترون قواعدها وبواسقها أجون أم غير ذلك"؟ ثم سأل عن البرق: "أخفوا أم وميضا أم يشق شقا"؟ فقالوا: بل يشق شقا فقال صلى الله عليه وسلم: "جاءكم الحياء". هكذا في مدينة العلوم علم النظر هو: علم يبحث فيه عن كيفية إيراد الكلام بين المناظرين.

وموضوعه: الأدلة من حيث إنها يثبت بها المدعي على الغير ومباديه: أمور بينة بنفسها. والغرض منه: تحصيل ملكة طرق المناظرة لئلا يقع الخبط في البحث فيصبح الصواب خطأ. ومن الكتب المختصرة فيه: غاية الاختصار رسالة لمولانا عضد الدين وقد بين قواعدها كلها في مقدار عشرة أسطر وشرحها بعض الفضلاء المعاصرين لنا شرحا حسنا وهو مولانا محمد بن محمد البردعي وكان ذكيا في الغاية مات سنة 927، ورسالة شمس الدين السمرقندي صاحب قسطاس الميزان وهذه الرسالة أشهر كتب هذا الفن وعليها شروح وكتاب مولانا سنان الدين الكنجي وكنجة: قرية من قرى بردع ولم يتفق له شرح إلى الآن قاله في مدينة العلوم وفيه في موضع آخر. علم النظر وهو: القواعد المنطقية من حيث إجرائها في الأدلة السمعية فصورة تلك القواعد وإن كانت جارية على منهاج العقل لكن موادها مستنبطة من الشرع ولهذا الاعتبار جعل ابن الحاجب القواعد المنطقية من مبادئ أصول الفقه. علم النفوس أي: معرفة النفوس الإنسانية بدأ وعودا وأنها قديمة أو حادثة أو محشورة وموضوعا وغرضه لا يخفى على الفطن.

باب الواو

باب الواو علم الوجوه والنظائر هو من فروع علم التفسير ومعناه: أن تكون الكلمة واحدة ذكرت في مواضع من القرآن على لفظ واحد وحركة واحدة وأريد بها في كل مكان معنى غير الآخر فلفظ كل كلمة ذكرت في موضع نظير لفظ الكلمة المذكورة في الموضع الآخر هو النظائر. وتفسير كل كلمة بمعنى غير معنى الآخر هو الوجوه. فإذا النظائر اسم الألفاظ والوجوه اسم المعاني. وقد صنف فيه جماعة: منهم الشيخ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي فأنه جمع أجود ما جمعوه في مختصر سماه نزهة الأعين في علم الوجوه والنظائر ورتبه على الحروف قال: وقد نسب كتاب فيه إلى عكرمة عن ابن عباس وكتاب آخر إلى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وألف فيه مقاتل بن سليمان وأبو الفضل العباس بن الفضل الأنصاري وروى مطروح بن محمد بن شاكر عن عبد الله هارون الحجازي عن أبيه كتابا فيه وألف فيه أبو بكر محمد بن الحسن النقاش وأبو علي بن البنا وأبو الحسن علي بن عبيد الله بن الراغوني. انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله. علم وحدة الوجود قيل: إن بعض كلماتها خارجة عن طور العقل وظاهرها مخالف لتبادر النقل فصارت سببا بين الناس

للفتنة خصوصا هذه المسئلة وبسببها يكفر بعض الناس بعضا وأمرها يورث بين الطوائف عداوة وبغضا بعض يقبلها ويرد مقابلها وبعض ينكرها ويكفر قائلها لكن الكثيرون في فهمها على ظن وتخمين وبمعزل عن تحقيق ما أرادوا منها على اليقين فلا يكون الرد والقبول مقبولا ولا لها غير التباغض والتحاسد محصولا وفيها تأليفات وتحريرات منها. رسالة المولوي الجامي ورسالة بدرا لدين زاده انتهى ما في كشف الظنون. وأقول: الحق في الباب ترك الخوض في هذه المسئلة وأمثالها مما لم تخض فيه الصحابة والتابعون ولم يدخل فيه سلف الأمة وأئمتها الصالحون ولم ينطق به الكتاب العزيز لا دلالة ولا إشارة ولم ترد به السنة المطهرة لا صراحة ولا كناية ولم يلهج به المحققون من أهل العلم المتقدمين والمتأخرين ولم يتمسك بذيله إلا أفراد من المتصوفين الذين ليسوا من أهل الدراسة ولا من مزاولة العلوم النبوية في شيء. فرحم الله امرأ اتبع ظاهر القرآن والحديث ولم يمل عن الصراط السوي وصان نفسه عن الوقوع في الألغاز والأحاجي ومن الغرق في بحار الضلالة والمناهي. وأحسن ما تكلم به أهل العلم من إقليم الهند في هذه المسئلة كلام الشيخ أحمد السهرندي المعروف بمجدد الألف الثاني رحمه الله ثم كلام الشاه ولي الله المحدث الدهلوي ثم كلام اتباع هؤلاء من العلماء الكملاء فإنه صفة الصفة وفيه صيانة الإيمان والاعتقاد عن طغيان الهوى والفساد وبالله التوفيق. علم الوصايا ذكره في كشف الظنون. علم الوضع هكذا في كشف الظنون وقال في مدينة العلوم: هو: علم باحث عن تفسير الوضع وتقسيمه إلى الشخصي والنوعي والعام والخاص وبيان حال وضع الذوات ووضع الهيئات إلى غير ذلك. وموضوعه وغايته ومنفعته لا تخفى على المتدرب وكتب فيه مولانا عضد الدين رسالة لكنها قطرة من بحر وكان في خلدي أن أؤلف فيه رسالة أبين فيها مقاصد هذا الفن بكمالها فلم يتيسر لي إلى الآن ونسأل الله التوفيق لهذا المرام أنه ميسر لكل عسير. علم وضع الأصطرلاب علم باحث عن كيفية وضعه ومعرفة رسم خطوطه على الصفائح ومعرفة كيفية الرسم في كل عرض من الأقاليم وقد يعمل أصطرلاب شامل لجميع البلاد وهذا عظيم النفع جدا وفي هذا الفن رسائل كثيرة مشهورة عند أهله ذكره في مدينة العلوم. علم وضع ربع الدائرة وهو نوعان: أحدهما: المسمى: بالمقنطرات ويرسم عليها ربع الدوائر المرسومة على الكرة وهي

تختلف باختلاف عروض البلدان والآخر: الربع المجيب: ويرسم عليه خطوط مستقيمة متقاطعة وفي هذا العلم رسائل مشهورة عند أهله كذا في مدينة العلوم. علم الوعظ ذكره في كشف الظنون. علم الوفق كذا في الكشف ولم يزد على ذلك مع أنه وعد تحت علم أعداد الوفق أنه يأتي بيانه في علم الوفق وقد تقدم منا بيانه هنالك فراجعه. وكتبت جوابا عن سؤال ورد إلي من أهل البصرة في هذا الزمان وحاصله النهي عن استعمال الوفق وكونه نوعا من السحر وقسما من الشرك والله أعلم. علم وقائع الأمم ورسومهم كأنه من فروع علم التاريخ قال في مدينة العلوم: هذا من فروع المحاضرات والتواريخ هو: علم يبحث فيه عن أماكن أقوام مخصوصين ومواضع طوائف معنيين ورسوم مألوفة وعادات معروفة لكل قوم ومباديه: مأخوذة من الاستقراء والتواتر من الثقات وغرضه: تحصيل ملكة ضبط تلك الأمور وغايته: الاحتراز عن الخطأ فيها والكتب المؤلفة في هذا الفن كثيرة صنف فيه أبو عبيدة والأصمعي كتبا كثيرة وأكثر تقربهما عند الخليفة هارون الرشيد بسبب هذا انتهى. علم الوقوف قال في كشف الظنون: هو من فروع القراءة. وقال في مدينة العلوم: الوقف عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمانا يتنفس فيه عادة بنية الاستئناف لأبنية الأعراض ويكون في رؤوس الآي وأوساطها ولا يتأتى في وسط الكلمة ولا فيما اتصل رسماً قيل: معرفة وقوف القرآن واجب حيث قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قال علي كرم الله وجهه: الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف. قال ابن الأنباري: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء فيه. قال النكزاوي: لا يتأتى لأحد معرفة معنى القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل وللوقف أقسام مذكورة في كتب الوقوف وما تعرضت لذكر تلك الكتب ههنا لشهرتها عند أهلها.

باب الهاء

باب الهاء علم الهندسة هو: علم بقوانين تعرف منه الأصول العارضة للكم من حيث هو كم وقال في مدينة العلوم: هو: علم يعرف منه أحوال المقادير ولواحقها وأوضاع بعضها عند بعض ونسبتها وخواص أشكالها والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينية.

وموضوعه المقادير المطلقة أعني: الخط والسطح والجسم التعليمي ولواحق هذه من الزاوية والنقطة والشكل. ومنفعته: الاطلاع على الأحوال المذكورة من الموجودات وأن يكسب الذهن حدة ونفاذا ويروض بها الفكر رياضة قوية لما اتفقوا على أن أقوى العلوم برهانا هي العلوم الهندسية. ومن جملة منافعها العلاج عن الجهل المركب لما أنها علوم يقينية لا مدخل فيها للوهم فيعتاد الذهن على تسخير الوهم والجهل المركب ليس إلا من غلبة الوهم على العقل. والمصنفات فيه كثيرة أشهرها وأصحها: تحرير الطوسي لكتاب إقليدس وأخصرها وأحسنها: شرح أشكال التأسيس للأبهري وشرحه لقاضي زادة الرومي وقد ذكر ابن سينا في كتاب الشفاء جملة كافية منها ثم إن للهندسة عدة فروع وكذا ذكر العلامة في كتبه من حقائق هذا الفن ما فيه كفاية انتهى. والهندسة معرب أندازه ووجه التسمية ظاهر. وأما العلوم المتفرعة عليه فهي عشرة. وذلك لأنه إما يبحث عن إيجاد ما يتبرهن عليه في الأصول الكلية بالفعل أولاً. والثاني: إما يبحث عما ينظر إليه أولاً. الثاني: علم عقود الأبنية والباحث عن المنظور إليه إن اختص بانعكاس الأشعة فهو علم المرايا المحرقة وإلا فهو علم المناظر. وأما الأول: وهو ما يبحث عن إيجاد المطلوب من الأصول الكلية بالفعل فإما من جهة تقديرها أو لا. والأول: منهما إن اختص بالنقل فهو علم مراكز الأثقال وإلا فهو علم المساحة. والثاني: منهما فإما إيجاد الآلات أو لا. الثاني: علم أنباط المياه والآلات إما تقديرية أو لا. والتقديرية: إما ثقيلة وهو جر الأثقال. أو زمانية: وهو علم البنكامات. والتي ليست تقديرية فإما خربية أولا. الثاني: علم الآلات الروحانية. الأول: علم الآلات الحربية وقد ذكرنا هذه العلوم في هذا الكتاب على الترتيب الهجائي فارجع إليها. قال ابن خلدون رحمه الله: هذا العلم هو النظر في المقادير إما المتصلة: كالخط والسطح والجسم وإما المنفصلة: كالأعداد وفيما يعرض لها من العوارض الذاتية. مثل: أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين. ومثل: أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية. ومثل: أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان. ومثل: أن الأربعة المقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع وأمثال ذلك.

والكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب إقليدس ويسمى كتاب: الأصول وكتاب: الأركان وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين. وأول ما ترجم من كتاب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور ونسخه مختلفة باختلاف المترجمين فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة وليوسف بن الحجاج ويشتمل على خمس عشرة مقالة: أربعة في السطوح وواحدة في الأقدار المتناسبة وأخرى في نسب السطوح بعضها إلى بعض وثلث في العدد والعاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الحذور وخمس في المجمسات. وقد اختصره الناس اختصارات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء أفرد له جزء منها اختصه به وكذلك ابن الصلت في كتاب الاقتصاد وغيرهم. وشرحه آخرون شروحا كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق. واعلم: أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيسها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع وقد زعموا أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخنا رحمهم الله تعالى يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكرية والمخروطات. أما الأشكال الكرية: ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس ميلاوش في سطوحها وقطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه ولا بد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليهما فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية وما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكرية سطوحها وقطوعها. وأما المخروطات: فهو من فروع الهندسة أيضا وهو علم ينظر في ما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول. وفائدتها: تظهر في الصنائع العملية التي موادها الأجسام مثل: النجارة والبناء وكيف تصنع التماثيل الغريبة والهياكل النادرة وكيف يتحيل على جر الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والمنجال وأمثال ذلك. وقد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتابا في الحيل العملية يتضمن من الصناعات الغريبة والحيل المستطرفة كل عجيبة وربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية وهو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر والله تعالى أعلم. علم الهيئة ذكره في كشف الظنون ولم يزد على ذلك.

وقال في مدينة العلوم: هو علم يعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها ومقاديرها وأبعادها. وموضوعه الأجرام المذكورة من الحيثية المذكورة وقد يذكر هذا العلم تارة مع براهينها الهندسية كما هو الأصل وهذا هو المذكور في المجسطي لبطليموس ولخصه الأبهري وعربه. ومن الكتب المختصرة: فيه هيئة ابن أفلح. ومن المبسوطة: القانون المسعودي لأبي ريحان البيروتي وشرح المجسطي للنيروزي وقد تجرد عن البراهين ويقتصر على التصور والتخيل دون اليقين ويسمى هيئة بسيطة. ومن المختصر فيه: التذكرة لنصير الدين الطوسي. ومن المتوسط: هيئة العرضي ومن المبسوطة: أيضا التحفة ونهاية الإدراك كلاهما للعلامة قطب الدين الشيرازي. ومن المختصرة: الملخص المشهور لمحمود الجغميني وعليه شروح منها: شرح لفضل الله العبيدي وكمال الدين الزاكاني والشريف الجرجاني. وأحسن الشروح شرح الفاضل قاضي زادة الرومي. ومن المختصرة النافعة فيه: غاية النفع كتاب النخبة لعلي بن محمد القوشجي وعليه شرح لمولانا سنان الدين وشرحه أستاذي محمود بن محمد بن قاضي زاده الرومي وهو ابن بنت المصنف علي بن محمد القوشجي كتبه عند قراءتي عليه الكتاب المذكور وهذا الشرح من أحسن المؤلفات في هذا الفن وكانت القدماء قد اقتصروا في هيئة الأفلاك على الدوائر المجردة وتسمى: هيئة مسطحة وفيه كتاب لأبي علي بن الهيثم انتهى كلامه. قال في كشاف اصطلاحات الفنون: علم الهيئة: هو من أصول الرياضي وهو علم يبحث فيه عن أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية من حيث الكمية والكيفية والوضع والحركة اللازمة لها وما يلزم منها. فالكمية إما منفصلة: كأعداد الأفلاك وبعض الكواكب دون أعداد العناصر فإنها مأخوذة من الطبعيات وأما متصلة: كمقادير الأجرام والأبعاد واليوم وأجزاءه وما يتركب منها. وأما الكيفية: فكالشكل إذ تتبين فيه استدارة هذه الأجسام وكلون الكواكب وضوئها. وأما الوضع: فكقرب الكواكب وبعدها عن دائرة معينة وانتصاب دائرة وميلانها بالنسبة إلى سمت رؤوس سكان الأقاليم وحيلولة الأرض بين النيرين والقمر بين الشمس والأبصار ونحو ذلك. وأما الحركة فالمبحوث عنه في هذا الفن منها هو قدرها وجهتها. وأما البحث عن أصل الحركة وإثباتها للأفلاك فمن الطبعيات والمراد باللازمة الدائمة على زعمهم وهي حركات الأفلاك والكواكب واحترز بها عن حركات العناصر كالرياح والأمواج والزلازل فإن البحث عنها من الطبعيات. وأما حركة الأرض من المغرب إلى المشرق وحركة الهواء بمشايعتها وحركة النار بمشايعة الفلك فمما لم يثبت ولو ثبت فلا يبعد أن يجعل البحث عنها من حيث القدر والجهة من مسائل الهيئة والمراد

بما يلزم من الحركة الرجوع والاستقامة التذكرة هذا القيد - أعني قيد ما يلزم منها - والظاهر أنه لا حاجة إليه. والغرض من قيد الحيثية: الاحتراز عن علم السماء والعالم فإن موضوعه البسائط المذكورة أيضا لكن يبحث فيه عنها لا عن الحيثية المذكورة بل من حيث طبائعها ومواضعها والحكمة في ترتيبها ونضدها وحركاتها إلا باعتبار القدر والجهة. وبالجملة فموضوع الهيئة الجسم البسيط من حيث إمكان عروض الأشكال والحركات المخصوصة ونحوها وموضوع علم السماء والعالم الذي هو من أقسام الطبعي الجسم البسيط أيضا لكن من حيث إمكان عروض التغير والثبات وإنما زيد لفظ الإمكان إشارة إلى أن ما هو من جزء الموضوع ينبغي أن يكون مسلم الثبوت وهو إمكان العروض لا العروض بالفعل. وقيل: موضوع كل من العلمين الجسم البسيط من حيث إمكان عروض الأشكال والحركات والتمايز بينهما إنما هو بالبرهان فإن أثبت المطلوب بالبرهان الآني يكون من الهيئة وإن أثبت بالبرهان اللمي يكون من علم السماء والعالم فإن تمايز العلوم كما يكون بتمايز الموضوعات كذلك قد يقع بالمحمولات والقول بأن التمايز في العلوم إنما هو بالموضوع فأمر لم يثبت بالدليل بل هو مجرد رعاية مناسبة. واعلم أن الناظر في حركات الكواكب وضبطها وإقامة البراهين على أحوالها يكفيه الاقتصار على اعتبار الدوائر ويسمى ذلك هيئة غير مجسمة ومن أراد تصور مبادئ تلك الحركات على الوجه المطابق لقاعد الحكمة فعليه تصور الكرات على وجه تظهر حركات مراكز الكواكب وما يجري مجراها في مناطقها ويسمى ذلك هيئة مجسمة وإطلاق العام على المجسمة مجاز ولهذا قال صاحب التذكرة: إنها ليست بعلم تام لأن العلوم هو التصديق بالمسائل على وجه البرهان فإذا لم يورد بالبرهان يكون حكاية للمسائل المثبتة بالبرهان في موضع آخر هذا كله خلاصة ما ذكره عبد العلي البرجندي في حواشي شرح الملخص. والمذكور في علم الهيئة ليس مبينا على المقدمات الطبعية والإلهية وما جرت به العادة من تصدير المصنفين كتبهم بها إنما هو بطريق المتابعة للفلاسفة وليس ذلك أمرا واجبا بل يمكن إثباته من غير ملاحظة الابتناء عليها فإن المذكور فيه بعضه مقدمات هندسية لا يتطرق إليها شبهة مثلا: مشاهدة التشكلات البدرية والهلالية على الوجه المرصود توجب اليقين بان نور القمر مستفاد من نور الشمس وبعضه مقدمات يحكم بها العقل بحسب الأخذ لما هو الأليق والأحرى كما يقولون: إن محدب الحامل يماس محدب الممثل على نقطة مشتركة وكذا مقعره بمقعره ولا مستند لهم غير أن الأولى أن لا يكون في الفلكيات فضل لا يحتاج إليه وكذا الحال في أعداد الأفلاك من أنها تسعة وبعضه مقدمات يذكرونها على سبيل التردد دن الجزم كما يقولون أن اختلاف حركة الشمس بالسرعة والبطء إما بناء على أصل الخارج أو على أصل التدوير من غير جزم بأحدهما فظهر أن ما قيل: من أن إثبات مسائل هذا الفن مبني على أصول فاسدة مأخوذة من الفلاسفة من نفي القادر المختار وعدم تجويز الخرق والالتئام على الأفلاك وغير ذلك ليس بشيء ومنشأه عدم الاطلاع على مسائل هذا الفن ودلائله. وذلك لأن مشاهدة التشكلات

البدرية والهلالية على الوجه المرصود توجب اليقين بأن نور القمر حاصل من نور الشمس وإن الخسوف إنما هو بسبب حيلولة الأرض بين النيرين والكسوف إنما هو بسبب حيلولة القمر بين الشمس والبصر مع القول بثبوت القادر المختار ونفي تلك الأصول المذكور فإن ثبوت القادر المختار وانتفاء تلك الأصول لا ينفيان أن يكون الحال ما ذكر غاية الأمر أنهما يجوزان الاحتمالات الآخر مثلا: على تقدير ثبوت القادر المختار يجوز أن يسود القادر بحسب أرادته وينور وجه القمر على ما يشاهد من التشكلات البدرية والهلالية وأيضا يجوز على تقدير الاختلاف في حركات الفلكيات وسائر أحوالها أن يكون أحد نصفي كل من النيرين مضيئا والآخر مظلما ويتحرك النيران على مركزيهما بحيث يصير وجهاهما المظلمان مواجهين لنا في حالتي الخسوف والكسوف إما بالتمام إذا كانا تامين أو بالبعض إن كانا ناقصين وعلى هذا القياس حال التشكلات البدرية والهلالية لكنا نجزم مع قيام الاحتمالات المذكور أن الحال على ما ذكر من استفادة القمر النور من الشمس وأن الخسوف والكسوف بسبب الحيلولة ومثل هذا الاحتمال قائم في العلوم العادية والتجريبية أيضا بل في جميع الضروريات مع أن القادر المختار يجوز أن يجعلها كذلك بحسب إرادته بل على تقدير أن يكون المبدأ موجبا يجوز أن يتحقق وضع غريب من الأوضاع الفلكية فيقتضي ظهور ذلك الأمر الغريب على مذهب القائلين بالإيجاب من استناد الحوادث إلى الأوضاع الفلكية وغير ذلك مما هو مذكور في شبه القادحين في الضروريات. ولو سلم أن إثبات مسائل هذا الفن يتوقف على تلك الأصول الفاسدة فلا شك أنه إنما يكون ذلك إذا ادعى أصحاب هذا الفن أنه لا يمكن إلا على الوجه الذي ذكرنا. أما إذا كان دعواهم أنه يمكن أن يكون على ذلك الوجه ويمكن أن يكون على الوجوه الآخر فلا يتصور التوقف حينئذ وكفى بهم فضلا أنهم تخيلوا من الوجوه الممكنة ما تنضبط به أحوال تلك الكواكب مع كثرة اختلافاتها على وجه تيسر لهم أن يعينوا مواضع تلك الكواكب واتصالات بعضها ببعض في كل وقت وأرادوا بحيث يطابق الحس والعيان مطابقة تتحير فيها العقول والأذهان كذا في شرح التجريد وهكذا يستفاد من شرح المواقف في موقف الجواهر في آخر بيان محدد الجهات. وفي إرشاد القاصد الهيئة: وهو علم تعرف به أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها وأبعاد ما بينها وحركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها. وموضوعه: الأجسام المذكورة من حيث كميتها وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها. وأما العلوم المتفرعة عليه فهي خمسة وذلك لأنه إما أن يبحث عن إيجاد ما تبرهن بالفعل أولا. الثاني: كيفية. الأرصاد والأول: إما حساب الأعمال أو التوصل إلى معرفتها بالآلات. فالأول منهما: إن اختص بالكواكب المجردة فهو علم الزيجات والتقاويم وإلا فهو علم المواقيت. والآلات: إما شعاعية أو ظلية فإن كانت شعاعية فهو علم تسطيح الكرة وإن كانت ظلية فعلم الآلات الظلية وقد ذكرنا هذه العلوم في هذا الكتاب على نهج الترتيب المختار فيه. وقال ابن خلدون: هو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة ويتسدل بكيفيات

تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسة كما يبرهن على أن مركز الأرض مبائن لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال والأدبار وكما يستدل بالرجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة وكما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعدد الميلول له وأمثال ذلك وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركة الإقبال والأدبار به وكذا ترتيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرجوع والاستقامة وأمثال ذلك. وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين وكانت تسمى عندهم: ذات الحلق وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس. وأما في الإسلام: فلم تقع به عناية إلا في القليل وكان في أيام المأمون شيء منه وصنع الآلة المعروفة للرصد المسماة: ذات الحلق وشرع في ذلك فلم يتم ولما مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب. وإن مطابقة حركة الآلة في الرصد بحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطى التحقيق فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك بالتقريب. وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور إنها تعطي صورة السموات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات وأنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمختلفين وإن قلنا: إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل وهو أحد أركان التعاليم. ومن أحسن التآليف فيه: كتاب المجسطي منسوب لبطليموس وليس من ملوك اليونان الذين أسماهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشفاء ولخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس وابن السمح وابن الصلت في كتاب الاقتصار ولابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها الهندسية والله علم الإنسان ما لم يعلم سبحانه لا إله إلا هو رب العلمين انتهى كلام ابن خلدون. وقد بسطنا القول في الهيئة في كتابنا لقطة العجلان فمن شاء أن يطلع عليه فعليه به والله الموفق.

باب الياء التحتانية

باب الياء التحتانية علم اليوم والليلة 1 علم يبحث فيه عن اختلاف الليل والنهار ومقدار زمانهما وأيهما أقدم في الوجود وأفضل من الآخر وما يتصل بذلك.

_ 1 هذا العلم لم أر من ذكره في نداء الحرف، وحين انتهت بي الكتابة إلى هذا الموضع تأملت ماذا أملي في هذا المقام

والغرض والغاية منه ظاهران. وموضوعه: الزمان من حيث كونه منحصرا في الأيام والليالي. وقد أقسم الله سبحانه بهما في كتابه وأناط الأحكام الشرعية باختلافهما في كريم خطابه فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} . وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} . وقال: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} فقدم النهار مرة والليل أخرى وأخر الليل تارة وقدم النهار كرة بعد أولى. واليوم عبارة عن عود الشمس بدوران الكل إلى دائرة قد فرضت. وقد اختلف فيه فجعله العرب من غروب الشمس إلى غروبها من الغد من أجل أن شهور العرب مبنية على مسير القمر وأوائلها مقيدة برؤية الهلال والهلال يرى لدن غروب الشمس صارت الليلة عندهم قبل النهار. وعند الفرس والروم اليوم بليلته من طلوع الشمس بارزة من أفق الشرق إلى وقت طلوعها من الغد فصار النهار عندهم قبل الليل. واحتجوا على قولهم: بأن النور وجود الظلمة عدم والحركة تغلب على السكون لأنها وجود لا عدم وحياة لا موت والسماء أفضل من الأرض والعامل الشاب أصح والماء الجاري لا يقبل العفونة كالراكد. واحتج الآخرون: بأن الظلمة أقدم من النور والنور طار عليها فالأقدم يبدأ به وغلبوا السكون على الحركة بإضافة الراحة والدعة إليه قال قائلهم: بقدر هر سكون راحت بود بنكر مراتب را ... دويدن رفتن استادن نشستن خفتن ومردن وقالوا: الحركة إنما هي للحاجة والضرورة والتعب نتيجة الحركة والسكون إذا دام في الاستقصاءات مدة ولم يولد فسادا فإذا دامت الحركة في الاستقصاءات واستحكمت فسدت وذلك كالزلازل والعواصف والأمواج وشبهها. وعند أصحاب التنجيم أن اليوم بليلته من موافاة الشمس فلك نصف النهار إلى موافاتها إياه في الغد وذلك من وقت الظهر إلى وقت العصر وبنوا على ذلك حساب أزياجهم وبعضهم ابتدأ باليوم من نصف

_ = وكنت متفكراً في ذلك فبينا أنا على هذه الحال، إذ ألمت بي سكنى وأهل بيتي ذات الفضيلة والكرم الرئيسية المعظمة تاج الهند المفخم نواب شاهجهان بيكم حامية حوزة بهوبال المحمية ووالية محروستها البهية أحسن الله إليها وعليها أنعم، فسألتني عما أنا فيه وحيثما علمت حقيقة الأمر قالت لي: اكتب في هذا الباب علم اليوم والليلة واجعله خاتمة هذا الكتاب وذيلة فكأني نشطت من العقال وزال عني شكال الإشكال في الحال ولله در من قال: وما أنا إلا من غزية إن عوت ... عويت وإن ترشد عزية أرشد وقدعلم الله تعالى أنها ترشد ولا تغوي، ومن يهده الله فلا مضل له، وكل ذلك منه وإليه كان منه فسح الله في مدته وبارك في علمه وعدته.

الليل وهذا هو حد اليوم على الإطلاق إذا اشترط الليلة في التركيب فإما على التفصيل فاليوم بانفراده والنهار بمعنى واحد وهو من طلوع جرم الشمس إلى غروب جرمها والليل خلاف ذلك وعكسه. وحد بعضهم أول النهار بطلوع الفجر وآخره بغروب الشمس لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وعورض بأن الآية إنما فيها بيان طرفي الصوم لا تعريف أول النهار وبأن الشفق من جهة المغرب نظير الفجر من جهة المشرق وهما متساويان في العلة فلو كان طلوع الفجر من أول النهار لكان غروب الشفق آخره وقد التزم ذلك بعض الشيعة. وفي بدائع الفوائد للحافظ ابن القيم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من يوم إلا وليلته قبله إلا يوم عرفة فإن ليلته بعده. قلت: هذا مما اختلف فيه فحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله. ومنهم من فصل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة والسبت والأحد وسائر الأيام والليلة المضافة إلى مكان أو حال أو فعل كليلة عرفة وليلة النفر ونحو ذلك فالمضافة إلى اليوم قبله والمضافة إلى غيره بعده واحتجوا بهذا الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ونقض عليهم بليلة العيد والذي فهمه الناس قديما وحديثا من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي" إنها الليلة التي يسفر صبحها عن يوم الجمعة فإن الناس يتسارعون إلى تعظيمها وكره التعبد فيها عن سائر الليالي فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن تخصيصها بالقيام كما نهاهم عن تخصيص يومها بالصيام والله أعلم بالصواب وهذا آخر الجزء الثاني من الكتاب والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.

القسم الثالث: الرحيق المختوم من تراجم أئمة العلوم

القسم الثالث: الرحيق المختوم من تراجم أئمة العلوم مدخل ... القسم الثالث: الرحيق المختوم من تراجم أئمة العلوم بسم الله الرحمن الرحيم بسملة باب الوجود حمد من اسمه الأقدس فاتحة كل كتاب وفهرسة نسخة الشهود ثناء من باكورة حمده في رياض الخير مطلع كل باب ونسائم التصلية والتسليم سارية إلى حمى النبي الكريم وأزهار التحية باسمة على عريش الأصحاب والآل ما برق ذكاء ولمع آل. وبعد فهذا هو القسم الثالث من كتاب "أبجد العلوم" وكنا قد قسمناه على قسمين من قبل ولكن لما انتهى بنا الكلام إلى آخر القسم الآخر عن لنا أن نجعل له قسما ثالثا في تراجم أكابر أئمة العلوم المتداولة ليكون له كالمسك على الختام ويبلغ به الناظر فيه إلى غاية المرام وسميت هذا الثالث من الأقسام: الرحيق المختوم من تراجم أئمة العلوم وبالله التوفيق وإليه مصير كل موجود معدوم" فؤادي داع واللسان مترجم ... ويا رب يا رحمن فضلك أكرم وإني لمضطر وصنعي عاقني ... وهل غير رب العبد للعبد يرحم قال في كتاب الجواهر المضيئة: إن ذكر فضائل العلماء تعرض لنفحات الوهب من الله تعالى فإن ذكرهم بالفضائل ذكر الله بالإنعام والإفضال وثمرة ذكر الله طمأنينة القلب كما نطق به الكتاب المبين ومن الحديث الدائر على الألسنة عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة رحمنا الله برحمته التي وسعت كل شيء. وفي رسالة الشيخ المسند حسن العجيمي ما معناه: من ورخ أحدا من أهل الفضل والكمال فهو في شفاعته قال الشاعر: أرخهم تظفر بأجر وافر ... فبذكرهم يجلى عن القلب الصدأ وفي كتاب تحقيق الصفا لمحب الدين الطبري: أن من ورخ مؤمنا فضلا عن عالم عامل فكأنما أحياه ومن أحيى مؤمنا فكأنما أحيى الناس جميعا. انتهى أرخت أحبابي لكي ألقاهم ... ما دمت في الأحياء نصيب نواظري وينال سمعي من لذيذ حديثهم ... خيرا وإن لم يبرحوا عن خاطري ولبعضهم: إن كان قد رحلوا عني وقد بعدوا ... فليس عن حبهم قلبي بمرتحل في حبهم أنا موقوف على رشد ... ميل الغصون وميل الشارب الثمل

علماء اللغة

علماء اللغة خليل بن أحمد البصري: صاحب كتاب العين في اللغة أستاذ سيبويه وهو أول من استخرج العروض وأخرجه إلى الوجود وحصر الأشعار بها في خمس دوائر يستخرج منها خمسة عشر بحرا ثم زاد فيه الأخفش بحرا واحد وسماه الخبب وله معرفة بالإيقاع والنغم وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض فإنهما متقاربان في المآخذ. وكان دعا بمكة أن يرزقه الله تعالى علما لم يسبق إليه ولا يؤخذ إلا عنه فرجع من حجه وفتح عليه بالعروض. وكان من الزهاد في الدنيا والمنقطعين إلى العلم. قال تلميذه نضر بن شميل: أقام الخليل في خص بالبصرة لا يقدر على فلسين وتلامذته يكتسبون بعلمه الأموال وكان الناس يقولون: لم يكن في العرب بعد الصحابة أذكى منه وكان يحج سنة ويفرد سنة وأبوه: أول من سمي أحمد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: أكمل ما يكون الإنسان عقلا وذهنا إذا بلغ أربعين سنة وهي السن التي بعث الله فيها محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ثم يتغير وينقص إذا بلغ ثلاثا وستين سنة وهي السن التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت السحر. ومن شعره: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا وأنشد: يقولون لي: دار الأحبة قد دنت ... وأنت كئيب إن ذا لعجيب فقلت: وما تغني الديار وقربها ... إذا لم يكن بين القلوب قريب ذكر له ابن خلكان ترجمة حافلة في وفيات الأعيان توفي الخليل سنة خمس وستين أو سبعين ومائة وله أربع وسبعون وسبب موته أنه قال: أريد أن أعمل نوعا من الحساب تمضي به الجارية إلى البقال فلا يمكن أن يظلمها فدخل المسجد وهو يعمل فكره فصدمته سارية وهو غافل فانصدع ومات ورئي في النوم فقيل له: ما صنع الله بك؟ فقال: أرأيت ما كنا فيه لم يكن شيئا أو ما وجدت أفضل من: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر. علي بن حسن الهناني: المعروف بكراع النمل بضم الكاف. أبو الحسن النحوي اللغوي قال ياقوت: هو من أهل مصر أخذ عن البصريين وكان نحويا كوفيا كتب المنضد في لغة المجرد سنة سبع وثلاثمائة. أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين اللغوي الرازي القزويني كان نحويا على طريقة الكوفي سمع أباه وعلي بن إبراهيم بن سلمة وقرأ عليه الأديب الهمذاني وكان إماما في علوم شتى خصوصا باللغة فإنه أتقنها وألف كتابه المجمل في اللغة وهو على اختصاره جمع شيئا كثيرا وله مسائل في اللغة وكان مقيما بهمذان فحمل منها إلى الري ليقرأ عليه أبو طالب بن فخر الدولة فسكنها وعليه اشتغل بديع الزمان صاحب المقامات وكان شافعيا فتحول مالكيا وقال: أخذتني الحمية لهذا الإمام أن يخلو مثل هذا البلد

عن مذهبه وكان الصاحب بن عباد تلمذ له ويقول: شيخنا ممن رزق حسن التصنيف وكان كريما جودا ربما سئل فيهب ثيابه وفرش بيته قال الذهبي: مات سنة 395 وهو أصح ما قيل في وفاته. ومن شعره: مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تنمي لتركي ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي إسحاق بن إبراهيم الفارابي: أبو إبراهيم صاحب ديوان الأدب في اللغة خال أبي نصر الجوهري ترامى به الاغتراب إلى أرض اليمن وسكن زبيد وبها صنف كتاب المجمل ومات قبل أن يروى عنه قريبا من سنة 350، وقيل: في حدود السبعين وقال ياقوت: رأيت نسخة من هذا الكتاب بخط الجوهري وقد ذكر فيها: أنه قرأه إلى إبراهيم بقاراب وله رحمه الله تعالى أيضا: شرح أدب الكتاب وبيان الأعراب. أحمد بن أبان بن سيد: اللغوي الأندلسي صاحب المعلم في اللغة أخذ عن أبي علي القالي وغيره وكان عالما إماما في اللغة والعربية حاذقا أديبا سريع الكتابة. روى عنه الأفليطي صنف المعلم مائة مجلد مرتبا على الأجناس بدأ فيه بالفلك وختم بالذرة وشرح كتاب الأخفش وغير ذلك مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. محمد بن أحمد بن الأزهر: طلحة بن نوح الهروي اللغوي الشافعي أبو منصور الأزهري ولد سنة 282 وأخذ عن ربيع بن سليمان ونفطويه وابن السراج وأدرك ابن دريد ولم يرو عنه وورد بغداد وأسرته القرامطة فبقي فيهم دهرا طويلا وكان رأسا في اللغة واشتهر بها. أخذ عنه الهروي صاحب الغريبين وكان قد رحل وطاف في أرض العرب في طلب اللغة وكان جامعا لشتات اللغة مطلعا على أسرارها ودقائقها وصنف في اللغة كتاب التهذيب وهو من الكتب المختارة يكون أكثر من عشر مجلدات وله تصنيف في غريب الألفاظ التي استعملها الفقهاء في مجلد واحد وهو عمدة الفقهاء في تفسير ما يشكل عليهم من اللغة المتعلقة بالفقه وكان عارفا بالحديث عالي الإسناد ثخين الورع. ولد في سنة 282، ومات في ربيع الآخر سنة 370، وقيل سنة 371 بمدينة هراة وله أيضا تفسير ألفاظ مختصر المزني والتقريب في التفسير وغير ذلك ورأى ببغداد أبا إسحاق الزجاج وأبا بكر بن الأنباري ولم ينقل أنه رحمه الله تعالى أخذ عنهما شيئاً. علي بن إسماعيل بن سيده: اللغوي النحوي المرسي الأندلسي أبو الحسن الضرير صاحب المحكم في اللغة وله كتاب المخصص في اللغة أيضا قيل: اسم أبيه: محمد وقيل: إسماعيل وكان أبوه ضريرا أيضا قيما بعلم اللغة اشتغل ولده كان حافظا لم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بها متوفرا على علوم الحكمة. روى عن أبيه وأبي العلاء صاعد بن الحسن البغدادي وله شرح إصلاح المنطق وشرح الحماسة وشرح كتاب الأخفش مات سنة 358، عن نحو ستين سنة أو نحوها وكان له في الشعر حظ وتصرف. إسماعيل بن حماد الإمام: أبو نصر الفارابي الجوهري صاحب الصحاح. قال ياقوت: كان من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما أصله من فاراب الترك وكان إماما في اللغة والأدب وخطه يضرب به المثل وكان يؤثر السفر على الحضر ويطوف الآفاق لأجل العلم صنف كتاباً

في العروض ومقدمة في النحو قبل تغير عقله في آخر عمره فعمل لنفسه جناحين فصعد مكانا عليا فأراد أن يطير فوقع ميتا وبقي الصحاح في المسودة فبيضه تلميذه إبراهيم بن صلاح الوراق فغلط فيه في مواضع. قال ياقوت: وقد رأيت كتاب الصحاح بخطه عند الملك الأعظم وقد كتبه في سنة 392هـ قال ابن فضل الله في المسالك: مات سنة 396هـ. عبد الله بن بري ابن عبد الجبار: أبو محمد المقدسي المصري النحوي اللغوي علق نكتا مفيدة على صحاح الجوهري وشاع ذكره واشتهر ولم يكن في الديار المصرية مثله كان قيما في النحو واللغة والشواهد. صنف اللباب للرد على ابن الخشاب في رده على درة الغواص للحريري قال الصفدي: لم يكمل هو حواشي الصحاح وإنما وصل إلى وقس وهو ربع الكتاب فأكملها الشيخ عبد الله بن محمد البطي. مات ابن بري سنة 582هـ، وللصحاح تكملة وحواش للصغاني رحمه الله تعالى وجمع بينها وبين الصحاح مجمع البحرين. محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم: الشيرازي الفيروزآبادي صاحب المعلم العجاب الجامع بين المحكم والعباب والقاموس المحيط والقاموس الوسيط الجامع لما ذهب من لغة العرب شماطيط والعباب وقد بلغ تمامه ستين مجلدة والقاموس معظم البحر. والقابوس الرجل الجميل الحسن الوجه الحسن اللون يقال: رجل وسيط فيهم أي: أوسطهم نسبا وأرفعهم محلا ويقال: قوم شماطيط أي: متفرقة وجاءت الخيل شماطيط أي: أرسالاً. وهو العلامة مجد الدين أبو الطاهر إمام عصره في اللغة. قال الحافظ ابن حجر: كان يرفع نسبه إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب التنبيه ثم ارتقى وادعى بعد أن ولي قضاء اليمن أنه من ذرية أبي بكر الصديق وكتب بخطه الصديقي ولد سنة 729هـ بكازرون وتفقه ببلاده وسمع بها من محمد بن يوسف الزرندي المدني ونظر في اللغة إلى أن مهر وفاق واشتهر اسمه وهو شاب في الآفاق وطلب الحديث وسمع من الشيوخ منهم: الحافظ الإمام الواحد المتكلم الحجة ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رحمهم الله تعالى وسمع بالشام من الشيخ تقي الدين أبي الحسن السبكي الكبير وولده أبي النصر تاج الدين السبكي الصغير وابن نباتة وابن جماعة وغيرهم وجال في البلاد الشمالية والشرقية ولقي جماعة من الفضلاء وأخذ عنهم وأخذوا عنه وظهرت فضائله وكتب الناس تصانيفه ودخل الهند ثم زبيد فتلقاه ملكها الأشرف إسماعيل بالقبول وقرره في قضائها وبالغ في إكرامه ولم يدخل بلدة إلا وكرمه متوليها وكان معظما عند الملوك أعطاه تيمورلنك خمسة آلاف دينار ودخل الروم فأكرمه ملكها ابن عثمان وحصل له مال جزيل ومع ذلك فإنه كان قليل المال لسعة نفقاته وكان يدفعه إلى من يمحقه بالإسراف ولا يسافر إلا وصحبته عدة أجمال من الكتب يخرج أكثرها في منزل ينظر إليه ويعيده إذا رحل وكان إذا أملق باعها وكان سريع الحفظ. يحكى عنه أنه كان يقول: ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر ومصنفاته كثيرة وقد عد منها بضع

وأربعون مصنفا من اللغة والتفسير والحديث توفي بزبيد سنة ست أو سبع عشرة وثمانمائة وهو متمتع بحواسه ودفن بتربة الشيخ إسماعيل الجبرتي. قلت: ومن مؤلفاته: كتاب سفر السعادة وهو بالعربية وبالفارسية وما أجمعه وأصحه وأوعاه لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وما أليقه للعمل لمريد السنة. محمد بن مكرم بن علي: وقيل: رضوان بن أحمد بن أبي القاسم بن حنفية بن منظور الأنصاري الأفريقي المصري جمال الدين أبو الفضل صاحب كتاب لسان العرب في اللغة الذي جمع فيه بين التهذيب والمحكم والصحاح وحواشيه والجمهرة والنهاية. ولد في محرم سنة 63هـ، وسمع من أبي المعز وغيره وجمع وعمر وحدث واختصر كثيرا من كتب الأدب المطولة كالأغاني والعقد والذخيرة ومفردات ابن البيطار. يقال: أن مختصراته خمسمائة مجلد وخدم في ديوان الإنشاء مدة عمره وولي قضاء طرابلس وكان صدرا رئيسا فاضلا في الأدب مليح الإنشاء. روى عنه السبكي والذهبي تفرد بالعوالي وكان عارفا بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة واختصر تاريخ دمشق في نحو ربعه وعنده تشيع بلا رفض مات في شعبان سنة إحدى عشر وسبعمائة. أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني: النيسابوري أبو الفضل الأديب النحوي اللغوي صاحب كتاب السامي في الأسامي. قال ياقوت: قرأ على الواحدي صاحب التفسير وغيره وأتقن اللغة والعربية وصنف كتاب الأمثال ولم يعلم مثله في بابه والأنموذج في النحو والمصادر ونزهة الطرف في علم الصرف وكان قد سمع الحديث ورواه وكان ينشد كثيرا وأظنهما له: تنفس صبح الشيب في ليل عارضي ... فقلت: عساه يكتفي بعذاري فلما فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل ترى صبحا بغير نهار وقرأ عليه ابنه مات في رمضان سنة 518هـ. والميداني: نسبة إلى ميدان زياد بن عبد الرحمن وهي محلة بنيسابور قلت: وقد طبع كتابه الأمثال بمصر القاهرة لهذا العهد وابنه أبو سعد سعيد بن أحمد كان أيضا فاضلا دينا وله كتاب الأسماء في الأسماء وتوفي رحمه الله سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. ناصر بن عبد السيد بن علي بن المطرزي الحنفي: أبو الفتح النحوي الأديب من أهل خوارزم قرأ على الزمخشري والموفق وبرع في النحو واللغة والشعر وأنواع الأدب والفقه على مذهب الحنفية ويقال: أنه كان خليفة الزمخشري وكان معتزليا تام المعرفة بفنه رأسا في الاعتزال داعيا إليه ينتحل مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع فصيحا فاضلا في الفقه صنف شرح المقامات للحريري وهو على وجازته مفيد محصل للمقصود وله كتاب المغرب تكلم فيه على الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب وهو للحنفية بمثابة كتاب الأزهري للشافعية وما قصر فيه فإنه أتى جامعا للمقاصد وله مختصر الإقناع في اللغة والمصباح في النحو ومختصر الإصلاح لابن السكيت وغير ذلك وانتفع الناس بكتبه ودخل بغداد حاجا سنة 601هـ، وكان سائر الذكر مشهور السمعة بعيد الصيت له شعر كثير يستعمل فيه التجانس.

والمطرزي: نسبة إلى من يطرز الثياب ويرقمها ولا أعلم هل كان يتعاطى ذلك بنفسه أم كان في آبائه من يتعاطى ذلك فنسب إليه؟ قاله ابن خلكان. ولد في رجب سنة 538 هـ ومات بخوارزم في يوم الثلاثاء حادي عشر جمادى الأولى سنة 610، ورثي بأكثر من ثلاثمائة قصيدة. عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل: أبو حفص نجم الدين الإمام الزاهد قال السمعاني كان إماما فاضلا مبرزا متقنا لغوياً. سمع أبا مجد محمد التنوخي وأبا الحسين محمد البزدوي وغيرهما. وصنف في كل نوع من العلم في التفسير والحديث واللغة والشروط صنف قريبا من مائة مصنف. ولد بنسف في شهور سنة اثنتين وستين وأربعمائة وتوفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وفي هذه السنة توفي أيضا الزمخشري صاحب الكشاف. مبارك بن محمد بن محمد: مجد الدين أبو السعادات الجزري الإرملي المشهور بابن الأثير أشهر العلماء ذكرا وأكبر النبلاء قدرا أحد الأفاضل المشار إليهم وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم كان نائب المملكة ولد سنة 544 هـ بالجزيرة وانتقل إلى الموصل وأخذ النحو عن ابن دهان ويحيى بن سعدون القرطبي وسمع الحديث متأخرا وتنقل في الولايات وكتب في الإنشاء. وله النهاية في غريب الحديث وجامع الأصول في أحاديث الرسول والبديع في النحو وكتاب الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف في التفسير وكتاب المصطفى والمختار في الأدعية والأذكار وكتاب في صفة الكتابة صنف هذه الكتب وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار والكتابة وله شعر يسير مات سنة 606هـ رحمه الله تعالى. أبو الفيض محمد مرتضى بن محمد الحسيني: صاحب تاج العروس شرح القاموس السيد الواسطي البلجرامي نزيل مصر شريف النجار عظيم المقدار كريم الشمائل غزير الفواضل والفضائل. أخذ العلوم النقلية والعقلية في مدينة زبيد على جماعة أعلام منهم: السيد العلامة أحمد بن محمد مقبول الأهدل ومن في طبقته: كالشيخ عبد الخالق ابن أبي بكر المزجاجي والشيخ محمد بن علاء الدين المزجاجي قال في النفس1 اليماني والروح الريحاني: وأخذ عمن أخذ عنهم: كشيخنا الوالد رحمه الله ثم توجه إلى إقليم مصر واستكمل فيها العلوم النقلية والعقلية وبرع في جميع العلوم سيما علمي الحديث واللغة وأدرك شيوخنا من أهل الأسانيد العالية وألف التآليف النافعة الواسعة واستجاز لي منه شيخنا الوالد وأجاز وكذلك استجاز لي منه السيد العلامة عبد الله السعدي مقبول الأهدل وأجاز واستجاز منه لنفسه ولأولاد شيخنا الوالد القاضي العلامة محمد بن إسماعيل الربعي.

_ 1 وهو كتاب جداً في إجازة القضاة بني الشوكاني، من جمع الإمام شيخ الإسلام مفتي اليمن السيد الجليل العلامة المولى المقطب، الشهير عبد الرحمن بن سليمان بن يحيحى بن عمر مقبول الأهدل، رضي الله عنه وأرضاه استكتبه المؤلف العالي الجاه أمير الملك بهادر من زبيد وأتى به الشيخ العلامة حسين بن محسن الأنصاري شيخ المؤلف دام مجدهما. سيد محمد عبد الحي خان عفا الله عنه.

وأجاز وكتب هذه الإجازة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أجاز على العمل الصحيح المقبول أحسن إجازة ووعد بوجادة ذلك يوم مناولة الكتاب باليمين وعدا لا يخلف سبحانه إنجازه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يسندها عن القلب اللسان ويرفع إسنادها على متن مسندها راية روايتها التي هي علم الإيمان والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرفوع قدره على كل نبي مرسل المطهر نسبه الزكي المسلسل وعلى آله وصحبه الذين قامت لهم بمتابعته شواهد التفضيل وأضحى مدرجا في إجمال ما شهد به كل تفصيل. وبعد فلما أشرق سبحانه على من أسعده شمس العناية وجلى قلبه بنور التوفيق بكمال الرعاية ووالى عليه طول إمداده عند بزوغ هلاله ولم يزل يعرج في منازل العز إلى أن بلغ أوج كماله كان من أصدق ما صدقت عليه هذه العبارة وأحرى من تنصرف إليه هذه الإشارة السالك بمقتضى التوفيق أبهج المسالك النبوية الراقي بهمته ذرى التحقيق فظفر منه بالغاية المقبولة المرضية وتحلى بالفضائل ما أوضح شاهده الدليل حيث صرف أوقاته النفيسة في التحصيل وأرق فكره في التفريع والتأصيل إلى أن اكتال من المعارف بالصاع الأوفى وروي من منهلها الأعذب الأصفى وتفيأ بظلال رياض العلوم بالمدد وروى حديث الفضل عالي السند وجاء مجليا في حلبة الفواضل محرزا قصب السبق بأطراف الأنامل ألا وهو النجيب الكامل صفي الإسلام أبو الإمداد محمد نجل شيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة عماد الإسلام إسماعيل ابن الشهاب أحمد بن المرحوم إبراهيم بن عمر بن عبد القادر الربعي الأشعري وهو زاكي الحسب عريق في النسب إذ أم جده إبراهيم هي: آمنة ابنة الفقيه العلامة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل العلوي وقد تولى القضاء من أسلافهم جماعة في مور1 والمهجم2 وبعضهم عند البدر الأهدل3 مترجم نفعنا الله ببركات السلف الصالح وأعز جناب هذا الخلف الفالح وأدام النفع به ووصل أسباب الخيرات بسببه آمين. وقد دعاه حسن الظن بي أن كتب إلي كتابا يستدعي فيه الإجازة مني حرصا على الانتظام في سلك من تحلى بما خصت به هذه الأمة من الإسناد والتمسك بسلسلته الموصلة لأشرف الرسل إلى العباد ولقد ذكرني - حفظه الله - بشيء كاد أن يكون نسيا منسيا ورعيا له فقد شوقني لما كان أمرا ظاهرا فعاد خفيا فقد كان فيما عبر من الزمان يرحل إلى الإسناد العالي إلى شاسع البلدان وتطلب الإجازة من بعيد تلك الديار وأطراف تلك الأقطار أما الآن فقد زال ذلك الانضباط وطوي ذلك البساط وتقاعدت الهمم عن طلبه وركت عن السعي في تحصيل رتبه وذهب المسدون الخلة ومن كانت تزدهي بوجودهم الملة كأن لم

_ 1 قرية من قرى اليمن على ثلث منازل من الحديدة في جهة الشام. منه. 2 قرية من قرى اليمن بالقرب من مدينة زبيد منه. 3 هو السيد حسين الإمام المحدث ابن عبد الرحمن الأهدل، له تاريخ كبير اسمه تحفة الزمن في السادات والعلماء والأولياء من أهل اليمن في مجلدين ضخمين، وله أيضاً حاشية على صحيح البخاري وكانت له رحمه الله تعالى يد طولى في علم السنة والتمسك بأذيالها، وله رسالة نفيسة في الرد على من يزعم حياة الخضر إلى الآن وكانت وفاته في بندر عدن أبين. منه.

يكن بين الحجون إلى الصفاء أنيس ول يسمر بمكة سامر ولكن بقي من آثارهم بقايا في زوايا الزمان ممن تحمل عنهم خبايا والعبد بحمد الله ممن تردد إلى مشائخ علم الحديث والإسناد قديما وصبغ بالتحمل عنهم في ساحته أديما وقد قرت عيني به الآن وابتهج خاطري بوجود طالب هذا الشان فلله الحمد على ذلك والشكر له على سلوك هذه المسالك فإنه الموفق لما هنالك المعطي المانع الملك المالك وقد أجبت لسيدنا المشار إليه إلى مطلوبه وسعفته بتحصيل مرغوبه وأجزته أن يروي عني جميع ما تجوز لي وعني روايته من مقروء ومسموع ومجاز ومناولة ووجادة وكتابة ووصية ومراسلة وفروع وأصول ومعقول ومنقول ومنثور منظوم وتأليف وتخريج وكلام وتصوف ولغة ونحو وتصريف ومعاني وبيان وبديع وتاريخ ودواوين وما ألفته وخرجته ونظمته ونثرته بشرطه الذي عليه عند أرباب هذا الشأن يعتمد وقرنت ذلك الاقتصار من الطرق التي رويت بها أعلى السند وكذلك أجزت بكل ما ذكر أولاد شيخنا الإمام العلامة نفيس الإسلام سليمان بن يحيى بن عمر - حفظه الله - وحاطهم بحسن رعايته ولطيف كلاءته ذكورا وإناثا وأنا أسأل من فضله أن لا ينساني من خالص دعواته في خلواته وجلواته وأتوسل إلى الله تعالى بخاتم أنبيائه عليه أفضل الصلاة والسلام أن يرزقني وإياهم وجميع المسلمين حسن الختام آمين. فأقول: أخبرني ما بين قراءة وسماع وإجازة خاصة وعامة مشائخنا الأئمة الأعلام: السيد نجم الدين أبو حفص عمر بن أحمد بن عقيل الحسيني والشهابان: أحمد بن عبد الفتاح بن يوسف بن عمر المجري الملوي وأحمد بن حسن بن عبد الكريم بن محمد بن يوسف الخالدي وعبد الله بن محمد الشبراوي والسيد عبد الحي بن الحسن بن زين العابدين البهنسي خمستهم عن: مسند الحجاز عطاء بن سالم البصري والشهاب أحمد بن محمد النخلي وشيخنا: النجم أبو المكارم محمد بن سالم بن أحمد الحنفي عن المسند عبد العزيز بن إبراهيم الزيادي وشيخنا المتفنن: أحمد بن عبد المنعم بن صيام الدمنهوري عن الشمس محمد بن منصور الأطفيحي وشيخنا: أبو المعالي الحسن بن علي المدابغي عن عبد الجواد بن القاسم المحلي وشيخنا المعمر: السيد محمد بن محمد التليدي عن أبي عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقاني وشيخنا: الشهاب أحمد بن شعبان بن غرام الرعيلي الشهير بالسابق قال: هو وهو أعلى بدرجة والزرقاني والمحلي والأطفيحي والزيادي والنخلي والبصري. أخبرنا الحافظ شمس الدين محمد بن علاء الدين البابلي وزاد الزرقاني والأطفيحي والزيادي فقالوا: وأبو الضياء علي بن علي الشبراملسي. وأخبرنا شيخنا عبد الله بن محمد بن أحمد العشماوي عن أبي العز محمد العجمي عن أبيه محدث القاهرة الشهاب أحمد بن محمد العجمي قال: هو والبابلي أخبرنا المسند نور الدين علي بن يحيى الزيادي عن كل من السندين: يوسف بن زكريا ويوسف بن عبد الله الأرميوني كلاهما عن الحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي وبرواية البابلي والشبراملسي عن الشهاب أحمد بن خليل السبكي وبرواية البابلي خاصة عن خاله سليمان ابن عبد الدائم البابلي وأبي النجا سالم بن محمد السنهوري وعبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي والشهاب أحمد بن محمد بن يونس الحنفي،

والمعمر محمد بن محمد بن عبد الله القلقشندي الواعظ خمستهم: عن نجم السنة محمد بن أحمد بن علي الغيطي عن شيخ الإسلام زكريا بن محمد الأنصاري. وبرواية السنهوري عن الشهاب أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي عن شيخ الإسلام وعن عبد الحق بن محمد السنباطي. وبرواية الواعظ أيضا عن أحمد بن محمد السبكي عن الجمال إبراهيم بن أحمد ابن إسماعيل القلقشندي. وبرواية شيخ مشائخنا البصري عن علي بن عبد القادر الطبري عن عبد الواحد بن إبراهيم الخطيب عن الشمس محمد بن إبراهيم العمري هو والجمال القلقشندي والسنباطي وشيخ الإسلام والسخاوي عن حافظ الأمة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الشهير بابن حجر - قدس الله سره - بأسانيده المتفرعة إلى أئمة الكتب الستة وغيرهم مما أوردها في كتاب المعجم المفهرس وهو في جزء حافل وبرواية عبد الواحد الخطيب أيضا عن الجلال عبد الرحيم بن عبد الرحمن العباسي هو والأرميوني وأبو زكريا أيضا عن الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي بأسانيده المذكورة في معجمه. ومن مشائخي: الإمامان الفقيهان: محمد بن عيسى ابن يوسف الدنجاوي ومصطفى بن عبد السلام المنزلي أخذت عنهما بثغر دمياط وهما يرويان عن الإمام أبي حامد بن محمد البديري عن الشيخ إبراهيم الكوراني وقريش بنت عبد القادر الطبري ومحمد بن عمر الشوبري ومحمد بن داود العناني والمقري: محمد بن قاسم البقري وأحمد بن عبد اللطيف البشيشي بأسانيدهم. ومن مشائخي: سالم بن أحمد النفراوي وسليمان ابن مصطفى المنصوري وأبو السعود محمد بن علي الحسني وعبد الله بن عبد الرزاق الحريري ومحمد بن الطيب الفاسي ومحمد بن عبد الله بن أيوب التلمساني الشهير بالمنور وعلي بن العربي السقاط وعمر بن يحيى الطحلاوي وغيرهم. وممن كتب بالإجازة إلي جماعة أجلهم: الشهاب أحمد بن علي الميني الحنفي من دمشق وعلي بن محمد السلمي من صالحيتها. وأبو المواهب محمد صالح بن رجب القادري. ومحمد بن إبراهيم الطرابلسي النقيب ومحمد بن طه العقاد وأحمد بن محمد الحلوي أربعتهم من حلب. والمسند أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي من نابلس وأحمد بن عبد الله السنوسي ومحمد بن علي بن خليفة الفريابي كلاهما من تونس. ولي غيرهم من الشيوخ ذي الرسوخ الموصوفين بالصلاح المنتظمين في سلك ذوي الفلاح تغمدهم الله بعفوه وزادهم من سلسبيل الجنة بصفوه وأسانيدهم مشهورة وفي صحف السماعات مسطورة أوزعنا الله وإياهم شكر نعمته وجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمته على بساط أنسه وحضرة قدسه. ومما نسب إليه من التأليف والتخريج: فشرح القاموس المسمى بتاج العروس في عشرة أسفار كبار أتممته في أربع عشرة سنة.

وشرح إحياء علوم الدين أعانني الله على إكماله وقد وصلت فيه إلى كتاب الصلاة. وتكملة القاموس مما فاته من اللغة لم يكمل. وشرح حديث أم زرع أحد عشر مجلساً. ورفع الكلل عن العلل. وتخريج حديث: شيبتني هود. وتخريج حديث: "نعم الإدام الخل". والمواهب الجلية فيما يتعلق بحديث الأولية. والمرقاة العملية في شرح الحديث المسلسل بالأولية. والعروس المجلية في طرق حديث الأولية. وشرح الحزب الكبير للشاذلي المسمى: بتنبيه المعارف البصير على أسرار الحزب الكبير وإنالة المنى في سر الكنى. والقول المبتوت في تحقيق لفظ التابوت. وحسن المحاضرة في آداب البحث والمناظرة. ورسالة في أصول الحديث. ورسالة في أصول المعمى. وكشف الغطا عن الصلاة الوسطى. والاحتفال بصوم الست من شوال. وإيضاح المدارك عن نسب العواتك. وإقرار العين بذكر من نسب إلى الحسن والحسين والابتهاج بذكر أمر الحاج. والفيوضات العلية بما في سورة الرحمن من أسرار الصيغة الإلهية. والتعريف بضروري علم التصريف. والعقد الثمين في طرق الإلباس والتلقين. وإتحاف الأصفياء بسلاسل الأولياء. وإتحاف بني الزمن في حكم قهوة اليمن. وإتحاف الإخوان في حكم الدخان. والمقاعد العندية في المشاهد النقشبندية مائة وخمسون بيتاً. والدرة المضيئة في الوصية المرضية مائتان وعشرون بيتاً. وإرشاد الإخوان إلى الأخلاق الحسان مائة وعشرون بيتاً. وألفية السند في ألف وخمسمائة بيت وشرحها في عشرة كراريس. وشرح صيغة ابن مشيش. وشرح صيغة السيد البدوي.

وشرح ثلاث صيغ لأبي الحسن البكري. وشرح سبع صيغ المسمى: بدلائل القرب للسيد مصطفى البكري. والأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة. وتحفة العيد في كراس. وتفسير سورة يونس على لسان القوم. ولقطة العجلان في ليس في الإمكان أبدع مما كان. والقول الصحيح في مراتب التعديل والتجريح. والتحبير في الحديث المسلسل بالتكبير. والأمالي الحنفية في مجلد. والأمالي الشيخونية في مجلدين. وقد بلغت أربعمائة مجلس إلى وقت تاريخ الكتابة إلى غير ذلك من رسائل منظومة ومنثورة مما لست أحصي أسماءها الآن. وقد أجزت السيد المشار إليه ومن ذكر معه بكل ما ذكر إجمالا وتفصيلا إجازة عامة وخاصة قاله بفمه ورقمه بقلمه: الفقير لمولاه الشاكر لما أولاه أبو الفيض محمد مرتضى بن محمد الحسيني نزيل مصر وخادم علم الحديث بها غفر الله زلله وأصلح خلله وتقبل عمله وبلغه أمله في مجلس واحد من ليلة خروج المحمل الشريف وهي ليلة الاثنين تاسع شهر شوال سنة 1195هـ، أحسن الله تمامها وأسعد عامها والحمد الله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل. ووصل من السيد المذكور إلى شيخنا الوالد هذا الكتاب المشتمل على شرح بعض أحواله ومن أدركه من أهل الأسانيد العالية وصورته: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أستخدم نسائم الكمائم في إبلاغ تحياتي إلى جناب ذي الفضائل من مناهل المعارف من ندى مسائله. وأستودع لمعان البوارق أمام الغوادي تسليماتي على حمال أهل الفواضل الناهض بأعباء علوم الشريعة على كاهله من قد كوكب فضله وأشرق وماس غصن شمائله فأورق. وتساوى في الثناء عليه يومه والأمس وأضاءت به أفلاك المكارم - ولا بدع - فإنه الشمس. مستوطن سنام المجد الباذخ مقتعد صهوة الشرف الشامخ. مشكاة العلوم إذا أظلمت سيل الجهالة ضياء العلوم إذا دارت على بدرها المنير هالة السيد الشريف الجهيد العلامة العفيف شيخنا وأستاذنا: السيد سليمان بن يحيى، لازالت ربوع المكارم بحسن أنظاره تحيى. آمين أما بعد فقد وصل كتابكم أولا وثانيا وكانا مع الفرح توأمين. وقرأناهما فقرت بمضمونها العين وزال الغين وماذا أصف؟ وحسبي أن أقف فالطوامير بالنسبة إلى شكره قصاصات عصفت بها الرياح والمناشير ولو كانت طلاع ما بين الثرى والأثير نبذت في جوانب فيافي البطاح وأشواقي إلى مشاهدة تلك الربوع الأنيسة ومشاهدة جماله الباهي فيها مع الاستئناس بحضرة الأحباب الكرام في تلك المشاهد الزكية المأهولة لا قدرة على إبراز مجملها فضلاً عن

مفصلها كيف وقد ترادفت جيوشها وتلاطمت أمواجها ولمعت بوارقها ولكني أسأل الواهب المنان كثير الجود والإحسان أن يقدر لي الوصول إلى تلك الديار لأجدد عهدي وأنسي بأولئك السادة الأبرار فإن هذا القدر الذي وصلت إليه إنما هو من بركات ملاحظاتهم وأسرار مشاهداتهم. وقد اتفق أني حررت الجواب الذي ورد علينا سابقا مع الكتاب المرسل إلى حضرة شيخنا المرحوم قطب المكارم السيد الوجيه العيدروس وأرسلناهما وفيه بيان بعض الأخبار وإفشاء نبذ من الأسرار ثم أخبرت فيما بعد أن جواب مكتوبي لم يصل إلى حضرتكم قال ذلك بعض طلبة العلم: الشيخ علي العديني فقلت: لعله خير وإنما يمنعني من إرسال المكاتيب كثرة أشغالي وتضاعيف الهموم والأحزان بالقلب البالي والتي لا يخلو الإنسان منها ولو كان في أجل النعم ثم الذي أخبركم مما من الله تعالى به علي: أني حين وصولي إلى مصر افترصت المدة وانتهزت القعدة فأكببت على تحصيل العلوم وتكميل منطوقها والمفهوم وتشرفت بالسماع والصحيح على مسنديها الموجودين. فمن الطبقة الأولى - وهم الذين أدركوا البصري والنخلي والبنا والبقري والعجيمي - جماعة وهم: الشيخ أحمد بن عبد الفتاح بن يوسف المجري الملوي ورفيقه في الأخذ: الشهاب أحمد ابن حسن بن عبد الكريم الخالدي الجوهري وعبد الله بن محمد بن عامر الشبراوي والشمس محمد بن أحمد بن حجازي العشماوي والشهاب بن عبد المنعم صائم الدمنهوري وسابق بن رمضان بن غرام الرعيلي الشافعيون والأخير: أدرك الحافظ البابلي وأجازه لأنه ولد سنة 1068هـ، والبابلي وفاته سنة 1078هـ، وتوفي شيخنا المذكور في سنة 1083هـ، بعد وفاة شيخنا الشبراوي فهذا الرجل أعلى من وجدته سندا بالديار المصرية وكان له درس لطيف بالجامع الأزهر يحضر عليه الإفراد ولم يتنبه لعلو سنده إلا القليل لاشتغالهم بأحوالهم. ثم أدركت الطبقة الثانية وهي مضاهية للأولى ومشاركة لهم فمنهم: الشيخ سليمان بن مصطفى المنصوري الحنفي والشيخ حسن بن علي المدابغي الشافعي والسيد محمد بن محمد التليدي الحسيني المالكي وعمر بن علي بن يحيى الطحلاوي المالكي والقطب عبد الوهاب بن عبد السلام المرزوقي العفيفي المالكي وعبد الحي بن الحسن الحسني البهنسي المالكي وعلي بن موسى الحسني المقدسي الحنفي ومحمد بن سالم الحنفي. ثم أدركت بعد هؤلاء طبقة أخرى مشاركة لهم وهم كثيرون ورحلت إلى بيت المقدس فحطت بها جماعة مسندين وفي الرملة وثغريا ودمياط ورسد والحلة وسهنود والمنصورة وأبو صير ودمنهور وعدة من قرى مصر سمعت بها الحديث كما هو مذكور في المعجم الكبير الذي ذكرت فيه تفصيل ذلك. ورحلت إلى أسيوط وجرجان وفرشوط وسمعت في كل منها وأجازني من مدينة حلب جماعة ومن مدينة فاس وتونس وسولا وتلمسان جماعة وأدركت من شيوخ المغاربة جماعة مسندين بمصر وغيرها. وممن كتب إليه أستجيز منه لي ولحضرتكم ولأخيكم السيد أبكر1 ومحبنا العلامة عثمان الجبيلي خاتمة المحدثين بمدينة نابلس من الشام: الشمس محمد ابن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي وذلك في

_ 1 كذا في محاورة أهل اليمن الحادثة في هذا الزمن يسمون بكراً أبكر بزيادة الألف قبل الموحدة.

سنة تسع وسبعين ومائة وألف فوصلت منه الإجازة وفيها أساميكم مسطرة على التفصيل في نحو كراس أخذها مني الشيخ عبد القادر بن خليل المدني وصل إليكم من مدة ثلاث سنوات وفي ظني الغالب أنه اجتمع بكم وأراكم هذه الإجازة ثم إن المذكور ورد علينا من اليمن وتوجه إلى نابلس وتوفي هناك وبقيت الإجازة في جملة كتبه فإن اطلعتم عليها وكتبتم منها نسخة فيها وإن لم تطلعوا عليها فإن أسانيد الشيخ المشار إليه المجيز لكم محفوظة عندي فإن سمحت نفسكم بالعمل بهذه الإجازة وطلبتم شيوخه أرسلت لكم ذلك. ومما من الله تعالى علي: أني كتبت على القاموس شرحا غريبا في عشر مجلدات كوامل جملتها خمسمائة كراس مكثت مشتغلا به أربعة عشر عاما وشهرين واشتهر أمره جدا حتى استكتبه ملك الروم نسخة وسلطان دافور نسخة وملك الغرب نسخة ونسخة منها موجودة في وقف أمير اللوا محمد بيك بمصر بذل في تحصيله ألف ريال وإلى الآن الطلب من ملوك الأطراف غير متناه واتفق أنه جاءني كتاب من السيد العلامة فخر السادة الملوك الأشراف مولانا السيد1 عبد القادر الكوكباني صحبة فخر السادة الأشراف السيد علي الفتاوي يطلب نسخة من الكتاب فحصلت له الجزء الأخير منه وهو مشتمل على شرح الواو والياء المسمى: بالإعياء إلى آخر الكتاب وهذا العام قد توجه به السيد المذكور إلى بلاد اليمن فإن سمح خاطركم بإرسال مكتوب إلى السيد عبد القادر المشار إليه بتحصيله بالاستكتاب فلا بأس وإن قدر الله الإرسال إليكم بشيء من أوله فعلت وسأفعل إن شاء الله تعالى. ثم أذن لي بالقاهرة في درس الحديث فشرعت في إقراء صحيح البخاري في مسجد شيخون بالصليبية مع إملاء حديث عقب الدرس على طريقة الحفاظ بسنده والكلام عليه بمقتضى الصناعة الحديثة فحررت تلك الأمالي إلى الآن فبلغت نحو أربعمائة مجلس في كل جمعة يومان فقط: الاثنين والخميس وقد جمع ذلك في مجلدات ونقلها الناس وأنا إلى الآن مستمر على هذه الطريقة ودرس آخر في الشمائل للترمذي في مقام القطب شمس الدين أبي محمود الحنفي قدس الله سره. ولما وصلت إلى حديث أم زرع أمليت عليه نحو سبعة كراريس وأكثر في أربعة عشر مجلسا ونقلته الطلبة واشتهر بينهم وكتبت إجازة إلى غزة ودمشق وحلب وعين ناب وأذربيجان وتونس وحرار ونادلا وديار بكر وسناد ودارفور ومدراس وغيرها من البلدان على يد جماعة من أهلها الذين وفدوا علي وسمعوا مني واستجازوا لمن هناك من أفاضل العلماء فأرسلت إليهم مطلوبهم وتلك الأسانيد غالبها ما استفدنا منكم ومن حضرة شيخنا: المرحوم عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي ولقد حصلت الأسانيد شهرة في الديار المصرية والشامية والرومية والمغربية وأطرافها مما لا أحصي بيانه والحمد لله الذي وفقني لإحياء مراسم أشياخي وإنعاش ذكرهم على ممر الزمان ولم أزل في مجالسي أحييها بذكركم وأشوق الناس إلى زكي محاسنكم وكتبت في هذه المدة عدة رسائل ما بين مختصر ومطول. فمن ذلك: جزء في تخريج حديث: شيبتني هود.

_ 1 هو أستاذ الإمام الشوكاني رحمهما الله.

وجزء في تخريج حديث: "نعم الإدام الخل". وجزء في تحقيق الصلاة الوسطى. وجزء في تخريج هذا العلم من كل خلف عدوله. والأربعين المنتقى من العلل للدارقطني والكلام معه بمقتضى الصناعة. ومعارف الأبرار فيما للكنى والألقاب من الأسرار. وجزء في تخريج حديث: اسمح يسمح لك. والعقد المنظم في أمهات النبي صلى الله عليه وسلم. والعقد الثمين في رجال الخرقة والذكر والتلقين. والفوائد الجليلة على مسلسلات ابن عقيلة عشرة كراريس. والمرقاة العلية في شرح المسلسل بالأولية وضعتها على ترتيب: منتهى الآمال في حديث إنما الأعمال للحافظ السيوطي وغير ذلك مما لم يحضرني حال تسطير الأحرف وهي كثيرة ومن أعظم ذلك: أني شرعت في شرح كتاب الإحياء للغزالي وأمليته درسا فأتممت شرح كتاب العلم وحده في نحو سبعين كراسا والعام الماضي جاءني كتاب من عالم مكة وصالحها: مولانا الشيخ إبراهيم الزمزمي يطلب ما تيسر منه فنقل له من المسودة نحو عشرين كراسا وأرسلت إليه هذا العام ولكن بعد إرسال ذلك إليه حين التبييض زدت فيه من فوائده المغلقة به شيئا كثيرا حتى إن الكتاب مغائر له وقد عزمت في هذه السنة على إرسال ما بيضته وزدت عليه ليكون الاعتماد على النسخة الأخيرة فإذا أرسلتم إلى مكة من يستكتب لكم منه نسخة فإنه قريب الحصول ومع ذلك فإني نويت على إرسال شرح كتاب العلم منه إلى حضرتكم السعيدة مع شيء من شرح القاموس فإن ساعدت الأقدار بحصول أمنيتي فعلت ذلك وسأفعله إن شاء الله تعالى وهذا الشرح يا مولانا غريب الشكل والوصف فإنه قد حضرت لي المواد المتعلقة به مالا أحصيها لكثرة وغرابة وهي مذكورة في أوله ثم إنه شرح ممزوج متكفل لبيان رموزه ونسخه وإشاراته ومآخذه ونرجو من علو همتكم أن لا تنسوا تلميذكم من صالح الأدعية وبالتوفيق والرضا والتيسير للعمل الصالح خصوصا إتمام هذا الشرح على الوتيرة المرضية وساعة تاريخ الجواب كنت أشرح الرسالة القدسية وهو ثاني كتاب بعد كتاب العلم وقد بقي منه شيء قليل وسنشرع في كتاب أسرار الطهارة إن شاء الله تعالى كل ذلك ببركة نفسكم الطاهر ودعائكم الفاخر فالبعد الظاهر لا عبرة به عند أرباب القلوب والله علام الغيوب. ونخبر شيخنا - أدام الله فضله علينا -: أن في جواب الكتاب السابق الذي لم يصل إليكم كنت أرسلت أستجيز منكم لي على سبيل التجديد ثم الجماعة من خواص أحبابي الذي يترددون علي للتلقي ولهم بنا صحبة ومحبة واشتياقهم لحضرتكم شديد وإنما منعهم من الوصول إليكم بعد الديار وكثرة الأخطار وأرجو من فضلكم إرسال إجازة لي منكم ولمن يسمى بعد في هذه المحلة وإذا كتبتم الإجازة في كراريس فليكتب عليها كذلك من بقي الآن بمدينة زبيد - حرسها الله - من المسندين المعمرين كل ذلك بهمتكم ويكون إرسالها على يد من يعتمد عليه من الثقات لا زلتم أهلا لإنجاح الحاجات.

وهذه أسامي المجازين بعد كاتبه الفقير: معيد دروسنا: السيد الفاضل أبو الصلاح الحسين بن عبد الرحمن الحسيني الشيخوني. وأبو العدل موسى بن داود بن سليمان الحنفي خطيب المسجد الذي أنا أقرأ فيه. والشيخ الصالح: أبو البر أحمد بن يوسف الحسيني الشنواني. وأبو الصلاح يوسف بن نور الدين الطحلاوي المالكي خطيب جامع توضون. ورضوان بن عبد الله الدفراوي مولى نعم ولأولاده: أبو البقاء وعثمان ومحمد وأحمد وسلمان ونفيسة وأبو العرفان عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الحلواني الحنفي ولوالده المذكور وفتاي: بلال الحبشي وزوجي: زبيدة بنت المرحوم ذو العفار الدمياطي وفتياتي: سعادة ورحمة الحبشيتان كل ذلك بتصريح أساميهم تفصيلا مع ذكر ما ينبغي ذكره من اللطائف الإسنادية والغرائب الحديثة وذكر بعض الكتب من أسانيد والدكم المرحوم ومشائخكم الذي أخذتم عنهم والله يجزيكم عنا كل خير ويمد في حياتكم وعمركم ويجعلكم ملجأ الوافدين. ثم المسؤول إبلاغ شريف سلامي وتحياتي إلى حضرة سلالة المشائخ الكرام: العارف بالله سيدنا الوجيه عبد الرحمن المشرع وقد كنت حررت له جوابا في طي جوابكم ولم يتفق وصوله وإلى حضرة أخيكم وصنوكم: السيد أبي بكر ومحبنا الفقيه العلامة عثمان الجبيلي ثم إلى حضرة شيخنا العلامة عبد الله الجوهري ثم إلى حضرة سيدنا الإمام العلامة القاضي إسماعيل الربعي ثم إلى أولاد شيخنا المرحوم عبد الخالق بن أبي بكر وإلى أولاد شيخنا المرحوم محمد بن علاء الدين ثم كل من يسأل عنا ويحويه مجلسكم السعيد وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى ما في النفس اليماني والروح الريحاني. وأقول: أن السيد أصله من السادة الواسطية من قصبة بلكرام وهي على خمس فراسخ من بلدتنا قنوج ما وراء نهر كنك. قال السيد العلامة مير غلام علي آزاد البلجرامي - قدس سره السامي - في مآثر الكرام تاريخ بلجرام تحت ترجمة السيد قادري ما تعريبه: ومن نيائره: السيد محمد مرتضى بن السيد محمد بن السيد قادري حصل الكتب العربية ووفق في حداثة السن لمزيارة الحرمين الشريفين في سنة أربع وستين ومائة وألف الهجرية واكتسب علم الحديث الشريف في أماكن متبركة وهو نزيل زبيد اليمن في هذه الأيام يستند فن الحديث عند الشيخ عبد الخالق الزبيدي - بارك الله في عمره وأولاده - الترقيات الدينية. انتهى. قلت: وقد أقام رحمه الله بزبيد حتى قيل له: الزبيدي واشتهر بذلك واختفى على كثير من الناس كونه من الهند ومن بلجرامها وقد ذكر في برنامجه الذي كتبه للسيد باسط علي بن السيد علي بن السيد محمد بن السيد قادري بمصر نحوا من ثلاثمائة شيخ له الذين أخذ عنهم العلم وسمى منهم من علماء الهند ومشائخها: الشيخ المحدث العلامة محمد فاخر بن محمد يحيى الإله آبادي المتخلص بالزائر ومسند الوقت: الشيخ ولي الله المحدث الدهلوي صاحب كتاب حجة الله البالغة قال: وحضرت بمنزله في دهلي.

وقد أجاز له مشائخ المذاهب الأربعة وعلماء البلاد الشاسعة ولقي الشيخ أبا الحسن بن محمد صادق السندي المدني صاحب الشروح على الصحاح الستة والمولوي خير الدين السورتي بن محمد زاهد وغيرهما. ومؤلفاته المذكورة في البرنامج تزيد على مائة كتاب وذكر مشائخه وكتبه فيه على ترتيب حروف الأعجام وقد طبع كتابه: تاج العروس شرح القاموس لهذا العهد بمصر القاهرة لكن خمس مجلدات منه فقط وهو شاع في الأمصار وبلغ إلى الأقطار يتضح من النظر فيه علو كعبه في علم اللغة وكونه إماما فيه وشرحه هذا يغني عن حمل جملة الدفاتر المؤلفة في فن اللغة. وقد وقع تأليفه في علم الفقه والحديث وأصولهما والتصوف والسير وكلها نافعة مفيدة على اختصار في أكثرها وعندي منها نحو سبع عشرة رسالة واستجاز منه الملك الأعظم أبو الفتح نظام الدين عبد الحميد خان سلطان الروم لكتب الحديث فكتب له الإجازة وسند الحديث المسلسل المأثور المشهور: الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى مع غيره من الإجازات أولها: الحمد الله الذي رفع مقام أهل الحديث مكانا عليا ... الخ وكان ذلك في سنة 1193هـ، وأتحف معها إلى السلطان قصيدة نظمها في مدحه أولها: سقى الله ربعا كان لي فيه مربعا ... ومغنى به غصن الشبيبة أينعا وحيا مقاما كان لي فيه جيرة ... بهم كان كأسي بالفضائل مترعا ألا ورعا دهرا تقضى بأنسهم ... ولولا الهوى ما قلت يوما له: رعا خليلي ما لي كلما لاح بارق ... تكاد حصاة القلب أن تتصدعا وإن نسمت ريح الصبا من ديارهم ... بكت أعيني دمعا يساجل أدمعا إلى آخر الأبيات. وكتب إجازة أخرى أيضا للدستور الأعظم أبي المظفر محمد باشا صدر الوزارة ونظام الملك أولها: الحمد لله الذي دل على الخيرات والبرنامج المشار إليه عليه خطه بقلمه الشريف مؤرخة لسنة 1300هـ، وكان وفاته رحمه الله بعد تلك السنة. ولي منه رحمه الله قرابة قريبة من جهة الأخوات يصل نسبنا إلى سيد الساجدين الإمام زين العابدين علي بن حسين بن علي السبط رضي الله عنه وينتهي نسبه إلى زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين السبط فهو شبل ذاك الأسد ونخبة أهل هذا البيت المجد. وإنما أطلت الكلام في ترجمته هذه لجهل أكثر أهل العلم عن حاله ومآله وقد أفنى - رحمه الله - عمره في اشتغال العلم والتدريس بمصر والعلم عند الله سبحانه وتعالى. أبو عبد الله محمد بن زياد: المعروف بابن الأعرابي الكوفي صاحب اللغة وهو من موالي بني هاشم كان أحد العالمين باللغة المشهورين بمعرفتها. أخذ الأدب عن الكسائي وغيره. وأخذ عنه ثعلب وابن السكيت وغيرهما وناقش العلماء واستدرك عليهم وخطأ كثيرا من نقلة اللغة وكان رأسا في الكلام الغريب وكان يزعم أن أبا عبيدة والأصمعي لا يحسنان شيئا وكان يقول: جائز في

كلام العرب أن يعاقبوا بين الضاد والظاء فلا يخطأ من يجعل هذه في موضع هذه وينشد: إلى الله أشكو من خليل أوده ... ثلاث خلال كلها لي غائض بالضاد ويقول: هكذا سمعته من فصحاء العرب. وكان يحضر مجلسه خلق كثير من المستفيدين ويملي عليهم ولد في الليلة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - وذلك في رجب سنة 150هـ، وتوفي سنة 231هـ بسر من رأى. والأعرابي: نسبة إلى الأعراب يقال: رجل أعرابي إذا كان بدويا وإن لم يكن من العرب. ورجل عربي: منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا ورجل أعجم وأعجمي: إذا كان في لسانه عجمة وإن كان من العرب ورجل عجمي: منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً. أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: الأزدي اللغوي البصري إمام عصره في اللغة والأدب والشعر الفائق أورد أشياء في اللغة لم توجد في كتب المتقدمين. له كتاب الجمهرة وهو من الكتب المعتبرة في اللغة وله كتاب الاشتقاق وكتاب اللغات. وكان يقال: هو أعلم الشعراء وأشعر العلماء. ولد بالبصرة سنة 223هـ، وتعلم فيها أخذ عن أبي حاتم السجستاني والرياشي والأصمعي ثم سكن عمان ثم خرج إلى نواحي فارس ثم انتقل إلى فارس ذكر له ابن خلكان ترجمة حافلة توفي رحمه الله سنة 321هـ ببغداد. أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد: الخوارزمي الزمخشري صاحب الكشاف الذي لم يصنف قبله مثله. كان إماما في اللغة والنحو وعلم البيان من غير مدافع تشد إليه الرحال في فنونه. له الفائق في غريب الحديث وأساس البلاغة في اللغة وربيع الأبرار وضالة الناشد والرائض في الفرائض والمفصل في النحو وشقائق النعمان في حقائق النعمان وشافي العي من كلام الشافعي - رحمه الله - والقسطاس في العروض ومعجم الحدود والمنهاج في الأصول ومقدمة الأدب وغير ذلك. وكان قد سافر إلى مكة - حرسها الله تعالى - وجاور بها زمانا فصار يقال له: جار الله لذلك وكان هذا الاسم علما عليه قال ابن خلكان: وسمعت من بعض المشائخ: أن إحدى رجليه كانت ساقطة وأنه كان يمشي في جارن خشب ثم ذكر لذلك قصة وكان معتزلي الاعتقاد متظاهراً به ولد سنة 467هـ بزمخشر: قرية كبيرة من قرى خوارزم وتوفي سنة 538هـ بجرجانية: وهي قصبة خوارزم وهي على شاطئ جيحون - رحمه الله تعالى. أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري: اللغوي النحوي العلامة قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه وكان يبغض العرب وألف في مثالبها كتبا وكان يرى رأي الخوارج وكان أبو نواس يتعلم منه ويصفه ويسب الأصمعي ويهجوه وكان إذا أنشد بيتا لا يقيم وزنه وإذا تحدث أو قرأ ألحن ويقول: النحو محدود ولم يزل يصنف حتى مات وتصانيفه تقارب مائتي

مصنف ذكر منها عدد وافر في ابن خلكان وقال: ولولا خوف الإطالة لذكرت جميعها وكان الأصمعي إذا أراد الدخول إلى المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك يعني أبا عبيدة خوفا من لسانه فلما مات لم يحضر جنازته أحد لأنه لم يكن يسلم من لسانه أحد لا شريف ولا غيره وكان وسخا ألثغ مدخول النسب مدخول الدين وأخباره كثيرة ذكر جملة صالحة منها في وفيات الأعيان ولد في سنة 110هـ في الليلة التي توفي بها الحسن البصري وتوفي في سنة 209هـ. أبو يوسف يعقوب بن إسحاق: المعروف بابن السكيت صاحب كتاب إصلاح المنطق وغيره ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق وكان يؤدب أولاد المتوكل. روى عن الأصمعي وأبي عبيدة والفراء وكتبه جيدة صحيحة ولم يكن له نفاذ في علم النحو وكان يميل في رأيه واعتقاده إلى مذهب من يرى تقديم علي بن أبي طالب قال ثعلب: كان ابن السكيت يتصرف في أنواع العلوم وكان من أصحاب الكسائي حسن المعرفة بالعربية ولم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة منه وله شعر حسن وكتب كثيرة ذكر جملة منها ابن خلكان. قال بعض العلماء: ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل إصلاح المنطق ولا شك أنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه قتل بأمر المتوكل في سنة 244هـ، وبلغ عمره ثمانيا وخمسين سنة لأن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب وابنيه وكان ابن السكيت من المغالين في محبتهم والتوالي لهم فقال: والله إن قنبرا خادم علي رضي الله عنه خير منك ومن ابنيك فقال المتوكل: سلوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلك به فمات - رحمه الله.

علماء التصريف

علماء التصريف مازن أبو عثمان بكر المازني بصري. روى عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد. وروى عنه المبرد وجماعة وهو أول من دون علم الصرف وكان إماما في العربية متسعا في الرواية يقول بالإرجاء وكان لا يناظره أحد إلا قطعه بقدرته على الكلام وقد ناظر الأخفش في أشياء كثيرة فقطعه قال المبرد: ولم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو منه. وأخذ عن الأخفش وقيل: عن الجرمي واختلف إليه إلى أن برع وكان يناظره وكان يقول: من أراد أن يصنف كتابا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي مات في سنة 248هـ، كذا قال الخطيب البغدادي وقال غيره: مات سنة 230هـ. عثمان بن جني أبو الفتح: كان من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف وعلمه بالصرف أقوى وأكمل من علمه بالنحو. وسببه: أنه كان يقرأ النحو بجامع الموصل فمر به أبو علي الفارسي فسأله عن مسألة في التصريف فقصر فيها فقال له أبو علي: تزببت قبل أن تحصرم فلزمه من يومئذ مدة أربعين سنة واعتنى بالتصريف ولما مات أبو علي تصدر ابن جني مكانه ببغداد وأخذ عنه عبد السلام البصري وأبو الحسن السمسمي.

قال في دمية القصر: وليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المخلقات وشرح المشكلات ما له سيما في علم الإعراب وكان يحضر عند المتنبي ويناظره في النحو من غير أن يقرأ عليه شيئا من شعره أنفة وإكبارا لنفسه وكان المتنبي يقول فيه: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس صنف الخصائص في النحو وغيره مولده قيل: سنة 303هـ، ومات في صفر من سنة 392هـ. محمد بن عبد الله بن مالك: جمال الدين أبو عبد الله الطائي الجياني الشافعي النحوي نزيل دمشق إمام النحاة وحافظ اللغة. قال الذهبي: ولد سنة 600هـ، أو سنة 601هـ، وسمع بدمشق من السخاوي والحسن الصباح وجماعة. وأخذ العربية عن غير واحد وجالس بحلب ابن عمرون وغيره وتصدر بها لإقراء العربية وصرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وحاز قصب السبق وأربى على المتقدمين. وكان إماما في القراءة وعللها. وأما اللغة فكان إليه المنتهى في الإكثار من نقد غريبها والاطلاع على وحشيها. وأما النحو والتصريف فكان فيه بحرا لا يجارى وبرا لا يبارى. وأما أشعار العرب التي يستشهد بها على اللغة والنحو فكان الأئمة الأعلام يتحيرون فيه ويتعجبون من أين يأتي بها وكان نظم الشعر سهلا عليه رجزه وطويله وبسيطه وغير ذلك هذا ما هو عليه من الدين المتين وصدق اللهجة وكثرة النوافل وحسن السمت ورقة القلب وكمال العقل والوقار والتؤدة. أقام بدمشق مدة يصنف ويشغل. روى عنه ابنه الإمام بدر الدين والشمس بن أبي الفتح والبدر بن جماعة والعلاء بن العطاء وخلق. انتهى كلام الذهبي. قال أبو حيان: لم يكن لابن مالك شيخ مشهور يعتمد عليه إلا أن بعض تلامذته ذكر أنه قال: قرأت على ثابت بن حيان وجلست في حلقة أبي علي بن الشلوبين نحوا من ثلاثة عشر يوما ولم يكن ثابت بن حيان من أئمة النحو وإنما كان من أئمة المعربين. قال السيوطي: وله شيخ جليل هو: ابن يعيش الحلبي. وأما تصانيفه فكثيرة جدا منها: الألفية في النحو تسمى الخلاصة والعمدة وإكمال العمدة وشرحها والتسهيل وشرحه ولم يتم وقصيدة في الأفعال وأرجوزة في المثلث وقصيدة في المقصور والمدود وشرحها وإعراب بعض أحاديث صحيح البخاري وقصيدة في الضاد والظاء وأخرى فيما هو مهموز وغير مهموز وتعريف في الصرف وشرحه وسبك المنظوم وفلك المحتوم إلى غير ذلك تصدر بالتربة العادلية والجامع المعمور وتخرج به جماعة كثيرة وصنف تصانيف مشهورة وإذا صلى بالعادلية - وكان إمامها - يشيعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيما له وكان آية في الاطلاع على الحديث وإذا لم يجد شاهدا في القرآن عدل إلى الحديث ثم إلى أشعار العرب وكان كثير العبادة والنوافل حسن السمت كامل العقل.

وانفرد عن المغاربة بشيئين: الكرم ومذهب الشافعية وكان الشيخ زكي الدين القريع يقول: إن ابن مالك ما خلى للنحو حرمة توفي ابن مالك رحمه الله ثاني عشر شعبان سنة 672هـ، اثنتين وسبعين وستمائة. عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس: العلامة جمال الدين أبو عمر بن الحاجب الكردي الدويني الأصل الأسنائي المولد المقري النحوي المالكي الأصولي الفقيه صاحب التصانيف المنقحة ولد سنة 570هـ، أو سنة 571هـ بأسنا من الصعيد. قال الذهبي: وكان أبوه جنديا كرديا حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي - قال مازن بن مرشد الصلاحي محقق هذا الكتاب: وهو أحد أجدادنا القدماء - اشتغل في صغره بالقاهرة وحفظ القرآن وأخذ بعض القراءة عن الشاطبي وسمع منه اليسير وقرأ بالسبع على أبي الجود وسمع من البوصيري وجماعة وتفقه على أبي منصور الأنباري وغيره وتأدب على ابن البناء ولزم الاشتغال حتى برع في الأصول والعربية وأتقنها غاية الإتقان وكان من أذكياء العالم. ثم قدم دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية وأكب الفضلاء على الاشتغال عليه والأخذ عنه وكان الأغلب عليه النحو والعربية وصنف في الفقه مختصرا وفي الأصول مختصرا آخر أكبر منه سماه: المنتهى وفي النحو الكافية وشرحها ونظمها الوافية وشرحها وفي التصريف الشافية وشرحها إلى غير ذلك وكل مصنفاته في غاية الحسن والإفادة ورزقت قبولا تاما لحسنها وجزالتها. وقد خالف النحاة في مواضع وأورد عليهم إشكالات وإلزامات مفحمة يعسر الجوابات عنها وكان فقيها مناظرا مفتيا مبرزا في عدة علوم متبحرا ثقة دينا ورعا متواضعا مطرحا للتكلف ثم دخل مصر هو والشيخ عز الدين بن عبد السلام وتصدر هو بالفاضلية ولازمه الطلبة قال ابن خلكان: وكان من أحسن خلق الله ذهنا وجاءنا مرارا بسبب أداء شهادات وسألته عن مواضع في العربية مشكلة فأجاب أبلغ إجابة بسكون كثير وتثبت تام. انتهى. ثم انتقل إلى الإسكندرية ليقيم بها فلم تطل مدته هناك ومات بها في سنة 646هـ، وأسنا: بلدة صغيرة من أعمال القوصية بالصعيد الأعلى من مصر علي بن مؤمن بن محمد بن علي أبو الحسن بن عصفور النحوي الحضرمي الإشبيلي كان لواء العربية في زمانه بالأندلس. قال ابن الزبير: أخذ عن الرباح والشلوبين ولازمه مدة ثم كانت بينهما منافرة ومقاطعة وتصدر للاشتغال مدة وأقبل عليه الطلبة وكان أصبر الناس على المطالعة لا يمل من ذلك ولم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو ولا تأهل لغير ذلك. وقال الصفدي: ولم يكن عنده ورع وجلس في مجلس شراب فلم يزل يرجم بالتاريخ إلى أن مات في رابع عشر ذي القعدة سنة 669هـ، أو سنة 661هـ، ومولده سنة 599هـ، وصنف الممتع في التصريف. أحمد بن الحسن الشيخ فخر الدين الجاربردي: قال السبكي في طبقات الشافعية: نزيل تبريز كان إماما فاضلا دينا خيرا وقورا مواظبا على العلم وإفادة الطلبة. أخذ عن القاضي ناصر الدين البيضاوي وصنف شرح منهاجه وشرح الحاوي في الفقه لم يكمل وشرح الشافية لابن الحاجب وشرح الكشاف مات في رمضان سنة ست وأربعين وسبعمائة بتبريز رحمه الله.

عبد الوهاب بن إبراهيم بن أبي المعالي الخزرجي الزنجاني: صاحب شرح الهادي المشهور الذي أكثر الجاربردي من النقل عنه في شرح الشافية قال السيوطي: وقفت عليه بخطه وذكر في آخره: أنه فرغ عنه في بغداد سنة 654هـ، ومتن الهادي له أيضا وله التصريف المشهور: بالغربي وله مؤلفات في العروض والقوافي وخطه في غاية الجودة وعلى مختصره في التصريف شروح مفيدة مشهورة عند أبناء الزمان أفضلها وأحسنها شرحا السعد التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني - رحمهما الله تعالى. حسن بن محمد النيسابوري المشهور بالنظام الأعرج: شرح الشافية مزجا وهو مشهور متداول قال السيوطي: لم أقف له على ترجمة. أحمد بن علي بن مسعود: صاحب مراح الأرواح قال السيوطي: لم أقف له على ترجمة وعليه شروح مفيدة يتداولها المتأدبون من الصبيان والمراح: طبع بالهند مراراً.

علماء النحو

علماء النحو ظالم بن عمرو بن ظالم - وقيل: ابن سفيان - أبو الأسود الدؤلي الكوفي المولد البصري المنشأ كان من سادات التابعين ومن أكمل الرجال رأيا وأسدهم عقلا شيعيا سريع الجواب ثقة في حديثه. روى عن أبي ذر وغيره وصحب علي بن أبي طالب وشهد معه صفين وقدم على معاوية فأكرمه وأعظم جائزته. وولي قضاء البصرة وهو أول من وضع علم النحو ونقط المصحف. مات سنة 69هـ للهجرة بطاعون الجارف وعمره خمس وثمانون سنة وقيل: إنه مات قبل الطاعون بعلة الفالج. وتخرج به: معاذ بن مسلم الهراء وخلف أبو الأسود خمسة نفر أدبوا الناس. أولهم: عيينة بن معدان الفيل ولم يكن فيمن أخذ عنه النحو أبرع منه. وثانيهم: ميمون الأقرن. وثالثهم: يحيى بن يعمر العدواني التابعي. قال الحاكم: فقيه أديب نحوي مبرز سمع ابن عمر وجابرا وأبا هريرة. ورابعهم:...... وخامسهم: ابنا أبي الأسود: عطاء وأبو حرب. ثم خلف هؤلاء رجالا أحدهم: عبد الله الحضرمي أحد الأئمة في القراءة والعربية. وثانيهم: عيسى الثقفي إمام في النحو وأخذ عنه الأصمعي وصنف في النحو: الإكمال والجامع يقال: إن له نيفا وسبعين مصنفا ذهبت كلها مات سنة 149هـ، أو سنة 150هـ. ثالثهم: أبو عمرو بن العلاء المازني النحوي المقري أحد القراء السبعة والأصح أن اسمه: ريان قال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالقراءة والعربية وأيام العرب والشعر وكانت دفاتره تملأ بيته إلى السقف ثم تنسك فأحرقها وكان من أشراف العرب مدحه الفرزدق ووثقه يحيى بن معين. قال الذهبي: قليل الرواية للحديث وهو صدوق حجة في القراءة وكان نقش خاتمه:

وإن امرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور مات سنة 154هـ، أو سنة 159هـ، ثم خلفهم: خليل بن أحمد وتقدم ترجمته ثم أخذ منه سيبويه وجمع العلوم التي استفاد منها في كتابه فجاء كتابه أحسن من كل كتاب صنف في النحو إلى الآن. عمرو بن عثمان بن قنبر المعروف بسيبويه أبو بشر وقيل: أبو الحسن مولى بني الحارث بن كعب. وسيبويه: لقب فارسي ومعناه: رائحة التفاح كانت أمه ترقصه بذلك في صغره. وقيل: كان تشم منه رائحة الطيب. وقيل: كان يعتاد شم التفاح. وقيل: للطافته لأن التفاح من لطاف الفواكه. وقيل: لأن وجنتيه كأنهما تفاحتان وكان في غاية الجمال ونظائره: نفطويه وعمرويه وخالويه وغير ذلك. والعجم يقولون: سيبويه بضم الباء وسكون الواو وفتح الياء لأنهم يكرهون أن يقع في آخر الكلمة: ويه فإنها للندبة قاله ابن خلكان وكان أصله من بيضاء من أرض فارس نشأ بالبصرة وأخذ عن الخليل ويونس وأبي الخطاب الأخفش وعيسى بن عمر وكان في لسانه حبسة وقلمه أبلغ من لسانه وناظر هو والكسائي في قولهم: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو: هو إياها. فاختار سيبويه الرفع. وقال الكسائي: النصب. ورجح العرب جانب الكسائي. ومات بالبيضاء وقيل: بشيراز سنة 180هـ، وعمره اثنتان وثلاثون سنة. وقيل: نيف على أربعين وقيل: مات بالبصرة سنة 161هـ، وقيل: سنة 188هـ. وقال ابن الجوزي: مات بساوة سنة 179هـ، تسع وسبعين ومائة علي بن حمزة الكسائي من ولد: بهمن بن فيروز إمام الكوفيين في النحو واللغة وأحد القراء السبعة وسمي الكسائي: لأنه أحرم في كساء واستوطن بغداد وتعلم النحو على كبر وخدم عمرو بن العلاء سبع عشرة سنة وجلس في حلقة خليل وكان يديم شرب النبيذ ويأتي الغلمان وأدب الأمين: ولد هارون الرشيد ولم يكن له زوجة ولا جارية وجرى بينه وبين أبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه الحنفي مجالس حكاها في طبقات النحاة وغيرها وله مع سيبويه وأبي محمد اليزيدي مجالس ومناظرات ذكر ابن خلكان بعضها في تراجم أربابها ومات هو ومحمد بن الحسن بالري في يوم واحد وكانا خرجا مع الرشيد فقيل: دفن النحو والفقه في يوم واحد وذلك سنة اثنتين أو ثلاث أو تسع وثمانين ومائة أو اثنتين وتسعين ومائة. ثم صار الناس فريقين: كوفيا: وشيخهم الكسائي وتلميذه المبرد. وبصريا: وشيخهم سيبويه والأخفش تلميذه. محمد بن يزيد أبو العباس الأزدي البصري المبرد إمام العربية ببغداد في زمانه كان إماما في النحو واللغة.

والمبرد: لقب عرف به واختلف العلماء في سبب تلقيبه بذلك ذكر له ابن خلكان ترجمة حافلة في تاريخه. أخذ عن الكسائي والأزدي وأبي حاتم السجستاني. وروى عنه: إسماعيل الصفار ونفطويه والصولي. وكان فصيحا بليغا مفوها ثقة إخباريا علامة صاحب نوادر وظرافة. وكان جميلا لا سيما في صباه. وكان الناس بالبصرة يقولون: ما رأى المبرد مثل نفسه. له تصانيف كثيرة منها: الرد على سيبويه والكامل ومعاني القرآن. وكان بينه وبين ثعلب من المنافرة ما صار مثلا حتى قال الشاعر: وأبداننا في بلدة والتقاؤنا ... عسير كأنا ثعلب ومبرد نفطويه الواسطي أبو عبد الله إبراهيم النحوي المتوفى سنة 323هـ - رحمه الله تعالى إبراهيم الإفليلي القرطبي النحوي اللغوي المتوفى سنة 441هـ - رحمه الله. سعيد بن مسعدة أبو الحسن الأخفش الأوسط. تلميذ سيبويه من أهل بلخ وكان أجلع: وهو الذي لا تنضم شفتاه ولا تنطبق على أسنانه والأخفش: الصغير العينين مع سوء بصرهما سكن البصرة وكان أسن من سيبويه وكان معتزليا يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلا وعرضه علي وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه. وهذا الأخفش: هو الذي زاد في العروض بحر الخبب. له كتاب المقاييس في النحو وكتاب الاشتقاق وكتاب العروض والقوافي وغير ذلك. ودخل بغداد وقام بها مدة وروى بها وصنف وقرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه سرا صنف الأوسط في النحو مات سنة عشر أو إحدى وعشرين أو خمس عشرة ومائتين. والأخافش ثلاثة: الأكبر: عبد الحميد بن عبد المجيد. الأوسط: هذا السعيد. الأصغر: علي بن سليمان. وقيل: أربعة: والرابع: أحمد بن عمران. وقيل: أحد عشر: الخامس: أحمد بن محمد الموصلي. السادس: خلف بن عمرو. والسابع: عبد الله بن محمد. الثامن: عبد العزيز بن أحمد. التاسع: علي بن محمد المغربي الشاعر. العاشر: علي بن إسماعيل الفاطمي.

الحادي عشر: هارون بن موسى بن شريك كذا في مدينة العلوم للأرنيقي رحمه الله - محمد بن المستنير بن أحمد أبو علي النحوي المعروف: بقطرب اللغوي البصري مولى سالم بن زياد لازم سيبويه وكان يدلج إليه فإذا خرج رآه على بابه فقال له: ما أنت إلا قطرب ليل فلقب به. وقطرب: اسم دويبة لا تزال تدوب ولا تفتر وكان من أئمة عصره. وله من التصانيف: كتاب معاني القرآن وكتاب الاشتقاق وكتاب العلل في النحو وكتاب غريب الحديث. وهو أول من وضع المثلث في اللغة وكتابه -وإن كان صغيرا- لكن له فضيلة السبق وروى له ابن المنجم في كتاب البارع بيتين وهما: إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي إذا ما غبت عن بصري والعين تبصر من تهوى وتفقده ... وباطن القلب لا يخلو عن النظر وكان يرى رأي المعتزلة النظامية فأخذ عن النظام مذهبه واتصل بأبي دلف العجلي وأدب ولده ولم يكن ثقة وله تصانيف في النحو واللغة وغيرهما مات سنة ست ومائتين رحمه الله. صالح بن إسحاق أبو عمرو الجرمي البصري مولى جرم بن ربان من قبائل اليمن وقيل: مولى بجيلة وفي بجيلة: جرم بن علقمة بن أنمار والله أعلم بالصواب وكان يلقب: بالكلب وبالنباح: لصياحه حال المناظرة. قال الخطيب: كان فقيها عالما بالنحو واللغة دينا ورعا حسن المذهب صحيح الاعتقاد روى الحديث قدم بغداد وأخذ عن الأخفش ويونس واللغة عن الأصمعي ولم يلق سيبويه. وحدث عنه المبرد وناظر الفراء وانتهى علم النحو في زمانه مات سنة خمس وعشرين ومائتين له من التصانيف: التنبيه وغيره. وله في النحو: كتاب جيد يعرف: بالفرخ معناه: فرخ كتاب سيبويه. وكان يقول في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} قال: لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تر ولا علمت ولم تعلم. وكان عالما باللغة حافظا لها وله كتب انفرد بها وكان جليلا في الحديث والأخبار وله كتاب في السير عجيب وكتاب العروض ومختصر في النحو وكتاب غريب سيبويه. والجرمي: نسبة إلى عدة قبائل كل واحدة منها يقال لها: جرم ولا أعلم إلى أيهم ينسب هذا الجرمي ولم يكن منهم وإنما نزل فيهم فنسب إليهم قاله ابن خلكان إبراهيم بن محمد بن السري أبو إسحاق الزجاج قال الخطيب: كان من أهل الفضل والدين حسن الاعتقاد جميل المذهب كان يخرط الزجاج مات سنة 311هـ، وسئل عن سنه عند العرفات: فعقد سبعين وسمع منه يقول: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - له كتاب مختصر في النحو وكتاب فعلت وأفعلت وكتاب ما ينصرف ومالا ينصرف أخذ الأدب عن المبرد وثعلب وغير ذلك. محمد بن السري أبو بكر المعروف بابن السراج البغدادي النحوي.

قال المرزباني: كان أحدث أصحاب المبرد مع ذكاء وفطنة قرأ عليه كتاب سيبويه ثم اشتغل عليه بالموسيقى وعول على مسائل الأخفش والكوفيين وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة يقال: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. أخذ عنه السيرافي والفارسي والرماني مات شابا في ذي الحجة سنة 316هـ وكان أحد الأئمة المشاهير المجمع على فضله ونبله وجلالة قدره في النحو والأدب. أخذ عنه جماعة من الأعيان منهم: السيرافي والرماني وغيرهما ونقل عنه الجوهري في كتاب الصحاح في مواضع عديدة. وله التصانيف المشهورة في النحو. منها: كتاب الصحاح في مواضع عديدة. وله التصانيف المشهورة في النحو. ومنها: كتاب الأصول وهو من أجود الكتب المصنفة في هذا الشأن وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه وشرح كتاب سيبويه وكان يلثغ في الراء فيجعلها غينا والسراج: بفتح السين والراء المشددة وبعد الألف جيم: هذه النسبة إلى عمل السروج. عبد الله بن جعفر بن درستويه: أبو جعفر النحوي الفارسي أحد من اشتهر وعلا قدره وكثر علمه جيد التصنيف صحب المبرد ولقي ابن قتيبة وأخذ عنه الدارقطني وغيره وكان شديد الانتصار للبصريين في النحو واللغة وثقه ابن مندة وغيره ضعفه هبة الله اللالكائي ولد سنة 258هـ، ومات سنة 347هـ، وصنف الإرشاد في النحو والرد على المفضل في الرد على الخليل وغريب الحديث وغيرها. ضبطه السمعاني: درستويه: بضم الدال والتاء وقال ابن ماكولا: درستويه: بفتح الثلاث الأول. محمد بن يزيد الخزاعي: المعروف بابن الأزهر النحوي قال الخطيب: حدث عن المبرد وكان مستمليه وروى عنه أبو الفرج الأصبهاني والدارقطني. قال: كان ضعيفا يروى المناكير وقال غيره: كان كذا بأقبح الكذب مات سنة 325هـ، عن نيف وتسعين. محمد بن مرزبان: ولد بطريق رامهرمز. وأخذ عن المبرد وأكثر بعده عن الزجاج وكان قيما بالنحو. أخذ عنه الفارسي والسيرافي وكان ضنينا لا يقري كتاب سيبويه إلا بمائة دينار وكان مع علمه ساقط المروءة سخيفا وإذا أراد أن يمضي إلى مكان بعيد طرح نفسه في طريق حمال وشده بحبل وربما كان معه تمر وغيره فيأكل ويرمي الناس بالنوى يتعمد رؤوسهم وربما بال على رأس الحمال فإذا قيل له يعتذر له شرح كتاب سيبويه لم يتم قال الزبيدي: توفي سنة 365هـ رحمه الله. محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان النحوي: قال الزبيدي: وليس هذا بالقديم الذي له العروض والمعمى.

قال الخطيب: كان يحفظ المذهبين البصري والكوفي في النحو لأنه أخذ عن المبرد وثعلب وكان أبو بكر بن مجاهد يقول: كان أنحى منهما. قال ياقوت: لكنه إلى مذهب البصريين أميل. وقال ابن الأنباري: خلط المذهبين فلم يضبط منهما شيئاً. قال أبو حيان التوحيدي: ما رأيت مجلسا أكثر من فائدة وأجمع لأصناف العلوم والتحف من مجلسه وكان يجتمع على بابه نحو من مائة رأس من الدواب للرؤساء والأشراف الذين يقصدونه وكان إقباله على صاحب الرقعة والخلق كإقباله على صاحب الديباج والدابة والغلام مات رحمه الله سنة 32 هـ. حسن بن أحمد بن الفارسي أبو علي: ويقال له: الفسوي أيضا لأنه ولد بمدينة فسا من أعمال فارس. أخذ عنه: السيرافي والرماني ثم تتلمذ له: عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني وفاق أكثر من تقدمه في التحقيق والتدقيق ولو لم يكن له سوى كتاب أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لكفاه شرفا وفخرا كان أوحد زمانه في علم العربية. أخذ عن الزجاج وابن السراج وطوف بلاد الشام وأقام بحلب عند سيف الدولة وجرت بينه وبين المتنبي مجالس قال تلامذته: إنه أعلم من المبرد وكان متهما بالاعتزال انتقل إلى بلاد فارس وصحب عضد الدولة وتقدم عنده وله كتاب الإيضاح والتكملة في النحو وقصته فيه مشهورة والكلمة في التصريف توفي ببغداد سنة 377هـ، ذكر له ابن خلكان ترجمة حسنة في تاريخه فليرجع إليه. زيد بن علي بن عبد الله الفارسي: أبو القاسم الفسوي النحوي اللغوي قال ابن عساكر في تاريخ دمشق وابن العديم في تاريخ حلب: كان فاضلا يعلم اللغة والنحو عارفا بعلوم كثيرة شرح الإيضاح وسكن دمشق وأقرأ بها ومات بطرابلس سنة سبع وستين وأربعمائة رحمه الله. حسن بن عبد الله بن المرزبان: المعروف بالقاضي أبو سعيد السيرافي النحوي. قال ياقوت: كان أبوه مجوسيا اسمه: بهزاد فأسلم فسماه ابنه: أبو سعيد عبد الله وكان بينه وبين أبي الفرج الأصبهاني - صاحب كتاب الأغاني - ما جرت العادة بمثله بين الفضلاء من التنافس وسيراف: بكسر السين: بلدة من بلاد فارس على ساحل المجر مما يلي كرمان خرج منها جماعة من العلماء وكان يدرس ببغداد: علوم القرآن والنحو واللغة والفقه والفرائض. أخذ اللغة عن ابن دريد والنحو عن أبي السراج. قال أبو حيان التوحيدي: السيرافي: شيخ الشيوخ وإمام الأئمة له معرفة بالنحو والفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والحديث والكلام والحساب والهندسة أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر له على زلة وقضى ببغداد - مع الثقة والديانة والأمانة والرزانة - أربعين سنة أو أكثر الدهر وكان نزها عفيفا جميل الأمر حسن الأخلاق معتزليا ولم يظهر منه شيء وكان لا يأكل إلا من كسب يده ينسخ ويأكل منه. وقال في محاضرات العلماء: شيخ الدهر قريع العصر العديم المثل المفقود الشكل ما رأيت أحفظ منه نظما ونثرا وكان دينا ورعا تقيا زاهدا عابدا خاشعا له دأب بالنهار من القراءات والخشوع وورد

بالليل من القيام والخضوع ما قرئ عليه شيء قط فيه ذكر الموت والبعث ونحوه إلا بكى وجزع ونغص عليه يومه وليلته وامتنع من الأكل والشرب وما رأيت أحدا من المشائخ كان أذكر لأحيان الشباب وأكثر تأسفا على ذهابه منه. وكان إذا رأى أحدا من أقرانه عاجله الشيب تسلى به. قال في الإمتاع: هو أجمع لشمل العلم ونظم مذاهب العرب وأدخل في كل باب وأخرج من طريق وألزم للجادة الوسطى في الخلق والدين وأروى للحديث وأقضى للأحكام وأفقه في الفتوى كتب إليه ملوك عدن كتبا مصدرة بتعظيمه تسأله فيها عن مسائل في الفقه والعربية واللغة وكان حسن الخط طلب أن يقرر في ديوان الإفتاء فامتنع وقال: هذا من يحتاج إلى درية وأنا عار منها وسياسة وأنا غريب فيها. وقال الخطيب: كان زاهدا ورعا لا يأخذ على الحكم أجرا إنما كان يأكل من كسب يمينه فكان لا يخرج إلى مجلسه حتى ينسخ عشر ورقات بعشرة دراهم تكون قدر مؤونته وكان أبو علي وأصحابه يحسدونه كثيرا مولده بسيراف قبل السبعين ومائتين وفيها ابتدأ طلب العلم وخرج إلى عمان وتفقه بها وأقام بالعسكر مدة ثم ببغداد إلى أن مات بها في خلافة الطائع ثاني رجب يوم الإثنين سنة 368هـ. وله من التصانيف: شرح كتاب سيبويه لم يسبق إلى مثله وحسده عليه أبو علي الفارسي وغيره من معاصريه - رحمه الله تعالى رحمة واسعة. علي بن عيسى بن علي أبو الحسن الرماني: كان يعرف أيضا: بالإخشيدي وبالوراق وهو: بالرماني أشهر. كان إماما في العربية علامة في الأدب في طبقة الفارسي والسيرافي معتزليا ولد في سنة 374هـ. وأخذ عن: الزجاج وابن السراج وابن دريد. قال أبو حيان التوحيدي: لم ير مثله قط علما بالنحو وغزارة بالكلام وبصيرة بالمقالات واستخراجا للعويص وإيضاحا للمشكل مع تنزه ودين وفصاحة وعفاف ونظافة وكان يمزج النحو بالمنطق حتى قال الفارسي: إن كان النحو ما يقول الرماني فليس معنا منه شيء. وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء. قال السيوطي: النحو ما يقوله الفارسي وهذه مؤلفات الخليل وسيبويه ومعاصريهما ومن بعدهما بدهر لم يعهد فيها شيء من ذلك مات الرماني سنة 384هـ. وله تصانيف مفيدة منها: شرح أصول ابن السراج وشرح مختصر الجرمي وشرح المقتضب وغير ذلك مما لا يحصى وأصله من سر من رأى. والرماني: نسبة إلى الرمان وبيعه أو إلى قصر الرمان: وهو قصر بواسط معروف وقد نسب إلى هذا وهذا خلق كثير من الناس. محمد بن الحسين الفارسي: النحوي ابن أخت أبي علي الفارسي.

قال ياقوت: أخذ عن خاله علم العربية وطوف الآفاق ورجع إلى الوطن وكان خاله أوفده على الصاحب بن عباد إلى الري فارتضاه وأكرم مثواه وورد بخراسان ونزل بنيسابور دفعات وأملى بها من الأدب والنحو ما سارت به الركبان وآل أمره إلى أن اختص بالأمير إسماعيل بن سبكتكين بغزنة ووزره ثم عاد إلى نيسابور ثم جاور مكة ثم عاد إلى غزنة ورجع إلى نيسابور ثم انتقل إلى إسفرائن ثم استوطن جرجان إلى أن مات. قرأ عليه أهلها منهم: عبد القاهر الجرجاني وليس له أستاذ سواه. وله تصانيف منها: الهجاء وكتاب مائة الشعر مات - رحمه الله - سنة 421هـ، إحدى وعشرين وأربعمائة. عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي: الإمام المشهور أخذ النحو عن محمد الفارسي المذكور ولم يأخذ عن غيره لأنه لم يخرج عن بلده وكان من كبار أئمة العربية والبيان شافعيا أشعريا صنف: المغني في شرح الإيضاح والمقتصد في شرح إعجاز القرآن والعوامل المائة والعمدة في التصريف ومن مصنفاته: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة في علمي المعاني والبيان وهما: الآية الكبرى واليد البيضاء في العلمين المذكورين وإليهما ينتهي علم من تأخر في ذينك العلمين وغير ذلك من التصانيف مات سنة 471هـ، أو سنة 476هـ ومن شعره: كبر على العلم يا خليلي ... ومل إلى الجهل ميل هائم وعش حمارا تعش سعيدا ... فالسعد في طالع البهائم وقال أيضا: لا تأمن النفثة من شاعر ... ما دام حيا سالما ناطقا فإن من يمدحكم كاذبا ... يحسن أن يهجوكم صادقا ذكر له الصلاح الكتبي ترجمة مختصرة في فوات الوفيات وهؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم كلهم: من تلامذة سيبويه إمام أهل البصرة وأما تلامذة الكسائي إمام أهل الكوفة فأشهر هؤلاء: الفراء وبعده: أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وبعده: القاسم بن محمد الأنباري. أما الفراء فهو: يحيى بن زياد الديلمي إمام العربية: كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي. أخذ عنه وعليه اعتمد وأخذ عن يونس وأهل الكوفة يدعون: أنه استكثر عنه وأهل البصرة يدفعون ذلك. وكان يحب الكلام ويميل إلى الاعتزال وكان متدينا متورعا على تيه وعجب وتعظيم كان زائد العصبية على سيبويه وكان كتابه تحت رأسه وكان يتفلسف في تصانيفه ويسلك ألفاظ الفلاسفة وكان أكثر مقامه ببغداد فإذا كان آخر السنة أتى الكوفة فأقام بها أربعين يوما يفرق في أهله ما جمعه وكان شديد المعاش لا يأكل وجمع مالا خلفه لابن له شاطر. له تصانيف مفيدة منها: معاني القرآن التي يلحن فيها العامة مات بطريق مكة سنة 207هـ، عن سبع وستين سنة. قال ثعلب: لولا الفراء لما كانت عربية لأنه خلصها وضبطها ذكر له ابن خلكان ترجمة طويلة.

قال الفراء: إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن فإذا تحفظت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطباع لحنت وإنما قيل له: الفراء - ولم يكن يعمل الفراء ولا يبيعها - لأنه كان يفري الكلام ذكره السمعاني في كتاب الأنساب. أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني: أبو العباس ثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة ولد سنة مائتين وابتدأ النظر في العربية والشعر واللغة سنة ست عشر وحفظ كتب الفراء فلم يشذ منها حرف وعني بالنحو أكثر من غيره فلما أتقنه أكب على الشعر والمعاني ولازم ابن الأعرابي بضع عشرة سنة وسمع من نفطويه وغيره قيل: إنما فضل أهل عصره بالحفظ للعلوم التي تضيق عنها الصدور. قال أبو الطيب اللغوي: كان ثعلب يعتمد على ابن الأعرابي في اللغة وعلى سلمة بن عاصم في النحو ويوري عن ابن أبي نجدة كتب أبي زيد وعن الأثرم كتب أبي عبيد وعن أبي فص كتب الأصمعي وعن عمرو بن أبي عمر كتب أبيه. وكان ثقة حجة صالحا مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم مقدما عند الشيوخ منذ هو حدث متفننا يستغني بشهرته عن نعته وكان ضيق النفقة. قال أبو بكر بن مجاهد: قال لي ثعلب: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا وأصحاب الحديث بالحديث ففازوا وأصحاب الفقه بالفقه ففازوا واشتغلت أنا بزيد وعمرو فليت شعري ماذا تكون حالي؟ فانصرفت من عنده فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة فقال لي: أقرئ أبا العباس عني السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل وقال أبو عمرو الزاهد: سئل ثعلب عن شيء فقال: لا أدري فقيل له: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال: لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت. صنف: الفصيح وهو صغير الحجم كثير الفائدة. وثقل سمعه في آخر عمره ثم صم انصرف يوم الجمعة من الجامع بعد العصر وإذا بدواب من ورائه فلم يسمع صوت حافرها فصدمته فسقط على رأسه في هوة من الطريق فلم يقدر على القيام فحمل إلى منزله ومات منه سنة 291هـ، وذكره الداني في طبقات القراء ومن تصانيفه: كتاب المصون وكتاب اختلاف النحويين وكتاب معاني القرآن وكتاب ما تلحن فيه العامة وكتاب ما يجري وما لا يجري إلى غير ذلك. محمد بن أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار أبو محمد الأنباري النحوي: كان محدثا إخباريا عارفا بالأدب والنحو والغريب ثقة مات في سنة 327هـ. كان علامة وقته في العربية وأكثر الناس حفظا لها وكان صدوقا دينا ثقة خيرا من أهل السنة صنف كتبا كثيرة في: علوم القرآن وغريب الحديث أثنى عليه الخطيب في تاريخ بغداد سكن بغداد وروى عنه جماعة من العلماء وكان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد لما في القرآن الكريم وقال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا وكان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا للقرآن بأسانيدها. وله غريب الحديث خمسة وأربعون ألف ورقة.

وكتاب شرح الكافي نحو ألف ورقة والمذكر والمؤنث ما عمل أحد أتم منه ورسالة المشكل رد فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم. وكانت ولادته سنة 271هـ هذه مشاهير علماء الأدب وهذه ترجمتهم بالاختصار ولم يخلف من بعدهم مثلهم إلا قليلا وستعرفهم إن شاء الله تعالى. رضي الدين الإسترابادي: محمد بن الطاهر الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق - عليه السلام - المعروف بالموسوي صاحب ديوان الشعر ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة وهو الإمام المشهور شارح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها ولا في غالب كتب النحو مثله جمعا وتحقيقا وحسن تعليل ولقبه: نجم الأئمة قال السيوطي: لم أقف على اسمه ولا على شيء من ترجمته إلا أنه فرغ من تأليف هذا الشرح سنة 483هـ1، وأخبرني صاحبنا المؤرخ شمس الدين بن عزم بمكة: أن وفاته سنة 684هـ، أو سنة 686هـ - الشك مني - وله شرح على الشافية. انتهى. قال في مدينة العلوم: يروى أن الرضي كان على مذهب الرفض يحكى عنه أنه كان يقول: العدل في عمر ليس بتحقيق موضع - قوله: العدل في عمر تقديري نعوذ بالله من الغلو في البدعة والعصبية في الباطل - يقال: إنه ليس في المتأخرين من اطلع على تدقيقات كتاب سيبويه مثله. انتهى وذكر له ابن الوردي في تاريخه ترجمة وقال: ذاكره شيخه السيرافي يوما وهو صبي فقال: رأيت عمرا ما علامة النصب في عمرو؟ فقال الرضي: بغض علي - أشار إلى عمرو بن العاص وبغضه لعلي - فعجب الحاضرون من ذهنه مولده سنة 359هـ ببغداد ومات في سنة 406هـ. قلت: ولو قال بدل قوله: بغض علي: خفض علي لكان أبدع وهو أشعر الطالبيين على كثرة شعرائهم المفلقين. انتهى. وذكر له ابن خلكان ترجمة حسنة وأثنى عليه وكان أنجب سادات العراق يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر ولو قيل: إنه أشعر قريش لم يبعد عن الصدق يشهد بذلك شاهد عدل من شعره العالي القدح الممتنع عن القدح الذي يجمع إلى السلامة متانة وإلى السهولة رصانة ويشتمل على معان يقرب جناها ويبعد مداها وديوانه في أربع مجلدات. توفي بكرة يوم الأحد سادس المحرم وقيل: صفر ببغداد ودفن في داره بخط مسجد الأنباريين بالكرخ وقد خربت الدار ودرس القبر ومضى أخوه المرتضى إلى مشهد موسى بن جعفر لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه. حسن بن محمد بن شهنشاه: العلوي الإسترابادي أبو الفضائل السيد ركن الدين شارح الكافية. قال ابن رافع في تاريخ بغداد: قدم مراغة واشتغل على نصير الدين وكان يتوقد ذكاء وفطنة. أخذ أصول الفقه عن السيف الآمدي مات سنة 715هـ.

_ 1 يخالف ما سيأتي من سنة مولده ووفاته وهو الصحيح.

وقال الأسنوي: سنة 718هـ. قال الصفدي: كان شديد التواضع يقوم لكل أحد حتى السقاء شديد الحلم وافر الجلالة عند التتار عاش بضعا وسبعين سنة. أبو بكر الخبيصي: صاحب شرح الحاجبية سماه: الموشح قال السيوطي: لا أعرف من ترجمته زيادة على هذا قلت: خبيص: قرية من قرى كرمان ونسبته إليها لا إلى بائع الخبيصة - كما توهمه بعض الناس - وعلى هذا الشرح فوائد مهمة للشريف الجرجاني - رحمه الله. عبد الرحمن الجامي شارح الكافية: بلغ غاية لا يمكن الزيادة عليها في لطف التحرير وحسن الترتيب وشهرة حاله أغنتنا عن التعرض لترجمته - قدس سره. علي مجد الدين بن مسعود ابن محمد البسطامي: من أولاد الإمام فخر الدين الرازي المعروف: بمصنفك لأنه صنف كتبا شريفة في حداثة سنه والكاف: في لغة العجم: للتصغير وكان الفخر الرازي يصرح في مصنفاته: بأنه من أولاد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وذكر أهل التاريخ: أنه من أولاد أبي بكر الصديق ولد مصنفك في سنة 803هـ، وسافر مع أخيه إلى هراة لتحصيل العلم في سنة 823هـ، ذكر له في مدينة العلوم تصانيف كثيرة يجل وصفها وهي بالعربية والفارسية وفي علم النحو والأدب والمعاني والبيان والفقه والأصول والمنطق والحكمة والتفسير إلى غير ذلك. أبو البقا يعيش بن علي بن يعيش: النحوي الحلبي موفق الدين المشهور: بابن يعيش وكان يعرف: بابن الصائغ ولد في رمضان في سنة 553هـ بحلب كان من كبار أئمة العربية ماهرا في النحو والتصريف. سمع الحديث على الخطيب الطوسي بالموصل وقدم دمشق وجالس تاج الدين الكندي وتصدر بحلب للإقراء زمانا وطال عمره وشاع ذكره وغالب فضلاء حلب تلامذته وكان حسن الفهم لطيف الطبع طويل الروح على المبتدي والمنتهي ظريف الشمائل كثير المجون. حدث عنه جماعة آخرهم: أبو بكر الدشتي مات في سنة 643هـ. قال ابن خلكان: لما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف - وكان دخولي إليها سنة 628هـ، وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين وكان الشيخ موفق الدين شيخ الجماعة في الأدب لم يكن فيهم مثله - فشرعت في القراءة عليه وكان يقرئ بجامعها في المقصورة الشمالية بعد العصر وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية وكان عنده جماعة قد تنبهوا وتميزوا به وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء وابتدأت بكتاب اللمع لابن جني فقرأت عليه معظمها مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين وله شرح كتاب المفصل للزمخشري شرحه شرحا مستوفيا وليس في جملة الشروح مثله وشرح تصريف الملوكي لابن جني شرحا جيدا وانتفع به خلق كثير من أهل حلب وغيرها حتى أن الرؤساء الذين كانوا بحلب ذلك الزمان كانوا تلامذته - رحمه الله. عبد الله بن يوسف بن أحمد الشيخ جمال الدين الحنبلي النحوي الأنصاري: أبو محمد الشهير: بابن هشام صاحب كتاب مغني اللبيب. قال في الدرر الكامنة: ولد سنة 708هـ، ولزم الشهاب عبد اللطيف بن المرحل وسمع على ابن حيان ديوان

زهير بن أبي سلمى وحضر دروس التاج التبريزي وقرأ على التاج الفاكهاني شرح الإشارة له إلا الورقة الأخيرة وتفقه للشافعي ثم تحنبل وذلك قبل موته بخمس سنين وأتقن العربية ففاق الأقران بل الشيوخ. وتخرج به جماعة من أهل مصر وغيرهم وتصدر لنفع الطالبين وانفرد بالفوائد الغريبة والمباحث الدقيقة. انتهى ملخصاً. قال ابن خلدون: ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له: ابن هشام أنحى من سيبويه وكان كثير المخالفة لأبي حيان شديد الانحراف عنه صنف: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب واشتهر في حياته وأقبل الناس عليه. انتهى. قال السيوطي: وقد كتبت عليه حاشية وشرحا لشواهده توفي ليلة الجمعة خامس ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة الهجرية. أبو جعفر أحمد بن إسماعيل بن يونس النحاس النحوي: كان من الفضلاء وله تصانيف مفيدة وكتاب في النحو اسمه: التفاحة وكتاب الكافي في النحو وكتاب الناسخ والمنسوخ. روى عن النسائي وأخذ النحو عن أبي الحسن الأخفش والزجاج وابن الأنباري ونفطويه وأعيان أدباء العراق وكان قد رحل إليهم من مصر وكانت فيه خساسة وتقتير على نفسه وإذا وهب عمامة قطعها ثلاث عمائم بخلا وشحا وكان يلي شراء حوائجه بنفسه ويتحامل فيها على أهل معرفته مع هذا فكان للناس رغبة كبيرة في الأخذ عنه فنفع وأفاد. وأخذ عنه خلق كثير توفي بمصر سنة 338هـ. والنحاس: نسبة إلى من يعمل النحاس وأهل مصر يقولون لمن يعمل الأواني الصفرية: النحاس والله أعلم بالصواب.

علماء المعاني والبيان

علماء المعاني والبيان يوسف بن أبي بكر محمد بن علي سراح الدين أبو يعقوب. السكاكي: كان علامة بارعا في علوم شتى خصوصا المعاني والبيان وله كتاب مفتاح العلوم اشتمل على اثني عشر علما من العلوم العربية ونقل عنه أبو حيان في الارتشاف في مواضع وقال فيه: إن السكاكي من خوارزم وذكره الشيخ سراج الدين البلقيني فقال: هو الخوارزمي إمام في النحو والتصريف والمعاني والبيان والاستدلال والعروض والشعر وله النصيب الوافر من علم الكلام وسائر العلوم من رأى مصنفه علم تبحره وفضله ونبله مات بخوارزم في أوائل رجب سنة ست وعشرين وستمائة وكانت ولادته سنة 555هـ الهجرية. محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي الشهير: بقطب الدين الشيرازي الشافعي العلامة: ولد بشيراز سنة 634هـ، وكان أبوه طبيبا فقرأ عليه وعلى عمه ثم سافر إلى نصير الطوسي فقرأ عليه وبرع ثم دخل الروم فأكرمه صاحبها وولي قضاء سيواس وملطية وقدم الشام ثم سكن تبريز وأقرأ بها العلوم العقلية وحدث بجامع الأصول عن الصدر القونوي عن يعقوب الهندباني عن المصنف. وكان ينظر في شرح السنة للبغوي وكان يخالط الملوك ظريفا مزاحا لا يحمل درهما ولا يغير زي

الصوفية وكان من بحور العلم ومن أذكياء العالم يخضع للفقهاء ويلازم الصلاة في جماعة وإذا صنف كتابا صام ولازم السهر ومسودته مبيضة ثم انقطع عن أبواب الأمراء والملوك إلى أن مات. وله شرح كليات القانون لابن سينا وشرح حكمة الإشراق وصنف: كتاب درة التاج على لسان الفرس أدرج فيه جميع أقسام الحكمة النظرية والعملية وصنف في الهيئة: التحفة ونهاية الإدراك وغير ذلك ومصنفاته كثيرة كلها في غاية الحسن والإتقان مات - رحمه الله - في أربع وعشرين من رمضان سنة 716هـ. مسعود بن القاضي فخر الدين عمر بن برهان الدين الشهير: بسعد الدين التفتازاني: الإمام العلامة عالم بالنحو والتصريف والمعاني والبيان والأصلين والمنطق وغيرها شافعي. قال ابن حجر الحافظ: ولد سنة 712هـ، وأخذ عن القطب والعضد وتقدم في الفنون واشتهر ذكره وطار صيته وانتفع الناس بتصانيفه. وله: شرح العضدي وشرح التلخيص مطول وآخر مختصر وشرح القسم الثالث من المفتاح وله: التلويح شرح التوضيح وشرح العقائد النسفية وشرح الشمسية في المنطق وشرح تصريف الزنجاني والإرشاد في النحو وتهذيب المنطق والكلام وحاشية الكشاف ولم يتم وغير ذلك وتصانيفه كثيرة وكان في لسانه لكنة وانتهت إليه معرفة العلوم بالمشرق مات بسمرقند سنة 791هـ، ذكره فتح الله الشرواني في أوائل شرحه للإرشاد وقال: لقد زرت مرقده المقدس بسرخس فوجدت مكتوبا على صندوق مرقده من جانب القدوم: ولد في صفر سنة 722هـ، وتوفي سنة 791هـ بسمرقند ونقل إلى سرخس. انتهى ثم ذكر تاريخ تأليف سائر مؤلفاته - رحمه الله تعالى. علي بن محمد بن علي الحنفي الشريف الجرجاني: قال العيني في تاريخه: عالم بلاد الشرق كان علامة دهره وفهامة عصره وكان بينه وبين الشيخ سعد الدين التفتازاني مباحثات ومحاورات في مجلس تيمورلنك وله تصانيف مفيدة. منها: شرح المواقف للعضد وحواشي شرح الأصفهاني على التجريد للطوسي ويقال: إن مصنفاته زادت على خمسين كتابا مات سنة 814هـ. انتهى. قال السيوطي: ومن مصنفاته: شرح القسم الثالث من المفتاح وحاشية المطول والمختصر وحاشية الكشاف ولم يتم وله: رسالة في تحقيق معاني الحروف وأفادني سيدنا المؤرخ شمس الدين بن عزم: أن مولد الشريف الجرجاني بجرجان من ولاية إستراباد سنة 740هـ، وأنه توفي بشيراز في سادس ربيع الثاني سنة 816هـ. قلت: فمدة عمره - رحمه الله - ست وسبعون سنة نقل السيوطي عن شيخه محمد الكافيجي أنه قال: السيد الشريف وقطب الدين الرازي: لم يرزقا علم العربية بل كانا حكيمين. قال في مدينة العلوم: قلت: وهذا الكلام خروج عن الإنصاف ولا يلزم من عدم انفرادهما بعلم العربية ومشاركتهما لسائر العلوم عدم معرفتهما بها فانظر بالإنصاف في تصانيفهما مباحث تتعلق بالعربية وقد عجز عنها القدماء من أرباب العلوم العربية. وعين البغض تبرز كل عيب ... وعين الحب لا تجد العيوبا. انتهى.

برهان الدين حيدر الشيرازي ثم الرومي كان علامة بالمعاني والبيان والعربية. أخذ عن التفتازاني وشرح الإيضاح للقزويني شرحا ممزوجا وقدم الروم وأقرأ وأفتى على مذهب أبي حنيفة ومات بعد العشرين وثمانمائة. قال السيوطي: أخذ عنه شيخنا: محيي الدين الكافيجي - رحمه الله. عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار القاضي عضد الدين الإيجي: العلامة الشافعي المشهور: بالعضد. قال في الدرر الكامنة: وكان إماما في المعقول قائما بالأصول والمعاني والعربية مشاركا في الفنون كريم النفس كثير المال جدا كثير الإنعام على الطلبة. ولد بعد السبعمائة وأخذ عن مشائخ عصره ولازم الشيخ زين الدين تلميذ البيضاوي وولي قضاء المماليك ومن تلامذته: الشيخ شمس الدين الكرماني وسيف الدين الأبهري والتفتازاني وجرت له محنة مع صاحب كرمان حبسه في القلعة ومات مسجونا سنة 756هـ وأورد ابن السبكي في الطبقات الشافعية: ما كتبه عضد الدين يستفتي به أهل عصره فيما وقع في الكشاف في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} حيث قال: من مثله متعلق بسورة صفة لها أي: بسورة كائنة من مثله والضمير: لما نزلنا أو لعبده ويجوز أن يتعلق بقوله: {فَأْتُوا} والضمير: للعبد حيث جوز في الوجه الأول كون الضمير لما نزلنا تصريحا وحظره في الوجه الثاني تلويحا فليت شعري فما الفرق بين: فأتوا بسورة كائنة من مثله فأنزلناه وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة؟ وكتب الجواب كثير من الفضلاء - سيما فخر الدين الجاربردي - ثم رد جواب عضد الدين إبراهيم ولد الجاربردي وأطالوا الكلام فيه تركنا ذكرها1 لطولها وعدم تعلق غرضنا بها في هذا المقام وله تصانيف جمة كثيرة الفوائد منها: الفوائد الغياثية مختصر المفتاح. محمد بن يوسف بن علي بن سعيد: شمس الدين الكرماني ثم البغدادي شارح البخاري الإمام العلامة في الحديث والتفسير والأصلين والفقه والمعاني والعربية قال ابنه في ذيل المسالك: ولد يوم الخميس سنة 717هـ، وقرأ على والده بهاء الدين ثم انتقل إلى كرمان وأخذ عن العضد وغيره وبهر وفاق أقرانه وفضل غالب أهل زمانه ثم دخل دمشق ومصر وقرأ بها البخاري على ناصر الدين الفارقي. وسمع من جماعة وحج ورجع إلى بغداد واستوطنها وكان تام الخلق فيه بشاشة وتواضع للفقراء والعلماء غير مكترث بأهل الدنيا ولا ملتفت إليهم ويأتي إليه السلاطين في بيته ويسألونه: الدعاء والنصيحة. وله من التصانيف: شرح البخاري أربع مجلدات. وشرح المواقف وشرح الفوائد الغياثية في المعاني والبيان وحاشية على تفسير البيضاوي ورسالة في مسألة الكحل مات يوم الخميس سنة 786هـ، فنقل إلى بغداد ودفن بقبر أعده لنفسه بقرب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. محمد بن علي بن السيد الشريف الجرجاني: صاحب التصانيف.

_ 1 أي الأجوبة.

قرأ على والده وبرع وأكمل حاشية أبيه على المتوسط وشرح الإرشاد في النحو للتفتازاني وشرح هداية الحكمة. وله: رسالة مختصرة في المنطق أورد فيها ما يحتاج إليه كتبها على أسلوب رسالة والده في المنطق مع زيادات شريفة لكن والده كتبها بالفارسية وشرح الفوائد الغياثية ممزوجا - رحمهما الله تعالى رحمة واسعة.

علماء العروض والقوافي

علماء العروض والقوافي أبو القاسم هبة الله بن الفضل المعروف: بابن القطان الشاعر المشهور البغدادي. سمع الحديث من جماعة من المشائخ. وسمع عليه وكان غاية في الخلاعة والمجون كثير المزاح والمداعبة والهجاء مغرى بالولوع بالمتعجرفين ولم يسلم منه أحد لا الخليفة ولا غيره ولهم وله في ذلك نوادر ووقائع وحكايات ظريفة وله ديوان شعر عبث فيه بجماعة من الأعيان وثلبهم وله مع حيص بيص1 ماجريات وله كتاب عروض أكثره جيد. ولد سنة 477هـ، وتوفي سنة 558هـ ببغداد ودفن بمقبرة معروف الكرخي يوم العيد. قال ابن خلكان: ولولا إيثار الاختصار لذكرت من أحواله ومضحكاته شيئا كثيرا فإنه كان آية في هذا الباب. محمد بن علي بن عبد الرحمن الشيخ أمين الدين المحلي: قال الذهبي: أحد أئمة النحو بالقاهرة تصدر لإقرائه وانتفع به الناس وله شعر حسن وتصانيفه حسنة منها: أرجوزة في العروض وشفاء العليل في علم الخليل مات سنة 673هـ، عن ثلاث وسبعين سنة. يحيى بن علي بن محمد المعروف: بابن الخطيب التبريزي. قال ياقوت: وربما يقال له: الخطيب وهو وهم صاحب العروض كان أحد الأئمة في النحو واللغة والأدب حجة صدوقا ثبتا هاجر إلى أبي العلاء المعري. وأخذ عنه وعن عبيد الله الرقي وابن البرهان وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم. وسمع الحديث وكتب الأدب على خلق منهم: القاضي أبو الطيب الطبري وأبو القاسم التنوخي والخطيب البغدادي. وروى عنه السلفي وتخرج عليه خلق كثير وتتلمذوا له ذكره السمعاني في كتاب الذيل وذكر فضائله. وله: تهذيب غريب الحديث وله في النحو مقدمات حسنة وكتاب في إعراب القرآن سماه: الملخص. قال ابن خلكان: رأيته في أربع مجلدات وكان قد دخل مصر في عنفوان شبابه فقرأ عليه بها ابن بابشاذ النحوي شيئا من اللغة ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات وولي تدريس الأدب بالنظامية وخزانة الكتب بها وانتهت إليه الرياسة في فنه وشاع ذكره في الأقطار وكان الناس يقرؤون عليه تصانيفه.

_ 1 اسم شاعر.

صنف: شرح القصائد العشر والكافي في العروض والقوافي وثلاثة شروح على الحماسة وشرح شعر المتنبي وشعر أبي تمام وغير ذلك ولد سنة 441هـ، ومات فجاءة في سنة 502هـ الهجرية. علي بن جعفر بن علي السعدي: المعروف بابن القطاع الصيقلي المولد المصري الدار والوفاة كان أحد أئمة الأدب خصوصا اللغة صاحب الكتاب المعروف: الشافي في علم القوافي. قال ياقوت: كان إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب قرأ على أبي بكر الصيقلي وروى عنه الصحاح للجوهري وكان نقاد المصريين ينسبونه إلى التساهل في الرواية صنف: الأفعال أحسن فيه كل الإحسان وهو أجود من الأفعال لابن القوطية وإن كان ذلك قد سبقه إليه وله: كتاب أبنية الأسماء جمع فيه فأوعى وفيه دلالة على كثرة اطلاعه. وله حواشي الصحاح والدرة الخطيرة في المختار من شعر شعراء الجزيرة وكتاب لمح الملح جمع فيه خلقا من شعراء الأندلس وغير ذلك وأجاد في النحو غاية الإجادة ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج ووصل إلى مصر في حدود سنة 500هـ، وبالغ أهل مصر في إكرامه وله شعر كثير ذكر طرفا صالحا منه ابن خلكان في تاريخه. ولد سنة 433هـ بصقلية ومات سنة 515هـ، أو سنة 514هـ، ودفن بقرب ضريح الإمام الهمام: محمد بن إدريس الشافعي - رحمهما الله تعالى رحمة واسعة.

علماء الإنشاء والأدب

علماء الإنشاء والأدب أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم: محمد بن محمد المعروف: بابن الأثير الجزري الملقب: بضياء الدين. كان مولده بجزيرة ابن عمرو نشأ بها وانتقل مع والده إلى الموصل وبها اشتغل وحصل العلوم وحفظ: كتاب الله الكريم وكثيرا من الأحاديث النبوية ومن النحو واللغة وعلم البيان وشيئا كثيرا من الأشعار. وله: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر وهو في مجلدين ولد سنة 558هـ، وتوفي سنة 632 ببغداد وكان له أخوان: أحدهما: مجد الدين أبو السعادات المبارك تقدم ذكره في اللغة. والآخر: أبو الحسن علي الملقب: عز الدين يأتي ذكره في التواريخ وكان الإخوة الثلاثة كلهم فضلاء نجباء أصحاب التصانيف المقبولة قلما يتفق إخوة مثل هؤلاء وهم مشهورون بابن الأثير رحمهم الله تعالى. أبو القاسم علي بن محمد الحريري: صاحب المقامات ولد في حدود سنة 446هـ، وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة تصانيفه تشهد بفضله وكفى له شاهدا على ذلك: المقامات التي فاق بها الأوائل وأعجز الأواخر وكان مولده ببلد قريب من البصرة يقال له: المشان وكان دميما مبتلى بنتف اللحية. قيل: إنه كتب سبعمائة نسخة من المقامات بخطه وقرئت عليه وله ديوان شعر مات بالبصرة في سادس رجب سنة 515هـ. ذكر له ابن الوردي في تاريخه ترجمة وأشعارا له وقال: إمام في النحو واللغة وله عدة

مصنفات منها: المقامات طبقت الأرض شهرة أمره بتصنيفها أنوشيروان بن خالد بن محمد وزير السلطان محمود وكان خصيصا به قدم بغداد ونزل الحريم. والحريري: بصري المولد والمنشأ من بني ربيعة الفرس وكان من أهل اليسار يقال: إنه كان له ثماني عشرة ألف نخلة بمشان البصرة وأصله منها وخلف ابنين: الواحد: عبد الله من رواة المقامات والثاني: كان متفقها. انتهى. - رحمهما الله. أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ: صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع كان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة بن بويه الديلمي تقلد ديوان الرسائل وله كل شيء حسن من المنظوم والمنثور توفي سنة 384هـ ببغداد وعمره: إحدى وسبعون سنة. قيل: إن صديقا له دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبييض فسأله: عما يعمل؟ فقال: أباطيل أنمقها وأكاذيب الفقهاء أبو الفضل أحمد بن الحسين المعروف: ببديع الهمداني صاحب الرسائل الرائقة والمقامات الفائقة وعلى منواله نسج الحريري مقاماته واحتذى حذوه واقتفى أثره واعترف في خطبته بفضله وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج وهو أحد الفضلاء الفصحاء وله النظم المليح. روى عن أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة وسكن هراة من بلاد خراسان وله كل معنى مليح حسن من نظم ونثر. فمن رسائله: الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه وإذا سكن متنه تحرك نتنه وكذلك الضيف: يسمج لقاؤه إذا طال ثواؤه ويثقل ظله إذا انتهى محله والسلام. ومنها: حضرته التي هي كعبة المحتاج لا كعبة الحجاج ومشعر الكرم لا مشعر الحرم ومنى الضيف لا منى الخيف وقبلة الصلات لا قبلة الصلاة وكانت وفاته سنة 398هـ، مسموما بمدينة هراة. ويحكى: أنه مات من السكتة وعجل دفنه فأفاق في قبره وسمع صوته بالليل وأنه نبش عنه فوجدوه قد قبض على لحيته ومات من هول القبر - والله أعلم. أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي الداني: كان فاضلا في علوم الأدب صنف كتابه الذي سماه: الحديقة على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي. وكان عارفا بفن الحكمة فكان يقال له: الأديب الحكيم سكن الإسكندرية ذكره العماد في الخريدة وأثنى عليه وذكر أشياء من نظمه توفي - رحمه الله - سنة تسع وعشرين وخمسمائة. أبو أحمد بن عبد الله بن السعيد العسكري: أحد الأئمة في الآداب والحفظ وهو صاحب أخبار ونوادر وله التصانيف المفيدة منها: كتاب التصحيف الذي جمع فيه فأوعى وكتاب الحكم والأمثال توفي سنة 382هـ، والعسكري: نسبة إلى عدة مواضع أشهرها: عسكر مكرم الباهلي: وهي مدينة من كور الأهواز. أبو علي الحسن بن رشيق: المعروف: بالقيرواني أحد الأفاضل البلغاء له التصانيف المليحة منها: كتاب الأنموذج والرسائل الفائقة والنظم الجيد وأبوه: مملوك رومي من موالي الأزد توفي سنة 463هـ رحمه الله تعالى ومن شعره: يارب لا أقوى على دفع الأذى ... وبك استعنت على الضعيف المؤذي

ما لي بعثت إلي ألف بعوضة ... وبعثت واحدة إلى نمروذ وله أيضا: وقائلة: ماذا الشحوب وذا الضنا؟ ... فقلت لها قول المشوق المتيم: هواك أتاني وهو ضيف أعزه ... فأطعمته لحمي وأسقيته دمي ومن تصانيفه أيضا: قراضة الذهب وهو لطيف الجرم كثير الفائدة وله: كتاب الشذوذ في اللغة يذكر فيه كل كلمة جاءت شاذة في بابها. الشيخ المجيد: أبو علي الحسن بن عبد الصمد بن الشحناء العسقلاني: صاحب الخطب المشهورة والرسائل المحبرة كان من فرسان النثر وله فيه اليد الطولى. ذكره العماد في الخريدة فقال: المجيد: مجيد كنعته قادر على ابتداع الكلام ونحته له الخطب البديعة والملح الصنيعة. وذكره ابن بسام في الذخيرة وسرد جملة من رسائله توفي مقتولا بخزانة البنود: وهي سجن بمدينة القاهرة المعزية في سنة 482هـ ومن شعره: حجاب وإعجاب وفرط تصلف ... ومد يد نحو العلا بتكلف ولو كان هذا من وراء كفاية ... عذرنا ولكن من وراء تخلف أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الملقب بتاج الدين البغدادي: كان أوحد عصره في فنون الآداب وعلو السماع وكان يبتاع الخليع ويسافر به إلى بلاد الروم ويعود إليها واستوطن دمشق وقصده الناس وأخذوا عنه توفي - رحمه الله تعالى - سنة 613هـ الهجرية. أبو غالب عبد الحميد بن يحيى بن سعد الكاتب المشهور: به يضرب المثل في البلاغة حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد وكان في كل فن من العلم والأدب إماما وهو من أهل الشام وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة. وهو أول من أطال الرسائل واستعمل التمهيدات في فصول الكتب فاستعمل الناس ذلك بعده وكان كاتب مروان بن الحكم الأموي: آخر ملوك بني أمية المعروف: بالجعدي. ومن كلامه: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة وخير الكلام: ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا ثم إنه قتل مع مروان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الطاهر: كان إماما في علم الكلام والأدب والشعر وهو أخو الشريف الرضي. وله تصانيف على مذهب الشيعة ومقالة في أصول الدين وله ديوان شعر كبير. وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه. وله: كتاب الغرور والدرر هي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب تكلم فيها على النحو

واللغة وغير ذلك وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم ولد في سنة 355هـ، وتوفي في سنة 436هـ ببغداد ودفن في داره عشية ذلك النهار أبو نصر الفتح بن عبد الله بن خاقان القيسي الإشبيلي: صاحب كتاب قلائد العقيان له: عدة تصانيف منها: القلائد جمع فيه من شعراء المغرب طائفة كثيرة وتكلم على ترجمة كل واحد منهم بأحسن عبارة وألطف إشارة وكلامه في مؤلفاته تدل على غزارة فضله وسعة مادته. وكان كثير الأسفار سريع التنقلات توفي في سنة 525هـ، بمدينة مراكش. قال ابن دحية: كان خليع العذار في دنياه لكن كلامه في تواليفه كالسحر الحلال والماء الزلال قتل ذبحا في مسكنه بفندق من حضرة مراكش في سنة 529هـ. انتهى. الصاحب: أبو القاسم إسماعيل بن عباد الطالقاني: كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه. أخذ الأدب عن: ابن فارس اللغوي وابن العميد وغيرهما. قال الثعلبي في اليتيمة: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب. انتهى. نشأ من الوزارة في حجرها ودب ودرج في وكرها وكان وزير ابن بويه الديلمي واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره ومدحوه بغرر المدائح. صنف في اللغة: كتبا سماها: المحيط وهو في سبع مجلدات اشتمل من اللغة على جزء متوفر وله: رسائل بديعة ونظم جيد فمنه قوله: وشادن جماله تقصر عنه صفتي ... أهوى لتقبيل يدي فقلت: قبل شفتي وله في رقة الخمر: رق الزجاج ورقت الخمر ... وتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر ولد سنة 326هـ، وتوفي سنة 385هـ، بالري ثم نقل إلى أصبهان والطالقان: اسم لمدينتين أحدهما: بخراسان والأخرى: من أعمال قزوين والصاحب من الأخرى.

علماء المحاضرة

علماء المحاضرة مفضل بن محمد الأصفهاني أبو القاسم الراغب: كان في أوائل المائة الخامسة له: المحاضرات وأفانين البلاغة وغير ذلك والناس يظنون أنه معتزلي لكن نقل السيوطي عن الفخر الرازي: أنه من أئمة السنة وقرنه بالغزالي وهذه فائدة حسنة فلا عبرة بظنون الناس وإن بعض الظن إثم. أبو المعالي محمد بن أبي سعيد بن الحسن بن حمدون: الكاتب الملقب: كافي الكفاءة بهاء الدين البغدادي صاحب: التذكرة الحمدونية في علم المحاضرات كان فاضلا ذا معرفة تامة بالأدب والكتابة من بيت مشهور بالرياسة وكتابه: التذكرة من أحسن المجامع يشتمل على التاريخ والأدب والنوادر والأشعار،

لم يجمع أحد من المتأخرين مثله. ولد في سنة 495هـ، وتوفي سنة 562هـ، وكان موته في الحبس. أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربه: مولى هشام القرطبي صاحب كتاب العقد الفريد كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس وكتابه: العقد من الكتب الممتعة حوى من كل شيء طبع في هذا الزمان بمصر القاهرة وله ديوان شعر جيد تشمل أشعاره كل معنى مليح وكل لفظ فصيح. ولد في سنة 246هـ، وتوفي في سنة 328هـ، وكان قد أصابه الفالج قبل ذلك بأعوام وقرطبة: بالضم: مدينة كبيرة من بلاد الأندلس وهي دار مملكتها. أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد: الكاتب الأموي الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني الذي طبع بمصر حالاً. ولد بأصبهان ونشأ ببغداد وكان من أعيان أدبائها وأفراد مصنفيها عالما بأيام الناس والأنساب والسير. روى عن عالم كثير من العلماء يطول تعدادهم. قال التنوخي: وكان من المتشيعين الذي شاهدناهم وكان يحفظ من اللغة والنحو والمغازي والسير والأغاني والخرافات والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب مالم أر قط يحفظه مثله ويحفظ دون ذلك من علوم أخر ومن آلات المنادمة شيئا كثيرا مثل: البيطرة وعلم الجوارح وطرف من الطب والنجوم والأشربة وغيرها وشعره يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء. وله من المصنفات المستملحة: كتاب الأغاني في المحاضرات الذي وقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله يقال: إنه جمعه في خمسين سنة وحمله إلى سيف الدولة بن حمدان فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. وحكي: عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناء به عنها. ومنها: كتاب القيان وكتاب الديارات وكتاب دعوة الأطباء. ومنها: كتاب جمهرة النسب وكتاب الغلمان المغنين وكتاب الإماء الشواعر وحصل له ببلاد الأندلس كتب صنفها لبني أمية ملوك الأندلس وكان منقطعا إلى الوزير المهلبي وله فيه مدائح وشعره كثير ومحاسنه شهيرة. ولد في سنة 284هـ، وتوفي سنة 356هـ ببغداد وكان قد خلط قبل أن يموت وكان من أولاد مروان بن الحكم الأموي آخر خلفاء بني أمية وهو: أصبهاني الأصل بغدادي المنشأ. أحمد بن يحيى بن أبي بكر التلمساني المعروف: بابن أبي حجلة: نزيل دمشق ثم القاهرة. ولد سنة 725هـ، واشتغل ثم قدم إلى الحج فلم يرجع ومهر في الأدب ونظم الكتب ونثر فأجاد وترسل ففاق وعمل المقامات وغيرها وكان حنفي المذهب حنبلي المعتقد وكان كثير الحط على الاتحادية صنف: كتابا عارض به قصائد ابن الفارض كلها النبوية وكان يحط عليه لكونه لم يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويحط على أهل نحلته ويرميه ومن يقول بمقالته بالعظائم وقد امتحن بسبب ذلك على يد سراج الهندي وكان

يقول الشعر ولا يحسن العروض وجمع مجاميع حسنة منها: ديوان الصبابة ومنطق الطير وسكردان السلطان في علم المحاضرات والأدب الغض وأطيب الطيب والنعمة الشاملة في العشرة الكاملة وقصيرات الحجال وغير ذلك مات في مستهل ذي الحجة سنة 776هـ، وله إحدى وخمسون سنة. كمال الدين محمد بن موسى الدميري الشافعي: المصري صاحب كتاب حياة الحيوان في علم المحاضرة وله: تصانيف مفيدة في علوم عديدة كان كثير العبادة قائما بالصوم عدم النظير في وقته وكان يكتسب أولا بالخياطة ثم تركه ولم يتقلد القضاء أصلا ولا لبس لبسا فاخراً. أخذ عن الأسنوي والعراقي وأعيان العلماء ومن تأمل كتابه: حياة الحيوان وما أودعه فيه من الغرائب والفوائد عرف فضله. ولد سنة 743هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 808هـ، والدميري: بكسر الدال والميم وقيل: بفتحها وكسر الميم قال في مدينة العلوم: ولعل الصواب هو الأخير لأني قد وجدته مضبوطا بخط بعض الثقات. أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري: صاحب كتاب: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها. والثعالبي: نسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها. وله: كتاب فقه اللغة وسحر البلاغة وسر البراعة. قال ابن بسام صاحب الذخيرة في حقه: كان في وقته راعي تلعات العلم وجامع أشتات النثر والنظم رأس المؤلفين في زمانه وإمام المصنفين بحكم أقرانه سار ذكره سير المثل وضربت إليه آباط الإبل وتواليفه أشهر مواضع وأبهر مطالع وأكثر راو لها وجامع طلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب. ولد سنة 350هـ، وتوفي سنة 429هـ، وله كتاب: مؤنس الوحيد في المحاضرات وشيء كثير جمع فيه أشعار الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم وفيها دلالة على كثرة اطلاعه وله أشعار كثيرة ذكر طرفا منها ابن خلكان في تاريخه. محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي: الطائي الأندلسي يعرف: بابن عربي1 عمدة الواصلين وسند السالكين كان جليل الشأن في العلم والعمل وله المصنفات الوافرة والمؤلفات الزاخرة منها: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار من كتب علم المحاضرة. مولده سنة 560هـ. وعنه أخذ: الشيخ شرف الدين بن الفارض والشيخ صدر الدين القونوي. وتوفي سنة 638هـ، ودفن بالصالحية بسفح قاسيون بتربة بني الزكي وقبره بها يزار بدمشق وكان أبوه خمّاراً بها.

_ 1 قوله ابن عربي بدون الألف واللام حسبما اصطلج عليه أهل المشرق فرقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي وكان بالمغرب يعرف بابن العربي بالالف واللام كذا في نفح الطيب، سيد نور الحسن خان سلمه ربه.

علماء الشعر

علماء الشعر حبيب بن أوس بن الحارث أبو تمام الطائي صاحب الحماسة وكان1 أبو تمام أسمر طويلا فصيحا حلو الكلام فيه تمتمة يسيرة واشتغل وتنقل إلى أن صار منه ما صار. وتوفي بالموصل سنة 231هـ، أو سنة 228هـ، أو سنة 229هـ، وقيل: سنة 232هـ، كذا قاله ابن خلكان في تاريخه: وفيات الأعيان. أبو الحسن علي بن أحمد بن منصور: المعروف: بالبسام الشاعر المشهور صاحب الذخيرة. كانت أمه: أمامة: ابنة حمدون النديم وهو من أعيان الشعراء وأفاضل الظرفاء لسنا مطبوعا في الهجاء لم يسلم منه أمير ولا وزير ولا صغير ولا كبير. توفي سنة 303هـ، أو 302هـ، عن نيف وسبعين سنة. أحمد بن عبد الله بن سيلمان التنوخي: أبو العلاء المعري من معرة النعمان من الشام بالقرب من حماة غزير الفضل شائع الذكر وافر العلم غاية في الفهم عالما باللغة حاذقا بالنحو جيد الشعر جزل الكلام شهرته تغني عن صفته. وله التصانيف المشهورة والرسائل المأثورة وله من النظم: لزوم مالا يلزم وهو كبير في خمسة أجزاء أو ما يقاربها وله: سقط الزند وشرحه بنفسه وسماه: ضوء السقط وله: كتاب الأيك والغصون في الأدب يقارب المائة جزء وكان علامة عصره متضلعا من فنون الأدب. ولد يوم الجمعة عند الغروب لثلاث بقين من ربيع الأول سنة 363هـ، بالمعرة وجدر في السنة الثالثة من عمره فعمي منه وهو مجدر الوجه نحيف الجسم وكان يقول: لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر قال الشعر وهو ابن إحدى أو اثنتي عشرة سنة. وأخذ النحو واللغة عن أبيه وعن محمد بن سعد النحوي بحلب وهو من بيت علم ورياسة وكان متهما في دينه يرى رأي البراهمة والحكماء المتقدمين لا يرى أكل اللحم ولا يؤمن بالبعث والنشور وبعث الرسل وشعره المتضمن للإلحاد كثير. قال ابن العميل في كتابه: وقع التجري على المعري: كان يرميه أهل الحسد بالتعطيل ويعملون على لسانه الأشعار يضمنونها أقوال الملاحدة قصدا لهلاكه وقد نقل عنه أشعار تتضمن صحة عقيدته وكذب ما ينسب إليه من إسناد الإلحاد إليه. وقال الذهبي: إنه ملحد وحكم بزندقته وقال السلفي: أظنه تاب وأناب. وله من التصانيف: ديوان الشعر وشرح شعر المتنبي وسماه: معجز أحمد وشرح شعر البحتري وسماه: عبث الوليد واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه: ذكرى حبيب. والتنوخي: نسبة إلى تنوخ وهو: اسم لعدة قبائل اجتمعوا قديماً بالبحرين وتحالفوا على التناصر وأقاموا

_ 1 كذا بالأصل المطبوع. وقد سقط جزء من ترجمة أبي تمام.

هناك فسموا: تنوخا والتنوخ: الإقامة وهذه القبيلة: إحدى القبائل الثلاث التي هي نصارى العرب وهم: بهراء وتنوخ وتغلب. مات ليلة الجمعة سنة 449هـ، وذكر له ابن الوردي ترجمة حافلة في تاريخه فليعلم. أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي أبو الطيب المتنبي: الشاعر المشهور وقيل: أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار وهو من أهل الكوفة قدم إلى الشام في صباه وجال في أقطاره واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها لا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي قال له يوما: كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فقال في الحال: حجلى وظربى. قال أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد قال ابن خلكان: وحسبك أن يقول في حقه أبو علي هذه المقالة وكان شعره بلغ الغاية من الفصاحة والبلاغة والحكمة وسائر المحاسن بحيث لا حاجة إلى مدحه. والناس في شعره على اختلاف. منهم: من يرجحه على شعر أبي تمام ومن بعده. ومنهم: من يرجح شعر أبي تمام عليه. اعتنى العلماء بشرح ديوانه حتى قال بعضهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحا ما بين مطول ومختصر ولم يفعل هذا بديوان غيره ولا شك أنه كان رجلا مسعودا رزق السعادة التامة في شعره وإنما قيل له: المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم حتى حبس ثم تاب وأطلق وهذا أصح وقيل: لقوله: أنا أول نبي بالشعر وقيل: لقوله: أنا في أمة تداركها اللـ ... ـه غريب كصالح في ثمود وكان سبب قتله قوله: الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم وذلك في رمضان سنة 354هـ، ومولده بالكوفة سنة 303هـ، بمحلة كندة. ويقال: إن أباه كان سقاء بالكوفة وبالجملة: فسمو نفسه وعلو همته وأخباره وماجرياته: كثيرة والاختصار أولى. أبو عبادة وليد بن عبيد بن يحيى الطائي البحتري الشاعر المشهور: صاحب الديوان. مدح كثيرا من الخلفاء أولهم: المتوكل على الله وكثيرا من الأكابر والرؤساء وأقام ببغداد زمانا ثم عاد إلى الشام وله أشعار كثيرة فيها ذكر حلب ونواحيها وكان يتغزل بها. روى عنه أشياء من شعره: المبرد والمحاملي والحكيمي والصولي. قيل له: أيهما أشعر أنت أم أبو تمام؟ قال: جيده خير من جيدي ورديي خير من رديه. وقيل للمعري: أي الثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: هما حكيمان والشاعر البحتري.

قال ابن خلكان: ولعمري ما أنصفه ابن الرومي في قوله: والفتى البحتري يسرق مآقا ... مثل ابن أوس في المدح والتشبيب كل بيت له يجود معنا ... هـ فمعناه لابن أوس حبيب وشعره سائر وديوانه موجود دائر فلا حاجة إلى الإكثار في مدح شعره. وجمع شعره على الحروف: أبو بكر الصولي. وعلى الأنواع: علي بن حمزة. وللبحتري: كتاب الحماسة على مثال حماسة أبي تمام وله: كتاب معاني الشعر ولد سنة ست أو سبع أو خمس أو ثلاث أو اثنتين ومائتين والأول: أصح. وكان يقال لشعره: سلاسل الذهب وهو في الطبقة العليا قال ابن الجوزي - في كتاب أعمار الأعيان -: توفي البحتري وهو ابن ثمانين سنة وكان موته بمنيح - أطال ابن خلكان في ترجمته. جرير بن عطية بن الخطفي التميمي الشاعر المشهور صاحب ديوان الشعر: كان من فحول شعراء الإسلام وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة ونقائض وهو أشعر منه عند أكثر أهل العلم بهذا الشأن. وأجمعت العلماء على: أنه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل ويقال: إن بيوت الشعر أربعة: فخر ومديح ونسيب وهجاء وفي الأربعة: فاق جرير على غيره ويلقب: بابن المراغة وهذا لقب لأمه هجاه ابن الأخطل ونسبها إلى أن الرجال يتمرغون عليها ولما مات الفرزدق وبلغ خبره جريرا بكى وقال: أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده وقل ما مات ضد أو صديق إلا تبعه صاحبه وكذلك كان فتوفي سنة 110هـ، وفيها مات الفرزدق وكان وفاته باليمامة وعمره نيفا وثمانين سنة ذكر له ابن خلكان ترجمة حافلة في تاريخه: وفيات الأعيان. أبو فراس همام بن غالب التميمي الشاعر المشهور بالفرزدق: صاحب جرير وكان بينهما من المهاجاة والمعاداة ما هو المشهور في كتب المحاضرات وقد جمع لهما كتاب يسمى: النقائض وهو من الكتب المشهورة. توفي بالبصرة سنة 110هـ، قبل جرير بأربعين أو ثمانين يوماً. قال ابن الجوزي: إنهما توفيا في سنة 111هـ، قيل: لقي الفرزدق علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد قارب المائة. والفرزدق: قطع العجين وإنما لقب به: لغلظه وقصره وقيل: لأنه كان جهم الوجه وقد أصابه جدري في وجهه وهذا القول: أصح وقصائده مشهورة موجودة منها: قصيدته في مدح الإمام زين العابدين التي سارت بها الركبان وشرحها جمع جم من الأعيان أولها: هذا سليل حسين وابن فاطمة ... بنت الرسول الذي انجابت به الظلم هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم ....إلخ وقد اختلف أهل المعرفة بالشعر في الفرزدق وجرير والمفاضلة بينهما والأكثرون على أن

جرير أشعر منه وأخبار الفرزدق كثيرة والاختصار أولى. وذكر له ابن خلكان ترجمة حافلة وذكر قصيدته المذكورة مع قصتها ولهذه القصيدة ترجمة بالنظم للشيخ عبد الرحمن الجامي ولها شرح للمولوي جميل أحمد البلجرامي بالفارسي. قال ابن خلكان: وكان الفرزدق كثير التعظيم لقبر أبيه فما جاءه أحد واستجار به إلا نهض معه وساعده على بلوغ غرضه. انتهى. أبو نواس حسن بن هاني ابن عبد الأول: الشاعر المشهور ولد بالبصرة ونشأ بها. وقيل: ولد بالأهواز ثم خرج إلى الكوفة ثم إلى بغداد. وأمه: هوازية اسمها: جلبان وكان أبوه من جند مروان بن محمد - آخر ملوك بني أمية - وكان من أهل دمشق وانتقل إلى الأهواز للرباط فتزوج جلبان وأولدها عدة أولاد منهم: أبو نواس وأبو معاذ. وروي أن الخصيب - صاحب ديوان الخراج بمصر - سأل أبا نواس: عن نسبه؟ فقال: أغناني أدبي عن نسبي فأمسك عنه. قال إسماعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه - مع قلة كتبه - ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطرا فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو لا غير. وكان في الطبقة الأولى من المولدين وشعره عشرة أنواع وهو مجيد فيها وقد اعتنى بجمع شعره طائفة من الفضلاء منهم: الصولي وتوزون ولهذا يوجد ديوانه مختلفا وأخباره كثيرة وأشعاره شهيرة. ولد في سنة 145هـ، أو سنة 136هـ، وتوفي سنة خمس أو ست وثمانين أو تسعين ومائة ببغداد وإنما قيل له: أبو نواس لذؤابتين كانتا تنوسان على عاتقيه وما أحسن ظنه بربه عز وجل حيث قال: تكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك بالغ ربا غفورا ستبصر إن وردت عليه عفوا ... وتلقى سيدا ملكا كبيرا تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا قال ابن خلكان: وهذا من أحسن المعاني وأغربها وأخباره كثيرة ومن شعره الفائق: قصيدته الميمية أولها: يا دار ما صنعت بك الأيام ... لم تبق فيك بشاشة تستام أبو إسماعيل الحسين بن علي بن محمد الملقب: مؤيد الدين عميد الملك فخر الكتاب الأصبهاني المنشي المعروف: بالطغرائي، كان غزير الفضل لطيف الطبع فاق أهل عصره بصنعة النظم والنثر ذكره السمعاني وأثنى عليه. له ديوان شعر جيد ومن محاسن شعره: قصيدته المعروفة: بلامية العجم وكان عملها ببغداد في سنة 505هـ، يصف حاله ويشكو زمانه أولها: أصالة الرأي ضانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل

وهي مذكورة في تاريخ ابن خلكان بتمامها. وذكره أبو المعالي الخطيري في كتاب زينة الدهر وذكر له مقاطيع. وذكره أبو البركات في المستوفي في تاريخ إربل وقال: إنه ولي الوزارة في مدينة إربل مدة وذكر العماد الكاتب في نصرة الفترة وعصرة القطرة - وهو تاريخ الدولة السلجوقية -: إن الطغرائي كان ينعت بالأستاذ وكان وزير السلطان مسعود بن محمد السلجوقي بالموصل قتل سنة ثلاث أو أربع أو ثماني عشرة وخمسمائة وقد جاوز ستين سنة. والطغرائي: نسبة إلى من يكتب الطغراء: وهي الطرة التي تكتب في أعلى الكتب فوق البسملة بالقلم الغليظ ومضمونها: نعوت الملك الذي صدر الكتاب عنه وهي لفظة أعجمية. قال ابن الأثير في الكامل: كان الأستاذ يميل إلى صنعة الكيمياء وله فيها تصانيف قد ضيعت من الناس أموالا لاتحصى قيل: وتلك التصانيف معتبرة عند أهلها. منها: كتاب مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة ومنها: جامع الأسرار وتراكيب النوار وكتاب حقائق الاستشهادات بين فيه إثبات صناعة الكيمياء ورد على ابن سينا في إبطالها بمقدمات من كتاب الشفاء يقال: إنه ألقى مثقالا من الإكسير على ستين ألف وأخرى على ثلاثمائة ألف فصار ذهباً. وإنما سمى قصيدته: لامية العجم تشبيها بلامية العرب التي مطلعها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل واللاميات كثيرة منها: لامية حسان الهند مير غلام علي آزاد البلجرامي في ديوانه - ولله درها - وما أبلغها وأفصحه؟ أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد وفي ابن خلكان: أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة كان شاعرا مجيدا إماما في علوم الأدب ورزق السعادة في خطبه التي وقع الإجماع على أنه ما عمل مثلها جمع فيها بين حسن السبك وجودة المعاني وفيها دلالة على غزارة علمه وقوة قريحته وهو من أهل ميافارقين وكان خطيب حلب وبها اجتمع بأبي الطيب المتنبي وقالوا: إنه سمع عليه بعض ديوانه طاف البلاد ومدح الملوك والوزارء والرؤساء وله في سيف الدولة بن حمدان غر القصائد ونخب المدائح ومعظم شعره جيد وله ديوان كبير. وكان سيف الدولة كثير الغزوات فلهذا أكثر الخطيب من خطب الجهاد ليحض الناس عليه ويحثهم على نصرته وكان رجلا صالحا ذكر الشيخ تاج الدين الكندي - بإسناده المتصل إلى الخطيب - أنه قال: لما عملت خطبة المنام وخطبت بها يوم الجمعة رأيت ليلة السبت في منامي كأني بظاهر ميافارقين عند الجبانة فقلت: ما هذا الجمع؟. فقال لي قائل: هذا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فقصدت إليه لأسلم عليه فلما دنوت منه التفت فرآني فقال: مرحبا يا خطيب الخطباء كيف تقول؟ وأومى إلى القبور قلت: لا يخبرون بما إليه آلوا ولو قدروا على المقال لقالوا: ... - إلى آخر ما ذكره ابن خلكان - فقال لي: أحسنت ادن فدنوت منه صلى الله عليه وسلم فأخذ وجهي وقبله وتفل في فمي وقال: وفقك الله.

قال: فانتبهت من النوم وبي من السرور ما يجل عن الوصف فأخبرت أهلي بما رأيت. قال الكندي: وبقي الخطيب بعد هذا المنام ثلاثة أيام لا يطعم طعاما ولا يشتهيه وتوجد في فيه رائحة المسك ولم يعش إلا مدة يسيرة ولما استيقظ من منامه كان على وجهه أثر نور وبهجة لم يكن قبل ذلك وقص رؤياه على الناس وقال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا وعاش ثمانية عشر يوما لا يستطعم فيها طعاما ولا شرابا من أجل تلك التفلة وبركتها. قال الوزير أبو القاسم بن المغربي: رأيت ابن نباتة في المنام بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دفع لي ورقة فيها سطران بالأحمر وهما: قد كان أمن لك من قبل ذا ... واليوم أضحى لك أمنان والصفح لا يحسن عن محسن ... وإنما يحسن عن جاني ولد سنة 335هـ، وتوفي سنة 374هـ، ببغداد. قال: كنت يوما قائلا في دهليزي فدق علي الباب. فقلت: من؟ فقال: رجل من أهل الشرق. فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل: ومن لم يمت بالسيف مات بعلة ... تنوعت الأسباب والداء واحد فقلت: نعم فقال: أرويه عنك؟ قلت: نعم فما كان آخر النهار دق علي الباب فقلت: من؟ فقال: رجل من أهل تاهرت من الغرب. فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل: ومن لم يمت ... الخ ... ؟ فقلت: نعم فقال: أرويه عنك؟ فقلت: نعم وعجبت كيف وصل شعري إلى الشرق والغرب؟ قلت: وعدم القدرة على الشعر ونظمه ثلمة في كون العالم من الطبقة الأولى لأهل العلم كما حرره وقدره شيخنا وبركتنا: محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - وتقدم. أبو العباس عبد الله بن محمد المعتز بالله ابن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد الهاشمي: أخذ الأدب عن المبرد وثعلب وغيرهما كان أديبا بليغا شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة حسن الإبداع للمعاني مخالطا للعلماء والأدباء معدودا في جملتهم شديد السمرة مسنون الوجه يخضب بالسواد رخي البال في عيش رغيد إلى أن خلع المقتدر وبويع ابن المعتز ولقبوه: المرتضي بالله. وقيل: المنصف بالله. وقيل: الغالب بالله. وقيل: الراضي بالله. أقام يوما وليلة ثم أعيد المقتدر واختفى ابن المعتز ثم أخذه المقتدر وقتله يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين والقصة مشهورة وفيها طول وهذه خلاصتها. وله من التصانيف: كتاب الزهر والرياض وكتاب البديع وكتاب مكاتبات الإخوان وكتاب الجوارح

والصيد وكتاب السرقات وكتاب أشعار الملوك وكتاب الآداب وكتاب حلى الأخبار وكتاب طبقات الشعراء وكتاب الجامع في الغناء وغير ذلك وله أشعار رائقة وتشبيهات بديعة فائقة وله الأبيات المشهورة: سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من المطر فطالما نبهتني بالصبوح لها ... في غرة الفجر والعصفور لم يطر أصوات رهبان دير في صلاتهم ... سود المدارع نعارين في السحر مزمزمين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلا من الشعر كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... بالسحر يطبق جفنيه على حور لاحظته بالهوى حتى استقاد له ... طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر وجاءني في قميص الليل مستترا ... يستعجل الخطو أذيالي على الأثر ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد: أبو حفص بن الفارض الحموي الأصل المصري المولد والدار والوفاة شيخ الصوفية وصوفي الشعراء له ديوان شعر لطيف وأسلوبه فيه رائق طريف ينحو ينحى طريقة الفقراء وله قصيدة مقدار ستمائة بيت مشتملة على اصطلاحهم ومنهجهم. قال ابن خلكان: سمعت أنه كان رجلا صالحا كثير الخير على قدم التجرد ثلاثة بمكة زمانا وكان حسن الصحبة محمود العشرة. أخبرني بعض أصحابه: أنه ترنم يوما وهو في خلوة ببيت الحريري - صاحب المقامات -: من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط فسمع قائلا يقول ولم ير شخصه: محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هبط ولد في الرابع من ذي القعدة سنة 576هـ، بالقاهرة وتوفي بها يوم الثلاثاء في الثاني من جمادى الأولى سنة 632هـ، ودفن من الغد بسفح المقطم. والفارض: هو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال. انتهى. قلت: وهو أيضا ممن اختلف في إسلامه وكفره أهل العلم بناء على مقالاته التي تقضي بالإلحاد والوحدة وهو تلميذ الشيخ محي الدين بن عربي الطائف - عفا الله عنهما - وله دوبيت ومواليا وألغاز وقد طبع ديوانه مع الشرح لهذا العهد بمصر وهو موجود عندي وما ألطف قوله من جملة قصيدة طويلة: أهلا بمن لم أكن أهلا بموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج وله من قصيدة أخرى:

لم أخل من حسد عليك فلا تضع ... سهري بتشييع الخيال المرجف وأسأل نجوم الليل زار الكرى ... جفني وكيف يزور من لم يعرف ومنها: على تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى الكاتب أبو الفضل. من فضلاء عصره وأحسنهم نظما ونثرا وخطا وأكبرهم مروءة كان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين أبي الفتح أيوب بالديار المصرية وتوجه في خدمته إلى البلاد الشرقية ثم عاد معه إلى القاهرة. ولد في سنة 581هـ بمكة - حرسها الله تعالى - وتوفي عصر يوم الأحد سنة 656هـ. قال ابن خلكان: اجتمعت به ورأيته فوق ما سمعت عنه عن مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السجايا وكان متمكنا من صاحبه كبير القدر عنده لا يطلع على سره الخفي غيره ومع هذا كله فإنه كان لا يتوسط عنده إلا بالخير ونفع خلقا كثيرا بحسن وساطته وجميل سفارته وأنشدني كثيرا من شعره منه: يا روضة الحسن صلي فما عليك ضير ... فهل رأيت روضة لبس بها زهير وشعره كله لطيف وهو كما يقال: السهل الممتنع وأجازني رواية ديوانه. انتهى ملخصاً أبو علي دعبل بن علي الخزاعي: الشاعر المشهور أصله من الكوفة ويقال: من قرقيسا وأقام ببغداد وقيل: دعبل: لقب واسمه: الحسن أو عبد الرحمن أو محمد. كان أطروشا وفي قفاه سلعة وكان شاعرا مجيدا إلا أنه كان بذيء اللسان مولعا بالهجو والحط من أقدار الناس وهجا الخلفاء فمن دونهم منهم: المأمون وطال عمره وشاع ذكره وكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك. ومن كلامه: من فضل الشعر أنه: لم يكذب أحد قط إلا اجتواه الناس إلا الشاعر فإنه كلما زاد كذبه زاد المدح له ثم لا يقنع له بذلك حتى يقال له: أحسنت والله فلا يشهد له شهادة زور إلا ومعها يمين بالله تعالى. ولد سنة 148هـ، وتوفي سنة 246هـ، ودعبل: بكسر الدال: اسم الناقة الشارف. ومدح دعبل علي بن موسى الرضا بقصيدة أولها: مدارس آيات خلت عن تلاوة ... ومهبط وحي مقفر العرصات فأمر له بجائزة سنية فقال: ما قلتها إلا لوجه الله وسأل منه قميصا يباشر جسده الشريف ليجعله في كفنه لعل الله يبرد به مضجعه فأعطاه ذلك. ولما سمعه فضل بن سهل حمل إلى دعبل ثلاثين ألف درهم وحمل إليه المأمون مالا جزيلا غفر الله له ذنوبه.

القاضي التنوخي أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد: صاحب كتاب الفرج بعد الشدة وله ديوان شعر جيد أكبر من ديوان أبيه وكتاب نشوان المحاضرة وكتاب المستجاد من فعلات الأجواد نزل بغداد وأقام بها وحدث إلى حين وفاته وكان سماعه صحيحا وكان أديبا شاعرا إخباريا تقلد القضاء والأعمال من قبل الإمام المطيع لله. ولد سنة 327هـ، بالبصرة وتوفي ببغداد سنة 384هـ، ذكره وأباه الثعالبي ثم قال في حقه: هلال ذلك القمر وغصن هاتيك الشجر والشاهد العدل بمجد أبيه وفضله والفرع المشيد لأصله والنائب عنه في حياته والقائم مقامه بعد وفاته ومن المنسوب إليه: قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المترهب نور الخمار ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يلتهب وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب وإذا أتت عين لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها: اذهبي لا تذهبي قال ابن خلكان: وما ألطف قوله: اذهبي لا تذهبي. وأما ولده: أبو القاسم علي بن المحسن فكان أيضا أديبا فاضلا له شعر صحب أبا العلاء المعري. وأخذ عنه كثيرا وهم أهل بيت كلهم: فضلاء أدباء ظرفاء. ولد في منتصف شعبان سنة خمس وستين وثلاثمائة بالبصرة وتوفي مستهل المحرم يوم الأحد سنة سبع وأربعين وأربعمائة. انتهى. إبراهيم بن العباس بن محمد الصولي: كان أحد الشعراء المجيدين وله ديوان شعر كله نخب وهو صغير ومن رقيق شعره قوله: دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشط بليلى عن دنو مزارها وإن مقيمات بمنعرج اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها وله نثر بديع فمن ذلك ما كتبه عن أمير المؤمنين إلى بعض البغاة الخارجين يهددهم ويتوعدهم وهو: أما بعد فإن لأمير المؤمنين أناة فإن لم تغن عقب بعدها وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه والسلام وهذا الكلام مع وجازته في غاية الإبداع فإنه ينشأ منه بيت شعر له أوله: أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه وله كل مقطوع بديع توفي بسر من رأى في سنة 243هـ. أبو إسحاق إبراهيم بن علي المعروف: بالحصري القيرواني الشاعر المشهور له ديوان شعر وكتاب زهر الآداب وثمر الألباب جمع فيه كل غريبة وكتاب المصون في سر الهوى المكنون ومن شعره: إني أحبك حبا ليس يبلغه ... فهم ولا ينتهي وصفي إلى صفته أقصى نهاية علمي فيه معرفتي ... بالعجز مني عن إدراك معرفته

توفي في سنة 213هـ، والقيروان: بفتح القاف: مدينة بأفريقية1 بناها عقبة بن عامر الصحابي - رضي الله عنه - وهو في اللغة: القافلة وهو: فارسي معرب: كاروان. وقال ابن القطاع اللغوي: بالفتح: الجيش وبضمها: القافلة يقال: إن قافلة نزلت بذلك المكان ثم بنيت المدينة في موضعها فسميت بها وهو: اسم للجيش أيضاً. أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة الأندلسي الشاعر له ديوان شعر أحسن فيه كل الإحسان ذكره ابن بسام في الذخيرة وأثنى عليه وقال: كان مقيما بشرق الأندلس ولم يتعرض لاستماحة ملوك طوائفها مع تهافتهم على أهل الأدب ومن شعره في عشية أنس وقد أبدع فيه: وعشي أنس أضجعتني نشوة ... في تمهد مضجعي وتدمث خلعت علي به الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعي يرقى والغمامة تنفث ولد في سنة 450هـ بها سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن عثمان الأشهبي الغزي شاعر محسن: ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق له ديوان شعر اختاره لنفسه وذكر في خطبته: أنه ألف بيت وذكره العماد الكاتب في الخريدة وأثنى عليه وقال: إنه جاب البلاد وتغرب وأكثر النقل والحركات وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان وبقي الناس ومن شعره: من آلة الدست لم يعط الوزير سوى ... تحريك لحيته في حال إيماء إن الوزير ولا أزر يشد به ... مثل العروض له بحر بلا ماء وله: إشارة منك تغنيني وأحسن ما ... رداك لام غداة البين بالعنم حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحل بالضم سلك العقد في الظلم تبسمت فأضاء الليل فالتقطت ... حبات منتثر في ضوء منتظم وهو ما تستملحه الأدباء وتستظرفه الظرفاء. ولد بغزة سنة 441هـ، وتوفي سنة 524هـ، وكان يقول لما حضرته الوفاة: أرجو أن يغفر الله لي ثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي وأني شيخ كبير وأني غريب رحمه الله وحقق رجاه. وإنما قال: إني غريب: لأنه مات بين مرو وبلخ من بلاد خراسان ونقل إلى بلخ ودفن بها. الشيخ عبد العزيز اللبناني: لم أقف له على ترجمة وذكره السيد أزاد في كتابه: الخزانة العامرة وقال: طالعت ديوانه الذي صدر من إيران إلى هند وتاريخ كتابته: سنة ست وسبعين وستمائة وهو في غاية المتانة وعليه ديباجة حررها ولده بالعربية في نهاية البلاغة والفطانة وهي: اللهم يا واسم البوادي بأطواق

_ 1 إفريقية سميت باسم إفريقين بن قيس بن صيفي الحميري، وهذا الذي افتتح إفريقية وسميت به وقيل: ملكها جزجير ويومئذ سميت البربر قال لهم: ما أكثرو بربرتكم، ويقال إفريقس والله أعلم، سيد نور الحسن خان سلمه ربه.

الأيادي وناقع غلة الصوادي بالروائح والغوادي ودافع معرة العوادي من الحواضر والبوادي صل على نبينا الهادي محمد خير من حضر النوادي وعلى آله وصحبه بدور الظلم والدادي ما غنى الحمام الشادي وارتجز بأذناب القلائص الحادي وأنلني منية فؤادي يوم ينادي المنادي ... الخ ومن أشعار اللبناني ما حكاها أزاد في كتابه المذكور وهو تشبيب في قصيدة منها: بالله يا حادي الأنضاء ما الخبر ... أعرس الركب بالبطحاء أم عبروا إلا نشدت فؤادي عند كاظمة ... فإنه ضل حيث الضال والسمر أما مررت بوادي الأثل من إضم ... أما دعتك بها الآرام والعفر؟ خريدة ما جننت بالحسن وحبتها ... إلا ومقلتها بالسحر تعتذر طالت نواها كما طالت غدائرها ... وفي خطاها كما في وصلها قصر وإذا انتهيت إلى هذا المقام فلعلك تسأم من هذا النوع من الكلام مع أن إحصاء شعراء الإسلام أمر تنبو عنه الأوهام انظر في قلائد العقيان لأبي الفتح ابن خاقان وريحانة الألباء للخفاجي ونفحة الريحانة وغير ذلك مما ألف في هذا الباب وهو أكثر من أن يحصى وكذلك الدواوين في الشعر مما لا يستقصى يتضح لك حقيقة المرام. وأما الشعراء القدماء: فأشعرهم نذكر أسماءهم هاهنا: منهم: امرؤ القيس الكندي وهو الذي فتح لهم أفانين الشعر. ومنهم: النابغة الذبياني واسمه: زياد بن عمر وقد قدمه بعض الرواة على امرئ القيس لرقة شعره. ومنهم: زهير بن أبي سلمى - بضم السين - المازني هو أشدهم أمرا وأمدحهم وأجرؤهم على الكلام. وابنه: كعب بلغه الإسلام فأسلم ومدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما هجاه وتاب بعد ما عصاه وأنشد عنده قصيدته المشهورة: بانت سعاد فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أهدر دمه وأجازه ببردة له صلى الله عليه وسلم وأسلم فحسن إسلامه ذكره في مدينة العلوم وتكلم أهل الحديث على صحة هذه الرواية والله أعلم. ومنهم: الأعشى واسمه: ميمون بن قيس بن ثعلبة كان لا يمدح أحدا إلا رفع منه ولا يهجو أحدا إلا وضع عنه. ومنهم: طرفة بن العبد بن سفيان فضله بعض الشعراء على غيره وزعم لبيد: أنه أشعر الناس. ومنهم: أوس بن حجر من بني أسد أدرك زهيرا والنابغة وكان شاعر تميم. ومنهم: لبيد بن ربيعة من بني عامر بن صعصعة لم يدرك أحد من هؤلاء الإسلام غيره لطول عمره وكان أتقاهم تكلفا وأقلهم سقطاً. ومنهم: عدي بن زيد من بني امرئ القيس: كان الفضل بن محمد يقدمه عليهم بحسن استعاراته وحلاوة عباراته. ومنهم: عبيد بن الأبرص: هو أقدمهم سنا وقد جعلوه امرؤ القيس. ومنهم: بشر الأسدي: وهو عاشرهم وأهل الحجاز يقدمونه عليهم ويرون أنه أشعرهم وأسدهم سياقا للحديث - والله أعلم بالصواب.

علماء التواريخ

علماء التواريخ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي الحافظ عماد الدين بن الخطيب شهاب الدين المعروف: بالحافظ ابن كثير. ولد سنة سبعمائة وقدم دمشق وله نحو سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه وحفظ التنبيه ومختصر ابن الحاجب. وتفقه بالبرهان ابن الفزاري والكمال ابن شهبة ثم صاهر المزي وصحب شيخ الإسلام ابن تيمية ومدحه في كتابه الباعث الحثيث أحسن مدح. وقرأ في الأصول على الأصبهاني وكان كثير الاستحضار وقليل النسيان جيد الفهم مشاركا في العربية ينظم نظما وسطا. قال ابن حجي: ما اجتمعت به قط إلا استفدت منه وقد لازمته ست سنين وذكره الذهبي في معجمه المختص فقال: الإمام المحدث المفتي البارع ووصفه بحفظ المتون وسمع من ابن عساكر وغيره. ولازم الحافظ المزي وتزوج بابنته وسمع عليه أكثر تصانيفه. وأخذ عن الشيخ تقي الدين بن تيمية فأكثر عنه وصنف التصانيف الكثيرة في التفسير والتاريخ والأحكام. وقال ابن حبيب فيه: إمام ذوي التسبيح والتهليل وزعيم أرباب التأويل سمع وجمع وصنف وأطرب الأسماع بأقواله وشنف وحدث وأفاد وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد واشتهر بالضبط والتحرير وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير. مات بدمشق خامس عشر شعبان فقد أجاز لمن أدركه حيا وهو القائل: تمر بنا الأيام تترى وإنما ... تساق إلى الآجال والعين تنظر ولا عائد ذاك الشباب الذي مضى ... ولا زائل هذا المشيب المكدر ولو قال: فلا عائد صفو الشباب لكان أصنع أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري: وقيل: يزيد بن كثير بن غالب صاحب التاريخ الشهير والتفسير الكبير. كان إماما في فنون كثيرة منها: الحديث والفقه والتاريخ والتفسير وغير ذلك. وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارة فضله. وكان من الأئمة المجتهدين لم يقلد أحدا وكان أبو الفرح المعافى بن زكريا النهرواني المعروف: بابن طرار على مذهبه وكان ثقة في نقله وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء في جملة المجتهدين ولد سنة 224هـ، بآمل طبرستان وتوفي في شوال سنة 310هـ، ببغداد - رحمه الله - كذا في ابن خلكان. عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف: بابن الأثير الجزري: صاحب التاريخ المسمى بالكامل

المطبوع بمصر حالا ولد بالجزيرة ونشأ بها ثم سار إلى الموصل مع والده وأخويه وسمع بها وقدم بغداد مرارا حاجا ورسولا من صاحب الموصل وسمع من فضلائها ثم رحل إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا إلى التوفر على النظر في العلم والتصنيف وكان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل والواردين عليها. وكان إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به حافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة خبيرا بأنساب العرب ووقائعهم وأخبارهم وأيامهم. صنف في التاريخ كتابا كبيرا سماه: الكامل ابتدأ فيه من: أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة وهو من خيار التواريخ وقفت عليه. واختصر كتاب الأنساب لأبي سعد السمعاني وزاد عليه أشياء أهملها ونبه على أغلاط واستدرك عليه فيه في مواضع وله: كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات. ولد في سنة 555هـ، ومات في سنة 630هـ. وقال ابن خلكان: اجتمعت به فوجدته رجلا مكملا في الفضائل وكرم الأخلاق وكثرة التواضع فلازمت الترداد إليه وكان بينه وبين الوالد مؤانسة أكيدة فكان بسببها يبالغ في الرعاية والإكرام. انتهى. أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التميمي الجوزي الصديقي البغدادي: الفقيه المحدث المفسر الواعظ الحنبلي المعروف: بابن الجوزي. الحافظ الملقب: جمال الحفاظ كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ صنف متونا في فنون عديدة. منها: زاد المسير في علم التفسير أربعة أجزاء أتى فيه بأشياء غريبة. وله في الحديث تصانيف كثيرة حسنة نافعة. منها: الموضوعات في أربعة أجزاء أورد فيها كل حديث موضوع لكن تعقب عليه في بعضها وله: تلبيس إبليس وهو نافع جدا مفيد لمن يريد الآخرة. والمنتظم في تواريخ الأمم وهو كبير. وكتاب تلقيح فهوم الأثر على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة. ولقط المنافع في الطب. وبالجملة: فكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئا كثيرا والناس يغالون في ذلك حتى يقال: إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس عليها فكان ما خص كل يوم تسعة كراريس وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله1 العقل ويقال: إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل منها شيء كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك

_ 1 لكن رأينا أميرنا ورئيسنا حضرتنا النواب على الجاه أمير الملك بهادر، مؤلف هذا الكتاب متع الله المسلمين بعلمومه إلى يوم الحساب يصنف ويكتب في يوم واحد أجزاء عديدة، صحيحة لا يغالط فيها غالباً فيقبله العقل ولا يأباه. والله يختص برحمته من يشاء علي حسين عفا الله عنه.

فكفت وفضل منها وله أشعار كثيرة وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة. فمن أحسن ما يحكى عنه: أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي - رضي الله عنهما - فرضي الكل بما يجيب به الشيخ فأقاموا شخصا سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجالس وعظه فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته وفي رواية: من كانت ابنته في بيته ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك. فقال السنية: هو أبو بكر لأن ابنته عائشة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت الشيعة: هو علي بن أبي طالب لأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحته وهذه من لطائف الأجوبة ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلا عن البديهة وله محاسن كثيرة يطول شرحها قاله ابن خلكان. وزاد في مدينة العلوم: وسئل: ما لنا نرى الكوز الجديد إذا صب فيه الماء ينش ويخرج منه صوت؟ فقال: يشكو ما لاقاه من أذى النار. وسئل: إن الكوز إذا ملأ فاه لا يبرد فإذا نقص برد؟ فقال: حتى تعلموا أن الهوى لا يدخل إلا على ناقص وسئل: كيف نسب قتل الحسين إلى يزيد وهو بدمشق؟ فأنشد: سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك وله من هذا النوع أجوبة لطيفة كثيرة وله: كتاب نزهة الناظر للمقيم والمسافر في المحاضرات كتبه سيدي الوالد العلامة: حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري - رحمه الله - بيده الشريفة لحسن سبكه ولطف مطالبه. ولد سنة ثمان أو عشرة وخمسمائة وتوفي ثاني عشر رمضان سنة 592هـ، ببغداد ودفن بباب حرب وتوفي والده سنة 514هـ، والجوزي: نسبة إلى فرضة الجوز وهو موضع مشهور سبط ابن الجوزي شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزاوغلي الواعظ المشهور حنفي المذهب له صيت وسماع في مجالس وعظه وقبول عند الملوك وغيرهم. روى عن جده ببغداد وسمع ابن طبرزد وسمع بالموصل ودمشق وحدث بها وبمصر وله: تاريخ: مرآة الزمان. قال ابن خلكان: رأيته بخطه في أربعين مجلداً. وقال صاحب مدينة العلوم: وأنا رأيته في ثمان مجلدات لكن ضخام بخط دقيق وله: كتاب إيثار الإنصاف ومنتهى السول في سيرة الرسول واللوامع في أحاديث المختصر والجامع وتفسير القرآن توفي سنة 653هـ، بدمشق ومولده في سنة 581هـ، ببغداد وكان يقول: أخبرتني أمي أن مولدي سنة اثنتين وثمانين - والله أعلم. ابن خلكان شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم ابن أبي بكر بن خلكان البرمكي الشافعي كان ذا فضل في كل فن موصوفا بكرم الأخلاق والديانة ثقة في نقله صنف تاريخا سماه: وفيات الأعيان في

مجلدين كبيرين قد طبع بمصر القاهرة لهذا العهد وهو بخطه في خمس مجلدات رآه صاحب مدينة العلوم وكان قاضيا بالقاهرة مدة ذكره في تاريخه. ولد بعد صلاة العصر يوم الخميس حادي عشر ربيع الآخر سنة 608هـ، بمدينة إربل بالمدرسة المظفرية ذكر تاريخ ولادته في ترجمة زينب بنت الشعري في آخر الأسامي المذكورة في حروف الزاي. وتوفي يوم السبت السادس والعشرين من رجب سنة 681هـ، بدمشق المحروسة. تفقه أولا على أبيه بإربل ثم انتقل بعده إلى الموصل وحضر درس كمال الدين بن يونس ثم انتقل إلى حلب. وقرأ النحو على أبي البقاء يعيش بن علي النحوي والفقه على أبي المحاسن يوسف بن شداد ثم قدم دمشق واشتغل على ابن الصلاح. ثم انتقل إلى القاهرة ثم ولي قضاء المحلة ثم صار قاضي القضاة بالشام وله في الأدب اليد الطولى وشعره أرق وأحسن وأعذب رحمه الله تعالى. شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن شيخ الإسلام علاء الدين علي المعروف بابن حجر العسقلاني: المصري صاحب: فتح الباري شرح صحيح البخاري الإمام العلامة الحجة هادي الناس إلى المحجة له تصانيف على أكف القبول مرفوعة وآثار حسنة لا مقطوعة ولا ممنوعة. جمع من العلوم والفضائل والحسنات والكمالات والمبرات والتصنيفات والتأليفات مالا يأتي عليه الحصر. كان حافظا دينا ورعا زاهدا عابدا مفسرا شاعرا فقيها أصوليا متكلما ناقدا بصيرا جامعاً. حرر ترجمته جمع من الأعيان وعدوه في جملة البالغين إلى درجة الاجتهاد في هذا الشأن منها: كتاب الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر. وتشهد بفضائله وغزارة علومه وكثرة فواضله تآليفه الموجودة بأيدي الناس وقد رزق السعادة التامة والإتقان الكبير والإنصاف الكامل فيها منها: بلوغ المرام من أدلة الأحكام وهو كتاب لو خط بماء الذهب وبيع بالأرواح والمهج لما أدى حقه. وقد شرحته بالفارسية وسميته: مسك الختام. ومنها: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. وكتاب: تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. وتعجيل المنفعة في رجال الأربعة إلى غير ذلك من الرسائل المختصرة والدفاتر المطولة - والله يختص برحمته من يشاء - وقد ذكرت له ترجمة في أول مسك الختام في إتحاف النبلاء المتقين وهو الإمام العلامة حافظ العصر قاضي القضاة شيخ الإسلام ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة وتوفي ليلة السبت المسفر صباحها في ثامن عشر ذي الحجة سنة ثمان وخمسين وثمانمائة وكان عمره إذ ذاك تسعة وسبعين سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام وصلى عليه خلق كثير.

قال في مدينة العلوم: ومن جملتهم: أبو العباس الخضر عليه السلام رآه عصابة من الأولياء. انتهى. قلت: وفيه نظر واضح عند من يقتدي بأهل الحديث. وتصانيفه أكثر من أن تحصى وكلها أتقن من تأليفات السيوطي وشهرته تغني عن إكثار المدح له وإطالة ترجمته وهو من مشائخي في علم الحديث وقد انتفعت بكتبه كثيرا ولله الحمد. خليل بن أيبك الشيخ: صلاح الدين الصفدي الشافعي: الإمام الأديب الناظم الناثر صاحب التاريخ الكبير وهو بخطه أكثر من خمسين مجلدا ولد سنة 669هـ، وقرأ يسيرا من الفقه والأصلين وبرع في الأدب: نظما ونثرا وكتابة وجمعا وتتلمذ على الشيخ: تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي1 ولازم الحافظ فتح الدين بن سيد الناس وبه تمهر في الأدب. وقال: كتبت أزيد من ستمائة مجلد تصنيفاً. مات بالطاعون ليلة عاشر شوال سنة 794هـ. - رحمه الله تعالى الحافظ: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي المعروف: بالخطيب صاحب تاريخ بغداد. كان من الحفاظ المتقنين والعلماء المتبحرين ولو لم يكن له سوى التاريخ لكفاه فإنه يدل على اطلاع عظيم وصنف قريبا من مائة مصنف وفضله أشهر من أن يوصف. أخذ الفقه عن: أبي الحسن المحاملي والقاضي أبي الطيب الطبري وغيرهما. وكان فقيها فغلب عليه الحديث والتاريخ. ولد يوم الخميس في سنة 393هـ، وتوفي يوم الاثنين سابع ذي الحجة وقيل: في شوال سنة 463هـ، ببغداد وحكايته في إبطال خط النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه اليهود لإسقاط الجزية عنهم واحتجوا به مشهورة. وإن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي من جملة من حمل نعشه لأنه انتفع به كثيرا وكان يراجعه في تصانيفه والعجب أنه كان في وقته: حافظ الشرق وأبو عمرو يوسف بن عبد البر - صاحب كتاب الاستيعاب -: حافظ المغرب وماتا في سنة واحدة وقد كان تصدق بجميع ماله: وهو مائتا دينار فرقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه وأوصى أن يتصدق عنه بجميع ماله وما عليه من الثياب ووقف جميع كتبه على المسلمين ولم يكن له عقب وصنف أكثر من ستين كتابا ورؤيت له منامات حسنة صالحة بعد موته وكان قد انتهى إليه علم الحديث وحفظه في وقته هذا آخر ما نقلته من كتاب ابن النجار - رحمه الله تعالى الحافظ: محب الدين بن النجار صاحب: ذيل تاريخ بغداد جاوز ثلاثين مجلدا وذيله: دال على سعة حفظه وعلو شأنه. وهو: محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله الحافظ الكبير الثقة له: مصنف حافل في مناقب الشافعي وتصانيف أخر في السنن والأحكام ولد في سنة 578هـ، وله: الرحلة الواسعة إلى الشام ومصر والحجاز ومرو وأصبهان وهراة ونيسابور وكانت رحلته سبعا وعشرين سنة توفي ببغداد في سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

_ 1 هو من تلامذه الحافظ الذهبي، كما حكاه تاج الدين في الطبقات الكبرى في ترجمته نقلاً عن الذهبي في معجمه المختص، وفيه سمعت ومنه وسمع مني. أبو الفتح مولوي محمد عبد الرشيد الشوبياني سلمه ربه.

تاج الإسلام: أبو سعيد السمعاني عبد الكريم بن أبي بكر محمد بن أبي المظفر المروزي الفقيه الشافعي. رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها وسافر إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خراسان عدة دفعات وإلى قومس والري وأصبهان وهمذان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها من المدن التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها. ولقي العلماء وأخذ عنهم وجالسهم وروى عنهم واقتدى بأفعالهم الجميلة وآثارهم الحميدة وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ. وصنف التصانيف الحسنة الغزيرة الفائدة منها: ذيل تاريخ بغداد وهو نحو خمسة عشر مجلدا وتاريخ مرو يزيد على عشرين مجلدا وكذلك: الأنساب نحو ثمان مجلدات وقد وقفت عليه ولله الحمد. ولد سنة 506هـ، وتوفي بمرو سنة 562هـ وكان أبوه وجده أيضا من الفضلاء العلماء النبلاء ذكرهما ابن خلكان. محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز: شمس الدين أبو عبد الله الذهبي1 محدث العصر إمام الوجود حفظا وذهبي العصر معنى ولفظاً. ولد سنة 673هـ، وطلب الحديث وهو ابن ثمان عشرة. سمع بدمشق ومصر وبعلبك والإسكندرية. وسمع منه الجمع الكثير وكان شديد الميل إلى رأي الحنابلة كثير الإزراء بأهل الرأي فلذلك لايصفهم في التراجم. له التصانيف الجزيلة في الحديث وأسماء الرجال قرأ القرآن وأقرأه بالروايات صنف: التاريخ الكبير ثم الأوسط المسمى: بالعبر والصغير المسمى: بدول الإسلام وتاريخه من أجل التواريخ. وقف الشيخ كمال الدين بن الزملكاني على تاريخ الإسلام له جزءا بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعة فقال: هذا كتاب جليل وتاريخه المذكور: عشرون مجلدا وكتاب تاريخ النبلاء عشرون مجلداً. وله: طبقات القراء. وطبقات الحفاظ مجلدين. وميزان الاعتدال ثلاث مجلدات. والمثبت في الأسماء والأنساب مجلد. ونبأ الرجال مجلد. وتهذيب التهذيب مجلد. واختصار سنن البيهقي خمس مجلدات. وتنقيح أحاديث التعليق لابن الجوزي. والمستحلي اختصار المحلي.

_ 1 ومن تلامذته السبكي الكبير كما حكاها تاج في الطبقات الكبرى.

والمقتنى في الضعفاء. واختصار المستدرك للحاكم مجلدان. واختصار تاريخ الخطيب مجلدان. وتوقيف أهل التوفيق على مناقب الصديق مجلد. ونعم السمر في سيرة عمر مجلد. والتبيان في مناقب عثمان مجلد. وفتح الطالب في أخبار علي بن أبي طالب مجلد. ومعجم أشياخه وهو ألف وثلاثمائة شيخ واختصار كتاب الجهاد لابن عساكر مجلد. وما بعد الموت مجلد. وهالة البدر في عدد أهل بدر. وله في تراجم الأعيان: مصنف لكل واحد منهم قائم الذات مثل: الأئمة الأربعة ومن يجري مجراهم لكن أدخل الكل في تاريخ النبلاء ومن شعره: إذا قرأ الحديث علي شخص ... وأخلى موضعا لوفاة مثلي فما جازى بإحسان لأني ... أريد حياته ويريد قتلي وله: العلم: قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين الرسول وبين رأي فقيه توفي ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة 748هـ ذكر له ابن شاكر الكتبي ترجمة حسنة في: فوات الوفيات إن شئت فراجعه. عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان القشيري مولى بني أمية يعرف: بابن أبي الدنيا. ولد سنة 208هـ، وتوفي سنة 383هـ وكان يؤدب المكتفي بالله في حداثته. وهو أحد الثقات المصنفين للأخبار والسير والتاريخ له كتب كثيرة تزيد على مائة كتاب. سمع من المشائخ. وروى عنه جماعة قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي وكان صدوقا إذا جالس أحدا: إن شاء أضحكه وإن شاء أبكاه - رحمه الله تعالى. عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر ابن داود بن مهران أبو محمد بن أبي حاتم التميمي الحنظلي الإمام ابن الإمام والحافظ ابن الحافظ سمع أباه وغيره. قال ابن مندة: صنف المسند ألف جزء وله: كتاب الزهد والكنى والفوائد الكبرى ومقدمة الجرح والتعديل والتاريخ. وصنف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار وهذا يدل على سعة حفظه وإمامته وكتاب الرد على المجسمة وتفسير كبير سائر آثاره مسندة في أربع مجلدات.

قال أبو يعلى الخليلي: كان يعد من الأبدال وقد أثنى عليه جماعة بالزهد والورع التام والعلم والعمل توفي في المحرم سنة 327هـ - رحمه الله تعالى. أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن حبان الصدفي المحدث المؤرخ المصري كان خبيرا بأحوال الناس ومطلعا على تواريخهم عارفا بما يقوله جمع لمصر تاريخين وما قصر فيهما. ولد سنة 281هـ، وتوفي سنة347هـ ورثاه الخولاني الخشاب بما منه قوله: ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه ... حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا أرخت موتك في ذكري وفي صحفي ... لمن يؤرخني إذا كنت محسوبا هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم البغدادي: الأديب الفاضل صاحب كتاب: البارع في أخبار الشعراء المولدين جمع فيه مائة وواحدا وستين شاعرا وافتتحه بذكر بشار بن برد العقيلي وختمه بمحمد ابن عبد الملك بن صالح واختار فيه من شعر كل واحد عيونه. وبالجملة: فإنه من الكتب النفيسة يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم فإنه اختصر أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبلتها وكتاب الخريدة وكتاب الخطيري والباخرزي والثعالبي: فروع عليه وهو الأصل الذي نسجوا على منواله. وله: كتاب النساء وما جاء فيهن من الخير ومحاسن ما قيل فيهن من الشعر والكلام الحسن وكان أبو منصور - جد أبيه - منجم أبي جعفر المنصور - أمير المؤمنين - وكان مجوسيا وهم أهل بيت فيهم: جماعة من الفضلاء والأدباء والشعراء جالسوا الخلفاء ونادموهم وقد عقد لهم الثعالبي في كتاب اليتيمة بابا مستقلا ذكر فيه جماعة منهم. وكان حافظا راوية للأشعار حسن المنادمة لطيف المجالسة توفي وهو حديث السن في سنة 288هـ رحمه الله تعالى. أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي: الشاعر المشهور صاحب: دمية القصر وعصرة أهل العصر وهو ذيل: يتيمة الدهر للثعالبي. كان أوحد عصره في فضله وذهنه السابق إلى حيازة القصب في نظمه ونثره وكان في شبابه مشتغلا بالفقه فاختص بملازمة الشيخ: أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين على مذهب الشافعي. ثم شرع في فن الكتابة وغلب أدبه على الفقه فاشتهر به واختلف إلى ديوان الرسائل وارتفعت به الأحوال وانخفضت ورأى من الدهر العجائب سفرا وحضرا وعمل الشعر وسمع الحديث. وقد وضع على دميته شرف الدين علي بن يزيد أبو الحسن البيهقي كتابا سماه: وشاح الدمية وهو: كالذيل له وديوان شعره: مجلد كبير والغالب عليه الجودة. وقتل الباخرزي في مجلس الأنس بباخرز في سنة 467هـ، وذهب دمه هدراً. وباخرز: ناحية من نواحي نيسابور تشتمل على قرى ومزارع خرج منها جماعة من الفضلاء الكرام والأجلة العظام وغيرهم.

أبو المعالي سعد بن علي بن القاسم الأنصاري الخزرجي الوراق الخطيري المعروف: بدلال الكتب كانت لديه معارف وله نظم جيد وألف مجاميع ما قصر فيها منها: كتاب زينة الدهر وعصرة أهل العصر وذكر ألطاف شعر العصر الذي ذيله على: دمية القصر للباخرزي جمع فيه جماعة كثيرة من أهل عصره ومن تقدمهم وأورد لكل واحد طرفا من أحواله وشيئا من شعره. ذكره عماد الدين الكاتب في الخريدة وأنشد له عدة مقاطيع وروى عنه لغيره شعراً كثيراً. وكان مطلعا على أشعار الناس وأحوالهم وله: كتاب ملح الملح يدل على كثرة اطلاعه وله كل معنى مليح مع جودة السبك. توفي سنة 568هـ، ببغداد ودفن بمقبرة باب حرب والخطيري: نسبة إلى موضع فوق بغداد يقال له: الخطيرة ينسب إليه كثير من العلماء والثياب الخطيرية: منسوبة إليه أيضاً. عماد الدين الكاتب محمد بن صفي الدين الأصفهاني كان فقيها شافعي المذهب تفقه بالمدرسة النظامية وأتقن الخلاف وفنون الأدب وله من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه ثم بلغ الرفعة عند السلطان صلاح الدين ونور الدين محمود بن أتابك زنكي وتقلبت به الأحوال إلى أن عظم أمره. وصنف التصانيف النافعة منها: كتاب خريدة القصر وجريدة العصر جعله ذيلا على: زينة الدهر للخطيري وجعله في عشر مجلدات. وله: كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات في التاريخ وكتاب الفتح البستي في فتح القدسي. وصنف السيد على الذيل جعله ذيلا على خريدة القصر وله ديوان رسائل وديوان شعر توفي سنة 597هـ، بدمشق وولد سنة 510هـ - رحمه الله تعالى. قاضي القضاة بدر الدين العيني الحنفي تفقه واشتغل بالفنون وبرع ومهر وولي قضاء الحنفية بالقاهرة وكان إماما عالما علامة عارفا بالعربية والتصريف وغيرهما وله: شرح البخاري والتاريخ المسمى: بالعيني وشرح معاني الآثار وشرح الهداية ومختصر تاريخ ابن عساكر مات بعين في ذي الحجة سنة 855هـ رحمه الله تعالى. ثقة الدين الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف: بابن عساكر الدمشقي كان محدث الشام في وقته ومن أعيان الفقهاء الشافعية غلب عليه الحديث فاشتهر به وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره ورحل وطوف وجاب البلاد ولقي المشائخ وكان رفيق الحافظ: أبي سعد السمعاني في الرحلة وكان حافظا دينا جمع بين المتون والأسانيد. سمع ببغداد ثم رجع إلى دمشق ثم إلى خراسان ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال. وصنف التصانيف المفيدة وخرج التخاريج وكان حسن الكلام على الأحاديث محفوظا في الجمع والتأليف. صنف: التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلدا بخطه أتى فيه بالعجائب. قيل: إنه جمع هذا منذ عقل نفسه وإلا فالعمر لا يتسع لوضعه بعد الاشتغال.

ولد في أول المحرم سنة 499هـ وتوفي في رجب سنة 571هـ، بدمشق وحضر الصلاة عليه السلطان صلاح الدين. وله شعر لا بأس به وتواليف حسنة وأجزاء ممتعة. وأما الشيخ: عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الإمام المفتي أبو منصور الدمشقي المعروف: بابن عساكر فله أيضا: مؤلفات في الفقه والحديث توفي سنة 620هـ ومولده سنة 550هـ. وأما: عبد الصمد بن عبد الوهاب بن زين الأمناء حسن بن محمد بن عساكر فهو: الإمام المحدث الزاهد: أمين الدين أبو اليمن الدمشقي الشافعي نزيل الحرم سمع من جده ومن ابن التين وحدث بالحرمين بأشياء وكان عالما فاضلا جيد المشاركة في العلوم ولد سنة 614هـ وتوفي سنة 680هـ وكان شيخ الحجاز في وقته له تآليف في الحديث. قال الشيخ علاء الدين علي بن إبراهيم بن داود العطار - قدس سره -: لما ودعت الشيخ محي الدين النووي بنوى - حين أردت السفر إلى الحجاز - حملني رسالة في السلام عنه للإمام ابن عساكر المذكور فلما بلغته سلامه رد عليه السلام وسألني عنه: أين تركته؟ فقلت: ببلدة نوى فأنشدني بديها: أمخيمين على نوى أشتاقكم ... شوقا يجدد لي الصبابة والجوى وأريد قربكم لأني مرتجى ... يا سادتي قرب المقيم على نوى عبد الله بن أسعد المازني الشافعي اليافعي الرجل الصالح محب الصلحاء خادم أولياء الله تعالى المناضل عنهم والمنافح عن شأنهم صاحب المصنفات الكثيرة وكل تصنيفه نافع في بابه وتاريخه من أصح التواريخ وأحسنها وألطفها لوروده بعبارات عذبة وأنفعها للناس لاشتمالها على المهمات وهو مجلدتان كبيرتان. ومن لطيف مصنفاته: مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام. وكتاب: روض الرياحين في حكايات الصالحين. وبالجملة: هو رجل صالح مبارك عزيز الوجود فرد في زمانه ونادرة في أوانه أشعري العقيدة سالك طريقة الصوفية والمعاشر مع أهل الخير والزهد والصلاح. قال ابن السبكي - في طبقاته الكبرى -: اجتمعت به بمنى سنة 747هـ وتوفي بمكة سنة 767هـ روح الله روحه وزاد في أعلى الجنة فتوحه - وتاريخه مشهور موجود بأيدي الناس وقفت عليه.

علماء الحكمة

علماء الحكمة فمن القدماء: أرسطو1 وأستاذه: أفلاطون ومن يليهما.

_ 1 كفر الغزالي في كتابة المنقذ من الضلال، وكفر الفارابي أيضاً وقال: إن مجموع ما غلطا فيه من الألهيات يرجع إلى عشرين أصلاً يجب تكفيرهما في ثلاثة منها، وتبديعهما في سبعة عشر: أما المسائل الثلاث فقد خالفا فيها كافة المسلمين. الأولى: قالوا إن الأجساد لا تحشر وإنما الثياب والمعاقب هي الأرواح. الثانية: قولهم إن الله يعلم الكليات دون الجزيئات. الثالثة: قولهم بقدم العالم. واعتقاد هذا كفر صريح نعوذ بالله منه. حكاه ابن الوردي في تاريخه. سيد نور الحسن خان ولد المؤلف سلمهما الله تعالى.

ومن المسلمين: الفارابي وابن سينا والفخر الرازي ونصير الطوسي. ومن يلي هؤلاء في معرفة الحكمة: الشيخ: شهاب الدين المقتول السهروردي. وممن خرط في سلكهم: القطب الشيرازي والقطب الرازي والسعد التفتازاني والشريف الجرجاني ثم الجلال الدواني وخواجه زاده ومصطفى الشهير: بالقسطلاني وقد تقدم تراجم بعضهم في القسم الثاني من هذا الكتاب تحت علم الألفي فتذكر وبيده النفع والضر.

علماء المنطق

علماء المنطق وهم علماء الحكمة غالبا لكن ذكرنا هاهنا: بعض من له تصنيف في علم المنطق واشتهر به مع مشاركته في سائر العلوم - رحمهم الله تعالى. محمود بن أبي بكر بن أحمد الأموي الشيخ سراج الدين أبو السنا صاحب كتاب: مطالع الأنوار وبيان الحق كان شافعيا قرأ بالموصل على كمال الدين بن يونس مولده: سنة 594هـ، أربع وتسعين وخمسمائة ووفاته: سنة 682هـ، بمدينة قونية. محمد قطب الدين الرازي المعروف: بالتحتاني وهذه النسبة: لتميزه عن قطب آخر فوقاني وكانا يسكنان في مدرسة واحدة أحدهما: في الطبقة الفوقانية والآخر: في التحتانية. وهو: إمام مبرز في المعقولات اشتهر اسمه وبعد صيته ورد إلى دمشق في سنة 763هـ. قال ابن السبكي: بحثنا معه في دمشق فوجدناه إماما في المنطق والحكمة عارفا بالتفسير والمعاني والبيان مشاركا في النحو يتوقد ذكاء وله على الكشاف حواش مشهورة وله: شرح على المطالع للأرموي في المنطق وهذا شرح عظيم الشأن وله: شرح على الرسالة الشمسية للكاتبي في المنطق توفي سنة 776هـ، بظاهر دمشق عن نحو أربع وسبعين سنة وكان له عبد رباه من صغره وعلمه حتى كان مدرسا فاضلا في كل العلوم وكان يدعى: بمبارك شاه المنطقي وهذا الذي أخذ عنه الشريف الجرجاني شرح المطالع لقطب الدين الرازي رحمه الله. أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك الملقب: بشهاب الدين المقتول السهروردي وقيل اسمه: أحمد وقيل: عمر. كان من علماء عصره قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي أستاذ فخر الدين الرازي - بمدينة مراغة من أعمال أذربيجان إلى أن برع فيهما وعليه تخرج وبصحبته انتفع. وكان إماما في فنونه قال في طبقات الأباء: وكان السهروردي أوحد زمانه في العلوم الحكيمية جامعا للعلوم الفلسفية بارعا في الأصول الفقهية مفرط الذكاء فصيح العبارة وكان علمه أكثر من عقله ويقال: إنه يعرف علم السيمياء ويحكى عنه في أشياء غريبة حكي بعضها في: مدينة العلوم ووفيات الأعيان. وله تصانيف: منها: التلويحات والمطارحات في المنطق والحكمة وهياكل النور وحكمة الإشراق في الحكمة والتنقيحات في أصول الفقه إلى غير ذلك وله في النظم والنثر أشياء لطيفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها.

وكان شافعي المذهب وكان يلقب: بالمؤيد بالملكوت وكان يتهم باختلال العقيدة والتعطيل ويعتقد مذهب الحكماء المتقدمين واشتهر ذلك عنه فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة دمه وقتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه وكان أشد الجماعة عليه الشيخان: زين الدين ومجد الدين ابنا حميد. قال سيف الدين الآمدي: اجتمعت به في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر فقلت: لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسب هذا فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه ورأيته كثير العلم قليل العقل وقال: إنه لما تحقق القتل كان كثيرا ما ينشد: أرى قدمي أراق دمي ... وهان دمي فها ندمي وكان ذلك في دولة الملك المظفر - صاحب حلب - ابن السلطان صلاح الدين فحبسه ثم خنقه في خامس رجب سنة 582هـ، بقلعة حلب وعمره ثمان وثلاثون سنة وكان الناس مختلفين في حقه. منهم: من نسبه إلى الزندقة والإلحاد. ومنهم: من يشهد له بحسن الاعتقاد. قال القاضي بهاء الدين المعروف: بابن شداد - قاضي حلب -: إن السهروردي كان كثير التعظيم لشعائر الدين وأطال الكلام في ذلك وذكر نفسه في آخر التلويحات في وصايا ذكرها هناك: واتق شر من أحسنت إليه من اللئام ولقد أصابني منهم شدائد. قال شارحها: أراد به بعضا من تلامذته الذين يصاحبون معه السفر والحضر وينقلون عنه أشياء مخالفة للشرع ولعل قتله كان بسبب هؤلاء - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة وأن يجعلنا من أهل الحق والرشاد وأن يعصمنا من شر أهل الزيغ والفساد إنه ولي الهداية والإرشاد ومن كلامه: الفكر في صورة قدسية يتلطف بها طالب الأريحية ونواحي القدس دار لا يطأها القوم الجاهلون وحرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات فوحد الله وأنت بتعظيمه ملآن واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان ولو كان في الوجود شمسان لانطمست الأركان وأبى النظام أن يكون غير ما كان: فخفيت حتى قلت: لست بظاهر ... وظهرت من سعيي على الأكوان لو علمنا أننا ما نلتقي ... لقضينا من سليمى وطرا اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف وذكر له ابن خلكان أشعارا لطيفة لا نطول الكلام بذكرها ههنا. أبو البركات البغدادي تقدم ترجمته تحت: علم المنطق فراجعه.

علماء الجدل

علماء الجدل أبو بكر محمد بن علي القفال بن إسماعيل الشاشي الفقيه الشافعي: أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء كان إمام عصره بلا مدافعة فقيهاً محدثاً أصولياً لغوياً شاعراً

لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته. رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام والثغور وسار ذكره في البلاد. أخذ الفقه عن ابن سريح وله مصنفات كثيرة في الجدل وكتاب في أصول الفقه وعنه انتشر مذهب الشافعي في بلاده. روى عن: محمد بن جرير الطبري وأقرانه. وروى عنه: الحاكم وابن مندة وجماعة كثيرة. توفي سنة 336هـ، وقيل: توفي في الشاش في سنة خمس وستين وثلاثمائة. وشاش: مدينة ما وراء نهر سيحون في أرض الترك خرج منها جماعة من العلماء. وهذا القفال غير القفال المروزي وهو متأخر عن هذا كذا قال ابن خلكان في تاريخ وفيات الأعيان.

علماء الخلاف

علماء الخلاف عبد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي بفتح الدال وتخفيف الباء الموحدة نسبة إلى دبوسه: وهي بلدة بين بخارى وسمرقند نسب إليها جماعة من الأدباء كان من أكابر أصحاب الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - ممن يضرب به المثل وهو: أول من أخرج علم الخلاف في الدنيا وأبرزه إلى الوجود. له: كتاب الأسرار وتقويم الأدلة وغيره من التصانيف والتعاليق. وروي أنه ناظر بعض الفقهاء فكان كلما ألزمه أبو زيد إلزاما تبسم وضحك فأنشد أبو زيد: ما لي إذا ألزمته حجة ... قابلني بالضحك والقهقهه إن كان ضحك المرء من فقهه ... فالضب في الصحراء ما أفقهه قال الذهبي: كان ممن يضرب به المثل في النظر واستخراج الحجج. وله: كتاب الأمد الأقصى. توفي ببخارى سنة 430هـ، وهو ابن ثلاث وستين ذكر له ابن خلكان ترجمة مختصرة. أبو الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني الملقب: مجد الدين كان إماما مبرزا في الخلاف والفقه وله فيه تعليقة مشهورة. تفقه بمرو ثم رحل إلى غزنة واشتهر بتلك الديار وشاع فضله وقد مدحه الغزي ثم ورد إلى بغداد وفوض إليه تدريس المدرسة النظامية مرتين واشتغل الناس عليه وانتفعوا به وبطريقته الخلافية. والميهني: نسبة إلى ميهنة: قرية من قرى خابران وهي: ناحية بين سرخس وأبيورد من إقليم خراسان. أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الملقب: حجة الإسلام زين الدين الطوسي تلميذ إمام الحرمين: الجويني جد في الاشتغال حتى تخرج في مدة قريبة وصار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه ولقي الوزير نظام الملك فأكرمه وعظمه وبالغ في الإقبال عليه واشتهر اسمه وسارت بذكره الركبان وأعجب به أهل العراق وارتفعت عندهم منزلته ثم ترك جميع ما كان عليه وسلك طريق الزهد والانقطاع وقصد الحج فلما رجع توجه إلى الشام فأقام بمدينة دمشق مدة يذكر الدروس وانتقل منها إلى بيت المقدس واجتهد في العبادة ثم أقام بالإسكندرية مدة ثم عاد إلى وطنه طوس واشتغل بنفسه،

وصنف الكتب المفيدة في عدة فنون منها: إحياء العلوم وهو من أنفس الكتب وأجملها وكان إماما في الخلاف وأصول الفقه والجدل والكلام ومن شعره: حلت عقارب صدغه في خده ... قمرا فجل بها عن التشبيه ولقد عهدناه يحل ببرجها ... فمن العجائب كيف حلت فيه ومن قوله أيضا: فديتك لولا الحب كنت فديتني ... ولكن بحسر المقلتين سبيتني أتيتك لما ضاق صدري من الهوى ... ولو كنت تدري كيف حالي أتيتني ولد سنة 450هـ، وقيل: سنة 451هـ وتوفي سنة 505هـ، بالطابران: وهي قصبة طوس - رحمه الله تعالى. أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن الرازي الملقب: فخر الدين المعروف: بابن الخطيب صاحب التفسير الكبير فاق أهل زمانه وعلم الأوائل والأواخر وله التصانيف المفيدة في فنون عديدة منها: تفسير القرآن الكريم جمع فيه كل غريب وغريبة حتى قيل: فيه كل شيء إلا التفسير وهو كبير جدا وقد طبع لهذا العهد بمصر. قال ابن خلكان: لكنه لم يكمله ثم ذكر كتبا من تصانيفه. قال: وله طريقة في الخلاف وله في أصول الفقه: المحصول في علم الأصول ونهاية العقول في دراية الأصول والمطالب العلية في الكلام وله مؤاخذات جيدة على النحاة وكل كتبه ممتعة وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين. وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه وأتى فيها بما لم يسبق إليه وكان له في الوعظ اليد الطولى ويعظ باللسانين: العربي والعجمي وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة وكان يلقب بهراة: شيخ الإسلام وكان العلماء يقصدونه من البلاد وتشد إليه الرحال من الأقطار. ولد بالري سنة 544هـ وتوفي بهراة في سنة 606هـ قال ابن خلكان: رأيت له وصية أملاها في مرض موته على أحد تلامذته تدل على حسن العقيدة. انتهى. وأطال في ترجمته. رحمه الله تعالى. أبو حامد محمد بن محمد بن محمد العميد ركن الدين الفقيه الحنفي كان إماما في فن الخلاف خصوصا: الجست. وهو أول من أفردها بالتصنيف ومن تقدمه: كان يمزجه بخلاف المتقدمين وصنف في هذا الفن طريقة وهي مشهورة بأيدي الفقهاء وكان كريم الأخلاق كثير التواضع طيب المعاشرة توفي في سنة 615هـ، خمس عشرة وستمائة ببخارى. أبو طالب محمود بن علي بن أبي الرجاء التيمي الأصبهاني: صاحب الطريقة في الخلاف برع فيه وصنف التعليقة التي شهدت بفضله وتحقيقه وتبريره على أكثر نظرائه وجمع فيها بين الفقه والتحقيق وكان عمدة المدرسين في إلقاء الدروس عليها واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به وصاروا علماء مشاهير، وكان له في الوعظ اليد الطولى وكان متفننا في العلوم خطيبا بأصبهان مدة طويلة توفي في سنة خمس وثمانين وخمسمائة.

علماء المقالات

علماء المقالات أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني: صاحب كتاب: الملل والنحل. أورد فيه: فرق المذاهب في العالم كلها وهو المتكلم على مذهب الأشعري. وكان إماما مبرزا فقيها متكلماً. تفقه على أحمد الخوافي وعلى أبي نصر القشيري وغيرهما وبرع في الفقه. وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري وتفرد فيه صنف: كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام والمناهج والبيان وكتاب المضارعة وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام. وكان كثير المحفوظ حسن المحاورة ويعظ الناس. دخل بغداد سنة 510هـ، وأقام بها ثلاث سنين وظهر له قبول كثير عند العوام وسمع الحديث من: علي بن أحمد المديني بنيسابور ومن غيره وكتب عنه: الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني. ولد سنة 467هـ، أو سنة 479هـ، بشهرستان وتوفي بها في آخر شعبان سنة 548هـ، أو سنة 549هـ. وشهرستان: اسم لثلاث مدن: الأولى: شهرستان خراسان: بين نيسابور وخوارزم في آخر حدود خراسان وأول الرمل المتصل بناحية خوارزم وهي المشهورة ومنها: أبو الفتح المذكور وأخرجت خلقا كثيرا من العلماء رحمهم الله. الثانية: شهرستان: قصبة ناحية سابور من أرض فارس. الثالثة: مدينة جي بأصبهان ومعناه: مدينة الناحية لفظة أعجمية.

علماء الطب

علماء الطب بقراط الحكيم: أول من دون علم الطب وهو حكيم مشهور معتن ببعض علوم الفلسفة سيد الطبيعيين في عصره كان قبل الإسكندر بنحو مائة وسنة وله في الطب تصانيف شريفة وكان فاضلا متألها ناسكا يعالج المرضى احتسابا طوافا في البلاد وكان في زمن أردشير - من ملوك الفرس - وكان يسكن حمص من مدن الشام وكان يتوجه إلى دمشق ويقيم في غياضها للرياضة والتعلم والتعليم وفي بساتينها: موضع يعرف: بصفة بقراط وكان طبيبا فيلسوفا فاضلا كاملا معلما لسائر الأشياء قوي الصناعة والقياس والتجربة. ولما خاف أن يفنى الطب من العالم علم الغرباء الطب وجعلهم بمنزلة أولاده وظهر بقراط سنة 96هـ لتاريخ: بخت نصر وهي: سنة 14هـ من ملك بهمن وعاش خمسا وتسعين سنة وله كتب نافعة مفسرة بالعربية. جالينوس الحكيم: الفيلسوف الطبيعي اليوناني ظهر بعد بقراط من مدينة فرغاموس من أرض اليونانيين إمام الأطباء في عصره ورئيس الطبيعيين في وقته مؤلف الكتب الجليلة في الطب وغيره: من

علم الطبيعة وعلم البرهان ومؤلفاته: تنيف على ستين مؤلفا وكان بعد المسيح عليه السلام بنحو مائتي سنة وبعد الإسكندر بنحو خمسمائة سنة ونيف ولا يعلم بعد أرسطاطاليس أعلم بالطبيعي من هذين: بقراط وجالينوس قيل: هو من بلاد إيشيا شرقي قسطنطينية في دولة القيصر السادس وجاب البلاد وبرع في الطب والفلسفة والرياضة وهو ابن سبع عشرة سنة وجدد علم بقراط وفاق في علم التشريح وكان أبوه أعلم بالمساحة في زمانه وكانت ديانته النصرانية مات في مدينة سلطانية وقبره بها وعاش ثمان وثمانين سنة وكان يأخذ نفسه في كل يوم بقراءة جزء من الحكمة ولم يأخذ من الملوك شيئا ولا داخلهم ولولا هو ما بقي العلم والدرس ودثر من العالم جملته ولكنه أقام أوده وشرح غامضه وبسط مستصعيه وكان في زمانه فلاسفة مات ذكرهم عند ذكره وانتهت إليه الرياسة في عصره. أبو بكر محمد بن زكريا الرازي: من مشاهير العلماء في الطب طبيب المسلمين غير مدافع مهر في المنطق والهندسة وغيرها: من علوم الفلسفة وكان في شبيبته يضرب بالعود ويغني ثم أقبل على تعلم الفلسفة ودراسة كتب الطب فنال منها كثيرا وقرأها قراءة رجل متعقب على مؤلفيها فبلغ من معرفة غوائرها الغاية واعتقد الصحيح منها وعلل السقيم وكان إمام وقته في علم الطب والمشار إليه في ذلك العصر وكان متقنا لهذه الصناعة حاذقا بها عرافا بأوضاعها وقوانينها تشد إليه الرحال لأخذها وألف كتبا أكثرها في الطب وتوغل في الآلهة ولم يفهم غرضه فتقلد آراء سخيفة واتخذ مذاهب ضعيفة ودبر مارستان الري ثم مارستان بغداد في أيام المكتفي ثم عمي في آخر عمره وتوفي في سنة 311هـ. قيل له: لو قدحت عينيك؟ قال: لا قد أبصرت من الدنيا حتى مللت وأحسن صناعة الكيمياء وذكر أنها أقرب إلى الممكن منها إلى الممتنع وألف فيها اثني عشر كتابا وكان كريما متفضلا بارا بالناس حسن الرأفة بالفقراء ولم يكن يفارق النسخ إما يسود أو يبيض وتصانيفه: تبلغ مائة وستة عشر من الكتب والرسائل في الطب والفلسفة وكلها نافع في بابه والله أعلم. ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب. قال: وإذا كان الطبيب عالما والمريض مطيعا فما أقل لبث العلة وقال: عالج في أول العلة بما لا تسقط به القوة ولم يزل رئيس هذا الشأن وكان اشتغاله به على كبر يقال: إنه لما شرع فيه كان قد جاوز أربعين سنة من العمر وطال عمره. علي بن أبي الحزم علاء الدين بن النفيس الطبيب المصري صاحب كتاب: الموجز في الطب وشرح كليات القانون وغيرهما. كان فقيها على مذهب الشافعي صنف شرحا على التنبيه وصنف في الطب غير ما ذكرناه كتابا سماه: الشامل قيل: لو تم لكان ثلاثمائة مجلدة تم منه ثمانون مجلدة. وصنف في أصول الفقه والمنطق. وبالجملة: كان مشاركا في الفنون وأما الطب: فلم يكن على وجه الأرض مثله في زمانه قيل: ولا جاء بعد ابن سينا مثله قالوا: وكان في العلاج أعظم من ابن سينا وكان شيخه في الطب: الشيخ مهذب

الدين توفي سنة 687هـ، عن نحو ثمانين سنة وخلف أموالا جزيلة ووقف كتبه وأملاكه على المارستان المنصوري. أبو يعقوب إسحاق بن حنين العبادي: الطبيب المشهور كان أوحد عصره في علم الطب وكان يعرف كتب الحكمة التي بلغه اليونانيين إلى اللغة العربية وله المصنفات المفيدة في الطب ولحقه الفالج في آخر عمره فتوفي في سنة 398هـ. والعبادي: نسبة إلى عباد الحيرة وهم: عدة بطون من قبائل شتى نزلوا حيرة وكانوا نصارى ينسب إليهم خلق كثير والحيرة: مدينة قديمة كانت لبني المنذر. أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي: الطبيب المشهور كان إمام وقته في صناعة الطب وكان يعرف لغة اليونانيين معرفة تامة وهو الذي عرب كتاب إقليدس وجاء ثابت بن قرة فنقحه وهذبه وكذلك كتاب المجسطي. وله في الطب مصنفات مفيدة وتقدم ذكر ولده: إسحاق آنفا وكان المأمون مغرما بتعريبها. واليونانيون: كانوا حكماء متقدمين على الإسلام وهم أولاد: يونان ابن يافث بن نوح توفي حنين في سنة 260هـ. أبو الحسن هبة الله بن أبي الغنائم بن التلميذ: الطبيب البغدادي ذكره العماد الأصفهاني في الخريدة فقال: سلطان الحكماء ومقصد العالم في علم الطب بقراط عصره وجالينوس زمانه وختم به هذا العلم ولم يكن في الماضيين من بلغ مداه في الطب عمر طويلا وعاش نبيلا جليلا رأيته وهو شيخ بهي المنظر حسن الرواء عذب المجتلى والمجتنى لطيف الروح ظريف الشخص بعيد الهم عالي الهمة ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي شيخ النصارى وقسيسهم ورأسهم ورئيسهم وله في النظم كلمات رائقة وحلاوة جنية وغزارة بهية وكان بينه وبين أبي البركات: هبة الله بن علي - الحكيم المشهور صاحب كتاب: المعتبر في الحكمة - تنافر وتنافس كما جرت العادة بمثله بين أهل كل فضيلة وصنعة ولهما في ذلك أمور ومجالس مشهورة وكان يهوديا ثم أسلم في آخر عمره وأصابه الجذام فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوعها فبالغت في نهشه فبرئ من الجذام وعمي وقصته مشهورة. ولابن التلميذ في الطب تصانيف مليحة فمن ذلك: أقراباذين وحواش على كليات ابن سينا توفي في سنة 560هـ، ببغداد وقد ناهر المائة من عمره مات في عيد النصارى. أبو علي يحيى بن عيسى بن جزلة: الطبيب صاحب: كتاب المنهاج الذي جمع فيه من أسماء: الحشائش والعقاقير والأدوية وغير ذلك شيئاً كثيراً. كان نصرانيا ثم أسلم وصنف: رسالة في الرد على النصارى وبين عوار مذاهبهم ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق وذكر فيها ما قرأه في التوراة والإنجيل من: ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي مبعوث وأن اليهود والنصارى أخفوا ذلك ولم يظهروه ثم ذكر فيها: معائب اليهود والنصارى وهي رسالة حسنة أجاد فيها وهو: من المشاهير في علم الطب وعمله وكان يطبب أهل محلته ومعارفه بغير أجرة ويحمل إليهم الأشربة والأدوية بغير عوض ويتفقد الفقراء ويحسن إليهم ووقف كتبه قبل وفاته وجعلها في مشهد أبي حنيفة رحمه الله توفي في سنة 493هـ غفر الله له.

علماء أصول الفقه

علماء أصول الفقه أحمد بن علي أبو بكر الرازي المعروف: بالجصاص ولد سنة 305هـ، وسكن ببغداد وانتهت إليه رياسة الحنفية تفقه على الكرخي وكان على طريقه من الزهد والورع توفي ببغداد سنة 370هـ. أبو الحسن علي بن محمد فخر الإسلام البزدوي فقيه ما وراء النهر على مذهب أبي حنيفة توفي سنة 482هـ، ودفن بسمرقند له: كتاب المبسوط أحد عشر مجلدا وشرح الجامع الكبير ولكتابه في الأصول: شروح أشهرها: الكشف. شمس الأئمة السرخسي أبو بكر محمد بن أحمد صاحب: المبسوط تخرج بعبد العزيز الحلواني كان عالما أصوليا وقد شاع: أنه أملى المبسوط من غير مراجعة إلى شيء من الكتب وله كتاب في أصول الفقه أبدأه وهو في الجب محبوس بسبب كلمة نصح بها الأمراء وكان يجتمع تلامذته على أعلى الجب يكتبون فلما وصل إلى باب الشرط أطلق من الحبس فخرج إلى فرغانة فأكرمه الأمير حسن فوصل إليه الطلبة فأكمله. وقيل له يوما: حفظ الشافعي ثلاثمائة كراس فقال: حفظ زكاة ما أحفظه فحسب ما حفظ فكان: اثني عشر1 ألف كراس. توفي في حدود سنة خمسمائة - رحمه الله تعالى. سيف الدين الآمدي علي بن محمد بن سالم الثعلبي. ولد بآمد سنة 550هـ قرأ على مشائخ بلده القراءات وحفظ كتابا على مذهب أحمد بن حنبل وبقي على ذلك مدة فكان في أول اشتغاله: حنبلي المذهب ثم انتقل إلى مذهب الشافعي ثم رحل إلى العراق وأقام في الطلب ببغداد مدة وحصل علم الجدل والخلاف والمناظرة ثم انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير وتمهر فيه ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم وصنف: في أصول الدين والفقه والمنطق والحكمة والخلاف وكل تصانيفه مفيدة. وكان قد أخذ علوم الأوائل من نصارى الكرخ ويهودها فاتهم لذلك في عقيدته ففر إلى مصر خوفا من الفقهاء سنة 592هـ، وناظر بها وحاضر وأظهر تصانيف في علوم الأوائل ثم تعصبوا عليه فخرج من القاهرة مستخفيا ثم استوطن حماة أو دمشق وتولى بها التدريس ومات بها في سنة 631هـ. له: كتاب الماهر في علوم الأوائل والأواخر خمس مجلدات وكتاب أبكار الأفكار في أصول الدين أربع مجلدات قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ما سمعت أحدا يلقي الدرس أحسن من الآمدي وما علمنا قواعد البحث إلا منه وقال: لو ظهر متزندق مشكك في الدين ما تعين لمناظرته إلا هو وله: كتاب منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل ومختصرهما لابن الحاجب وله مقدار عشرين تصنيفا.

_ 1 هذه الرواية يأباها العقل الصحيح ويستبعدها وإن كانت القدرة الإلهية صالحة لكل شيء، سيد علي حسن خان سلمه الله تعالى.

توفي سنة 631هـ، ودفن بسفح جبل قاسيون وكانت ولادته في سنة 551هـ والآمدي: نسبة إلى آمد وهي: مدينة كبيرة في ديار بكر مجاورة لبلاد الروم. أبو البركات النسفي عبد الله بن أحمد حافظ الدين صاحب كنز الدقائق وكتاب المنار في أصول الفقه وكتاب العمدة في أصول الدين تفقه على شمس الأئمة الكردري. وللمنار شروح منها: إفاضة الأنوار في إضاءة أصول المنار لسعد الدين محمود الدهلوي رحمه الله تعالى. سراج الدين الهندي أبو حفص عمر بن إسحاق ابن أحمد الغزنوي قاضي الحنفية بالقاهرة. تفقه ببلاده على: الوجيه الرازي والسراج الثقفي والزين البدواني وغيرهم من علماء الهند وحج وظهرت فضائله له وجاهة في كل دولة واسع العلم كثير المهابة وكان يتعصب للصوفية الموحدة وعزر ابن أبي حجلة لكلامه في ابن الفارض. مات في الليلة التي مات فيها البهاء السبكي وهي: السابع من رجب سنة 773هـ وكان يكتب بخطه: مولدي سنة 704هـ. محمد بن محمد بن عمر حسام الدين الأخسيكثي: وأخسيكث قرية فيما وراء النهر ألف المختصر في أصول الفقه مات - رحمه الله تعالى - سنة 644هـ. أبو المعالي إمام الحرمين: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني مولده: في الكامل: سنة 410هـ، وفي تاريخ ابن أبي الدم: 419هـ، إمام العلماء في وقته فحل المذهب. ومن تصانيفه: نهاية المطلب في دراية المذهب سافر إلى بغداد ثم إلى الحجاز وأقام بمكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي ويصنف وأم في الحرمين الشريفين وبذلك لقب ثم رجع إلى نيسابور وجعل إليه الخطابة ومجلس الذكر والتدريس ثلاثين سنة وحظي عند نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان السلجوقي. ومن تلاميذه: الغزالي وحسبك وأبو الحسن علي إلكيا الهراسي. وادعى إمام الحرمين الاجتهاد المطلق لأن أركانه كانت حاصلة له ثم عاد إلى تقليد الإمام الشافعي - رحمه الله - لعلمه بأن منصب الاجتهاد قد مضت سنوه. مات بقرية: بشتقان ونقل إلى نيسابور ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب أبيه وصلى عليه ولده: أبو القاسم فأغلقت الأسواق يوم موته وكسر منبره في الجامع وقعد الناس لعزائه ورثوه كثيرا منه: قلوب العالمين على المقالي ... وأيام الورى شبه الليالي أيثمر غصن أهل العلم يوما ... وقد مات الإمام أبو المعالي وقد كانت تلامذته يومئذ نحو أربعمائة فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا كذلك عاما كاملا كذا في تاريخ ابن الوردي. قال ابن خلكان: هو أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي على الإطلاق المجمع على إمامته المتفق

على غزارة مادته وتفننه في العلوم من: الأصول والفروع والأدب ورزق من التوسع في العبادة مالم يعهد من غيره وكان يذكر دروسا يقع كل واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها سافر إلى بغداد ولقي بها جماعة من العلماء ظهرت تصانيفه وحضر دروسه الأكابر من الأئمة وله إجازة من الحافظ: أبي نعيم الأصفهاني صاحب حلية الأولياء. ومن تصانيفه: الشامل في أصول الدين والبرهان في أصول الفقه وغياث الأمم في الإمامة وكان إذا شرع في علوم الصوفية وشرح الأقوال أبكى الحاضرين ولم يزل على طريقة حميدة مرضية من أول عمره إلى آخره. انتهى ملخصاً. الشيخ صفي الدين الهندي الأرموي المتكلم على مذهب الأشعري كان أعلم الناس بمذهبه وأدراهم بأسراره متضلعا بالأصلين اشتغل على سراج الدين صاحب التلخيص. صنف: الزبدة في علم الكلام والنهاية في أصول الفقه والفائق فيه أيضا وكل مصنفاته جامعة حسنة لا سيما: النهاية ولد ببلاد الهند سنة 644هـ، ورحل إلى اليمن ثم حج وقدم إلى مصر ثم سار إلى الروم واجتمع بسراج الدين ثم قدم دمشق وأشغل الناس بالعلم توفي بها سنة 715، خمس عشرة وسبعمائة. صدر الشريعة عبد الله بن مسعود بن محمود عالم محقق وحبر مدقق له تصانيف: مثل: شرح الوقاية والوشاح في المعاني وتعديل العلوم في أقسام العلوم العقلية كلها والتنقيح وشرحه المسمى: بالتوضيح في أصول الفقه - رحمه الله تعالى رحمة واسعة. مولانا: خسرو اسمه: محمد بن قرامز بن خواجة علي كان عالما عاملا محققا فاضلا استقضاه السلطان محمد خان بالعسكر ثم صار قاضيا بمدينة قسطنطينية ثم صار مفتيا بها سنين كثيرة توفي سنة 885 له مصنفات كثيرة في علوم عديدة مثل: الدرر وشرحه: الغرر وحواشي التلويح وحواشي المطول وغير ذلك من الكتب والرسائل. قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني وستأتي ترجمته.

علماء الفقه

علماء الفقه الإمام أبو حنيفة نعمان بن ثابت - رضي الله عنه إمام الحنفية ومقتدي أصحاب الرأي. ولد سنة 80هـ من الهجرة. كذا ذكره الواقدي والسمعاني عن: أبي يوسف وقيل: عام إحدى وستين والأول: أكثر وأثبت لم ير أحدا من الصحابة باتفاق أهل الحديث وإن كان عاصر بعضهم على رأي الحنفية وبالغ في مدينة العلوم في إثبات اللقاء والرواية عن بعضهم وليس كما ينبغي قال: وقد ثبت بهذا التفصيل أن الإمام من التابعين وإن أنكر أصحاب الحديث كونه منهم إذ الظاهر أن أصحابه أعرف بحاله منهم. انتهى. وفيه نظر واضح لأن معرفة أهل الحديث بوفيات الصحابة وأحوال التابعين أكثر من معرفة أصحاب الرأي بها وقولهم: إن المثبت أولى من النافي تعليل لا تعويل عليه ولاعبرة بكثرة مشائخه رحمهم الله أيضا بالنسبة إلى مشائخ الشافعي رحمه الله فإن الاعتبار بالثقة دون كثرة المشيخة وقد ضعف المحدثون أبا حنيفة - رحمه الله - في الحديث وهو كذلك كما يظهر من الرجوع إلى فقه مذهب هذا الإمام وتصرفاته في

الكلام والإنصاف خير الأوصاف ولم يكن هو عالما حق العلم بلغة العرب ولسانهم. والكتب المؤلفة في ترجمته كثيرة يوجد بعضها فهي تغني عن الإطالة في هذا المقام. والكلام على ترجيح فقه إمام ومذهبه على فقه إمام آخر ومذهبه: ليس من العلم شيء. وأكثر من ابتلي بأمثال هذه الخرافات هم: المقلدون للمذاهب والمتمذهبون للمشارب والحق: عدم الترجيح وأحكم المذاهب وأصوبها وأشرفها ماكان موافقا للكتاب والسنة بعيدا عن شوائب الآراء والمظنة - وبالله التوفيق وبيده أزمة التدقيق والتحقيق. الإمام مالك بن أنس صاحب كتاب: الموطأ في الحديث الشريف عالم المدينة وإمامها أحد المجتهدين الأربعة مات وله تسعون سنة وقبره بالمدينة على شط بقيع الغرقد وكان وفاته في أيام الرشيد ولد وأسنانه ثابتة فسمي: ضحاكا أضحكه الله في جناته. أخذ عنه العلم جماعة كثيرة منهم: الشافعي قال: إذا ذكر العلماء فمالك النجم وإذا جاء الحديث عنه فاشدد يديك به. وقال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله تعالى في القلب. قال في مدينة العلوم: إنه لا يفي بتعداد فضائل هذا الطود العظيم الأشم والبحر الزخار الأطم بطون الكتب ومضامين الأسفار فضلا عن هذه الأوراق والسطور. انتهى. وهو كذلك وكتابه الموطأ: في الطبقة الأولى من كتب الحديث عند المحققين وكان شارحه صاحب المصفى والمسوى شديد الاعتناء به حتى قال: إن المقصود في هذه الدورة العمل بالموطأ وترك العمل بغيره من التفريعات والكتب. وهذا يدل على عظمة رتبة هذا التأليف. توفي في سنة تسع أو ثمان وسبعين ومائة وقد ذكرت له ترجمة حافلة في كتابي: الحطة في ذكر الصحاح الستة وإتحاف النبلاء فارجع إليهما. الإمام: محمد بن إدريس الشافعي: القرشي ثالث المجتهدين وأعلم العلماء الربانيين لما حملت به أمه: رأت كأن المشتري خرج من بطنها وانقض ووقع في كل بلدة منه شظية فعبر المعبر: أنه يخرج من بطنك عالم عظيم فكان كما عبر. وهو: أول من دون علم أصول الفقه ورزق السعادة التامة في علمه. قال أحمد بن حنبل: كان الشافعي كالشمس للنهار وكالعافية للناس وإني لأدعو له في أثر صلاتي: اللهم اغفر لي ولوالدي ولمحمد بن إدريس الشافعي. قال في مدينة العلوم: وبالجملة هو: عالم الدنيا وعالم الأرض شرقا وغربا جمع الله له من العلوم والمفاخر مالم يجمع لإمام بعده وفضائله أكثر من أن تحصى لا يسعها إلا المجلدات. حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره مات بمصر سنة 206هـ، وله أربع وخمسون سنة واتفق العلماء قاطبة من: أهل الفقه والأصول والحديث واللغة والنحو وغيرها على أمانته وعدالته وزهده وورعه وتقواه وجوده وحسن سيرته وعلو قدره فالمطنب في وصفه مقصر والمسهب في مدحه مقتصر وقد كثرت في ذلك

المجلدات الكبار ولم تبلغ ساحل هذا البحر وقد اعتنى جماعة من أهل العلم بترجمته مفردة. الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي إمام أهل السنة بلا مدافع وقدوة أهل الحديث بغير منازع. ولد ببغداد سنة 164هـ ومات بها سنة 241هـ، وله سبع وسبعون سنة به عرف صحيح الحديث من ضعيفه والمجروح من المعدل. رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة واليمن والشام والجزيرة وكتب عن علمائها. وسمع الحديث من شيوخ بغداد وسمع منه الشيخان الكبيران: البخاري ومسلم وأبو زرعة وأبو داود السجستاني وخلق كثير سواهم وفضائله كثيرة ومناقبه جمة في الإسلام وآثاره مشهورة ومقاماته في الدين مذكورة وهو رابع المجتهدين المعول على قوله ورأيه وروايته. قال ابن راهويه: هو حجة بين الله وبين عباده في أرضه وكان يحفظ ألف ألف حديث وكانت مجالسته مجالسة الآخرة لا يذكر من أمر الدنيا شيئا ضرب تسعة وعشرين سوطا على إنكار خلق القرآن قال أحمد بن محمد الكندي: رأيته في المنام فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي ربي وقال: يا أحمد ضربت في؟ قلت: نعم يا رب قال: هذا وجهي انظر إليه قد أبحتك النظر إليه. ولما مات صلى عليه من المسلمين من لا يحصى ومسح موضع الصلاة عليه فوجدوا موقف ألفي ألف وثلاثمائة ألف ذراع ونحوها ذكرت له ترجمة كافية في كتابي: الحطة وإتحاف النبلاء. وقد ألفت في مناقب هؤلاء الأربعة صحف كثيرة مستقلة لا حاجة بعدها إلى إطالة الكلام لهم في هذا المقام وأعلم الأربعة بعلم الحديث وأستاذ الكل فيه: هو ذاك أحمد الإمام ولولاه لم يكن لمذهب السنة بقاء في الدنيا وإليه تنتهي رياسة علم السنة وأهلها وظهر في أهل نحلته الأئمة المجتهدون على كثرة لا يعلم مثلها في مذهب آخر ورزق السعادة الكاملة في علمه ودينه. وقد ذكر في مدينة العلوم بعد تراجم الأئمة الأربعة تراجم غالب علماء المذهب الحنفي بالبسط التام لكونه من الحنفية وليس ذكرها من غرضنا في هذا الكتاب كذلك ذكر تراجم غيرهم من فقهاء المذاهب الثلاثة لأن تراجمهم مذكورة في كتب الطبقات كل واحد من هؤلاء مسطورة في محلها وهم أكثر من أن تحصى وأزيد من أن تستقصى وذكرهم يستدعي مجلدات ضخيمة وأسفار عظيمة. والأئمة منهم: معروفون مشهورون وإنما أشرنا إلى تراجم الأربعة المجتهدين لكونهم أئمة الفقهاء المتقدمين والمتأخرين وهاهنا أشير إلى أسمائهم رحمهم الله: فمن الأئمة الحنفية: الإمام القاضي: أبو يوسف وكان من أهل الاجتهاد. والإمام: محمد وقد بلغ رتبة الاجتهاد أيضاً. وابن المبارك المحدث المروزي. والإمام: داود بن نصير الطائي الكوفي. ووكيع بن الجراح.

ويحيى بن زكريا. والحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي. وحماد بن أبي حنيفة الإمام. وإسماعيل بن حماد المذكور. ويوسف بن خالد صاحب أبي حنيفة. وعافية بن يزيد الكوفي. وحبان ومندل: ابنا علي الغزي. وعلي بن مسهر الكوفي. والقاسم بن معن. وأسد بن عمرو بن عامر. وأحمد أبو حفص الكبير. وخلف بن أيوب من أصحاب الإمام محمد. وشداد بن حكم من أصحاب زفر رحمه الله. وموسى بن نصر الدين الرازي. وموسى بن سليمان الجوزجاني. وهلال بن يحيى النصري. ومحمد بن سماعة وأبو مطيع الحكم بن عبد الله القاضي راوي كتاب: الفقه الأكبر عن أبي حنيفة. قال في المدينة: إن الأئمة الحنفية أكثر من أن تحصى لأنهم قد طبقوا أكثر المعمورة حتى قيل: إن لأبي حنيفة - رحمه الله - سبعمائة وثلاثين رجلا من تلامذته وهذا ما عرف منهم وما لم يعرف فأكثر من ذلك. انتهى ثم ذكر الكتب المعتبرة في الفقه الحنفي على ما هو المشهور في ذلك الزمان وهي مذكورة في: كشف الظنون على وجه البسط والتفصيل مع ذكر الحواشي عليها والشروح لها. قال: واعلم أن استقصاء الأئمة الحنفية وتصانيفهم خارج عن طوق هذا المختصر فلنذكر بعد ذلك نبذا من: الأئمة الشافعية ليكون الكتاب كامل الطرفين حائز الشرفين وهؤلاء صنفان: أحدهما: من تشرف بصحبة الإمام الشافعي. والآخر: من تلاهم من الأئمة. أما الأول: من تشرف بصحبة الإمام الشافعي فمنهم: أحمد بن خالد الخلال أبو جعفر البغدادي وأحمد بن سنان الواسطي وأحمد بن صالح أبو جعفر الطبري وأحمد بن أبي سرح الصباح وأحمد بن عبد الرحمن القرشي وأحمد بن عمرو بن السرح الأموي والإمام: أحمد بن حنبل المشهور في الآفاق وأحمد بن محمد الوليد ويقال: عون بن عقبة وأحمد بن يحيى البغدادي المتكلم وأحمد بن الوزير المصري وأحمد بن سريج الرازي ومحمد بن عبد الحكم المصري ومحمد بن الإمام الشافعي وأبو ثور إبراهيم بن خالد البغدادي وإبراهيم بن محمد ابن عم الشافعي وإبراهيم بن محمد بن هرم وإسماعيل بن يحيى أبو إبراهيم المزني وبحر بن نصر الخولاني وحارث النقال وحسن بن محمد الصباح البغدادي الزعفراني وحسين بن علي الكراسي

والحسن الفلاس وحرملة التجيبي وربيع بن سليمان الجبري المصري وربيع بن سليمان المرادي وسليمان بن داود العباسي وأبو بكر الحميد بن زهير وعبد العزيز أبو علي الخزاعي وعبد العزيز الكناني وفضل بن ربيع والقاسم بن سلام - بتشديد اللام - وقحزم الأسواني وهو: آخر من صحب الشافعي - رحمه الله - موتا وموسى بن أبي الجارود المكي ويوسف بن يحيى البويطي وبويط: من صعيد مصر ويونس بن علي الصدفي المصري. وأما الصنف الثاني: من تلاهم من الأئمة الشافعية فمنهم: محمد بن إدريس أبو حاتم الرازي ومحمد بن إسماعيل البخاري ومحمد بن علي الحكيم الترمذي الصوفي ومحمد بن نصر المروزي والجنيد بن محمد البغدادي سيد الطائفة الصوفية وحارث بن أسد المحاسبي وداود بن علي البغدادي إمام أهل الظاهر وسليمان بن الأشعث السجستاني والحافظ: أبو سعيد الدارمي محدث هراة وأبو تراب عسكر بن محمد التخشبي وتخشب: بلدة من بلاد ما وراء النهر عربت فقيل لها: نسف والنسائي صاحب السنن وأحمد بن شريح القاضي وأحمد بن محمد أبو علي الرودباري وأبو منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي وأبو زيد محمد بن أحمد الفاشاني المروزي وأبو بكر محمد بن أحمد الحداد المصري وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري أحد أئمة الدنيا علما ودينا ومحمد بن خفيف الشيرازي وأبو سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وأبو بكر الصيرفي محمد بن عبد الله وأبو الحسن علي شيخ الأشاعرة وأبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي وأبو إسحاق الإسفرائني إبراهيم بن محمد وإسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني وأبو القاسم القشيري حسن بن علي وأبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي والقاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري وله مناظرات مع أبي الحسن القدوري من الحنفية. والعراقيون: إذا أطلقوا لفظ القاضي يعنون: إياه. والخراسانيون: يعنون: القاضي حسين. والأشعرية في الأصول: يعنون: القاضي أبا بكر الباقلاني. والمعتزلة: عبد الجبار الإسترابادي والقفال المروزي الصغير واسمه: عبد الله ابن أحمد وهو المراد عند الإطلاق والأكبر يقيد بالشاشي وابن هوازن القشيري وأبو محمد الجويني والد إمام الحرمين وأبو نصر ابن الصباغ وعبد القاهر التميمي أبو منصور البغدادي وعبد القاهر الجرجاني وأبو المعالي إمام الحرمين وأبو الحسن الماوردي صاحب: الحاوي والإقناع وأبو حيان التوحيدي وأبو المظفر السمعاني وأبو حامد الغزالي صاحب: الإحياء ومحمد الخيوشاني ومحيي السنة: الفراء البغوي وأبو المحاسن الروياني والحافظ: ابن عساكر والشيخ: صدر الدين القونوي والإمام: فخر الدين الرازي والشيخ: عز الدين بن عبد السلام ومن تلامذته: ابن دقيق العيد وأبو القاسم الرافعي وأبو نصر الشهروزي وأبو القاسم الصوفي وأبو الفتح الموصلي وأبو العباس أحمد بن محمد شارح الوسيط ومحمد التركماني الذهبي الحافظ والقاضي: جلال الدين القزويني والصفي الهندي وابن الزملكاني ومحمد بن سيد الناس الحافظ والحافظ: علم الدين العراقي الضرير وعلي ابن عبد الكافي السبكي الكبير وابن خطاب الباجي والقاضي: شرف الدين البارزي. انتهى.

ثم ذكر لهؤلاء تراجم مختصرة ومطولة كما ذكر تراجم الفقهاء الحنفية ولم يذكر للأئمة المالكية والحنبلية تراجم ولعل الوجه في ذلك كثرة أولئك وقلة هؤلاء {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ولكن تغني عن ذلك كتب الطبقات المختصة لتراجم المالكية والحنابلة وهي لم تغادر أحدا منهم. وقد ذكر القاضي: أبو اليمن مجير الدين الحنبلي في كتاب: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: جماعة من علماء المذاهب الأربعة وقضاتهم الذين كانوا في إيلياء ومنهم علماء الحنابلة وكذا ذكرهم ابن رجب الحنبلي في طبقاته وغيره من أهل التاريخ والسير في كتبهم الموضوعة لذلك. والذين ترجم لهم صاحب مدينة العلوم أكثرهم من رجال وفيات الأعيان لابن خلكان وقد رددت عليه رجالا منه ومن غيره وأشرت إلى المآخذ وتركت تراجم غالب العلماء تحت كل علم مذكور ها هنا وأومأت إلى أسمائهم ليسهل المراجعة للطالب إلى معرفة كل واحد منهم من المآخذ. وأذكر الآن: جماعة من علماء الحديث والقرآن ثم أردف ذلك: ذكر طائفة من علماء الهند المشهورين المشار إليهم في العلوم النقلية والعقلية ولم أدرجهم تحت علماء العلوم المذكورة هاهنا لسهولة الضبط والربط وهم مشاركو الجميع - إلا ما شاء الله تعالى فليكن ذلك على ذكر منك وما ذكرناه من علماء الحرمين واليمن فأكثرهم مشائخ مشائخنا وهم في سلسلة الإسناد لنا.

ذكر حفاظ الإسلام

ذكر حفاظ الإسلام والمراد بهؤلاء في هذا الموضع الذين لم يقلدوا واحدا من أهل الاجتهاد ولم يكونوا أصحاب الرأي غالبا وهم المفسرون المتقنون والمحدثون المصنفون لكتب التفاسير والسنن على اختلاف أنواعها وتباين أنحائها سيما الأئمة منهم وإن انتسب بعضهم في الظاهر إلى أحد من المجتهدين فهو في الحقيقة ليس منتسبا إليه بل تابع للقرآن والحديث مجتهد بنفسه في علمه وعمله والله أعلم بالصواب. شيخ الإسلام: تقي الدين أبو العباس أحمد بن المفتي: شهاب الدين عبد الحليم بن شيخ الإسلام: مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني الحنبلي. مولده رحمه الله ورحمنا به: بحران يوم الإثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة هاجر والده به وبإخوته إلى الشام من جور التتر وعني الشيخ تقي الدين بالحديث ونسخ جملة من الكتب وتعلم الخط والحساب في المكتب وحفظ القرآن ثم أقبل على الفقه وقرأ أياما في العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهمه وبرع في النحو وأقبل على التفسير إقبالا كليا حتى سبق فيه وأحكم أصول الفقه كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه ونشأ في تصون تام وعفاف وتعبد واقتصاد في الملبس والمأكل وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره فيناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحيرون منه وأفتى وله أقل من تسع عشرة سنة وشرع في الجمع والتأليف ومات والده وله إحدى وعشرون سنة وبعد صيته في العالم فطبق ذكره الآفاق وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه فكان يورد المجلس ولا يتلعثم وكذلك الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح يقول في المجلس أزيد من كراسين ويكتب على الفتوى في الحال عدة أوصال بخط سريع في غاية التعليق والإغلاق.

قال الشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني - علم الشافعية - في خط كتبه في حق ابن تيمية: كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم بأن لا يعرفه أحد مثله وكانت الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء. قال: ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. انتهى كلامه. وكانت له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم مع حفظه لمتونه الذي انفرد به وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث ولكن الإحاطة لله غير أنه يغترف فيه من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. أما التفسير فسلم إليه وله في استحضار الآيات للاستدلال قوة عجيبة ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه بين خطأ كثيرا من أقوال المفسرين ويكتب في اليوم والليلة من: التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحوا من أربعة كراريس وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة وله في غير مسألة مصنف مفرد كمسألة التحليل سماه: بيان الدليل على إبطال التحليل مجلد وغيرها. وله: مصنف في الرد على ابن مطهر الرافضي الحلي في ثلاث مجلدات كبار سماه: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. وتصنيف في: الرد على تأسيس التقديس للرازي في سبع مجلدات. وكتاب في: الرد على المنطق وكتاب في: الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلدين وقد جمع أصحابه من فتاواه ست مجلدات كبار وله باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة. وله: مصنف سماه: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. وكتاب: رفع الملام عن الأئمة الأعلام وبقي عدة سنين لا يفتى بمذهب معين بل بما قام الدليل عليه عنده ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه وبدعوه وناظروه وكابروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الذي أدى إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال. وجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية. وكان معظما لحرمات الله دائم الابتهال كثير الاستعانة قوي التوكل ثابت الجأش له أوراد وأذكار يديمها وله من الطرف الآخر محبون من: العلماء والصلحاء والجند والأمراء والتجار والكبراء وسائر

العامة تحبه بشجاعته تضرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال ولقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه واجتمع بالملك مرتين وبخلطو شاه وبولان وكان قيحق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغل. قال القاضي المنشي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فضل الله في ترجمته: جلس الشيخ إلى السلطان محمود غازان حيث تجم الأسد في آجامها وتسقط القلوب دواخل أجسامها وجد النار فتورا في ضرومها والسيوف فرقا في قرمها خوفها من ذلك السبع المغتال والنمروذ المحتال والأجل الذي لا يدفع بحيلة محتال فجلس إليه وأومى بيده إلى صدره وواجهه ودار في نحره وطلب منه الدعاء فرفع يديه ودعاء منصف أكثره عليه وغازان يؤمن على دعائه. وكتب ابن الزملكاني على بعض تصانيف ابن تيمية - رحمه الله - هذه الأبيات: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة العصر هو آية في الخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر قال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يريد ويدع ما يريد وحضر عنده شيخ النحاة: أبو حيان وقال: ما رأت عيناي مثله وقال فيه على البديهية أبياتا منها: قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر فأظهر الحق إذ آثاره درست ... وأخمد الشر إذ طارت له الشرر كنا نحدث عن حبر يجيء فها ... أنت الإمام الذي قد كان ينتظر قال ابن الوردي في تاريخه: بعد ذلك كله هو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله ولا رأى هو مثل نفسه في العلم وكان فيه قلة مداراة وعدم تؤدة غالبا ولم يكن من رجال الدول ولا يسلك معهم تلك النواميس وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا يحتملها عقول أبناء زماننا ولا علومهم كمسألة: التكفير في الحلف بالطلاق ومسألة: أن الطلاق بالثلاث لا يقع إلا واحدة وأن الطلاق في الحيض لا يقع. وساس نفسه سياسة عجيبة فحبس مراتب بمصر ودمشق والإسكندرية وارتفع وانخفض واستبد برأيه وعسى أن يكون ذلك كفارة له وكم وقع في صعب بقوة نفسه وخلصه الله وله نظم وسط ولم يتزوج ولا تسرى ولا كان له من المعلوم إلا شيء قليل وكان أخوه يقوم بمصالحه وكان لا يطلب منهم غداء ولا عشاء غالبا وما كانت الدنيا منه على بال وكان يقول في كثير من أحوال المشائخ: إنها شيطانية أو نفسانية فينظر في متابعة الشيخ الكتاب والسنة فإن كان كذلك فحاله صحيح وكشفه رحماني غالبا وما هو بالمعصوم وله في ذلك عدة تصانيف تبلغ مجلدات من أعجب العجب وكم عوفي من صرع الجني إنسان بمجرد تهديده للجني وجرت له في ذلك فصول ولم يفعل أكثر من أن يتلو آيات ويقول: إن تنقطع من هذا المصروع وإلا عملنا معك حكم الشرع وإلا عملنا معك ما يرضي الله ورسوله.

وفي آخر الأمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين وأن السفر وشد الرحال لذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" مع اعترافه بأن الزيادة بلا شد رحل قربة فشنعوا عليه بها وكتب فيها جماعة: بأنه يلزم من منعه شائبة تنقيص للنبوة فيكفر بذلك. وأفتى عدة: بأنه مخطئ بذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم ووافقه جماعة وكبرت القضية فأعيد إلى قاعة بالقلعة فبقي بضعة وعشرين شهرا وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة وما تركوا عنده كراسا ولا دواة وبقي أشهرا على ذلك فأقبل على التلاوة والتهجد والعبادة حتى أتاه اليقين فلم يفجأ الناس إلا نعيه وما علموا بمرضه فازدحم الخلق عند باب القلعة وبالجامع زحمة صلاة الجمعة وأرجح وشيعه الخلق من أربعة أبواب البلد وحمل على الرؤوس وعاش سبعا وستين سنة وأشهرا وكان أسود الرأس قليل شيب اللحية ربعة جهوري الصوت أبيض أعين. قلت: تنقص مرة بعض الناس من ابن تيمية عند القاضي ابن الزملكاني وهو بحلب وأنا حاضر فقال: ومن يكون مثل الشيخ تقي الدين في زهده وصبره وشجاعته وكرمه وعلومه والله لولا نعرضه للسلف لزاحمهم بالمناكب وهذه نبذة من ترجمة الشيخ مختصرة أكثرها من: الدرة اليتيمية في السيرة التيمية للإمام الحافظ: شمس الدين محمد الذهبي رحمه الله. قال ابن الوردي: وفيها أي: سنة 723هـ، ليلة الإثنين والعشرين من ذي القعدة توفي شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - معتقلا بقلعة دمشق وغسل وكفن وأخرج وصلى عليه أولا: بالقلعة الشيخ محمد بن تمام ثم: بجامع دمشق بعد الظهر من باب الفرج واشتد الزحام في سوق الخيل وتقدم عليه في الصلاة هناك أخوه وألقى الناس عليه مناديلهم وعمائمهم للتبرك وتراص الناس تحت نعشه وحضرت النساء خمسة عشر ألفا وأما الرجال فقيل: كانوا مائتي ألف وكثر البكاء عليه وختمت له ختم عديدة وتردد الناس إلى زيارة قبره أياما ورؤيت له منامات صالحة ورثاه جماعة قلت: ورثيته أنا بمرثية على حرف الطاء فشاعت واشتهرت وطلبها مني الفضلاء والعلماء من البلاد وهي: عثافي عرضه قوم سلاط ... لهم من نثر جوهره الالتقاط تقي الدين أحمد خير حبر ... خروق المعضلات به تخاط توفي وهو محبوس فريد ... وليس له إلى الدنيا انبساط ولو حضروه حين قضى لألفوا ... ملائكة النعيم به أحاطوا قضى نحبا وليس له قرين ... ولا لنظيره لف القماط فتى في علمه أضحى فريدا ... وحل المشكلات به يناط وكان إلى التقى يدعو البرايا ... وينهى فرقة فسقوا ولاطوا وكان الجن تفرق من سطاه ... بوعظ للقلوب هو السياط فيا لله ما قد ضم لحد ... ويا لله ما غطى البلاط هم حسدوه لما لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا على طرائقه كسالى ... ولكن في أذاه لهم نشاط

وحبس الدر في الأصداف فخر ... وعند الشيخ بالسجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا بنو تيمية كانوا فبانوا ... نجوم العلم أدركها انهباط ولكن يا ندامة حابسيه ... فشك الشرك كان به يماط ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضد يعجبه الخباط ألم يك فيكم رجل رشيد ... يرى سجن الإمام فيستشاط إمام لا ولاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رباط ولا جاراكم في كسب مال ... ولم يعهد له بكم اختلاط ففيم سجنتموه وعظتموه ... أما لجزا أذيته اشتراط وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي ... ففيه لقدر مثلكم انحطاط أما والله لولا كتم سري ... وخوف الشر لانحل الرباط وكنت أقول ما عندي ولكن ... بأهل العلم ما حسن اشتطاط فما أحد إلى الإنصاف يدعو ... وكل في هواه له انخراط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... وننبئكم إذا نصب الصراط فما هو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أردتم أن تعاطوا وحلوا واعقدوا من غير رد ... عليكم وانطوى ذاك السباط وكنت اجتمعت به بدمشق سنة 715هـ، بمسجده بالقصاعين وبحثت بين يديه في فقه وتفسير ونحو فأعجبه كلامي وقبل وجهي وإني لأرجو بركة ذلك وحكى لي عن واقعته المشهورة في جبل كسروان وسهرت عنده ليلة فرأيت من فتوته ومروءته ومحبته لأهل العلم ولا سيما الغرباء منهم أمرا كثيرا وصليت خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته خشوعا ورأيت على صلاته رقة حاشية تأخذ بمجامع القلوب. انتهى كلام الإمام: زين الدين عمر بن الوردي المتوفى بحلب سنة 749هـ رحمه الله تعالى بعبارته. وقد ذكرت لابن تيمية - رحمه الله - ترجمة حافلة بالفارسية في كتابي: إتحاف النبلاء المتقين. وله - قدس سره - تراجم كثيرة حسنة اعتنى بجمعها جمع جم من العلماء الفضلاء. منها: كتاب القول الجلي في ترجمة شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الحنبلي للسيد صفي الدين أحمد الحنفي البخاري نزيل نابلس - رحمه الله - وهو: جزء لطيف وعليه تقريظ للشيخ العلامة: محمد التافلاني مفتي الحنفية بالقدس الشريف وتقريظ للشيخ: عبد الرحمن الشافعي الدمشقي الشهير: بالكزبري. ومنها: كتاب الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ الإمام العلامة: مرعي. ومنها: كتاب الرد الوافر على من زعم أن: من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر للشيخ الإمام الحافظ: أبي عبد الله محمد بن شمس الدين أبي بكر بن ناصر الدين الشافعي الدمشقي وعليه تقريظ للحافظ: ابن حجر العسقلاني صاحب: فتح الباري وتقريظ لقاضي القضاة: صالح بن عمر البلقيني - رحمه الله - وتقريظ للشيخ الإمام: عبد الرحمن التفهني الحنفي وتقريظ للشيخ العلامة: شمس الدين محمد بن أحمد البساطي

المالكي وتقريظ للقاضي الفهامة: نور الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي وهذا: أطول التقاريظ وهي التي كتبوها في سنة 835هـ وأيضا عليه تقريظ للإمام العلامة قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية: أبي العباس أحمد بن نصر الله بن أحمد البغدادي ثم المصري كتبه في سنة 836هـ، بصالحية دمشق بدار الحديث الأشرفية وتقريظ لمحدث حلب الحافظ الإمام: أبي الوفا إبراهيم بن محمد النعيم رضوان بن محمد بن يوسف العقبي المصري الشافعي ثم قرظ عليه غيرهم من سائر البلدان: كالقاضي سراج الدين الحمصي الشافعي وخلق كثير. وكان قد نبغ شخص في المائة التاسعة يسمى: علاء الدين محمد البخاري بدمشق تعصب على الشيخ وأفتى بكفره وكفر من سماه: شيخ الإسلام فرد عليه في هذا الكتاب وعدد من سماه: شيخ الإسلام من أئمة جميع المذاهب منهم: خصومه كالسبكي وغيره وبعد إتمامه أرسله إلى مصر فقرظ عليه من تقدم ذكرهم وممن مدح شيخ الإسلام بقصائد حسنة طويلة: الشيخ العلامة إسحاق بن أبي بكر النزلي المصري الفقيه المحدث نجم الدين أبو الفضل أولها: يعنفني في بغيتي رتبة العلى ... جهول أراه راكبا غير مركبي إلى آخرها وهي نفيسة جداًَ. وهذه التقاريظ المشار إليها كلها بمنزلة تراجم مفيدة وهي تفصح عن علو مكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في العلوم والمعلومات. وقد أقر بفضله وبلوغه رتبة الاجتهاد من لا يحصى كثرة منهم: الحافظ: الذهبي والسيوطي والسخاوي والمزي والحافظ: ابن كثير وابن دقيق العيد والحافظ: فتح الدين اليعمري المعروف: بسيد الناس والحافظ: علم الدين البرزالي وغير هؤلاء وقد ترجم له: الحافظ: ابن حجر في الدرر الكامنة والعلامة: شهاب الدين بن فضل الله العمري في مسالك الأبصار والإمام العلامة: ابن رجب الحنبلي في طبقاته والعلامة: ابن شاكر في تاريخه والإمام العالم الحافظ: شمس الدين عبد الهادي في تذكرة الحفاظ ترجمة حافلة جدا وذكر الشيخ الفاضل: صلاح الدين الكتبي في فوات الوفيات من تصانيفه كتبا جمة لا يسع لها هذا الموضع. وأثنى عليه: شيخنا العلامة القاضي: محمد بن علي الشوكاني في آخر: شرح الصدور في تحريم رفع القبور وشهد أيضا بفضله وعلمه وسعة اطلاعه وكمال ورعه: مخالفوه. منهم: الشيخ: كمال الدين الزملكاني والشيخ: صدر الدين بن الوكيل والشيخ: أبو الحسن تقي الدين السبكي الراد عليه في مسألة الزيارة. وقد رد هذا الرد صاحب كتاب: الصارم المنكي على نحر ابن السبكي وأجمع له - إن شاء الله تعالى - ترجمة حافلة مستقلة في كتاب مفرز لذلك فلنقتصر على هذا المقدار هاهنا. الشيخ العلامة الحافظ: شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن القيم الجوزي الدرعي الدمشقي الحنبلي. ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة. وسمع على الشيخ: تقي الدين سليمان القاضي وأبي بكر بن عبد الدائم وشيخ الإسلام ابن تيمية

والشهاب النابلسي العابر وفاطمة بنت جوهر وعيسى المطعم وجماعة. وقرأ في الأصول على الصفي الهندي. وتفقه في المذهب وأفتى وتفنن في علوم الأسفار وكان عارفا بالتفسير لا يجارى فيه وبأصول الدين وإليه فيهما المنتهى وبالحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه لا يلحق في ذلك وبالفقه وأصوله وبالعربية وله فيها اليد الطولى وبعلم الكلام وغير ذلك من: كلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم له في كل فن من الفنون اليد الطولى والمعرفة الشاملة. وكان عالما بالملل والنحل ومذاهب أهل الدنيا علما أتقن وأشمل من أصحابها. وكان جريء الجنان واسع العلم والبيان عارفا بالخلاف ومذاهب السلف غلب عليه حب ابن تيمية - رحمه الله - حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله بل ينتصر له في جميع ذلك وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه وكان له حظ عند الأمراء المصريين واعتقل مع شيخه ابن تيمية في القلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة فلما مات شيخه أفرج عنه. وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية وكان ينال من علماء عصره وينالون منه وكان نيله حقا ونيلهم باطلاً. قال الذهبي في المختصر: حبس مرة لإنكاره شد الرحل لزيارة قبر الخليل ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم ولكنه معجب برأيه جريء على أمور وكانت مدة ملازمته لابن تيمية منذ عاد من مصر اثنتي عشرة سنة إلى أن مات. قال الحافظ ابن كثير: كان ملازما للأشغال ليلا ونهارا كثير الصلاة والتلاوة حسن الخلق كثير التودد لا يحسد ولا يحقد. قال: ولا أعرف في زماننا من أهل العلم أكثر عبادة منه وكان يطيل الصلاة جدا ويمد ركوعها وسجودها وكان يقصد للإفتاء بمسألة الطلاق إلى أن جرت له بسببها أمور يطول بسطها مع ابن السبكي وغيره. وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار وكان يقول: هذه عبادتي حتى لو لم أعتدها سقطت قواي وكان مغرما بجمع الكتب فحصل منها ما لا ينحصر حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا سوى ما اصطفوه لأنفسهم منها. وله من التصنيفات: زاد المعاد في هدي خير العباد أربع مجلدات كتاب عظيم جدا وأعلام الموقعين عن رب العالمين ثلاث مجلدات وبدائع الفوائد مجلدان وجلاء الأفهام مجلد وإغاثة اللهفان مجلد ومفتاح دار السعادة مجلد ضخم وكتاب الروح وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح والصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة مجلدات وتصانيف أخرى. ومن نظمه: قصيدة تبلغ سبعة آلاف بيت سماها: الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية مجلد. ومن كلامه: بالصبر والفقر تنال الإمامة في الدين وكان يقول: لا بد للسالك من همة يسيرة ترقيه وعلم يبصره ويهديه.

وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف وهو طويل النفس فيها قصدا للإيضاح ومعظمها من كلام شيخه يتصرف في ذلك وله في ذلك ملكة قوية وهمة علوية ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لها. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ثالث عشر رجب وكانت جنازته المقدسة حافلة جدا ورؤيت له بعد الموت منامات حسنة وكان هو ذكر قبل موته بمدة: أنه رأى شيخه ابن تيمية في المنام وأنه سأله عن: منزلته؟ فقال: إنه أنزل منزلا فوق فلان وسمى بعض الأكابر ثم قال: وأنت كدت تلحق بنا ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة. قال الشيخ العلامة ابن رجب الحنبلي - في طبقاته -: وكان ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والافتقار إلى الله تعالى والانكسار له والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته لم أشهد مثله في ذلك ولا رأيت أوسع منه علما ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله وقد امتحن وأوذي مرات وحبس مع شيخه في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا عنه وكان مدة حبسه مشتغلا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والدخول في غوامضهم وتصانيفه ممتلئة بذلك وحج مرات كثيرة وجاور بمكة وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمرا يتعجب منه ولازمت مجالسته قبل موته أزيد من سنة وسمعت عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة وأشياء من تصانيفه وغيرها. وأخذ عنه العلم خلق كثير في حياة شيخه وإلى أن مات وانتفعوا به وكان الفضلاء يعظمونه ويتتلمذون له: كابن عبد الهادي وغيره. قال القاضي برهان الدرعي: ما تحت أديم السماء أوسع علما منه درس بالصدرية وأم بالجوزية مدة طويلة وكتب بخطه مالا يوصف كثرة وصنف تصانيف كثيرة جدا في أنواع العلم وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه واقتناء كتبه واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره فمن تصانيفه: كتاب: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته على ما فيه من الأحاديث المعلولة مجلد. وكتاب: سفر الهجرتين وباب السعادتين مجلد ضخم. وكتاب: شرح منازل السائرين كتاب جليل القدر. وكتاب: شرح أسماء الكتاب العزيز مجلد. وكتاب: زاد المسافرين إلى منازل السعداء في هدي خاتم الأنبياء. وكتاب: نقد المنقول والمحك المميز بين: المردود والمقبول. وكتاب: نزهة المشتاقين وروضة المحبين مجلد. وكتاب: الداء والدواء مجلد. وكتاب: تحفة الودود في أحكام المولود مجلد لطيف.

وكتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية. وكتاب: رفع اليدين في الصلاة مجلد. وكتاب: تفضيل مكة على المدينة مجلد. وكتاب: فضل العلم مجلد وعدة الصابرين مجلد. وكتاب: الكبائر مجلد وحكم تارك الصلاة مجلد. وكتاب: نور المؤمن وحياته مجلد وكتاب: التحرير فيا يحل ويحرم من لباس الحرير وكتاب: جوابات عابدي الصلبان وأن ما هم عليه دين الشيطان وكتاب: بطلان الكيمياء من أربعين وجها وكتاب: الفرق بين الخلة والمحبة وكتاب: الكلم الطيب والعمل الصالح وكتاب: الفتح القدسي وكتاب: أمثال القرآن وكتاب: إيمان القرآن وكتاب: مسائل الطرابلسية ثلاث مجلدات والصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم وكتاب: الطاعون. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله تعالى مع الاختصار. قلت: وعندي من هذه الكتب أكثرها وقد انتفعت به بتوفيق الله تعالى انتفاعا لا أستطيع أن أؤدي شكره ووقفت على بعض هذه الكتب في سفر الحجاز والتقطت منه بعض الفوائد. وله - رحمه الله - تصانيف غير ما ذكرنا لا تحصى كثرة ولكن عز وجودها في هذا الزمان ونسجت عليها عناكب النسيان وغابت عن العيان ودرجت في خبر كان لمفاسد وتعصبات من أبناء الزمان وقلة مبالاة بها من أسراء التقليد وظني أن من كان عنده تصنيف من تصانيف هذا الحبر العظيم الشأن الرفيع المكان أو تصنيف شيخه العلامة الإمام ناصر الإسلام: ابن تيمية درة معدن الحران أو تصنيف شيخنا وبركتنا القاضي: محمد بن علي الشوكاني شمس فلك الإيمان أو تصانيف السيد العلامة: محمد بن إسماعيل الأمير اليماني غرة جبهة الزمان - شملتهم رحمة ربنا الرحمن في الآخرة وخصهم الله تعالى بنعيم الرضوان والجنان - لكفى لسعادة دنياه وآخرته ولم يحتج بعد ذلك إلى تصنيف أحد من المتقدمين والمتأخرين في درك الحقائق الإيمانية - إن شاء الله تعالى - والتوفيق من الله المنان وبيده الهداية وهو المستعان. وكان أبو ابن القيم: أبو بكر بن أيوب متعبداً قليل التكلف. سمع على الرشيد العامري وحدث عنه توفي في ذي الحجة سنة 723هـ. وأما ولد الحافظ ابن القيم: إبراهيم بن محمد فمولده سنة 716هـ، حضر على أيوب الكحال وسمع من جماعة: كابن الشحنة ومن بعده واشتهر وتقدم وأفتى ودرس ذكره الذهبي في معجمه. فقال: تفقه بأبيه وشاركه في العربية وسمع وقرأ واشتغل بالعلم. ومن نوادره: أنه وقع بينه وبين الحافظ: عماد الدين ابن كثير منازعة في تدريس فقال له ابن كثير: أنت تكرهني لأني أشعري. فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس في قولك: أنك أشعري وشيخك ابن تيمية رحمه الله. ألف شرحا على ألفيه ابن مالك وكان فاضلا في النحو والحديث والفقه على طريقة أبيه ودرس بأماكن

عديدة وكانت وفاته في صفر سنة 767هـ والله أعلم. وأما ولده الآخر عبد الله بن محمد فمولده سنة 723هـ، اشتغل على أبيه وغيره وكان مفرط الذكاء حفظ سورة الأعراف في يومين ثم درس المحرر في الفقه والمحرر في الحديث والكافية والشاطبية وسمع الحديث فأكثر على أصحاب ابن عبد الدائم وغيرهم وسمع الصحيح في الحجاز ومهر في العلم وأفتى ودرس وحج مراراً. وصفه ابن كثير الحافظ: بالذهن الحاذق والفكر الصائب. وقال ابن رجب: كان أعجوبة زمانه ووحيد أوانه توفي - رحمه الله - في سنة 756هـ، وذكر ترجمتهم الحافظ: ابن حجر في الدرر الكامنة. أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصفهاني: الإمام المشهور: بالظاهري كان زاهدا متقللا كثير الورع. أخذ العلم عن: إسحاق بن راهويه وأبي ثور وغيرهما. وكان صاحب مذهب مستقل وتبعه جمع كثير يعرفون: بالظاهرية. وكان ولده: أبو بكر محمد على مذهبه وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد وهو إمام أصحاب الظاهر. قال أبو العباس ثعلب: كان عقل داود أكثر من علمه وكان يقول: خير الكلام ما دخل الآذان بغير إذن ولد بالكوفة سنة 202هـ ونشأ ببغداد وتوفي سنة 307هـ. قال ولده: رأيت أبي في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وسامحني. فقلت: غفر الله لك فبم سامحك؟ فقال: يا بني الأمر عظيم والويل كل الويل لمن لم يسامح. أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني كان حافظ عصره رحل في طلب الحديث من الشام إلى العراق والحجاز واليمن ومصر وبلاد الجزيرة وأقام في الرحلة ثلاثا وثلاثين سنة وسمع الكثير عدد شيوخه ألف شيخ وله المصنفات الممتعة النافعة منها: المعاجم الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير وهي أشهر كتبه. روى عنه: الحافظ أبو نعيم والخلق الكثير توفي سنة 360هـ. والطبراني: - بفتح الطاء والباء والراء - نسبة إلى: طبرية والطبري: نسبة إلى طبرستان. أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي المالكي: كان من علماء الأندلس وحفاظها سكن شرق الأندلس ورحل إلى المشرق وأقام بمكة مع أبي ذر الهروي ثلاثة أعوام وحج. ثم رحل إلى بغداد فأقام بها ثلاثة أعوام يقرأ الحديث ويدرس الفقه ولقي بها: أبا الطيب الطبري وأبا إسحاق الشيرازي وروى عن الخطيب وروى الخطيب عنه. له: كتاب التجريح والتعديل فيمن روى عنه البخاري في الصحيح وغير ذلك وهو أحد أئمة المسلمين وكان قد رجع إلى الأندلس وولي القضاء هناك توفي بالمرية سنة 471هـ. وأخذ عنه: ابن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب وبينه وبين أبي محمد بن حزم الظاهري مجالسات ومناظرات وفصول يطول شرحها.

والباجي: نسبة إلى باجة وهي: مدينة بالأندلس وثم باجة أخرى: وهي: مدينة بأفريقية وباجة أخرى: وهي: قرية من قرى أصفهان. أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهرزوري المعروف: بابن الصلاح كان أحد فضلاء عصره في: التفسير والحديث وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة والفقه. قال ابن خلكان: وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم. تولى التدريس بالمدرسة الناصرية بالقدس وأقام بها مدة واشتغل الناس عليه وانتفعوا به. ثم انتقل إلى دمشق وكان من العلم والدين على قدم عظيم. وصنف في علوم الحديث كتابا نافعا ولم يزل أمره جاريا على السداد والصلاح والاجتهاد في الاشتغال والنفع إلى أن توفي يوم الأربعاء وقت الصبح في ربيع الآخر سنة 640هـ، بدمشق ومولده: سنة 577هـ، بشرخان. أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الحافظ الدارقطني: كان عالما حافظا انفرد بالإمامة في علم الحديث في عصره ولم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه وتصدر في آخر أيامه للإقراء ببغداد وكان عارفا باختلاف الفقهاء ويحفظ كثيرا من دواوين العرب. روى عنه الحافظ: أبو نعيم الأصفهاني - صاحب حلية الأولياء - وقبل القاضي ابن معروف شهادته فندم على ذلك وقال: كان يقبل قولي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بانفرادي فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع آخر. صنف: كتاب السنن والمختلف والمؤتلف وغيرهما. وخرج من بغداد إلى مصر وكان متفننا في علوم كثيرة إماما في علوم القرآن. ولد سنة 306هـ وتوفي في سنة 385هـ، ودفن قريباً من معروف الكرخي. ودار القطن: محلة كبيرة ببغداد. أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي: صاحب التفاسير كان أستاذ عصره في التفسير والنحو ورزق السعادة في تصانيفه وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم منها: البسيط والوسيط والوجيز ومنه أخذ: أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة وله: كتاب أسباب نزول القرآن وشرح ديوان المتنبي. وكان تلميذ الثعلبي المفسر وعنه أخذ علم التفسير وأربى عليه. وتوفي عن مرض طويل في سنة 467هـ، بمدينة نيسابور. أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الإمام المشهور أصله من فارس ومولده بقرطبة من بلاد الأندلس يوم الأربعاء قبل طلوع الشمس سلخ شهر رمضان سنة 384هـ ويزيد جده الأعلى: وهو من موالي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي كان حافظا عالما بعلوم الحديث وفقهه مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر وكان متفننا في علوم جمة عاملا بعلمه زاهدا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الملك متواضعا ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة.

ألف في فقه الحديث كتابا سماه: الإيصال إلى فهم الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في: الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين والحجة لكل طائفة وعليها وهو كتاب كبير قال ابن بشكوال في حقه: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعة في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار كتب بخطه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. قال الحافظ الحميدي: ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدين وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه فنفرت عنه القلوب واستهدف فقهاء وقته فتمالوا على بغضه وردوا أقواله وأجمعوا على تضليله وشنعوا عليه وحذروا سلاطنيهم من فتنته ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتى انتهى إلى بادية لبلة فتوفي بها آخر النهار من شعبان سنة 456هـ، وقيل: في منت ليشم: وهي قرية ابن حزم. قال ابن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج الثقفي. شقيقين. وإنما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمة وكان والده وزير الدولة العامرية ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه. قلت: وذكر الشيخ ابن عربي - صاحب الفتوحات - أنه رأى أبا حزم في المنام وقد عانق رسول الله صلى الله عليه وسلم فغاب أحدهما في الآخر فلم أعرف أحدهما عن الآخر هذا حاصل معناه وهذا يدل على حسن عاقبته ولطف علمه وخيرة طريقه وكما اتحاده بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس وراء ذلك غاية والله أعلم. والظاهرية: هم أئمة الأمة وسلفها وقدوة المسلمين في كل زمان ومذهبهم أصفى مذاهب عالم الإمكان ولنعم ما قيل: بلاء ليس يعدله بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي: كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم له التصانيف المفيدة منها. كتاب: الإكمال في شرح صحيح مسلم. ومشارق الأنوار في غريب الحديث. والشفا في حقوق المصطفى. دخل الأندلس طالبا للعلم وأخذ بقرطبة عن جماعة وجمع من الحديث كثيرا وكان له عناية كثيرة به والاهتمام بجمعه وتقييده وهو من أهل اليقين في العلم والذكاء والفطنة والفهم. واستقضي ببلدة سبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها ثم نقل منها إلى قضاء غرناطة فلم تطل مدته فيها وله شعر حسن ونثر بليغ ولد سنة 476هـ وتوفي في سنة 544هـ بغرناطة وهي بلدة بالأندلس.

أبو عبد الله محمد بن يحيى بن مندة العبدي: الحافظ المشهور صاحب كتاب: تاريخ أصفهان كان أحد الحفاظ الثقات وهم أهل بيت كبير خرج منه جماعة من العلماء توفي في سنة 301هـ. أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن العربي: الأندلسي الإشبيلي المالكي الحافظ المشهور صاحب كتاب: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس. قال ابن بشكوال: هو ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها رحل إلى المشرق ودخل الشام وبغداد وسمع بها من جماعة. ثم دخل الحجاز فحج ثم عاد إلى بغداد وصحب أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي - رحمهم الله - وغيرهما ثم صدر عنهم ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدثين فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادهم. ثم عاد إلى الأندلس وقدم إلى إشبيلية بعلم كثير لم يدخل أحد قبله بمثله ممن كانت له رحلة إلى المشرق وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها مقدما في المعارف كلها متكلما في أنواعها نافذا في جميعها حريصا على أدائها ونشرها ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها ويجمع إلى ذلك كله: آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود واستقضي ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة. ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه. ولد سنة 468هـ، وتوفي بمدينة فاس في سنة 543هـ. وله مصنفات منها: كتاب عارضة الأحوذي في شرح الترمذي. والعارضة: القدرة في الكلام والأحوذي: الخفيف في الشيء لحذقه وقال الأصمعي: المسمى في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عليه منها شيء. أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله المعروف: بابن تيمية الحراني الملقب: فخر الدين الخطيب الواعظ. كان فاضلا تفرد في بلاده بالعلم وكان المشار إليه في الدين لقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم العلوم وقدم بغداد وتفقه بها وسمع الحديث وصنف في مذهب الإمام أحمد مختصرا أحسن فيه وله ديوان خطب مشهور وهو في غاية الجودة وله نظم حسن وكانت إليه الخطابة بحران ولأهله من بعده ولم يزل أمره جاريا على سداد وصلاح حال. ولد بمدينة حران سنة 543هـ وتوفي بها في سنة 621هـ. ذكره ابن سلامة في: تاريخ حران وأثنى عليه. وذكره ابن المستوفي في: تاريخ إربل فقال: ورد إربل حاجا وذكر فضله قال: وكان يدرس التفسير كان يوم وهو حسن القصص حلو الكلام مليح الشمائل وله القبول التام عند الخاص والعام. قال: سألته عن اسم تيمية ما معناه؟ فقال: حج أبي أو جدي أنا أشك أيهما فلما رجع إلى حران وجد امرأته قد وضعت جارية فلما

رفعوها إليه قال: يا تيمية يا تيمية يعني: إنها تشبه التي رآها بتيماء فسمى بها أو كلاما هذا معناه. وتيماء: بليدة في بادية تبوك إذا خرج الإنسان من خيبر إليها تكون على منتصف طريق الشام. وتيمية: منسوبة إلى هذه البليدة وكان ينبغي أن تكون تيماوية لأن النسبة إلى تيماء: تيماوي لكنه هكذا قال واشتهر كما قال. يوسف بن عبد البر بن محمد النمري القرطبي إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلق بهما لم يكن في الأندلس مثله في علم السنة وكان أحفظ أهل المغرب في زمانه دأب في طلب العلم وأفتى به وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس. وألف في الموطأ كتبا مفيدة منها: كتاب التمهيد. قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه. وله كتاب الاستدراك لمذاهب الأعصار. وكتاب: الاستيعاب وكتاب: جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله وغير ذلك. وكان موفقا في التأليف معانا عليه - نفع الله به - وكان له بسطة كثيرة في علم النسب. وفارق قرطبة وجال في غرب الأندلس مدة ثم سكن دانية وبلنسية وشاطبة في أوقات مختلفة وتولى قضاء لشبونة وشنترين. توفي في سنة 463هـ، بمدينة شاطبة. وكان مولده سنة 368، وهو: حافظ المغرب كما كان الخطيب البغدادي: حافظ المشرق وقد ماتا في سنة واحدة وهما: إمامان في هذا الفن - وكان أمر الله قدرا مقدرواً. أبو بكر بن أحمد بن الحسين البيهقي: واحد زمانه وفرد أقرانه في الفنون من كبار أصحاب الحاكم في الحديث ثم الزائد عليه في أنواع العلوم غلب عليه الحديث واشتهر به ورحل في طلبه إلى الجبال والحجاز والعراق. وسمع بخراسان من علماء عصره تبلغ تصانيفه ألف جزء. وهو: أول من جمع نصوص الإمام الشافعي. وله: السنن الصغير والكبير ودلائل النبوة وشعب الإيمان ومناقب الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل. وكان قانعا من الدنيا بالقليل قال إمام الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منة إلا أحمد البيهقي فإن له على الشافعي منة. وطلب إلى نيسابور لنشر العلم فانتقل إليها وكان على سيرة السلف. وأخذ عنه الحديث جماعة من الأعيان. ولد في سنة 384هـ وتوفي في سنة 458هـ، بنيسابور ونقل إلى بيهق وهي: قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا منها وخسرو جرد: من قراها فهو منها. أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي: الحافظ كان إمام أهل عصره في الحديث له كتاب

السنن سكن مصر وانتشرت بها تصانيفه وأخذ عنه الناس وكان يتشيع امتحن بدمشق فأدرك الشهادة وحمل إلى مكة المكرمة فتوفي بها سنة 303هـ وهو مدفون بين الصفا والمروة وكان يصوم يوما ويفطر يوما وكان موصوفا بكثرة الجماع وكان إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظاً. ونسا: مدينة بخراسان خرج منها جماعة من الأعيان ذكرت له ترجمة حسنة في الحطة والإتحاف مع بقية أصحاب الستة فلا نطول الكلام بذكرها هنا. الشيخ عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر شيخ الإسلام مجد الدين أبو البركات بن تيمية الحراني جد الشيخ: تقي الدين. قال الشوكاني في حقه: علامة عصره المجتهد المطلق شيخ الحنابلة المعروف: بابن تيمية. قال الذهبي - في النبلاء -: ولد في حدود سنة 590هـ وتوفي في سنة 652هـ، يوم الفطر. تفقه في صغره على: عمه: الخطيب فخر الدين ورحل إلى بغداد وهو ابن بضعة عشر وسمع بها من: أحمد بن سكينة وابن طبرزد ويوسف بن كامل. وسمع بحران روى عنه: الدمياطي وولده الشيخ: شهاب الدين عبد الحليم وجماعة. وتفقه وبرع واشتغل وصنف التصانيف وانتهت إليه الإمامة في الفقه ودرس القرآن وحج في سنة 651هـ، على درب العراق والتمس منه أستاذ دار الخلافة ببغداد: ابن الجوزي الإقامة عندهم فتعلل بالأهل والوطن وكان الشيخ ابن مالك يقول: ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديث وابتهر علماء بغداد لذكائه وفضائله. قال الشيخ تقي الدين: وجدناه عجيبا في سرد المتون وحفظ المذاهب بلا كلفة وصنف التصانيف مع الدين والتقوى وحسن الاتباع. قال شيخنا وبركتنا الإمام القاضي الشوكاني - في نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار -: وقد يلتبس على من لا معرفة له بأحوال الناس صاحب الترجمة هذا بحفيده شيخ الإسلام: تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام - شيخ ابن القيم - الذي له المقالات التي طال بينه وبين عصره فيها الخصام وأخرج من مصر بسببها وليس الأمر كذلك. قال في تذكرة الحفاظ في ترجمة شيخ الإسلام: هو أحمد بن المفتي عبد الحليم بن الشيخ الإمام المجتهد عبد السلام. انتهى. وبالجملة: كان إماما حجة بارعا في الفقه والحديث وله يد طولى في التفسير ومعرفة تامة في الأصول والاطلاع على مذاهب الناس وله ذكاء مفرط ولم يكن في زمانه مثله. وله المصنفات النافعة كالأحكام المسمى: بالمنتقى وشرح الهداية وصنف: أرجوزة في القراءة وكتابا في أصول الفقه. وشيخه في الفرائض والعربية: أبو البقا وحكى البرهان المراغي: أنه اجتمع به فأورد نكتة عليه فقال مجد الدين الجواب عنها عن مائة وجه: الأول كذا والثاني كذا وسردها إلى آخرها ثم قال للبرهان: وقد رضينا منك الإعادة فخضع له وانتهى.

وعلى كتابه: منتقى الأخبار شرح لشيخنا القاضي العلامة المجتهد المطلق الرباني: محمد بن علي الشوكاني سماه: نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار أجاد فيه كل الإجادة وبلغ غاية في الإحسان والإفادة ونهاية في التحقيق والاستدلال مع البدء والإعادة - ولله الحمد حمدا كثيراً مباركاً. شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي أحد الأذكياء المشهورين وإمام الفقهاء المحدثين. ولد في رجب سنة 755هـ، وقيل: قبلها وقيل: بعدها. وسمع من التقي سليمان وابن سعد وطبقتهما. وتفقه بابن مسلم وتردد إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ومهر في الحديث والفقه والأصول والعربية وغيرها. قال الصفدي: لو عاش لكان آية كنت إذا لقيته سألته عن: مسائل أدبية وقواعد عربية فينحدر كالسيل وكنت أراه يوافق المزي في أسماء الرجال ويرد عليه فيقبل منه. وقال الذهبي - في معجمه -: هو الفقيه البارع المقري المجود المحدث الحافظ النحوي الحاذق ذو الفنون كتب عني واستفدت منه. وقال الحافظ ابن كثير: كان حافظا علامة ناقدا حصل من العلوم مالا يبلغه الشيوخ الكبار وبرع في الفنون وكان جبلا في: العلل والطرق والرجال حسن الفهم جدا صحيح الذهن. وله: كتاب الأحكام في ثمان مجلدات والرد على أبي الحسن السبكي الكبير في رده على شيخه ابن تيمية سماه: الصارم المنكي على نحر ابن السبكي كتبته بخطي حين سافرت إلى الحرمين الشريفين على المركب فوق البحر المحيط ذهابا من بندر مجيئا إلى مكة المشرفة في سنة 1285هـ وله: المحرر في الحديث اختصره من الإلمام فجوده جدا واختصر التعليق لابن الجوزي وزاد عليه وشرح التسهيل في مجلدين وله: مناقشات مع أبي حيان فيما اعترض به على ابن مالك في الألفية وله: الكلام على أحاديث مختصر ابن الحاجب رحمه الله وشرح كتاب العلل على ترتيب الفقه وقفت منه على المجلد الأول وجمع: التفسير المسند ولم يكمله وله: المغني في الفقه وهو أجمع كتاب في بابه مغن للمقلد والمجتهد اشتريته بمائة ربية للمدرسة السليمانية الواقعة بمحمية بهوبال المحروسة. قال الذهبي: ما اجتمعت به قط إلا واستفدت منه وكثر التأسف لما مات وحضر جنازته من لا يحصى كثرة. وكانت وفاته في عاشر جمادى الأولى سنة 744هـ، ذكر له الحافظ ابن حجر ترجمة حسنة في: الدرر الكامنة. وكتابه: الصارم المنكي يدل على سعة اطلاعه في علم السنة وغزارة فضله وتحقيقه في العلوم الشرعية وإيثاره الحق على الخلق رحمه الله تعالى. جمال الإسلام كمال الدين محمد بن علي بن عبد الواحد المعروف: بابن الزملكاني الأنصاري الدمشقي قاضي قضاة الشافعية في عصره.

سمع من ابن علان وطلب الحديث وقرأه وكان فصيحا متسرعا بصيرا بالمذهب وأصوله ذكياً صحيح الذهن صائب الفكر وكان شكله حسناً ومنظره رائعاً وتجمله في زيه وهيئته غاية وشيبته منورة يكاد الورد يقتطف من وجنتيه وعقيدته أشعرية وفضائله جموعها عديدة وفواضله ربوعها مشيدة صفن أشياء منها: رسالة في الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية، ولذلك اعترف آخراً بفضله ومدحه مدحاً بالغاً إلى الغاية. درس بالشامية البرانية والطاهرية والرواحية وألف: رسالة سماها: رابع أربعة توفي في سنة 727هـ وكان كثير التحيل شديد الاحتراز يتوهم أشياء بعيدة وتعب بذلك وعودي وحسد. ومن نظمه: قصيدة يذكر فيها الكعبة الشريفة ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم أولها: أهواك يا ربة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك وعمل على هذه القصيدة كراريس سماها: عجالة الراكب في أشرف المناقب ذكر له أهل الطبقات تراجم حسنة في كتبهم. محمد بن علي بن وهب بن مطيع الإمام العلامة شيخ الإسلام: تقي الدين أبو الفتح بن دقيق العيد: القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي أحد الأعلام وقاضي القضاة. ولد سنة 625هـ، بناحية ينبع وتوفي يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة 702هـ سمع من: ابن عبد الدائم والزين خالد وابن رواح وغيرهم. له التصانيف البديعة: كالإمام في شرح الإلمام والإلمام بأحاديث الأحكام في علوم الحديث وشرح عمدة الأحكام وشرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه وجمع: الأربعين في الرواية عن رب العالمين وكان إماما متقنا محدثا مجودا فقيها مدققا أصوليا أديبا شاعرا نحويا ذكيا غواصا على المعاني مجتهدا وافر العقل كثير السكينة بخيلا بالكلام تام الورع شديد التدين مديم السهر مكبا على المطالعة والجمع قل أن ترى العيون مثله سمحا جوادا وكان قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات وله في ذلك حكايات ووقائع كثيرة وكان كثير التسري والتمتع وله عدة أولاد ذكور بأسماء الصحابة العشرة. تفقه بأبيه وبالشيخ عز الدين بن عبد السلام واشتهر اسمه في حياة مشائخه وكان مالكيا ثم صار شافعيا ومن شعره رحمه الله تعالى: أحباب قلبي والذين بذكرهم ... وتردادهم طول الزمان تعلقي لئن غاب من عيني بديع جمالكم ... وجار على الأبدان حكم التفرق فما ضرنا بعد المسافة بيننا ... سرائرنا تسري إليكم فتلتقي وقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يبق أمل سواك فإن بغت ... ودعت أيام الحياة وداعا لا أستلذ بغير وجهك منظرا ... وسوى حديثك لا أريد سماعا هؤلاء المترجمون هم نقاوة الحفاظ ولعلنا قد أهملنا خلقا كثيرا من نظرائهم فإن المجلس الواحد في ذلك الزمان كان يجتمع فيه أزيد من عشرة آلاف محبرة يكتبون الآثار النبوية ويعتنون بهذا الشأن،

وبينهم نحو من مائتي إمام قد برزوا وتأهلوا للفتيا ثم اندرج أصحاب الحديث وتلاشوا وتبدل الناس بطلبة يهزأ بهم أصحاب الحديث والسنة ويسخرون منهم وصار علماء الأعصار وفضلاء الأمصار - في الغالب - عاكفين على التقليد في الفروع من غير تحرير لها مكبين على عقليات من حكمة الأوائل وآراء المتكلمين من غير أن يتعقلوا أكثرها فعم البلاء واستحكمت الأهواء ولاحت مبادي رفع العلم وقبضه من الناس فرحم الله امرأ أقبل على شأنه وقصر من لسانه وأكب على تلاوة قرآنه وبكى على زمانه وأدمن النظر في الصحيحين وعبد الله قبل أن يأتيه الأجل - اللهم فوفق وارحم. قال الذهبي - في الطبقات - في آخر تراجم أهل الطبقة التاسعة: ولقد كان في ذلك العصر وما قاربه من أئمة الحديث النبوي في الدنيا خلق كثير ما ذكرنا عشرهم هاهنا وأكثرهم مذكورون في: تاريخي الكبير وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أئمة أهل الرأي والفروع وعدد كثير من أساطين المعتزلة والشيعة وأصحاب الكلام الذي مشوا وراء المعقول وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية وظهر في الفقهاء التقليد وتناقض الاجتهاد فسبحان من له الخلق والأمر. فبالله عليك يا شيخ ارفق بنفسك والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء النذر الشرر ولا ترمقنهم بعين النقص ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا حاشا وكلا فما فيمن سميت أحد ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين عالم بسبيل النجاة وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة فإني أحسبك لفرط هواك وسعة جهلك تقول بلسان الحال إن أعذرك المقال -: من أحمد؟ وما ابن المديني؟ وأي شيء أبو زرعة؟ وهؤلاء المحدثون لا يدرون الفقه ولا أصوله ولا يفقهون الرأي ولا علم لهم بالبيان والمعاني ولا الدقائق ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق ولا يعرفون الله تعالى بالدليل ولا هم من فقهاء الملة فاسكت بحلم أو انطق بعلم فالعلم النافع: هو ما جاء عن أمثال هؤلاء ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث فلا نحن ولا أنت وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل فمن اتقى: راقب الله واعترف بنقصه ومن تكلم بالجهل أو بالجاه وبالشرف فأعرض عنه وذره وغيه فعقباه إلى وبال نسأل الله العفو والعافية. انتهى كلامه ملخصاً. وقال في آخر الطبقة الخامسة من كتابه: الطبقات: وكان الإسلام وأهله في عز تام وعلم غزير وأعلام الجهاد منشورة والسنن مشهورة والبدع مكبوبة والقوالون بالحق كثيرون والعباد متوافرون والناس في رغدة من العيش بالأمن وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس وإلى قريب مملكة الخطا وبعض الهند والحبشة. وخلفاء هذا الزمان: أبو جعفر وأين مثل أبي جعفر؟ علم ظلم فيه ثم ابنه: المهدي ثم ولده: الرشيد هارون. وكان في هذا الوقت من الصالحين مثل: إبراهيم بن أدهم وداود الطائي وسفيان الثوري. ومن النحاة مثل: عيسى بن عمر والخليل بن أحمد وحماد بن سلمة. ومن القراء: حمزة بن حبيب وابن العلاء ونافع. ومن الشعراء: مروان بن أبي حفصة وبشار بن برد. ومن الفقهاء: كأبي حنيفة ومالك والأوزاعي.

قال: وعن يحيى التميمي قال: سمعت أبا يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة عند وفاته يقول: كل ما أفتيت به فقد رجعت عنه إلا ما وافق الكتاب والسنة. وفي لفظ: إلا ما وافق القرآن وأجمع عليه المسلمون. انتهى. قلت: وهكذا كان حال السلف فقد روينا عن ابن خزيمة أنه قال: ليس لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول إذا صح الخبر وكان الحافظ ابن المنذر: مجتهدا لا يقلد أحداً. وكان ابن عبد البر: صاحب اتباع وسنة. وكان ابن وهب الفهري: حافظا مجتهدا لا يقلد أحدا وكذا: بقي بن مخلد القرطبي: المفسر المحدث كان لا يقلد أحدا تعصبوا عليه لإنكاره مذهب أهل العصر فدفعهم عنه أمير الأندلس: محمد بن عبد الرحمن المرواني واستنسخ كتبه وقال لبقي: انشر علمك. وروي عن بقي أنه قال: لقد غرست للمسلمين غرسا بالأندلس لا يقلع إلا بخروج الدجال. وهكذا كان: قاسم بن محمد بن سيار: إماما مجتهدا لا يقلد أحدا وكان مذهبه النظر والحجة ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر مات سنة 376هـ، إلى غير هؤلاء ممن لا يحصى كثرة ولا يستقصى عددا ولذا قال المحققون: إن التقليد والمقلدة ليسا من العلم والعلماء في صدر ولا ورد ولا يطلق اسم العلم والعالم عليهما. وإنما حدث التقليد حين ضعف العلم وتمسك به الجهال والعوام وعمت به البلوى على ممر الدهور في الأنام. قال سفيان الثوري: ليس طلب الحديث من عدة الموت لكنه علة يتشاغل بها الرجل قلبه وقد صدق والله في هذا المقال لأن طلب الحديث شيء غير الحديث. فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث وكثير منها مراق إلى العلم وأكثر الأمور التي يشغف بها المحدث: تحصيل النسخ المليحة وتطلب العالي وتكثر الشيوخ والفرح بالألقاب والابتشار بالثناء وتمني العمر الطويل ليروي وحب التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا للأعمال الربانية. فإذا كان طلبك للحديث النبوي محفوفا بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟ وإذا كان علم الآثار مدخولا فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة ولا والله عرفها ابن المبارك ولا أبو يوسف ولا وكيع ولا ابن وهب ولا الشافعي ولا أبو عبيد ولا ابن المديني ولا أحمد ولا أبو داود ولا المزني والبخاري والأثرم ومسلم والنسائي وابن خزيمة وابن شريح وابن المنذر ولا أمثالهم؟ بل كانت علومهم: القرآن والحديث والنحو والتاريخ وشبه ذلك. ومن كلام سفيان أيضا: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذا صحت النية فيه. هذا آخر ما استفدته من كلام الحافظ الذهبي - وبالله التوفيق وهو المستعان.

علماء الفرائض

علماء الفرائض أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الوني الفرضي الحاسب: كان إماما في الفرائض وله فيه تصانيف كثيرة مليحة أجاد فيها وهو شيخ الخبري في علم الحساب والفرائض وانتفع به وبكتبه خلق كثير توفي شهيدا ببغداد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة في فتنة البساسيري والوني: نسبة إلى ون: وهي قرية من أعمال قهستان. الشيخ عبد الباسط بن رستم بن علي بن علي أصغر القنوجي: كان من علماء الهند. ولد سنة 1159هـ، أخذ العلوم عن أبيه وبرع في الفنون النقلية والعقلية خصوصا: الحساب والفرائض وله في ذلك تصانيف مفيدة وكان في زمانه أستاذ الأساتذة وشيخ المشائخ. تتلمذ عليه خلق كثير من علماء الهند منهم: سيدي الوالد العلامة: حسن بن علي القنوجي رحمه الله تشد إليه الرحال في طلب العلم من بلاد شاسعة وتقصده الطلبة من كل فج عميق وكان في الفرائض آية باهرة درس وأفاد وألف وأجاد وتوفي في سنة 1223هـ، ثلاث وعشرين ومائتين وألف الهجرية ومن مؤلفاته: زبدة الفرائض ونظم اللآلي في شرح ثلاثيات البخاري وانتخاب الحسنات في ترجمة أحاديث دلائل الخيرات وأربعون حديثا ثنائيا وشرحه المسمى: بالحبل المتين في شرح الأربعين وعجيب البيان في أسرار القرآن وشفاء الشافية. وكان له اليد الطولى في علم النحو والصرف والفقه والأصول والمنطق له: شرح على التهذيب يعرف: بشرح الفاضل القنوجي. وكان سريع الكتابة جيد الخط يعظمه أهل عصره تعظيما بليغا ويكرمه علماء وقته إكراماًًًًًًًًًًًًًًًًً جليلاً تتلمذ عليه الشيخ المفتي: ولي الله الفرخ آبادي صاحب: المطر الثجاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج.

علماء النجوم

علماء النجوم أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي المنجم المشهور كان إمام وقته في فنه وله التصانيف المفيدة في علم النجامة. منها: المدخل والزيج والألوف وغير ذلك وكانت له إصابات عجيبة مات في سنة 273هـ. والبلخي: نسبة إلى بلخ: وهي مدينة عظيمة من بلاد خراسان فتحها الأحنف بن قيس التميمي في خلافة عثمان رضي الله عنه وهذا الأحنف: هو الذي يضرب به المثل في الحلم. أبو الحسن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم كان نديم المتوكل ومن خواصه وجلسائه المتقدمين عنده ثم انتقل إلى من بعده من الخلفاء ولم يزل مكينا عندهم حظيا لديهم يجلس بين يدي أسرتهم ويفضون إليه بأسرارهم ويأمنونه على أخبارهم ولم يزل عندهم في المنزلة العلية ثم اتصل بالفتح بن خاقان وعمل له خزانة الكتب أكثرها حكمة وله أشعار حسنة وعاش إلى أن خدم المعتمد على الله توفي في سنة 275هـ، بسر من رأى وخلف جماعة من الأولاد وكلهم: نجباء علماء أدباء ندماء. أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الرحمن بن يونس الصدفي المصري. المنجم المشهور صاحب الزيج

الحاكمي المعروف: بزيج ابن يونس، وهو في أربع مجلدات بسط القول والعمل فيه وما أقصر في تحريره ولم ير في الأزياج - على كثرتها - أطول منه كان مختصا بعلم النجوم متصرفا في سائر العلوم وكان قد أفنى عمره في الرصد والتسيير للمواليد وعمل فيها مالا نظير له وكان يقف للكوكب توفي في سنة 393هـ، ودفن بداره وصلي عليه في الجامع بمصر. أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني: الحاسب المنجم المشهور صاحب: الزيج الصابي له الأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة وكان أوحد عصره في فنه وأعماله تدل على غزارة فضله وسعة علمه توفي سنة 317هـ، بموضع يقال له: قصر الحضر قال ابن خلكان: ولم أعلم أنه أسلم لكن اسمه يدل على إسلامه وله من التصنيفات: الزيج وهي نسختان الثانية: أجود وكتاب: معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك في مقدار الاتصالات وشرح أربع مقالات بطليموس.

علماء الحرمين

علماء الحرمين الشيخ: علي بن محمد بن عريق عالم المدينة المنورة وخطيب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان نائبا مناب أبيه في العلم والعمل والتقوى له تصانيف مفيدة. منها: كتاب تنزيه الشريعة عن الأحاديث الموضوعة لخصه تلميذه: الشيخ رحمة الله السندي وهو في غاية اللطف من الاختصار. الشيخ: أبو الحسن البكري المصري الشافعي: من آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان جامعا بين العلم والعمل وهو ممن اتفقوا على: ولايته وجلالته وبلوغه رتبة الاجتهاد لا يفارق الكتاب من يده وينظر فيه دائما سئل عن شرب القهوة وذكر له أن المغاربة يحرمونه؟ فقال: كيف يدعى بالحرام وأنا أشرب منها؟. تتلمذ عليه الشيخ علي المتقي وسمع منه الحديث وأخذ عنه الطريقة وكان ولده: محمد البكري شاعرا مفلقا جيدا له: تأليف في التوحيد سماه: تأبيد المنة بتأييد السنة. توفي محمد المذكور في سنة 991هـ. ولمحمد ولد يسمى: زين العابدين كان عالما كبيرا ومن مقالاته: إن أبا بكر أفضل من علي ولكن المحبة والانجذاب شيء آخر وهذا مذهبي ومواهبنا كلها على يدي سيدنا علي - رضي الله تعالى عنه. الشيخ أبو بكر بن سالم اليمني الحضرمي: هو ممن جمع بين العلم والحال والولاية والسيادة له كلام عال وشعر حسن ينبئ عن حاله ومقامه: فلولا وجود السر ما كان كائن ... فتمت بذاك السر كل البرية تمسك بنا والزم دقائق حسنا ... وزرني بصرف الود تسعد بزورتي ولي شرف المصطفى سيد الورى ... بنسبته فقنا جميع الخليقة وصلي على الهادي النبي وآله ... وأصحابه والتابعين بجملة الشيخ شهاب الدين أحمد بن الحجر المكي الهيتمي كان أعظم علماء عصره وفقهاء دهره لم يكن له نظير في الفقاهة في زمانه.

قال الشيخ عبد الحق الدهلوي: لا نسبة له بالشيخ ابن حجر العسقلاني الكبير في علم الحديث ولكن يحتمل أن يكون في الفقه مثله. تتلمذ على الشيخ: زكريا المصري الآخذ عن الحافظ: ابن حجر العسقلاني. له مؤلفات ممتعة منها: شرح الشمائل للترمذي وشرح الأربعين للنووي وشرح المشكاة في الحديث والزواجر عن اقتران الكبائر وهو: كتاب لم يؤلف مثله قبله والصواعق المحرقة في الرد على الروافض وشرح الهمزية في نعته صلى الله عليه وسلم وشرح عين العلم في السلوك وقلائد العقيان في مناقب النعمان. توفي في سنة 975هـ. انتهى. وكان له تعصب مع شيخ الإسلام: ابن تيمية شديد - عفا الله عنه ما جناه. الشيخ أحمد أبو الحرام: كان من فقهاء المدينة وعلمائها وكان في علم القراءة آية باهرة وأستاذ الأساتذة في الديار الحرمية مات ولده الفاضل الصالح في حياته فحزن عليه حزنا شديدا وبكى عند نزعه فقال الولد: لا تحزن علي ابق أنت فإن في بقائك نفع الخلق وتلا هذه الآية: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} مات - رحمه الله - في سنة 1001هـ، ودفن بالبقيع. الشيخ محمد البهنسي: نسبة إلى: قرية من قرى مصر هاجر عنها إلى مكة المكرمة واستوطنها وتتلمذ على الرملي: تلميذ السيوطي وكان يقول: عملنا على كتب الأحاديث الصحاح ويستنبط في المسائل الفقهية ويجتهد لم أقف على عام وفاته رحمه الله. السيد جعفر المدني: مدرس المسجد الشريف النبوي كان يقول: لما صنف القسطلاني كتابه: المواهب اللدنية وأورد فيه النقول من كتب السير والأحاديث قال له السيوطي: نقلت هذه الأقوال من كتبي ولم تسمني ولا كتبي وإن كنت نقلتها من غير كتبي فأتني بأصولها؟ فعجز القسطلاني وكان قد نقلها من كتب السيوطي ولا يخلو ذلك من نوع خيانة وعدم ديانة. انتهى. قلت: وقد فعل بكتبي مثل ذلك بعض أبناء الزمان أيضا لا أسميه حياء من الله تعالى. الشيخ: أحمد بن علي بن عبد القدوس بن محمد العباسي الشناذي: تتلمذ في علم الحديث على: الشيخ: شمس الدين الرملي وعلى: والده وعلى: السيد غضنفر وروى عن: الشيخ: محمد بن أبي الحسن البكري وصحب: السيد: صبغة الله ولبس منه الخرقة وكان يقول: لو كان الشعراني حيا ما وسعه إلا اتباعي. الشيخ: أحمد القشاشي بن محمد بن يونس الدجاني والدجانة: بتخفيف الجيم: قرية من قرى بيت المقدس كان يبيع القشاشة في المدينة المنورة وهي سقط المتاع يبيعها لستر حاله وإخفاء أمره وكان له اليد الطولى في علم الشريعة والحقيقة صحب المشائخ الكثيرة منهم: الشيخ: أحمد الشناذي ولما وفد عليه قال: مرحبا بمن جاء يقتبس منا علومنا. ومن عجائب أحواله: أنه تلا القرآن الكريم من أوله إلى آخره في المنام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الشيخ عيسى المغربي: ما خرجت من عند القشاشي قط إلا والدنيا في عيني أحقر من كل حقير ونفسي أذل من كل ذليل ولو تكرر دخولي عليه مرات. توفي رحمه الله 19 ذي الحجة سنة 1071هـ. السيد: عبد الرحمن الإدريسي: الشهير بالمحجوب ولد بمكناسة بلدة بمغرب وساح الروم والشام ومصر

وجاور بمكة المكرمة ورحل إلى اليمن لزيارة أوليائها وقال: اليمن ينبت فيها الأولياء كما ينبت في الأرض البقل قلت: وكذا ينبت فيه العلماء بالكتاب والسنة أيضا مثل نبات البقل من الأرض وذلك من فضل الله تعالى على اليمن وما فيها - والله يختص برحمته من يشاء - وكان السيد المحجوب من مشائخ الحرمين المعروف: بالفضل والكرامة والولاية ذكر له ترجمة حافلة في: إنسان العين. الشيخ: شمس الدين محمد بن العلاء البابلي حافظ الحديث في زمانه أستاذ أهل الحرمين ومصر أدرك ليلة القدر في بدء أمره ودعا الله - سبحانه - بأن يجعله مثل الحافظ: ابن حجر العسقلاني - رحمه الله تعالى - فأجاب الله نداءه. وكان له روايات الصحيح للبخاري وسائر الكتب الحديثة عن الشيخ: سالم السهنوري ومسلسلات صحيحة ضبطها الشيخ: عيسى المغربي في رسالة وكأنها أصل لإثبات المتأخرين توفي في سنة 1079هـ وبابل: قرية بمصر. الشيخ عيسى الجعفري المغربي: حفظ القرآن وبرع في علوم الأعيان ورحل إلى جزائر وصحب السلجماسي قريبا من عشر سنين وتبحر عنده وأخذ عن: علماء قسطنطينية ومصر والحرمين وتوطن بمكة المكرمة له: معجم سماه: مقاليد الأسانيد. تتلمذ عليه جمهور أهل الحرمين الشريفين وصار أستاذا لهم وكان من أوعية الحديث والقراءة. قال السيد حسن باعمر: من أراد أن ينظر إلى شخص لا يشك في ولايته فلينظر إلى هذا وكان لا يعمل إلا بالسنة المطهرة غلب عليه أحزاب الشاذلية. ألف لأبي حنيفة - رحمه الله - مسندا عنعن فيه اتصالاً توفي رحمه الله في سنة 1080هـ الهجرية. الشيخ: إبراهيم الكردي: عارف بفنون العلم من: الفقه والحديث والعربية والأصلين وله تصانيف في ذلك كلها رحل إلى بغداد والشام ومصر والحرمين وصحب القشاشي وروى عنه الحديث وكان يتكلم: بالفارسي والكردي والتركي والعربي وكان متصفا: بتوقد الذهن والتبحر في العلم والزهد والصبر والحلم والتواضع كان زيه زي عامة أهل الحجاز ولم يكن يلبس لبس المتفقهة ولا المتصوفة ولا يختار هيئاتهم: من تكبير العمامة وتطويل الأكمام. قال الشيخ عبد الله العباسي: كان مجلسه روضة من رياض الجنة وكان يرجح كلام الصوفية على الحقائق الحكمية ويقول: هؤلاء الفلاسفة قاربوا عثورا على الحق ولم يهتدوا إليه تاريخ وفاته ... - إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون. محمد بن محمد بن سليمان المغربي: كان حافظا للحديث جامعا لفنون العلم لبس الخرقة عن الشيخ: أبي مدين المغربي وجد واجتهد في تصحيح كتب الحديث وأتقنها إتقانا كاملا حتى صار إماما بالحرمين الشريفين ومن ثقات الحفاظ زاده الله بسطة في العلم والجسم والعقل المتعلق: بالمعاد والمعاش على وجه الكماللم يذكر عام وفاته في: إنسان العين. الشيخ: حسن العجيمي: واحد من شيوخ الحديث، جامع لفنون العلم فاق أقرانه في: الفصاحة والحفظ وجودة الفهم وصحب الشيخ عيسى المغربي واستفاد منه كثيرا وروى عن أحمد القشاشي والبابلي

والشيخ: زين العابدين بن عبد القادر الطبري - مفتي الشافعية - وكان حنفيا لكن يجمع بين الصلاتين في السفر ويقرأ الفاتحة خلف الإمام ولم يكن يلتزم مذهبا معينا في جميع الأمور بل يجوز التلفيق وكانت في عينيه هنة وكان مع ذلك إذا قرأ الحديث رئي على وجهه الأنوار وصار كأجمل من رئي في الدنيا وذلك سر قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدا ... " الحديث ضبط أسانيده في رسالة يعلم منها سعة علمه قال: يقول الناس: ولد العالم نصف العالم وصدقوا فإن العالم له نصفان: عا ولم وليس لواحد منهما معنى فكأنهم قالوا: ولد العالم لا معنى له يأتي كل رجب إلى المدينة المنورة ومعه كتاب من الكتب الستة يختمه في المسجد النبوي على طريق السرد تتلمذ عليه الشيخ: أبو طاهر المدني وشيخ مسند الوقت: الشاه ولي الله المحدث الدهلوي - رحمه الله تعالى. الشيخ أبو طاهر محمد بن إبراهيم الكردي المدني: لبس الخرقة من أبيه واستجاز له أبوه من مشائخ كثيرين منهم: الشيخ محمد بن سليمان المغربي وأخذ النحو عن السيد: أحمد بن إدريس المغربي الذي كان سيبويه زمانه في العربية واكتسب فقه الشافعي عن الشيخ: علي الطولوني المصري والمعقول عن: المنجم الباشي الرومي والحديث عن الشيخ: حسن العجيمي وأحمد النخلي والشيخ: عبد الله البصري والشيخ: عبد الله اللاهوري وكان مجتهدا في الطاعة ومشتغلا بالعلم والمذاكرة رقيق القلب كثير البكاء قال في إنسان العين: لما حضرت عنده للوداع إلى الهند أنشدت بين يديه: نسيت كل طريق كنت أعرفه ... إلا طريقا يؤديني لربعكم فغلب البكاء على الشيخ وتأثر تأثرا عظيما توفي رحمه الله في سنة 1145هـ الهجرية. الشيخ تاج الدين الحنفي القلعي ابن القاضي: عبد المحسن كان مفتيا بمكة المكرمة صحب كثيرا من مشائخ الحديث وأخذ العلو منهم وكلهم أجازوه واستجاز له والده من الشيخ: عيسى المغربي وكان غالب تعلمه لعلم الحديث من الشيخ: عبد الله بن سالم البصري. قال: عرضت عليه هذه الكتب على نهج البحث والتنقيح وقرأت الصحيحين على العجيمي وأجازني بجميع ما تصح له روايته. ولازم الشيخ صالح الزنجاني واستفاد منه وتفقه عليه وحصل الرواية والإجازة عن الشيخ: أحمد النخلي والشيخ: أحمد القطان وغيرهما وتعلم منهما طريق الدرس. وله إجازة عن الشيخ: إبراهيم الكردي وعنه روى الحديث المسلسل بالأولية. قال الشيخ: ولي الله المحدث الدهلوي - في إنسان العين -: حضرت بمجلس درسه أياما حين كان يدرس البخاري وسمعت عليه: أطراف الكتب الستة وموطأ مالك ومسند الدارمي وكتاب الآثار لمحمد وأخذت الإجازة لسائر الكتب وحدثني بالحديث المسلسل بالأولية عن الشيخ: إبراهيم وهو أول حديث سمعته منه بعد عودتي من زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلمفي سنة 1243هـ. قلت: وكان والدي السيد: أبو أحمد الحسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي قدس الله سره قد تتلمذ على الشيخ: عبد العزيز والشيخ: رفيع الدين ابني الشيخ ولي الله المحدث الدهلوي

المذكور ولي سند متصل إليه وإلى مشائخه بواسطة الشيخ: محمد يعقوب المهاجر المكي حفيده وكذا ينتهي سندي إلى القاضي: محمد بن علي الشوكاني بواسطة الشيخ: عبد الحق بن فضل الله الهندي المتوفي في سنة 1286هـ بمنى وإلى السيد: عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى مقبول الأهدل ولذلك ذكرت تراجم مشائخي من أهل الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب وإجازاتي مكتوبة في كتابي: سلسلة العسجد في ذكر مشائخ السند وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق. الشيخ محمد حياة السندي المدني: كان من العلماء الربانيين وعظماء المحدثين قرن العلم بالعمل وزان الحسن بالحلل. واسم والده: ملا فلاريه من قبيلة: جاجر الساكنة في أطراف عادلبور: بليدة من توابع بكر. ولد بالسند ورحل إلى الحجاز وحج وتوطن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وتتلمذ على الشيخ: أبي الحسن السندي نزيل المدينة المكرمة وبرع في الحديث وأخذ الإجازة عن: خاتمة المحدثين الشيخ: عبد الله بن سالم البصري وشد حزامه على درس الحديث النبوي وأفنى عمره في خدمة الكلام المصطفوي وكان يعظ الناس قبل صلاة الصبح بالمسجد الشريف وانتفع به خلق كثير من العرب والعجم وأقبل عليه: أهل الحرمين ومصر والشام والروم والهند بالاعتقاد والانقياد وعاش عيشة مرضية ولقي الله سبحانه يوم الأربعاء السادس والعشرين من صفر سنة 1163هـ، ودفن بالبقيع. ومن تلامذته: السيد العلامة: غلام علي آزاد البلجرامي والشيخ المحدث الفهامة: محمد فاخر الإله آبادي وغيرهما رحمهما الله تعالى. الشيخ: صالح بن محمد بن نوح بن عبد الله بن عمر بن موسى الفلاني: من ذرية العلامة الحافظ: عليم بن عبد العزيز الأندلسي الشاطبي أخي بني سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإنما قيل له: الفلاني لأن آباءه نزلوا في دارهم واستوطنوها. وفلان على ما في: اليانع الجني بضم الفاء وتشديد اللام -: قبيلة من فلانة - بالفوقية بدل النون -: أمة من السودان وأرضه التي نشأ بها تسمى: مسوف. قال: وكان الفلاني فاضلا دينا صالحا ذا أسانيد عالية نفع الله به كثيرا من عباده توفي بالمدينة ليلة الخميس لخمس مضين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة ومائتين وألف - رحمه الله رحمة واسعة -. انتهى كلام اليانع. وأقول: هو أستاذ الشيخ: محمد عباد السندي الآتي ذكره وله تصانيف حسنة ممتعة: منها: كتاب إيقاظ همم أولي الأبصار في رد التقليد وذكره شيخنا وبركتنا الشوكاني - رحمه الله - في الفتح الرباني وأثنى عليه بالخير. قال محمد عابد في ذكر إسناد الموطأ: أرويه عن العلامة الكبير والأستاذ الشهير الشيخ: صالح الفلاني عن شيخه: محمد بن سنة قرأه عليه قراءة بحث وتدقيق إلى آخر الكلام. ومن الاتفاقات: أن الفلاني له شدة في فت عضد التقليد وهمة كبيرة في اتباع السنة لا يتصور عليها مزيد وتلميذه الشيخ: محمد عابد السندي له عصبية في الجمود على المذهب الحنفي مع كونه معروفا ً

بدرس الحديث وهذا من غرائب الدنيا وعجائب الدهر بل ولا غرو فإن عمر الدنيا قد انصرم وكثر الاختلاف وذهب الائتلاف وعم الفساد في البر والبحر وسال به الوادي وطم ولم ينجح من بليات التقليد وآفات الرأي إلا من عصمه الله وعليه رحم. الشيخ: محمد عابد السندي بن أحمد بن علي بن يعقوب الحافظ من بني أبي أيوب الأنصاري: ولد ببلدة سيون: وهي على شاطئ النهر شمالي حيدر آباد السند مما يلي بلدة بوبك هاجر جده الملقب: بشيخ الإسلام إلى أرض العرب وكان من أهل العلم والصلاح وأقام الشيخ: محمد عابد بزبيد داره علم باليمن معروفة واستفاد من علمائها واقتبس من أشعة عظمائها حتى عد من أهلها ودخل صنعاء اليمن يتطبب لإمامهم وتزوج ابنة وزيره وذهب مرة سفيرا من إمام صنعاء إلى مصر وكان شديد التحنن إلى ربوع طابة وعاود مرة أرض قومه فدخل نواري: بلدة بأرض السند مما يلي بندر كراجي وأقام بها ليالي معدودات ثم عاد إلى المدينة الطيبة وولي رياسة علمائها من قبل والي مصر وخلف من مصنفاته كتبا مبسوطة ومختصرة. منها: كتاب المواهب اللطيفة. على مسند الإمام أبي حنيفة. وكتاب: طوالع الأنوار على الدر المختار. وكتاب: شرح تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول بلغ منه إلى كتاب الحدود لم يتمه يقال له: شرح بلوغ المرام للحافظ ابن حجر. وكان ذا عصبية للمذهب الحنفي ولذلك تعقبه في بعض الرسائل له السيد العلامة أخونا: أحمد بن حسن الحسيني القنوجي البخاري العرشي رحمه الله. توفي محمد عابد يوم الإثنين من ربيع الأول سنة 1257هـ، ودفن بالبقيع ولم يخلف عقباً رحمه الله.

علماء اليمن

علماء اليمن السيد: يحيى بن عمر مقبول الأهدل. كان إماما في جميع العلوم غلب عليه علم الحديث حتى نسب إليه وله من الحفظ والاطلاعات شيء لا يمكن وصفه وكان يحفظ معظم صحيح البخاري ومسلم وكان له أسانيد ومشائخ شتى وله السند العالي الذي هو أعلى ما يكون له في اليمن أخذ الحديث عن جماعة من الحافظ مثل: السيد أبي بكر بن علي والقاضي: أحمد بن إسحاق جعيان والشيخ: عبد الله المزجاجي وكان ذا همة لا تجده إلا مشتغلا بعبادة: إما مدرسا أو تاليا للقرآن أو مصليا بعد صيته وقصده الطلبة من بلاد شاسعة وطلب منه الإجازة علماء عصره ما بين موافق ومخالف. منهم: شافعي زمانه: طه بن عبد الله السادة من ذي جبلة وعلماء صنعاء: كالسيد العلامة: هاشم بن حسين الشامي والسيد: أحمد بن عبد الرحمن والسيد: محمد بن إسحاق بن المهدي والعلامة: إسحاق بن يوسف بن المتوكل وإبراهيم ابن إسحاق المهدي وعلماء الحرمين الشريفين كافة طلبوا منه الإجازة قبل وفاته رحمه لله بسنة فأجازهم. وله في بلدة زبيد تلامذة أعلام منهم السيد: أحمد بن محمد مقبول الأهدل والشيخ يحيى بن أحمد

الحكمي وغيرهما وقد أطال في النفس اليماني والروح الريحاني في ترجمة: زهده وكرمه وإحسانه إلى الوفود والقصاد وصلابته في الدين وصلاحه وكراماته وحرصه على تعلم العلم واجتهاده في رمضان - لا نطول الكلام بإيرادها في هذا المقام. وكان يحسده جماعة من أقرانه ممن له تعلق بالعلم فسلبت منه هيبة العلم وأبهته وليس له منه إلا الاسم ولم يحملهم على هذا إلا الهوى ولكن: إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا علي لئامها وما أحسن ما قيل: جزى الله عنا الحاسدين فإنهم ... قد استوجبوا منا على فعلهم شكرا أذاعوا لنا ذما فأفشوا مكارما ... وقد قصدوا ذما فصار لنا فخرا ولله در العيني الحنفي حيث قال في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لله در الحسد ما أعدله ... بدأ بصاحبه فقتله. وله مصنفات مفيدة منها: كتاب في فضل ذوي القربى ومنها: القول السديد فيما أحدث من العمارة بجامع زبيد. وبالجملة: كان سيدا علامة وعلما فهامة حافظ عصره بالاتفاق ومحدث إقليمه بلا شقاق توفي ليلة الأربعاء رابع عشر ربيع الآخر سنة 1147هـ، وهو ابن أربعة أو ثلاثة وسبعين كذا قال قبل موته بأحد عشر يوماً. قال محمد المحبي في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: معنى الأهدل: الأدنى الأقرب وفي: نظام الجواهر النفيسة في بيان أنساب العصابة الأهدلية: أصل هذه الكلمة: على الله دل وقيل غير ذلك وهذا أصح. أبو المحاسن السيد سليمان بن يحيى: المذكور كان سرا لأبيه وعالما محدثا كاملا ذا بصيرة تنويه. قرأ العلوم على والده واستفاد من طريفه وتالده وأخذ من مشائخ الحديث علما وافرا وفضلا ظاهرا منهم: السيد العلامة: أحمد بن محمد مقبول الأهدل والسيد: سليمان بن أبي بكر هجام الأهدل والشيخ: عبد الخالق المزجاجي والسيد: عمر بن أحمد بن عقيل والعلامة: أحمد الأشبولي ومشائخه: من أهل اليمن والحرمين ومصر والشام وغيرهم جم واسع سماهم في النفس اليماني منهم: الشيخ الحافظ: محمد حياة السندي والشيخ: حسن بن محمد الكردي والشيخ: محمد بن أحمد الجوهري والشيخ: محمد هلال سنبل مفتي الشافعية والعلامة: أبو الحسن المغربي التنومي. ومنهم: الإمام الكبير: محمد بن أحمد بن سالم السفاريني. وله: كتاب الرحلة سماه: وشي حبر السمر في شيء من أحوال السفر ذكر فيه مشائخه توفي في سنة 1197هـ وقد اعتنى بترجمته من العلماء غير واحد وامتدحه بعدة قصائد منهم: الشيخ: عبد القادر كدك المدني والعلامة الكبير: أحمد بن محمد قاطن في تاريخه المسمى: إتحاف الأحباب بدمية القصر الناعتة لمحاسن أهل العصر والشاعر المفلق: أحمد بن عبد الله السعدي في كتابه: سرد النقول في تراجم أعيان بني المقبول وغيرهم رحمهم الله تعالى.

الشيخ المعمر عبد الله بن عمر الخليل: كان بحرا في العلوم النقلية - ولا سيما الأدبية - وفي الحساب والمساحة والهندسة والهيئة والحكمة قال: اشتغلت بهذا مدة وأتقنتها ولم أجد عنها سائلا ولا لها حاملاً فلو كان الاشتغال بذلها بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وله نثر فصيح ونظم بليغ ومراجعات ومناظرات ومطارحات ومفاكهات بينه وبين أدباء عصره. وكان في عمر التسعين لا تراه إلا: تاليا كتاب الله أو مشغولا بذكر الله أو مدرسا في العلوم النافعة لا يزال هذا دأبه من أول النهار إلى حصة وافرة من الليل. ومن مؤلفاته: تحذير المهتدين عن تكفير الموحدين وذيل على الحصن الحصين ونظم نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ونظم الرسالة الأثيرية في علم المنطق وشرحها ونظم قواعد الإعراب وشرحها ومنظومة لقواعد القاموس ومنظومة في الاستعارة وحاشية على شرح إيساغوجي. وذكر من مشائخه: رجلا من علماء الهند من أكابر المحققين يسمى: حسام الدين ولعله الشيخ: علي المتقي توفي رحمه الله تعالى ليلة الخميس قبل الفجر في سنة 1196هـ الهجرية. الشيخ الفقيه: عبد الله بن سليمان الجوهري: كان من أعيان العلماء وأعلام الفضلاء مؤلفاته تقارب خمسين مؤلفا في: الحديث والفقه والأصول وكان رحب الصدر للتدريس كريم الكف واسع العطاء كثير البكاء من خشية الله تعالى غزير الكشف تحكى عنه في ذلك أمور غريبة. ومن مؤلفاته: شرح لبلوغ المرام لم يكمله وحاشية على المنهج القويم لابن حجر وبلوغ الأمل في شرح المسائل الفاضلة - مع قلتها - على كثير العمل ورسالة في: بيان دلالة قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} على الرد على أهل الهيئة ورسالة الخط وشرح حزب الإمام النووي وحاشية على بداية الهداية إلى غير ذلك توفي في سنة 1301هـ رحمه الله. الشيخ: أحمد حسن الموقري المتوفى سنة 1301هـ، كان عالماً كبيراً عارفا سالكاً أليف المسجد والمنزل بمعزل عن جميع الأنام وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليك بخويصة نفسك وليسعك بيتك". وقال تعالى: ولا يخرجنكما من الجنة فتشقى وله أشعار بليغة شرحوها ولا يقدر أحد ولو كان من أكابر العلماء أن ينطق بلفظة عنده إلا أن يتكلم هو هيبة من الله تعالى. الشيخ: عبد الخالق بن الزين بن محمد باقي المزجاجي: نسبة إلى قرية من قرى الوادي بزبيد كان مطلعا على أحوال العلماء سيما الذين كانوا في عصره خصوصا من وفد إليه من الحرمين ومصر والشام والهند والجاوة وغيرهم. له إتحاف البشر في القراءات الأربعة عشر تتلمذ على: الشيخ: محمد حياة المدني السندي - تلميذ الشيخ: أبي الحسن السندي محشي الأمهات الست - وعلى والده: الزين والشيخ: محمد أبي طاهر الكوراني والشيخ العلامة: عبد الكريم الهندي المكي والشيخ: أمر الله الهندي وشيخ الطريقة: كوشك الهندي وحسين البخاري الهندي وغيرهم من جمع جم من: علماء الحرمين الشريفين ومصر وغيرها سرد أسماءهم في النفس اليماني والروح الريحاني. السيد أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل: كان من العلماء الراسخين والعباد الزاهدين له اليد الطولى

في علم القراءات والتفسير، والحديث والفقه، والأصلين والنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع، والمنطق والحساب والهندسة والفلك وغيرها. اشتغل بجميع هذه العلوم حتى برع فيها وحقق ظواهرها وخوافيها وكان قد منحه الله ملكة تامة على حل صعاب المسائل في أي فن من الفنون إذا عرضت عليه المسألة الصعبة حلها بفهمه الثاقب وفتح مغلقها برأيه الصائب تتلمذ على: خاله السيد: يحيى بن عمر مقبول الأهدل وأخذ عنه التفسير والحديث وكان السيد يحيى من الدعاة إلى العمل بما صح به الدليل وإلى التغريب في الإقبال على علمي القرآن والسنة وتفهم معانيهما والتفقه في ذلك وكان لسان حاله ينشد: إذا اختار رجل الناس في الدين مذهبا ... وصيره رأيا وحققه فعلا فإني أرى علم الحديث وأهله ... أحق اتباعا بل أسدهم سبلا ورأيهم أولى وأعلى لكونهم ... يؤمون ما قال الرسول وما أملى ثم إنه شارك شيخه في جميع مشائخه رواية وإجازة وله: شرح على الهمزية وعلى النمازية وعلى زيد بن رسلان وعلى طلبة الطلبة وغير ذلك. الشيخ علاء الدين المزجاجي: كان من العلماء الأكابر أخذ العلم عن: علماء اليمن والحرمين كالقاضي: أحمد جعمان والعلامة: إبراهيم الكوراني والشيخ: أحمد التحلي والشيخ: حسن العجيمي والشيخ: عبد الله بن سالم البصري وغيرهم وهو من مشائخ السيد أحمد الأهدل المذكور رحمه الله تعالى. الشيخ: عبد الله بن سالم البصري المكي قارئ صحيح البخاري في جوف الكعبة المشرفة له شرح عليه عز أن يلقى في الشروح له مثال لكن ضاق به الوقت عن الإكمال سماه: ضياء الساري وهذا الاسم موافق لعام الشروع في تأليفه ترجم له آزاد في: سبحة المرجان وتسلية الفؤاد ترجمة حافلة حسنة وكذا الشيخ المسند الشاه: ولي الله المحدث الدهلوي في: إنسان العين وكذا معاصرنا الشيخ: محمد محسن المرحوم في كتابه: اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبد الغني. ومن مناقبه: تصحيح للكتب الستة حتى صارت نسخة يرجع إليها من جميع الأقطار ومن أعظمها: صحيح البخاري أخذ في تصحيحه نحوا من عشرين سنة وجمع مسند أحمد بعد أن تفرق أيدي سبأ وصححه وصارت نسخته أما أخذ علم الحديث عن جملة من المشائخ منهم: الحافظ: محمد بن علاء الدين البابلي - رحمه الله - والشيخ: أحمد البنا وغيرهما وعنه أخذ: السيد: أحمد الأهدل - المذكور آنفا - أيضا توفي رحمه الله في سنة 1134 الهجرية. صفي الإسلام أحمد بن محمد النخلي المكي: كان من أعيان العلماء الجامعين بين: العلوم النقلية والعقلية والفروعية والأصولية. أخذ عن عدة من العلماء منهم: العلامة المحقق: عبد الله بن سعيد باقشير والحافظ: محمد البابلي وعليه مدار روايته والشيخ العلامة: محمد بن علي ابن محمد بن علان الصديقي والشيخ: محمد بن محمد الشرنبلالي المصري ولبس الخرقة من السيد: عبد الرحمن المحجوب عاش تسعين سنة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

السيد: أبو بكر بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل: يا ليت شعري ما يعبر ناطق ... عن فضله العالي وعظم المنصب أو ليس ذاك الماجد العلم الذي ... سفرت محاسنه ولم تتجلبب أخذ العلوم العقلية والنقلية عن مشائخ عصره. منهم: السيد: أحمد بن محمد شريف المذكور والشيخ: عبد الخالق المزجاجي ومفتي زبيد الفقيه العلامة: سعيد بن عبد الله الكيودي. وكان على جانب عظيم من: لين الجانب ورحب الصدر وكمال التواضع وبشاشة الوجه وكان في حفظ كتاب الله عن ظهر قلب آية باهرة وله شعر حسن وكلام فصيح - رحمه الله تعالى. السيد يوسف بن حسين البطاح: ثمال اليتامى والمساكين لم يزل ... أبا لهم يحنو عليهم ويرأف وهمته استنباط حكم دليله ... شواهد نقل أو قياس مؤلف أخذ التفسير والحديث والفقه عن السيد: أحمد الأهدل واستفاد من الشيخ: عبد الخالق المزجاجي وغيره وكان كثير المباحثة والمراجعة مع أهل عصره من أهل العلم كتب له الإجازة: السيد العلامة: سليمان بن يحيى الأهدل في شوال سنة 1183هـ الهجرية. الشيخ: عثمان بن علي الجبيلي: أخذ عن السيد: أحمد الأهدل والشيخ: عبد الخالق المزجاجي وقرأ: شرح الجامي على الكافية والشرح الصغير في المعاني للسعد وشرح التهذيب للشيرازي وشرح سبط المارديني على الياسمينية في الجبر والمقابلة وبرع في العلوم كلها من: الفقه والحديث والقراءة. وتصدر للتدريس في سائر الفنون لا سيما علم القراءة له شعر حسن وأخبار مأثورة أطال في ترجمته في النفس اليماني والروح الريحاني. الشيخ: عبد الرحمن بن محمد المشرع: المتوفى سنة 1195 الهجرية: كريم له من نفسه بعض نفسه ... وسائره للمجد والشكر والفضل أخذ عن مشائخ الوقت علوما عديدة منهم: السيد: أحمد الأهدل والمزجاجي والكبودي وأحمد الأشبولي وكانت وفاته في قرية الروية: من قرى وادي زبيد بعد أن وعك أشهرا عديدة بالإسهال. وكان شيخا كاملا مكملا جيد الرأي حسن التدبير جوادا سخيا عالما: بالنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والفقه والتصوف والحديث وغيرها يشتغل بقراءة صحيح البخاري في الجامع كل سنة وحصل كتبا كثيرة في عدة من الفنون تتلمذ في المعاني والبيان على: العلامة: عبد الله بن عمر الخليل وعلى الشيخ: عبد الرحمن بن عبد السلام الحاوي أيام إقامته بزبيد ورحل إلى الحرمين الشريفين وسمع الحديث عن: الشيخ المجمع على جلالته: أحمد الأشبولي المصري وانتدب الشعراء لمدحه بقصائد بديعة منهم: السيد العلامة: قاسم بن يحيى الأمير رحمه الله تعالى. شرف الإسلام إسماعيل بن أحمد الربعي: أخذ هو وولده: القاضي العلامة: محمد بن إسماعيل عن السيد: أحمد الأهدل والشيخ: عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي وأحمد الأشبولي أيام وفوده إلى زبيد.

ومن تلامذته: الشيخ: أحمد القاطن وكان لا يترك كل يوم من كتابة قدر معلوم من كتاب الله وفوائد وآداب ونسخة من العلوم النافعة حتى اجتمع له مع الدوام من ذلك الشيء الواسع ولنعم ما قيل: فلا تكتب بكفك غير شيء ... يسرك في القيامة أن تراه وكان صداعا بالحق ذا قيام عظيم في إعانة المظلوم وإغاثة الملهوف وكان فيه تشيع كثير في كافة أهل بيت النبوي صلى الله عليه وسلم: وهل يستوي ود المقلد والذي ... له حجة في وده ودلائل القاضي العلامة عز الإسلام محمد بن إسماعيل ابن أحمد الربعي كان من أفاضل العلماء وأماجد الفضلاء. تتلمذ على السيد: أحمد بن محمد شريف وعلى المزجاجي وغيرهما في علم النحو والمعاني والبيان والحساب وأصول الدين والهيئة والهندسة والمنطق وأصول الفقه والحديث. وسمعه على القاضي العلامة: أحمد بن محمد القاطن له: مشائخ من الحرمين الشريفين منهم: عطاء المصري ومحمد بن سليمان الكردي وتصنيف في علم الفروع ولعمري هو حقيق بقول الشاعر: لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدهر ابتسام سراج الإسلام السيد: أبو بكر بن علي البطاح الأهدل جد واجتهد في الترقي إلى اكتساب المعالي وسهر في تحصيل العلوم الليالي وكان له ملكة الاستحصال وملكة الحصول وملكة الاستنباط على وجه الكمال. برع في: التفسير والحديث والتصوف والفقه والآلات والأصول وصار إماما يرجع إليه في الفروع والأصول وبلغ إلى أن يملي في تحقيق مسألة مؤلفا بلا تكلف ومن هذا الجنس: كتابه: صلة الموصول بإيضاح روابط الجمل لابن المقبول وبالجملة: فكان البحر الزاخر في جميع العلوم سيما علم النحو والمنطق فإنه كان فيهما آية باهرة ونعمة ظاهرة ومن أعظم شيوخه: السيد: سليمان بن يحيى مقبول الأهدل - رحمه الله تعالى. يوسف بن محمد البطاح: العالم الفاضل النحرير أفضل من ... بث العلوم فأروى كل ظمآن أخذ العلوم العقلية والنقلية عن السيد سليمان الأهدل ولازمه كثيرا وعن: الجرهزي والجبيلي ويوسف بن حسين البطاح وعن غير هؤلاء من أهل اليمن والحرمين وهاجر من زبيد إلى الحرمين الشريفين وتفرغ تفرغا عظيما لنشر العلوم فدرس وألف ووقع به النفع سيما لطلبة العلم اليمانية. ومن مؤلفاته: إفهام الأفهام شرح بلوغ المرام في مجلدين وشرح منظومة القواعد للسيد أبي بكر ابن أبي القاسم الأهدل وشرح ربع العبادة من منظومة الزبد في مجلد حافل أكثر فيه من سرد الأدلة وذكر الخلاف وله: عدة رسائل في أعمال الحج ألفها لكثرة المسائل الواردة عليه في ذلك وله: تشنيف السمع بأخبار العصر والجمع قرظ عليه أهل مكة المكرمة حرسها الله تعالى مات شهيدا في الوباء العام الواقع في سنة 1242 الهجرية.

السيد: طاهر بن أحمد الأنباري: فاضل فقيه وعالم نبيه حصل العلوم الدرسية والفنون المتداولة وبرع فيها وهو ممن تتلمذ على السيد الأجل: سليمان بن يحيى الأهدل وعلى العلامة: داود الجبرتي العقيلي الهاشمي وعبد الله بن عمر الخليل والجرهزي والجبيلي وعبد الخالق المزجاجي والقاضي: محمد الربعي وغيرهم. الشيخ العلامة: عبد القادر بن خليل كدك: المحدث الحافظ المسند الرحلة وجيه الإسلام خطيب المدينة المشرفة وفد إلى مدينة زبيد ناشرا فيها علوم الإسناد إلى خير العباد بعد أن جال البلاد شرقا وغربا ولقي من المشائخ المسندين الأعلام عالما كثيرا وألف في ذلك كتابه المسمى: بالمطرب المعرب الجامع لأهل المشرق والمغرب قال في خطبته: وقد ارتحل لطلب الإسناد جمع من السلف والخلف رحل جابر بن عبد الله إلى مصر لأجل حديث واحد وكذلك ارتحل أحمد بن حنبل وغيرهما قال: ارتحلت إلى مصر وغزة والرملة والقدس والشام وآبدين والروم ونلت ما نلت من ذلك ولما وفد إلى مدينة زبيد تلقاه علماؤها وأعيانها بالإعزاز والإجلال وازدحم عليه الأفاضل لأخذ الإجازة منه فأجازهم وهو الذي استجاز للسيد: عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن مقبول الأهدل ولجماعة من محدثي زبيد من: مسند الشام الحافظ الكبير: محمد بن سالم السفاريني محتدا الحنبلي مذهبا الأثري معتقدا القادري مشرباً. وسفارين: قرية من قرى نابلس ثم وفد إلى مدينة صنعاء وتلقاه أهلها بالتعظيم والتبجيل. واستجاز منه جماعة من العلماء والأعيان. منهم: السيد العلامة: عبد الله بن محمد الأمير. وله: مؤلف خاص في ذلك سماه: السر المؤتمن في شرح الرحلة إلى اليمن ثم عاد إلى المدينة المنورة وتصدى فيها لنشر علوم الإسناد وإملاء الأحاديث والاجتهاد في هذا الشأن العظيم. وكانت وفاته بنابلس: من أرض الشام في ربيع الأول سنة 1185هـ الهجرية. صفي الإسلام أحمد بن إدريس المغربي الحسيني المتوفى سنة 1253هـ، بمدينة صبيا وقبره هناك معروف مشهور. وفد إلى مدينة زبيد سنة 1244هـ، ناشرا فيها ما منحه الله من علوم أسرار الكتاب والسنة وكاشفا من إشاراتهما الباهرة ولطائفهما الزاهرة بعبارته الجلية المشرق عليها نور الإذن الرباني واللائح عليها أثر القبول الرحماني وازدحم عليه الخاص والعام حينئذ على الاستفادة وتلقى كل أحد من تلك اللطائف على قدر الاستعداد: على قدرك الصهباء تعطيك نشوة ... ولست على قدر السلاف تصاب وكان مذهبه: ما صح به الحديث كما هي طريقة خلائق من العلماء الأعلام: ومذهبي كل ما صح الحديث به ... ولا أبالي بلاح فيه أوزاري وأجاز أهل زبيد خصوصا وأهل اليمن عموما كما وقع نظير ذلك للحافظ: ابن حجر العسقلاني عند قدومه زبيد ثم توجه إلى بندر الحديدة وتلقاه أهلها بالإعزاز والإكرام وامتدحه علماء البندر بعدة قصائد ثم صار إلى صبيا وكان باقيا فيها إلى سنة 1248هـ، يذكر أيام الله ويملي من علوم السنة والكتاب ما يفيد

ذوي الدين والألباب وامتدحه أهل تلك الجهات أيضا بعدة قصائد منهم: المحقق العلامة: عبد الرحمن بن أحمد البهكلي - قاضي بيت الفقيه - وترجم له: السيد العلامة: محمد بن محمد الدئلي - قاضي زبيد - في كراريس السيد: عبد القادر بن أحمد بن عبد القادر الحسني الكوكباني للعلوم الزاخرة والأحوال الشريفة الفاخرة. أخذ العلوم عن: الجهابذة من أهل صنعاء وزبيد والحرمين الشريفين. ومن مشايخه: سلطان ذوي الاجتهاد وعمدة المحدثين النقاد السيد الإمام: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني والشيخان العلامتان: عبد الخالق ومحمد ابنا علاء الدين المزجاجيان والسيد الحبر: محمد بن الطيب المغربي الفاسي الآخذ عن: أبي الأسرار: الحسن بن علي العجيمي والشيخ المسند: محمد إبراهيم الكوراني. وله من المشائخ: نيف وثلاثون شيخا ومن المؤلفات: ما يزيد على أربعين مؤلفاً. منها: حاشية القسطلاني في مجلدين وشرح القاموس وشرح نظم فصيح ثعلب وحاشية المطول ومختصره. ومن مشايخه أيضا: الشيخ: محمد حياة السندي: قال القاضي العلامة في ترجمته: مظهر السنة النبوية على رؤوس الأشهاد مبكتا لأهل البدعة في الحاضر والباد ولقد قام بهذا الواجب أتم قيام وذب عن سنة جده بين الأنام وأدخلها إلى آذان الفقهاء المقلدين وقبلها من له الفهم المكين والذهن الثمين وله اليد الطولى في كل فن والتحقيق الفائق من بين أبناء الزمن. انتهى ملخصاً. وممن تخرج به: شيخنا القاضي العلامة: محمد بن علي الشوكاني والسيد: إبراهيم والسيد عبد الله والسيد: قاسم أولاد أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين: محمد بن إسماعيل الأمير وغيرهم رحمهم الله تعالى. السيد المسند والجليل المعتمد، صارم الدين إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الأمير: قال القاضي العلامة: أحمد بن محمد قاطن - في ترجمته -: ذو الذهن الوقاد والفكر المستقل النقاد الحاوي لخصال الكمال بأكمل الخلال الراقي إلى أوج البلاغة في جميع الأحوال إن وعظ خلته الحسن وإن خطب أعلن السنن وأيقظ الوسن وقلد المنن وبغض السمن وجبب الخشن وضيق العطن ووسع الحزن وشجع الجبان وشبع الجنان زين الجنان وشيد الإيمان يخلط الترهيب بالترغيب والتبعيد بالتقريب والوعيد بالوعد والمطر بالرعد ... إلى آخر ما قال. وله ولدان: السيد العلامة: علي بن إبراهيم والسيد: يوسف بن إبراهيم وكانا على استقامة تامة من ملازمة الاتباع وتجنب الابتداع كما هو طريقة سلفهم الصالح: ليس الطريق سوى طريق محمد ... فهو الصراط المستقيم لمن سلك من يمش في طرقاته فقد اهتدى ... سبل الرشاد ومن يزغ عنها هلك ومن مؤلفات السيد علي بن إبراهيم: تشنيف الآذان بأسرار الآذان والبشائر والصلات بأسرار الصلوات والفتح الإلهي لتنبيه اللاهي وكتاب السوانح على وزن صيد الخاطر لابن الجوزي وكتاب

سوق الشوق لأهل الذوق من تحت إلى فوق في شرح حديث: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها وهو مؤلف حافل وله نظم في الدرجة العليا قد جمعه ولده: السيد العلامة: حسن بن علي في ديوان. وأما: السيد العلامة: يوسف فكان على قدم راسخ في العلوم المأثورة وله من النظم الرائق الفائق الشيء الواسع. وأما: أخو السيد إبراهيم بن محمد المذكور فهو: السيد الجليل والعالم النبيل فخر الإسلام وزينة الليالي والأيام: عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأمير وكان من العلماء الأعلام أحد أئمة العصر وحامل لواء الفخر له اليد الطولى في العلوم العقلية والنقلية وجودة النظر والنقادة في الأحاديث النبوية مشتغلا بذلك غاية الاشتغال حتى نال من العلم الشريف كل منال ترك التعصبات المذهبية وأخذ بالسنة المطهرة السنية له شعر وتواليف صحح كتب والده وكتب بخطه كثيرا وعندي من خطه الشريف كتاب: سبل السلام شرح بلوغ المرام وغيره والسيد: عبد الرحمن بن سليمان الأهدل ممن تتلمذ له واستجاز منه فأجازه وأيضا تتلمذ على أخيه: السيد: قاسم فأجازه لفظاً. صفي الإسلام الشيخ: أحمد بن محمد قاطن: كان من أجل الأعلام الأعيان كبير المقدار عظيم الشأن أخذ العلوم العقلية والنقلية من علماء صنعاء وغيرهم منهم: السيد العلامة الإمام: محمد بن إسماعيل الأمير والعلامة الأوحد: زيد بن محمد بن الحسن شارح: الإيجاز في المعاني والبيان والمحقق: هاشم بن يحيى بن محمد الشامي والسيد: يحيى بن عمر مقبول الأهدل له منه إجازات وروايات. له: تحفة الإخوان نظم فيها إسناد صحيح البخاري وشرحها شرحاً عظيماً. ومن مشائخه: محمد حياة المدني السندي والشيخ: محمد الدقاق والشيخ: سالم بن عبد الله البصري والشيخ: محمد بن حسن العجيمي وقد ترجم لهؤلاء المشائخ في تحفة الإخوان المذكورة. ومن مؤلفاته: نفحات العوالي بالأحاديث العوالي والإعلام بأسانيد الأعلام ووسيلة المستجير بالله الكبير ونزهة الطرف في أحكام الجار والمجرور والظرف وهو شرح عظيم على كتاب: العقد الوسيم لشيخه الإمام: صلاح الأخفش وله أشعار رائقة ذكرها في النفس اليماني والروح الريحاني وكان بينه وبين السيد: عبد الرحمن بن سليمان الأهدل مودة أكيدة وكان يحرضه على العمل بالسنة النبوية وسلوك الطريق السلفية وترك العصبية المذهبية وأخذ السيد منه إجازة له ولأولاده فكتب الإجازة - رحمه الله تعالى. الشيخ أحمد بن عبد القادر بن بكري العجيلي: أخذ العلوم عن آبائه الكرام وعن غيرهم من الأعلام وهم كثيرون. منهم: الشيخ عبد الخالق المزجاجي وعمه: محمد بن بكري والسيد: إبراهيم بن محمد الأمير والشيخ: إبراهيم الزمزمي - مفتي الشافعية في أم القرى بروايته عن الشيخ: عبد الوهاب بن أحمد الطنطاوي المصري مؤلف: بذل العسجد في شيء من أسرار اسم محمد. وللشيخ أحمد: مؤلفات ورسائل منظومات ومسائل يطول ذكرها منها: النفحة القدسية في وظائف

العبودية وعقد جواهر اللآل في مدح الآل وعليه شرح وتقاريظ من جمع جم منهم: السيد الجليل: علي بن محمد بن أحمد بن إسحاق كتبه بمكة المشرفة سنة 1230هـ وللسيد: عبد الرحمن بن سليمان الأهدل منه إجازة في الحديث المسلسل بالأولية وله مناقب وفضائل شهيرة وكان لا يسمع بذي فضيلة في جهة من الجهات إلا وتعرف به واستطلع حقيقة فضيلته ومكث على هذه الحالة دهرا طويلا ثم آثر الخلوة والعزلة إلى أن انتقل إلى جوار رحمة الله تعالى. الشيخ إبراهيم بن محمد الزمزمي: تصدى في أم القرى للإفتاء والتدريس على مذهب الإمام: محمد بن إدريس فكان يقرئ فيه ويفيد ويبدئ ويعيد ويتكلم في سائر العلوم لفظاً ومعنى وعلى أصولها وفروعها حفظاً. صفاته في العلوم إن ذكرت ... يغار منه النسيب والغزل تعرف من عينه حقائقها ... كأنه بالعلوم مكتحل استجيز منه للسيد: عبد الرحمن الأهدل في سنة 1192هـ قال: أخذت عن الشيخ: عبد الوهاب الطنطاوي الآمدي وعن المحقق: عبد الله النمرسي عن الشيخ: عبد الله بن سالم البصري. وأما ولده: محمد صالح بن الشيخ إبراهيم الزمزمي فكان خلف أبيه في العلوم والفضائل منه إجازة للسيد: عبد الرحمن الأهدل ذكر فيها الأمهات الست وبقية العلوم مقرونا بسنده العالي عن المشائخ العظام في سنة 1224هـ، وفيها: إن من أعلى أسانيدنا سيدي العلامة المحدث شيخنا: صالح بن محمد الفلاني العمري المغربي ومن أجل شيوخه الحافظ: محمد بن سنة العمري وهو أيضا: شيخ السيد: عبد الرحمن الأهدل كما صرح بذلك في: المنهج السوي حاشية المنهل الروي. الشيخ: عبد الملك بن عبد المنعم القلعي: مفتي أم القرى على مذهب الإمام الأعظم. كان كنز الذخائر وبحر العلم الزاخر استجاز منه السيد: عبد الرحمن الأهدل فأجازه في سنة 1224هـ، وذكر في الإجازة مشائخه من أهل الحرمين منهم: عبد الله بن سالم البصري. سراج الإسلام: سالم بن أبي بكر الأنصاري الكراني: من أجل علماء المدينة المنورة له: حاشية على المنهج القويم لابن حجر الهيتمي في ستين كراسا وهو ممن تتلمذ على الشيخ: محمد بن سليمان الكردي الآخذ عن الشيخ: محمد الدمياطي والشيخ: محمد بن سعيد سنبل المكي والعلامة: أحمد الجوهري المصري. الشيخ: محمد بن سليمان الكردي: ولا تحسب الأكراد أبناء فارس ... ولكنهم أبناء عمرو ابن عامر تتلمذ على المحقق: محمد بن سعيد سنبل مفتي الشافعية في أم القرى. وأخذ عن الشيخ: أحمد النخلي وأجازه: عبد الله بن سالم البصري وعن الشيخ: طاهر بن إبراهيم الكوراني. وله مؤلفات منها: فتح الفتاح بالخير على يريد معرفة شروط الحج عن الغير والثغر البسام عن معاني الصور التي تزوج فيها الحكام وأزهار الربا في بيان أبواب الربا وهو من مشائخ السيد عبد الرحمن الأهدل.

السيد عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس باعلوي المصري الإمام الكبير العلم الشهير أخذ عن: والده وعن السيد: عبد الرحمن بن عبد الله بافقيه والسيد العلامة: غلام حيدر الحسيني الهندي والسيد: فضل الله بن أحمد الهندي والحافظ المسند الشيخ: محمد حياة السندي وغيرهم. ومن مؤلفاته: بسط العبارة في شرح ضبط الاستعارة وعليه: حاشية للمحقق الحفناوي وقطف الثمر في شرح المقولات العشر والمنهل العذب في الكلام على الروح والقلب. أبو الفيض محمد مرتضى بن محمد الحسيني الواسطي البلكرامي: نزيل مصر تقدم ترجمته الشريفة في: ذيل علماء اللغة فراجعه وهو صاحب: تاج العروس في شرح القاموس وهو من مشائخ السيد: عبد الرحمن بن سليمان الأهدل. السيد: عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل: ينتهي نسبه الشريف إلى: موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - صاحب كتاب: النفس اليماني والروح الريحاني في إجارة القضاة بني الشوكاني وهو شيخ شيخنا الإمام العلامة المجتهد المطلق الرباني: محمد بن علي بن محمد الشوكاني اليماني الصنعاني وشيخ أخويه: العلامة صفي الإسلام: أحمد وعماد الإسلام: يحيى رحمهم الله تعالى ألف الفقيه العلامة: سعد بن عبد الله سهيل في ترجمته كتابا حافلا في سنة 1263هـ، سماه: فتح الرحمن في مناقب سيدي عبد الرحمن بن سليمان قال فيه: كان - رضي الله عنه - من صدور المقربين صاحب العلوم الجمة والفنون الكثيرة والكرامات الباهرة والمقامات الفاخرة تصانيفه: دالة على سعة علمه وغزارة اطلاعه منها. فتح الولي في معرفة سلب الولي والمنهج السوي1 حاشية المنهل الروي وفيه دلالة على كماله في علم الحديث وأنه من أجل أئمته وله: فرائد الفوائد وقلائد الخرائد مجلدان جمع فيه فأوعى والروض الوريف في استخدام الشريف وتلقيح الأفهام في وصايا خير الأنام وشرح بلوغ المرام بلغ فيه إلى التيمم في نحو عشرين كراسا ولم تساعده القدرة على إتمامه وفتح اللطيف شرح مقدمة التصريف والجنى الداني على مقدمة الزنجاني وكشف الغطا عن أسئلة ابن العطا ورسالة في البندقة وتحفة النساك في شرب التنباك ... إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. ومن تلامذته: شيخنا الشوكاني ويا له من تلميذ وأستاذ. ومنهم: السيد العلامة: محمد بن طاهر الأنباري الملقب: بالشافعي الصغير والعارف بالله: محمد بن أحمد المشرع وكان في غاية من العبادة سيما قيام الليل وتلاوة الكتاب العزيز وكان هجيره هجير خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وكان حسن الخلق لين الجانب قريب التناول يتصل به كل أحد يتكلم باللسان العالي في لطائف الأسرار ويقول: ليس العلم بلقلقة اللسان ولا بطول الإطناب وبديع البيان ولا في الكراريس الكثيرة والمجلدات الضخيمة والأوارق وإنما العلم ما أفادته الملكة التامة والرسوخ وكان مما ينفع صاحبه هداية ويقربه إلى رب العالمين وله أشعار فائقة وأبيات رائقة ذكر بعضها في: فتح الرحمن وأطال في بيان كلماته

_ 1 وهو موجود عندنا ولله الحمد منه مد ظله ومجده.

الرفيعة الشأن واعتضدها بنقول العلماء والأعيان يطول ذكرها في هذا المكان. وكانت ولادته في سنة 1179هـ ومرض مرض الموت قريبا من عشرة أيام وأتاه اليقين في ليلة الثلاثاء الأخيرة في الحادي والعشرين من شهر رمضان أحد شهور سنة 1250هـ، وله من العمر إحدى وسبعون سنة وأرخ بعض الفضلاء وفاته بقوله: ليهنك الفردوس مفتي الأنام. وله من الأولاد: محمد وعبد الباقي وسليمان وقد أجازهم وأولادهم ومن سيولدهم وكافة من أدرك حياته سيما من وقعت بينه وبينه المعرفة أو الاستفادة العلمية وأولادهم ومن سيولد لهم راجيا بذلك الخير الشامل الكثير إن شاء الله تعالى وهو من مشايخنا ولله الحمد. الشيخ العارف بالله محمد بن عبد الرحمن: المتقدم ذكره أخلف والده في: هديه وسمته ودله وإفتائه وجميع أحواله المرضية السنية ونفع الله به خلقا كثيرا إلى أن توفي رحمه الله في سنة 1258هـ، وله من العمر ثمانية وأربعون سنة وله من الكرامات والمكاشفات ما لا يحصى وكان غاية في إطلاق اللسان يكتب الجوابات من غير مراجعة لكتب المذهب لسعة ملكته. ولما توفي قام مقامه أخوه: السيد العلامة: عبد الباقي رحمه الله. السيد محمد بن إبراهيم الوزير بن علي بن المرتضى ابن المفضل الحسني القاسمي الهادوي: الإمام العلامة والمحدث الأصولي النحوي المتكلم الفقيه البليغ الرحلة الحجة السني الصوفي كان فريد العصر ونادرة الدهر خاتمة النقاد وحامل لواء الإسناد وبقية أهل الاجتهاد بلا خلاف وعناد رأسا في المعقول والمنقول إماما في الفروع والأصول. يقول واصفه في وصفه: كشاف أصداف الفرائد قطاف أزهار الفوائد فاتح أقفال اللطائف مانح أنفال الظرائف مصيب شواكل المشكلات بنوافذ أنظاره ومطبق مفاصل المعضلات بصوارم أفكاره مضحك كمائم النكت من نوادره ومفتح أنظار الظرف في موارده ومصادره عز الدين محيي سنة سيد المرسلين فلان الحسني نسبا على السماك عاليا والسني مذهبا إلى الصواب هاديا، إلى آخر ما ذكره في ترجمته. وبالجملة: كان مولده في شهر رجب سنة 775هـ، في شطب: وهو جبل عال باليمن هكذا نقلته من خطه وحفظته من غيره من الأهل. وله مصنفات عديدة ومجموعات مفيدة منها: كتاب: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم أربعة أجزاء في الرد على الزيدية اشتمل من الفوائد على ما لم يشتمل عليه كتاب وكتاب: البرهان القاطع في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع ألفه في سنة 801هـ ومختصر جليل في علم الأثر ألفه بعد اطلاعه على نخبة الفكر سماه: تنقيح الأنظار في علوم الآثار صنفه في آخر سنة 813هـ ومنها: الروض الباسم مختصر: العواصم والقواصم وكتاب: التأديب الملكوتي مختصر فيه العجائب والغرائب وكتاب: العزلة وقبول البشرى بالتيسير لليسرى وكتاب إيثار الحق على الخلق صنفه في سنة 837هـ إلى غير ذلك وغالبها عندي موجود ولله الحمد وله ديوان شعر سماه: مجمع الحقائق والرقائق في ممادح رب الخلائق وشرحه سماه: بفتح الخالق والحسام المشهور في الذب عن الإمام المنصور وقد ذكر له الحافظ: ابن حجر العسقلاني في كتابه: الدرر الكامنة ترجمة حافلة وأثنى عليه ثناء كثيرا جميلا لم يثن بمثله أحدا توفي رحمه الله في الطاعون الذي وقع في اليمن

شهيدا في سنة 840 فكان جملة عمره: ستا وستين سنة. السيد العلامة بدر الملة النير المؤيد بالله: محمد ابن الإمام المتوكل على الله: إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني اليمني: وهو: الإمام الكبير المحدث الأصولي المتكلم الشهير قرأ كتب الحديث وبرع فيها وكان إماما في الزهد والورع يعتقده العامة والخاصة ويأتونه بالنذور فيردها ويقول: إن قبولها تقرير لهم على اعتقادهم أنه من الصالحين وهو يخاف أنه من الهالكين حكى بعض أولاده: أنه قرأ وهو يصلي بالناس صلاة الصبح: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فبكى وغشي عليه وكان والده: ولي الله بلا نزاع من أكابر الأئمة وأهل الزهد والورع استوى عنده الذهب والحجر وخلف أولادا هم أعيان العلماء والحكماء وأعظمهم ولده هذا قال الشيخ أحمد بن عبد القادر الحفظي الشافعي - في ذخيرة الآمال في شرح عقد جواهر اللآل -: الإمام السيد المجتهد الشهير المحدث الكبير السراج المنير: محمد بن إسماعيل الأمير مسند الديار ومجدد الدين في الأقطار صنف أكثر من مائة مؤلف وهو لا ينسب إلى مذهب بل مذهبه: الحديث. قال: أخذ عن علماء الحرمين واستجاز منهم وارتبط بأسانيدهم وقرأ على الشيخ: عبد الخالق بن الزين الزجاجي والشيخ عليه واستجاز منه وأسند عنه مع تمكنه من علوم الآل وتأصله. انتهى على ما نقله السيد: حامد حسين المعاصر في كتابه: عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار. ومن شيوخه: الشيخ: عبد القادر بن علي البدري والشيخ: محمد طاهر بن إبراهيم الكردي والشيخ: سالم بن عبد الله البصري وغيرهم. وتتلمذ عليه أيضا خلق كثير منهم: الشيخ: عبد الخالق المزجاجي الزبيدي وهو أيضا أستاذه كما تقدم وأيضا ولده: السيد العلامة: عبد الله بن محمد الأمير وغيرهما له مصنفات جليلة ممتعة تنبئ عن سعة علمه وغزارة اطلاعه على العلوم النقلية والعقلية وكان ذا علم كبير ورياسة عالية وله في النظم اليد الطولى بلغ رتبة الاجتهاد المطلق ولم يقلد أحدا من أهل المذاهب وصار إماما كاملا مكملا بنفسه وقد من الله تعالى علي بأكثر مصنفاته وهي أزيد من أن تذكر. منها: سبل السلام شرح بلوغ المرام وهو عندي بخط ولده: السيد: عبد الله وفيه خطه الشريف أيضاً. ومنها: منحة الغفار حاشية ضوء النهار وإسبال المطر على قصب السكر وجمع التشتيت في شرح أبيات التثبيت وتوضيح الأفكار في شرح تنقيح الأنظار، إلى غير ذلك من الرسائل والمسائل التي لا تحصى وكلها فريدة في بابها خطيبة في محرابها حج وزار واستفاد من علماء الحرمين الشريفين وغيرهم من فضلاء الأمصار فهو أكرم من أن يصفه مثلي وقفت له على قصائد بديعة ونظم رائق وكان له صولة في الصدع بالحق واتباع السنة وترك البدعة لم ير مثله في هذا الأمر وهو من مشائخي في سند الكتب الحديثة على ما صرحت به في سلسلة العسجد من ذكر مشائخ السند وقد ذكرت له ترجمة في كتابي: إتحاف النبلاء ونقلها عنه: السيد المعاصر: حامد حسين في العبقات على تشيعه فلا نطول الكلام هاهنا بذكر ذلك الإملاء. توفي رحمه الله في سنة 1182هـ.

وخرج في زمانه الشيخ: محمد بن عبد الوهاب النجدي الذي تنسب إليه الطائفة الوهابية فنظم قصيدة في ذلك وأرسلها إليه وأثنى على طريقته ثم لما سمع أنه يكفر أهل الأرض ويسفك الدماء رجع عما كان قاله في قصيدته - كما سيأتي ذلك مفصلا في ترجمة: محمد بن عبد الوهاب - وكان له - رحمه الله - أولاد صلحاء تقدم تراجمهم في هذا الكتاب وقد أثنى عليه ولده: السيد: عبد الله في إجازة كتبها للشيخ المحدث شيخنا: عبد الحق بن فضل الله المحمدي الهندي المتوفى بمنى سنة ألف ومائتين وثمان وثمانين الهجرية القدسية قال فيه: سمع مني حصة من صحيح الإمام البخاري وقد من الله علي بالمثول بين يدي أئمة السنة النبوية والسماع منهم للآثار والأحاديث المصطفوية. منهم: والدي وشيخي ناصر السنة مجدد المائة الحادية عشر رضي الله عنه ... الخ والشيخ: عبد الحق المحمدي قد تتلمذ على شيخ شيوخنا: الشوكاني وكتب له إجازة بخطه الشريف يقول فيها: إني أجزت للشيخ العلامة أي: الفضل بن عبد الحق بن الشيخ العلامة: محمد فضل الله المحمدي الهندي كثر الله تعالى بمنه وكرمه فوائده ونفع بمعارفه ما اشتمل عليه هذا الثبت الذي جمعته وسميته: إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر فليرو عني ما اشتمل عليه من كتب الإسلام على اختلاف أنواعها كما يراه فيه وهو أهل لما هنالك ولم أشترط عليه شرطا فهو أجل من ذلك وأعلى حرر يوم الجمعة بتاريخ 10 جمادى الآخرة سنة 1238هـ كتبه: محمد بن علي الشوكاني. انتهى. وقد أتحفني شيخي عبد الحق بكتاب شيخه الشوكاني: إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر ولي أسانيد أخرى إلى الشوكاني كما يلوح من: الحطة وإتحاف النبلاء وسلسلة العسجد ولله الحمد وله المنة. الشيخ: محمد بن عبد الوهاب ابن سليمان بن علي بن أحمد بن راشد بن يزيد بن محمد بن يزيد بن مشرف صاحب نجد الذي تنسب إليه الطائفة الوهابية وهذا هو المعروف من نسبه ويذكر أنه من مضر ثم بني تميم. ولد سنة 1115هـ، بالعينية: من بلاد نجد ونشأ بها وقرأ القرآن وسمع الحديث أخذ عن أبيه وهم بيت فقه حنابلة ثم حج وقصد المدينة المنورة ولقي بها شيخا عالما من أهل نجد اسمه: عبد الله بن إبراهيم قد لقي أبا المواهب البعلي الدمشقي وأخذ عنه ثم انتقل مع أبيه إلى جريمل: قرية من نجد أيضا ولما مات أبوه رجع إلى العينية وأراد نشر الدعوة فرضي أهلها بذلك ثم خرج عنها بسبب إلى الدرعية وأطاعه أميرها: محمد بن سعود من آل مقرن يذكر أنهم من بني حنيفة ثم من ربيعة وهذا في حدود سنة 1206هـ. وانتشرت دعوته في: نجد وشرق بلاد العرب إلى عمان ولم يخرج عنها إلى الحجاز واليمن إلا في حدود المائتين والألف وتوفي سنة 1209هـ. قال الشيخ الإمام العلامة: محمد بن ناصر الحازمي الآخذ عن شيخ الإسلام: محمد بن علي الشوكاني: هو رجل عالم متبع الغالب عليه في نفسه الاتباع ورسائله معروفة وفيها المقبول والمردود وأشهر ما ينكر عليه خصلتان كبيرتان:

الأولى: تكفير أهل الأرض بمجرد تلفيقات لا دليل عليها وقد أنصف السيد الفاضل العلامة: داود بن سليمان في الرد1 عليه في ذلك2. الثانية: التجاري على سفك الدم المعصوم بلا حجة ولا إقامة برهان وتتبع هذه جزئيات ذكر السيد المذكور بعضها وترك كثيرا منها وهي حقيرة تغتفر مع صلاح الأصل وصحته. انتهى. وللعلامة الفاضل: حسين بن غنام اليمني قصيدة بديعة رد فيها على محمد بن فيروز في قصيدة لم يكفر فيها أهل نجد ويحث الناس على قتالهم فأجاب عليه بالقصيدة المذكورة أولها: على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا ... عروس هوى ممقوتة زارت الشطا وللإمام العلامة: عبد الله بن عيسى بن محمد الصنعاني كتاب سماه: السيف الهندي في إبانة طريقة الشيخ النجدي ألفه في سنة 1218هـ، قال فيه: كان مبتدأ أمره في بضع وستين ومائة وألف خرج محمد بن عبد الوهاب الحنبلي فنزل بمحلة الشيخ: عبد العزيز النجدي وكان أهل تلك المحلة قوم أعراب مضيعين لأركان الإسلام وهؤلاء أهل اليمامة فلما حل الشيخ: محمد - المذكور - ما زال يدعوهم إلى التوحيد ويعلمهم الشرائع من الصلاة والصيام وغير ذلك والشيخ: عبد العزيز بن محمد النجدي: أول من تابعه وأسلم على يديه. ثم لما تم للشيخ ابن عبد الوهاب ما أراد في تلك القرى المجاورة للدرعية: وهي قرية الشيخ: عبد العزيز واجتمع على الإسلام معه عصابة قوية صاروا يدعون من حولهم من القرى بالرغبة والرهبة ويقاتلون من حولهم من الأعراب ثم لما تمكن في قلوبهم الإسلام وهم عرب أغنام قرر لهم: أن دعا من غير الله أو توسل بنبي أو ملك أو عالم فإنه مشرك شاء أو أبى اعتقد ذلك أم لا. وتعدى ذلك إلى تكفير جمهور المسلمين وقد قاتلهم بهذا الوجه الذي أبداه وقد وقفت على رسالة لهم في هذا الشأن وقد كان المولى العلامة السيد: محمد بن إسماعيل الأمير بلغه من أحوال هذا النجدي ما سره فقال قصيدته المشهورة: سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي ثم لما تحقق الأحوال من بعض من وصل إلى اليمن وجد الأمر غير صاف عن الإدغال وقال:

_ 1 قلت للسيد داود بن سليمان رسالة، سماها صلح الإخوان في الرد على من قال على المسلمين بالشك والكفران، وهي في معرض الرد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان وتلامذته، وأتباعه من أهل نجد والعروض وعمان. وفي جوابها رسالة من الشيخ الإمام محمد بن ناصر الحازمي سماه فتح المنان في ترجيح الراجح وتزييف الزائف من صلح الإخوان قبل فيها ما صح دليله ورد ما عمي سبيله وهي عند سيدي الوالد بخطه الشريف سيد نور الحسن خان سلمه ربه. 2 يحتم علينا وازعنا الديني وأمانتنا العلمية أن نعطي كل ذي حق حقه، وأن نضع الأمور في نصابها، ففيما يتعلق بالإمام محمد بن عبد الوهاب يجدر بنا الأشارة إلى أنه لم يقم بتكفير الأمة كما أورد المؤلف أعلاه، ولكنه نهى عن الأعمال التي تؤدي بفاعلها إلى الكفر، وهي مما عمت به البلوي، وألف بذلك مؤلفات جليلة، استدل على أقواله فيها بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رائد دعوة إصلاحية أعادت توجيه الأمة إلى الطريق السوي الذي خطه لها قائدها صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن الإمام محمد بن عبد الوهاب فتح بأمر ربه منافذ النور والهدى، وقام بإعمال العقل، وإحياء عقيدة أهل السنة وانتشال الناس من ظلمات العبودية للخلق وخاصة أهل القبور والتوجه لله وحده. الناشر.

رجعت عن القول الذي قلت في النجد ... فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي ونقلت من خط العلامة وجيه الإسلام: عبد القادر ابن أحمد بن الناصر ما صورته في ذي القعدة سنة 1170هـ، سنة وصل إلينا الشيخ الفاضل: مربد بن أحمد بن عمر التميمي النجدي الجريملي: نسبة إلى جريمل: بلد قرب سدوس أول بلاد اليمامة من جهة الغرب وكان وصوله إلى اليمن لطلب تحقيق مسألة جرت بينه وبين الشيخ: محمد بن عبد الوهاب في تكفير من دعا الأولياء والشيخ يكفر من فعل ذلك ومن شك في كفره ويجاهد من خالفه وكان سبب وصوله إلى اليمن: أنه سمع قصيدة لشيخنا السيد العلامة: محمد بن إسماعيل الأمير كتبها إلى الشيخ: محمد بن عبد الوهاب وللشيخ: مربد عليها جواب صغير ولم يكن يتعاطى فيها الشعر قط فهذا كلام إمام ذلك الزمان في تحقيق مذهب الشيخ: محمد بن عبد الوهاب النجدي من قبل أن يولد أكثر هذه الطبقة التي نحن فيها. انتهى حاصله. ثم رد في هذه الرسالة عليه بعض عقائده ومسائله. وأما السيد العلامة: محمد بن إسماعيل الأمير فعبارته في شرح قصيدة مذكورة له الموسوم: بمحو الحوبة في شرح أبيات التوبة لما بلغت هذه الأبيات نجدا يعني القصيدة الأولى وصل إلينا بعد أعوام من بلوغها رجل عالم يسمى: الشيخ: مربد بن أحمد التميمي وكان وصوله في شهر صفر سنة 1170هـ، وأقام لدينا ثمانية أشهر وحصل بعض كتب شيخ الإسلام: ابن تيمية والحافظ: ابن القيم بخطه وفارقنا في عشرين من شوال 1170هـ، راجعا إلى وطنه وكان من تلاميذ الشيخ: محمد بن عبد الوهاب الذي وجهنا إليه الأبيات فأخبرنا ببلوغها ولم يأت بجواب عنها وكان قد تقدمه في الوصول إلينا بعد بلوغها الشيخ الفاضل: عبد الرحمن النجدي ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرها عليه من: سفك الدماء ونهبه الأموال وتجاربه على قتل النفوس ولو بالاغتيال وتكفيره الأمة المحمدية في جميع الأقطار فبقي معنا تردد فيما نقله الشيخ: عبد الرحمن حتى وصل الشيخ: مربد وله نباهة ووصل ببعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في: وجه تكفير أهل الإيمان وقتلهم ونهبهم وحقق لنا أحواله وأفعاله وأقواله فرأينا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا ولم يمعن النظر ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية ويدله على العلوم النافعة ويفقهه فيها بل طالع بعضا من مؤلفات الشيخ: أبي العباس ابن تيمية ومؤلفات تلميذه: ابن القيم الجوزية وقلدهما من غير إتقان مع أنهما يحرمان التقليد. ولما حقق لنا أحواله ورأينا في الرسائل أقواله وذكر لي أنه: إنما عظم شأنه بوصول الأبيات التي وجهناها إليه وأنه يتعين علينا نقض ما قدمناه وحل ما أبرمناه وكانت هذه الأبيات قد طارت كل مطار وبلغت غالب الأقطار وأتتنا فيها جوابات من مكة - المشرفة - ومن البصرة وغيرهما إلا أنها جوابات خالية عن الإنصاف ولما أخذ علينا الشيخ: مربد ذلك تعين علينا لئلا نكون سببا في شيء من هذه الأمور التي ارتكبها ابن عبد الوهاب - المذكور - كتبت أبياتا وشرحتها وأكثرت من النقل عن ابن القيم وشيخه لأنهما عمدة الحنابلة. انتهى كلام السيد - رحمه الله تعالى. وقد وقفت على هذا الشرح وهو عندي موجود ألفه السيد المؤلف في سنة 1170هـ، ثم وقفت لهذا العهد على كتاب: رد المحتار وحاشية الدر المختار للسيد: محمد أمين بن عمر المعروف: بابن العابدين بمصر حالاً،

وكان في سنة 1249هـ، ما لفظه: كما وقع في زماننا في أتباع ابن عبد الوهاب الذي خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف. انتهى. هذا وقد وقفت على رسائل للشيخ: محمد بن عبد الوهاب منها: كتاب النبذة في معرفة الدين الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار وكتاب التوحيد المشتمل على مسائل من هذا الباب أوله: قول الله - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وليس لهذا الكتاب ديباجة بل يذكر فيه الآيات والأحاديث ثم يقول فيه مسائل وكتاب في مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهل الجاهلية من أهل الكتاب وغيرهم وهو مختصر في نحو كراسة. وكتاب كشف الشبهات في بيان التوحيد وما يخالفه والرد على المشركين. ورسالة: أربع قواعد من قواعد الدين في نحو ورقة. وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. و: كتاب في تفسير شهادة: أن لا إله إلا الله. وكتاب: تفسير سورة الفاتحة. ورسالة: في معرفة العبد ربه ودينه ونبيه. ورسالة: في بيان التوجه في الصلاة ورسالة: في معنى: الكلمة الطيبة أيضاً. ورسالة: في تحريم التقليد. وهذا جل ما وقفت عليه من تواليفه إلى الآن وفيها ما يقبل ويرد وعلى كتابه التوحيد شرح مبسوط مفيد للشيخ العالم العلامة مفتي الديار النجدية: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب حفيد المؤلف سماه: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد ولقبه: قرة عين الموحدين في تحقيق دعوة المرسلين. ذكر فيه أنه تصدى لشرحه حفيده: الشيخ: سليمان بن عبد الله فوضع عليه شرحا أجاد فيه وأفاد وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد وسماه: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ولما قرأت شرحه رأيته أطنب في مواضع وفي بعضها تكرار يستغنى بالبعض منه عن الكل ولم يكمله فأخذت في تهذيبه وتقريبه وتكميله وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميما للفائدة وسميته: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد ولأتباعه أيضا رسائل منها: الرسالة الدينية في معنى الإلهية للشيخ: عبد العزيز بن محمد بن سعود قال فيها: من عبد العزيز إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين الشريفين والشام ومصر والعراق وسائر علماء الغرب والشرق سلام عليكم ورحمة الله بركاته أما بعد ... الخ. ولما أراد الثويني - وهو رئيس بدوان العراق - أن يقدم على سعود بن عبد العزيز - المذكور - وقدم عليه في جيش عظيم فتلقاه رجل يقال له: طعيس فقتله وأغار سعود على جيشه فأخذهم وغنمهم فقال الشيخ العلامة: حسين بن غنام يهنيه بذلك: تلألأ نور الحق وانصدع الفجر ... وديجور ليل الشرك مزقه الظهر

وشمس الأماني أشرقت في سعودها ... ولاح بأفق السعد نجمه الزهر وهي قصيدة طويلة حسنة ألفها في سنة 1217 ثم وقفت بعد ذلك كله في سنة 1285هـ، حين السفر إلى الحرمين الشريفين على رسالة للشيخ العالم: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب إمام الوهابية ذكر فيها ما لفظه: وبعد فإنا معاشر موحدون لما من الله علينا وله الحمد بدخول مكة المشرفة نصف النهار يوم السبت ثامن شهر المحرم سنة 1218هـ، بعد أن طلب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو: سعود - حماه الله - وقد كان أمراء الحج وأمير مكة على القتال والإقامة في الحرم ليصدوه عن البيت فلما زحفت أجناد الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم فتفرقوا شذر مذر كل واحد يعد الإياب غنيمة وبذل الأمير الأمان لمن بالحرم الشريف ودخلنا بالتلبية آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين غير خائفين من أحد من المخلوقين بل من مالك يوم الدين ... إلى قوله: ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد وعرض الأمير عافاه الله على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه قال: ثم دفعت إليهم الرسائل المؤلفة للشيخ: محمد في التوحيد واختصر من ذلك رسالة للعوام. انتهى. وفي هذه الرسالة أنكر كثيرا مما ينسب إليه من المسائل والأقوال المخالفة لصحاح الكتب وللشيخ المحدث العلامة: محمد بن ناصر الحازمي: رسالة في المشاجرة مع أهل مكة المشرفة في المسائل التي اختلف فيها الوهابية وغيرهم أنصف في هذه الرسالة غاية الإنصاف وأتى بما يقضي منه العجب العجاب وله: رحمه الله تعالى رسالة أخرى في إثبات الصفات قال في مطاويها: قد بينا فيما تقدم عقيدة شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب وإن عقيدته وعقيدة أتباعه هي عقيدة السلف الماضيين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة الدين. انتهى. وقال فيها في موضع آخر: إن هذا الاعتقاد الذي حكيناه عن: محمد بن عبد الوهاب وأتباعه - يعني: في آيات الصفات وإجرائها على الظاهر - هو الاعتقاد والحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وكلام الصحابة وسائر الأمة ... إلى آخر ما ذكره. وبالجملة: فالشيخ: محمد بن عبد الوهاب ممن اختلف فيه اعتقاد الناس فمنهم: من أثنى عليه في كل ما قاله ووضعه ونشره ودعا إليه وقاتل عليه وانتصر له وافتخر بالانتساب إليه وإلى طريقته. ومنهم: من أساء الظن به كل الظن ورد عليه كل نقير وقطمير اختاره وذهب إليه وكفره وبدعه. ومنهم: من سلك سبيل الإنصاف وترك - خشية الله تعالى - القول باعتساف فقبل من أقواله ما كان صوابا ورد ما خالف منها سنة وكتابا ولعمري هذا هو الطريق السوي والصراط المستوي وهو الذي درج عليه أئمة الأمة وسلفها عند اختلاف الناس وتنازعهم في الدين وقضوا بذلك وبه كانوا يعدلون بين المسلمين ومن حاد عن طريقهم وشذ عن فريقهم فهو على شفا حفرة من النار ولا عبرة بالعامة بل ولا بالخاصة في نصرة من أحبوه وحط من أبغضوه لأن ذلك دأب أكثر الناس في غالب الأمصار والأعصار إلا من عصمه الله ووفقه للنصفة والاعتبار - والله أعلم بالصواب. محمد بن علي بن محمد الشوكاني: شيخنا الإمام العلامة الرباني والسهيل الطالع من القطر اليماني إمام الأئمة ومفتي الأمة بحر العلوم وشمس الفهوم سند المجتهدين الحفاظ فارس المعاني والألفاظ،

فريد العصر نادر الدهر شيخ الإسلام قدوة الأنام علامة الزمان ترجمان الحديث والقرآن علم الزهاد أوحد العباد قامع المبتدعين آخر المجتهدين رأس الموحدين تاج المتبعين صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها قاضي الجماعة شيخ الرواية والسماعة عالي الإسناد السابق في ميدان الاجتهاد على الأكابر الأمجاد المطلع على حقائق الشريعة ومواردها العارف بغوامضها ومقاصدها. قال القاضي العلامة: عبد الرحمن بن أحمد البهكلي في كتابه: نفح العود في أيام الشريف حمود: كان مولد شيخنا الشوكاني يوم الإثنين الثامن والعشرين من ذي قعدة الحرام سنة اثنتين وسبعين بعد مائة وألف - كما أخبرني بذلك - في بلده: هجرة شوكان ونشأ على العفاف والطهارة وما زال يجمع النشأ ويحرز المكرمات له قراءة على والده ولازم إمام الفروع في زمانه القاضي: أحمد بن محمد الحرازي وانتفع به في الفقه. وأخذ النحو والصرف عن السيد العلامة: إسماعيل بن حسن والعلامة: عبد الله بن إسماعيل النهمي والعلامة: القاسم بن محمد الخولاني وأخذ علم البيان والمنطق والأصلين عن العلامة: حسن بن محمد المغربي والعلامة: علي بن هادي عرهب ولازم في كثير من العلوم مجدد زمانه السيد: عبد القادر بن أحمد الحسني الكوكباني. وأخذ في علم الحديث عن الحافظ: علي بن إبراهيم بن عامر وغير ذلك من المشائخ في جميع العلوم العقلية والنقلية حتى أحرز جميع المعارف واتفق على تحقيقه المخالف والموالف وصار مشارا إليه في علوم الاجتهاد بالبنان والمجلي في معرفة غوامض الشريعة عند الرهان له المؤلفات في أغلب العلوم: ومنها: كتاب: نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار لجد ابن تيمية رحمه الله في أربع مجلدات كبار لم تكتحل عين الزمان بمثله في التحقيق أعطى فيه المسائل حقها في كل بحث على طريق الإنصاف وعدم التقيد بمذهب الأسلاف وتناقله عنه مشائخه فمن دونهم وطار في الآفاق في حياته وقرئ عليه مرارا وانتفع به العلماء وكان يقول: إنه لم يرض عن شيء من مؤلفاته سواه لما هو عليه من التحرير البليغ وكان تأليفه في أيام مشائخه فنبهوه على مواضع منه حتى تحرر. وله التفسير الكبير المسمى: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من التفسير وقد سبقه إلى التأليف في الجمع بين الرواية والدراية العلامة: محمد بن يحيى بن بهران فله تفسير في ذلك عظيم لكن تفسير شيخنا أبسط وأجمع وأحسن ترتيبا وترصيفا وقد ذكر الحافظ السيوطي في الإتقان: أنه جعله مقدمة لتفسير جامع للدراية والرواية سماه: مطلع البدرين ومجمع البحرين. وله: مختصر في الفقه على مقتضى الدليل سماه: الدرر البهية في المسائل الفقهية وشرحه شرحا نافعا سماه: الدراري المضيئة أورد فيه الأدلة التي بنى عليها ذلك المؤلف. وله: وبل الغمام حاشية على شفاء الأوام للأمير: حسين بن محمد الإمام. وله: در السحابة في مناقب القرابة والصحابة. وله: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. وله: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول يعز نظيره وترصيفه وحسن ترتيبه وتصنيفه.

وله: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار كان تأليفه في آخر مدته ولم يؤلف بعده شيئا فيما أعلم وقد تكلم فيه على عيون من المسائل وصحح من المشروع ما هو مقيد بالدلائل وزيف ما لم يكن عليه دليل وحسن العبارة في الرد والتعليل. والسبب في ذلك: أنه نشأ في زمنه جماعة من المقلدة الجامدين على التعصب في الأصول والفروع ولم تزل المصاولة والمقاولة بينه وبينهم دائرة ولم يزالوا ينددون عليه في المباحث من غير حجة فجعل كلامه في ذلك الشرح في الحقيقة موجها إليهم في التنفير عن التقليد المذموم وإيقاظهم إلى النظر في الدليل لأنه يرى تحريم التقليد وقد ألف في ذلك رسالة سماها: القول المفيد في حكم التقليد وقد تحاماه لما حواه جماعة من علماء الوقت وأرسل إليه أهل جهته بسببه سهام اللوم والمقت وثارت من أجل ذلك فتنة في صنعاء بين: من هو مقلد وبين من هو مقتد بالدليل توهما من المقلدين أنه ما أراد إلا هدم مذهب أهل البيت لأن الإزهار هو عمدتهم في هذه الأعصار وعليه في عبادتهم والمعاملة على المدار وحاشاه من التعصب على من أوجب الله تعالى محبتهم وجعل أجر نبينا صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة مودتهم لأن له الولاء التام لهم وقد نشر محاسنهم في مؤلفه: در السحابة بما لم تخالج بعده ريبة لمرتاب على أن كلامه مع الجميع من أهل المذاهب سواء بسواء لأن المأخذ واحد والرد واحد والخطب يسير والخلاف في المسائل العلمية الظنية سهل لأنها مطارح أنظاره والاجتهاد يدخلها والمصيب من المجتهدين في ذلك له أجران والمخطي له أجر وهذا شأن أهل العلم في كل زمان ومكان ما بين راد ومردود عليه وكل مأخوذ من قوله ومتروك إلا صاحب العصمة عليه أفضل الصلاة والتسليم ومن طالع الكتب الإسلامية في الفروع والأصول على اختلاف أنواعها عرف ذلك وهان عليه سلوك هذه المسالك ومن وزن الأمور بالإنصاف لا تخفى عليه الحقيقة ومن جمد على التقليد وضاق عطنه عن مدارك الاستدلال فما له والاعتراض على المجتهدين ولا ينبغي أن يضائق المجتهد في اجتهاده لأجل توقفه في موقفه الذي هو: التقليد وقد تفضل الله عليه بالاجتهاد والتقليد لا يجوز إلا لغير المجتهد والاجتهاد غير متعذر ومن اعترض على المجتهد فيما أدى إليه اجتهاده فقد تحجر الواسع وجرى على خلاف نهج السلف من أهل العلم. نعم أنا قد حبرت مقاصد السيل الجرار في مؤلف سميته: نزهة الأبصار وهو واف بالمقصود من إيراد تلك الأدلة من غير تعرض لما يقع به بسط الألسنة من الناس وللمترجم له: تاريخ حافل سماه: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع جرى فيه من ذلك الوقت إلى زمانه. وابتدأ فيه بذكر عابد اليمن: إبراهيم الولي المشهور وله جملة رسائل من مطولات ومختصرات وقد جمعت فتاواه ورسائله فجاءت في مجلدين وسماها ابنه العلامة: علي بن محمد: بالفتح الرباني وله في الأدب اليد الطولى وله أشعار كثيرة مدونة قد رتبها ابنه المذكور على حروف المعجم فجاءت في ديوان وقد أخذت عنه في كثير من الفنون العلمية وأخذت عنه غالب مؤلفاته وبموته أطفئ على أهل اليمن مصباحهم المنير ولا أظن يرون مثله في تحقيقه للعلوم والتحرير وقد جرت بيني وبينه مكاتبة أدبية ومراسلة لمسائل علمية هي عندي مثبتة بخطه.

وعلى الجملة: فما رأى مثل نفسه ولا رأى من رأى مثله علما وورعا وقياما بالحق بقوة جنان وسلاطة لسان. وقد أفرد ترجمته تلميذه الأديب: محمد بن حسن الجني الذفاري بمؤلف قصره على ذكر مشائخه وتلامذته وسيرته وما انطوت عليه شمائله وما قاله من شعر وما قيل فيه جاء في مجلد ضخم. وكانت وفاته في شهر جمادى الآخرة في سنة خمسين بعد المائتين والألف وقد كان توفي قبله بمدة يسيرة ابنه العلامة: علي بن محمد وهو أحد محققي العلماء وممن لازم والده في جميع المعارف حتى بلغ ذروة العلوم تحقيقا وتدقيقا وقد شاركته في الأخذ على والده في كثير من مقروءاته وقد كنت قلت في والده مراثي لولا الإطالة لذكرتها. انتهى كلامه رحمه الله تعالى بلفظه ومعناه مع التلخيص. قلت: ووجدت على ظهر كتابه: الدراري المضية أن مولده رضي الله عنه كان عام سبع وسبعين ومائة وألف وقلد ولاية القضاء من جهة الإمام: المنصور بالله علي بن العباس في أوائل شهر شعبان سنة 1229هـ، وتوفاه الله تعالى يوم الأربعاء في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من شهور سنة 1250هـ، وكان بين وفاته ووفاة ولده: علي بن محمد نحو شهر وكان قد توفاه الله قبله ولم يظهر والده جزعا ولا حزنا وكان ولدا صالحا عالما مبرزا في جميع العلوم وكان نادرة وقته على صغر سنه قيل: إنه توفي وهو في حدود العشرين رحم الله الجميع برحمته ثم ذكر له تصانيف عددها: ثلاثة وخمسون كتابا سماها بأسمائها. قال السيد الجليل العلامة: عبد الرحمن بن سليمان ابن يحيى بن عمر مقبول الأهدل - رحمه الله - في كتابه المسمى: بالنفس اليماني والروح الريحاني في إجازة قضاة بني الشوكاني ما عبارته: وممن تخرج بسيدي الإمام: عبد القادر بن أحمد الحسني إمام عصرنا في سائر العلوم وخطيب دهرنا في إيضاح دقائق المنطوق والمفهوم الحافظ المسند الحجة الهادي في إيضاح السنن النبوية إلى المحجة عز الإسلام: محمد بن علي الشوكاني بلغه الله في الدارين أقصى الأماني: إن هز أقلامه يوما ليعلمها ... أنساك كل كمي هز عامله وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له ولقد منح رب العالمين من بحر فضله الواسع هذا القاضي الإمام ثلاثة أمور لا أعلم أنها في هذا الزمان الأخير جمعت لغيره: الأول: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها. الثاني: سعة التلاميذ المحققين والنبلاء المدققين أولي الأفهام الخارقة والفضائل الفائقة الحقيق أن ينشد عند حضور جمعهم الغفير ومشاهدة غوصهم على جواهر المعاني التي استخراجها من بحر الحقائق غير يسير: إني إذا حضرتني ألف محبرة ... تقول: أخبرني هذا وحدثني صاحت بعقوتها الأقلام ناطقة ... هذي المكارم لا قعبان من لبن الثالث: سعة التأليف المحررة والرسائل والجوابات المحبرة التي تسامى في كثرتها الجهابذة الفحول وبلغ من تنقيحها وتحقيقها كل غاية وسول وقد ذكر لي بعض المعتمدين مؤلفاته الحاصلة الآن: مائة وأربعة عشر مؤلفا عدد سور كتاب الله تعالى قد شاعت في الأمصار الشاسعة فضلا عن القريبة ووقع

بها غاية الانتفاع والله عز وجل المسؤول أن يبارك للإسلام والمسلمين في أوقاته وأن يمتع بحياته آمين ثم آمين: كلنا عالم بأنك فينا ... نعمة ساعدت بها الأقدار فوقت نفسك النفوس من بشر ... وزيدت في عمرك الأعمار وقد اعتنى بشرح مناقبه وفضائله عدة من العلماء والأعلام والجهابذة الفخام منهم: السيد العلامة: إبراهيم بن عبد الله الحوثي. ومنهم: بعض علماء كوكبان عظماء القدر كبراء الشأن. ومنهم: السيد العلامة: محمد بن محمد الديلمي. ومنهم: القاضي العلامة: محمد بن حسن الجني الذماري في كتاب حافل سماه: التقصار في جيد زمن علامة الأمصار. ومنهم: الحبر العلامة والبحر الفهامة لطف الله جحاف وبالجملة: فمحل القول في هذا الإمام ذو سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل: زد في العلا مهما تشا رفعة ... وليصنع الحاسد ما يصنع فالدهر نحوي كما ينبغي ... يدري الذي يخفض أو يرفع والله المسؤول أن يزيده مما أولاه وأن يصلح لكل منا آخره وأولاه فضلا من رب العالمين وكرما منه سبحانه اللهم آمين. انتهى كلامه رحمه الله. وللمترجم له كتاب: إتحاف الكابر بإسناد الدفاتر ذكر فيه مشائخه الأعلام وأسماء كتبه المقروءة والمسموعة ومروياته على التمام فمن شاء الزيادة فعليه بالكتاب المذكور فإن النظر فيه يقضي العجب العجاب وهذا الذي ذكرناه في هذا الكتاب قطرة من بحر فضائله التي لا تحصى وذرة من وادي فواضله التي لا تستقصى تشهد بذلك مؤلفاته وتنطق به مصنفاته والله يختص برحمته من يشاء وهو الذاب عن شريعة الإسلام باللسان والقلم والمناضل عن الدين النبوي وكم أبدى الحكم ولا عبرة بمن يرميه بما ليس فيه أو ينسبه بمجرد الهوى لقول غير وجيه فلم يضره قول الطاعن عن الحاسد والباغي الجاحد: وما ضر نور الشمس إن كان ناظرا ... إليها عيون لم تزل دهرها عميا غير أن الحسد يحمل صاحبه على اتباع هواه وأن يتكلم فيمن يحسده وبما يلقاه وما أحقه بقول القائل: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا علمه ... فالقوم أعداء له وخصوم فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور نفوسنا وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله وقد روي عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أنه قال: كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا اليوم شوكا لا ورق فيه فهذا زمان أبي ذر فما ذاك من زماننا وبأشراره: إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا فالمناسب جمع الخاطر عن علماء الوقت ورفع الهمة عنهم والقناعة بمن مضى من علماء السنة

المطهرة واقتصار النظر في كتبهم المحققة هذا وله - رحمه الله تعالى - مؤلفات مفيدة في فنون عديدة والتي وقفت عليها وهي عندي موجودة أيضا كثيرة جدا غير ما ذكر. منها: كتاب آداب الطلب ومنتهى الأدب. والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. وإتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر. وتحفة الذاكرين شرح عدة الحصن الحصين. وإرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات ردا على موسى بن ميمون الأندلسي اليهودي في ظاهر المستند والزنديق في باطن المعتقد. والطود المنيف في الانتصاف للسعد على الشريف في المسألة المشهورة التي تنازعا فيها بين يدي تيمورلنك. وشفاء العلل في زيادة الثمن لمجرد الأجل. وشرح الصدور في تحريم رفع القبور. وطيب النشر في المسائل العشر جواب على القاضي: عبد الرحمن. ورسالة: أجاب بها على الشريف: إبراهيم بن أحمد ابن إسحاق. ومنها: الصوارم الهندية المسلولة على الرياض الندية لإبطال قول من أوجب غسل الفرجين. ورسالة: في اختلاف العلماء في تقدير النعاس. ورسالة: في الرد على القائل بوجوب التحية. والقول الصادق في حكم الإمام الفاسق. ورسالة: في حد السفر الذي يجب معه قصر الصلاة. وله: تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع. والرسالة المكملة في أدلة البسملة. وإطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال. ومنها: رسالة: في الطلاق البدعي يقع أم لا. ورسالة: الطلاق لا يتبع الطلاق. ورسالة: في إرضاع الكبير هل يقتضي التحريم أم لا؟ ورسالة: تنبيه ذوي الحجا على حكم بيع الرجا. ورسالة: القول المحرر في لبس المعصفر وسائر أنواع الأحمر. وعقود الزبرجد في جيد مسائلا علامة ضمد. ورسالة: إبطال دعوى الإجماع على تحريم السماع. ورسالة: زهر النسرين في حديث المعمرين الفائح بفضائل العمرين. وإتحاف المهرة في الكلام على حديث: لا عدوى ولا طيرة. وعقود الجمان في بيان حدود البلدان.

وأخرى سماها: إرشاد الأعيان إلى تصحيح ما في عقود الجمان ردا على السيد العلامة: حسين بن يحيى الديلمي. ورسالة: حل الإشكال في أجياد اليهود على التقاط الأزبال وأخرى: ردا على مناقضها السيد العلامة: عبد الله بن عيسى بن محمد الكوكباني التي سماها: إرسال المقال على إزالة حل الإشكال فرد شيخ الإسلام على تعقبه. بتفويق النبال إلى إرشاد المقال. ورسالة: البغية في مسألة الرؤية. والتشكيك على التفكيك. وإرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي. ورسالة: رفع الجناح عن نافي المباح هل هو مأمور به أم لا؟ والعقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين. والقول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول. وجواب السائل في جواب: والقمر قدرناه منازل وأمنية المتشوق إلى معرفة حكم المنطق. وإرشاد المستفيد إلى دفع كلام ابن دقيق العيد في الإطلاق والتقييد. والبحث الملم المتعلق بقوله تعالى: إلا من ظلم. والبحث المسفر عن تحريم كل مسكر. وله: الدواء العاجل لدفع العدو الصائل. ورسالة عجيبة: في رفع المظالم والمآثم. والدرر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد. ورسالة في وجوب التوحيد. والمقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على الدار الآخرة. ونزهة الأحداق في علم الاشتقاق. ورفع الريبة فيما يجوز ولا يجوز من الغيبة. وتحرير الدلائل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل. وكشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار. وإشراق النيرين في بيان الحكم: إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين. ورسالة التسعير. وكتاب: نثر الجوهر في شرح حديث أبي ذر. ورسالة: في التحلي بالذهب للرجال. ورسالة: منحة المنان في أجرة القاضي والسجان. ورسالة: في مسائل العول.

ورسالة: تنبيه الأمثال على عدم جواز الاستعانة من خالص المال. ورسالة: في الاتصال بالسلاطين. وقطر الولي في معرفة الولي. والتوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح. ورسالة: جيد النقد في عبارة الكشاف والسعد. وبغية المستفيد في الرد على من أنكر الاجتهاد من أهل التقليد. والروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع. وفتح الخلاق في جواب مسائل عبد الرزاق ... إلى غير ذلك. وأما الأبحاث التي اشتمل عليها كتابه: الفتح الرباني وغيره فهي كثيرة جدا لا يسعها هذا المقام. وكل بحث منها: كالرسالة في بابه وقد وقفت على أكثرها - بحمد الله تعالى - وانتفعت به نفعا عظيما صلح به قلبي وجسدي - وبالله التوفيق وهو المستعان. الشيخ العلامة القاضي: حسين بن محسن الأنصاري ابن محمد بن مهدي بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن عثمان بن محمد بن عمر بن محمد بن حسين ابن إبراهيم بن إدريس بن تقي الدين بن سبيع بن عامر ابن غبشة بن ثعلبة بن غبشة بن عوف بن مالك بن عمر بن كعب بن الخزرج بن قيس بن سعد بن عبادة ابن دلهم بن حارثة بن خزام بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الخزرجي الأنصاري كانت ولادة شيخنا: الحسين في شهر جمادى الأولى سنة 1245هـ ولما بلغ ثلاث عشرة سنة من العمر توجه إلى قرية المراوعة لتحصيل طلب العلم على يد شيخه ومربيه شرف الإسلام وحسنة الليالي والأيام ذي المنهج الأعدل السيد: حسن بن عبد الباري الأهدل فأقام بها ثمان سنين مشتغلا بالطلب في التفسير والحديث والنحو والفقه على شيخه الموصوف وحصلت له منه الإجازة والإسناد كما ذلك معروف ومشهور وأخذ أيضا على أخيه وشقيقه الكبير القاضي العلامة: محمد بن محسن الأنصاري فقرأ عليه صحيح البخاري قراءة بحث وتحقيق من أوله إلى آخره وفي كثير من علوم الحديث والفقه والفرائض وغيرها والشيخ: محمد بن محسن المذكور من الآخذين على شيخه السيد: حسن بن عبد الباري أيضا وحصلت للشيخ: حسين المذكور الإجازة العامة وأيضا الملاقاة بشيخه القاضي العلامة: أحمد بن محمد بن علي الشوكاني في بندر الحديدة وأجازه إجازة عامة بجميع مروياته ومسموعاته وبشيخه الإمام العلامة الشريف: محمد بن ناصر الحازمي بمكة المشرفة في سنوات عديدة وقرأ عليه الأمهات الست قراءة بحث وتحقيق ومسند الدارمي وأوائل الشيخ: محمد سعيد سنبل المدني وشمائل الإمام الترمذي وإجازة بجميع مروياته ومسموعاته إجازة عامة - كما هي موجودة بخطه الشريف. ورحل إلى مدينة بيدر وأخذ بها على شيخه السيد العلامة: نفيس الدين سليمان بن محمد بن عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر مقبول الأهدل مفتي مدينة زبيد حالا عافاه الله تعالى وقرأ عليه أوائل الأمهات وحصل له الإجازة منه بجميع مروياته ومسموعاته كما هي موجودة بخطه الشريف. هذا والشيخ: حسين بن محسن شيخنا في العلوم الحديثة أخذت عليه أكثر الأمهات الست وغيرها وأجازني

بها إجازة عامة تامة كما هي موجودة عندنا بخطه الشريف مكتوبة في: سلسلة العسجد في ذكر مشائخ السند وقرأ عليه أيضا: ثمرة الفؤاد ونخبة المراد الولد نور الحسن بارك الله له وعليه وفيه الكتب الحديثة وحصل له منه الإجازة بجميع مروياته ومسموعاته وكتب له الإجازة بخطه الشريف وكم1 له من تلامذة في بلدتنا بهوبال المحمية وهو الغنيمة الكبرى للطالبين والنعمة العظمى للراحلين كان فيما مضى قاضيا ببلدة اللحية: من بلاد اليمن وهو في الحال نزيل بهوبال ومدرس المدرسة الرياسية يدرس ويفيد. له علم نافع وعمل صالح وفكرة صحيحة وهمة في إشاعة علم الحديث رفيعة ولقاء مبارك جاءنا بمؤلفات علماء اليمن الميمون وأمطر علينا نفائس الكتب كالغيث الهتون كم قد ذهب في طلب كتب الحديث لنا إلى أرض الحجاز وغيرها ورجع من هناك برسائل نفيسة ومجاميع عزيزة وكتب الشروح والمتون ودواوين العلوم على الحقيقة دون المجاز - أحسن الله إليه كما أحسن إلي وتفضل علي - وقد بذلنا في تحصيل هذه الكتب وتلك الصحف مالا جما وجمعناها على يده من بلاد شتى: نحو صنعاء وزبيد وأبي عريش واليمن والحديدة والبصرة ومصر والحرمين الشريفين وهو - عافاه الله تعالى - صرف همته العليا في إشاعة مؤلفاتنا أيضا حتى بلغ بها إلى أقصى اليمن وأبلغها إلى الأماكن البعيدة سوى ما سارت بها الركبان إلى بلاد الله تعالى من هذه البلدة ومن مكة المشرفة - ولله الحمد كل الحمد والمنة.

_ 1 ومن تلاميذه هذا العبد الضعيف الراجي إلى رحمة ربه القوي علي حسين اللكنوي، ابن الحافظ محمد صادق أبقاه الله تعالى كاتب هذا الكتاب عند الطبع فأخذت عنه الأمهات الست، وغيرها من كتب الحديث.

علماء الهند

علماء الهند تقدم في القسم الأول من هذا الكتاب أن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم من العجم وقليل من منهم من العرب فالأعاجم هم سباق حلبة العلوم وفرسان معركة المنطوق والمفهوم تعاطوا من دنان الحكم أصفى الحميا وتناولوا من غوامض العلوم ما كان بالثريا ولكن الله تعالى بعث في الأميين رسولا عربيا نسخ جميع الكتب والأديان وجاء الناس باليمن والإيمان وأخذ بنواصي كافة الأمم وألزم طاعته على رقاب العرب والعجم وهذا الفخر كاف للعرب العرباء واف في باب العلياء لا يدانيهم فيه أحد من الأعاجم ولا يبلغ شأوه فرد من الأعاظم. ولما ورد الإسلام قبل الهند بالإيران والتوران وكشف نوره الأتم أغطية الظلم عن هذه البلدان نشأت العلوم الإسلامية سابقا بتلك البلاد وترعرعت بها أغصان هذا الشجر المياد. وأما الهند: فقد فتح في عهد الوليد بن عبد الملك على يد محمد بن قاسم الثقفي سنة اثنتين وتسعين الهجرية وبلغت راياته المظلة على الفوج من حدود السند إلى أقصى قنوج سنة خمس وتسعين وبعد ما عاد ولاة الهند إلى أمكنتهم وبقي الحكام من الخلفاء المروانية والعباسية ببلاد السند وقصد السلطان محمود الغزنوي أواخر المائة الرابعة غزو الهند وأتى مرارا وغلب وأخذ الغنائم وانتزع السند من الحكام الذين كانوا من قبل القادر بالله بن المقتدر العباسي لكن السلطان محمود لم يقم بالهند وكان أولاده متصرفين من غزنين إلى لاهور حتى استولى السلطان: معز الدين سام الغوري على غزنين وأتى

لاهور وقبض على خسرو ملك خاتم الملوك الغزنوية وضبط الهند وجعل دهلي دار الملك سنة تسع وثمانين وخمسمائة هـ ومن هذا التاريخ إلى آخر المائة الثانية عشر كانت ممالك الهند في يد السلاطين الإسلامية. ولما انتشر الإسلام في هذه البلاد وطلعت شموسه البازعة على الأغوار والأنجاد وعلت الكلمة الطيبة في هذه الغبراء واجتمعت بشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ظهر بها جمع من العلماء والأدباء الإسلامية الناثرين على بسط الأزمنة لآلي من السحب الأقلامية لكن لم يعمد أحد منهم إلى ضبط تراجمهم ولم يجتن جان زهرا من حواجمهم إلا نزرا يسيرا ولذلك لا ترى من السلف والخلف كتابا مستقلا في هذا الباب لا على طريق الإيجاز ولا على سبيل الإطناب ألا ترى أن عين العلم كتاب مفيد مصنفه على الأصح من أهل الهند كما ذكر ذلك علي القاري في شرحه له على ما صرح به الحافظ: ابن حجر العسقلاني رحمه الله ومع وجود مثل هذا الكتاب لم يعرف واحد من مؤرخي الهند خبره وما أبقى الزمان الجائر مع إبقاء الكتاب أثره ومن ثم اندرست آثار جم غفير من العلماء الأجلاء واندثرت معالم كانت أفلاذ كبد الدهناء: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والخطوب الزواجر وبالجملة: قد خرج من أرض الهند جماعة كبيرة من العلماء الفضلاء وطلع من بلادها طائفة من النبلاء الأدباء قديما وحديثا وإن لم يسر بذكرهم الركبان سيرا حثيثا وقد كنت يخطر ببالي أن أجمع لتراجمهم كتابا مستقلا لا يغادر صغيرا ولا كبيرا وأرتب لذكرهم سفرا مفردا يثبت لهم ذكرا جميلا وفضلا كثيرا لكن عاقني عن ذلك كثرة الأشغال وتشتت البال من تغير الأحوال حتى لم تتيسر تلك الأمنية إلى الآن فاقتصرت في تذكارهم في هذا الكتاب على ما وجدته في كتاب: سبحة المرجان مع زيادة يسيرة من تراجم المتأخرين الذين هم من العلم والفضل بمكان مكين فأقول وبالله أحول وأصول: أبو حفص ربيع بن صبيح السعدي البصري: هو من أتباع التابعين وأعيان المحدثين كان صدوقا عابدا مجاهدا أول من صنف في الإسلام. روى عن: الحسن البصري وعطاء. وعنه: سفيان الثوري ووكيع وابن مهدي. قال صاحب المغني: مات بأرض السند سنة ستين ومائة ومن ثم ذكرته في علماء الهند تيمنا بذكره والله الموفق. مسعود بن سعد بن سلمان اللاهوري: أصله من همدان خرج أبوه سعد منها إلى الهند وورد لاهور في دولة السلاطين الغزنوية ولازم منهم السلطان: إبراهيم فأعطاه عدة من الأعمال واستوطن لاهور وتزوج بها واستولد كثيرا منهم: مسعود المذكور نشأ في كفالة والده واحتظى من العلم والكمال بطريفه وتالده إلى أن فوض إليه السلطان حكومة بعض الأمصار وكان شاعرا مجيدا محبا للشعراء يعطيهم صلات عظيمة على أدنى شعر وكان نديما لسيف الدين محمود بن السلطان إبراهيم.

توفي في سنة 515هـ، محبوسا في قلعة نائ وكان لبث في السجن عشرين سنة حفظ هناك القرآن ونظم الأشعار وكان عارفا بالألسنة الثلاثة: العربي والفارسي والهندي صاحب ثلاثة دواوين فيها وديوانه الفارسي متداول في بلاد الهند والإيران ولم يصل أحد من شعراء العجم في الطريقة إليه لا في حسن المعاني ولا في لطف الألفاظ والمباني صرح بذلك: نظامي العروضي في رسالته: جهار مقالة وله شعر حسن منه ما أورده الرشيد الوطواط في: حدائق السحر: ثق بالحسام فعهده ميمون ... واركب وقل للنصر كن فيكون ومنه: هذه القطعة في التورية: وليل كأن الشمس ضلت ممرها ... وليس لها نحو المشارق مرجع نظرت إليه والظلام كأنه ... على العين غربان من الجو وقع فقلت لقلبي: طال ليلي وليس لي ... من الغم منجاة وفي الصبر مفزع أرى ذنب السرحان في الجو طالعا ... فهل ممكن أن الغزالة تطلع ذكره الأديب: صابر والنسائي الحكيم وجمال الدين عبد الرزاق في أشعارهم وأثنوا عليه ثناء جميلاً. حسن بن محمد بن حسن بن حيدر العدوي العمري الصغاني الحنفي رضي الدين صاحب مشارق الأنوار أصله من صغان: بلدة من بلاد ما وراء النهر. وولد بلاهور في سنة 577هـ، وهو من نسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان محدثا لغويا فقيهاً أخذ العلم عن والده ورحل إلى بغداد وأقام بها مدة له مشاركة في العلوم والتصانيف العديدة المفيدة فيها. منها: كتاب: الشوارد في اللغات وكتاب الافتعال وكتاب العروض وكتاب مصباح الدجى والشمس المنيرة وشرح البخاري والعباب معجم في اللغة. توفي ببغداد في سنة 650هـ، أوصى بنقل ميته إلى مكة فدفن بها وكان قد أقام بمكة مجاورا مدة ثم عاد إلى العراق وأرسل برسالة إلى الهند. وسمع الحديث بمكة وعدن والهند من شيوخ كثيرة وكان إماما دينا عالما متقنا وقد دعا لوقوع موته وقبره بمكة المكرمة في مبدأ مشارق الأنوار حيث قال: أماته بها حميدا فأقبره ثم إذا شاء أنشره فسمع الله تعالى نداءه. شمس الدين يحيى الأودي: وأود: بلدة قديمة من الهند يقال: بناها شيث بن آدم - عليهما السلام - وكانت دار الإمارة لبعض الرؤساء. أخذ العلم عن: ظهير الدين البكري وفريد الدين الشافعي شيخ الإسلام بأود وبايع الشيخ: نظام الدين الدهلوي البدايوني وبدايون: بلدة من توابع صوبة دهلي وهي - بكسر الدال وسكون الهاء -: دار الخلافة لسلاطين الهند ذكرها المجد في القاموس: كان عالما جليلا وفاضلا نبيلا مدحه تلميذه الشيخ: نصير الدين بقوله: سألت العلم: من أحياك حقا ... فقال العلم: شمس الدين يحيى

درس بدهلي وانتهت إليه رياسة العلم بها ومات بعد شيخه النظام - رحمه الله - بعدة سنين وتوفي شيخه في سنة 725هـ الهجرية. الشيخ حميد الدين الدهلوي: كان عالما كبيرا فقيها دينا له شرح على هداية الفقه لم يقصر فيه ذكره في كشف الظنون وأثنى عليه العلامة: ابن كمال توفي في سنة 764هـ الهجرية. القاضي عبد المقتدر بن القاضي ركن الدين الشريحي الكندي الدهلوي: كان عالما مقتدرا على العلوم الكثيرة بايع الشيخ: نصير الدين الدهولي وأخذ عنه الطريقة وأقام دولة العلم والتدريس وأفاض على الطلبة والمشتغلين عليه أنوار التقديس وكان طريقة شيخه وأكثر خلفائه: المحافظة على سنن الشريعة والاشتغال بدرس العلوم الدينية وكان يقول: الفكر في مسألة واحدة من الشريعة أفضل من ألف ركعة مشوبة بالعجب والرياء. توفي القاضي في سنة 791هـ، وعمره: ثمان وثمانون سنة ودفن قريبا من الحوض الشمسي الواقع في دهلي وله قصيدة لامية طويلة أولها: يا سائق الظعن في الأسحار والأصل ... سلم على دار سلمى وابك ثم سل أورد أكثرها وترك أقلها أزاد في سبحة المرجان وغيره وعليها شرح لبعض العلماء وهي في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم. الشيخ: معين الدين العمراني الدهلوي كان فاضلا مشارا إليه بالأنامل درس بدهلي وأرسله السلطان: محمد بن تغلق شاه والي الهند المتوفي سنة 752هـ، إلى القاضي: عضد الإيجي بشيراز والتمس قدومه بالهند فأمسكه السلطان: أبو إسحاق وأكرم الشيخ إكراما بليغا وظهرت منه آثار الفضل والعلم على أهلها وعلمائها له تصانيف منها: الحواشي على الكنز وعلى الحسامي وعلى مفتاح العلوم. الشيخ: أحمد التانيسري: بلدة بين دهلي ولاهور كان عالما شاعرا من مريدي الشيخ: نصير الدين الدهلوي ولما أخذ تيمور الأعرج دهلي رغب في لقياه واختاره للمجالسة حين توجه من الهند إلى الروم فتأخر عن موكبه وتيمور فتح دهلي في سنة 801هـ، وفتح الروم في سنة 805هـ، فقال مؤرخ للفتح الأول: فتح قريب وللثاني: غلبت الروم في أدنى الأرض ثم هاجر الشيخ من دهلي إلى كالبي واستوطنها واشتغل بالدرس والتعليم إلى أن توفي في داخل قلعتها له شعر جيد حسن وقصيدة بديعة مدح بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أولها: أطار لبي حنين الطائر الغرد ... وهاج لوعة قلبي التائه الكمد وأذكرتني عهودا بالحمى سلفت ... حمامة صدحت من لاعج الكبد وهي مذكورة في السبحة وغيرها. القاضي: شهاب الدين بن شمس الدين بن عمر الزاولي: ولد بدولة: آباد دهلي وتتلمذ على القاضي: عبد المقتدر ومولانا خواجكي الدهلوي وهو من تلامذة مولانا: معين الدين العمراني وفاق أقرانه وسبق إخوانه وكان أستاذه القاضي يقول في حقه: أتاني من الطلبة من جلده علم ولحمه علم وعظمه علم ولما توجه موكب تيمور إلى الهند خرج الشهاب في صحبة أستاذه خواجكي إلى كالبي فأقام هو بها وذهب الشهاب إلى جونفور: بلدة من صوبة إله آباد كانت دار الخلافة للسلاطين الشرقية خرج منها جمع جم من

أهل العلم والشيخوخة فاغتنم السلطان إبراهيم الشرقي قدومه ولقبه: بملك العلماء وهو: درس هناك وألف وأفاد وحرر وأجاد. ومن مؤلفاته: البحر المواج بالفارسية تفسير والحواشي على كافية النحو والإرشاد: متن التزم فيه تمثيل المسألة في ضمن تعريفها وبديع الميزان في البلاغة وشرح البزدوي في أصول الفقه وشرح قصيدة بانت سعاد ورسالة في تقسيم العلوم ومناقب السادات وغير ذلك توفي في سنة 849هـ، ودفن بجونفور في الجانب الجنوبي من مسجد السلطان إبراهيم الشرقي. الشيخ علي بن أحمد المهائمي: من طائفة النوائت1 قوم في بلاد الدكن ومهائم بندر من بنادركوكن وهي ناحية من الدكن مجاورة للبحر المحيط وكان الشيخ من علمائها الصوفية وكان مثبتا للتوحيد الوجودي مقتفيا بالشيخ ابن عربي توفي سنة 835هـ، ودفن بها. له مصنفات تدل على غزارة علمه وكمال قدرته على العلوم منها: التفسير الرحماني والزوارف شرح العوارف وشرح فصوص الحكم وشرح النصوص للشيخ صدر الدين القونوي وأدلة التوحيد ورسالة عجيبة: استخرج فيها من وجوه الإعراب في قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ما يبلغ عدده2 إلى اثني عشر كرورا وثلاثة وثمانين لكا وأربعة وأربعين ألفا وخمسمائة وأربعة وعشرين وجها ويكتب ذلك بالهندسة هكذا: 128344524، ذكر جملة صالحة من بيان ذلك في سبحة المرجان في آثار هندوستان فليرجع إليه. الشيخ: سعد الدين الخير آبادي: بلدة من صوبة أود كان أبو الشيخ قاضيا بهذه البلدة فمات وتركه صغيرا فحفظ القرآن الكريم في صغره ولما بلغ أشده تتلمذ على مولانا أعظم اللكنوي: بلدة من بلاد بورب ولبس الخرقة من الشيخ مينا المتوفي في سنة 874هـ، وجلس للتدريس والإرشاد فأفاد وأجاد وأوصل المريدين إلى المراد وحرر شروحا غراء على الكتب المتداولة مثل: شرح البزدوي وشرح الحسامي وشرح الكافية وشرح المصباح وشرح رسالة شيخه مينا وكلما ينقل فيها قولا من شيخه يقول: قال شيخي الشيخ مينا - أدامه الله فينا - عاش حصورا على طريقة شيخه الأمجد حتى لقي من لم يلد ولم يولد ودفن بخير آباد وقبره يزار. الشيخ: عبد الله بن إله داد العثماني التلنبي: بفتح التاء بلدة بقرب ملتان كان رأسا في العلوم النقلية والعقلية مدرسا في وطنه زمانا طويلا ثم هاجر منه إلى دهلي وأوى إلى السلطان إسكندر اللودي فاستوى فلكه على الجودي فأكرمه السلطان ونفع الله به أهل الزمان إلى أن توجه في سنة 922هـ إلى جنة المأوى وكان تاريخه: أولئك لهم الدرجات العلى وقبره بدهلي ومن مؤلفاته: شرح ميزان المنطق.

_ 1 قال الطبري: الناتئة طائفة من قريش خرجوا من المدينة المنورة خوفاً من حجاج بن يوسف الثقفي، الذي قتل خمسين ألفاً من العلماء على غير حق وبلغوا ساحل بحر الهند وسكنو به. انتهى، مير عبد الحي خان سلمه ربه. 2 وأخرج بعض الفضلاء في تخريجها أربعة وعشرين ألفاً وتسمائة وسبعين وجهاً، وزاد عليه المحقق خسرو الرومي فبلغ المجموع مائتي ألف وتسعة وسبعين وجهاً لكن بعض تللك الوجوه لا يستقيم في نفسها وبعضها لا يرتبط ببعضها، والشيخ علي زاد عليها ما ذكر ههنا فليعلم، سيد نور الحسن خان ولد المؤلف دام ظله وإقباله.

الشيخ الهداد الجونفوري: ومعناه: عطية الله تتلمذ على الشيخ الفاضل: عبد الله التلنبي وبايع راجي حامد شاه المانكفوري: بلدة من صوبة إله آباد صرف عمره في الإفادة وحرر الحواشي على المتون والشروح كشرح هداية الفقه في عدة مجلدات وشرح البزدوي والحواشي على الحواشي الهندية والحاشية على تفسير المدارك. الشيخ علي المتقي بن حسام الدين عبد الملك بن قاضي خان القادري الشاذلي المدني الجشتي. أصله: من جونفور. مولده: برهانفور: من بلاد الدكن. تتلمذ على الشيخ: حسان الدين الملتاني وغيره من العلماء ثم سافر في سنة 953هـ، إلى الحرمين الشريفين وصحب الشيخ: أبا الحسن البكري وتلمذ عليه. يقول البكري: للسيوطي منه على العالمين. وللمتقي منه عليه اشتغل بالتدريس والتأليف ورتب جمع الجوامع للسيوطي على أبواب الفقه تزيد مؤلفاته على المائة وكان الشيخ: ابن حجر المكي الفقيه الشافعي صاحب الصواعق المحرقة أستاذه وفي الآخر تتلمذ عليه ولبس الخرقة منه. توفي رحمه الله في سنة 975هـ. ذكر له الشيخ: عبد الحق الدهلوي ترجمة حافلة في المقصد الأول من كتابه: زاد المتقين في سلوك طريق اليقين وأثنى عليه كثيرا وحرر أحواله الشريفة في أبواب خمسة بإيضاح تام. وللشيخ عبد الوهاب المتقي كتاب سماه: إتحاف التقي في فضل الشيخ: علي المتقي أبان فيه عن فضائله الكثيرة وهو حقيق بذلك وقد وقفت على تواليفه فوجدتها نافعة مفيدة ممتعة تامة. الشيخ محمد طاهر الفتني: صاحب: مجمع البحار في غريب الحديث وفتن: بلدة من بلاد كجرات. تلمذ على علماء بلده وصار رأسا في العلوم الحديثة والأدبية ورحل إلى الحرمين الشريفين وأدرك علماءهما ومشائخهما سيما الشيخ: علي المتقي وذكره في مبدأ كتابه: مجمع البحار وأثنى عليه ثناء حسنا جميلا وعاد إلى بلده وقصر همته على إفادة العلوم وكانت طريقته الاشتغال بعمل المداد وإعانة كتبة العلوم بهذا الإمداد حتى في حالة الدرس أيضا يشتغل بحله. له: المغني في أسماء الرجال وتذكرة الموضوعات وعزم على كسر البواهير المهدوية الذين كانوا قومه وعهد أن لا يربط العمامة على رأسه حتى يزيل تلك البدعة فلما استولى السلطان: أكبر والي دهلي في سنة 940هـ على كجرات واجتمع بالشيخ ربط العمامة بيده على رأس الشيخ وقال: على ذمة معدلتي نصرة الدين وكسر الفرقة المبتدعين وفق إرادتك وكان قد فوض حكومة كجرات إلى أخيه الرضاعي: ميرزا عزيز كوكه الملقب: بالخان الأعظم فأعان الشيخ وأزال رسوم البدعة مهما أمكن ثم عزل الخان الأعظم ونصب مكانه عبد الرحيم خان خانان وكان شيعيا فاعتضد به المهدوية وخرجوا من الزوايا ورموا السهام

على الخبايا فحل الشيخ العمامة عن رأسه وانطلق إلى أكبر بادشاه وكان في مستقر الخلافة آكره فتبعه جمع من المهدوية سرا وهجموا عليه في حوالي أجين وقتلوه سنة 986هـ، فاستشهد ونقل جسده إلى فتن ودفن في مقابر أسلافه وكان صديقي النسب من جهة أمه وأصله من البواهير1 وأسلافهم جديدو الإسلام. وبيوهار: في الهندية: التجارة وبوهره: التاجر. وقد ذكر الشيخ: عبد الحق الدهلوي ترجمته في أخبار الأخيار وذكرتها أنا في إتحاف النبلاء وأيضا أفردت ترجمتها في رسالة مستقلة ألحقتها في أوائل مجمع البحار. قال الشيخ2 عبد الوهاب المتقي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرؤيا فقلت: من أفضل الناس في هذا الزمان يا رسول الله؟ فقال: شيخك ثم محمد طاهر ويا لها من رؤيا تفضل على اليقظة. وكتابه: مجمع البحار قد طبع بالهند لهذا العهد واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار وهو كتاب جمع فيه كل غريب الحديث وما ألف فيه فجاء كالشرح للصحاح الستة فإن لم يكن عند أحد شرح لكتاب من الأمهات الست فهذا الكتاب يكفيه لحل المعاني وكشف المباني وهو كتاب متفق على قبوله متداول بين أهل العلم منذ ظهر في الوجود - وبالله التوفيق. الشيخ وجيه الدين العلوي الكجراتي: كان وجيها في الدنيا والآخرة وعالما عارفا ذا المناقب الفاخرة. ولد في سنة 911هـ، في جابانير من بلاد كجرات ونشأ بها وارتحل في طلب العلم وأخذ من ملا عماد الطارمي من أعيان علماء العصر ولبس الخرقة من الشيخ: قاضن واستفاد من الشيخ: محمد غوث الكواليري صاحب: الجواهر الخمسة حين ورد بكجرات. وتوفي في سنة 998هـ، ودفن بها. وتاريخ وفاته: لهم جنات الفردوس نزلاً. وله المصنفات الكثيرة منها: حاشية تفسير البيضاوي وشرح النخبة في أصول الحديث وحاشية العضدي وحاشية التلويح وحاشية البزدوي وحاشية هداية وحاشية شرح الوقاية وحاشية المطول وحاشية المختصر وحاشية شرح التجريد وحاشية الأصفهاني وحاشية شرح العقائد للتفتازاني وحاشية الحاشية القديمة للمحقق الدواني وحاشية شرح المواقف وحاشية شرح حكمة العين وحاشية شرح

_ 1 قال مير نور الله السوستري الشيخ المتوفى في العشرة الثانية بعد الألف في بعض مؤلفاته: البوهيرة طائفة متوطنون بكجرات أسلم أسلافهم على يد الملا على الذي قبره في كنبايت بلدة بقرب كجرات، ومضى لأسلافهم ثلاثمائة سنة تخميناً وأكثرهم يكسبون المعاش بالتجارة وأنواع الحرف، كما يدل عليه فهم بوهيرة ومعناه التاجر بالهندية. انتهى. وأقول: هم في العقائد قراطمة كما صرح بذلك المقريزي في الخط والآثار وأطال في حقائق أحوالهم وديانتهم. وكذا ذكر أمرهم الحاج رفيع الدين خان المراد آبادي في كتابه حالات الحرمين فليعلم، سيد نور الحسن خان ولد المؤلف دام ظله العالي. 2 هو خليفة الشيخ علي المتقي ذكر ترجمته خليفته الشيخ عبد الحق الدهلوي في المقصد الثاني من كتاب زاد المتقين وأطنب في بيان أحواله الشريفة إلى خمسة أبواب، وكان من الأولياء الكرام المجمع على فضله وولايته، سيد علي حسن خان ولد المؤلف أدام الله إثباله وضاعف إحلاله.

المقاصد وحاشية شرح الجغميني وحاشية شرح الحامي وشرح الإرشاد للشهاب في النحو ... إلى غير ذلك مما لا يحصى. الشيخ أبو الفيض المتخلص: بفيضي الأكبر آبادي: كان فاضلا جيدا وشاعرا مجيدا مفلقا بارعا في العلوم العقلية والأدبية. ولد بآكرة في سنة 954هـ، وتتلمذ على أبيه الشيخ: مبارك صاحب التفسير المسمى: بمنبع عيون المعاني المتوفى سنة 1001هـ إحدى وألف. أخذ عنه الفنون المتداولة وحصل الفراغ منها وهو ابن أربع عشرة سنة وخاض كثيرا بالحكمة والعربية واختص بمزيد قربة السلطان أكبر ملك الهند ولقب: بملك الشعراء وله قصائد في مدحه وأبيات ديوانه الفارسي: خمسة عشر ألف بيت شعر وله تصانيف تدل على اقتداره في اللسان العربي منها: موارد الكلم في الأخلاق وترجمة ليلاوتي1 وأجل مصنفاته: سواطع الإلهام في تفسير القرآن الكريم الغير المنقوط صنفه في سنتين وأتمه في سنة 1002هـ، يدل على إطالة يده في علم اللغة وأنا وقفت عليه وذكره في كشف الظنون وكان فيضي على طريقة الحكماء وكذا إخوانه أبو الفضل وغيره وكانوا معروفين بانحلال العقائد وسوء التدني والإلحاد والزندقة نعوذ بالله منها توفي في سنة 1004هـ، ودفن عند قبر أبيه بآكرة. السيد صبغة الله البروجي: بلدة من كجرات. أخذ العلوم عن الشيخ: وجيه الدين الكجراتي واشتغل بالتدريس والإرشاد برهة ثم رحل إلى مكة والمدينة وغيرهما وعاد إلى بروج ثم ارتحل إلى مالوه وأقام في أحمد نكر: من بلاد الدكن عند سلطانها: برهان الملك ثم سافر إلى الحرمين الشريفين ودخل بيجابو فخدمه السلطان إبراهيم وهيأ له أسباب السفر فدخل المدينة وسكن بجبل أحد وعرب الجواهر الخمسة وحرر عليه تلميذه الشيخ: أحمد الشناوي حاشية وذكر له الشيخ: محمد عقبلة المكي ترجمة حسنة في كتابه: لسان الزمان وله: كتاب الوحدة ورسالة: إراءة الدقائق في شرح مرآة الحقائق وما لا يسع المريد تركه كل يوم من سنن القوم توفي بالمدينة سنة 1015هـ الهجرية وقبره بها. الشيخ أحمد بن عبد الأحد بن زين العابدين الفاروقي السهرندي بلدة عظيمة بين دهلي ولاهور وهو المعروف: بمجدد الألف الثاني. كان عالما عاملا عارفا كاملا ينتهي نسبه إلى الفاروق. ولد في سنة 971هـ، حفظ القرآن وقرأ على أبيه أولا واستفاد منه جما من العلوم ثم ارتحل إلى سالكوت وتتلمذ على المحقق: كمال الدين الكشميري بعض المعقولات بغاية من التحقيق وأخذ الحديث

_ 1 بكسر اللام كتاب في علم الحساب والمساحة صنفة باسكر البيدري، من علماء الهنود. وبيدر بكسر الباء وسكون الياء بلدة عظيمة من بلاد الدكن، وباسكر كان عالماً في الرياضي ولم يذكر في ليلاوتي تاريخ تأليفه، لكن له كتاب آخر أرخ له بالتاريخ المعمول في الدكن وهو مطابق لسنة 622 الهجرية، كذا في سبحة المرجان سيد علي حسن خان سيد سلمه الله الرحمن.

عن: الشيخ يعقوب المحدث الكشميري وكان صاحب كبراء المحدثين بالحرمين الشريفين وأسند الحديث عنهم وتناقل الحديث المسلسل بالرحمة بواسطة واحدة عن الشيخ: عبد الرحمن بن فهد - من كبراء المحدثين في زمانه بالهند - وتعاطى عنه إجازة كتب التفسير والصحاح الست وسائر مقروءاته. وروى الحديث المسلسل بالأولية عن القاضي: بهلول البدخشاني عن ابن فهد المذكور ولعله هو الواسطة في الإجازة بينهما وفرغ من التحصيل في عمر سبعة عشرة سنة واشتغل بالتدريس. وله: رسائل لطيفة باللسان العربي والفارسي. وجاء إلى دهلي في سنة 1002هـ، وأخذ الطريقة النقشندية عن خواجة عبد الباقي عن خواجه إمكنكي عن أبيه مولانا: درويش محمد عن خاله مولانا: محمد زاهد عن خواجه: عبيد الله أحرار وكذا الطرائق الأخرى عن شيوخ أخر ووصلت سلسلته من الهند إلى ما وراء النهر والروم والشام والعرب وأقصى المغرب مثل: فاس وغيرها. وله مكتوبات في ثلاثة مجلدات هي حجج قواطع على تبحره وسمعت أنه عربها بعض العلماء ولكن لم أر المعربة وحبسه السلطان: جهانكير في حصن كواليا على عدم سجدة التعظيم منه له وإليه أشار آزاد في غزله: لقد برع الأقران في الهند ساجع ... وجدد فن العشق يا للمغرد فلا عجب أن صاده متقنص ... ألم تر في الأسلاف قيد المجدد ولما حبس لبث في السجن ثلاث سنين ثم أطلق وأقام في العسكر يدور معه ثم عاد إلى سهرند والعود أحمد ثم توفي في سنة 1034هـ، وله ثلاث وستون سنة دفن بسهرند. ومن مؤلفاته: الرسالة التهليلية ورسالة: إثبات النبوة ورسالة: المبدأ والمعاد ورسالة: المكاشفات الغيبية ورسالة: آداب المريدين ورسالة: المعارف اللدنية ورسالة: رد الشيعة وتعليقات العوارف ... إلى غير ذلك. ومن إفاداته أنه أوضح الفرق بين وحدة الوجود وبين وحدة الشهود وبين أن وحدة الوجود تعتري السالك في أثناء سلوكه فمن ترقى مقاما أعلى من ذلك تتجلى له حقيقة وحدة الشهود فسد بذلك طريق الإلحاد على كثير ممن كان يتستر بزي الصوفية ثم إنه باحث الملاحدة في زمانه وجادلهم بقلمه ولسانه ورد على الروافض وحقق الفرق بين البدعة والسنة وأقيسة المجتهدين واستحسانات المتأخرين والتعارف عن القرون المشهود لها بالخير وما أحدثه الناس في القرون المتأخرة وتعارفوه فيما بينهم فرد بذلك مسائل مما استحسنها المتأخرون من فقهاء مذهبه وكان فقيها ماتريديا حريصا على اتباع السنة مجتهدا فيه قليل الخطأ في دركه والمسائل المعدودة التي شدد بعض أهل العلم النكير بها عليه فالصواب أن لها تأويلا وقد شاركه فيها غيره ممن لا يحصى كثرة فليس إذا يخصه الإنكار. ومن أبنائه: الشيخ محمد سعيد الملقب: بخازن الرحمة له حاشية على المشكاة توفي في سنة 1020هـ، والشيخ: محمد معصوم يلقب: بالعروة الوثقى له مجموع من مكاتيبه مفيد توفي في سنة 1077هـ. وكان لهما أخ ثالث: يقال له: الشاه محمد يحيى أخذ عن أخويه وهو الذي خالفهم في مسألة الإشارة بالسبابة توفي في سنة 1098هـ.

ومن أجلة أصحابه المتأخرين: الشيخ شمس الدين العلوي من ذرية محمد ابن الحنفية المعروف: بميرزا مظهر جانجان كان ذا فضائل كثيرة وقرأ الحديث على الحاج السيالكوني وأخذ الطريقة المجددية عن أكابر أهلها كان له في اتباع السنة والقوة الكشفية شأن عظيم. وله شعر بديع ومكاتيب نافعة وكان يرى الإشارة بالمسبحة ويضع يمينه على شماله تحت صدره ويقوي قراءة الفاتحة خلف الإمام عام وفاته. عاش حميداً مات شهيداً. ومن أجلة أصحاب جانجان: القاضي ثناء الله الأموي العثماني من أهل بلدة باني بت: بقرب دهلي كان فقيها أصوليا زاهدا مجتهدا له اختيارات في المذهب ومصنفات في الفقه والتفسير وكان شيخه المظهر يفتخر به رأيت له مؤلفات على مذهب النعمان بالفارسية والعربية وبعضها موجود عندي رحمه الله تعالى. الملا عصمة الله السهارنفوري: قصبة من: صوبة دهلي كان مكفوف البصر مكشوف البصيرة أفنى عمره في خدمة العلم والتدريس وهو من مشاهير العلماء. وله تصانيف مفيدة منها: الحاشية على شرح الجامي توفي في سنة 1039هـ. الشيخ عبد الحق الدهلوي: وهو المتضلع من الكمال الصوري والمعنوي رزق من الشهرة قسطا جزيلا وأثبت المؤرخون ذكره إجمالا وتفصيلا وحفظ القرآن وجلس على مسد الإفادة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة ورحل إلى الحرمين الشريفين وصحب الشيخ: عبد الوهاب المتقي خليفة الشيخ: علي المتقي واكتسب علم الحديث وعاد إلى الوطن واستقر به اثنتين وخمسين سنة بجمعية الظاهر والباطن ونشر العلوم وترجم كتاب المشكاة بالفارسي وكتب شرحا على سفر السعادة وبلغت تصانيفه مائة مجلد. ولد في محرم سنة 958هـ، وتوفي سنة 1052هـ، وأخذ الخرقة القادرية من الشيخ موسى القادري من نسل الشيخ عبد القادر الجيلاني وكان ذا عصبية في المذاهب الحنفية وانتقد كلامه في مواضع من مؤلفاته وكان ينال من الشيخ أحمد السهرندي ثم تاب واستغفر ولما وردت بدهلي حضرت على مزاره وزرته فوجدت موضع القبر مؤنسا بردا عفا الله عنه ما كان منه من شدة التقليد وتأويل الأحاديث بمجرد رأي وحفظ للمذهب وغلو في اعتقاد الأولياء ولم يكن يعرف علم الحديث على وجهه بل على جهة الإجازة والاستجارة كما يلوح ذلك من مصنفاته وإنما كان له اليد الطولى في الفقه الحنفي الذي عليه نشأ وفيه درج - ولكل جواد كبوة وعفو الله يسع كل هفوة. الشيخ نور الحق بن الشيخ عبد الحق الدهلوي: المذكور - تتلمذ على أبيه وولاه السلطان شاهجهان قضاء آكره فأدى هذا المنصب في نهاية الديانة والسداد له تصانيف كثيرة منها: ترجمة الصحيح للبخاري بالفارسية عاش تسعين سنة ومات سنة 1073هـ الهجرية. ملا محمود الفارقي الجونفوري: صاحب كتاب: شمس البازغة في الحكمة وكان علامة الإشراقين ونقاوة المشائين.

وجونفور: من بورب وهو ملك وسيع في الشرقي من دهلي عبارة عن ثلاث صوب1 أود: إله آباد وعظيم آباد تتلمذ ملا على جده الشيخ: شاه محمد المتوفي سنة 1032هـ وعلى أستاذ الملك الشيخ: محمد أفضل الجو نفوري وفرغ عن تحصيل العلوم وهو ابن سبع عشرة سنة. له تصانيف شهيرة منها: الفرائد شرح الفوائد2 وعلق عليه حاشية أحسن فيها كل الإحسان روي أنه لم يصدر عنه في تمام العمر قول يرجع عنه وكان يجيب السائل إن كان خاطره حاضرا أو يقول: خاطري في هذا الوقت غير حاضر. قال مؤلف الصبح الصادق - وهو من تلامذته -: رحل الشيخ إلى آكره ولقي آصف خان من أعاظم أمراء السلطان شاهجهان وكنت معه في هذا السفر ثم عاد إلى جونفور واشتغل بالتدريس. انتهى. له: رسالة في أربعة أوراق بالفارسية في أقسام النسوان خالية عن الأمثلة لأن الفرس مغازلتهم بالأمارد لا بالخرائد. توفي في سنة 1062هـ، فحزن عليه أستاذه حزنا عظيما ولم يتبسم أربعين يوما ثم لحق بالتلميذ. قال السيد آزاد: ولا ريب أنه لم يظهر في الهند مثل الفاروقيين أحدهما: في علم الحقائق وهو الشيخ: أحمد السهرندي والثاني: في العلوم الحكمية والأدبية وهو: ملا محمود - صاحب الترجمة. انتهى. ثم ذكر كلامه على مسألة الحدوث الدهري التي اخترعها: مير محمد باقر الاسترآبادي من الشمس البازغة. الشيخ: محمد أفضل الجونفوري: كان أفضل فضلاء عصره وأمثل علماء دهره في العقليات والنقليات وكان حصورا تقيا حسن الخلق سليم المزاج مقيما لدولة العلم والتدريس هو وتلامذته بجو نفور أجلهم وأشرفهم: ملا محمود المذكور مات من حزن موت تلميذه المسطور في سنة 1062هـ كما تقدم. ملا عبد الحكيم السيالكوئي الفنجابي: نسبة إلى: بنجاب: معرب ببجاب وهو ملك وسيع في الغربي من دهلي عبارة عن صوبتين: لاهور وملتان. ولد بسيالكوت: بلدة من توابع لاهور وقام في سن التمييز على طلب العلم وتتلمذ على ملا كمال الدين الكشميري نزيلها الذي كان أستاذ المجدد السهرندي واشتغل بإفادة العلوم في عهد السلطان جهانكير ولما جلس ابنه شاهجهان على سرير المملكة وتصدى لترويج العلم والعلماء جاء ملا إلى سدته مرارا ووزنه السلطان مرتين في الميزان وأعطاه في كل مرة ستة آلاف من الربابي3 وأنعم عليه

_ 1 الصوبة: عبارة عن أرض وسيعة محدودة فيها دار الإمارة وبلدات أخر لها توابع، وكل بلدة لها قصبات تضاف إليها وكل قصبة إماقرى تضاف إليها، وقصبات بورب في حكم البلدان لأنهما مشتملة على عمارات عالية ومحلات رفيعة للشرفاء والنجباء والأمراء والعلماء وغيرهم من الأقوام المختلفة وأرباب الحرف المتنوعة وعلى المساجد والمدارس والصوامع، ومساجدها معمورة بصلاة الجمعة والجماعات يصح أن يطلق على القصبة اسم البلدة. كذا في سبحة المرجان، سيد علي حسن خان سلمه ربه. 2 أي الفوائد الغياثية للقاضي عضد الدين الإيجي في المعاني والبيان البديع، وهو شرح جليل القدر يعرف منه تبحرة في علوم الفصاحة، مير عبد الحي خان سلمه ربه. 3 جمع ريبة معرب روبية وهي السكة الفضية المروجة في الديار الهندية.

قرى متعددة بها كان يعيش ويدرس ويصنف حتى توفي في سنة 1097هـ، ودفن ببلده. له: حواشي تفسير البيضاوي ومقدمات التلويح والمطول والشريفية وشرح العقائد التفتازانية والعقائد الدوانية وحاشية على الخيالي وعلى شرح الشمسية وعلى عبد الغفور وعلى شرح المطالع والدرة الثمينة في إثبات الواجب تعالى والحواشي على هوامش "شرح حكمة العين" وعلى "شرح هداية الحكمة للميبذي" وعلى هوامش مراح الأرواح. الشيخ عبد الرشيد الجونفوري الملقب: بشمس الحق تتلمذ على الشيخ: فضل الله اشتغل بالتدريس ثم أقبل على كتب الحقائق سيما تصانيف ابن عربي وأول كلامه على محامل حسنة ونأى بجانبه عن اختلاط الأمراء والأغنياء واستطلبه السلطان شاهجهان وأرسل إليه كتابا صحبة رسول مهذب فلبى ولم يخرج من زاوية العزلة حتى لقي الله عز وجل في تحريمة صلاة الفجر. ولد سنة 1083هـ له تصانيف مفيدة: منها: الرشيدية في المناظرة وزاد السالكين وشرح أسرار الخلوة لابن عربي والحواشي المتفرقة على: مختصر العضدي وعلى الكافية ومقصود الطالبين في الأوراد وديوان الشعر بالفارسية عفا الله عنه. مير زاهد بن القاضي محمد أسلم الهروي الكابلي: ولد بالهند ونشأ بها وقرأ على أبيه وغيره من علماء الهند وكان ذا ذهن ثاقب وفكر صائب فسبق في التدقيق السابقين وتفرد في الحاضرين وانسلك إلى السلطان شاهجهان فجعله محرر وقائع كابل في سنة 1062هـ، ولما تولى السلطان عالمكير ارتحل إلى معسكره فولاه احتساب عسكره سنة 1077هـ، ثم طلب منه صدارة كابل فسلمها له فعاد إلى كابل وزين بها دست الإفادة ومتع الطلبة بالحسنى وزيادة. له: حاشية شرح المواقف وشرح التهذيب للدواني وحاشية التصور والتصديق للقطب الرازي وحاشية شرح الهياكل قال آزاد: سألت أسلم خان ابن الابن لمير محمد زاهد عن عام وفاته؟ فقال: سنة 1101هـ، ثم ذكر شيئا من تحقيقه في العلم وأنه من أي مقولة. القاضي محمد أسلم والد: مير زاهد ولد بهرات وهو من أحفاد: خواجه كوهي من مشائخ خراسان دخل القاضي لاهور لطلب العلم وتتلمذ على الشيخ بهلول من صناديد العلماء بها ثم قصد السلطان جهانكير بآكره واعتنى السلطان بشأنه لكونه من قربى مولانا: كلان المحدث أستاذ السلطان وولاه قضاء كابل واشتهر بالتدين في أمور القضاء ثم ولاه قضاء عسكره ولما جلس شاهجهان قرره على القضاء وزاد عليه المنصب الهزاري1 واستمر على القضاء ثلاثين سنة في نهاية الديانة والأمانة وكان موردا للعنايات السلطانية إلى الغاية حتى وزنه السلطان في الميزان وجاء في كفته: ستة آلاف وخمسمائة من الربابي توفي سنة 1061 الهجرية ودفن بلاهور.

_ 1 نسبة إلى الهزار بمعنى: الألف الفارسية وهو لفظ مصطلح السلاطين الهند في درجات المناصب السلطانية. وهي مشروحة في كتاب آيئن أكبري لأبي الفضل. سيد علي حسن خان سلمه الله تعالى.

مولانا: كلان هو: السبط لخواجه كوهي أخذ العلوم الدرسية بكمالها والحديث: عن ميرك شاه الشيرازي وصحب مشائخ كثيرة وحج ودخل الهند وتوفي بها سنة 983هـ، وهو ابن مائة سنة ودفن بآكره وكان أستاذ جهانكير بن أكبر شاه وأخذ عنه الحديث جماعة كثيرة من أهل الهند وهو من شيوخ: علي القاري. قال في المرقاة شرح المشكاة: إني قرأت بعض أحاديث المشكاة على مولانا الشهير: بمير كلان وهو قرأ على زبدة المحققين: ميرك شاه وهو على والده السيد السند: جمال الدين المحدث صاحب روضة الأحباب وهو على عمه السيد: أصيل الدين الشيرازي. انتهى. ملا: قطب الدين الشهيد السهالوي: نسبة إلى قصبة سهالي من أعمال لكهنؤ وشيوخها فريقان: فرق أنصاري. وفريق عثماني ورياستها تتعلق بكليهما فملا: من الأنصار أخذ العلوم عن ملا: دانيال الجوراسي نسبة إلى جوراس: قصبة من بورب وهو تلميذ ملا: عبد السلام الديوي نسبة إلى ديوه: قصبة من بورب أيضا وعن القاضي: كاشي وهو تلميذ محب الله الإله آبادي صاحب رسالة التسوية في التصوف وشارح الفصوص بالفارسية وكان الشيخ قطب الدين مقداما في العقليات والنقليات وإليه انتهى رياسة العلم والتدريس في بورب وسلسلة تتلمذ أكثر علماء بورب وغيره تنتهي إليه هجم العثمانية ليلة على داره فقتلوه وأحرقوا داره فمات سنة 1103هـ له: حاشية على شرح العقائد الدوانية في غاية الدقة. السيد: قطب الدين الشمس آبادي أصله من سادات أميئهي قصبة من قصبات بورب رحل عنها إلى الشمس آباد قصبة من توابع قنوج وتوطن بها وهو قطب العلماء والمدار عليه للفضلاء. تتلمذ على ملا: قطب الدين - المذكور - وغيره من أساتذة العصر ودرس إلى آخر العمر بشمس آباد. تتلمذ عليه خلق كثير وكان من القانعين تمر الأيام ولا توقد في بيته نار ويقاسي الفاقات ولا يظهر الحاجات ويدرس طلق الوجه واللسان والحالة هذه وهذا مقام لا يثبت فيه إلا من رزق القوة من الله تعالى. مات رحمه الله سنة 1121هـ الهجرية وهو ابن سبعين سنة. القاضي: محب الله البهاري: نسبة إلى بهار: بكسر الموحدة بلدة عظيمة في شرقي بورب تعرف في القديم بالصوبة ثم أطلق ذلك على: بئنة والبلدتان متصلتان. ولد القاضي بموضع كره من توابع محب على فور وهي معمورة من مضافات بهار وعشيرة القاضي تعرف بملك والقاضي جاب ديار بورب وأخذ أوائل الكتب الدرسية من مواضع شتى ثم انقطع برمته إلى حوزة درس القطب الشمس آبادي فصار بحرا من العلوم وبدرا بين النجوم ورحل إلى الدكن ولازم السلطان عالمكير فولاه قضاء لكهنؤ ثم بعد مدة قضاء حيدر آباد - وهي دار الإمارة للديار الشرقية من دكن - ثم عزله ثم أمره بتعليم ابن ابنه: رفيع القدر بن محمد معظم ثم لما فوض عالمكير في آخر عمره حكومة كابل إلى ابنه: محمد معظم الملقب: بشاه عالم وسافر هو مع ابنه: رفيع القدر من الدكن إلى كابل صحبه القاضي ولما توفي عالمكير في الدكن سنة 1118هـ، وانتهض شاه عالم من كابل إلى الديار الهندية أعطى القاضي منصبا جليلا وولاه صدارة ممالك الهند كلها ولقبه: بفاضل خان سنة 1119هـ، فتوفي في هذه السنة.

ومن مؤلفاته: سلم العلوم في المنطق ومسلم الثبوت في أصول الفقه والجوهر الفرد في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ وهذه الثلاثة: مقبولة متداولة في مدارس العلماء. الحافظ: أمان الله بن نور الله بن حسين البنارسي بلدة من بلاد بورب وهي معبد الهنود حفظ القرآن وبرع في المعقول والمنقول وتبحر في الفروع والأصول له: كتاب المفسر في أصول الفقه وكتب عليه شرحا سماه: محكم الأصول وله حواش على تفسير البيضاوي والعضدي والتلويح والحاشية القديمة وشرح المواقف وحكمة العين وشرح عقائد الدواني والرشيدية في المناظرة. وله: محاكمة بين مير باقر الإسترآبادي وملا محمود الجونفوري في مسألة الحدوث الدهري وكان متقلدا بصدارة لكهنؤ من قبل السلطان عالمكير وكان محب الله البهاري قاضيا بها وكانا يجتمعان وتجري بينهما مباحث علمية توفي في بنارس سنة 1133هـ، ودفن بها. الشيخ: غلام نقشبند بن الشيخ: عطاء الله اللكهنوي: تتلمذ على مير: محمد شفيع الدهلوي وهو على الشيخ: عطاء الله والد الشيخ: غلام نقشبند وفرغ من التحصيل على شيخ شيخه بير: محمد اللكهنوي وصار خليفة له ونفع خلقا كثيرا بالتدريس والتلقين ولاقاه شاه: عالم بن عالمكير فأكرمه وكان حاميا لحمى الشريعة الغراء وحارسا لبيضة الملة البيضاء. توفي في سلخ رجب سنة 1126هـ، ودفن بلكهنؤ. له: تفسير لربع القرآن وحواشيه وتفسير بعض السور القرآنية وكتاب: فرقان الأنوار واللامعة العرشية في مسألة وحدة الوجود وشرح القصيدة الخزرجية في العروض وغيرها وهو أستاذ السيد: عبد الجليل البلكرامي جد مير: آزاد من جهة الأم والله أعلم. الشيخ: أحمد المعروف: بملا جيون الصديقي الأميبهوي: وجيون: بالهندية: الحياة حفظ القرآن وتنقل في قصبات بورب وأخذ العلوم الدرسية من علمائها وفرغ من التحصيل عند ملا: لطف الله الكوروي وكوره: بضم الكاف: بلدة من نواحي بورب ثم رحل إلى السلطان عالمكير فأكرمه وراعى أدبه إلى الغاية وكذلك يحترمه شاه: عالم وغيره من أولاد السلطان وكان ذا حافظة قوية يقرأ عبارات الكتب الدرسية صفحة صفحة وورقة ورقة من غير أن ينظر في الكتاب وكان يحفظ قصيدة طويلة بسماع دفعة واحدة حج وعاد إلى الهند ودرس وألف وتوفي بدار السلطنة: دهلي سنة 1130هـ، ونقل جسده إلى أميهي ودفن بها. له: التفسير الأحمدي يختص بآيات الأحكام الفقيهة ونور الأنوار في شرح المنار في أصول الفقه على طريقة الحنفية وفيهما الرطب واليابس. السيد: عبد الجليل بن السيد: أحمد الحسيني الواسطي البلكرامي: ولد ببلكرام قصبة عظيمة بقرب قنوج وهي بلدة مشهورة مذكورة في القاموس يرجع نسبه إلى علي العراقي من نسل زيد الشهيد. كان علامة بارعا وكوكبا ساطعا مزج العلم بالطهارة وصاغ الزهد في الإمارة. ولد في سنة 1071هـ، بمحلته: ميدان فوره ونشأ بهذه المعمورة. أخذ العلوم ولقي الجهابذة.

وسمع الحديث عن السيد: مبارك المحدث الواسطي الحسيني البلكرامي المتوفى سنة 1105هـ، وهو أخذ عن الشيخ: نور الحق وهو عن أبيه الشيخ: عبد الحق. وتأدب على الشيخ: غلام نقشبند اللكهنوي وتفنن في الفنون العالية سيما التفسير والحديث والسير وأسماء الرجال وتاريخ العرب والعجم. وأما اللغة: فحسابها في بنانه وكان القاموس على لسانه. وأما الأدب: فهو معدن جواهره ولجة عنابره كان عارفا بالعربية والفارسية والتركية والهندية وتكلم بالأربعة المذكورة في غاية الطلاقة وأنشأ في كل منها أشعارا في نهاية الرشاقة واجتمع بالسيد: علي معصوم صاحب: سلافة العصر بأورنك آباد فقال: ما رأيت لهذا السيد بالهند نظيرا لازم السلطان عالمكير فأعطاه عمل بخشيكري ووقائع نكاري - بلدة كجرات من بلاد فنجاب ثم بلدة بكر وبلدة سيرستان من: بلاد السند فعمل فيها بالسيرة الحسنى وتقررت عليه هذه الأعمال في الطبقات التي بعد عالمكير وعاد في سنة 1126هـ من بكر إلى شاهجهان آباد ولازم السلطان: فرخ سير ثم استعفى عن الخدمات وفوض خدمته إلى ابنه السيد: محمد وأتى بلكرام فتتلمذ عليه حفيده: السيد آزاد ثم رجع بعد سنة إلى دهلي وأقام بها. وتوفي في سنة 1138هـ، ونقل جسده إلى بلكرام ودفن بها في: بستان محمود وخرج من التابوت سالما قال آزاد في تاريخ وفاته: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وأيضا: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} ومن تفرداته دليل هندسي على إبطال جزء لا يتجزأ ذكره في سبحة المرجان ومن أشعاره الفصيحة البليغة: يا صاح لا تلم المتيم في الهوى ... هو عاشق لا ينثني عن خله يأبى الدواء سقامه كعيونه ... فعلى الطبيعة يا معالج خله حبيبي قوس حاجبه كنون ... وصاديد ابن مقلة شكل عينه لعمري أنه نص جلي ... على أن الرماية حق عينه ذكر له حفيده السيد: آزاد ترجمة حافلة في سرد آزاد وتسلية الفؤاد وغيرهما من مؤلفاته وذكر من أشعاره وفضائله شيئا كثيرا لا نطول بذكرها الكلام ونظم في مدحه قصائد عظاما منها: قصيدته المشهورة التي أولها: أدرك عليلا لقاء منك يكفيه ... وطرفك الناعس الممراض يشفيه السيد علي بن السيد: أحمد بن السيد: المعصوم الدشتكي: هو من مشاهير الأدباء وصناديد الشعراء بيته بشيراز بيت العلم والفضل والمدرسة النظامية بها منسوبة إلى جدة مير: غياث الدين منصور والسيد اشتهر: بعلي المعصوم تزوج بأخت شاه عباس الثاني الصفوي وتوطن مكة المكرمة وولد له من بطنها السيد: أحمد نشأ بمكة واكتسب العلوم وفاق الأقران. ثم إن مير: محمد سعيد المخاطب: بمير جملة وزير السلطان: عبد الله قطب شاه والي حيدر آباد من بلاد الدكن طلبه إلى حيدر آباد فزوج قطب شاه بنته بالسيد أحمد وما جاء له منها ولد وكان قد تزوج قبل

خروجه من مكة إلى الدكن بمكة وتولد السيد: علي بالمدينة ولما مات قطب شاه وتملك أبو الحسن سعى في إتلاف أخلاف السيد أحمد فهرب السيد علي عن الأسر وجاء إلى السلطان عالمكير ببرهانبور فأعطاه منصب هزاري وبانصدي وثلاثمائة فارس كل واحد منهم صاحب فرسين ولقبه: بسيد عليخان. ولما انتهض السلطان إلى أحمد نكركان السيد حارسا على أورنك آباد مدة ثم أخذ من السلطان حكومة ماهور قلعة مشهورة من ديار برار ثم استعفى عنها وأخذ ديواني برهانبور ثم رحل إلى الحرمين الشريفين وبغداد وسر من رأى وكربلاء ونجف وطوس ثم إلى أصفهان وأدرك السلطان: حسين الصفوي وذهب إلى شيراز وأقام بالمدرسة المنصورية وأفنى عمره في إفادة طلبة العلم. وتوفي سنة 1117هـ، ولم يكن في أصله من الهند وإنما دخل الهند وتوطن بها مدة طويلة. له مصنفات منها: أنوار الربيع في أنواع البديع وسلافة العصر وشرح الصحيفة الكاملة. السيد محمد بن السيد: عبد الجليل البلكرامي: كان حافلاً لأصناف العلوم وارثا لفضائل والده المرحوم ولد في سنة 1101هـ، بمحروسة بلكرام تتلمذ على السيد: محمد الأترولوي وكان محررا لسوانح سلطان: فرخ سير ومتقلدا عمل بخشيكري - ببلدة بكر - وسيوستان له شعر حسن منه: صنت عن عارضيه ناظرتي ... وتركت الهوى بلا ضنه قال لي: لا ترد ريحانا ... إنه خارج من الجنه وله: مختصر كتاب المستطرف ألفه في سنة 1155هـ، وسماه: الجزء الأشرف من المستطرف وللسيد آزاد في مدحه قصائد أمجاد توفي سنة 1188هـ، وله أيضا: تبصرة الناظرين بالفارسي في التاريخ. السيد: سعد الله السلوني هو العالم المجدد لقول: سلوني والإمام القائل: أنا طلاع الثنايا فاعرفوني. ولد بسلون قصبة من صوبة إله آباد وهو سبط الشيخ: بير محمد السلوني من مشاهير المشائخ - وفق في صغر سنه باكتساب العلوم وطوى مسافة التحصيل في زمان يسير وتربع على دست التدريس وأطلق اليراع في مسارح التأليف وحج وأقام برهة في أم القرى واعتقده أهل الحرمين الشريفين وتتلمذوا عليه وأخذوا عنه الطريقة. منهم: الشيخ عبد الله البصري المكي: صاحب: ضياء الساري شرح صحيح البخاري ثم عاد إلى الهند وتزوج بالبندر المبارك سرة وصار مرجعا للأنام وتوفي بسرة في سنة 1038هـ الهجرية رحمه الله تعالى. السيد طفيل محمد بن السيد: شكر الله الحسيني الأترولوي البلكرامي: كان فاضلاً عارفاً كاملاً عالماً بالعلوم الدرسية من العقلية والنقلية. ولد بأترولي في سنة 1073هـ قصبة من توابع: آكره رحل مع عمه السيد: أحسن الله إلى دهلي وقرأ الدرس الأول من: ميزان الصرف على السيد: حسين الملقب: برسول نما ثم قرأ على عمه المذكور شرح الجامي وجاء إلى بلكرام طلبا للعلم وتتلمذ على السيد المربي المتوفى في سنة 1117هـ، والحاج السيد: سعد الله المتوفي سنة 1119هـ، تلميذ ملا: عبد الرحيم قاضي مراد آباد من توابع شاهجهان آباد وهو تتلمذ على عبد الحكيم السيالكوني وعلى القاضي: عليم الله الكجندوي المتوفى سنة 1115هـ، والسيد: قطب الدين الشمس آبادي ثم أحيى العلوم سبعين عاما وكان رفيق السيد: عبد الجليل البلكرامي في سفر آكره ولم يتزوج.

توفي في سنة 1151 وله شعر حسن منه: بهجتي غادة قالت لجارتها ... شخص أراه خليعا فارغ البال يحوم كل أوان حول مشربتي ... إني لأقتله في أسرع الحال مدحه السيد آزاد بقصيدة بديعة أولها: يا للأحبة ساروا في التباشير ... فاسود يومي كأحداق اليعافير الشيخ: نور الدين بن محمد صالح الأحمد آبادي: كان أوحد زمانه وفرد أوانه. تتلمذ على ملا: أحمد السليماني وملا: فريد الدين الأحمد آباديين. وأخذ من كل فن حظا وافرا وقسطا متكاثرا وحج وعاد إلى أحمد آباد ولبس الخرقة عن السيد محبوب عالم الملقب: بشاه عالم الثاني وبنى مدرسة بها رفيعة وعكف على التدريس والتصنيف وتواليفه تزيد على: مائة وخمسين كتاباً. منها: تفسير مختصر والحاشية على البيضاوي ونور القاري شرح صحيح البخاري والحاشية القويمة على الحاشية القديمة وحاشية شرح المواقف وحل المعاقد حاشية شرح المقاصد وحاشية شرح المطالع وحاشية التلويح وحاشية العضدي والمعول حاشية المطول والحواشي على: شرح الوقاية وعلى شرح الجامي على الكافية وعلى المنهل والشمسية في المنطق وشرح تهذيب المنطق: وهو أدق تصانيفه والطريق الأمم شرح فصوص الحكم. ولد بأحمد آباد في سنة 1064هـ وتوفي بها في سنة 1155هـ، عن إحدى وتسعين سنة تاريخ وفاته أعظم الأقطاب. ملا: نظام الدين بن ملا: قطب الدين السهالوي: كان فاضلاً جيداً عارفا بالفنون الدرسية والعلوم العقلية والنقلية تتلمذ على الشيخ: غلام نقشبند اللكهنوي وأقام بلكهنؤ واشتغل بالتدريس والتأليف وانتهت إليه رياسة العلم في بورب بايع الشيخ: عبد الرزاق البانسوي المتوفى سنة 1136هـ، وأخذ النصوص الكثيرة عن السيد: إسماعيل البلكرامي المتوفي سنة 1164هـ. قال السيد آزاد: اجتمعت به فوجدته على طريقة السلف الصالحين وكان يلمع من جبينه نور القدس توفي في سنة 1161هـ. ومن تصانيفه: حاشية على شرح هداية الحكمة للصدر الدين الشيرازي وشرح على مسلم الثبوت في أصول الفقه رحمه الله تعالى. مسند الوقت الشيخ الأجل: شاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم المحدث الدهلوي. له رسالة سماها: الجزء اللطيف في ترجمة العبد الضعيف ذكر فيها ترجمته بالفارسية مفصلة. وحاصلها: أنه ولد يوم الأربعاء رابع شوال وقت طلوع الشمس في سنة 1110هـ الهجرية تاريخه عظيم الدين ورأى جماعة من الصلحاء - منهم: والده الماجد - مبشرات قبل ولادته وهي مذكورة في كتاب: القول الجلي في ذكر آثار الولي للشيخ: محمد عاشق بن عبيد الله البارهوي البهلتي المخاطب بعلي واكتسب في صغر سنه الكتب الفارسية والمختصرات من العربية وشرع في قراءة شرح الجامي وهو ابن

إحدى عشرة سنة وتزوج وهو ابن أربع عشرة سنة واستسعد ببيعة والده في الخامسة عشر من عمره واشتغل بأشغال المشائخ النقشبندية ولبس خرقة الصوفية وقرأ البيضاوي وأجيز بالدرس وفرغ من تحصيل العلم وقرأ طرفا من: المشكاة والصحيح للبخاري والشمائل للترمذي والمدارك. ومن علم الفقه: شرح الوقاية والهداية بتمامها إلا طرفا يسيراً. ومن أصول الفقه: الحسامي وطرفا صالحا من التوضيح والتلويح. ومن المنطق: شرح الشمسية وقسطا من شرح المطالع. ومن الكلام: شرح العقائد وجملة من الخيالي وشرح المواقف وقطعة من العوارف. ومن الطب: موجز القانون. ومن الحكمة: شرح هداية الحكمة. ومن المعاني: المختصر والمطول وبعض الرسائل في الهيئة والحساب إلى غير ذلك وبرع في هذه كلها وأجازه والده بأخذ البيعة ممن يريدها وقال: يده كيده. ثم اشتغل بالدرس نحوا من اثنتي عشرة سنة وحصل له فتح عظيم في التوحيد والجانب الواسع في السلوك ونزل على قلبه العلوم الوجدانية فوجا فوجا وخاض في بحار المذاهب الأربعة وأصول فقههم خوضا بليغا ونظر في الأحاديث التي هي متمسكاتهم في الأحكام وارتضى من بينها بإمداد النور الغيبي طريق الفقهاء المحدثين واشتاق إلى زيارة الحرمين الشريفين فرحل إليهما في سنة 1143هـ، وأقام هناك عامين كاملين وتتلمذ على الشيخ: أبي الطاهر المدني وغيره من مشائخ الحرمين وتوجه إلى المدينة المنورة واستفاض فيضا كثيرا وصحب علماء الحرمين صحبة شريفة ثم عاد في سنة 1145هـ إلى الهند. ومن نعم الله تعالى عليه: أن أولاه خلعة الفاتحية وألهمه الجمع بين الفقه والحديث وأسرار السنن ومصالح الأحكام وسائر ما جاء به صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل حتى أثبت عقائد أهل السنة بالأدلة والحجج وطهرها من قذى أمس المعقول وأعطي علم الإبداع والخلق والتدبير والتدلي مع طول وعرض وعلم استعداد النفوس الإنسانية لجميعها وأفيض عليه الحكمة العملية وتوفيق تشييدها بالكتاب والسنة وتمييز العلم المنقول من المحرف المدخول وفرق السنة السنية من البدعة الغير المرضية. انتهى. وكانت وفاته في سنة 1176هـ الهجرية وله: مؤلفات جليلة ممتعة يجل تعدادها. منها: فتح الرحمن في ترجمة القرآن والفوز الكبير في أصول التفسير والمسوى والمصفى في شروح الموطأ والقول الجميل والخير الكثير والانتباه والدر الثمين وكتاب: حجة الله البالغة وكتاب: إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء ورسائل التفهيمات وغير ذلك. وقد ذكرت له ترجمة حافلة في كتابي: إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين وذكر له معاصرنا المرحوم: المولوي محمد محسن بن يحيى البكري التيمي الترهتي رحمه الله ترجمة بليغة في رسالته: اليانع الجني وبالغ في الثناء عليه وأتى بعبارة نفيسة جدا وأطال في ذكر أحواله الأولى والأخرى وأطاب فإن شئت زيادة الاطلاع فارجع إليهما. وقد طبع كتابه الحجة لهذا العهد بمصر، وكذا الإزالة بالهند بنفقة الشيخ الوزير محمد جمال الدين خان

مدير مهمات الرياسة عافاه الله تعالى وكان له أولاد صالحون: الشيخ عبد العزيز والشيخ رفيع الدين والشيخ عبد القادر والشيخ عبد الغني: والد الشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي وكلهم كانوا علماء نجباء حكماء فقهاء كأسلافهم وأعمامهم كيف وهم من بيت العلم الشريف والنسب الفاروقي المنيف وقد آذن الزمان الآن بانصرام ذلك البيت وأهله فإنا لله وإنا إليه راجعون وكان بيته في الهند بيت علم الدين وهم كانوا مشائخ الهند في العلوم النقلية بل والعقلية أصحاب الأعمال الصالحات وأرباب الفضائل الباقيات لم يعهد مثل علمهم بالدين علم بيت واحد من بيوت المسلمين في قطر من أقطار الهند وإن كان بعضهم قد عرف بعض علم المعقول وعد على غير بصيرة من الفحول ولكن لم يكن علم الحديث والتفسير والفقه والأصول وما يليها إلا في هذا البيت لا يختلف في ذلك مختلف من موافق ولا من مخالف إلا من أعماه الله عن الإنصاف ومسته العصبية والاعتساف وأين الثرى من الثريا والنبيذ من الحميا والله يختص برحمته من يشاء. ولكل من أخلافه رحمهم الله: مؤلفات ممتعة نافعة: كفتح العزيز في التفسير والتحفة الإثنا عشرية في الرد على الروافض وسر الشهادتين وغيرها للشيخ: عبد العزيز الدهلوي. ومثدمة العلم ورسالة العروض وكتاب: التكميل للشيخ: رفيع الدين. وموضح القرآن للشيخ: عبد القادر ورسالة في أصول الفقه ورسالة في الإمامة ورد الإشراك للشيخ: محمد إسماعيل الدهلوي إلى غير ذلك وهذه المصنفات: ممتعة نافعة متداولة بين الناس وفضائلهم شهيرة وهي متلقاة بالقبول من العلماء الأكياس. لا يدرك الواصف المطري خصائصهم ... وإن لم يكن بالغافي كل ما وصفا والشيخ: عبد العزيز عمري: فاروقي في النسب وكان السلف من آبائه من حفدة السيد: ناصر الدين الشهيد وجده الأعلى: وجيه الدين الشهيد حفيد للسيد: نور الجبار المشهدي ونسبه يتصل بالإمام موسى الكاظم. ولد عام تسعة وخمسين ومائة وألف دل عليه لقبه: غلام حليم قال صاحب: اليانع الجني: ومنها كتابه: بستان المحدثين جمع فيه علوم الحديث مهذبة واختصرها منقحة غير أني لم أقف عليها بعد. انتهى. قلت: ليس فيه علوم الحديث بل فهرس كتبها وتراجم بعض أهلها على غير ترتيب وتهذيب وقد أدرجته في مطاوي كتابي: إتحاف النبلاء فليراجعه. ومن أصحاب الشيخ عبد العزيز: أخوه: عبد القادر كان عالماً زاهداً فاضلاً عابداً ذا ورع في الدين وله وجه وأي وجه بين المتقين صادق الفراسة حسن التوسم أخذ عنه جماعة أجلهم: الشيخ أبو العلاء فضل الحق العمري الخير آبادي أحذق الناضرة والأدباء في زمانه قال في اليانع الجني: حدثنا هو بذلك وسمعته غير مرة يثني عليه ويحكي لنا من كراماته. انتهى. ومنهم: أخوه: الشيخ رفيع الدين المحقق المتقن. كانت له خبرة بعلوم الأوائل وله مؤلفات جيدة يكثر فيها من رموز خفية يعسر الاطلاع عليها ويجمع مسائل كثيرة في كلمات يسيرة وكتابه: دمغ الباطل في بعض المسائل الغامضة من علم الحقائق معروف أثنى عليه به أهلها وله: مختصر جامع بين فيه سريان

الحب في الأشياء كلها وأوضح للناس أطواره يسمى: أسرار المحبة ومن أجل تلاميذه: سيدي الوالد الماجد العلامة: حسن بن علي بن لطف الله المحدث الحسيني القنوجي البخاري - قدس سره - واستنتج من رسائله كتبا كثيرة بيده الشريفة أوان طلب العلم بدهلي منها: كتاب: التكميل ورسالة العروض والقافية ورسالة مقدمة العلم وغير ذلك ثم إن الأخوين توفيا قبل الشيخ: عبد العزيز وكذا أخوهما: عبد الغني أبو إسماعيل الشهيد. ومن أصحابه أيضا ختنه: الشيخ: عبد الحي البكري من برانه بلدة من أعمال دهلي وكان من أحسنهم خبرة بالفقه الحنفي وأمرسهم بالكتب الدرسية. قال في اليانع الجني: رأيت له رسالة في حث الناس على تزويج أياماهم وردعهم عن استقباح ذلك توفي في الغزوة المشهورة بأرض الأفاغنة. انتهى. قلت: وكان من أخبار سيدي الوالد وليس له تأليف مستقل إلا هذه الفتاوى التي كتبها ويذكر عنها في الحوائج وله إجازة عن شيخنا وبركتنا: الشوكاني مكاتبة وهو أول من جاء بتأليفه إلى أرض الهند وأشاعه ثم تتابع الناس. ومنهم: ابن أخيه: إسماعيل بن عبد الغني كان من أذكى الناس بأيامه وكان أشدهم في دين الله وأحفظهم للسنة يغضب لها ويندب إليها ويشنع على البدع وأهلها ومن مصنفاته: كتاب الصراط المستقيم في التصوف والإيضاح في بيان حقيقة السنة والبدعة ومختصر في أصول الفقه وتنوير العيني. قال في اليانع الجني: انفرد فيها بمسائل عن جمهور أصحابه واتبعه عليها أناس من المشرق ومن بنجالة وغيرها أكثر عددا من حصى البطحاء. وله كتاب آخر في التوحيد والإشراك فيه أمور في حلاوة التوحيد والعسل وأخرى في مرارة الحنظل فمن قائل: إنها دست فيه وقائل: إنه تعمدها والله عالم بالسرائر. انتهى. وأقول: ليس في كتابه الذي أشار إليه وهو المسمى: برد الإشراك في العربية وبتقوية الإيمان بالهندية شيء مما يشان به عرضه العلي ويهان به فضله الجلي وإنما هذه المقالة الصادرة عن صاحب اليانع الجني مصدرها تتلمذه بالشيخ: فضل حق الخير آبادي فإنه أول من قام بضده وتصدى لرده في رسائله التي ليست عليها آثاره من علم الكتاب والسنة وإن شئت زيادة الاطلاع على حاله ومآله فارجع إلى كتابنا: إتحاف النبلاء يتضح عليك ما تذهب به الشحناء من صدرك إن شاء الله تعالى. ومنهم: ابن بنته: الشيخ محمد إسحاق المهاجر يقال: إنه ولد على التقوى ترجمة المشكاة له معروفة مرغوب فيها على ما فيها من عوج وكذا بعض رسائل فارسية تنسب إليه نعم كان كثير العبادة قليل العلم غزير التقوى نزره الاطلاع على الفنون. ومنهم: الشيخ جمال الدين المعروف: بحسن علي الهاشمي اللكنوي كان له خبرة في الحديث يعتني بعلومه. واشتهر أنه كان شافعي المذهب رأيت له فتاوى بالفارسية على طريقة الفقهاء ولم يجد له عزما يمتاز به عن غيره.

وكان من أحباب سيدي: الوالد الماجد رحمه الله وقد تعقبه الوالد في بعض مسائله. ومنهم: الشيخ: رشيد الدين خان الدهلوي كان فاضلا جامعا بين كثير من العلوم الدرسية وكان حسن العبارة دأبه الذب عن حمى أهل السنة والجماعة والنكاية في الرافضة المشائيم صنف في الرد عليهم كتابه: الشوكة العمرية وغيرها مما يعظم موقعه عند الجدليين من أهل النظر ونجاره كشميري. ومن رهطه: شيخي المفتي: صدر الدين خان بهادر ولي الصدارة بدهلي من جهة البرطانية - حكام الهند اليوم - فاستمر عليها إلى الفتنة وأخذ الحديث عن الشيخ المهاجر وله رسالة: منتهى المقال في شد الرحال قال في اليانع الجني: قد تأنق فيها سلمه الله تعالى. انتهى. أي: أتى بتحقيقات رائقة. قلت: هذا غلط بحت بل زل فيها زلة عظيمة تنبئ عن قلة اطلاعه على أدلة المسألة وماجرياتها وقد رد عليه فيها بعض علماء الهند ويغني عن ذلك كله كتاب: الصارم المنكي في هذا الباب. ومنهم: السيد حيدر علي الرامفوري 1 نزيل تونك رحمه الله أخذ عن الشيخ: عبد العزيز المحدث وكان فاضلا جليلا جمع علم الطب إلى سائر علومه وكان يذب عن إسماعيل الشهيد قال في اليانع الجني: وله مع شيخنا أبي العلاء الفضل بن الفضل الخير آبادي مباحثات في شأن إسماعيل يحويها بطون مؤلفاتهما بدرت منه عند البحث بوادر وهاها العلماء توفي في المحرم مستهل عام القرطاس رحمه الله. انتهى. قلت: والحق أن الحق في تلك المباحث بيد السيد لا بيد الشيخ كما يظهر من الرجوع إلى كتبهما عند نظر الإنصاف وقد رأيت أكثرها ولم أر السيد كما رأيت الشيخ وقد كتب على بعض كتب لي تقريظات حسنة وبالغ فيه في الثناء علي بما لست أهلاً له. ومنهم: الشيخ الفاضل: سلامة الله البدايوني ثم الكانفوري من ذرية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق كان فقيها صوفيا شاعرا واعظا حصلت له الإجازة من قبل الشيخ عبد العزيز واجتمع معه في آخر عمره وكتب له أيضا الشيخ: رفيع الدين الإجازة بيده من قبل أخيه. قال في اليانع الجني: وهو من أجلة أشياخي في الهند. انتهى. ثم أثنى عليه وذكر له تأليفات في: التصوف والشعر والرد على الرافضة. وأقول: عداده عندنا من العلماء المبتدعين والفضلاء المريدين للدنيا المؤثرين لها على الآخرة والله أعلم. السيد: محمد يوسف بن السيد: محمد أشرف الواسطي البلكرامي: كان قسطاس المعقولات ونبراس المنقولات ولد في سنة 1116هـ، وهو سبط: السيد عبد الجليل وابن خالة: السيد آزاد كسبا العلوم بالموافقة وسلكا جادة التحصيل بالمرافقة وقرأ الكتب الدرسية والفنون - من البداية إلى النهاية على السيد: طفيل محمد المتقدم ذكره واللغة والسير على جدهما: السيد عبد الجليل والعروض والقوافي على السيد: محمد ثم اكتسب الهيئة والهندسة من: فضلاء دهلي حين رحل آزاد إلى الحرمين الشريفين وبايع السيد

_ 1 وتأتي بقية ترجمته تحت ترجمة المفتي سعد الله المرحوم إن شاء الله تعالى، منه مد ظله.

لطف الله الحسيني الواسطي البلكرامي واستقام على الشرائع وأقام في الوطن ورمى الدهر آزاد إلى الدكن ثم توفي في سنة 1173هـ، ودفن عند قدم جده المذكور له شعر حسن في اللسانين: العربي والفارسي منه: لاحت لنا روضة راقت مباسمها ... وعارضت في السنا برق اليعاليل فلا تخل تلك أوراد بسمن بها ... هن المصابيح في حمر القناديل وله كتاب: الفرع النابت من الأصل الثابت في التوحيد الشهودي وقفت عليه فوجدته مفيدا في بابه خطيبا في محرابه أرخ له السيد آزاد بأبيات عربية ذكرها في: سبحة المرجان في آثار هندوستان السيد: قمر الدين الحسيني الأورنك آبادي كان قمرا طالعا في ميزان الشرع المبين وكوكبا ساطعا في أوج الشرف الرصين آباؤه من سادات خجند والسيد ظهير الدين منهم هاجر منها إلى الهند وتوطن في آمن آباد من توابع لاهور ثم ابنه: السيد محمد رحل إلى الدكن وكان ابنه: السيد عناية الله من العرفاء أخذ الطريقة النقشبندية عن الشيخ: أبي المظفر البرهان فوري عن الشيخ: محمد معصوم عن أبيه: الشيخ أحمد السهرندي وتوطن ببلدة بالابور على أربع منازل من برهانفور وتوفي بها سنة 1117هـ. وابنه: السيد منيب الله المتوفي سنة 1161هـ، كان من العرفاء أيضا وصاحب هذه الترجمة ولده الأرشد ولد سنة 1123هـ، وساح في مناهج الفنون وبرع في العلوم العقلية والنقلية حتى صار في النقليات إماما بارعا وفي العقليات برهانا ساطعا حفظ القرآن وزان العلم بالعمل وراح إلى دهلي وسهرند وزار قبر المجدد ورحل إلى لاهور واجتمع بطائفة من العلماء والعرفاء في تلك البلاد ثم رجع إلى بالابور وجاء إلى أورنك آباد وانعقد الوداد بينه وبين السيد آزاد فكانا فرقدين على فلك الاتحاد ثم ارتحل إلى الحرمين الشريفين مع ابنيه الكريمين: ميرنور الهدى ومينور العلي ورجع إلى الهند ثم انتهض مع أهل بيته إلى أورنك آباد. له: كتاب في مسألة الوجود سماه: مظهر النور بين فيه مذاهب العلماء ومسالك المتكلمين والحكماء ذكر طرفا منها السيد آزاد في السبحة وأرخ له بأبيات عربية أولها: فاح عرف النسيم في السحر ... وأتاني بأطيب الخبر توفي في أرونك آباد في سنة 1193هـ، ودفن داخل البلد قال آزاد في تاريخ وفاته موت العلماء ثلمة. المير نور الهدى بن السيد قمر الدين: نور هذا القمر الوقاد وثمر هذا الشجر المياد ولد في سنة 1153هـ بأورنك وتتلمذ من البدء إلى الغاية على أبيه وبرع في العلوم الدرسية وهو ابن ستة عشر سنة ثم حفظ القرآن الكريم وحج وعاد مع أبيه وعكف على التدريس والتصنيف وحرر شرحا على مظهر النور لوالده أورد آزاد شيئا من عبارة هذا الشرح في سبحة المرجان وأثنى عليه ثناء جميلاً. السيد: غلام علي آزاد بن السيد: نوح الحسيني نسبا الواسطي حسبا البلكرامي مولدا ومنشأ والحنفي مذهبا الجشتي طريقة الملقب: بحسان الهند ذكر لنفسه الشريفة ترجمة حافلة بالعربية والفارسية في غالب كتبه.

وهذا خلاصتها: ولد في الخامس والعشرين من صفر يوم الأحد سنة 1116هـ، بمحروسة بلكرام وأتم تحصيل الكتب الدرسية من البداية إلى النهاية على السيد: طفيل محمد وأخذ اللغة والسير وسند الحديث المسلسل بالأولية وحديث الأسودين وإجازة أكثر كتب الحديث والشعر العربي والفارسي عن جده: القريب من جهة الأم السيد: عبد الجليل البلكرامي والعروض والقوافي عن خاله: السيد محمد وبايع السيد: لطف الله البلكرامي المتوفى سنة 1143هـ، ورحل إلى البيت العتيق ولذلك قصة عريضة طويلة ذكرها في سبحة المرجان وتسلية الفؤاد وغيرهما بعبارة أحلى من العسل المصفى ومر في هذه الرحلة على بلدة بهوبال المحمية وقرأ بالمدينة المنورة صحيح البخاري على الشيخ: محمد حياة السندي وأخذ عنه إجازة الصحاح الستة وسائر مقروءاته وصحب الشيخ: عبد الوهاب الطنطاوي المصري المتوفى سنة 1157هـ وأخذ عنه فوائد جمة وعرض عليه تخلصه آزاد فقال: أنت من عتقاء الله تعالى فاستبشر بهذه الكلمة وأرخ لحجه بلفظ: عمل أعظم. ورحل إلى الطائف وزار هناك قبر سيدنا: عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - ثم رجع إلى الهند وأرخ له لفظ: سفر بخير وألقى عصا التسيار بأورنك آباد وأقام في تكية الشاه: مسافر الغجدواني المتوفى سنة هـ1126 عند شاه محمود المتوفى في سنة 1175هـ سبعة أعوام وحصل بينه وبين نواب نظام الدولة: ناصر جنك خلف نواب نظام الملك: آصف جاه الموافقة فأحبه حبا شديدا ورفعه مكانا عليا وكان لا يدعه في الظعن والإقامة حتى فاز برتبة الشهادة في سنة 1164هـ، وكان يوما راكبا على الفيل وآزاد أيضا على فيل آخر فأنشد: هو ناصر الإسلام سلطان الورى ... أبقاه في العيش المخلد ربه حاز المناقب والمآثر كلها ... جبل الوقار يحبنا ونحبه ولم ينظم قط في مدح غني بيتا إلا هذين وكان نزيلا بأورنك آباد ثابتا في مقام الفقر والفناء مجتمعا كالمركز في دائرة الانزواء ولما توفي نظام الملك في سنة 1161هـ، وتولى نظام الدولة رياسة الدكن بالغ في اختياره لمنصب من مناصب الإمارة فأبى ونفض الذيل عن الهبا وقال1: هذه الدنيا مثل نهر طالوت غرفة منه حلال والزيادة عليها حرام وأنشد: عصابة أعطوا العافين سلطنة ... أن سلموني لنفسي فهو مغتنم وله مصنفات: جليلة ممتعة مقبولة منها: ضوء الدراري شرح صحيح البخاري إلى آخر كتاب الزكاة وقفت عليه وذكرت أوله في كتابي: الحطة بذكر الصحاح الستة وتسلية الفؤاد وسبحة المرجان وشفاء العليلي في المؤاخذات على المتنبي في ديوانه وغزلان الهند وسند السعادة وسرو آزاد وخزائنه عامرة ويده بيضاء وروضة الأولياء ومآثر الكرام وتاريخ بلكرام ورسائل أخر وديوانان وما ظهر في الهند قبله من يكون له ديوان عربي ومن

_ 1 يعني ابن ديابنهر طالوت ميماند غرقه أزان حلال ست وزيادة برآن حرام: درين ديار كه شاهي بهركدا بخشند، غنميت ست كه مارا همين بما بخشند منه مد ظله.

يكون له عشر عربي على هذه الحالة وقرر نصاب القصيدة أحدا وعشرين بيتا إلى أحد وثلاثين وهي الدرجة الوسطى التي تريح الأسماع ولا تمل الطباع وجملة أشعاره في الدواوين: ثلاثة آلاف وأرسلها إلى بعض الفضلاء بالمدينة المنورة فعرضها على الروضة الخضراء وأوصلها إلى داخل شباك القبة الغراء والأمثلة المترشحة من قلمه في كتاب سبحة المرجان زائدة على ثلاثين ألفاً. هذا آخر ما لخصته من كتابه المذكور وله الدواوين السبعة بالعربية تغزل فيها وأكثر من مدحه صلى الله عليه وسلم وهي موجودة عندي. وله: مظهر البركات في البحر الفارسي واللسان العربي على وزن المثنوي أجاد فيه كل الإجادة وقد ذكرت ترجمته أيضا في كتاب: إتحاف النبلاء وأوردت طرفا صالحا من أشعاره الغراء. وله: ثلاثة ديوان أخر غالبها مدح النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف لأحد من علماء الهند من يكون له الشعر العربي بهذه الكثرة والمثابة وأعطي لقب: حسان الهند من جهة الأستاذ1 وتوفي في سنة 1194هـ، في بلدة أورنك آباد ودفن بالموضع الذي يعرف: بالروضة - أحله الله تعالى في روضة الجنان وخصه بنعيم الروح والريحان. السيد جان محمد البلكرامي: هو ابن عم السيد: عبد الجليل العلامة الواسطي. ولد في سنة 1083هـ، وكان أبوه: السيد معين الدين صاحب دار العدالة ببلدة ملتان أقره على هذه ناظمها: نواب مكرم خان خلف نواب شيخمير في عهد عالمكير وحفظ القرآن وأخذ القراءة ثم رتع في رياض العلوم وارتقى بها إلى أعالي الغصون فحاول من كل فن طرفا صالحا وتناول من كل نوع وزنا راجحا واكتسب قلم النسخ في غاية الملاحة وكان يتكلم بالفارسية في نهاية الفصاحة ثم خرج من الوطن شوقا إلى الحج وذهب إلى بغداد وسر من رأى ومنها إلى نجف وكربلاء وطوس ومنها إلى البيت الحرام وأدى مناسك الركن والمقام وسار إلى المدينة وأقام بها متمنيا للموت وكان يجلس بالمسجد النبوي ويصحح المصاحف إلى أن توفي في سنة 1149هـ، ودفن بالبقيع ومدحه السيد آزاد بقصيدة بليغة في تسلية الفؤاد أولها: حي الغمام بساكب هتان ... أرضا هناك أو أنس الغزلان ومنها: طوبى لقوم هاجروا وتوطنوا ... تلك الديار ومعادن الإيمان وذكر فيها قصة هجرته إلى الحرمين وما وقع له في هذا البين. المولوي: فضل الحق العمري الحنفي الماتريدي الجشتي الخير آبادي ولد بها في سنة 1212هـ، يرجع نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. تتلمذ على أبيه الفاضل فضل إمام وسمع الحديث على الشيخ الأجل: عبد القادر بن مسند الوقت الشاه ولي الله المحدث الدهلوي وحفظ الكتاب في أربعة أشهر وفرغ عن اكتساب العلوم وهو ابن ثلاث

_ 1 وتاريخ وفاته كلمة علام عي آزاد.

عشرة سنة وأخذ الطريقة عن: شاه دهو من الدهلوي وصار بارعا في: علم المنطق والحكمة والفلسفة والعربية والكلام والأصول والشعر ونظمه: يزيد على أربعة آلاف شعر وغالب قصائده مدح النبي صلى الله عليه وسلم. وبعضها: في هجو الكفار والفساق أتته الطلبة للاشتغال عليه من بلاد بعيدة فدرس وأفاد وألف وأجاد إلى أن حبس على يد الإفرنج وأرسل به إلى جزيرة رنكون فتوفي بها ثاني عشر صفر من سنة 1278هـ. كان إمام وقته في العلوم الحكمية والفلسفية بلا مدافع غير أنه وقع في أهل الحق ونال منهم على تعصب منه وكان السبب في ذلك: قلة الخبرة منه بعلوم السلف وطريقتهم في الدين واتباعهم للأدلة الواردة عن سيد المرسلين مع ميل إلى البدع التي يستحسنها المقلدة ولذا انتقد عليه عصابة من علماء الحق تواليف في ذلك. ومن مؤلفاته: رسالة: الجنس الغالي في شرح الجوهر العالي وحاشية شرح السلم للقاضي مبارك وحاشية الأفق المبين لباقر داماد وحاشية تلخيص الشفاء لابن سينا والهداية السعيدية في الحكمة الطبيعية ورسالة في: تحقيق العلم والمعلوم والروض المجود في تحقيق حقيقة الوجود ورسالة في: تحقيق الأجسام ورسالة في: تحقيق الكلي الطبعي وفي التشكيك وفي الماهيات وتاريخ فتنة الهند ... إلى غير ذلك. وله: نظم رائق وشعر فائق لولا انه أكثر فيه من التجنيس الذي ينبو عنه السماع وتأباه الطباع وقصائد وغزليات وتقاريظ وأدبيات جمعها الشيخ الأديب: جميل أحمد البلكرامي المرحوم في مجموع وشرح معانيها وقد رأيت الشيخ: فضل الحق بدهلي زمان الطلب وهو كهل في المسجد الجامع وقد أتى هناك لصلاة الجمعة وزيه زي الأمراء دون العلماء وكان بينه وبين أستاذي الشيخ العلامة: محمد صدر الدين خان الدهلوي صدر الصدور بها مودة أكيدة ومحبة شديدة لأنهما كانا شريكين في الاشتغال على أستاذ واحد وعلى أبيه الفاضل: فضل إمام ومع ذلك يسخط أستاذي عليه في بعض أموره. منها: رده على الشيخ الحافظ الواعظ المحدث الأصولي الحاج الغازي الشهيد: محمد إسماعيل الدهلوي ويقول: لا أرضى منك ذلك وليس هذا بعشك ثم رأيت ولده: الفاضل الفلسفي المولوي الشيخ: عبد الحق بن فضل حق في سفري إلى دهلي في سنة 1294هـ، فوجدته أيضا كهلا في العمر وبارعا في العلم ومهذبا في الخلق وقد كتب كراسة في الشرح لرسالتي في أصول الفقه المسماة: بحصول المأمول من علم الأصول وهي داله على سعة علمه في هذا الفن حياه الله وبياه والذي لا يرتضيه منه أهل العلم بالكتاب والسنة مشيه على طريقة أسلافه من: الانهماك في الفلسفة وما يليها وعدم المبالاة بالعلوم الإسلامية وما يضاهيها - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد طالما خطر ببالي أن أكتب كتابا مستقلا في: تراجم علماء الهند وفضلائها إلى أن سودت أوراقا في ذلك ثم شغلني عنها عوائق الزمان ولم يتيسر لي تهذيبها إلى الآن ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فاقتصرت في هذا الكتاب هذه الساعة على ذكر جماعة خاصة منهم مشهورة وأعرضت عن ذكر الباقين لا سيما المعاصرين لوجوه ليس هذا موضع ذكرها كيف وليس في المعاصرين من يكون في طبقة الراسخين من العالمين.

المولوي: محمد باقر النائطي المدراسي المتخلص: بآكاه أصله من بيجابور وولد في ديلور في سنة 1158هـ، كان عالما شاعرا يعرف العلوم العجيبة والفنون الغريبة لم يقم من كرنائك مثله في الفضائل الجليلة ولم يدرس في بلدة مدراس غيره من أهل الفواضل الجميلة له يد طولى في الأدب وبراعة كاملة في لسان العرب وقفت له على أبيات في الرد على الشيعة وكان شافعي المذهب مات رحمه الله في سنة 1220هـ الهجرية. الشاه: عبد القادر المتخلص: بمهربان المعروف: بالفخري: أصله من السادة النقوية الساكنة بنيشابور انتقل بعض أسلافه إلى قصبة كنتور من مضافات لكهنؤ ووالده: السيد شرف الدين خان ألقى عصا التسيار ببلدة أورنك آباد واختص بقضاء بلدة روضة وهناك ولد الفخري في سنة 1143هـ، وحفظ القرآن واكتسب العلوم العقلية والنقلية ودرس وطالع كتب: التفسير والحديث والتصوف حتى صار بارعا في ذلك كله ولبس خرقة الطريقة القادرية يتخلص مرة: بالفخري وأخرى: بمهربان له شعر مدون ذكر له أستاذه: آزاد ترجمة في تذكرته وأثنى على ذكائه وفطنته كثيرا جلس على كرسي الإفادة ومسند الإرشاد وأفنى عمره في هداية العباد وتكميل الزهاد. ورحل في أواخر المائة الثانية عشر إلى مدراس وأقام بها مفيدا مفيضا وعظمه نواب والاجاه تعظيما جليلا وحسن العقيدة فيه إلى أن مات - رحمه الله - في سنة 1204هـ، ودفن بخانقاه الواقع بقصبة ميلابور من مضافات مدراس. الشيخ الفاضل المفيد القاضي المفتي: محمد سعد الله المراد آبادي رحمه الله لم أره ولكن كان بيننا وبينه الكتابة والخط أهدى إلينا رسائل من مؤلفاته وأتحفت إليه كتبا من مصنفاتي فاستحسنها كثيرا وأثنى عليه ثناء كبيرا وطلبت من ترجمته فكتب إلينا ما تعريبه: ولدت بمراد آباد في سنة 1219هـ، تاريخه: ظهور حق وأيضا بيدار بخت اكتسبت في زمن الصبا الكتب الفارسية من معلمي المكاتب ورحلت إلى رامفور ونجيب آباد مراهقا وقرأت مختصرات الصرف والنحو عند المولوي: عبد الرحمن القهستاني - تلميذ بحر العلوم الملا: عبد العلي اللكنوي وفي سنة 1239هـ وصلت إلى دهلي وحضرت في مجالس الوعظ للشاه: عبد العزيز وغيره من أكابر البلدة وكان يحلل الغوامض المستفسرة عنها بالإرشادات اللسانية وحصلت بعض الكتب الدرسية من المولوي: محمد حياة اللاري الفنجاني وأخوند شير محمد خان الفاضل والمفتي الكامل: محمد صدر الدين خان. ثم رحلت في سنة 43هـ إلى بلدة لكهنؤ وأكملت التحصيل في خدمة المولوي: محمد أشرف والمولوي: محمد ظهور الله والمولوي: محمد إسماعيل المراد آبادي والمولوي: حسن علي المحدث وأقمت هناك مدة اثنتين وعشرين سنة وسافرت في سنة20هـ إلى الحرمين الشريفين ورجعت إلى لكهنؤ وبعدما انقلبت سلطنة أود وتسلطت عليها النصارى جئت إلى رامفور قبل الفساد الواقع في مملكة الهند وأنا نزيلها إلى يومنا هذا. ومن مؤلفاته: القول المأنوس في صفات القاموس وميزان الأفكار شرح معيار الأشعار ونوادر الوصول في شرح الفصول وحاشية شرح السلم لحمد الله وحاشية شرح الجغميني وزاد اللبيب إلى دار

الحبيب ومحصل العروض مع شرحها ... إلى غير ذلك مما لم يتم. انتهى بلفظه الشريف. وقد طلبته لقضاء بلدة بهوبال المحمية وأراد الرحلة إليها لكن سبق القضاء فتوفي رحمه الله في سنة 1293هـ الهجرية. وطلبت منه تراجم علماء بلدة رامفور فكتب شيئا منها وذكر منهم: المولوي: محمد حسن السهالوي اللكنوي وكتب أنه كان من أشهر علماء هذه البلدة جاء في عهد نواب فيض الله خان إلى رامفور وأقام بالمحلة المعروفة: بالمدرسة وله أولاد: والمولوي: محمد إسحاق. والمولوي: موسى. والمولوي: عبد الله وهؤلاء الثلاثة هاهنا ورأيت له ولدين بلكنؤ وهما: المولوي غلام يحيى والمولوي غلام زكريا. ومن مؤلفاته: شرح السلم والمسلم والحواشي: على الزواهد وعلى شرح هداية الحكمة والشمس البازغة ومعارج العلوم وغيرها وهي معروفة. ومن أرشد تلاميذه: المولوي: محمد مبين اللكنوي والمولوي: عماد الدين اللبكني مات رحمه الله في رامفور ودفن بمقبرة نواب محمد علي خان والد نواب أحمد علي خان تشرفت بزيارته حيا. ومنهم: الملا عبد العلي بحر العلوم قدم برامفور في زمن نواب فيض الله خان وتقررت له وظيفة مائة ربية في كل شهر ثم سافر بعد سنة إلى مدراس وعظم قدومه نواب محمد علي خان والي صوبة أركات له من التأليفات: الحواشي والتعليقات والشروح على أكثر الكتب الدرسية وكان شديد البغض لمذهب الرفض مات بمدراس رحمه الله. وكان حينئذ برامفور الملا: عمران والد المولوي: خليل الرحمن - صاحب حاشية الدوار على الدائر - والمولوي: رستم علي والمولوي: غلام بني الشاهجهانفوري ولهما: حواش على رسالة مير زاهد والمولوي: محمد جيلاني صاحب جنكنامه وهؤلاء كلهم تتلمذوا على بحر العلوم1. ثم اشتهر الملا: أحمد الولايتي - تلميذ المولوي: بركت - في العلوم الدرسية والفلسفية اشتهارا وإليه تنتهي سلسلة علماء هذه البلدة وكان المفتي: شرف الدين ختنا له تتلمذ على أحمد جماعة من أهل العلم منهم. المولوي: رستم علي والمولوي: هدايت علي وغيرهما ومن أكابر علماء هذه البلدة: المولوي: سلام الله من أولاد الشيخ: عبد الحق الدهلوي كان جامعا للمعقول والمنقول عارفا بالحديث مشهورا به له: الكمالين حاشية الجلالين والمحلى شرح الموطأ وترجمة صحيح البخاري بالفارسي وترجمة الشمائل للترمذي أيضا ولد له المولوي: نور الإسلام وبرع في العلوم العقلية والنقلية لا سيما علم الرياضي ومنهم: السيد المولوي: حيدر علي جاء في صغر السن وتتلمذ على المولوي: عبد الرحمن القهستاني الدكني أولا وعلى المولوي: محمد جيلاني ثانيا وكمل التحصيل وتزوج بابنته واختص بختانته وكان بارعا في علم الطب له يد طولى في ذلك خرج في آخر عهد نواب أحمد علي خان إلى طونك وارتفع بها شأنه وقدرته ومات هناك.

_ 1 ألفه لنواب غلام محمد خان.

قلت: له تقريظ على رسالتنا المسماة: بكلمة الحق في رد علم المولد وكان من أحباب والدنا المرحوم وكان بيننا وبينه الخط والكتابة وكان قصير القامة نحيف البدن ومن مؤلفاته: صيانة الأناس عن وسوسة الخناس بالهندية ورسالة في: إثبات رفع اليدين في المواضع الأربعة من الصلاة حررها ردا على المولوي: محبوب علي الدهلوي بالفارسية وكان يدرس ويطبب وينفع الناس. انتهى قولي. وأما الموالي الآخرون الذي اجتمعوا في رامفور وهم: الملا: محمود الولايتي والملا: كمال والد المولوي: جلال الدين والملا: عبد اللطيف الفقيه والملا: نسيم المنطقي والملا: جمال الصيرفي والملا: عبد الرحيم والملا: عبد الله البكلوي والملا: غفران المعروف: بروايت كش والمولوي: محمد حياة والمولوي: محمد علي ابن أخت زوجة المفتي: محمد شرف الدين والمولوي: إسحاق ولد الملا: أحمد المذكور إلى غير ذلك فلم تبق منهم آثار التأليف وكان الملا: عياض تلميذ المفتي: محمد شرف الدين رجلا بحاثا يباحث ويناظر كل واحد له كتاب: دستور المنتهى في الصرف ألفه في مقابلة دستور المبتدي واختار لفظ الشك والفك مكان السؤال والجواب واصطلح عليهما فيه. ومن مؤلفات المفتي: شرف الدين: كتاب سراج الميزان في المنطق وشرح السلم إلى مقام لا يحد ولا يتصور وبعض الفتاوى الفقهية. قلت: وكان شرا في الدين لا شرف الدين كما سماه بذلك سيدي الوالد قدس سره. وكان أبعد خلق الله من السنة مع حفظ الحواشي والشروح الكثيرات للكتب الدرسية المتداولة منتصرا للبدعة رادا على أهل الحق بخرافاته محبا للدنيا - عفا الله عنه ما جناه. وأما علماء هذا العهد فمنهم المولوي: عبد الحق بن المولوي: فضل حق والفاضل المولوي: حيدر علي الفيض آبادي صاحب منتهى الكلام والمولوي: سديد الدين خان ولد المولوي: رشيد الدين خان الدهلوي والمولوي: عبد العلي المنطقي والمولوي: حسن شاه المحدث والمولوي: محمود عالم والمولوي الحافظ: لطف الله ولدنا. انتهى كلام المفتي: محمد سعد الله رحمه الله مع زيادة يسيرة عليه. وقد لاقيت الأول والثاني من هؤلاء الجماعة ببلدة بدهلي وتأتي إلينا خطوطهم. وممن يعد في العلماء ببلدة رامفور: إرشاد حسين ولكنه ليس برشيد ولا مرشد بل رجل متصوف متفلسف مقلد وأي مقلد والمهدي من هداه الله. والمولوي: لطف الله ولد المولوي المفتي: محمد سعد الله جاء إلى بهوبال وصار ملازما بالرياسة وجدته عالما صالحا ذا متانة وتقاوة على قدم أبيه المرحوم ولما توفي والده ترك التعلق ورحل إلى رامفور وصار هناك قائمقام أبيه لطف الله به وأحسن إليه وقد أعاننا على بعض الكتب المطلوبة لنا بالاستعارة جزاه الله خيراً. الشيخ عبد الغني بن أبي سعيد العمري: نزيل المدينة المنورة حالا ولد في شعبان سنة 1235هـ بدهلي دار ملك الهند حفظ القرآن واقتنى الفقه على مذهب النعمان وحصلت له الإجازة من علماء الهند والحجاز فاشتغل بدرس الحديث ورواية الأثر ببلدته وألف ذيلا على سنن ابن ماجة سماه: إنجاح الحاجة وقد طبع على هامشها بدهلي وله غير ذلك من المؤلفات.

ثم لما وقعت الفتنة في الهند وتسلط العلوج على دهلي توجه في رهطه إلى أرض العرب فقدم مكة المكرمة أولا ورحل إلى المدينة المنورة ثانيا وهو اليوم نزيلها مواظب على ما عوده من الوظائف رأيته بدهلي مرارا ثم لقيته بالطيبة الطابة آخرا في سنة 1285هـ سلمه الله تعالى. ومشائخه الذين أخذ منهم العلم وانتفع بهم جمع أجلة منهم: والده1: الشيخ أبو سعيد قرأ عليه كتاب الموطأ لمحمد بن حسن الشيباني وأخذ منه طريقة الصوفية وصار مجازا بها وبسائر ما وصل إليه من أشياخه وصحبه في حجته وحصلت له دعوة بركته. ومنهم: الشيخ مخصوص الله بن مولانا رفيع الدين الدهلوي قرأ عليه كتاب المشكاة للخطيب التبريزي وكان مقريا في دروس عمه الشيخ: عبد العزيز بعد ما توفي أبوه رأيته بمنزله في دهلي ووجدت فيه عصبية على بعض الفقهاء الحنفية وكان موصوفا بالصلاح مات في سنة 1273هـ. ومنهم: الشيخ أبو سليمان: إسحاق ابن بنت الشيخ عبد العزيز وأخذ من جده المذكور وجلس بعده مجلسه وكان معروفا بالزهد والصلاح وله مؤلفات بالفارسية يتعاطاها عوام أهل الهند هاجر إلى مكة المكرمة وأقام بها سنين ثم توفي بها عام 1262هـ ومنهم: الشيخ محمد عابد السندي الأنصاري نزيل المدينة المنورة قرأ عليه بعض صحيح البخاري وأجاره بباقيه وكتب له الإجازة العامة برواية الكتب السنة التي أوردها في كتابه: حصر الشارد. ومنهم: الشيخ أبو زاهد إسماعيل بن إدريس الرومي ثم المدني أجازه كذلك إجازة عامة مكاتبة والله أعلم بالصواب ثم توفي رحمه الله سنة 1296هـ، بالمدينة المنورة.

_ 1 قرأ الكتب على المفتي شرف الدين الرامفوري، وبعضها على الشيخ رفيع الدين، وأجيز بالإجازة العامة عن الشيخ عبد العزبز الدهلوي المحدث وبالطريقة النقشبندية عن الشيخ غلام علي العلوي، رحمه الله ببلدة طونك صبيحة عيد الفطر في سنة 1249الهجرية، سيد ذو الفقار أحمد سلمه الله الأحد.

علماء قنوج

علماء قنوج الشيخ الأجل: علي أصغر بن الشيخ: عبد الصمد القنوجي البكري الكرماني: من أولاد الشيخ: عماد الدين الكرماني صاحب الفصول العمادية كان من أعيان علماء قنوج وأكابرها. ولد في سنة 1051هـ، وأخذ العلوم الدرسية المتداولة عن السيد العلامة: محمد القنوجي وأتم المتوسطات والمطولات في حلقة درس السيد: عصمة الله السهارنقوري وقرأ فاتحة الفراغ عند الشيخ الكامل: ملا محمد زمان الكاكوروي وصار بارعا في جميع العلوم النقلية والعقلية إماما في التصوف والسلوك له مصنفات. منها: اللطائف العلية في المعارف الإلهية على طريقة كتاب فصوص الحكم لابن عربي الطائي. ومنها: تبصرة المدارج في علم السلوك جمع فيه ما استفاده من شيخه: بير محمد الجونفوري المولد اللكهنوي المحتد. ومنها: القصيدة المهيمنية في النفحة المحمدية وشرحها المسمى: بالنفائس العلية في كشف أسرار المهيمنية.

ومنها: تفسير القرآن الكريم المسمى: بثواقب التنزيل مختصر على هيئة تفسير الجلالين لكن أحسن منه في البلاغة والمتانة. وله: شرح فصوص الحكم وملخصه ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال السيد غلام علي آزاد البلكرامي رحمه الله في مآثر الكرام: خرج بعض آبائه من المدينة المنورة بتصاريف الزمان وتوطن بكرمان وارتحل الشيخ: مبارك بن عماد الدين الكرماني من كرمان الهند وأقام ببلدة قنوج وتوطن بها وفيها أعقابه إلى الآن شارك الشيخ: علي أصغر في تحصيل العلم مع الشيخ: أحمد ملا جيون صاحب نور الأنوار ولبس الخرقة من الشيخ: بير محمد اللكهنوي واستجاز فأجاز وبايعه وجلس في الأربعينات ورجع إلى قنوج واختار العزلة إلى آخر العمر ودرس ستين سنة بلغ خلق كثير في حوزة درسه إلى منتهى الفضيلة أدركت صحبته مرارا ووجدته ذاتا مقدسا مباركا توفي في سنة 1140هـ وقلت: تاريخه بالفارسية: مولوي زمان علي أصغر ... أزوفاتش كما شد معدوم منال تاريخ أونوشت خرد ... شد نهان آفتاب صبح علوم انتهى كلامه مترجما 1140هـ السيد إمام والسيد حسن والسيد صدر الدين القنوجي كانوا من مشاهير علماء هذا البلد في عهد السلطان: سكندر اللودي في سنة 604هـ وكان السيد: صدر الدين ملازما ركاب السلطان في كل حين وأوان. الخواجه محمد بن عبد الرحمن القنوجي: كان سيدا عالما كبيرا وعارفا سالكا من سادات رسول دار له معارف وحقائق جيدة وفضائل شهيرة. رحل إلى الحرمين الشريفين ولقي مشائخهما واستفاد منهم ثم رجع إلى قنوج وبها توفي مزاره يزار له كتاب سماه: هداية السالكين إلى صراط رب العالمين ألفه لابن السلطان المسمى: بشاه عالم بهادر وهو في علم التصوف والسلوك على طريقة كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي وإحياء العلوم للغزالي لم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله. الشيخ ياسين القنوجي كان من أساتذة الوقت وأعيان العصر والفضلاء الكاملين المكملين تتلمذ عليه خلق كثير وبلغوا إلى منتهى الفضيلة. منهم: السيد: مربي بن السيد: عبد النبي بن السيد: الطيب البلكرامي وملا: فيضي الأمروهي وقد ذكر لهذين ترجمة السيد: آزاد البكري رحمه الله في كتابه: مآثر الكرام تاريخ بلكرام المولوي محمد فصيح الدين: كان من شيوخ بلدنا قنوج ومن علمائها الكاملين اشتغل بالدرس والعبادة وبالغ في الإفاضة والإفادة حتى أتاه اليقين ولقي الله رب العالمين. المولوي عليم الدين بن الشيخ فصيح الدين المذكور: كان في الفضائل: أنموذج السلف الصلحاء وفي العلوم العربية: تذكار العرب العرباء تتلمذ على الشيخ العلامة: عبد الباسط القنوجي وأتم الكتب الدرسية من البدء إلى الغاية في حلقة درسه وحوزة إفادته ودرس عمرا وألف كتبا منها: عين الهدى شرح قطر الندى

في النحو ودرر الفضائل في شرح الشمائل والرسائل في علم المنطق وعام تأليف عين الهدى سنة 1311هـ. المولوي: نعيم الدين هو أخو الشيخ: عليم الدين والابن الصغير للشيخ: فصيح الدين كان في أخذ العلوم وتحصيل الكمالات العلمية تلو أخيه الكبير تتلمذ على العلامة: القنوجي عبد الباسط. ومن مصنفاته: شرح تصديقات سلم العلوم والحاشية على صدرا في الحكمة. المولوي: رستم علي بن العلامة: علي أصغر القنوجي: عالم ابن عالم وفاضل ابن فاضل من بيت العلم المشهور والحي الذي بالفضائل مذكور. ولد في سنة 1115هـ، اكتسب العلوم المتداولة وكتبها المطولات من: أبيه العارف وأتمها بعد وفاته في حلقة درس ملا: نظام الدين اللكهنوي في سنة 1240هـ، وجلس على صدر الإفادة مقام والده وعلم ودرس وألف. ومن مصنفاته: تفسير القرآن الكريم المسمى: بالصغير وشرح على المنار في غاية من الاختصار المولوي: محمد عبد العلي القنوجي أخو: الشيخ رستم علي المذكور كسب العلوم من أخيه وصار بارعا في كل فن نبيه له: حاشية على شرح المنار في أصول الفقه. توفي بقصبة: بندكي من توابع: كوره جهان آباد. المولوي: حسين علي بن علامة العصر: عبد الباسط القنوجي: أخذ العلوم عن أبيه الماجد وتصدى في حياته للدرس وأفاد الطلبة وأفاضهم. ومن مؤلفاته: كتاب: تمرين المتعلم في الصيغ المشكلة والتعليلات الصعبة توفي بعد أبيه بخمسة أشهر وعمره: أربع وعشرون سنة في سنة 1223هـ، ودفن عند أبيه رحمة الله على شبابه وبوأه في دار النعيم وخصه بثوابه. المولوي: غلام حسنين بن المولوي: حسين علي بن الشيخ العلامة: عبد الباسط القنوجي ولد في سنة 1221هـ، واسمه التاريخي: غلام عليم تتلمذ على الشيخ العالم: محمد سعادت خان الفرخ آبادي المتوكل المشهور. وعلى العلامة: محمد ولي الله المفتي الفرخ آبادي وأخذ عنه علم الحديث والتفسير في سنة 1336هـ، ورحل إلى الحرمين الشريفين وأقام في برودة من أرض كجرات وحج في سنة 1255هـ، وصحب هناك الشيخ: عبد الله سراج والشيخ: شمس الدين شطا والسيد: عمر أفندي وغيرهم من أهل مكة المكرمة واستجاز بالمدينة المشرفة الشيخ: محمد عابد السندي فأجازه بكتب الصحاح والسنن المشهورة وزار القرآن العثماني واشتغل بكتب التصوف وطالعها. له من التأليفات: ذيل كتاب المنازل الإثنا عشر لجده وقد قاسى في تكميله جهدا بليغا لاقيته مرارا وصحبته في صغر سني ببلدة قنوج وارتحل إلى برودة وسافر في آخر عمره إلى الحرمين الشريفين وحج وزار ثم رجع فلما بلغ بندر بمبئى مرض وتوفي في سنة12 الهجرية رحمه الله. المولوي: محمد أمجد القنوجي: كان من كبار الفضلاء وأعاظم العلماء من أهل قنوج تتلمذ على الشيخ

العارف: علي أصغر القنوجي وبلغ الغاية في الكمال ودرس وألف وله: حاشية على صدرا في الحكمة متداولة في ديارنا لم أقف على تاريخ وفاته. الشيخ المولوي فتح علي القنوجي: كان قاضيا بها أبا عن جد تتلمذ على ملا: علي أصغر القنوجي وحصل الحيثية العلمية المعتد بها وفاق الأقران وكان له مناسبة تامة بكل علم ومن مؤلفاته: حاشية على شرح التهذيب الجلالي وشرح لمقامات أبي القاسم الحريري. السيد محمد القنوجي: هو من سادات رسول دار كان أستاذا للسلطان: عالمكير أورنك زيب ومن صالحاته الباقية: عمارة بيت المسافرين الذي لم يعهد مثله في هذه الديار وله بستان فيه مقبرة عظيمة فيها قبره كان له اليد الطولى في العلوم الرياضية والعربية ألف: حاشية على المطول وكان معظما ذا جاه وثروة ودولة عظمى جامعا بين رياسة العلم والحكومة والشرافة له أعقاب في تلك البلدة لكن كلهم جهلاء متشيعون. الشيخ: عبد الوهاب الراجكيري المخاطب بنواب منعم خان بهادر وراجكير: محلة من محلات قنوج كان فاضلا جيدا وعالما نبيلا له اليد الطولى في العلوم المتداولة والتصانيف المفيدة في الفنون الدرسية المتناولة منها: مفتاح الصرف وبحر المذاهب في الكلام وكتاب الصدرة في علم العقائد وعندي منها شيء يسير. الشيخ العارف حبيب الله القنوجي: هو من مشائخ قنوج اكتسب العلوم الدرسية وبرع فيها ثم توغل في السلوك والتصوف وصار رأسا في ذلك العلم والعمل وقصر نفسه على إرشاد الخلق إلى الله تعالى وذكره سبحانه وكان معاصر الملا: علي أصغر القنوجي. ومن مؤلفاته: الجواهر الخمسة وتذكرة الأولياء وروضة النبي في السير وأنيس العارفين والفاضل في الفقه. ومن آثاره الباقية إلى الآن: مسجد وخانقاه وروضة فيها قبره قال السيد: غلام علي آزاد في مآثر الكرام: توفي في سنة 1140هـ، تاريخه: الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب قبره بقنوج وشيخه الشاه: عبد الجليل الإله آبادي الآخذ للطريقة عن الشاه: محمد صادق الآخذ عن الشيخ: أبي سعيد من أحفاد الشيخ: عبد القدوس الكنكوهي رحمه الله. سيدي الوالد الماجد المرحوم: حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي قدس الله سره ونور الله مضجعه - ذكرت له ترجمة حافلة في إتحاف النبلاء المتقين فلا حاجة إلى إعادتها ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. وهو ابن السيد الأمير الكبير: نواب أولاد علي خان بهادر أنورجنك المتوفي بأرض حيدر أباد الدكن جده القريب: السيد أبو عبد الله جلال الدين حسين المعروف: بمخدوم جهانيان جهان كشت ونسبه الأقصى: ينتهي إلى سيدنا: زين العابدين علي أصغر بن حسين الشهيد بكربلاء رضي الله تعالى عنه في سنة 1210هـ. أخذ أوائل العلوم الدرسية من: الشيخ العلامة: عبد الباسط القنوجي ورحل إلى لكهنؤ بعد وفاته

فاكتسب عن الشيخ العارف العالم: محمد نور وغيره من علماء عصره وسافر في سنة 1233هـ إلى دهلي وتتلمذ على الشيخ: عبد العزيز والشيخ: رفيع الدين ابني الشيخ الأجل الشاه: ولي الله المحدث الدهلوي وأخذ الإجازة لكتب التفسير والحديث وغيرهما وصحب السيد الكبير والعارف الشهير: أحمد البريلوي مجدد المائة الثالثة عشر وبايعه واستفاض منه فيوضا كثيرة وجاهد معه في سبيل الله وصار خليفة له في دعوة الحق إلى دين الله تعالى فرجع إلى الوطن وتمكن به للدرس والإفادة والوعظ إلى آخر العمر وكان في: التقوى والديانة واتباع الحق واقتداء الدليل ورد الشرك والبدع آية باهرة وقدرة كاملة ونعمة ظاهرة من الله سبحانه وتعالى. وله مؤلفات بالألسنة الثلاثة: الهندية والفارسية والعربية. منها: راه سنت وهداية المؤمنين ونور الوفا من مرآة الصفا ورسالة في: معنى الكلمة الطيبة ورسالة في: رد التعزية والضريح ورسالة في: آداب التذكير ورسالة في: آداب البيعة وكتاب في الحدود والقصاص سماه: بالاختصاص وتقوية اليقين في الرد على عقائد المشركين إلى غير ذلك مما يعسر عدها. توفي - رحمه الله - في سنة 1253هـ تاريخ وفاته: مات بخير استخرجه المولوي: أمين الدين الجاليسري من لفظ الحديث النبوي صلى الله عليه وآله وسلم الواقع في باب المساجد. موت التقي حياة لا انقطاع لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء السيد العلامة: أحمد بن حسن بن علي العرشي القنوجي: أخونا الكبير كان أساسا محكما للمراتب العليا وقياسا منتجا للفضيلة الكبرى ميزان نقد العقليات برهان عدل النقليات ولد تاسع عشر رمضان يوم السبت وقت الإشراق سنة 1246هـ وأخذ العلوم المروجة والفنون الدرسية متفرقة في بلاد شتى من أساتذة متعددين كبلدة دهلي وغيرها وساح البلاد ولاقى جماعة من أهل العلم المدرسين وبرع في الفضائل وجمع الفواضل المتكثرة: كالرمي بالبندق والركوب على الأفراس ونظم القصائد الغراء في الفارسية والعربية وفاق الأقران في: الذكاء والفطنة وقوة الحافظة وجودة الذهن وتتلمذ على المولوي: عبد الجليل الكولي وأجاز له الشيخ العارف: عبد الغني المجددي الدهلوي - نزيل المدينة المنورة حالا الآخذ لعلم الحديث - عن الشيخ: محمد عابد السندي الراوي عن إمام المحدثين وخاتمة المجتهدين الشيخ: صالح بن محمد العمري المسوفي الشهير: بالفلاني وسمع من الحديث المسلسل بالأولية في سنة 1271هـ، وسافر من الوطن قاصدا بيت الله الحرام في سنة 1276هـ، فوارد ببلدة برودة من أرض كجرات - وأقام مدة يسيرة عن المولوي: غلام حسنين القنوجي ثم مرض بالحمى واشتد المرض وانجر إلى الإسهال وكان هناك الوباء فتوفي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الأولى يوم الجمعة من شهور سنة 1277هـ، ودفن بعد صلاة الجمعة في التكية الماتريدية عند مزار السيد: يحيى الترمذي - من خلفاء المخدوم: أخي جمشيد الراجكيري وكان عمره ثلاثين سنة وسبعة أشهر وعشرين يوما ولما جاء هذا الخبر ببلدة قنوج حزن عليه جميع أهل البيت وأهل البلد ومن سمع ذلك لا سيما أمه الشريفة وكنت إذ ذاك ببلدة بهوبال المحمية والله يعلم ماذا صب علي من المصائب والأحزان والنوائب؟ ولا مفر لأحد من تقدير

العزيز العليم ولا فرج بعد الشدة غير الاصطبار كما أمر به القادر الحكيم فرحمه الله تعالى وإيانا برحمته الواسعة وغفر لنا وله بكرمه العميم وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} . وروينا عن عمرو بن العاص أنه قال: مات رجل بالمدينة ممن ولد بها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "يا ليته مات بغير مولده" قالوا: ولم ذلك؟ قال: "إن العبد إذا مات بغير مولده قيس ما بين مولده إلى منقطع أثره في الجنة". أخرجه النسائي. وفي حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر". رواه أحمد والبيهقي. والحديث له شواهد ولنعم ما أنشدته عائشة رضي الله عنها حين وردت على قبر أخيها: عبد الرحمن وزارته بمكة المكرمة: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وعشنا بخير في حياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول افتراق لم نبت ليلة معا ثم إنه رثاه الشيخ: حسن اليمني الأديب بقصيدة أولها: خطب ألم وفادح قد أوجعا ... بمصاب ركن الدين يوم تصدعا وقد ذكرت هذه القصيدة في ترجمته الشريفة في كتابي: إتحاف النبلاء فارجع إليه ووجدت بخطه: أما بعد فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمحروسة قنوج في مبشرة أريتها في اليوم الثامن من رمضان المبارك سنة خمس وستين بعد ألف ومائتين من هجرته صلى الله عليه وسلم رأيته وهو حسين ولونه أبيض من لون الحنطة ويده لا يشتكي منه قصر ولا طول فرأيت أني أكلت معه الطعام وطال يده صلى الله عليه وسلم إلى قصعتي فقربت الإدام إليه فتناوله بيده الشريفة وأخذ كأنه يأكل في قصعتي ولم يبق شيء فقلت: أيتها الحضرة من رآكم في هذا الزمان وصحبكم في المنام هل يعد من أصحابكم؟ فأجاب بما مفهومه: إنه لا يعد منهم وأعطاني فلوساً. وسألت عنه صلى الله عليه وسلم: ما بال الناس يتركون الحديث بقياس المجتهدين؟ مع أنهم إنما قاسوا إذ لم يجدوا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصوا أصحابهم بالعمل على الحديث والناس في هذا الزمان قد غلوا في ذلك وكفروا من أرشدهم إلى اتباع السنة المخالفة لمذهبهم فشاهدت آثار الملال في بشرته صلى الله عليه وسلم من صنع الناس. هذا وكنت إذا سألته عن شيء أرى جسمي كأنه يمس جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم يتعطف علي ويقبل إلي ووجدت له صلى الله عليه وسلم بعد هذه المبشرة محبة عظيمة من قلبي حتى أحببت أن جعلني الله فداه وأقتل في الجهاد وأنا أحميه ووجدته صلى الله عليه وسلم يرضى بالعمل للحديث. انتهى. وبالجملة: كان له اليد الطولى في الرد على المقلدة كما يلوح ذلك من كتابه: حديث الأذكياء الملقب: بالشهاب الثاقب وغيره وله نظم رائق وشعر فائق بالفارسية والعربية يربو على نظم الأدباء المتقدمين والبلغاء المتأخرين ذكرت جملة صالحة منها في كتابي: إتحاف النبلاء وتذكرتي المسماة: بشمع انجمن فارجع إليهما وهو نظير: المحدث العلامة الشيخ: محمد فاخر المتخلص: بالزائر الإله آبادي تلميذ الشيخ

محمد حياة السندي المدني في إيثار الاتباع ورفض الابتداع والتمسك بالأدلة والتجنب عن الآراء المضلة. والعبد الضعيف أيضا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا ببلدة قنوج رأيته جالسا على سرير تحته يجري الماء الصافي فسلمت عليه وجلست على طرف من السرير موضع الحاشية أدبا منه صلى الله عليه وسلم مقبلا إليه فقال قولا لم أفهمه حق الفهم لكن قلت في جوابه: أين أنا من هذه الرتبة؟ ورأيت أن وراء ظهره صلى الله عليه وسلم عمارة كالحمام وقلة من رمان فأخذ رمانين منها وجاء إلي وأعطانيهما بيده الشريفة فتناولتهما ووقع لي ذهول ما في أثناء هذا الحال ثم أفقت ورأيت عمارة المدينة المنورة كأنها عمران قديم وديار بالية وسكك خالية ثم تيقظت والعين تجري بدموع وفي القلب من الراحة والسكينة مالا يعلمه إلا الله ثم تأملت في التأويل فوجدت أن الرمانين عبارة عن: العمل بالكتاب والسنة أو السفر إلى الحرمين الشريفين وقد وقع ما أولت - ولله الحمد - ونظمت هذه الرؤيا في أبيات أولها: رأيت رسول الله في النوم ليلة ... وقد كنت مشتاقا إليه متيما إلى آخر الأبيات العبد الفقير لما أنزل إليه من خير الباري أبو الطيب صديق بن حسن بن علي الحسنين القنوجي البخاري كان الله له في الدنيا والآخرة وحباه فيهما بنعمه الذاخرة الوافرة الفاخرة. تولد في سنة 1248هـ، ثمان وأربعين ومائتين وألف القدسية على صاحبها الصلاة والتحية ونشأ بموطنه بلدة قنوج وما إليها من الأقطار الهندية فهو مولده ومسكنه ومرباه ومحتده وداره ومثواه. يرجع نسبه إلى حضرة سيد السادة وقدوة القادة: زين العابدين علي بن حسين السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. تتلمذ العلوم الدرسية على الوجه المرسوم على شيوخ هذا العهد. منهم: الشيخ الفاضل المفتي: محمد صدر الدين خان الدهلوي من تلامذة الشيخ: الكامل عبد العزيز وأخيه الشيخ العامل: رفيع الدين ابني الشيخ الأجل مسند الوقت: أحمد شاه ولي الله المحدث الدهلوي رحمهم الله تعالى. واستفاد العلوم الملية من: التفاسير والأحاديث وما يليهما من مشيخة اليمن الميمون والهند. منهم: الشيخ القاضي: حسن بن محسن السبعي الأنصاري تلميذ الشيخ الماهر: محمد بن ناصر الحازمي تلميذ القاضي الإمام العلامة المجتهد المطلق الرباني: محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني. والشيخ المعمر الصالح: عبد الحق بن فضل الله الهندي. والشيخ التقي محمد يعقوب المهاجر إلى مكة المكرمة أخو الشيخ: محمد إسحاق حفيد الشيخ: عبد العزيز المحدث الدهلوي رحمهم الله تعالى.

وكلهم أجازوا له مشافهة وكتابة إجازة مأثورة عامة تامة. وممن استجاز منه: العالم الكامل والمحدث الفاضل الشيخ: يحيى بن محمد بن أحمد بن حسن الحازمي - قاضي عدن حالا - أجاز له حسب اقتراحه في ذي الحجة سنة 1295هـ الهجرية والشيخ العلامة زينة أهل الاستقامة السيد: نعمان خير الدين ألوسي زاده مفتي بغداد حالا أجاز له في هذا العام الحاضر وهو سنة 1296هـ الهجرية. ثم طالع بفرط شوقه وصحيح ذوقه: كتبا كثيرة ودواوين شتى في العلوم المتعددة والفنون المتنوعة ومر عليها مرورا بالغا على اختلاف أنحائها وأتى عليها بصميم همته وعظيم نهمته بأكمل ما يكون حتى حصل منها على فوائد كثيرة وعوائد أثيرة أغنته عن الاستفادة عن أبناء الزمان وأقنعته عن مذاكرة فضلاء البلدان. وجمع بعونه تعالى وحسن توفيقه ولطف تيسيره من نفائس العلوم والكتب ومواد التفسير والحديث وأسبابها ما يعسر عده ويطول حده. وأوعى من ضروب الفضائل العلمية والتحقيقات النفسية ما قصرت عنه أيدي أبناء الزمان ويعجز دون بيانه ترجمان اليراع عن إبراز هذا الشأن ولله الحمد على ما يكون وعلى ما كان. ثم ألقى عصا التسيار والترحال بمحروسة بهوبال من بلاد مالوة الدكن فنزل بها نزول المطر على الدمن وأقام بها وتوطن وأخذ الدار والسكن وتمول وتولد واستوزر وناب وألف وصنف وعاد إلى العمران من بعد خراب وكان فضل الله عليه عظيما جزيلاً. والحمد لله الذي فضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. ثم اختص بعونه تعالى وصونه بتدوين علوم الكتاب العزيز وأحكام السنة المطهرة البيضاء وتلخيصها وتلخيص أحكامها من شوب الآراء ومفاسد الأهواء. وهذا إن شاء الله تعالى خاص به في هذا العهد الأخير والله يختص برحمته من يشاء كيف وعلماء الأقطار الهندية وإن بالغ بعضهم في الإرشاد إلى اتباع السنة وقرره في مؤلفاته وحرره في مصنفاته على وجه ثبت به على رقاب أهل الحق والمنة وشمر بعضهم عن ساق الجد والاجتهاد في الدعوة إلى اعتقاد التوحيد ورد الشرك والتقليد باللسان والبيان بل بالسيف والسنان لكن لم يدون أحد منهم أحكام الكتاب العزيز وعلوم السنة المطهرة من العبادة والمعاملة وغيرها خالصة عن آراء الرجال نقية عن أقوال العلماء على هذه الحالة المشاهدة في كتبه المختصرة والمطولة: كالروضة الندية ومسك الختام شرح بلوغ المرام. وعون الباري.

وفتح البيان ورسالة القضاء والإفتاء والإمامة والغزو والفتن والنار ... وغير ذلك مما طبع واشتهر وشاع وسارت به الركبان إلى أقطار العالم من: العرب والعجم كالحجاز واليمن وما إليها ومصر والعراق والقدس وطرابلس وتونس والجزائر ومدن الهند والسند وبلغار ومليبار وبلاد الفرس. وهذا من فضل الله تعالى على عباده المؤمنين وكتب إليه علماء الآفاق ومحرروها ومحدثو الديار ومفسروها كتبا كثيرة أثنوا فيها على تلك التواليف ودعوا له بإخلاص الفؤاد لحسن الدنيا والأخرى - تقبل الله فيه هذه الدعوات وختم بالحسنى وأحسن إليه بتيسير المنجيات. وهذه الخطوط والرقائم قد ألحقت في خواتيم مؤلفاته فانظر إليها في تضاعيف محرراته يتضح لك القول الحق والكلام الصدق إن شاء الله تعالى. ثم خوله سبحانه من المال الكثير والحكم الكبير والآل السعداء والأخلاف الصلحاء والنسب الحميد والحسب المزيد ما يقصر عن كشفه لسان اليراع ولو كشف عنه الغطاء ما ازداد الواقف عليه إلا يقينا وإن يأباه بعض الطباع. وهو الذي يقول لأخلافه مقتديا بأسلافه بفم الحال ولسان المقال. {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وهو قد طعن الآن في عشر الخمسين من العمر المستعار مع ما هو مبتلى به من: سياسة الرياسة وقلة الشغل بالعلم والدراسة وفقد الأحبة والأنصار وتسلط الأعداء الجاهلين بالقضايا والأقدار. والمرجو من حضرة رب العالمين أن يجعله ممن قال فيهم: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} والحمد لله الذي جعله محسودا ولم يجعله حاسدا وخلقه صابرا شكورا ولم يخلقه فظا غليظ القلب عانداً ولله در الحسد أعدله ... بدأ بصاحبه فقتله. وهذه أسماء كتبه المؤلفة على ترتيب حروف المعجم المطبوعة في مطابع بهوبال المحمية ومصر والقسطنطينية والشام وغيرها من البلاد العظام ويزيد الله في الخلق ما يشاء وهو المتفضل ذو الإنعام: الألف أبجد العلوم ع إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين ف الاحتواء على مسألة الاستواء هـ الإدراك لتخريج أحاديث رد الإشراك ع الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ع أربعون حديثا في فضائل الحج والعمرة ع إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ ف الإكسير في أصول التفسير ف إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة ع الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح ع. الباء الموحدة بدور الأهلة من ربط المسائل بالأدلة ف بغية الرائد في شرح العقائد ف البلغة إلى أصول اللغة ع بلوغ السول من أقضية الرسول ع.

التاء الفوقانية تميمة الصبي في ترجمة الأربعين من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هـ الثاء المثلثة ثمار التنكيت في شرح أبيات التثبيت ف. الجيم الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة ع. الحاء المهملة حجج الكرامة في آثار القيامة ف الحرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون ع حصول المأمول من علم الأصول ع الحطة بذكر الصحاح الستة ع حل الأسئلة المشكلة ف. الخاء المعجمة خبية الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان ع. الدال المهملة دليل الطالب إلى أرجح المطالب ف. الذال المعجمة ذخر المحتي من آداب المفتي ع. الراء المهملة رحلة الصديق إلى البيت العتيق ع الروضة الندية شرح الدرر البهية ع رياض الجنة في تراجم أهل السنة ع. السين المهملة السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم ع وهو القسم الثاني من هذا الكتاب: سلسلة العسجد في ذكر مشائخ السند ف. الشين المعجمة شمع انجمن در ذكر شعراء زمن ف الصاد المهملة الصافية في شرح الشافية ف في علم الصرف. الضاد المعجمة ضالة الناشد الغريب من بشرى الكئيب في شرح المنظوم المسمى: بتأنيس الغريب ف.

الظاء المعجمة ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي ع. العين المهملة العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة ع العلم الخفاق من علم الاشتقاق ع عون الباري بحل أدلة البخاري ع أربع مجلدات. الغين المعجمة غصن البان المورق بمحسنات البيان ع غنية القاري في ترجمة ثلاثيات البخاري هـ. الفاء فتح البيان في مقاصد القرآن ع أربع مجلدات فتح المغيث بفقه الحديث هـ الفرع النامي من الأصل السامي ف. القاف قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل ع قضاء الأرب من مسألة النسب ع قطف الثمر من عقائد أهل الأثر ع. الكاف كشف الالتباس عما وسوس به الخناس في رد الشيعة بالهندية. اللام لف القماط على تصحيح بعض ما استعملته العامة من الأغلاط ع لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان ع. الميم مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام ع مراتع الغزلان من تذكار أدباء الزمان ع مسك الختام من شرح بلوغ المرام ف مجلدان ضخيمان منهج الوصول إلى اصطلاح أحاديث الرسول ف الموعظة الحسنة بما يخطب به في شهور السنة ع. النون نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان ع نيل المرام من تفسير آيات الحكام ع. الواو الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم المنثور منها والمنظوم وهو القسم الأول من هذا الكتاب ع. الهاء هداية السائل إلى أدلة المسائل ف.

الياء يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار ع. وهذا آخر ذكر الكتب المؤلفة إلى هذا التاريخ. قال المحقق: ويرمز حرف ع إلى أن المؤلف هو باللغة العربية وحرف ف بالفارسية وحرف هـ بالهندية ثم اتفق أنه أتحف إلى حضرة السلطان المعظم: عبد الحميد خان ملك الدولة العثمانية تفسيره: فتح البيان في مقاصد القرآن وكتب إليه كتابا في ذلك فجاء إليه من بابه العالي المثال الغالي جوابا عليه مع نشان الدرجة الثانية المسمى بمجيدية ويقال له: ارنجي بالتركية. وورد مكتوب من السيد: خير الدين باشا الصدر الأعظم مع كتاب: أقوم المسالك في أحوال الممالك هدية منه إليه وهذه نسختهما: افتخار1 الأعالي والأعاظم مستجمع جميع المعالي والمفاخم صديق حسن خان دام علوه زوج سيدة المخدرات إكليلة المحصنات شاهجان بيكم دامت عصمتها التي هي من نوابة هند رئيسة خطة بهوبال اتصفت ذاته العالية الصفات بالأوصاف التي تمدح وتقبل لنا في حق كرامته اعتبار وتوجه سلطاني وقد سلمنا جنابه للدلالة على ذلك من جانبنا السني الجواب السلطاني قطعة نشان ذي الشان من الرتبة الثانية وأصدرنا إليه هذه البراءة العالية الشان حرر في اليوم العشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين وألف. انتهى. وقد هناه على ذلك جمع جم من أهل العلم وأرخ له المؤرخون من شعراء الرياسة منها: قصيدة الشيخ الأديب والسفير اللبيب: محمد حسن بن محمد إسماعيل الدهلوي المتخلص: بالفقير أولها: تجلى لنا نور الهنا ووفى البشر ... ومن زهر أفنان الورى عبق النشر وعندل طير الأنس في روضة المنى ... على فنن الأفراح وانشرح الصدر وهذه القصيدة بتمامها مع الكتابة التي كانت على اسم حضرة السلطان محررة في تاريخ بلدة بهوبال المحمية صانها الله وإيانا عن كل رزية وبلية بجاه نبيه المصطفى خير البرية صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه كل بكرة وعشية. السيد الصالح: أبو الخير مير نور الحسن خان الطيب ولد المؤلف الكبير جمل الله الوجود ببقائه وعطر الأكوان بثنائه ولد ببلدة بهوبال المحمية يوم الأربعاء قبيل طلوع الشمس في الحادي والعشرين من شهر رجب سنة ثمان وسبعين ومائتين وألف الهجرية ويوم ولادته هذا وافق يوم ولادة يونس بن متى عليه السلام ويوم فتح غزوة الأحزاب لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم وحين ولد كتب أهل العلم تهاني كثيرة منهم: شيخنا وأستاذه

_ 1 ترجمته بالفارسية من أفندي محمد نجيب العالم التركي مصحح المطبعة الخديوية أزنوا به هندربا رئيسة خطة بوهبال سيدة المخدرات إكليلة المحصنات شاهجهان بيكم دامت عصمتها جون شوهر علي كوهرش افتخار الأعالي والأعاظم مستجمع جميع المعالي والمفاخم صديق حسن دام علوه بأوصاق ممدوحة ومقبولة متصف بذات معالي صفات ست ورحق بزر كواريش اعتبار وتوجه شابانه مارست براي دلالت ازجانب سنى الجوانب فلو كان مازدوم رتبة نشأن ذي شان مجيدي يك قطعة بجانب مشار إليه عط شدة ابن براءت عالي شان ماتصدير شد حرر في اليوم العشرين من شهر الربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين وألف الهجرية. انتهى.

القاضي: حسين بن محسن اليماني قال: هنا كم الله بالمولود السعيد وجعله من حملة القرآن والحديث المجيد ومنهم: الشيخ زين العابدين الأنصاري قاضي بهوبال حرر الكتاب وصدره بهذه الأبيات: بشرى لقد طلعت شمس العلى وبدا ... بدر السيادة في أفق الكرامات در من البحر بحر العلم قد ظهرا ... نور تفتح من روض السعادات أبقاه رب الورى بالصالحات معا ... وأنبت الله سعدا خير إنبات قال: وقد قلت عند حصول هذه النعمة وورودها ما كانت العرب تقوله عند التهاني بمولودها: مد لك الله في الحياة مدا ... حتى ترى نجلك هذا جدا كأنه أنت إذا تبدى ... شمائلا محمودة وعدا هناكم الله مولده وقرن بالخير مورده وأطال عمره وأسعده وجعله مقربا في جنابه ورباه في ظلال السادة أهل كتابه وكتب الشيخ الأديب: علي عباس الجرباكوني رسالة فيها: نصدر إليكم المسطور للتهنية والتبشير بالولد الصالح الفاقد النظير وأرجو من الله أن يكون عالما بارعا وإماما نافعا وأميرا عادلا وكريما باذلا وقد وجدت له اسمين دالين على تاريخ ميلاده ظهير الإسلام ونظير حسن وقلت أيضا: ليحبني بحت الوداد وسنحته ... لا زال يصطاد الخلائق فخنته أعطاه معبود السماء وأرضها ... ولدا منيرا ضحه أوفخته قد قال لي أرخ وسر الأفئدة ... قد قلت تاريخا يا كرم بخته إلى غير ذلك مما هنأ به جمع جم من أهل العلم والوداد وقد وقع لله الحمد كما هنوه به فإنه قد نشأ على الصلاح والطاعة ونمى في شغل العلم بقدر الاستطاعة وبرع في الذكاء والفطرة على الأقران وحاز من التقوى والفضائل مع حداثة سنه ما عجز عنه الأعيان تتلمذ على جمع من أهل العلم الحاضرين ببلدة بهوبال المحمية الملازمين للرياسة العلية. منهم: الشيخ العالم المفتي: محمد أيوب والشيخ الفاضل المولوي: أنور علي المراد آبادي والمولوي: إلهي بخش الفيض آبادي والمولوي الكامل القاضي: محمد بشير الدين العثماني القنوجي والشيخ العالم: محمد بشير السهسواني وشيخنا العلامة المحدث: حسين بن محسن الأنصاري اليماني وهذا العبد الفاني الجاني وهو الآن في كسب الفضائل والعلوم المنطوق منها والمفهوم له بعض تأليفات نفيسة. منها: رسالة النهج المقبول من شرائع الرسول وكتاب: عرف الجادي من جنان هدي الهادي وهما في فقه السنة حررهما تحريرا بالغا وتذكرة في شعراء الفرس سماه نكارستان سخن وتذكرة أخرى في شعراء الهند وتعليقات على بعض العلوم الآلية وهو المقصود الأول والوجود الثاني لمحرر هذا الكتاب أثبت ترجمته أولا في كتابي: إتحاف النبلاء وثانيا في تذكرتي للشعراء المسماة: بشمع انجمن وهي أيضا محررة في صبح كلشن وغيره وجمعت له من الكتب النفيسة العزيزة الوجود خزينة ومن الأموال المحللة عدة يعيش بها عيشة رضية إن شاء الله تعالى وهو المخاطب من جهة الرئيسة المعظمة: بالخان والملحوظ بعين الشفقة الزائدة على الأقران له شعر حسن بالفارسية وكلام بليغ في العبائر الأدبية أدام الله سعده وأطال حياته ومجده.

السيد الشريف: أبو النصر مير علي حسن خان الطاهر ولد المؤلف الصغير ولد ببلدة بهوبال المحمية ونشأ بها في أرغد نعمة وأطيب أمنية وكانت ولادته هذه يوم الخميس رابع الربيع الآخر من سنة 1283هـ، ثلاث وثماني ومائتين وألف الهجرية ذكرت له ترجمة في كتابي: إتحاف النبلاء وهي محررة أيضا في شمع انجمن تذكرة الشعراء. قرأ الفارسي على الحكيم المولوي: محمد أحسن البلجرامي - مؤلف ارتنك فرهنك - وأخذ الصرف والنحو وهو يكتسب الآن بقية العلوم له ذكاء وفطنة وهمة وسعادة عظيمة يتدرب في الشعر حرر تذكرة لشعراء الفرس وسماها: صبح كلشن وإليه ينسب: شرح المرقاة في المنطق الذي استفاده من المولوي: إلهي بخش الفيض آبادي يحفظ من النظم العربي والفارسي قسطا كبيرا له حواش على مؤلفاتنا كما هي لأخيه ورسالة في: حكم التقليد كما لأخيه في الاجتهاد وقد طبعتا لهذا العهد في مطبعة الجوائب بالقسطنطينية وعليه شفقة عظيمة للرئيسة المعظمة وهي التي خاطبته: بالخان وأعطته من المعايش ما يكفي لمؤون الزمان وكذلك هو أحب أولادي إلي وإن كان قليل الاعتناء بالعلم وبما لدي لكن أرجو ربي أن يجعله من أهل العلم وخلص عباده ويخصه باعتمال مرضاته ومراده وما ذلك عليه بعزيز وكم دعوت له ولأخيه وأخته في الحرمين الشريفين وأماكن الإجابة وظني أن دعواتي قد حلت إن شاء الله تعالى محل القبول والاستجابة ولا عبرة بحركات عهد الصبا إنما العبرة بما يستقر عليه الحال عند الانتهاء - أحسن الله إلينا جميعا فإنه سبحانه كان بصيراً سميعاً.

علماء بلدة بهوبال المحمية

علماء بلدة بهوبال المحمية أي الواردين بها الملازمين للرياسة العلية وهم كثيرون وإن كانوا غرباء من بلاد شتى وقد حوى تراجمهم كتاب: تاريخ بهوبال الذي حرره بعض الفضلاء وحالتهم الراهنة وصفتهم الحاضرة تغني عن ذكرهم في هذا الكتاب ومؤلفاتهم الموجودة بين ظهراني الطلبة تنبئ عما في الباب كيف والفضل لا يخفى على الفضل والفرض لا يشتبه بالنفل ولكن لا بد هاهنا من ترجمة مليكة هذه الرياسة فإنها التي جمعت هؤلاء وهم الذين اجتمعوا على سدتها الرفيعة مستجدين للعطاء وهذه ترجمتها أدام الله تعالى رفعتها وأطال عصمتها. تاج الهند المكلل: أهل بيتي نواب شاهجهان بيكم مليكة بلدة بهوبال المحمية ومالكة رياستها العلية - جمل الله الوجود ببقائها - المخاطبة: بالرئيس البطل الأعظم من الطبقة العليا للكواكب الهند ولدت بحصن إسلام نكر على ثلاثة فراسخ من بهوبال في سنة 1254هـ، وجلست مجلس أبيها بالاستحقاق من غير شقاق وهي ابنة تسع سنين في الخامس عشر من شهر الله المحرم سنة 1263هـ، وأتت إليها خلعة فاخرة من جهة ملكة البرطانية حاكمة الهند والإنكلند وربت في حجر أمها: نواب سكندر بيكم وحصلت الفنون الفارسية وتعلمت الخط والكتابة واستفادت سليقة الرياسة والسياسة حتى برعت في ذلك على الأقران وامتازت بينهم في القدرة على ترجمة القرآن وتحرير الرسائل الدينية وتقرير المسائل الدولية جامعة للفضائل الدنيوية والأخروية يضرب بها المثل في: الذكاء والحفظ والكرم والرحمة والجود فهي إنسان عين الشهود وعين إنسان الوجود.

ولما بلغت من العمر اثنتين وعشرين سنة فوضت عنان الرياسة إلى يد اقتدار أمها واكتفت لنفسها بولاية العهد وهذا غاية الهمة والجود فإنه لا يسمح بذلك إلا القليل النادر وحين توفت والدتها الشريفة في شهر رجب من شهور سنة 1285هـ، جلست على مسند الرياسة وشرفت محل السياسة من جهة الأبوين ثم تزوجت بي في سنة 1288هـ، بعد ما أجازته بذلك السلطنة البرطانية في عهد حكومة لارد ميو حاكم الهند - نزيل دار الإمارة: كلكته وتاريخ هذا العقد: بتعمية العدد الواحد وأخرى تحبونها ويا له من تاريخ ينبئ عن حسنات الدارين. أما الأولى: وهي حسنة الدنيا فعموم النفع الذي سألت سيوله بهذا السبب. وأما الثانية: فهي حب عقبي الدار وفي نحو هذا المحل يقال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . ثم إنها سافرت في شهر رمضان إلى بندر ممبيء في سنة 1289هـ، وهناك حصل له الخطاب العالي من الدرجة الأولى والنشان السلطاني المعنون بقلم الوزير الأعظم الذي يقال له: ممبراف دي امبرئيل آردر أف دي كرند كمندر اشتاراف إنديا ورجعت قريرة العين بإعزاز خاص واختصاص عام إلى دار مملكتها. وسافرت بعد ذلك في أواخر ذي قعدة سنة 1292هـ الهجرية إلى دار الإمارة: كلكته ولاقت بها برنس: اف ويلز أكبر أولاد ملكة إنكنلد وولي عهدها. وقد عظمها تعظيما بليغا وأعطاها تمغة نبيلة وتحائف جليلة من التي تعمل بإقليم إفرنج وكذلك لاقت قبل ذلك أخاه: برنس ايدنبرا ورأت من تلقائه تشريفا كبيرا وأرسل لها من لندرة أشياء نفيسة وكنت رفيقها في هذه الأسفار كما جرت بذلك العادة. ثم سافرت أخرى إلى دهلي في سنة 1294هـ، وحصل لها النشان القيصري العظيم الشأن المكتوب عليه العز من الله وأعطاها كورنر جنرل سيفا فرنجيا مع نطاق مطلي وصندوق محلى وهو موجود عندنا نربطه في المحافل ورجعت قرينة السرورة العظيم راقية على مقام كريم وفي هذا الاحتفال الكبير والجمع الغفير الذي حضر فيه رؤساء الهند جميعهم قاصيهم ودانيهم ولا يلفى له نظير في الأزمنة الخالية على هذه الحالة تقرر لنا ضرب سبعة عشر مدفعا من جهة ملكة إنكلند في جميع أرضها المعمولة فيها عند ورودنا وصدورنا في تلك البلاد ثم جاء لها خطاب آخر لفظه: كرون أف إنديا وترجمته: تاج الهند وفي هذا العام الحاضر أعني سنة 1296هـ الهجرية ورد مثالان عظيمان على اسمها الشريف مع نشان الدرجة العليا التي يقال لها شفقت من جهة السلطان المعظم مالك رقاب الأمم: عبد الحميد خان ملك الدولة العثمانية خلد الله ملكه وجعل الدنيا بتمامها ملكه وهذه عبارتها مترجمة. والحاصل: أن مليكة بهوبال المحمية زمانها هذا زمان السعادة وأوان ترقي العلوم وموسم المسرة والرفعة لكل خادم ومخدوم كيف وهي تاج الهند ورأس الرؤوس؟ وقد قيل في المثل السائر: لا عطر بعد عروس وهي التي عمرت الديار بعد خرابها وأحيت المدارس العلمية بعد دروسها وتبابها وبنت المساجد العظيمة وقررت الوظائف الفخيمة وحفرت الآبار وغرست الحدائق والأشجار وأحدثت العمائر الكبار وأكرمت الصغائر والصغار وأحيت السنن وأماتت البدع وقلعت أسباب الفجور

والفسوق وأخمدت نار الصبوح والغبوق وطهرت الديار عن أدناس الإشراك والمحدثات. وأسبلت ذيول المنح والعطايا على أهل المكرمات وجمعت من نفائس الكتب على اختلاف أنواعها وتباين علومها ما يعظم قدره ويجل وصفه وأعطت الطلبة ألوفا من المصاحف والرسائل الدينية مجانا ولم تحرم من نوالها وجودها إنسانا وأوقفت أرزاقا كثيرة على الفقراء والمحاويج وقررت لهم وظائف جمة من النقود والغلات ولا تزال تعطي العفاة والواردين بمملكتها من الحجاج والغزاة والمسافرين والطلبة والمساكين من الأموال والأقمشة والبيوت ما يعسر حده ويطول عده إلى أن سالت سيول فيوضها العامة لكل حاضر وبادي وجالت خيول جودها في كل بادية ووادي وأمن الناس في ظلها الوارف من كل خوف تالد وطارف تتحرى الصدق والصواب في كل إياب وذهاب وتقيم الصلاة والصوم عند كل يقظة ونوم لها يد عاملة في النظم فارسيا كان أو هنديا ويمنى جارحة في النثر إنشاء سويا ونظمها مضبوط في ديوان الشعر وفي تذكرة الشعراء وقد حرر ترجمتها جمع جم من عصابة الأدباء. وبالجملة: فقد جاءت في هذا الزمان الأخير والدهر الفقير جامعة للفضائل التي قلما تجتمع في رجل فضلا عن النسوان حاوية للفواضل التي قصر دون تبيانها لسان الترجمان وهذه ذرة من ميدان مناقبها العلية وقطرة من بحار مكارمها الجلية. فلنقتصر هاهنا على هذا القدر النذر فإن المقام لا يتسع لذكرها على وجه الكمال أدام الله أيامها وسخر لها الدنيا تمامها وجعل آخرتها خيرا من الأولى وأولاها مزرعة للأخرى إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.

§1/1