آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم في ضوء العصمة والإجتهاد

عويد المطرفي

ـ[آيات عتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في ضوء العصمة والاجتهاد]ـ تأليف: د. عويد بن عيَّاد بن عايد المطرَفي الناشر: كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز - مكة المكرمة حرسها الله تعالى الطبعة: الثالثة، 1426 هـ - 2005 م عدد الأجزاء: 1 أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مقابل]

_ فائدة: يقول مصحح النسخة الإلكترونية: بعد دراسة مستفيضة لآيات العتاب الواردة في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبين لي أنها في حقيقتها مدح إلى مدح وكمال إلى كمال ورفعة إلى رفعة ونور على نور، والمتأمل فيها يجد أن تكشف بجلاءٍ ووضوح عن أنوار وإشراقات من جانب الرحمة في التركيبة المحمدية التي وصفها الله تعالى بقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107). ولولا هذا العتاب لمرَّ الناس على هذه الآيات مرور الكرام. فتأملها ستجد عجباً. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده، ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهدى به الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إلى سواء الصراط، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة يوم لا ينفع مال، ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً، وهادياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، أدبه ربه فأحسن تأديبه، وكمله بأفضل الصفات، والخلق العظيم، وشرفه - صلى الله عليه وسلم - بإنزال أفضل الكتب عليه، وعلّمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً. * * * * *

خطر المناهج الأجنبية على المسلمين

خطر المناهج الأجنبية على المسلمين المقدمة وبعد. . فمن المؤسف حقاً أن المسلمين -اليوم- يقلدن غيرهم من أعداء الإسلام والمسلمين في مناهج التعليم وسبله ويأخذون عنهم أساليبهم التربوية والفكرية مأسورين بوطأة التقدم المادي الذي حققه أولئك الأعداء الذي يعلمون به ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة -غافلون- غافلين عما يدسه أولئك الأعداء الألداء في مناهجهم المصدرة إلى المسلمين من سموم ينفثونها في قلوب وعقول الذين يأخذون عنهم - ممن يكونوا في درع من الإيمان، أو يتقبلون مناهجهم مغترين بمعسول القول وبهرج الكلام، الذي يكسون به طرائقهم التعليمية الدينية والتاريخية والنفسية والاجتماعية، باسم المنهجية والموضوعية، والبحث العلمي مما هو في الواقع هدم للحقائق العلمية في أكثره، وإبطال للموازين الدينية العادلة وتشكيك للمسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، أو صرفهم عنه. وبهذا التقليد يتأثر شباب الإسلام، فتسري إلى نفوسهم بعض الشبه التي لا تمكنهم دراستهم الإسلامية من دفعها، وإبطالها، ومن ثَمَّ ترسخ تلك الشبه في نفوسهم فيخشى عليهم منها في عقائدهم وسلوكهم ويخشى منها على من تنتقل إليه من عامة المسلمين. * * * من مفتريات أعداء الله ورسوله ومن هذه الشبه شبه يقيمونها على ما يتعلق بالقرآن الكريم، ومنها شبه يثيرونها حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخطابه عليه الصلاة والسلام ببعض الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت لتعليمه، وتوجيهه، وتربيته، أو جاءت لإبطال عادة جاهلية بشرع حُكمٍ لها، وأجراه الله على يديه الشريفة ليكون ذلك أوقع في نفوس المؤمنين وأثبت لقلوبهم في اجتثاث العادة الجاهلية من أفئدتهم بوصفه - صلى الله عليه وسلم - قدوة الأمة الإسلامية في جميع أحوالها وأمورها الدينية

انسياق وغفلة

والدنيوية كإبطال الله تعالى عادة التبني الجاهلية بتزويجه - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش التي كانت زوجة لمولاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، الذي كان قد تبناه قبل إكرام الله له بالنبوة. وقد بنى أولئك الأعداء الحاقدون على هذه الشبه التي افتروها وغيرها طعونهم الظالمة وباطلهم المظلم، واستعانوا على غوايتهم وإغوائهم بما يوجد في بعض كتب التفسير من إسرائيليات، وقصم وروايات باطلة سنداً ومعنى، أو بنوها على فهوم لبعض من علماء المسلمين لم توافق الصواب لبعض مما خوطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آيات كريمة بنوا عليها ترهاتهم، وأكاذيبهم، وعززوا بها تشكيكهم في قلوب الذين يقعون تحت تأثيرهم، وجعلوها متكأ لما يزعمونه من طعون ظالمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى بعض من إخوانه الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ممن وردت آيات كريمة في خطابهم تشير إلى لون من التربية الإلهية لأولئك المصطفين الأخيار -مع ما هم عليه من كمال في الخلق وإخلاص في العمل- لرفعة شأنهم وعظيم منزلتهم عند الله تعالى لكونهم قدوة البشر فيما يراد لهم من أمور يحسنون السمت فيها لنيل عظيم الدرجات عند الله تعالى. * * * انسياق وغفلة وسار في هذا الطريق قوم من المسلمين اعتماداً على تلك الروايات الباطلة التي يتوسع فيها رواتها بذكر قصص لا تصح أسانيدها، ولا تقبل متونها لما فيها من مساس بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولما فيها من سوء أدب في التعبير ناشئ عن تهاون وغفلة، أو عن قصور في التفكير، وعدم تنبه لما تحمله تلك الروايات من إساءات إلى مقام أولئك الأنبياء الأطهار عليهم الصلاة والسلام.

أسباب كتابة هذا البحث

أسباب كتابة هذا البحث وقد أفزعى تهاون هؤلاء، وتقحم وتجرؤ أولئك على القول في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما ذكروا في تلك الروايات الباطلة، واعتبارهم ما جاء فيها من سيئ القول أمراً مقبولاً عندهم فحزمت أمري ونهضت للرد عليها وخصصت هذه الرسالة بالرد على ما قيل في آيات عتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأخذت أجيل النظر والفكر قارئاً وباحثاً فيما كتب عنه - صلى الله عليه وسلم - من كتابات ودراسات وبحوث تفرق العد علّني أجد من تناول ما قيل في هذه الآيات الكريمة بالبحث والتحقيق مستضيئاً بما فيها من نور الحق لرد ما نسج حولها من روايات وقصص باطلة فلم أر بحثاً مستوعباً لمسائل لهذا الموضوع لأحد من العلماء المتقدمين، أو المتأخرين في رسالة، أو كتاب مخصرص به، وإنما الذي ذكره العلماء - رحمهم الله تعالى - مسائل حول بعض هذه الآيات الكريمة والرد على ما قيل فيها من سقيم القول، هذه الردود منثورة في ثنايا الحديث عن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كتبوا عن حياته المباركة الشريفة - صلى الله عليه وسلم - وأشهر من كتب في هذا القاضي عياض في الشفاء، والقسطلاني في المواهب. * * * منهجية البحث والتناول وقد تناولت هذه الآيات الكريمة بالبحث والتحقيق، لبيان المراد بها -في سياقاتها من السور التي هي فيها- خطاباً لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رفعاً لما تجده الكثرة الغالبة من الناس من توقف في فهمها، ودفعاً لكيد

وحقد أعداء الله تعالى وأعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من المستشرقين والمنصرين -المبشرين بزعمهم- الذين يقلدهم كثير من المسلمين اليوم، ويعجبون بكتاباتهم دون وعي لما تحمله من سموم. وأرجو أن أكون قد وفقني الله تعالى لما قصدته من وضع الأمور في هذه الآيات الكريمة موضعها على ميزان الحق حباً في الله تعالى وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحباً للحق، وتثبيتاً للمؤمنين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وقد سميت رسالتي هذه [أحادياث عتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فى ضوء العصمة والاجتهاد]. وإنما سميتها كذا لقيام العصمة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبوت الإذن له بالاجتهاد، فيما لم ينزل عليه فيه وحي من الله تعالى، وهما يرفعان الحرج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف جاء العتاب، وهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم مأذون له في الاجتهاد؟ هذا ما ستوضحه أبواب هذه الرسالة، وبحوثها إن شاء الله تعالى. وهي تتكون من خطبة، ومقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة. أما الخطة ففيها الثناء على الله بما ألهمني مما هو أهله من الحمد والثناء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما المقدمة فقد ذكرت فيها سبب اختياري لهذا الموضوع كما ذكرت آنفاً. وأما الباب الأول ففي عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويشمل:

1 - تعريف العصمة لغةً واصطلاحاً. 2 - مواقع العصمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: - (أ) عصمتهم في فترة ما قبل النبوة. (ب) عصمتهم بعد النبوة: 1 - عصمتهم من الكفر. 2 - عصمتهم في التبليغ. (ج) تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر. (د) عصمتهم عليهم الصلاة والسلام من صغائر الذنوب وكبائرها في هذه الفترة. وأما الباب الثاني ففيه بحث الاجتهاد ويشمل: 1 - شريف الاجتهاد لغة واصطلاحاً. 2 - عرض آراء العلماء في: هل كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - حق الاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي أو ليس له ذلك؟ وترجيح ما يؤيده الدليل، وتعضده الوقائع. أما الباب الثالث ففيه: 1 - بيان معنى العتاب وحقيقته. 2 - بيان معنى الذنب، وتحليل الآيات القرآنية الكريمة التي ورد فيها ذكر الذنب مضافاً إلى ضمير خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سياقها توصلاً لمعرفة المراد به فيها. 3 - بيان معنى التوبة واختلافها باختلاف التائبين.

4 - ويشمل بيان معنى العتاب بيان أنواعه في الآيات التي وقع فيها البحث، وهو -فيما تبين لنا من البحث- يتنوع إلى ثلاثة أنواع: - النوع الأول: وسميناه عتاب التوجيه وهو ينقسم إلى فرعين: الفرع الأول: عتاب الدفع وتقوية العزيمة للنهوض بأعباء الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة. الفرع الثاني: عتاب الإقصار. النوع الثالث: وسميناه عتاب التنبيه. النوع الألث: وسميناه عتاب التحذير. ثم أجرينا البحث في الآيات التي قيل إن فيها عتاباً لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أساس هذا التنويع فكان في النوع الأول بفرعيه: خمس آيات. وفي النوع الثاني: من آيات في خمسة مواضع. وفي النوع الثالث: عشرون آية في ثمانية مواضع. وأما الخاتمة: فهى إجمال موجز لموضوع هذه الرسالة وبيان لفائدة هذا البحث. عويد بن عياد بن عابد المطرفي مكة المكرمة ص - ب 8515

الباب الأول عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

الباب الأول عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 1 - تعريف العصمة لغة وشرعاً. 2 - مواقع العصمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: (أ) عصمتهم في فترة ما قبل النبوة. (ب) عصمتهم بعد النبوة: - 1 - عصمتهم من الكفر 2 - عصمتهم في التبليغ (ج) تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر. (د) عصمتهم عليهم الصلاة والسلام من صغائر الذنوب وكبائرها في هذه الفترة

العصمة في اللغة

العصمة في اللغة يحسن بنا قبل الخوض في معنى العصمة في اصطلاح أهل الاختصاص من العلماء أن نحدد معناها في اللغة، إذ الاصطلاح مرتبط بالوضع اللغوي وناشى منه. وهأنذا أعرض تعريفات أئمة اللغة ليتضح الغرض ويستبين الأمر. 1 - قال الخليل بن أحمد -فِي كتاب العين-: "العصمة أن يعصمك الله من الشر، أي: يدفع عنك، واعتصمت بالله أي: امتنعت به من الشر واستعصمت أي: أبيت". 2 - وقال ابن السكيت: " عصمه يعصمه عصماً وعصمةً إذا منعه، وقد عصمه الطعام أي: منعه من الجوع ". 3 - وقال ابن الأنباري في شرحه لقول زهير بن أبي سلمى:

لحي حلال يعصم الناس أمرهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم قال: ". . . ومعنى يعصم: يمنع، كما قال الله - عز وجل -: (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي: لا مانع ". وقال في شرحه لقول عمرو بن كلثوم: بأنا العاصمون بكل كحل ... وأنا البازلون لمجتدينا " العاصمون: المانعون، يقال: عصم الله سبحانه وتعالى فلاناً أي: منعه من التعرض لما لا يحل له، وقال جل ذكره: (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) فمعناه: لا مانع.

قال الشاعر: وقلت عليكم مالكاً إن مالكاً ... سيعصمكم إن كان في الناس عاصم معناه: سيمنعكم. 4 - قال الأزهري -في تهذيب اللغة-: " العصمة في كلام العرب: المنع، وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه، واعتصم فلان بالله إذا امتنع به، واستعصم إذا امتنع وتأبَّى. قال الله تعالى حكاية عن امرأة العزيز في أمر يوسف - عليه السلام - حين راودته عن نفسه: (فَاسْتَعْصَمَ) أي: تأبَّى عليها، ولم يجبها إلى طلبها ". إن تفسير الأزهري (استعصم) بـ (تأبى) يشعر بمقاومة النفس ومنعها مما هي متمكنة منه إذ التأبِّي هو أشد الامتناع.

ثم قال الأزهري: " قال الزجاج فِي قوله تعالى (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) أي: يمنعني من الماء، قال: " والحذاق من النحويين اتفقوا على أن قوله (لا عاصم) بمعنى: لا مانع. 5 - قال ابن فارس - في معجم مقاييس اللغة -: " عصم: العين والصاد والميم أصل واحد صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة والمعنى في ذلك كله معنى واحد، ومن ذلك العصمة: أن يعصم الله تعالى عبده من سوء يقع فيه. واعتصم العبد بالله تعالى إذا امتنع واستعصم: التجأ، تقول العرب: اعصمت فلاناً: أي هيأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده أي يلتجئ ويتمسك به. قال النابغة: يظل من خوفه الملاح معتصماً ... بالخيزرانة من خوف ومن رعد قال ابن السكيت -في تعليقه على هذا البيت في ديوان النابغة-: " قال -

الأصمعي: معنى معتصماً: مستمسكاً. 6 - وقال الجوهري -في الصحاح-: " العصمة: المنع. يقال: عصمه الطعام: أي منعه من الجوع. والعصمة: الحفظ يقال: عصمته فانعصم. واعتصمت بالله: أي امتنعت بلطفه من المعصية. 7 - وقال ابن منظور -في لسان العرب- " العصمة في كلام العرب: المنع ". وقال: " عصمه يعصمه عصماً: منعه ووقاه. وفي التنزيل (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ). . واعتصم فلان بالله إذا امتنع به، والعصمة: الحفظ، يقال: عصمته فانعصم. ثم قال: " والعصمة: المنعة، والعاصم: المانع الحامي، والاعتصام: الامتساك بالشيء افتعال منه. ومنه شعر أبي طالب ثمال اليتامى عصمة للأرامل أي يمنعهم من الضياع والحاجة. وفي

حاصل ما تدل عليه أقوال أهل اللغة

الحديث: "فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم". وذكر الزبيدي (31) هذا المعنى في تاج العروس، وقد سبقهما إلى هذا ابن الأثير في النهاية. ومن النظر في هذه الأقوال التي سقناها يظهر أن معنى العصمة في اللغة -أعني الاستعمال في الوضع عند خُلَّص العرب- يدور على معنى المنع والامتناع. * * * حاصل ما تدل عليه أقوال أهل اللغة ويدل على ذلك صراحة كلام ابن فارس الذي سبق أن عرضناه في أن حروف (عصم) وهي العين والصاد والميم أصل واحد صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة، وما نص عليه الأزهري في التهذيب وابن منظور في اللسان من أن المنع أصل معنى العصمة في كلام العرب.

وعلى هذا المعنى دار كلام حذاق المفسرين، والأثريين. قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى - في تفسيره لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال: " وأصل العصم: المنع، فكل مانع شيئاً فهو عاصمه والممتنع معتصم به "، ومنه قول الفرزدق: أنا ابن العاصمين بني تميم ... إذا ما أعظم الحدثان نابا وقال في تفسيره لقول الله تعالى (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ): " أي يمنعك من أن ينالوك بسوء، وأصله من عصام القربة وهو ما توكأ به من سير وخيط، ومنه قول الشاعر: وقلت عليكم مالكا إن مالكا ... سيعصمكم إن كان في الناس عاصم أي يمنعكم ".

وقال تفسيراً قوله تعالى: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ): " يقول سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء فيمنعني منه أن يغرقني. ويعني بقوله (يَعْصِمُنِي) يمنعني مثل عصام القربة الذي يشد به رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها ". وفي قول الله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) قال: " من ذا الذي يمنعكم من الله إن هو أراد بكم سوءاً في أنفسكم. وفسر (العاصم) بالمانع في قوله تعالى: (مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ) وقوله تعالى (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) وقوله تعالى (مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ). فكلام هذا الإمام - رحمه الله تعالى - يدل على أن مادة (عصم) في القرآن الكريم حيثما وردت بشتى تصريفاتها تدور على المنع والامتناع وهو أصلها في الوضع اللغوي.

وما قيل في بعض المعاجم -ضمن المعاني اللغوية- من تفسير العصمة بالحفظ والوقاية ليس معنى لغوياً أصيلاً لها، بل سرى إليها لشدة المقاربة والتلازم بين معنى الحفظ والوقاية ومعنى المنع والامتناع وكأنهما متلازمان. وهذا ما يعتذر به عمن ذكر الحفظ على أنه معنى لغوي للعصمة. * * *

العصمة في الاصطلاح

العصمة في الاصطلاح ْأما العصمة في الاصطلاح، فقد ذكر العلماء فيها كلاما كثيراً يشعر بعضه بتعريفها، ويشعر بعضه بثمرتها ومواطنها، بيد أن المتقدمين منهم لم يتعرضوا لتعريفها تعريفاً اصطلاحياً ولكنهم ذكروا كلاماً في ثبوتها، وثمرتها ومواطنها، حيث كانوا يعنون بثمرات المسائل، ولا يعولون على التفاصيل التي لا تفيد إلا ذوي العمق من أهل الاختصاص، وإن كان البعض من متأخري المتقدمين يعرفون الشيء بتقسيمه، أو بطريق السبر والاستقراء. * * * نشأة التعريف الاصطلاحي وبعد أن كان التلاقي بين الفكر الإسلامي، والفكر غير الإسلامي وظهور علماء الكلام من المسلمين، عرفوا العصمة تعريفاً اصطلاحياً -وشاركوا من قبلهم في ذكر ثمرتها ومواطنها- في عبارات تختلف فِي الأداء، إلا أنهم متفقون جميعاً في قصد الوصول إلى تحديد معناها، ومحاولة الوقوف على المراد منها. ونبدأ بأقوال من عرفها تعريفاً اصطلاحياً، وسنحاول أن نجمع بين المتوافقات سلباً وإيجاباً حتى يتم تصورها، والحكم عليها تحقيقاً للقول المشهور بين العلماء: " الحكم على الشيء فرع تصوره ".

تعريف الراغب ودلالته

تعريف الراغب ودلالته 1 - وأول من وقفت على تعريف اصطلاحى له -بعد البحث والتقصي على قدر عطاء المصادر المتيسرة لنا- الراغب الأصفهاني حيث قال في مفرداته: " عصمة الله تعالى الأنبياء حفظه إياهم أولاً بما خصهم به من صفاء الجواهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية ثم بالنصرة، وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق ". وتعريف الراغب هذا صريح في أن العصمة أمر وجودي حيث فسرها بحفظ الله إياهم، وذكر لهذا الحفظ أسباباً، وجعل لكل سبب منها مكانة في حياة الأنبياء منذ ولادتهم إلى بعثهم إلى وفاتهم وهذه الأسباب هي: (أ) ما خصهم الله به من صفاء الجواهر. وهذا يقتضي أن الحفظ المتسبب من صفاء الجواهر قد خصهم الله به منذ كانوا وهو يشعر بأن العصمة بهذا المعنى ثابتة لهم قبل النبوة. (ب) أما السبب الثاني لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -في تعريف الراغب-: فهو ما أولاهم الله من الفضائل الجسمية والنفسية، وهذا يعني أنهم في اكتمال الخلقة البشرية جسماً وصفاء روح ونضج عقل على خلاف سائر الأجسام البشرية والنفوس الإنسانية.

تعريف الحافظ ابن حجر

وهذا السبب لا يكون إلا بعد السبب الأول المختص بصفاء منشأ خلقتهم الطاهر. وهو مشعر بما أشعر به السبب الأول في أن العصمة -بما أولاهم من الفضائل الخلقية والخُلقية- ثابتة لهم قبل النبوة. (ج) والسبب الثالث: نصرهم وتثبيت أقدامهم وهذا إنما يكون بعد أن يبعثوا، ويكلفوا بما يوحى إليهم. وهو ظاهر في استمرار حفظ الله لهم أن ينالهم أعداؤهم بضرر يحول بينهم وبين أداء مقصد بعثتهم. (د) السبب الرابع: إنزال السكينة عليهم، وحفظ قلوبهم وتوفيقهم وهو مرتبط بالسبب الثالث ونتيجة له، لأن الله تعالى إذا نصرهم على أعدائهم وثبت أقدامهم في المضي بتحقيق ما كلفوه من الوحي يستلزم اطمئنانهم وسكون نفوسهم وحفظ قلوبهم أن ينالها ما يتنافى مع ما كلفوه من تبليغ رسالات الله إلى من أرسلوا إليهم، وهذا إنما يكون بتوفيق الله ولطفه. * * * تعريف الحافظ ابن حجر وقد أخذ الحافظ ابن حجز تعريف الراغب بشيء من التصرف فقال في الفتح: " وعصمة الله الأنبياء -على نبينا وعليهم الصلاة والسلام- حفظهم من النقائص، وتخصيصهم بالكمالات النفسية والنصرة والثبات في الأمور وإنزال السكينة عليهم ".

تعريف السعد

فقوله " وتخصيصهم بالكمالات النفسية. . . الخ " هو في المعنى عين قول الراغب " بما خصهم به من صفاء الجواهر. . . الخ " والفرق بين القولين أن صياغة الراغب جعلت التخصيص بالأمور المذكورة أسباباً للحفظ الذي جعله تعريفاً للعصمة. وصياغة الحافظ ابن حجر جعلت التخصيص بالأمور المذكورة تفصيلاً وبياناً للحفظ عن النقائص، وأن صياغة الراغب تقتضي ثبوت العصمة بمعنى الحفظ -للأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل البعثة- وأما صياغة الحافظ ابن حجر فلا تقتضي ذلك. وهذا مبني على الخلاف القائم بين العلماء - رحمهم الله تعالى - هل العصمة ثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل البعثة وبعدها؟ أو هي ثابتة لهم بعد البعثة فقط؟. وهذا خلاف سنأتي على تفصيله عند الكلام على مواطن العصمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إن شاء الله. * * * تعريف السعد 2 - وعرف السعد العصمة -في شرح العقائد- فقال: " وحقيقة العصمة ألا يخلق الله تعالى في العبد الذنب مع بقاء قدرته واختياره " وعرفها في المقاصد -كما ذكر السيلكوتي في

اتفاق التعريفين في المآل والثمرة

حاشيته على حاشية الخيالي على العقائد- بأنها " ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها ". وليس بين التعريفين خلاف، إذ تعريفه في العقائد تعريف للعصمة بثمرتها ومآلها وغايتها، وتعريفه إياها في المقاصد بيان لحقيقة العصمة بخواصها كما قال السيلكوتي. * * * اتفاق التعريفين في المآل والثمرة غير أن تعريف المقاصد ظاهر في أن العصمة أمر وجودي وتعريف العقائد ظاهر في أنَّهَا أمر عدمي، لكنه ليس عدماً مطلقاً وهو الذي يقابل الوجود المطلق فيتنافى معه، وإنما هو من قبيل العدم المقيد بقيد وجودي -وهو بقاء القدرة والاختيار- فلا ينافي الأمر الوجودي، ومن هنا لا تنافي بين التعريفين. ثم استطرد السعد -في شرح العقائد- فقال: " وهذا معنى قولهم هى لطف من الله يحمله على فعل الخير ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء ". واللطف أمر وجودي، إذ هو مفسر بالتوفيق فلا يسلب اختيار العبد ولا يقيد قدرته، ومن ثم نقل السعد قول أبي منصور - رحمه الله - أن " العصمة لا تزيل المحنة ".

تعريف ابن الهمام

وهذا يؤكد أن السعد يرى أن العصمة أمر وجودي سواء فسرت بملكة اجتناب المعاصي مع القدرة والاختيار أم فسرت بأنها عدم خلق الذنب في العبد المفسر باللطف. وقد وافق السعد الإيجي في أن العصمة " ألا يخلق الله فيهم ذنباً " غير أن السعد زاد قيد بقاء القدرة على فعل الذنب والاختيار. * * * تعريف ابن الهمام 3 - وعرف الكمال ابن الهمام العصمة -في المسايرة- بأنَّهَا " تخصيص القدرة بالطاعة، فلا يخلق له قدرة على المعصية " وذكر هذا المعنى في التحرير ملخصاً فقال: " وهى (أي العصمة) عدم القدرة على المعصية "

تعريف الحكماء

ومال إلى هذا ابن النجار -من الحنابلة- فقال: " هي (أي العصمة) سلب القدرة على المعصية "، وأضاف ابن الهمام إلى تعريفه في التحرير تعريفاً آخر فقال: " أو هي خلق مانع غير ملجئ " وهذا التعريف الأخير لا ينافي التعريف الأول، لأنهما في نتيجتهما يستويان في عدم القدرة على المعصية. * * * تعريف الحكماء 4 - وعرف الحكماء العصمة بأنَّهَا " ملكة تمنع عن الفجور، وتحصل بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي ". ويظهر من تعريفهم هذا للعصمة أنَّهم يعتبرونها أمراً يرجع إلى قوى النفس المفكرة بدليل قولهم " وتحصل بالعلم بمثالب المعاصي. . . الخ " فليست العصمة عندهم أمراً إلهياً وإنما هي أثر من آثار قوى النفس الإنسانية، أما المتكلمون فيرونها أمراً إلهياً كما يظهر من تعريفاتهم إياها. * * * جمع اللقاني معاني التعريفات 5 - وقد جمع عبد السلام اللقاني معاني التعريفات المتقدمة

للعصمة وحقائقها في تعريف جامع مفيد في شرحه على جوهرة التوحيد فقال: " هي (أي العصمة) اتصافهم بحفظ الله سبحانه ظواهرهم وبواطنهم -ولو في حال الصغر- من التلبس بمنهي عنه ولو نهي كراهة ". وأورد الشيخ حسن الشمطي -شَيخ الحنابلة في عصره- تعريف اللقاني في مختصره للوامع الأنوار، وحذف منه قيد: " ولو في حال الصغر " ويظهر من حذفه لهذا القيد أنه نظر إلى أن الصغر ليس محلاً للمؤاخذة، ثم فسر التعريف بقوله: " أي كونهم لا يتصور أن يكونوا إلا كذلك " وجاء الدردير فصاغ تعريف اللقاني ومن سبقه للعصمة في عبارة أوضح فقال: " هي حفظ الله تعالى بواطنهم وظواهرهم من التلبس بمنهي عنه ولو في كراهة ولو في حال الطفولية ".

ما تنتهي إليه تعريفات العلماء للعصمة اصطلاحا

ما تنتهي إليه تعريفات العلماء للعصمة اصطلاحاً ويظهر من التعريفات التي أوردناها، والمذاهب، والآراء التي عرضناها في تعريف العصمة اصطلاحاً أن لهذه التعريفات وإن اختلفت مناحيها في التعبير وتنوعت جوانب تناولها لمعنى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنها جميعها تنتهى إلى تنزيه الله تعالى لهم، وحفظه إياهم من مواقعة الذنوب والمخالفات بعد البعثة باتفاق المحققين المحقين، وقبل البعثة على التحقيق واليقين عندنا. * * *

مواقع العصمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

مواقع العصمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد أن عرضنا معنى العصمة لغة، واصطلاحاً، وبان لنا المراد بها، فالبحث يدعونا إلى تحديد زمنها، وبيان مواقعها من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وحيث إن لعمر كل نبي أو رسول إلى الخلق فترتين، فترة تسبق الإصطفاء، وأخرى تبدأ بالوحي إليه، وتنتهي بلحاقه بربه فقد بحث العلماء - رحمهم الله تعالى - عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فِي هاتين الفترتين، واختلفت وجهات نظرهم هل هي ثابتة لهم قبل البعثة وبعدها؟ أو هي ثابتة لهم بعد البعثة ليس إلا؟. * * * (1) عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قبل البعثة وقد تناول بحث العلماء عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في هذه الفترة من ناحية الاعتقاد وغيره. أما الاعتقاد فقد أجمعت الأمة على عصمتهم من وقوع الكفر منهم قبل البعثة، وحكى هذا الإجماع صاحب المواقف وقال شارحه: " ولا خلاف لأحد منهم في ذلك "، وقال الكمال ابن الهمام -في المسايرة نقلاً عن القاضي الباقلاني-: " إنهم معصومون من وقوع الكفر، لأن الذي

صح عند أهل الأخبار والتواريخ أنه لم يبعث من أشرك بالله طرفة عين وإنما بعث من كان تفياً نقياً زكياً أميناً مشهور النسب حسن التربية ". وقال القاضي عياض -في الشفاء-: " ولم ينقل أحد من أهل الأخبار أن أحداً نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك ". وقال القرطبي عند تفسيره لقول الله تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وحكاية تبري إبراهيم عليه الصلاة والسلام مما كان يشرك به قومه بقوله: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) قال: " غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء ". وقال الآلوسي -في تفسيره لهذه الآية أيضاً-: " وزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ما قال إذ لم يكن عارفاً بربه سبحانه -والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة، لا يضر ولا يعد ذلك كفراً- مما لا يلتفت إليه أصلاً " فقد قال

المحققون المحقون: إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء. وعبارة الآلوسي -وإن كان الشطر الأخير منها هو عبارة القرطبي إلا أنه رد بها زعماً باطلاً- ذكر فيها أن هذا هو قول المحققين المحقين مما يدل على أن القائل بهذا القول كثير من حذاق العلماء ومحققيهم وهو ما يطمئن إليه القلب وتستريح إليه النفس. أما غير الاعتقاد -وهو يشمل القول والعمل- فجمهور أهل السنة على جواز وقوع الصغائر والكبائر منهم قبل البعثة إذ لا دليل من العقل أو السمع على امتناعها منهم. ومنع جمهور المعتزلة صدور الكبائر وصغائر الخسة منهم قبل البعثة لأنها تؤدي إلى النفرة عنهم وعدم الانقياد لهم، قال القاضي عبد الجبار: ". . . وقوع ذلك منهم ينفر عن القبول، وتنزيههم عنه يقتضي سكون النفس إليهم، وأن يقوّي الدواعي في القبول منهم ". .

اعتراض وجوابه

اعتراض وجوابه واعترض على هذا فقيل: " ومن أين تأتي النفرة من إقدامهم على الكبائر، وصغائر الخسة قبل البعثة؟ ". وأجاب عبد الجبار على هذا بأن" العلم بأن مثل ذلك ينفر مما لا يكتسب بالأدلة العقلية. . وإنما يرجع في ذلك إلى العادات والمتعالم من أحوال الناس في العادة الجارية أن ذلك ينفرهم، كما ينفرهم الإقدام على الأمور المستخفة، ومنكر هذا كالذي يقول: بأنه لا فعل في العالم ينفر، وهذا واضح الفساد ". وذهب قوم منهم القاضي عياض، وابن حزم، والقسطلاني في المواهب، والزرقاني في شرحها إلى أن الأنبياء معصومون قبل النبوة من الصغائر والكبائر، قال ابن حزم -في الفصل-: " فبيقين ندري أن الله تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة. . . ". * * * الاستدلال رواية على عصمة الأنبياء قبل النبوة واستدل على هذا بحديث قال: إنه صحيح ورواه بسنده عن الحسن ابن محمد بن علي بن أبي طالب أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

" ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمني الله منها، قلت لفتى معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لها ترعى: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال: نعم. فلما خرجت فجئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف وزميراً فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانه لرجل من قريش، فلهوت بذلك الغناء، وبذلك الصوت حتى غلبتى عيني فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال لي: ما فعلت؟ فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك. ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال لي: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئاً. فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته ". وعقب ابن حزم عليه بقوله: " فصح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعص بكبيرة ولا بصغيرة لا قبل النبوة ولا بعدها، ولا هم بمعصية صغرت أو كبرت لا قبل النبوة ولا بعدها. . . ". وهذا الحديث رواه ابن حزم بسنده هو إلى الحسن بن محمد بن علي ابن أبي طالب، ونسب السماع فيه إليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو ظاهر من سياقه حسبما هو موجود فِي النسخ المطبوعة من كتاب الفصل التي بين أيدينا اليوم. والحسن هذا هو ابن محمد المعروف بابن الحنفية، ومحمد هذا

الانتصار لصحة هذا الحديث

لم يدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانت ولادته في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلا يكون له، ولا لابنه الحسن هذا سماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * الانتصار لصحة هذا الحديث وهذا الحديث مروي عنه عن أبيه محمد بن علي بن أبي طالب عن جده علي بن أبي طالب مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كما رواه أبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في الدلائل أيضاً، وابن سيد الناس في عيون الأثر، والماوردي في أعلام النبوة، والحاكم في المستدرك وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص ورمز له بحرف (م)، وأخرجه البزار عنه أيضاً مرفوعاً بلفظ " وما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بعدها بشيء حتى أكرمني الله برسالته ".

وجوه صحة هذا الحديث

وقد صحح علي القاري هذا الحديث في شرح الشفاء، كما صححه الشهاب الخفاجى في نسيم الرياض، وقال السيوطي في الخصائص الكبرى: أخرجه ابن راهويه في مسنده وابن إسحاق والبزار والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به. . ." فذكر الحديث ثم قال: " قال ابن حجر: إسناده حسن ورجاله ثقات ". ونقله ابن كثير في البداية والنهاية عن البيهقي وعقب عليه بقوله: " وهذا حديث غريب جداً وقد يكون عن علي نفسه ويكون قوله في آخره " حتى أكرمني الله - عز وجل - بنبوته مقحماً " والله أعلم ". * * * وجوه صحة هذا الحديث مما سلف يظهر ما يلي: 1 - أن هذا الحديث مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو متصل الإسناد مرفوع إليه - صلى الله عليه وسلم - ولعله قد سقط من ابن حزم، أو من الناسخ بعده قوله (عن أبيه عن جده) وإلا لما حكم عليه بالصحة في كتابه. 2 - أن هذا الحديث صحيح لما قاله الحاكم، ولموافقة الذهبي له على ذلك

ولتصحيح القاري والشهاب لرواية البزار لهذا الحديث. 3 - أن كلاً ممن ذكرنا من الأئمة الحفاظ أورد هذا الحديث مستدلاً به على عصمة الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وحفظه إياه من جميع أعمال الجاهلية. وأما قول الحافظ ابن كثير الذي سبق إيراده عنه في هذا الحديث فمردود من وجهين: الوجه الأول: أن وصف الحديث بالغرابة ليس معناه رده في جميع الأحوال إذ من الغريب ما هو في الصحيح، ومتفق عليه كما هو معروف لأهل هذا الشأن. وهذا الحديث الذي نحن بسبيل الكلام عليه حديث صحيح كما سبق أن بينا، فلا يسوؤه الوصف بالغرابة ما دام رجاله ثقات، ومتنه صحيحاً مقبولاً.

الوجه الثاني: أن قوله (وقد يكون عن عليٍّ نفسه) حكم بالحدس لا يقوم على دليل، فلا تقوم به حجة، إذ أن رد الأحاديت -وبخاصة الصحيحة منها- لا يكون بفرض الاحتمالات، واتباع الرأي، بل لا بد أن يبني على دليل قائم، وقاعدة مسلمة. ثم إن كلمات الحديث ولفظه وعبارته تدل على أنه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ أن الجملة التي استنكرها ابن كثير - رحمه الله تعالى - ورأى أنها مقحمة، مروية عند جميع الذين رووا الحديث -وهو واحد منهم- مضافة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قولاً منه مؤكداً بالقسم عليه منه - صلى الله عليه وسلم -، بعدم الهم بشيء من أفعال الجاهلية، وقد أضاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إكرام الله - عز وجل - له بالنبوة، في روايات وبالرسالة كما في رواية البزار إلى ضمير المتكلم في قوله - صلى الله عليه وسلم - " حتى أكرمني الله برسالته " وما كان لعلي - رضي الله عنه - أن يضيف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، لو لم يكن ينقل اللفظ النبوي الشريف، ويؤده كما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد صرح الراوي في رواية الحاكم وأبي نعيم وابن سيد الناس عند ذكره هذه العبارة بقوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فوالله ما هممت بعدها أبداً. . . الخ " وتصريح الراوي وإعادته لجملة (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدفع أيضاً ما قاله ابن كثير، ويؤكد أنَّهَا من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست إقحاماً، ولا هي تحدثاً من علي - رضي الله عنه - كما دخل على ابن كثير

رحمه الله تعالى. أما القاضي عياض -وهو ممن يقول بعصمتهم قبل النبوة وبعدها من الصغائر والكبائر- فنقل الأبي عنه -في إكمال إكمال المُعْلِم- قوله: " وفي حشو قلبه - صلى الله عليه وسلم - حكمة وإيماناً في الصغر دليل على ما يقوله المحققون من أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الصغر. وقال القسطلاني في المواهب والزرقاني في شرحها: " أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الذنوب بعد النبوة وقبلها، كبيرها وصغيرها، عمدها وسهوها على الأصح في ظاهره وباطنه، سره وجهره، جده ومزحه، رضاه وغضبه " ويفهم من صريح قولهم أن القول بعصمتهم من الكبائر والصغائر قبل البعثة هو مذهب المحققين من العلماء. والحديث السابق برواياته، يشهد لقول القاضي عياض رحمه الله تعالى أن القول بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الصغائر والكبائر قبل النبوة هو مذهب المحققين.

عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بعد البعثة

عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بعد البعثة قدمنا حكاية الإجماع على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الكفر قبل البعثة، وهو -بلا شك- منسحب على عصمتهم منه بعدها. فيبقى الكلام في عصمتهم بعد البعثة عن سائر الذنوب كبائرها وصغائرها. ومن هذا ما يتعلق بإبلاغ الشرع، وتقريره، وبيان الأحكام عن الله تعالى. * * * عصمة الأنبياء من الكذب وقد حكى صاحب المواقف وشارحه الإجماع من " أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم عن تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه ". واستدلوا لذلك بأنه لو جاز عليهم التقول والافتراء في ذلك عقلاً لأدى إلى إبطال المعجزة القاطعة بصدقهم، وإبطال المعجزة محال فالكذب في ذلك محال أيضاً. وقال المازري -في المعلم-: " الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكذب فيما طريقه التبليغ عن الله تعالى لدلالة المعجزة على صدقهم فيه ".

وأجاز أبو بكر الباقلاني دخول السهو عليهم في ذلك، مصيراً منه إلى أن " ذهول النفس وطريان النسيان "، وبوادر اللسان لا يدخل تحت الصدق الذي هو مدلول المعجزة؛ لأن صدق المعجزة إنما يدل على ما قصدوه في التبليغ. والقاضي أبو بكر، وإن كان يرى أن المعجزة لا تدل " دلالة التزامية عقلية " على منع دخول النسيان عليهم في التبليغ فإنه يرى أنهم معصومون عن ذلك بورود الشرع، وإجماع الأمة على عصمتهم في ذلك.

منع السهو والنسيان على الأنبياء في التبليغ

منع السهو والنسيان على الأنبياء في التبليغ ومنع أبو إسحاق الإسفرائيني -وكثير من الأئمة الأعلام- ومنهم الفخر الرازي دخول ذلك عليهم، ورأوا أن المعجزة كما تدل على صدقهم فيما يعمدون تبليغه، تدل على أنَّهم لا يسهون، ولا ينسون في ذلك إذ " لو جاز الخُلْف في ذلك لكان نقضاً لدلالة المعجزة، وهو ممتنع و " لم يبق الاعتماد على شيء من الشرائع " و" لما تميز لنا الغلط، والسهو من غيره ولاختلط الحق بالباطل ". وقال صاحب المعتمد في أصول الفقه: " لا يجوز عليهم الكذب فيما يؤدونه، لا الكتمان، ولا السهو في حال الأداء لأن تلك الحال حال تلقي الفروض، فوقوع السهو فيها يغري باعتقاد كون العبادة لا على ما أوردوها ". وقال أبو الحسين الخياط: ". . . النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قصد إلى الأداء عن الله - عز وجل - والإخبار عنه بما أمره بأدائه إلى خلقه وبإخبارهم إياه، فليس يجوز

انتصار ابن تيمية للقول بعصمة الأنبياء في التبليغ

عليه الغلط، والخطأ في ذلك، لأن الله قد أوجب على الخلق طاعته فيما يأمرهم به، وتصديقه فيما أخبرهم به عن ربهم، فلم يكن جل ثناؤه ليأمرهم بتصديق من يجوز عليه خطأ، ولا بطاعة من لا يؤمن منه الغلط ". وقال القاضي عياض: ". . لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ، لأن ذلك يقتضي العصمة منه المعجزة، مع الإجماع على ذلك من الكافة ". ونقل ابن عطية -في تفسيره- إجماع الأمة على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في معنى التبليغ. * * * انتصار ابن تيمية للقول بعصمة الأنبياء في التبليغ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب النبوات -: " وما أنبأ به النبي عن الله لا يكون يطابق كذباً، لا خطأ ولا عمداً، فلا بد أن يكون صادقاً فيما يخبر به عن الله يطابق خبره مخبره لا تكون فيه مخالفة لا عمداً ولا خطأ. وهذا معنى قول من قال: " هم معصومون فيما يبلغونه

إجماع العلماء على القول بوجوب عصمة الأنبياء في التبليغ

عن الله " ثم قال: ". . فهو (أي النبي - صلى الله عليه وسلم) المؤيد المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن حتى يبلغ رسالات ربه كما أمر فلا يكون فيها كذب ولا كتمان ". * * * إجماع العلماء على القول بوجوب عصمة الأنبياء في التبليغ وحاصل القول أن الجميع متفقون مطبقون على وجوب عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من السهو والنسيان في التبليغ عن الله تعالى، وإنما حصل الاختلاف في مقتضى دلالة المعجزة، أهي دالة على صدقهم في جميع ما يبلغون عن الله تعالى -كما هو رأي الجمهور- أم فيما يقصدون تبليغه، ويعمدونه على قول أبي بكر الباقلاني ومن وافقه؟.

تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر تردد ذكر الكبائر والصغائر فيما سبق من بحثنا هذا، وإتماماً لما قدمنا نرى البحث يدعونا -قبل الكلام على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب صغائرها وكبائرها- إلى توضيح المراد من الكبائر والصغائر. * * * مسالك التكليف أقام الله تعالى تكليف العباد على الأمر والنهي، فأمرهم بطاعته ونهاهم عن مخالفة أمره، فطاعتهم إياه لازمة لهم بأمره إياهم بالطاعة ونهيهم عن المعصية. فدواعي الإلزام بالطاعة لله تعالى تقتضي أن يكون العبد بين الرجاء لثواب الله تعالى، والخوف من عقابه. وشدة عقابه تجعل الإقدام على المعصية أمراً مستفظعاً عند ذوي النُّهى. ومن ثم اختلف العلماء في تقسيم الذنوب والمخالفات إلى صغائر وكبائر. * * * وجه القول بأن جميع الذنوب كبائر فذهب بعض العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا صغيرة في الذنوب، فكل الذنوب عند هؤلاء كبائر، ولكن كبيرة دون كبيرة لتفاوت المخالفات في ذاتها، وفي آثارها فيقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: القُبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنى وكلها كبائر ".

فهولاء نظروا في المعاصي بالنسبة للمعصيِّ بها وهو الله تعالى، ولذلك قال إمام الحرمين: " المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة إذ لا تراعى أقدار الذنوب حتى تضاف إلي المعصيِّ بها، فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران، ولو صور في حق ملك لكان كبيرة يضرب بها الرقاب ". وكلام إمام الحرمين هذا يشعر بأن من الذنوب كبائر ومنها صغائر ولكنه لا يسمي الصغائر باسمها إجلالاً لحق المعصي بها. ونسب القاضي عياض -في الشفاء والنووي في شرح مسلم والحافظ ابن حجر في الفتح- القول بهذا إلى طائفة من العلماء. والقول بأن جميع الذنوب كبائر موافق لظاهر ما رواه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة "، ورواه عنه أيضاً من طريق آخر بلفظ " كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة ". وقد توقف القرطبي في التسليم بصحة ذلك عن ابن عباس فقال: " ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله - عز وجل - عنه كبيرة، لأنه مخالف

جمع الحافظ ابن حجر بين قولي ابن عباس في الكبائر

لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) وقوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) فجعل في المنهيات صغائر وكبائر وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطاً باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن ". قال الحافظ ابن حجر: " ويؤيده (أي ما ذهب إليه القرطبي) ما ورد عن ابن عباس في تفسير اللمم، وهو ما أخرجه البخاري عنه أنه قال: " ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه ". * * * جمع الحافظ ابن حجر بين قولي ابن عباس في الكبائر وقد رد الحافظ ابن حجر على القرطبي توقفه في نسبة الرواية لابن عباس بهذا القول فقال: ". . ولكن النقل المذكور عنه أخرجه إسماعيل القاضي، والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس، فالأولى أن يكون المراد بقوله (نهى الله عنه) محمولاً على نهيٍ خاص وهو الذي قرن به وعيد كما قيد في الرواية الأخرى عن ابن عباس فيحمل

الاستدلال بالقرآن والسنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

مطلقه على مقيده جمعاً بين كلاميه ". وكذا التخريج -من الحافظ ابن حجر- يكون الحبر ابن عباس - رضي الله عنهما - قائلاً بأن الذنوب تننوع إلى صغائر وكبائر، ولكنها تتفاوت فيما بينها ذاتاً وأثراً. أما الرواية المقيدة التي حمل عليها الحافظ هذه الرواية المطلقة توحيداً لكلام ابن عباس - رضي الله عنهما - فهو ما رواه الطبري عنه بسنده إليه أنه قال: " الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب ". * * * الاستدلال بالقرآن والسنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر وهذا هو الذي يتمشى مع مقتضى ظاهر الآيات القرآنية، وما ورد في السنة المطهرة الصحيحة، فالآيات القرآنية الكريمة صريحة في انقسام الذنوب إلى صغائر، وكبائر، ومن أصرح الآيات في ذلك ما يلي: 1 - قول الله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31). يدل بمقتضى المقابلة أن من الذنوب صغائر وكبائر، وأن اجتناب الكبائر مكفر للصغائر التي سميت في الآية سيئات، ولا شك في أن تسميتها بذلك يعطيها وصف الذنب وحقيقته، فتكفر السيئات المشروط باجتناب كبائر ما نُهُو عنه يقتضي أنها ليست من الكبائر، وقد سماها الله تعالى سيئات، فهي ذنوب وليست بكبائر قطعاً.

وقد ورد هذا التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه السيوطي إذ يقول: " أخرج النسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر ثم قال: " والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يوم القيامة حتى أنها لتصطفق، ثم تلا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31). فهذا تفسير منه - صلى الله عليه وسلم - للآية الكريمة وتبيين للمراد منها من أن من الذنوب صغائر يكفرها الله تعالى باجتناب الكبائر وليس بعد تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفسير، ولا بعد قوله قول لقائل. 2 - قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)). ذكرها الله تعالى في سياق مدح المؤمنين المتصفين باجتناب كبائر الإثم والفواحش، وهي تدل بمفهومها على أن هناك صغائر لا تمنع المدح، كما تدل هذه الآية -أيضاً على أن من الذنوب فواحش- هي أكبر من الكبائر بدليل عطف الفواحش على كبائر الإثم، وهو دليل قاطع على تفاوت الكبائر فيما بينها.

3 - قول الله تعالى (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) وهو يدل بذكر الأمور الثلاثة (الكفر والفسوق والعصيان) على أن الذنوب تتنوع إلى كفر وهو أعظمها وأغلظها، وإلى فسوق وهو أقل من الكفر، فيكون المراد به كبائر الذنوب، مع وجود أصل الإيمان. والعصيان ويراد به مطلق المعصية بعد الفسوق وليس ذلك إلا صغائر الذنوب. فالآية الكريمة بمنطوتها صريحة في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر مع الإشارة إلى تفاوت الكبائر فيما بينها. ويؤكد هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر -ثلاثاً-؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله " فعد الإشراك بالله أكبر الكبائر، ثم ذكر بعده من الكبائر أشياء أخرى تدخل في الفسوق وهي " عقوق الوالدين وقول الزور ". 4 - قول الله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) يدل بمقتضى بيان قوله (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) في الآية قبلها على أن المحسنين بأعمالهم من المكلفين هم (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) فاستثناء اللمم من كبائر الإثم والفواحش

الأدلة من السنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر

يدل بمقتضى قاعدة الاستثناء -وهي أنه يخرج من سابقه ما لولاه لدخل فيه- على أن اللمم ليس من كبائر الإثم والفواحش، فهو من الصغائر، وقد جاء تفسيره بذلك عن ابن عباس فيما رواه البخاري وقد أوردناه فيما سبق. وقد نبه الله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) على أن إخراج اللمم واستثناءه " " من حكم المؤاخذة ليس لخلوه من الذنب فِي نفسه بل لسعة المغفرة الربانية " وفي عطف الفواحش هنا على كبائر الإثم ما في نظيره في آية الشورى. * * * الأدلة من السنة على تنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر وقد فرقت السنة النبوية المطهرة الصحيحة بين الصغائر والكبائر بطريقين: 1 - أن بعض الأحاديث ذكر فيها عدد من الذنوب سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - كبائر جواباً عن سؤال سائل، أو تعليماً منه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الكرام من غير أن يسأله عنها أحد. فمن الأول ما رواه البخاري ومسلم -واللفظ للبخاري- عن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - قال: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائر فقال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس وشهادة الزور ".

ومن الثاني ما أورده السيوطي -في الدر- حيث قال: " وأخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكبائر سبع أولها الإشراك بالله، ثم قتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة ". واختلاف العدد في الروايات من قبيل أن العدد لا مفهوم له، أو أنه من باب تجدد العلم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أنه من باب مناسبة حال السائل. 2 - ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن بعض أعمال البر والصلاة تكفر الذنوب ما اجتنبت الكبائر فمن ذلك ما رواه مسلم والترمذي وابن ماجه -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " وأخرج مسلم أن عثمان

الأدلة من أقوال الصحابة والتابعبن على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر

ابن عفان - رضي الله عنه - دعا بطهور فقال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من أمرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله ". ولا شك أن هذا في الصغائر، وغير حقوق العباد. * * * الأدلة من أقوال الصحابة والتابعبن على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر وفي الآثار عن الصحابة - رضي الله عنه - ما يؤيد التفرقة بين الذنوب فجعل منها صغائر وكبائر، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: " لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا - عز وجل - ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر، فما لنا ولها، يقول الله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا). وذكره ابن كثير -في تفسيره- مرفوعاً عند البزار. وعنه قال: " ما لكم والكبائر وقد وعدتم المغفرة فيما دون الكبائر " وقد عددت بعض الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم الكبائر، فعن علي - رضي الله عنه - قال: " الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، والسحر،

وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة ": وقد روي مرفرعاً في عدد مما ذكره. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " الكبائر الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله ". والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين كثيرة تفوق الحصر، وما أوردناه أمثلة لبعض ما ورد عنهم في ذلك فلا يمكن العدول عن هذه النصوص الصريحة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأقوال السلف في التفرقة بين الذنوب يجعل بعضها صغائر، وبعضها كبائر وتأويلها بالتعسف إلى ما يفيد أنه لا صغيرة من الذنوب إذ الأخذ بصريح الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة وآثار جمهور الصحابة والتابعين الدالة على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر خير من تأويلها بما ينبو عنه ظاهرها وأسلم من ثنيها عن دلالتها. قال النووي: " وذهب الجماهير من السلف، والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة

خطر القول بأن جميع الذنوب كبائر

واستعمال سلف الأمة وخلفها ". ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قوله:. " انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء ". وقال الغزالي: " إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه وقد عرفتا من مدارك الشرع ". * * * خطر القول بأن جميع الذنوب كبائر ومهما بلغ المرء منا من التقى والذل لله تعالى والخشوع له والانقطاع لعبادته تعالى، فلن يستطع التنزه من لمم الذنوب، وهناتها فلو أجزنا القول بأن جميع معاصي الله تعالى كبائر لحكمنا على جميع المؤمنين باقتراف الكبائر، واستباحة حمى الله تعالى، وانتهاك محارمه فضلاً عن تركنا صريح النصوص سيراً مع تأويلات لا يعضدها دليل.

عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب صغائرها وكبائرها

عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب صغائرها وكبائرها بعد أن حققنا القول في وجوب عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في التبليغ وتنوع الذنوب إلى صغائر وكبائر، وبَانَ لنا أن جميع أهل الشرائع والملل مجمعون على وجوب عصمتهم فيما يبلغونه عن الله تعالى من الأحكام والشرائع، ننتقل إلى الكلام في سائر الذنوب والمعاصي، وهل هي جائزة عليهم - عليهم الصلاة والسلام -؟. وهنا نجد العلماء قد قسموا الذنوب -ما خلا الكفر، وقد سبق التدليل على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبل البعثة وبعدها بإجماع الأمة كافة- إلى صغائر وكبائر. أما الكبائر فقال القاضي عياض: " أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش، والكبائر الموبقات ". وقد صرح بهذا الإجماع المازري - فيما نقله عنه النووي - في قوله: " فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الكبائر بالإجماع " وابن عطية -في تفسيره- حيث قال: " وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء. . من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة "

ونقله عنه أبو حيان في البحر. وممن صرح بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب إمام الحرمين في الإرشاد حيث قال: " وتجب عصمتهم عن المعاصي والذنوب المؤذنة بالسقوط، وقلة الديانة إجماعاً ". وقول إمام الحرمين هذا وإن ظهر أنه أعم من الدعوى فهو منتج لها لأن العام يدل على الخاص وغيره، وقد صرح إمام الحرمين عقب سوقه هذا الكلام بقوله " أما الذنوب الصغائر. . الخ " مما يشعر بأنه أراد بكلامه هنا عصمتهم من الكبائر وصغائر الخسة، وسنعرض لنصه عن الذنوب الصغائر في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد اختلفوا في مستند هذا الإجماع، فالجمهور على أن مستنده نفس الإجماع،: ذهب القاضي الباقلاني إلى أن مستند عصمتهم من الكبائر السمع مضافاً إلى الإجماع نفسه " قبل ظهور المخالفين في ذلك ".

ويرى أبو إسحاق الإسفرائيني أن مستنده العقل مضافاً إلى الإجماع قال القاضي عياض: " وهو قول الكافة ". وفي عموم الكافة دخل المعتزلة القائلون بهذا الإجماع، وأن مستنده العقل، قال القاضي عبد الجبار: " يبين ذلك أنَّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر، والمعاصي بالمنع والردع، والتخويف، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك لأن المتعالم أن المقدم على الشيء لا يقبل منه منع الغير منه ". ظهر لنا مما سبق أن الإجماع منعقد على القول بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كبائر الذنوب، ونأتي الآن إلى الكلام عن عصمتهم من صغائرها. وقد قسم العلماء صغائر الذنوب إلى صغائر خسة، وصغائر غير خسة. فصغائر الخسة هى التي ينسلك بها فاعلها مع الأراذل والسفلة لإشعارها بدناءة الهمة، ووضاعة النفس، ومن أمثلتهم لها سرقة شيء تافه أو تطفيف القليل.

وقد نقل الشوكاني -في إرشاد الفحول- عن الأصوليين أنهم " حكوا الإجماع على عصمتهم بعد النبوة مما يزري بمناصبهم كرذائل الأخلاق والدناءات، وسائر ما ينفر عنهم، وهي التي يقال لها صغائر الخسة كسرقة لقمة أو التطفيف بحبة ". ونقل ابن عطية -في تفسيره- إجماع العلماء على عصمة الأنبياء " من الصغائر التي هي رذائل "، ومنع المتكلمون صدورها من الأنبياء مطلقاً ولو سهواً. ونقل القاضي عياض عن بعض الأئمة قوله " أن الأنبياء معصومون عن الصغائر المؤدية إلى إزالة الحشمة، والمسقطة للمروءة، والموجبة الإزراء والخساسة " قال: " فهذا مما يعصم عنه الأنبياء إجماعاً، لأن مثل هذا يحط منصب المتسم به ويزري بصاحبه، وينفر القلوب عنه، والأنبياء منزهون عن ذلك ". أما صغائر غير الخسة، فقالوا إنها التي لا تشعر بنقص، ولا تلحق بفاعلها معرة.

ومما لا ريب فيه أن كل ذنب مهما صغر لا بد من إشعاره بنقص، ويلحق صاحبه المعرة عند أهل التقوى لوجوب التوبة منه، وهي ندم يشعر بالنقص والمعرة فلا يصح القول بنسبة الصغائر إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد ذكر القاضي عياض أن العلماء إزاء تجويز هذا النوع من الصغائر على الأنبياء ثلاث فئات: الفئة الأول أجازت صدور هذه الصغائر عن الأنبياء ووقوعها منهم، وقد نسب هذا المذهب إلى جماعة من السلف وغيرهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين " وذكر منهم أبا جعفر الطبري. ونسب ابن حزم هذا القول -في الفصل- إلى ابن فورك، ونسبه السعد -في شرح المقاصد- لإمام الحرمين من الأشعرية، وأبي هاشم من المعتزلة. وذكر الشوكاني أن العلماء اختلفوا في تجويز الصغائر غير الخسية على الأنبياء، وإذا جاز وقوعها عليهم، فهل وقعت منهم أو لا؟.

فذكر أن إمام الحرمين، والكياالهراسى، وابن الحاجب نقلوا القول بالجواز العقلي عن الأكثرية، وأن إمام الحرمين، وابن القشيري نقلا القول بعدم الوقوع عن الأكثرين كذلك. وقال إمام الحرمين: " وأما الذنوب الصغائر فلا تنفيها العقول ولم يقم عندي دليل قاطع على نفيها، ولا على إثباتها، إذ القواطع نصوص أو إجماع، ولا إجماع، إذ العلماء مختلفون في تجويز الصغائر على الأنبياء، والنصوص التي تثبت أصولها قطعاً، ولا يقبل فحواها التأويل غير موجودة والأغلب على الظن عندنا جوازها ". وقد تمسك القائلون بوقوع الصغائر منهم بظواهر من القرآن الكريم وبعض الأحاديث الصحاح التي ذكر فيها ما يشعر بوقوع الخطيئة من بعض الأنبياء كحديث الشفاعة الذي جاء فيه أن كل نبي " يذكر خطيئته التي أصاب " وبورود طلب الاستغفار منهم وطلبهم التوبة عليهم. ولا نطيل بذكر ما استدلوا به لئلا يَندَّ بنا البحث عما رسم من أجله وقد وفت مطولات كتب الكلام، والعقائد هذا الموضوع حقه من بسط

وجوه الاستدلال على عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر

القول فيه. أما الفئة الثانية فتقول بالجواز العقلي، لأن العقل لا يحيل صدور الصغائر غير الخسية عنهم، ولكنهم توقفوا عن القول بالوقوع، فلم يثبتوه، ولم ينفوه لتعارض الأدلة عندهم وعدم وجود قاطع في النصوص بالإثبات أو النفي. * * * وجوه الاستدلال على عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر أما الفئة الثالثة فتقول بعصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر. ومن هؤلاء الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - كما صرح به في الفقه الأكبر إذ قال: " الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن الصغائر والكبائر " وأقر ذلك شارحه على القاري. وأسند الشوكاني -في إرشاد الفحول- هذا القول إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني نقلا عن ابن حزم في الملل والنحل. وبالرجوع إلى الموضع الذي تكلم فيه ابن حزم على عصمة الأنبياء في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل لم نجد ذكراً لأبي إسحاق

الإسفرائيني فلعله ذكره في موضع آخر استطراداً. ويصحح إسناد هذا القول إلى أبي إسحاق نقل تاج الدين السبكى في جمع الجوامع هذا المذهب عنه. وأسند عبد القاهر البغدادي هذا المذهب إلى أهل السنة في كتابه الفرق بين الفرق. وفى قال بهذا القول أيضاً ابن حزم، وحكاه عن سائر الفرق الإسلامية، وعن ابن مجاهد شيخ الباقلاني، وابن فورك وقال: " وهذا الذي ندين الله تعالى به ". واستدل على عصمتهم من " جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها " بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ".

ووجه استدلاله به " أن الإشارة بالعين أخف ما يكون من الذنوب ومن خلاف الباطن للظاهر " ومع ذلك لم يقدم عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أنكر - عز وجل - على من قال له: " ألا أومأت لنا بعينك " بقوله: " إنه لا ينبغى لنبي أن تكون له خائنة الأعين ". وممن صرح بالأخذ بهذا المذهب تاج الدين السبكي في جمع الجوامع حيث قال: " الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون لا يصدر عنهم ذنب -ولو صغيرة سهواً- وفافاً للأستاذ، والشهرستاني، وعياض، والشيخ الإمام ". وأسند السفاريني -أحد أئمة الحنابلة- هذا المذهب إلى الحافظ العراقي إذ نقل قوله " النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من تعمد الذنوب بعد النبوة بالإجماع. . . . وإنما اختلفوا في جواز الصغيرة سهواً فمنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني والقاضي عياض، واختاره تقي الدين السبكي

وهو الذي ندين الله تعالى به. قال الشوكاني: " واختاره ابن برهان، وحكاه النووي في زوائد الروضة عن المحققين، قال القاضي حسين: وهو الصحيح من مذهب أصحابنا يعني الشافعية ". وقال الفخر الرازي: " والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة ألبتة لا الكبيرة، ولا الصغيرة "، وساق في تفسيره الكبير أدلة عقلية ونقلية على وجوب عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب نذكر منها ما يلي: 1 - أنه لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز، بيان الملازمة أن درجة الأنبياء. . . في غاية الجلال والشرف وكل من كان كذلك، كان صدور الذنب عنه أفحش، ألا ترى إلى قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) والمحصن يرجم، وغيره يحد، وحد العبد نصف حد الحر، وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة فذلك بالإجماع.

2 - أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لو أتى بالمعصية لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله تعالى: (فَاتبِعُوني) فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال. " وإذا ثبت ذلك في حق محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثبت في سائر الأنبياء، ضرورة أنه لا قائل بالفرق ". وهؤلاء العلماء الأجلاء: -رحمهم الله تعالى- يحملون ما تفيده ظواهر النصوص من الكتاب والسنة من وقوع بعض الصغائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -مما تمسك به القائلون بجواز الصغائر على الأنبياء- إما على صدوره منهم بتأويل قائم على الاجتهاد، فلا يكون ذنباً أو أنه من قبيل خلاف الأولى. والقائلون بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الصغائر كعصمتهم من الكبائر أعيان وكثيرون، ولا يتسع المجال لذكرهم وإيراد أقوالهم، وإنما رمنا ذكر أقوال طائفة منهم إشارة إلى القائلين بذلك. وقد أورد القاضي عياض أدلة على القول بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الصغائر نسوق أهمها وأقواها: قال: " واستدل بعض الإئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى (وجوب) امتثال أفعالهم واتباع آثارهم، وسيرهم مطلقاً، وجمهور

توافر وسائل الرواية على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من جميع الذنوب

الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة. . فقد علم من دين الصحابة -قطعاً- الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، كيف توجهت، وفي كل فن كالاقتداء بأقواله، فقد نبذوا خواتيمهم حين نبذ خاتمه وخلعوا نعالهم حين خلع. . واحتج في واحد في غير شىء مما بابه العبادة، أو العادة بقوله: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، والآثار في هذا أعظم من أن نحيط بها، لكنه يعلم من مجموعها على القطع اتباعهم أفعاله واقتداؤهم بها، ولو جوزوا عليه المخالفة في شيء منها لما اتسق هذا، ولنقل عنهم، وظهر بحثهم عن ذلك ". لا جرم أن الصغائر -غير الخسية تختلف في أعيانها، وأشخاصها، وتتفاوت مراتبها بحسب ما يستتبعها من ملامة ونقص، فليس النقص الذي يلحق بالقُبلة -مثلاً- كالنقص الذي يلحق بالنظرة -وحاشا الأنبياء من ذلك كله- ولا واحدة منهما كخطرة تمر بالقلب، لا يصدقها القول أو الفعل، بل تجفل النفس عنها قبل أن تظلها، وينفر القلب منها قبل أن تنزل بساحته فيبقى القلب الشريف الطاهر بعيداً عنها منزهاً منها، طاهراً نقياً لم تنزل به دغادغ اللمم ولا رفت عليه هبات الهنات. * * * توافر وسائل الرواية على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من جميع الذنوب وحيث لم يعلم عنه - صلى الله عليه وسلم - الإلمام بصغيرة ولا الدنو من شيء منها، مع أن سبل النقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أحصت كل حركة من حركاته، وكل قول من أقواله،

فما ترك الصحابة - رضي الله عنهم - فعلاً من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ولا قولاً من أقواله دق أو جل إلا نقلوه إلينا عنه، حتى إنهم وصفوا يقظته ونومه، كما وصفوا حديثه وصمته، وقيامه وجلوسه، وسيره وركوبه وترجله، وجميع شمائله إلى غير ذلك مما هو مدون في كتب الحديث والشمائل والمغازي والسير لأنهم كانوا يرون ذلك تبليغاً عنه، وقد أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم - " ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه "، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله ابن عمرو: " اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ". فلر رأى الصحابة - رضي الله عنهم - أو سمعوا منه شيئاً مما أجازه عليه بعض أهل العلم - عليه الصلاة والسلام - من قربه الصغائر، وحاشاه من ذلك - لما فاتهم نقل ذلك عنه ضمن ما نقلوا من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته. ولكنهم - رضي الله عنهم - لم ينقلوا عنه شيئاً من ذلك -فيما علمنا- ولو رأوا منه شيئاً من ذلك أو علموه عنه لنقلوه إلينا، وعلم عنهم لتوافر دواعي النقل عليه.

فالقول بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، سرها وجهرها، عمدها وسهوها، هو ما ندين الله تعالى به، ونرجو مثوبته من الله - عز وجل -. وما ثبت في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من العصمة عن صغائر الذنوب عمداً وسهواً يثبت لغيره من الأنبياء والمرسلين إذ لا قائل بالفرق. * * *

الباب الثاني الاجتهاد

الباب الثاني الاجتهاد 1 - تعريفه لغة واصطلاحاً. 2 - اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعرض أقوال العلماء في هل كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يتلقى الوحي من الله تعالى - حق الأجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه وحي أو ليس له ذلك؟.

تعريف الاجتهاد لغة

تعريف الاجتهاد لغة أصل مادة (جهد) ترجع إلى المشقة، قال الأزهري في تهذيب اللغة: " الجهد: بلوغك غاية الأمر الذي لا تألو عن الجهد فيه تقول: جهدت جهدي، واجتهدت رأي ونفسي حتى بلغت مجهودي ". وعلى ذلك يكون معنى الاجتهاد لغة هو " بذل الوسع في طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد -أي- الطاقة. ومنه حديث معاذ - رضي الله عنه - حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال: " كيف تقضي؟ " فقال: اقضي بما في كتاب الله، قال: " فإن لم يكن في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " قال: اجتهد رأيي - وفي رواية أبي داود " اجتهد رأيي ولا آلو " - قال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم ".

تعريف الاجتهاد اصطلاحا

تعريف الاجتهاد اصطلاحاً أما الاجتهاد في الاصطلاح فقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف الاجتهاد اصطلاحاً اختلافاً يرجع إلى معنى واحد، هو ما قاله ابن الحاجب في مختصره، وقاربه الكمال بن الهمام في التحرير. ونص عبارة ابن الحاجب التي نرى أنَّهَا أدت حق التعريف باعتباره تعريفاً جامعاً مانعاً هو قوله: " الاجتهاد: بذل الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي ". وبهذا تظهر نسبة التعريف الاصطلاحى للتعريف اللغوي والعلاقة بينهما من جهة عموم التعريف اللغوي، وخصوص التعريف الاصطلاحي فى جهة العموم الجامعة بينهما هي استفراغ الوسع في تحصيل شىء. وإذا نظرنا في المعنى الاصطلاحي رأيناه ينصب على اجتهادات فقهاء الأمة بجميع مداركها من النظر في النصوص كتاباً وسنة، وفي القياس

الفرق بين اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتهاد علماء أمته

والإجماع وغيرهما من مدارك الاجتهاد. فهل هذا المعنى ينطق على اجتهادات الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ والجواب عن هذا السؤال يتطلب الرجوع إلى النظر في الحوادث والوقائع التي ثبت فيها اجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الوقائع مرجعها إلى بذل الجهد الخاص منه - صلى الله عليه وسلم - فيما تقتضيه المصلحة في دائرة النصوص العامة. * * * الفرق بين اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتهاد علماء أمته والفرق بين اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتهاد علماء أمته أن اجتهاد علماء الأمة يعتمد على: 1 - النظر في النصوص من جهة الخصوص والعموم، والإطلاق والتقييد، والإبهام والتفسير، والإجمال والتفصيل، والناسخ والمنسوخ، والظاهر وغير الظاهر، والحقيقة والمجاز. . . الخ. 2 - وجود أصل منصوص عليه، فيه علة جامعة غير معارضة، وهذه العلة موجودة في محل غير منصوص عليه، فيحمل غير المنصوص عليه، على المنصوص عليه في حكمه الشرعي بهذه العلة الجامعة، وهو المعروف عندهم بالقياس. أما الإجماع -وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي في أمر من الأمور- فهو أصل لإدراك الأحكام في اجتهادات علماء الأمة يعتمد على دليل قد يظهر، وقد يخفى. أما اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يحتاج إلى النظر في النصوص من الجهات التي احتاج إليها علماء أمته، لأن النصوص جميعها بينة له - صلى الله عليه وسلم - من جميع هذه

الجهات وغيرها. وأما ما يظهر -في بعض اجتهاداته- صلى الله عليه وسلم - أنه من قبيل القياس فالحمل فيه لتقريب فهم الحادثة المسئول عنها أو المخبر بها ولفتح باب الاجتهاد لعلماء أمته - صلى الله عليه وسلم - المؤهلين له، لا لاستنباط الحكم بالنظر في النصوص. * * *

اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -

اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار الله سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى خلقه ختم به الرسالات الإلهية، وكلفه تبليغ شرعه إلى عباده، وعهد إليه بتبيين ما نزل إلى الناس من ربهم فهو - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله تعالى وإليه -في حياته المباركة- يتوجه المسلمون طالبين معرفة حكم ما ينوبهم من أمر سواء كان أمراً يتعلق بالعبادات وكيفياتها، أم كان مما يعرض لهم في حياتهم اليومية من مسالك ينظمون بها مصالحهم، وتعاملهم، فيما بينهم وبين غيرهم، أم فيما يحتكمون إليه - صلى الله عليه وسلم - فيما قد ينشأ بين بعضهم من منازعات، فهو - صلى الله عليه وسلم - المرجع لهم في الأمر كله بعد الله تعالى، وعنه تؤخذ جميع الأحكام والشرائع، إذ هو وحده مصدر العلم بأحكام الله تعالى ومقاصد الشريعة ومصالح العباد. وكانت الوقائع والحوادث بين الناس تتوالى، وكانت الأحكام تنزل على حسب الحاجة، والمصالح والحكمة الإلهية، فهل كانت الأحكام التي تنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الوحي رداً علي سؤال سئله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تأسيساً لحكم من أحكام الشريعة سادة للحاجة الوقتية التي يتطلبها جو الوقائع؟ أو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى أن يجيب سائلاً عن سؤاله أو يخير بحكم اجتهاداً منه - صلى الله عليه وسلم -؟ من هنا يبرز سؤال هو: هل كان يجوز للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يتلقى الوحي من الله تعالى - أن يجتهد فيما لم ينزل عليه به وحي أو ليس له ذلك؟. اختلف العلماء في جواب هذا السؤال اختلافاً منتشراً. .

فقالت طائفة: لا يجوز للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بالاجتهاد أي أن الله تعالى لم يأذن لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الاجتهاد في بيان أحكام الحوادث التي ينزل عليه فيها وحي ولا تعبده الله به. وهذا القول منسوب إلى بعض الشافعية، وإلى بعض الحنابلة ومنهم أبو حفص العكبري، وإلى الأشاعرة، وأكثر المعتزلة. وفي نسبة القول بمنع اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً إلى عموم الأشاعرة نظر، وذلك أنا نجد في كتب الأصوليين، والمتكلمين منهم ما هو صريح في إثبات القول بجواز الاجتهاد للرسول - صلى الله عليه وسلم - والدليل على ذلك ما جاء في منهاج البيضاوي وشروحه، وما جاء في جمع الجوامع لابن السبكي وشروحه وحواشيه، وما جاء في كشف الأسرار والتحرير وشرحه، والمسامرة بشرح المسايرة، وشرح العقائد للسعد وغيرها من كتب الأشاعرة الأصولية والعقيدية.

وهؤلاء كلهم أشاعرة، وقد أثبتوا جواز الاجتهاد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووقوعه منه ودللوا على ذلك في كتبهم، فالظاهر أن نسبة المنع للأشاعرة محمولة على بعضهم. كما أن في نسبة القول بمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الاجتهاد فيما يتعلق بأمر الشرع إلى أبي حفص العكبري نوعاً من التجوز إذ أنه قد اختار هو وشيخه ابن بطة -فيما نقله عنهما ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة- أنه " كان يجوز لنبينا صلوات الله وسلامه عليه الاجتهاد فيما يتعلق بأمر الشرع ". قال في المسودة -لآل تيمية-: " قال شيخنا: قال ابن بطة: فيما كتب به إلى ابن شاقلا في جوابات مسائل، وقال: والدليل على أن سنته وأوامره - صلى الله عليه وسلم - قد كان فيها بغير وحي وأنها كانت بآرائه واختياره أنه عوتب على بعضها ولو أٌُمِر بها لما عوتب عليها، فمن ذلك: حكمه فِي أسارى بدر وأخذه الفدية، وإذنه في غزوة تبوك للمتخلفين بالعذر حتى تخلف من لا عذر له، ومنه قوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فلو كان وحياً لم يشاورهم فيه ".

أدلة المانعين لاجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -

أدلة المانعين لاجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد استدل القائلون بعدم جواز الاجتهاد للرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان أحكام الحوادث التي لم ينزل عليه بها وحي بأدلة نقلية، وأخرى عقلية. أما الأدلة النقلية فهي: 1 - قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)). ووجه الاستدلال به هو أن الله تعالى أخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق إلا عن وحي، والحكم الصادر عن اجتهاد لا يكون وحياً -لاحتمال الخطأ فيه- فيكون داخلاً تحت النفي. ورد بأن الآيتين الكريمتين رد وإبطال لما كان يزعمه الكفار من أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان يفتري القرآن من عند نفسه، وقد حكى الله تعالى قولهم ذلك بقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) وليس عاماً في كل ما ينطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتخصيص واقع قطعاً بما ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير الأحكام الشرعية فالعموم باطل. وعلى فرض أنه عام في جميع ما ينطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليس فيه إثبات لدعواهم أيضاً، لأن اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يستند إليه كله وحي وليس

نطقاً عن الهوى، وإنما هو اتباع للوحي المأذون له فيه بالاجتهاد. 2 - واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ). ووجه الاستدلال به أن هذه الآية الكريمة نفت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له حق تبديل ما يلقى إليه من ربه، ونصت على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع إلا ما يوحى إليه " وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد " إذ الاجتهاد ليس وحياً، فالأخذ به تبديل لأحكام الله تعالى، واتباع لما لم يوح إليه ". ورد هذا بأن الآية الكريمة رد على قول الكافرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - -على سبيل التعجيز له فيما حكاه الله تعالى عنهم وكما هو ظاهر منه سياق هذه الآية- (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) فهى ليست في منع الاجتهاد بل في بيان أن ما طلبوه ليس من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إجابته، لأنه إن أريد بالتبديل تغيير نظام القرآن الكريم بوضع آية رحمة مكان آية عذاب أو العكس أو إسقاط عيب الآلهة، وذم عبادتها منه -كما أراده المتعنتون من المشركين- فهذا إفساد لنظام القرآن الكريم، وهو كفر معصموم منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعاً.

وإن أريد بالتبديل النسخ فهذا لا يكون باجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من الله تعالى و " الاجتهاد ليس تبديلاً بل هو اتباع للوحي. وأيضاً ليس في قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) دليل لهم في نفى عمله - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد، لأن الإذن له - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد داخل تحت ما يوحى إليه. 3 - ومما استدلوا به قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، ووجه الاستدلال به أنه صريح في نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقفو ويتبع ما ليس له به علم، والاجتهاد، يعتمد على يقين الوحى فهو لذلك قفو، واتباع لما ليس له به علم، وهذا خلاف منطوق الآية الكريمة. ورد هذا بأن اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مأذون له فيه وما أذن له فيه لا يكون قفوا ولا اتباعاً لما ليس له به علم. واستدلوا لما ذهبوا إليه عقلاً فقالوا: 1 - أن الاجتهاد عمل بالظن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قادر على تحصيل اليقين من الوحى في الأحكام، ومن كان قادراً على اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن.

ورد هذا بأن الادعاء أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قادر على تحصيل اليقين بالوحي ممنوع لأنه - صلى الله عليه وسلم -، لا يستطع أن يتحكم في الوحي " باستدعائه " -الذي يكون به اليقين- متى شاء. 2 - لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاملاً بالاجتهاد لما أخَّر جواباً احتاج الناس إليه، ولما انتظر الوحي، لكنه انتظر الوحي في بعض الوقائع، كما في الظهار، واللعان فدل على أن ليس له - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد. ورد هذا بعدم تسليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَّر جواباً سئل عنه. والاستدلال على هذا بدعوى تأخير الجواب في مسألتي اللعان والظهار مردود بما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أجاب على الفور في مسألة الظهار فقال لخولة بنت ثعلبة " ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء ". وفي رواية " ما أعلمك إلا قد حرمت عليه ". وقال في مسألة اللعان لهلال بن أمية - كما في الصحيح: " البينة أو حد في ظهرك " فنزل القرآن الكريم بحكمي اللعان والظهار فكان حكم الظهار ناسخاً لحكم الاجتهاد النبوي الشريف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أراك إلا قد حرمت عَليه ولم أومر في شأنك بشيء ".

وكان حكم اللعان مخصصاً لعموم آية حد قذف المحصن الذي جاء في قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) بمن عدا رمي الزوج لزوجته الذي شَرع له اللعان. قال ابن قدامة في المغني: " أنه لا لعان بين غير الزوجين. . وذلك لأن الله تعالى قال (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ثم خص الزوجات من عموم هذه الآية بقوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) ففيما عداهن يبقى على قضية العموم ". ودعوى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لخولة ما قال " تقريراً لما كان عليه أمر الجاهلية دعوى باطلة لا يليق أن تذكر في اجتهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم. على أنه لو ثبت -جدلاً- أنه عليه الصلاة والسلام أخر الجواب في بعض ما شئل عنه لكان تأخيره من باب الترقب للوحي وجزئيات يرى - صلى الله عليه وسلم - باجتهاده - أن تأخير الاجتهاد فيها لا يفوت مصلحة كما في مسألتي الظهار واللعان لو صح أنه أخر الجواب فيهما. وقال جمهور العلماء: يجوز للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم باجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، بمعنى أن الله تعالى قد أذن للرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان بعض الأحكام

الشرعية والأمور الدينية وغيرها من المصالح التي لم ينزل عليه بها وحي. بيد أن جمهور الحنفية قيدوا هذا الجواز بانتظار الوحي ما لم يخش فوت الحادثة على غير الوجه الشرعي فإن خاف الفوت فله الاجتهاد فيها وقال الإمام أبو يوسف من الحنفية بقول الجمهور دون اشتراط القيد المذكور في قول الحنفية. والإطلاق في جواز الاجتهاد للرسول عليه الصلاة: السلام بمعنى الإذن له في بيان حكم بعض الحوادث -التي لم يوح إليه فيها شَيء- باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - هو مذهب عامة الأصوليين والفقهاء الإمام مالك والشافعي وأحمد ْوأتباعهم - رحمهم الله تعالى - ومذهب جمهور أهل الحديث.

أدلة الجمهور على جواز اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -

أدلة الجمهور على جواز اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد استدل الجمهور لجواز عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد في الأحكام الشرعية والأمور الدينية والحروب بالكتاب والسنة والمعقول. أما أدلتهم من الكتاب فنورد منها ما يلى: 1 - قوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ووجه الاستدلال به أن المشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد إذ لا مشاورة فيما نزل به الوحي. ولا ريب أن الأمر بالمشاورة أمر له بالاجتهاد لاستظهار آراء من معه من المؤمنين ليختار منها باجتهاده ما يراه - صلى الله عليه وسلم - موافقاً للمصلحة وهذا هو الاجتهاد المطلوب. وقول من قال إن الآية واردة في الحرب لا يمنع من ثبوت الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم - بها إذ الحروب جهاد في سبيل الله وهي أحكام شرعية فالاجتهاد فيها يقتضي جواز الاجتهاد في غيرها إذ لا فارق. 2 - قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)). ووجه الاستدلال بهذه الآية

الكريمة في موضعين: - أولاً - أن الله تعالى أمر فيها بطاعته وطاعة رسوله، وطاعة الله تعالى إنما تكون بامتثال جميع ما نزل به وحيه على الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام إنما تكون بامتثال كل حكم يخبر به سواء كان عن وحي أو عن اجتهاد وإلا لم يكن لتخصيص الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الأمر بطاعة الله فائدة في الذكر. قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - تعليقاً على هذه الآية الكريمة في كتابه أعلام الموقعين: " أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ". وقال صاحب تفسير المنار في عرضه لهذه الآية الكريمة: ". . . إن إعادة كلمة (أطيعوا) تدل على تغاير الطاعتين كأن تجعل الأولى طاعة ما نزل الله من القرآن، والثانية طاعة الرسول فيما يأمر به باجتهاد ".

وتخصيص طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمر به باجتهاده لا يتم إلا بضميمة طاعته - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحى إليه وحياً غير متلو إلى قوله " كأن تجعل طاعة مما نزل من القرآن. . الخ " ليكون شاملاً لجميع أنواع الوحي المتلو وغير المتلو. ثانياً - أن الله تعالى أمر في هذه الآية الكريمة المتنازعين في شيء بالرد إلى الله وإلى الرسول. والرد إلى الله رد إلى وحيه المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - سراء أكان متلواً -وهو القرآن الكريم- أم غير متلو وهو وحي السنة المطهرة. والرد إلى الرسول يقتضي أن يكون الأمر المردود إليه غير داخل في الوحي وإلا لزم التكرار، والذي لا يدخل في الوحي وتجب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه هو ما أمر به باجتهاده. وهو الاجتهاد المطلوب. 3 - قوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ووجه الاستدلال به أن الله تعالى قد سوى بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين أولي الأمر -وهم العلماء- في الاستنباط فلو لم يكن الاجتهاد جائزاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - لثبت لغيره من مجتهدي أمته فضيلة ليست له وهذا ممنوع. 4 - قوله تعالى (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ووجه الاستدلال به من ناحيتين:

الأولى: أن الله تعالى جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخيار في الحكم بينهم فإن شاء حكم وإن شاء أعرض ولم يحكم أي أن الأمر مفوض إليه - صلى الله عليه وسلم - فإن رأى -باجتهاده- مصلحة وحسن قبول منهم لحكمه حكم بينهم وإلا أعرض عنهم ولا ضرر عليه منهم. الثانية: أن تقييد أمره بالحكم بينهم (بالقسط) يشعر بزيادة تنبيهه - صلى الله عليه وسلم - على تحري الصواب فيما يحكم به وهو دليل على أن الله تعالى أذن له أن يحكم بينهم باجتهاده لأنه لو كان الحكم بالوحي لم يكن لهذا القيد فائدة بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يحكم إلا بالقسط. 5 - قوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ووجه الاستدلال به أن الآية الكريمة أمر عام بالاعتبار لأهل البصائر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس بصيرة وأصوبهم رأياً وأحسنهم استنباطاً فكان داخلاً في العموم ومأموراً بالتأمل والاعتبار. والاعتبار -عند الأصوليين- هو النظر في علة الحكم المنصوص عليه وتعديتها إلى غير المنصوص عليه للتسوية بينهما في الحكم بمقتضى هذه العلة، قال الفخر الرازي: قال المفسرون " الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها "، وهذا النظر هو الاجتهاد.

أدلتهم من السنة

أدلتهم من السنة وأما ما استدلوا به من السنة المطهرة فوقائع من اجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - وهي كثيرة جداً ذكر أمثلة منها. فمن اجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - ما صدر على صورة القياس ومن هذا النوع: 1 - ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: " نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ " قالت: نعم قال: " فاقضوا الذي له، فإن الله أحق بالوفاء. ووجه الاستدلال بالحديث أنه " - صلى الله عليه وسلم - اعتبر دين الله بدين العباد وذلك بيان بطريق القياس " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - أجابها عما سألت " وضرب لها المثل ليكون أوضح وأوقع في نفسها، وأقرب إلى سرعة فهمها ". 2 - ومن هذا النوع أيضاً إجابته - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب حين قبل عمر امرأته وهو صائم فظن أنه فعل أمراً عظيماً. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " هششت يوماً فقبلت وأنا صائم فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت:

صنعت اليوم أمراً عظيماً فقبلت وأنا صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ " قلت: " لا بأس بذلك " فقال رسول الله: " ففيم؟ ". " أي ففيم تسأل " قال الخطابي: " فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته "، " فقد اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه مقدمة الجماع وهى القبلة بمقدمة الشرب وهي المضمضمة في عدم فساد الصوم، وهو قياس ظاهر بل عدم الفساد في القبلة أظهر لأنها تهيج الشهوة ولا تسكنها والتمضمض يسكن شيئاً من العطش ". وفي القول بأن " المضمضمة مقدمة الشرب " بعض التجاوز والأحسن في القياس أن يقال القبلة قيست على المضمضة في عدم الأثر على الصوم.

ومن اجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - ما كان النظر فيه إلى مقاصد الشريعة وتحقيق مصالح العباد، ومن هذا النوع اجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر الكبرى. 3 - أولاً: قبل المعركة. (أ) نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش في مكان رأى فيه - باجتهاده مصلحة حربية اقتضت عنده عليه صلاة والسلام النزول بالجيش فيه. (ب) قبوله - صلى الله عليه وسلم - رأي الحباب بن المنذر أن هذا المكان ليس منزل رأي وحرب ومكيدة. وذلك بعد أن سأل الحباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن منزله الذي هو فيه بقوله: " يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " قال: " يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فامض بالناس حى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون "، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد أشرت بالرأي ".

4 - ثانياً: بعد المعركة. وبعد انتهاء المعركة وإقامته - صلى الله عليه وسلم - بعرصتها ثلاث ليال كما هي عادته عليه الصلاة والسلام حين يظهر على القوم، انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مؤيدين منصورين قافلين إلى المدينة المنورة حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له -سير- إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، وشاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الأسرى فقال: " ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ " فقال أبو بكر: " يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا

لنا عضداً "، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما ترى يا ابن الخطاب؟ " فقال عمر بن الخطاب: " أخرجوك وكذبوك قربهم فاضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وهؤلاء صناديدهم وقادتهم " فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عليهم شيئاً. . ثم خرج عليهم فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وأن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اليوم أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق ".

ووجه الاستدلال من الحديث على اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موضعين: الموضع الأول: مشاورته أصحابه في شأن الأسرى والمشاورة لا تكون إلا فيما لم ينزل فيه وحي. الموضع الثاني: حكمه - صلى الله عليه وسلم - بعد استطلاع آراء أصحابه بأخذ الفداء. والذي يدل على أن هذا الحكم باجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - نزول قوله تعالى: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) متضمناً الإخبار بمنع العذاب عنهم لسبق الكتاب بحل الغنائم -ومنها الفداء- هم ولو كان ما أخذوه من الفداء بوحي من الله تعالى ما نزل ذلك. على أنه لو نزل وحي -كما في حديث الترمذي وغيره- بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّهم مخيرون بين أخذ الفداء ويقتل منهم مثلهم من قابل أو يقتل الأسرى ويسلم المسلمون - لا يعارض الاجتهاد لأن الاجتهاد حينئذ يكون في اختيار أحد الرأيين المخير بينهما وهو أخذ الفداء أو قتل الأسرى. 5 - ومن اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - سوقه الهدْي في حجة الوداع ورغبته أن لو لم يكن ساقه ليرفع المشقة عن أصحابه حين علم ما حل بهم من مشقة الاستمرار على الإحرام حتى انتهاء مناسك الحج. روى البخاري وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ".

ووجه الاستدلال منه على اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في موضعين: الموضع الأول: سوقه الهدي وهو قربة من القرب وأقل درجات القربة: الندب فهو حكم شرعى فعله باجتهاده إذ لم يعلم له نص يدل على طلبه. الموضع الثاني: رغبته - صلى الله عليه وسلم - حين علم ما حل بأصحابه من مشقة استمرارهم على الإحرام حتى انتهائهم من مناسك الحج أن لو لم يكن ساقه فيتمتع ليقتدي به أصحابه لتزول عنهم المشقة. 6 - ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا قال: " قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم " وذلك في رمضان. ووجه الاستدلال منه على اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - أنه " توقع أن يترتب على المواظبة على صلاة الليل جماعة فرضها عليهم " كما هي واجبة عليه - صلى الله عليه وسلم - " لأن الأصل في الشرع المساواة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته في العبادة " كما قال ابن بطال ما لم يدل دليل على الخصوصية فأداه اجتهاده عليه

الصلاة والسلام بسبب رحمته بهم إلى عدم الخروج إليهم والصلاة بهم خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها. 7 - ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: " بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث فقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: " إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما ". ووجه الاستدلال منه أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أولاً بحرق الرجلين الكافرين ثم عدل عن الأمر بحرقهما إلى الأمر بقتلهما معللاً عدوله عن حرقهما بأن النار لا يعذب بها إلا الله ولو كان ما أمر به أولاً عن وحي لما رجع عنه، ومما يدل على أن أمره الأول كان باجتهاد منه. ما جاء في رواية أخرى بلفظ " ثم رأيت أنه لا ينبغى أن يعذب بالنار إلا الله ". وقد استدل به الحافظ ابن حجر على " جواز الحكم بالشيء اجتهاداً ثم الرجوع عنه ". وقد جمع بعض الأفاضل من العلماء اجتهادات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مؤلف خاص بها، فذكر من اجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - ما ينوف على ثلاثين موضعاً.

أظهر أدلتهم العقلية

أظهر أدلتهم العقلية ما قدمنا من الأدلة النقلية هي خلاصة ما يجب الاعتماد عليه في إثبات اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنها وقائع ثبتت بطرق صحيحة متصلة كثيرة لا يمكن العدول عنها وتركها من أجل تخرصات وتخيلات عقلية لا يسندها دليل ثابت، ومع ذلك أورد الجمهور أدلة عقلية لإثبات اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أظهرها ما يلى: 1 - أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص، وزيادة المشقة سبب لزيادة الثواب لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في عمرتها فيما يرويه الدارقطني والحاكم: " أن لك من الأجر على قدر نصبك ونففتك " فلو لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام عاملا بالاجتهاد مع عمل أمته به للزم اختصاص أمته بفضيلة ليست له - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن. وهو ممنوع فكذلك القول بعدم جواز اجتهاده ممنوع. 2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على علم تام بمعاني النصوص وملاحظة إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص لسلامة نظره وبعده عن الخطأ، والإقرار عليه، وهذا يرجح إثبات الحكم في الفرع ضرورة فلو لم يقض به لكان تاركاً لما ظنه حكم الله تعالى على بصيرة منه وهو حرام بالإجماع.

واعترض على هذا بأن عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد لا يكون إلا عند عدم معرفة الحكم بالوحي. وهذا الشرط لا يتبين في حقه - صلى الله عليه وسلم - فلا مشروط. ويجاب عنه بأن هذا الشرط يمكن تبينه بالقرائن والأمارات التي تدل على الاجتهاد، كما يمكن تبينه بجواز الخطأ في الحكم بالاجتهاد بخلاف ما كان عن وحي فلا يحتاج إلى قرائن وأمارات ولا يمكن وقوع الخصأ فيه. وقالت طائفة: يجوز له - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد فيما يتعلق بالحروب دون غيرها من الأحكام الشرعية. ولا شك أن المراد بالحروب هنا الجهاد في سبيل الله تعالى وهو أمر ديني قطعاً لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجاهد الكافرين لطلب شيء من الدنيا وإنما قاتلهم في سبيل الله وإعلاء لدينه فاستثناؤه من الأحكام الشرعية مما لا يظهر له وجه إلا على رأي من يقول: " أن الحروب قائم أمرها على الفورية فلا تحتمل التأخير لا يترتب على التأخير من مفاسد يجب دفعها بالاجتهاد ". وهذا لا يخرجها عن كونها أمراً شرعياً.

وقد اتفقت جميع الطوائف على جواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم - في أمور الدنيا، ونص على هذا الاتفاق النووي في شرح صحيح مسلم، وذكره الشوكاني في إرشاد الفحول بلفظ الإجماع عن سليم الرازي وابن حزم.

أدلة القائلين بجواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم - في الحروب فقط

أدلة القائلين بجواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم - في الحروب فقط واستدل هؤلاء بما وقع في كثير من الروايات في عمله بالاجتهاد في الحروب كما في إنزاله الجيش في غزوة بدر الكبرى في مكان قبل المعركة وتحوله منه إلى مكان آخر بإشارة الحباب بن المنذر، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وأذنه للمتخلفين عنه في غزوة تبوك وغيرها من وقائع اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في الحروب. واستدلوا أيضاً بأن أمر الحروب قائم على الفور لدفع ما يتوقع من مفسدة لا تحتمل الانتظار بخلاف الأحكام الشرعية فيمكن الانتظار فيها ما لم يخش الفوت كما هو مذهب الحنفية في تجويز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم.

الباب الثالث

الباب الثالث ويشتمل على: 1 - بيان معنى العتاب وحقيقته. 2 - بيان معنى الذنب. وتحليل الآيات القرآنية الكريمة التي ورد فيها ذكر الذنب مضافاً إلى ضمير خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 3 - بيان معنى التوبة واختلافها باختلاف التائبين. 4 - بيان أنواع العتاب في الآيات التي وقع فيها البحث. * * * *

معنى العتاب

معنى العتاب نظر المعنيون بدراسة البيان العربي وآدابه إلى مناهج التعبير وأساليب التخاطب التي ينقل بها المتكلم ما يروم التحدث به إلى غيره، فوجدوا أن هناك دوافع ومحرضات تحمل المتكلم على إظهار ما لديه من معان في نظم من القول تختلف أساليبه وفنونه بحسب اختلاف الموضوع الذي يراد فهمه وإفهامه طبقاً لمقتضى الحال، فليس مقام أداء الحقائق العلمية كأداء المعاني الأدبية، وليس أداء الحقائق التعبدية كأداء حقائق الترغيب والترهيب، وليس القول في المعاتبة كالقول في التغضب والهجران وهكذا في سائر مقامات الكلام إذ لكل مقام مقال كما يقول أرباب البلاغة. * * * تباين أسلوب الآيات المكية والمدنية في تربية الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عالج القرآن الكريم مقامات الكلام وأساليبه بحسب موضوعاتها فنرى اختلاف الأساليب المكية التي جاءت لإثبات العقيدة والبرهنة عليها ومجادلة المخالفين لها -في الأعم الأغلب- عن أساليبه في السور المدنية التي جاءت -في أكثر أحوالها ومناسباتها- لبيان الأحكام الشرعية والآداب الاجتماعية، والصفات الخلقية، وأحوال المجتمع السياسية، وأصول الحكم وغير ذلك. ففي السور المكية نلمح شدة الأسلوب وقوة الأسر في العبارات وقصر الفقر والآيات، ونزولها على نحو من الاتساق النظمي ليكون مدخلاً لها إلى القلوب. ونرى في السور المدنية هدوءاً في التعبير، وتفصيلاً في بيان الأحكام والشرائع.

ومن ثم نرى هذا الاختلاف في أسلوب آيات التربية الإلهية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي في الآيات المكية تحمل في طياتها قوة صارمة وتوجيهاً بليغاً، وذلك لحفز عزيمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقوية إرادته أمام مصادمة العناد الكافر ومجادلة الشرك والوثنية. وفي الآيات المدنية تأتي آيات التربية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وادعة هادئة موجهة كأنما هي سلاسل من العطف، والحنو الدافع إلى الامتثال. وعلى هذا الأساس نجد أن آيات التربية والعتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وما يجري مجراها مما جاء للنضح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والدفاع عنه تجري في هذا المجرى فنجد مثلاً في سورة الحاقة وهي مكية قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)). وفي سورة الإسراء وهي مكية أيضاً نجد قوله تعالى: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75). ونجد في مفتتح سورة عبس هذا اللون التربوي بأجلى صورة. بينما نجد في سورة التوبة -وهي مدنية- قوله تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وفي مفتتح سورة التحريم -وهي مدنية أيضاً- نجد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

ما يلمح من شدة العتاب فيراد به تربية المجتمع

فافتتاح الآية بهذا الاستفهام المتلطف في التقرير وختمها بقوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غاية في التلطف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يدل دلالة قاطعة على أن أسلوب الآيات التربوية يجري في نسق الآيات المكية بما فيها من القوه والشدة، ونجد أسلوب آيات التربية والعتاب يجري في نسق السور المدنية بما فيها من لين الجانب ووداعة الأسلوب والتوجيه. * * * ما يلمح من شدة العتاب فيراد به تربية المجتمع وما قد يلمح من شدة في بعض آيات العتاب المدنية مثل قوله تعالى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)). فإنما القصد فيه إلى نوع من تربية المجتمع الإسلامى في أشخاص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لتكون أسساً للتربية العامة في جميع مراحل الحياة، ولهذا عدل عن توجيه الكلام بطريق الإفراد في أول الكلام في قوله (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ... ) الذي أخرج مخرج الغيبة مع أن المقصود به هو النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجمع في قوله (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) الذي قصد به تربية جماعة المؤمنين. ولما كان موضوع رسالتنا البحث في آيات عتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من اللازم أن نبين المعاني التي استعمل فيها العتاب ونستطرد إلى بيان معنى الذنب كذلك، ثم نبين معنى التوبة مما أسند للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الآيات لينصرف الكلام بعد ذلك إلى الحديث عن آيات العتاب التي وقفنا عليها

العتاب في اللغة

في سور القرآن الكريم. * * * العتاب في اللغة ونبدأ بالعتاب فنقول: مادة (عتب) في اللغة تستعمل لمعان كثيرة منها: أن العتاب مخاطبة الإدلال والإشفاق. قال الخليل: " وحقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموحدة ". وقد بسط الأزهري في التهذيب عبارة الخليل فقال: ". . والعتاب مخاطبة الإدلال وكلام المدلين أخِلاءَهم طالبين حسن مراجعتهم ومذاكرة بعضهم بعضاً ما كرهوه مما كسبهم الموحدة ". وهذا المعنى هو أنسب معاني العتاب وأمسها بموضوعنا. وعلى ضوئه نفهم أن عتاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - معناه: تذكيره - صلى الله عليه وسلم - في تلطف وإشفاق- لما يقع من الخطأ في اجتهاده توصلاً إلى تصحيح هذا الخطأ الذي يعود به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى موافقة مراد الله تعالى، وتحقيق المطلوب منه عليه الصلاة والسلام فينال كامل الرضا. * * * منهجي في التعرف على آيات العتاب بعد أن وفقني الله تعالى لاختيار آيات عتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - موضوعاً لبحثي عدت إلى القرآن الكريم أتلوه وأتتبع آياته وأقف عند كلماته، أقضي في تلاوته -والحمد لله- ساعات طويلة ليل نهار منفرداً بنفسي منعماً الفكر فيما يوجه فيه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محاولاً أن أستخلص آيات عتابه عليه الصلاة والسلام من غيرها.

أنواع عتاب الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام:

فلما غلب على ظني مواطن العتاب في آيات، وأصبحت ماثلة في ذهني عدت ثانية أعمل الفكر في ترتيبها وأبحث عن نهج يمكنني أن أضبط به أنواع العتاب فيها مستهدياً الله تعالى في أن يكون هذا النهج منسجماً مع المقصود من آيات عتاب سيد الخلق سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدت -بحسب ما وصل إليه علمي- أن العتاب في هذه الآيات لا يخرج عن ثلاثة أنواع رئيسية هي: أنواع عتاب الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: 1 - النوع الأول: - عتاب التوجيه: القسم الأول من هذه الأنواع هو ما أطلقنا عليه (عتاب التوجيه) وهو ما يقصد به توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -في مطلع الرسالة والدعوة إليها- إلى ما يراد منه في تبليغ ما أنزله الله عليه من آيات رسالته وتبليغ ذلك إلى الأمة مهما لاقى في سبيل ذلك من إعنات وعناد وعقبات وإيذاء، ووقوفه بعزيمة صارمة وقوة إرادة ماضية أمام طغيان الشرك وعناد المشركين وشدة تمسكهم بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من وثنية ملحدة وكفر عنيد، فلا يبالي بما يلقاه منهم من تكذيب ورد لرسالته، وسخرية به واستهزاء بما يلقيه إليهم من آيات الله حتى يخرجهم من ظلمات هذه الجهالة البليدة إلى نور المعرفة والعلم فيعرفوا الحق ويتقلبوه ويهتدوا بهديه. وهذا النوع ينقسم إلى قسمين فرعيين:

أولهما: عتاب الدفع وتقوية العزيمة لينهض الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأبلغ الطاقة البشرية في تبليغ الرسالة ونشر الدعوة وألا يبالي بشيء يقف معوقاً لرسالته وتبليغ دعوته. ثانيهما: عتاب الإقصار والمقصود منه تخفيف اندفاع النبي - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ عما يشق على نفسه من الجهد، وبذل فوق ما يستطع من طاقته البشرية حتى كاد يبخع نفسه ويضعف قوته لعظم ما كان يكابد مما كاد -لو استمر فيه- أن يؤخر نشر الدعوة. وهذا القسم كالثمرة للقسم الأول لأن ما جاء في قوة الدفع والإغراء وشدة الخطاب جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يندفع بقوة إلى تبليغ ما أنزل عليه ربه من آيات تخاطب الكفار وتجبه المشركين تجبيها يغمزهم من جميع جوانبهم العقدية والعقلية والاجتماعية حتى كان - صلى الله عليه وسلم - يبلغ في ذلك كل مبلغ مما كاد يمس نهوضه بتبليغ رسالته ونشر دعوته كما عبر عنه القرآن الكريم فيما سنسوقه من آيات. فجاء هذا للرجوع به - صلى الله عليه وسلم - إلى الطريق الوسط السوي الذي يؤدي به إلى تبليغ رسالته تبليغاً بيناً دون أن يلحقه في ذلك إرهاق ربما أخر من سير الرسالة وقوفاً " مع ما أمر به مما هو تسبب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ".

2 - النوع الثاني: عتاب التنبيه: القسم الثاني من أقسام العتاب الرئيسية ما سميناه (عتاب التنبيه) والمقصود منه تنبيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يحتمل وقوعه منه لو لم ينبه إلى ذلك لوقع مثل ذلك الفعل منه مرة أخرى. 3 - النوع الثالث: عتاب التحذير: النوع الثالث من أنواع العتاب الرئيسبة هو ما سميناه (عتاب التحذير) والمقصود منه تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عاقبة أمر وقع فيه خطأ في اجتهاد يترتب عليه لو لم يحذر منه - ضرر في التشريع والأحكام وسير الأمة على مقتضى رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته التي جاء بها من عند الله تعالى. * * *

الذنب

الذنب ترجع حقيقة الذنب في اللغة إلى الفعل الذي تستوخم عاقبته كما فسره الراغب في مفرداته. وشرعاً يرجع الذنب إلى مخالفة أمر الله أو نهيه. * * * اختلاف نسبة الذنب باختلاف الفعل والفاعل وقصد الفاعل وهو أمر نسبي يختلف باختلاف الفعل والفاعل وقصد الفاعل فليست المخالفة من العالم كالمخالفة من الجاهل، وليست المخالفة الواقعة عن اجتهاد كالمخالفة التي لا تقع عن اجتهاد، وليست المخالفة الواقعة بالقصد والتعمد كالمخالفة الواقعة بالنسيان. * * * إسناد الذنب إلى ضمير خطاب رسول الله في القرآن الكريم ومن هنا تختلف الذنوب ومسئولياتها بالنسبة للفاعل، والحوادث. وعلى ضوء ذلك نفهم معاني الآيات التي ورد فيها إسناد الذنب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضافا إلى ضمير خطابه - صلى الله عليه وسلم -. وهي في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: الموضع الأول: جاء في سورة غافر وهو قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)). الموضع الثاني: جاء فِي سورة القتال - سوره محمد - وهو قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

دلالة أمره تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر

الموضع الثالث: جاء في أول سورة الفتح وهو قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)). * * * دلالة أمره تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر أما الآية الأولى وهي آية سورة غافر فقد جاءت بعد أن بين الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه تعالى ينصر رسله وعباده المؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم ذكر أن اليوم الآخر لا تنفع الظالمين فيه معذرتهم، ووصمهم بأن لهم اللعنة ولهم سوء الدار، ثم ذكر أنه تعالى آتى موسى الهدى وأورث بني إسرائيل الكتاب وجعله هدى وذكرى لأولي الألباب للتأسي بموسى - صلى الله عليه وسلم - في صبره على أذى قومه. ثم وجه الخطاب لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال له (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) الآية. وهذا السياق مشعر بأن المعاندين من الكفرة المشركين كانوا في موقف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يشعر بالشدة وسوء اللقاء فأخبره الله تعالى بأنه سبحانه ناصر رسله وناصر المؤمنين، وأن هؤلاء المعاندين سيلقون جزاءهم في الدار الآخرة، وذكر له بعد ذلك أنه أنزل على عبده موسى التوراة وجعلها هدى وذكرى لأولى الألباب. وهذا السياق تضمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حالة من ضيق الصدر والضجر لما يلقاه من أعداء دعوته المعاندين المستكبرين من إعراض ومعوقات يقيمونها أمام نشر دعوته وتبليغ رسالته، فكان ما سبق آية

دلالة أمره - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار في سورة محمد

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) فيه تنبيه إلى التأسي بما كان لأنبياء الله ورسله، وذكر منهم كليمه موسى عليه الصلاة والسلام ووعده إياهم بالنصر. ففي هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر له بالتأسي بإخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال له: (فَاصْبِرْ) ثم عقب ذلك بأن وعد الله المتضمن لنصر الرسل والمؤمنين في الدنيا والآخرة حق ثابت لا ريب فيه آت لا يتخلف. ثم أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار لما كان منه من الضجر وضيق الصدر. ثم عقب سبحانه وتعالى الأمر بالاستغفار بطلب التسبيح والتحميد استغراقاً لسائر أوقاته العبر عنها " بالعشي والإبكار " حتى لا يفرغ لحظة من اللحظات يضيق فيها صدره ويضجر لما كان يلقاه وهو دائب على تبليغ رسالته ونشر دعوته وتحمل ما يلقى في سبيلها " فإن من كان لله كان الله له ". * * * دلالة أمره - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار في سورة محمد أما الآية الثانية -وهي آية سورة محمد- فقد جاءت عقب بيان حال المنافقين الذين يستمعون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا خرجوا من عنده تجاهلوا ما سهوا، وتغافلوا عنه قالوا مستهزئين: " ماذا قال آنفاً؟ ". وبعد بيان أن هؤلاء المنافقين طبع الله على قلوبهم وسد منها منافذ الهداية أن تدخل إليها، بين أن المؤمنين المهتدين يزيدهم ما يسمعون منه - صلى الله عليه وسلم - هدى وتقوى.

دلالته في آية سورة الفتح

ثم ذكر عن هؤلاء المنافقين أنَّهم في حالهم هذا لا ينتظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وقد جاءتهم أشراطها وعلاماتها فلن تنفعهم ذكراهم. ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) الآية، وهذا السياق مؤذن بأن المنافقين كانوا في نفاقهم معوقين للرسالة مستهزئين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من الهدى -شأنهم في ذلك شأن المشركين المعاندين المستكبرين الذين ذكروا في آية سورة غافر- وأن المؤمنين هم المستعدون لقبول الهداية، وهم الذين تنفعهم الذكرى إذا ذكروا. فأمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بعلم ما يعلمه من توحيده وانفراده تعالى بالربوبية، ووجوب تفريده بالعبودبة تيئيس له - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المنافقين الذين طبع الله على قلوبهم وأمر له بالتطهر من أن يسمع لقولهم أو يصغى إلى استهزائهم وسخريتهم. ولذلك أمر بالاستغفار لما سمى ذنباً مسنداً إليه باعتبار ما يشغل قلبه الطاهر لو لم ينصرف عنهم وييأس منهم. وطلب منه الاستغفار للمؤمنين المهتدين الذين يزيدهم الهدى هدى وتقوى تشريكاً معه - صلى الله عليه وسلم - في استغفاره لنفسه تشريفاً لهم وتنويهاً بمقامهم من الإيمان. * * * دلالته في آية سورة الفتح أما الآية الثالثة -وهي آية سورة الفتح- فقد افتتحت بها أعظم نعمة مَنَّ الله تعالى بها على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، تلك النعمة هي البشرى بالفتح المبين، والبشرى بالتطهير الدائم للنبي - صلى الله عليه وسلم - من كل ما كان يعتريه من الضيق والضجر في سبيل تبليغ رسالته لأن هذا الفتح المبين كان أساساً لإتمام النعمة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهدايته الدائمة إلى الصراط المستقيم، ونصر الله له نصراً

تهنئة وتطلع

عزيزاً أعزه الله به وأعز به دينه وأعز به أصحابه المؤمنين فكان ذلك أعظم نعمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ بعد فتح مكة -المبشر به- صارت الدعوة الإسلامية ظاهرة غالبة "، وأقبلت وفود العرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل وجه يدخلون في دين الله أفواجاً، فزال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يضيق به صدره ويضجره من صد وصدود المشركين من دعوته وتحقق له النصر المؤزر والظفر القاهر لأعدائه، وفتح أمام دعوته الطريق فانتشرت في العالم وخفق لواؤها على ربوع المعمور من الأرض. وبهذا تمت نعمة الله على رسوله وعباده المؤمنين، وتتابع النصر في الجهاد وتبليغ الرسالة، فكان نصراً عزيزاً قوياً غالباً ثم يتحقق مثله لدعوة من دعوات الأنبياء والمرسلين. * * * تهنئة وتطلع وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - من هذه البشرى قدر ما أنعم الله به على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهنّأَوه على هذا الفتح المبين والتطهير العظيم، وإتمام النعمة وتحقق النصر فقالوا له - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري: " هنيئاً مريئاً فما لنا؟ " فأنزل الله تعالى: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)). * * *

التوبة

التوبة التوبة لغة ترجع مادة التوبة ومثلها مادة (الإنابة) وما تصرف منهما في الاستعمال اللغوي إلى الرجوع، يقال: " تاب وناب وأناب إذا رجع ". * * * اختلاف التوبة باختلاف التائبين وعلى ذلك تكون التوبة في الاصطلاح الشرعي مختلفة المعنى باختلاف التائبين، فإن كان التائبون ممن يجوز وقوع الذنوب والمخالفات منهم فمعنى التوبة بالنسبة لهم رجوعهم عما وقع منهم بالندم على فعله والعزم على عدم العودة إليه. وإن كان التائب ممن لا يجوز أن يقع منه ذنب بمخالفة أمر أو نهي كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالتوبة منه الرجوع عن حالة في مقام العبودية إلى حالة أرفع منها. وعلى هذا الأساس تُنَزَّل معاني الآيات التي أسندت فيها التوبة إخباراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 1 - بينا في باب العصمة أن الاتفاق واقع بين سائر الطوائف على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من وقوع الذنوب منهم بعد النبوة عمداً صغائر وكبائر. 2 - اختلف الناس في جواز وقوع الذنوب منهم عليهم الصلاة والسلام بعد النبوة سهواً أو نسياناً.

ومذهب جمهور أهل السنة أن هذا لاحق بالقسم الأول لا يجوز عليهم وقوعه منهم. 3 - ذهب فريق من العلماء إلى عدم جواز وقوع الذنوب منهم عمداً قبل النبوة وهي جائزة منهم سهواً أو نسياناً قبلها. وجمهور العلماء على جواز وقوع الذنوب منهم قبل النبوة عمداً أو نسياناً وهذا في الذنوب التي لا تخدش المروءة ولا تلحق بصاحبها ذلاً أو مهانة أو نقصاً. على أساس هذا البيان رجحنا مذهب جمهور أهل السنة من أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام في مقدمتهم سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين- معصومون من وقوع الذنب منهم عمداً أو نسياناً بعد النبوة باتفاق، وقبلها ترجيحاً. ثم ذكرنا فصلاً مسهباً في اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بينا فيه حقه عليه الصلاة والسلام في الاجتهاد وأنه مأذون له فيه من الله تعالى فيما لم ينزل عليه به وحي. وهذا الإذن يقتضي جواز اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حادثة تعرض له أو للمسلمين، ولم ينزل عليه فيها وحي أن يبذل جهده وتفكيره فيما يحقق صالح الإسلام والمسلمين. وعلى هذا جرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته الكريمة ينزل عليه الوحى فيتبع أمر ربه بما جاءه به، وتعرض الحادثة من حوادث المجتمع الإسلامي ويتأخر الوحي قليلاً أو كثيراً وتتطلب المصلحة الكشف عن حكم هذه الحادثة فيجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، ويخبر بالحكم الذي أداه إليه فيها اجتهاده.

وقد يكون هذا الاجتهاد صواباً فيقره الله تعالى عليه فيصبح وحياً، وقد يكون هذا الاجتهاد خطأ فينزل علية الوحي بتصويب ما أخطأ فيه عليه الصلاة والسلام فيثبت الحكم بالوحي، ويصدق في كلا الحالين أنه - صلى الله عليه وسلم - اتبع ما يوحى إليه من ربه، وما نطق عن الهوى. * * *

آيات عتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -

آيات عتاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بينا -فيما سبق- أن العتاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آيات القرآن -التي غلب على ظني أنها موضع عتاب له عليه الصلاة والسلام- لا يخرج عن ثلاثة أنواع رئيسية، وقد بينت حقيقة هذه الأنواع والمقصود منها. وآتي الآن إلى تفصيلها، وعرض الآيات التي تمثل كل نوع منها كل على حدة آملاً من الله تعالى التوفيق والهداية إلى ما فيه السداد وحسن الأدب في بيان المراد. النوع الأول من أنواع عتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ما سميناه (عتاب التوجيه) -كما سبق أن أوضحنا ذلك- وهو يشمل حالين من أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته إلى الله. * * * الحال الأول من عتاب التوجيه الحال الأول: حينما فجأه الوحي بالرسالة والأمر بتبليغها إلى الخلق في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)). وهي أول آية نزلت بالإنذار العام، وقد وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه وحيداً في هذا الشأن، وليس معه أحد على مثل ما طلب منه فاستعظم على نفسه إخراج الناس مما هم فيه من كفر وضلال إلى الهدى والنور، فضاق صدره الشريف الطاهر ذرعاً، وتهيب أن يواجه الناس بالتبليغ خشية أن يكذبوه، ويردوا عليه رسالته، فصمت، ولم يسارع إلى أمر الله بالإنذار، فإن ما كلف به من

مواجهة الناس بأن يعبدوا الله إلهاً واحداً ويتركوا ما ألفوه هم وآباؤهم من عبادة الآلهة المتعددة لأمر جلل في معيارهم الفكري، وعرفهم الجاهلي تنخلع له قلوبهم، يهبون لرده عن بكرة أبيهم ذوداً عن كيانهم، وإبقاء على معتقدهم القديم. فليس من اليسير إذن مواجهتهم حالاً بما يكرهون، إذ الإقدام على ذلك -دون تريث وأعمال فكر في أنجع السبل التي تكفل ولو في ظاهر الحال حسن استجابتهم- قد يكون سبباً لصدودهم عنه وعدم قبولهم منه وذلك معناه الاستهداف لسهامه، والتعرض لغضبهم، والوقوع في نقمتهم. في ظل هذا الموقف تريث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إبلاغ قومه، وصمت، ولعله في ذلك كان يتلمس أفضل السبل التي يمكنه بها إبلاغ ما أمره الله به إليهم بسبيل تكون أقرب إلى الاستجابة فنزل عليه جبريل - عليه السلام - فأمره أن يسرع إلى تبليغ أمر ربه، وإلا تعرض لعذابه، روى الإمام البخاري -في كتاب " خلق أفعال العباد "-. عن أبي الأحوص عن أبيه قال: " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصعد في النظر وصوب، قلت: إلى م تدعو؟ وعم تنهى؟ قال: " لا شيء إلا الله والرحم " قال: " أتتني رسالة من ربي فضقت بها ذرعاً، ورأيت أن الناس سيكذبونني فقيل لي: لتفعلن أو ليفعلن بك ".

قال الحافظ ابن حجر -في الفتح-: " وأصله في السنن، وصححه ابن حبان والحاكم ". وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ". وأخرج ابن راهويه في مسنده - كما ذكره الآلوسى في روح المعاني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعاً، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة فقويت ". قال القرطبي في تفسيره: ": قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية " أي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). قال السيوطي: " وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي - رضي الله عنه - قال:

" لما نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني مهما أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاء جبريل فقال: يا محمد إنك إن لم ْتفعل ما تؤمر به يعذبك ربك ". وروى البيهقي في الدلائل عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - أن الله تعالى لما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يعلم الناس نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان به كبر عليه ذلك وخاف التكذيب، وأنْ يتناول، فنزل عليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني " فأنزلت (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)

من تلطف الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - في الخطاب

وزاد الآلوسي -في روح المعاني- إسناده إلى ابن حبان في تفسيره. قال السيوطي: " وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد " قال: لما نزلت (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع على الناس " فنزلت (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ). كان نزول هذه الآية (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) باعثاً قوياً في تجديد عزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقوية إرادته على تبليغ رسالته، ودافعاً قوياً على الامتثال مهما لاقى في سبيل ذلك من شدائد وأزمات لما في الأمر من وجوب التبليغ ولما في خطاب الآية من الشدة عليه. * * * من تَلَطُّف الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - في الخطاب وقد علم الله تعالى ذلك من رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتلطف به لتخفيف ما وقع على قلبه الرحيم الطاهر من شدة الخطاب فأنزل عليه بعد ذلك قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ليلفت نظره إلى أنه هو في رسالته قوة قاهرة لا تغلبها قوة ولكنه سبحانه وتعالى قد جعل له سببلاً من الأسباب الظاهرة التي تخفف عنه - صلى الله عليه وسلم - شدائد الخطاب، وتبعث في قلبه الطمأنينة فقال له: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).

الحال الأولى

الحال الأولى فإن الأمر بإنذار عشيرته الأقربين -وهو أمر بالإنذار الخاص بعد تقدم درس التربية بخطاب ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. . .) الآية له حكمته الخاصة، وهو أن يأنس الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطبيعته البشرية إلى أنه سيجد بجانبه من يقف معه إيماناً أو حمية فيزيده ذلك إسراعاً في امتثال أمر الله تعالى إلى التبليغ، ولذلك جاء في حديث علي - رضي الله عنه - الذي قدمنا صدره ومن خرجه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا علياً فقال له: " اصنع لي صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واجعل لنا عساً من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم، وأبلّغ ما أُمرت به " قال علي: ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول النبي - صلى الله عليه وسلم - بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: " كلوا بسم الله " فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما ترى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم ثم قال: " اسق القوم يا علي " فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم. فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما كان الغد قال: " يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق

القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي " ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه. . ". وحديث علي هذا مروي مجزأ بطرق ليس فيها طعن فقوله " ضقت بها ذرعاً " موجود في حديث أبي الأحوص، وحديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس، وفي مرسل الحسن السابقة، وقصة صنع الطعام ومبادرة أبي لهب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يكره موجودة في حديث البراء عند ابن مردويه. وقصة اجتماع القوم لدعوتهم إلى الله تعالى موجودة في صحيح البخاري، وجمع ناس من أهله - صلى الله عليه وسلم - في مسند الإمام أحمد. واعتبر الحافظ ابن كثير -في البداية والنهاية- أن في طريق ابن أبي حاتم شاهداً لحديث علي الذي سقناه آنفاً ثم قال فيها أيضاً: " وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الأسدي، وربيعة ابن

الحال الثانية

ناجذ عن علي أيضاً نحو ما تقدم أو كالشاهد له. وذكر الحافظ ابن حجر -في الفتح- قطعتين من حديث علي هذا وأسند إخراجه إلى ابن إسحاق والطبري والبيهقي في الدلائل ولم يذكر فيه طعناً، وأشار إلى أن حديث علي هذا هو عند ابن أبي حاتم من وجه آخر " وذكر في إحدى القطعتين ما بين الروايتين من اختلاف في عدد من حضر الطعام الذي دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه القوم من عشيرته لما نزلت الآية. * * * الحال الثانية بعد أن أنذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشيرته الأقربين في اجتماعه بهم وبلغهم أنه جاءهم بخير الدنيا والآخرة، وأن الله تعالى أمره أن يدعوهم إليه فبدره أبو لهب بما بدره به من الإعراض عن الهداية وعدم قبول الإيمان وقام القوم، وتفرقوا عنه، وبلغ هذا الموقف ملأ قريش وطواغيتهم فاشتدت عداوة قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واشتد إيذاؤهم له ولأصحابه، فاشتدت عزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعالت في مواجهة التحدي، ومضى قدماً في تبليغ رسالته والدعوة إليها لا يبالي من قريش غضبهم أو سخطهم إذا أسمعهم ما أنزل إليه في شأن آلهتهم، وتسفيه أحلامهم فكان أبو طالب يحرسه ويرسل معه -إذا خرج- بعض بني هاشم ليحرسوه فأنزل الله تعالى عليه قوله عز شأنه (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرس.

حراسة فتيان بني هاشم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

حراسة فتيان بني هاشم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى ابن كثير عن ابن مردويه والطبراني، وأخرج السيوطي عنهما أيضاً وعن أبي الشيخ وأبي نعيم في الدلائل وابن عساكر وكذلك الآلوسي في تفسيره عمن تقدم ما عدا الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه الآية (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه كعادته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد عصمني من الجن والإنس ". وروى ابن كثير والسيوطي في تفسيريهما عن ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فذهب ليبعث معه فقال: " يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة إلى من تبعث ". ومعنى الآية يقتضي أنها نزلت بمكة أيام الشدائد والأزمات التي كانت تعترض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو قومه ويبلغهم ما أنزل إليه من ربه، وفيه عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم فكانوا ينفرون منه لذلك.

العباس أحد حراس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فحوى الخطاب بهذه الآية وأسلوبها بما فيه من قوة وتحذير يقتضى أنَّهَا واردة على أمر اقتضاه حفزاً لعزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقوية لإرادته على التبليغ رغم ما فيه مما ينفرهم فكأنه قيل له: بلغ ما أنزل إليك من ربك غير مبال بهم ولا خائفاً شيئا من قبلهم أو من غيرهم فقد تكفل الله بعصمتك منهم ومنعهم من أن يقتلوك أو يكفوك عن أداء رسالة ربك فأنت الظاهر عليهم ولك العقبى. * * * العباس أحد حراس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى ابن كثير عن ابن مردويه، والسيوطي في الدر عنه وعن الطبراني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: " كان العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن يحرسه فلما نزلت هذه الآية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرس ". والعباس في حراسته هذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو -بلا شك- أحد فتيان بني هاشم الذين كان يبعثهم أبو طالب كل يوم لحراسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذهاب الحافظ لبن حجر -في الفتح- إلى أن ملازمة العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت بعد فتح مكة عدول منه - رحمه الله تعالى - عما تلهمه الآية ويقتضيه حال الدعوة في مستهلها من حاجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى العصمة من الناس ليتمكن من إبلاغهم ما أمره الله بتبليغهم إياه. واستدلاله على ما ذهب إليه بما ورد في الأخبار من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرس في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي رجوعه من خيبر وفي وادي القرى وفي عمرة القضية وفي حنين،: هذا يقتضى عنده نزول الآية متراخية عن

(ملازمة العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم)

وقعة حنين غير مسلم من وجهين: * * * (ملازمة العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم) الوجه الأول: أن ملازمة العباس للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومداومته عليها كانت معلومة للناس بمكة قبل الهجرة، فقد كان من لا يعرف شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العرب، ولم يسبق له أن رآه، ويعرف عمه العباس فإنه يدل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه الرجل الذي يجلس مع العباس بن عبد المطلب. * * * (قدوم البراء وكعب ابن مالك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم) ومن أمثلة ذلك ما روى ابن سيد الناس في عيون الأثر، وابن كثير في البداية والنهاية من أن البراء بن معرور، وكعب بن مالك الأنصاريين رضي الله عنهما قدما مكة عام بيعة العقبة الكبرى - وكانا قد أسلما في المدينة على يد مصعب ابن عمير - رضي الله عنه - فذهبا يسألان أهل مكة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونا يعرفانه ولا سبق لهما أن رأياه فأخبرهما رجل من أهل مكة بأنه الرجل الذي يجلس مع العباس بن عبد المطلب في المسجد، قال البراء: " خرجنا في حجاج قومنا من المشركين. . حتى قدمنا مكة. . فخرجنا نسأل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك - فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تعرفانه؟ قلنا: لا. فقال: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال:

(حضور العباس بيعة العقبة الكبرى)

قلنا: نعم -وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجراً- قال: فإذا دخلت المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، قال: فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: " هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ " قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك، قال: " كعب بن مالك " فوالله ما أنسى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الشاعر؟ " قال: نعم ". * * * (حضور العباس بيعة العقبة الكبرى) ومما يؤيد ملازمة العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة أيضاً -وهي بلا ريب ذات هدف سام أهم ما فيها حراسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه- أن العباس لم يترك رسول الله عليه الصلاة والسلام وحده حتى في هجوع الليل، وسكون الأرواح فيه فقد حضر العباس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة الكبرى التي تمت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الأنصار بعد أن مضى ثلث الليل كما جاءت الروايات بذلك، فقد كان العباس بن عبد الطلب أول متكلم في اجتماع الأنصار برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة فقال: " يا معشر الخزرج. . إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده. . فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما عملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. . "

(أسباب حراسته - صلى الله عليه وسلم - بمكة)

(أسباب حراسته - صلى الله عليه وسلم - بمكة) فحراسات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة من قبل أهله وعشيرته كانت لأسباب عامة، الغرض منها حماية محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو منهم في الذروة لرد اعتداء قريش عنه ومنع طغيانها عليه. * * * (أسباب حراسته - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة) الوجه الثاني: إن حراسته - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة كانت جميعها لأسباب خاصة. وباستقصاء الأسباب الخاصة لحراسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة نراها إما في أول مقدمه المدينة كما في حديث عائشة رضى الله عنها عند البخاري أنها قالت: " أرق النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال: " ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة " إذ سمعنا صوت السلاح قال؟ " من هذا؟ " قال سعد: يا رسول الله جئت أحرسك، فنام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا غطيطه " وهو في مسلم عنها بلفظ " سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة ليلة فقال: " فذكره. وهو عند الترمذي عنها أيضاً قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال لهم: " يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ". * * * (حراسة أبي أيوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بنائه بصفية) أو أن تكون أسباب حراسته - صلى الله عليه وسلم - أموراً داخلية. خاصة به كما في حراسة أبي أيوب - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بنائه عليه الصلاة والسلام بصفية وهو عائد من خيبر فقد بَيَّنَ أبو أيوب سبب حراسته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين

(مشروعية حراسة ولي الأمر)

سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حراسته له فقال أبو أيوب: " خفت عليك من هذه المرأة وكانت امرأة قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني ". أو أن تكون وقائع حربية كما في حراسته - صلى الله عليه وسلم - في بدر وأحد والخندق وحنين وغيرها من المشاهد الحربية. * * * (مشروعية حراسة ولي الأمر) وهذه جميعها أمور يجب أن يحرس فيها الإمام والقائد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم قطعاً في هذه الحراسات الخاصة أنه معصوم ولكنه طلبها أو أقرها تشريعاً لأمته وحماية لكيان الجيش من التفرق وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر نفسه: " وإنما عانى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك، وقد ظاهر بين درعين مع أنهم كانوا إذا اشتد البأس كان أمام الكل وأيضاً فالتوكل لا ينافي تعاطى الأسباب لأن التوكل عمل القلب وهي عمل البدن. . وقد قال عليه الصلاة والسلام: " اعقلها وتوكل ". . قال: وقال القرطبي: ليس في الآية ما ينافي الحراسة كما أنه ليس في إعلام الله نصر دينه وإظهاره ما يمنع الأمر بالقتال وإعداد العدد ". أما حديث عاثشة السابق فاختلاف ألفاظ الروايات فيه تشير إلى أنها حدثت أولاً كل أمر سمعته من غيرها كما في حديث الترمذي - وهذا هو ما ذكرت فيه نزول الآية وهو محتمل احتمالا قوياً أن يكون في مكة

(وثوق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعصمة الله له)

فلا حجة فيه لمن يتمسك بمدنية الآية لأنه كما " لا يخفى ليس بنص في المقصود كما قال الألوسي في تفسيره. وهي رضي الله عنها تحدثت مرة أخرى عما رأته وشاهدته وكانت فيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل رواية الإمام أحمد " وهي إلى جنبه ". * * * (وثوق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعصمة الله له) ومما يؤيد القول بمكيتها ما كان يجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - به المشركين من شديد القول ومؤلم الزجر والإنذار، وبروزه وتعرفه لهم في ساعات استطارة الشر واستعار الغضب غير هائب ولا خائف منهم ذلاً ولا غلبة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لابنته زينب - رضي الله عنها - لما بكت عليه حين رأت إطباق المشركين على أذاه وتطاولهم عليه في مجمع من الناس بمكة في موسم حج من مواسمها فجاءته مذعورة تحمل إليه ماء وقد بدا نحرها من شدة الخوف عليه - مطمئناً إياها: " يا بنية خمري عليك نحرك ولا تخافي على أبيك غلبة ولا ذلاً " وفي عيون الأثر وسيرة ابن هشام " يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك ". فهذا يدل بما لا مجال للريب فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان على يقين من عصمة الله تعالى له من جميع ما يكيدون ويدبرون. * * * ظهور القول بمكية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وأيضاً فإن القول بمدنية هذه الآية مع ما في أسلوبها من شدة الأمر بالتبليغ والتحريض عليه والتوعد على التقصير فيه يتنافى مع ما كان عليه

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة من عزة ومنعة مكنته من الوفور على التبليغ ونشر الدعوة بقوة ونقلها إلى خارج المدينة التي هو فيها سيد الموقف وبيده المبادأة متى أرادها. بل كيف يتأتى القول أن تترك عليه آية العصمة من الناس في المدينة وهو للعصمة أحوج في مطلع الرسالة منه إليها في آخرها وسورة " المائدة من آخر القرآن تنزيلاً ... ". وتأييده - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بالمؤمنين ظاهر في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فلا معنى لإخباره -على القول بمدنية آية العصمة من الناس- بعصمته من الناس وقد عرفه قبلاً أنه مؤيد بنصره وبالمؤمنين. وتعليل ابن كثير نكارة حديث جابر بن عبد الله - في بعث أبي طالب حراساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - بأن " هذه الآية مدنية وهذا الحديث يقتضي أنها مكية " غير مسلم لأن دعواه مدنية هذه الآية لم يقم عليها دليلاً سوى ما يظهر من أنها موجودة في نظم التلاوة في سورة مدنية. ووجود الآية في سورة مدنية لا يستلزم كونها مدنية، لأن كثيراً من الآيات المكية وضعت توقيفاً منه - صلى الله عليه وسلم - في سور مدنية وكثيرًا من الآيات المدنية وضعت توقيفاً في سور مكية.

وبهذا أيضاً يرد على القرطبي فيما ذهب إليه من أن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - -الذي سبق أن سقناه- يقتضي مكية هذه الآية والسورة مدنية بإجماع. فمدنية السورة لا يمنع من وجود آية أو آيات مكيات فيها. ودعوى أبي حبان في البحر أن مكية هذه الآية يجعلها أجنبية بالنسبة لما قبلها وما بعدها لأنه في قصة اليهود والنصارى - في مسلمة أيضاً لأن وجود آية بين آيات منسجمة معها في المعنى متسقة في الربط والتناسب لا يلزمه اتحاد زمن نزول هذه الآيات إذ كثيراً ما تكون الآية مكية لكنها مناسبة لمعاني آيات مدنية اقتضت وضعها بينها توقيفاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا البيان الذي صور حالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مطلع رسالته وموقف أعدائه المشركين منه ومن دعوته وانتصابهم لإيذائه وإيذاء أصحابه وإقامة العوائق أمامه في دعوته وما كان يضيق به صدره الشريف -بما ينزل عليه من آيات تعيب المشركين وتسفه أحلامهم، وأحلام آبائهم وتعيب آلهتهم- من أمره بتبليغ رسالته مهما يكن فيها من شدة على المشركين يفهم ما جاء في آيات وصفت ضيق صدره - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل إليه من ربه ونهيه عن هذا الضيق وهي التي أطلقنا عليها آيات عتاب التوجيه.

القسم الأول من عتاب التوجيه

القسم الأول من عتاب التوجيه بينا -فيما سبق- أن المقصود من الحالة الأولى من حالتي عتاب التوجيه لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي إشعاره - صلى الله عليه وسلم -بتحميله أمانة القيام بتبليغ رسالته، وتقوية عزيمته في تبليغ ما ينزل عليه من آيات القرآن الكريم مهما بلغ ما فيها من شدة الإنذار والزجر والتهديد وعيب الشرك ومعتنقيه، ومن مات عليه. وبالنظر في آيات القرآن الكريم ومطابقتها لوقائع سير الرسالة وتبليغها -مع عدم الجزم بترتيب نزول الآيات- رأينا أن نقف في هذا الترتيب مع وقائع التبليغ التي وردت بها الأحاديث الثابتة في بيان اختلاف مواطن التبليغ، ونشر الدعوة. فكانت الآيات التي تعبر عن ضيق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - في مطلع الرسالة ومباديها، هي المقصودة بالحديث عن توضيح هذه الحالة، وما جاء فيها من عتاب. وأبين موضع يمثل هذ الحالة -في نظرنا- صدر سورة الأعراف: وهو قوله تعالى: (المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)). فالكتاب في أسلوب الآية الكريمة هو القرآن الكريم، لأن المخاطب هو المنزل إليه الكتاب، وهو سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين.

(الحرج لغة)

فالكتاب بنص الآية هو القرآن الكريم، وعلى ذلك أجمع المفسرون وتفريع النهي عن أن يحرج صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا المنزل إليه هو موضع إفادة عتاب التوجيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الآية الكريمة. * * * (الحرج لغة) والحرج في اللغة هو الضيق الشديد الذي لا يوجد معه في الصدر منفسح، مأخوذ من قولهم " حرجة للشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها الآكلة " قال أبو زيد: " سميت بذلك لالتفافها وضيق المسلك فيها ". قال الزجاج في معاني القرآن: " الحرج في اللغة أضيق الضيق " وقال ابن الأثير -في النهاية-: " الحرج في الأصل الضيق ". وقد اختلف المفسرون في المراد بالحرج في الآية الكريمة، فذهب كثير منهم إلى أن المراد بالحرج في الآية الكريمة معناه اللغوي: وهو الضيق الشديد.

وذهب غيرهم إلى أن الحرج في الآية معناه الشك. وهذا معنى مجازي للحرج. ثم بيّن القائلون بأن الحرج معناه الشك -لأن الشاك ضيق الصدر حرجه كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه- وجهتهم بيد أن عباراتهم اختلفت في المشكوك فيه فقال فريق: " لا تشك في أنه منزل من الله ". وقال فريق: " لا تشك في لزوم الإنذار به ". وقال آخرون: " لا تشك في عدم القدرة على القيام بأدائه وتبليغه ". ولا وجه للصيرورة إلى المعنى المجازي في الآية مع إمكان المعنى اللغوي الحقيقي فيها، إذ الأخذ بالمعنى الحقيقى للكلمة هو الأصل ولا يعدل عنه إلا لقرينة مانعة من الأخذ به، فما بالك والمعنى في هذه الآية يحتم الأخذ بالحقيقة، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الشك على أي من الوجهين المذكورين في أن القرآن من عند الله أو في عدم لزوم الإنذار به. ولعل هذا هو مراد أبي حيان في البحر من قوله -بعد أن أورد القول بتفسير الحرج بالشك-: " وهو تفسير قلق " وهو بلا ريب أحرى بهذا الوصف وأكثر منه.

وليس معنى هذا امتناع أن يراد معنى مجازي للحرج يليق بمقام الآية كتفسير من فسر الحرج بالخوف من التكذيب، لأن هذا الخوف مع متعلقاته لازم من لوازم ضيق الصدر الطبعي ولا تمنع منه العصمة. وليس في روايات ترتيب السور، ولا في أسباب النزول ما يقطع بوقت نزول سورة الأعراف في مكة، والمعهود أن السورة ولا سيما الطول من القرآن لا تنزل آياتها دفعة واحدة، ولم يقل ذلك إلا في الأنعام، فالاحتمال قائم على أن مطلع سورة الأعراف -ومنه الآية التي هي موضع البحث هنا- من أوائل ما نزل من القرآن الكريم بعد الآيات التي قطعت الروايات الصحيحة بأنها أول ما نزل من القرآن العظيم كآيات أوائل سورة " اقرأ " وأوائل سورة " المدثر ". والنظر في الآية التي معنا يفيد -بما احتف به من قرائن كثيرة وما جاء من روايات قدمنا ذكرها وتحقيق ما فيها من ضيق صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مطلع هذا البحث - أن هذه الآية مما نزل في أوائل الأمر بالإنذار العام- أي في الوقت الذي كان يعتري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ضيق صدره من تبليغ ما أنزل إليه، لأن النهي عن الحرج في الآية يقتضي أن يكون وارداً على سبب اقتضاه. والذي دلت عليه الروايات التي يمكن أن تكون تفسيراً هذه الآية هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أعلم أنه رسول الله إلى الناس وأن عليه أن يبلّغ رسالة الله إلى خلقه منذراً بها، وداعياً إليها، وهادياً إلى أحكامها وشرائعها ضاق بها ذرعاً، وتهيب مواجهة الناس بما أنزل إليه فصمت ولم يسرع إلى التبليغ، فنزل عليه جبريل - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره أنه إن لم يبلغ أمر ربه عرّض نفسه لعذابه.

(الغرض من النهي عن الحرج من الإنذار بالقرآن)

وسبق أن أوردنا من الأدلة على هذا ما فيه الكفاية. وليس بدعاً أن يخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه، وإعراضهم عن دعوة الحق التي بعثه الله بما، وفيهم من المكر والخديعة ما وصفهم الله تعالى به بقوله (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) وقد كان من الرسل من أولى العزم قبله من كان يخاف تكذيب قومه لشدة ما كان يتوقعه منهم من تكذيب وأذى، كما حكى الله تعالى ذلك عن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ). * * * (الغرض من النهي عن الحرج من الإنذار بالقرآن) فالنهي عن الحرج في آية الأعراف هذه بيان لما يجب أن يكون عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسارعة في تبليغ ما أنزل الله إليه مهما بلغ ما فيه من تنفير الكافرين وتباعدهم عنه، وما فيه من شدة عليهم لما اشتمل عليه من تسفيه أحلامهم الضالة عن هدى الله تعالى، وعيب آلهتهم وانتقاص آبائهم بما ارتكبوه من جريمة الشرك والإعراض عن توحيد الله. كما أن النهي هنا يتضمن أمراً برفع الحرج من الصدر لأنه إذا لم يحرج صدره منهم استطاع تبليغهم ما أراده الله منه. وتهيُّبه - صلى الله عليه وسلم - منهم مخالف لهذا الإيجاب، فلذلك نهاه الله تعالى نهياً متضمناً لسرعة الإقدام على التبليغ، والتذرُّع بالصبر والاحتمال لما يلقى من شدة الكافرين.

هذا جرْيٌ على تعلق قوله تعالى (لِتُنْذِرَ بِهِ) بالفعل المنهي عنه في قوله (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ). وجملة المعنى على هذا هو أن الله تعالى ينهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضيق صدره بالقرآن ليتحقق ما أنزل من أجله وهو الإنذار للمعاندين - الجاحدين والذكرى للمؤمنين الذي يستتبع بصد الكافرين وصدودهم عَنه تننفيرهم وابتعادهم عنه وترغيب المؤمنين وتذكيرهم بنعم الله عليهم ليستديموا موجبات الإيمان والشكر والثبات على الحق. وفيه وجه آخر: وهو تعليق قوله (لِتُنْذِرَ بِهِ) بقوله (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وجاءت جملة النهي (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) متوسطة بين السبب وهو " الإنذار " به والمسبب وهو " المنزل إليه " تقريراً لما قبله (وهو الإنزال إليه المقتضى عدم ضيق صدره منه)، وتمهيداً لما بعده وهو (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). وجملة المعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى يخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه أنزل إليه الكتاب لينذر به، وهذا مقتض للإلزام بالإنذار به فكأنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كتاب أنزل إليك لتنذر به فأنت بمقتضى رسالتك المعنونة بإنزال الكتاب إليك ملزم بالإنذار به مهما بلغت آياته من الشدة في تنفير الكافرين عنك.

(من جميل التلطف في الخطاب برسول الله - صلى الله عليه وسلم)

(من جميل التلطف في الخطاب برسول الله - صلى الله عليه وسلم) ولما كان في هذا الخطاب شيء من الشدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلطف الله به وجعل إلى جانب الإنذار للمعاندين الجاحدين من الكافرين ذكرى للمؤمنين المستجيبين، فقال تعالى: (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) فكأن إنزال الكتاب اشتمل على أمرين عظيمين: الأمر الأول: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوة إلى إنذار الكافرين بما ينزل إليه من الآيات. والثاني تسليته - صلى الله عليه وسلم - في مقام إقدامه على التبليغ بأن الكتاب المنزل إليه ذكرى للمؤمنين يذكرهم بفضل الله وإنعامه وإحسانه إليهم بما هداهم إلى الإيمان. أما أن هذا العتاب من قبيل (عتاب التوجيه) فلأنه قصد به نقله عليه الصلاة والسلام من حالة التهيب والتأني في التبليغ إلى حالة الدفع والإقدام على تبليغ ما أنزل إليه تقوية لعزيمته وحفزاً لإرادته على التحمل فكأن الله ْتعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ليكن لك من قوة الإرادة وصلابة العزيمة ما يجعلك لا تبالي بهؤلاء المشركين وإيذائهم وسفاهتهم، وما يجعلك فسيح الصدر لا يضيق صدرك بما يضربونه لك من أمثال ولا بما يقولون من تكذيبك وصد عن سبيل دعوتك، وما عليك إلا أن تنذرهم بطشتنا وبأسنا لعلهم يثوبون فيزدجروا مرتدعين عن ضلالهم وكذلك لتنذر به المؤمنين الذين فتح الله قلوبهم للهداية وقبول الإيمان. * * * (ثانية آيات العتاب التوجيهي) وثانية آيات العتاب التوجيهي لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحسب ما وصل إليه بحثي -هي قوله تعالى- في سورة هود - (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا

أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) فقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد أن بيّن الله تعالى حال الإنسان الذي تبطره النعمة ويضجره سلبها، بأنه إذا نزعت منه نعمة -من صحة وأمن ومال وجاه وولد وغيرها مما كان يتمتع بها- بسبب كفره بها وعدم شكره الله عليها، فإنه ييأس من روح الله تعالى، ويقطع رجاءه منه، لعتوه في كفره، وأنه إن ذاق نعماء بعد ضراء مسته نسي ما كان فيه من شدة وبؤس، فبطر وأشر بما أنعم الله عليه، فهو بذلك فخور على الناس منشغل به عن أن يقوم بحقه. ولم ينج من هذه الصفات السيئة إلا الصابرون على الضراء متى حلت بهم إيماناً بالله واحتساباً لثوابه واستسلاماً لقضائه العاملون الصالحات فهؤلاء هم المبشرون بمغفرة من الله لذنوبهم وأجر كبير، وسيد هؤلاء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان المثل الأعلى في الصبر الجميل والصفح العظيم. فإقامة الوصف - (صبروا) - في المستثى -وهو صلة الموصول مقام الموصوف وأصله (آمنوا) بدلاً من صبروا- ترغيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في استدامة ما هو عليه من التذرع بجميل الصبر وقوة الاحتمال في سبيل تبليغ رسالته ونشر دعوته. فكان ما سبق قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) الآية إعداداً وتهيئة لقبول ما جاء فيها بصدر رحب وقوة لا تقادر للنهض بتبليغ جميع ما أنزل الله إليه، ولذلك " صدرت بالفاء تفريعاً على ما سبق من الرد عليه، والاستهزاء به، تنبيهاً على سببية ذلك " في الإشفاق عليه وتحذيره

ما يدل عليه التعبير بـ (لعل) في هذه الآية

مما يلحقه، بما تضمنه الاستثناء الذي يقضي بمطالبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكون صبره فوق كل صبر كما يشير إلى ذلك وضع " صبروا " مكان " آمنوا ". * * * ما يدل عليه التعبير بـ (لعل) في هذه الآية كما صدرت بـ (لعل) الدالة على الإشفاق المتضمن لمحبة المشفِق -بكسر الفاء- للمشفَق عليه وتحذيره مما يلحقه من الرد عليه والاستهزاء به والإعراض عن دعوته، تلطفاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في (أنه بلغ من حاله في بذل الجهد في تبليغهم مثل حال من يرجون منه أن ييأس منهم فيترك بعض ما يوحى إليه) مما فيه تسفيه لأحلامهم، وسب لآلهتهم وعيب لآبائهم. وهذه الآية تجري في شوط آية الأعراف -التي قدمنا الحديث فيها- من جهة أن فيها ذكراً لضيق صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيقاً بلغ من شدته أن يكون في حالة من يتوقع منه أعداؤه أن يترك بعض ما أنزل إليه لشدة ما بذل من جهد في الأداء دون أن يثمر فيهم. وقد استروح ناصر الدين ابن المنير في انتصافه على الكشاف بآية هود هذه على تفسير الحرج بالضيق في آية الأعراف. كما استروح إليه الألوسي -في روح المعاني فقال- بعد أن فسر الحرج بالضيق: " ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ. . .) الآية ".

وهذا المعنى العام يجمع بين هاتين الآيتين آية سورة الأعراف وآية سورة هود هذه. وهذا يقتضي مكية آية سورة هود هذه خلافاً لمن زعم أنها مدنية مخالفاً بذلك رأي الجمهور، وهو الذي يتمشى مع مبنى هذه السورة كلها في أنها من قبيل إرشاد الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى كيفية الدعوة من مفتتح السورة إلى مختتمها كما صرح بذلك صاحب الكشف فيما نقله عنه الألوسي فِي روح المعاني. وقد بينا ما اختصت به آية سورة الأعراف من تعليل النهي عن ضيق الصدر بالإنذار والتذكير، أما هنا في آية سورة هود هذه فنرى ضيق الصدر معللاً بأن المشركين أرادوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتطلع إلى زخارف الدنيا ليجذب بها قلوب المدعوين إلى الله، فكانوا يقولون لولا أنزل عليه كتر ينفق منه على دعوته ويجتذب به القلوب ويستغني به هو وأصحابه في كسب الأنصار، ويشتري به النفوس، ويستهوي به القلوب. فإلم يكن معه كنز فليكن معه ملك يشهد برسالته وصدقه في دعوته. وقد جاءهم الرد من الله تعالى على هذا التعنت، والعناد والمكابرة بالباطل ببيان مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه في دعوته ورسالته ما هو إلا نذير الكافرين يخوفهم بطش الله تعالى وانتقامه، ويلفت نظرهم إلى ما وقع على أمثالهم من الأمم السابقة الذين أخذهم الله بذنوبهم فلم يترك لهم من باقية.

(موطن العتاب في هذه الآية الكريمة)

وهذا الرد شبيه بالرد عليهم فيما تعنتوا به من مقترحات عنادية وطلب آيات لمحض التعنت والعناد، كما جاء في سورة الإسراء -بعد أن حكى الله تعالى ما طلبوه متعنتين- لقوله تعالى: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا). ثم بيّن لهم أن ما اقترحوه من آيات لم يقصدوا به الإيمان ولو قصدوه لكان في آية واحدة منه غنية عن جميع الآيات المقترحة وقد نزل عليهم القرآن، وتحداهم به، وقال الله تعالى في شأنهم: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) وإن إجابة هذه المقترحات ليس من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من مهمته وإنما هي من شأن الله تعالى الوكيل على النفوس، الحفيظ عليها، المحصي لأعمالها لمجازاتها في يوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت. ومن هنا جاء ختم هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) حاملاً رفع مسئولية إدخالهم في الهداية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهديداً قوياً، ووعيداً شديداً للكافرين الجاحدين لتوحيد الله الخارجين عن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم. * * * (موطن العتاب في هذه الآية الكريمة) فموطن العتاب في آية هود هو التشابه الذي بينها وبين آية سورة الأعراف كما بيناه مفصلاً فيما سبق ودليله في أسلوب الآية الكريمة التفريع بالفاء الداخلة على " لعل " التي أريد منها التلطف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والإشفاق

(الآية الثالثة)

عليه وتحريك عزيمته وتهييج مشاعره على الثبات أمام ما يلقاه من فوادح الإيذاء والتقول المفترى والتعنت بالمقترحات الباطلة التي رد عليها بما أنزله الله عليه لبيان مهمته بقوله (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) وقوله (إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ). وأما أن هذا العتاب من قبيل عتاب التوجيه فهذا ظاهر حيث لم يعقب بما يشعر بلوم أو مؤاخذة وإنما هو محض إرشاد وتوجيه وتبيان لمعالم الطريق التي ينبغي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلوكها في تبليغ رسالته. * * * (الآية الثالثة) ومن نحو آية سورة هود قوله تعالى -في سورة الحجر- (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)) في أنها تصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بضيق الصدر مما يقولون. وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعداء دعوته المستهزئين المتربصين برسالته الدوائر بعد أن أمره الله تعالى بالصدع بأمر الدعوة، وأن يعرض عن المشركين. وعقب آية أمره بالصدع بالدعوة بتبشيره - صلى الله عليه وسلم - بأنه تعالى قد أزال من طريقه أولئك المستهزئين الماكرين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر، فكفاه إياهم، ففسح بذلك أمره، ورفع من سبيله ما كان يراه عسراً فلا يضيق

صدرك أيها الرسول بما يقولون من هجْر القول والتكذيب والاستهزاء والسخرية بك، وبدعوتك التي أرسلك الله بها لتخرجهم من ظلمات جهالة الشرك، والوثنية إلى نور الإيمان والتوحيد، ولا يشغل قلبك أمرهم، فيدخل عليه هماً أو غماً، ويقتطع شيئاً من وقتك فاصرف قلبك من ذلك، وتوجه إلى الله تعالى بكثرة التسبيح له والسجود لجلاله يكفك ويكشف عنك كل ما يعترض سبيلك من معوقات، ويرفع عنك كل ما تجده من ضيق وحزن لمجرد ما تسمع من مقالات كاذبة تصدر عن أعدائك المشركين. وتختلف هذه الآية الكريمة عن الآيتين السابقين في أن ضيق الصدر فيها جاء معللاً " بما يقولون " وبيّن في آية سورة هود بعض قولهم، كما بيّن في سور أخرى، وجعل التعليل في آية سورة الأعراف بالإنذار بالكتاب المنزل عليه، والتذكير به. وما يقولون محتمل أن يكون من قبيل قولهم في آية سورة هود، وما جاء في مثيلاتها في السور الأخرى. والإبهام هنا -بعدم ذكر ما يقولون- مخفف لوطأة الخطاب، بل يجعل فيه تلطفاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتصر على التذكير بما كان فِي صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنه يراد لهذا الضيق أن يزول فلا يبقى له أثر في صدره الشريف بدليل التفريع بعده في قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)).

(موطن العتاب فيها)

(موطن العتاب فيها) وموطن العتاب في هذه الآية الكريمة أنَّهَا كآية سورة هود وآية سورة الأعراف ذكر فيها ضيق صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول المشركين المستهزئين، وتكذيبهم إياه، وتطلبهم منه -في آية سورة هود- أن يتجه إلى زخارف الدنيا ليكون له منها ما يجتذب به القلوب ويشتري العقول. وأما كونه من قبيل عتاب التوجيه فلأنه عقب بطلب التسبيح والتقديس والاستغراق في الفكر في جلال الله تعالى وعظمته ليذهب عنه ما يجد من ضيق الصدر، ولم يعقب بما يدل -من قريب أو بعيد- على ملامة -وحاشاه منها- أو مؤاخذة. * * * (عتاب الدفع وتقوية العزيمة) ومما يلحق بآيات عتاب التوجيه -في نوعه الأول (عتاب الدفع وتقوية العزيمة) - ما ورد عن آيات فيها النهي عن الحزن، وعن ضيق الصدر بسبب مكر الماكرين من المشركين. وذلك في آيتين: الأولى: في آخر سورة النحل - وهي مكية إلا أن هذه الآية وهي قوله تعالى: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) والتي قبلها والتي بعدها، فإنها كما تقول روايات أسباب النزول نزلت في قصة استشهاد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أُحد.

وقد ضعَّف علماء الحديث ما جاء في قصص السيرة وأسباب النزول من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد التمثيل بأحد من المشركين الذين مثلوا بسيدنا حمزة - رضي الله عنه - إذا ما ظفر بهم يوماً. والثانية: قوله تعالى -في سورة النمل- (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وهذه مع وحدة الأسباب والألفاظ التي تجعلها في وحدة مع آية سورة النحل جاءت في سياق إنكار المشركين للبعث، وتوعد الله تعالى إياهم بأنه سيوقع بهم ما أوقع بمن قبلهم ممن كانوا على مثل قولهم في إنكار البعث والشرك بالله تعالى والمكابرة. ولذلك سبقها قول الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)). وهاتان الآيتان إنما ألحقتا بآيات عتاب التوجيه -في نوعه الأول- لما فيهما من النهي عن الحزن وضيق الصدر تقوية لعزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تثبيتاً لإقدامه في تبليغ رسالته دون أن يعتريه ما يكون سبباً في تعويق الدعوة إلى ْالله تعالى ونشرها بين الكافة والخاصة.

القسم الثاني من عتاب التوجيه

القسم الثاني من عتاب التوجيه وهو الذي سميناه عتاب الإقصار والكف عن بعض ما يبذله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المكابدة في التبليغ إبقاء عليه أن يبخع نفسه الشريفة ويقتلها. كان ما نزل من الآيات في عتاب الدفع وتقوية العزيمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشاعل من النور وقوة في دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ دعوته، وعدم المبالاة بما يلقى في سبيلها من تكذيب، وإيذاء وبلاء، كان يتخطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوة عزيمته، وصارم إرادته، لا يبالي بما يكون، ولا بما يناله من آثار ذلك، ولا يوئسه منهم إعراضهم وصدفهم عن قبول دعوته، وصدودهم عن الاستماع إلى ما ينزل إليه من آيات ربه، بل كان دؤوباً صادق العزم، قوي الإرادة حتى بلغ من شدة حرصه عليهم ما كفه الله تعالى عن بعضه وأمره بالتخفيف منه قليلاً ليكون دائماً على أهبة التبليغ، ونشر الدعوة، فلا يؤخره صد منهم عن سبيل الله، ولا إعراض عنه. وكان ذلك جهداً فوق طاقته - صلى الله عليه وسلم - ولكنه مهد السبيل لسير الدعوة، وتبليغها رغم ما كان فيه من إجهاد لطاقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلطف الله به وأنزل عليه آيات للإقصار والكف عن المبالغة في الجهد حتى لا يصيبه - صلى الله عليه وسلم - من المشاق والمتاعب، والنصب ما يعوق الرسالة عن سيرها، فكان ذلك ما قصدناه من عتاب الإقصار والكف. * * * (آيات عتاب الإقصار) وقد تمثل هذا القسم في ثلاث آيات من القرآن الكريم حسب ما وصلنا إليه في البحث.

(تضمن القرآن وجوه الخير)

الآية الأولى -في أول سوره الكهف- هي قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)). الآية الثانية في -أول سورة الشعراء- هى قوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)). الآية الثالثة -في سورة فاطر- هى قوله تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)). أما الآية الأولى -آية سورة الكهف- فوردت في سياق آيات بينت أن الحمد لله الذي أنزل الكتاب المستقيم الذي لا التواء في نظمه، ولا تهافت في معانيه وأحكامه، ولا اختلاف في حقائقه قيماً بمصالح العباد الدينية والدنيوية، وافياً بها، مصدقاً لما قبله من الكتب شاهداً بصحتها. * * * (تضمُّن القرآن وجوه الخير) أنزله على عبده ورسوله سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو يوجهه به لما فيه خيره وخير دعوته، والمدعوين إليها، مرة بدفعه وشد عزيمته في سبيل التبليغ، وأخرى بإقصاره فيه للوقوف به عندما أمره به من تبيين أسباب الهداية، وفائدتها في العاجلة والآجلة، وترك ما وراء ذلك لله تعالى الذي يحاسب كل نفس بما كسبت.

(التلطف والإشفاق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في توجيه الخطاب إليه)

ثم بينت هذه الآيات الكريمة أن الغرض من إنزال الكتاب هو إنذار الكافرين، وتحذيرهم من عذاب شديد ينزل بهم من عند الله تعالى إن لم يؤمنوا بوحدانيته ويتبعوا رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وتبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بما أعده الله تعالى لهم من أجر حسن في الآخرة، وديمومة لهذا الأجر العظيم. ثم تعود الآيات الكريمة لتذكر نوعاً خاصاً ممن عمهم الإنذار السابق من " مستحقي البأس الشديد إيذاناً بفظاعة، وشناعة كفرهم بالله " في تقولهم عليه تعالى بما ليس لهم ولا لآبائهم علم به في افترائهم على أن لله ولداً سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. وهنا يوجه الخطاب لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6). تفريعاً على ما سبق من إنزال الكتاب إليه، وجعله منذراً، ومبشراً به، وهذه مهمة أداء لا مهمة إرهاق وأحزان، وتوجيهاً له - صلى الله عليه وسلم - إلى أن هولاء الكفار عطلوا عقولهم بكفرهم، وحجبوها عن أن تعرف خالقها حقه من وجوب الإيمان به والإتباع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - يستحقون أن يؤبه بهم، ولا أن يحزن عليهم ويؤسف. * * * (التلطف والإشفاق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في توجيه الخطاب إليه) لذلك خوطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ " لعل " لما فيها من الإشفاق على المخاطب، والتلطف به للعود به إلى ما ينبغي له من الوقوف عنده في التبليغ، وجاء الخبر بعدها " باخع نفسك " لبيان ما وصل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهد في تبليغ قومه، وحرصه على هدايتهم، لأن بخع النفس معناه

(موطن العتاب في الآية)

في اللغة قتلها وإهلاكها غماً أو إضعافها فهو لشدة حرصه على إيمانهم، وإشفاقه عليهم، وصل إلى حال من يقتل نفسه وجداً عليهم أو يضعفها بما يبذل من جهد فوق طاقته طلباً أن يتحقق له ما يريد من هدايتهم ودخولهم في حظيرة الإيمان. وفي التعبير -في الآية الكريمة- بقوله " على آثارهم " مزيد بيان لملاحقته - صلى الله عليه وسلم - لهم، وسعيه في دعوتهم، وهم عنه معرضون وإكمال للصورة التي رسمها قوله (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ). أما قول (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) فبيان لسبب البخع، إذ أن عدم إيمانهم بما جاءهم به هو الذي زادهم بُعداً عنه، وزاده حرصاً عليهم، وأحزنه وأثار الأسف في نفسه خوفاً عليهم انتقام الله تعالى. * * * (موطن العتاب في الآية) وموطن العتاب في هذه الآية الكريمة في استعمال أداة الإشفاق وهي " لعل " فيما وصل إليه حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه ومبالغته في دعوتهم تطلباً لإيمانهم حتى كاد يهلك نفسه أسفاً على عدم إيمانهم بالله واتباع رسوله. وهذا الإشفاق نظير قوله -في سورة هود- (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ).

وأما أنه من عتاب التوجيه -في قسمه الثاني- فلأنه أريد به إقصاره وكفه - صلى الله عليه وسلم - عن بعض ما يبذله مما هو فوق طاقته من الجهد في قوم لا يلوح فيهم رجاء. * * * (ثانية عتاب الإقصار) أما الآية الثانية من آيات كتاب التوجيه الإقصاري لكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بعض جهده في تبليغ دعوته إبقاء عليه ورحمة به فهي قوله تعالى -في أول سورة الشعراء- (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). وهذه الآية نظيرة لآية سورة الكهف السابقة فهي في لفظها وأسلوبها مماثلة لها. وكما وردت آية سورة الكهف في سياق خاص أبرز التمهيد للعتاب في الآية هناك، كذلك هنا جاءت الآية في مفتتح سورة الشعراء إثر آية واحدة هي قوله تعالى (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) وهذه الآية تحمل في طياتها من السياق المضمر ما يحمله سياق آية سورة الكهف في التمهيد لإبراز العتاب في صورته التي جاء بها. وذلك أن قوله تعالى (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) معناه في مضمونه الذي انطوى عليه أننا أنزلنا عليك الكتاب -وهو القرآن الحكيم- كتاباً مبيناً فاصلاً بين الحق والباطل، وفارقاً بين الخير والشر، وقد أعَرض عنه هؤلاء المشركون فلم يتدبروا آياته، ولم يتعرفوا منازل أحكامه، واستمرؤا العكوف على الشرك والضلال، وحرصت أنت على إيمانهم حرصاً بلغت فيه مبلغ من يشفق عليه، ويرحم أن يبذل نفسه هذا البذل الذي يبخعها

(موضع العتاب من هذه الآية)

ويهلكها ويضعفها، وذلك تعويق للرسالة لا تبليغ لها. وقوله تعالى ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) إشفاق من الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، له قوة التعليل الضمني في بلوغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجهد ما هو فوق طاقته، وتبليغ الرسالة يقتضى أن يقصر من هذا الجهد ويكف عن بعضه حتى يقوم بواجب تبليغ رسالته على الوجه الأكمل دون أن يلحقه ما يضر بصحته. وقوله (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) مفعول لأجله معمول لـ (باخع)، والمعنى: لعلك في هذا الجهد الشديد قاتل نفسك حرصاً على إيمانهم لعدم وجود هذا الإيمان منهم رغم ما تبذل من كل جهد وطاقة. * * * (موضع العتاب من هذه الآية) وموطن العتاب فيها هو موطنه في نظيرتها آية سورة الكهف باستعمال أداة الإشفاق " لعل " وصيغة باخع نفسك والتعليل بعدم إيمانهم رغم ما يبذل من حرص على إيمانهم. وأما كونه عتاب توجيه فلأنه لم يعقب بتنبيه على شىء يجب تركه وإن لم يترك وقع ما يخاف منه، كما لم يعقب بتحذير وإنما أريد به نقله من حالة بذله غاية الجهد إلى التوسط فيما يبذله من ذلك وقوفاً مع ما أمر به. ويزيد هذا القسم من العتاب أنه عتاب إقصار وكف عن بعض ما يبذل من جهد في التبليغ على خلاف سابقه -عتاب الدفع- في أن المطلوب فيه كان قوة العزيمة، وبذل كل الجهد في تبليغ الرسالة مع عدم المبالاه بما يلقى من الأذى والبلاء في سبيل تبليغ رسالته.

الآية الثالثة من آيات عتاب الإقصار

الآية الثالثة من آيات عتاب الإقصار أما الموضع الثالث من العتاب التوجيهي لإقصار وكف بعض جهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التبليغ إبقاء على نفسه وطاقته فجاء في آية من سورة فاطر وهو قوله تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). والمتأمل في هذه الجملة يجدها جاءت في قوله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)). في سياق سبقت فيه بنداء عام إلى جميع الناس يذكرهم ربهم تبارك وتعالى فيه بنعمه عليهم وأجل هذه النعم خلقه تعالى لهم إبداعاً من العدم وتوليهم برحمته ورزقهم من السماء والأرض، وكان من حق هذا الإله المنعم المتفضل بالإحسان ألا يتخذ إله غيره، ولكن هؤلاء الكافرين عدلوا عنه إلى غيره، وانصرفوا عن عبادته إلى آلهة أصنام وأوثان عبدوها من دونه وكذبوا رسله، فحاكاهم هؤلاء المشركون الذين كذبوا رسول الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وسخروا من دعوته، واغتروا بما في أيديهم من زخرف الدنيا ومتاعها مما حملهم عليه الشيطان لعداوته لكل إنسان كما أخبر الله تعالى في قوله (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ثم توعدهم بشديد العذاب إن ظلوا على كفرهم

وشركهم وإنكارهم فضل الله عليهم وإحسانه إليهم، وعقب ذلك بوعد منه تعالى للمؤمنين العاملين الصالحات فأبان أن لهم جزاء إيمانهم وصالح عملهم مغفرة وأجراً كبيراً. ثم جاءت الآية موضع البحث (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) الآية، والاستفهام في هذا إنكاري ينطوي على تنديد وتقريع لأولئك المشركين الذين اتبعوا ما زين لهم الشيطان من سوء عملهم فرأوه عملاً حسناً وهم لا يعقلون أن مرد الهدى والضلال إلى الله تعالى (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) بعدله لسوء استعداد المكلف وخبث فطرته (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) بفضله ورحمته وتوفيقه لما جبله عليه الخير والاستعداد لتقبل الحق والإيمان به. ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على إيمان قومه من أولئك المشركين إرادة استنقاذهم من عذاب الله تعالي، وخلودهم في دار الجحيم بالغ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الجهد، وبذل ما هو فوق طاقته ليهديهم، فأراد الله تعالى من نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر من هذا الجهد، ويكف عن بعضه إبقاء على نفسه وقوته حتى يستطيع أداء رسالته وتبليغها في حدود مهمته التي أخبر الله عنها بقوله تعالى (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ) وقوله (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) فقال له ناهياً مشفقاً رحيماً به (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).

(موضع العتاب منها)

ومعنى ذلك: أنك أيها الرسول تعلم علم اليقين أن الهداية والضلال بيد الله تعالى ومشيئته فهو الذي يخلق الضلال في قلب الضال فلا تجد الهداية منفذاً إليه، وهو الذي يخلق الهداية في قلب المؤمن فينشرح لها صدره وينفسح لها قلبه فتتطابق أعمال جوارحه مع أعمال قلبه ليكون حقيقاً بوعد الله الذي قال فيه في سياق الآية المتقدم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). * * * (موضع العتاب منها) أما موضع العتاب في هذه الآية ففي النهي عن إذهاب نفسه - صلى الله عليه وسلم - على عدم إيمانهم متحسراً آسفاً حزيناً حتى كاد يبخع نفسه كما في آية سورة الكهف، وآية سورة الشعراء المتقدمتين. * * * (محصلة هذا النوع من العتاب التلطف به) وأما أنه عتاب إقصار وكف يراد بهما التوجيه فلأنه لم يعقب بشيء ويطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحصيله ولا بشىء من التحذير وإنما يراد له عليه الصلاة والسلام الانكفاف عن بعض ما يبذله من جهد في دعوته لقوم لا يلوح فيهم رجاء.

النوع الثاني عتاب التنبيه

النوع الثاني عتاب التنبيه أما النوع الثاني من العتاب الإلهي لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو ما أطلقنا عليه (عتاب التنبيه) لأنه يختلف عن عتاب التوجيه في أن عتاب التنبيه يقصد به تنبيه المعاتب إلى عدم العود إلى الذي عوتب عليه لأنه لو لم ينبه لتكرر منه ذلك الأمر، وقد يؤدي به حال التكرار وعدم التنبيه عليه إلى ما هو فوقه. * * * (الغرض من هذا النوع) أما عتاب التوجيه فيقصد به نقل المعاتب من حالة كان عليها إلى حالة أخرى، يراد له المصير إليها. وفي حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت الحالة الأولى في طريق تبليغ الدعوة التهيب وضيق الذرع، فأريد نقله منها إلى حالة الدفع وقوة العزيمة في تبليغ الرسالة، أو نقله من حالة الدفع وشدة الحرص على هدايتهم إلى حالة الاعتدال والإقصار، والكف عن بعض ما يبلغه من جهد فوق طاقته تخفيفاً على نفسه الطاهرة مما يتحمله من شدة المشاق في تبليغ الرسالة مما قد يؤدي به -لو استمر فيه- إلى الإضرار بنفسه فيعوق الاستمرار في تبليغ الرسالة الخاتمة. * * * (حصر آيات هذا النوع من العتاب) والآيات التي تدخل تحت هذا النوع الضابط -بحسب ما وصل إليه بحثنا- هي الآيات التالية:

1 - قوله تعالى: -في سورة براءة- (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)). 2 - قوله تعالى: -في سورة براءة أيضاً- (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)). 3 - قوله تعالى: -في سورة براءة أيضاً- (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)). 4 - قوله تعالى: -في سورة براءة أيضاً- (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)). 5 - قوله تعالى: -في سورة الكهف- (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)).

(أولى آيات هذا النوع من العتاب)

وكما هو نهجنا فيما تناولناه من الآيات الكريمة بالبحث -أن ننظر للآية في سياقها من السورة التي هي فيها ليكون ذلك السياق مفتاحاً لفهم الآية وكشف المراد بها- نعرض آيات هذا النوع من العتاب. * * * (أولى آيات هذا النوع من العتاب) وأولى هذا النوع قوله تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)). والحديث عن هذه الآية يستدعي التقدمة لها بعرض ما يدل عليه سياقها ليتضح المراد بها خطاباً لسيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد بدأ سباق هذه الآية بنداء المؤمنين بأشرف أوصافهم وهو (الإيمان) الذي يبعث الطمأنينة والرجاء في نفوسهم، ويدفعهم إلى تقبل ما يأتي بعده من شدة في الخطاب تذكيراً لهم بمكانهم من الإيمان، ولفتاً لأنظارهم لما يوجه إليهم من خطاب يذكرون فيه بمقتضيات الإيمان -وأهمها المسارعة إلى الجهاد لإعلاء كلمة الله بصيغة الاستفهام الإنكاري مرتين في آية واحدة " مشوباً الثاني منهما بنوع من التعجب "- بأن ما اعتراهم من تثاقلهم إلى الأرض حين دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النفر للجهاد في سبيل الله -في غزوة تبوك وفي آخر غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وهي أشق غزوة وأقساها وقتاً واستعداداً- إخلاد منهم إلى الأرض ورضى بما عليها من زخرف زائل، وتقديم لراحة الحياة الدنيا الفانية، وطلب للذتها الناقصة مما لا يرضاه عاقل بديلاً، من الآخرة لأن ذلك نزول

(تهديد المتقاعسين عن الخروج إلى غزوة تبوك)

بأنفسهم من عز الإيمان وعلاه، وتضييع لما أعده الله للمؤمنين المجاهدين من عظيم الثواب القيم. ويشتد الخطاب عليهم بسبب تثاقلهم إلى الأرض عن الخروج للجهاد في سبيل الله إلى أن يكون تهديداً بأنَّهم إلا ينفروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعذبهم الله عذاباً أليماً موجعاً، وذلك بسبب تركهم النفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستبدل بهم قوماً غيرهم يطيعون الله ورسوله، فينفرون إذا استنفروا، ويجيبون إذا دعوا، ثم لا يكونوا أمثالهم. * * * (تهديد المتقاعسين عن الخروج إلى غزوة تبوك) ولما كان عدم النفر تقاعساً عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقد رد الله عليهم بأن أبى اعتذارهم بما احتف بهم من شدة الحر وقلة الزاد، وندرة المركب، ونضج الثمر، وبُعد السفر - بيّن السياق القرآني أنه تعالى لا حاجة به إليهم لأنه هو الغني عنهم، وهم الفقراء إليه، كما لا حاجة لدينه ولا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بهم أيضاً. فهم إن تخلفوا اليوم عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدم الإستجابة للنفر في غزوة تبوك إذ استنفرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد نصر الله دينه ونصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان وحده من أول بعثته إلى هجرته التي ظهر فيها آثار نصر الله له بإنزال السكينة عليه هو وصاحبه وليس معهما أحد، وهما متبوعان مطلوبان، إذ رأى حزن صاحبه وخوفه عليه، إذ كان الطلب قد وصل إلى مكان لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآهما فقال لصاحبه يثبته ويطمئنه (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) فهذا نصر مؤزر لم يكونوا فيه، ولا كان أحد فيه معه سوى صاحبه، إذ أيده الله بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفررا السفلى إذ خيبهم، وخذلهم بنصره لرسوله وتأييده له وذلك إعلاء لكلمة الله والله عزيز لا يغالب، حكيم يضع الأمور في مواضعها.

وهذا كله بيان إجمالي لمعنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)). ويقفي السياق القرآني على ذلك بالأمر بالنفر العام الذي يوجب الجهاد في سبيل الله على كل فرد من أفراد المسلمين إذ لا يعذر فيه أحد بشيخوخة، ولا فقر، ولا مرض فقال الله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)) فكأنه فتح لباب التوبة لهم، وترغيب لمراجعة قوة الإيمان، وصدق العزيمة في متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جهاده، وتحملهم المشاق ورضائهم بما ينالهم من متاعب الدنيا إيمانا بالله وطاعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وجهاداً في سبيله، وإعلاماً لهم بما ينتظرهم من جهد ومشقة في هذه الغزوة التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عادته الشريفة، إذ كان إذا أراد أن يغزو قوماً وَرَّى عنهم، ولم يصرح، ولكنه في هذه الغزوة بيّن وجهته، وأعلن قصده

(إظهار نوايا المنافقين للتحذير منهم)

لما يعلمه من بركاتها، وما فيها من مشاق ومتاعب تستدعي أكمل الاستعداد، وأخذ الأهبة لسفر بعيد ومشقات قاسية، إذ ختمت بها غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبها أخرج أمته من ضيق مجال الدعوة في داخل الجزيرة العربية إلى عموم مجالاتها في أقطار الأرض. * * * (إظهار نوايا المنافقين للتحذير منهم) ولما كان المنافقون مندسين في مجتمع المؤمنين بما يظهرونه من شعائر الإسلام، وكانوا على عزيمة ألا يخرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزرة جبناً وخوراً وفرقاً من ملاقاة العدو -وهذا على خلاف ما كان عليه خلص المؤمنين رغم تثاقلهم إلى الأرض، لما احتف بهم من الشدة، ولكنهم كانوا قد راجعوا أنفسهم، وصمموا عزائمهم على الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما لاقوا من الشدة والأزمات- بيّن الله حال المنافقين بأنهم إنما يريدرن الدنيا وغنائمها وأنهم أوهن من أن يتحملوا مشقات الجهاد وأسفاره، فلو كان ما دعوا إليه عرضاً من أعراض الدنيا ينالونه من قريب، وغنيمة حاضرة يحصلون عليها دون مشقة في سفر قريب، وموضع سهل لاتبعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم مضمرون للتخلف عنه، ولكنهم لا يتخلفون عن عرض من أعراض الدنيا وغنائمها فقال الله تعالى فيهم يفضحهم ويكشف سترهم (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)).

وقد أكد ذلك إخباراً بالغيب ومعجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم سيحلفون لو استطاعوا لخرجوا معه وهم بهذا الحلف يهلكون أنفسهم، كاذبين مفترين. ولقد كان المنافقون على عزيمة استئذان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التخلف والقعود بأعذار زائفة وهم مضمرون للقعود سواء أذن لهم أم لم يأذن لهم فيه فقد قالوا: " استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا ". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يقين من العلم بأن المنافقين المندسين في مجتمعه مفسدون جبناء يرتعدون فرقاً من ملاقاة العدو، يحاولون أن يخذلوا الجيش الإسلامي، ويفسدوا أمره بإحداث الفتن والقلاقل والاضطرابات والتخويف فأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإذن لهم بالقعود دون أن يتلبث بهم حتى ينكشف سترهم وينفضح أمرهم، ويظهر الصادق من الكاذب. ولما كانت هذه الغزوة من أعظم غزوات الإسلام عدداً وعدة، ونهاية خاتمة لغزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه أراد الله تعالى أن يجعلها امتحاناً يكشف به أمر المنافقين ويفضح خبايا ضمائرهم ليتميز الصادق من الكاذب، ويخلص المجتمع الإسلامي من الجبناء الرعاديد ولا يبقى فيه إلا ْكل شجاع صنديد، قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)).

(موضع العتاب من الآية)

ومعناه: لم أسرعت بالإذن لهم، ولم تتأن بهم وتتلبث لينكشف حالهم بقعودهم عن الخروج معك دون إذن منك فتعلم أنت وأصحابك الصادقين من الكاذبين منهم. * * * (موضع العتاب من الآية) فالعتاب - إنما كان على المسارعة بالإذن لهم بالقعود لا على نفس الإذن لهم بالتخلف والقعود خلافاً لما توهمه عبارات بعض المفسرين، أخذاً بظاهر أسلوب الآية الذي وجه فيه الإنكار للإذن مباشرة، لأن الإذن لهم بالقعود إنما كان عن اجتهاد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قررت الآيات الآتية صوابه بمقتضى ما يأتي من الوجوه التي سنذكرها في معاني هذه الآيات. وقد حمل استفتاح هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) القائلين بأن في الآية عتاباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجري بأن الآية تقتضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالف ما هو أولى بالحزم في حق هؤلاء المنافقين ". وظاهر عبارات كثير من المفسرين أن العتاب كان على نفس الإذن لهم بالقعود، وهذا الظاهر ليس بمسلم، لأن العتاب إنما كان على الإسراع لهم بالإذن بالقعود عن الخروج إلى غزاة تبوك، وعدم التلبث والتأني بهم حتى ينكشف أمرهم، ويظهر نفاقهم لكل أحد لينقطع ما بأيديهم من سبب يضللون به المؤمنين أنهم منهم وما هم منهم في شىء، فنفس الإذن لهم بالقعود عنه صواب في موضعه، لأن الآيات التالية لهذه الآية بينت أنَّهم لو خرجوا معه - صلى الله عليه وسلم - لأحدثوا الفتن في الجيش الإسلامي بيد أن المسارعة

(بيان وجه الصواب في الإذن لهم بالقعود)

بإجابتهم إلى الأذن بالقعود حين طلبوه نجم عنه ألا يعلم الصادق في عذره من الكاذب فيه، فكان ذلك موطناً للعتاب في الآية الكريمة. وهذا الذي قررناه من أن العتاب كان على المسارعة بالإذن لهم لا على نفس الإذن هو ما ذهب إليه المحققون من المفسرين، وقد صرح به الزمخشري في الكشاف فقال: " ومعناه: ما لك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك، واعتلوا لك بعللهم، وهلا استأنيت بالأذن " حتى يتبين لك " من صدق في عذره ممن كذب فيه ". وقال أبو السعود: ". . كلمة (حتى) سواء كانت بمعنى اللام أو بمعى إلى لا يمكن تعلقها بقوله تعالى: (لِمَ أَذِنْتَ) لاستلزامه أن يكون إذنه عليه الصلاة والسلام لهم معللاً أو مغياً بالتبين والعلم ويكون توجيه الاستفهام إليه من تلك الحيثية، وذلك بين الفساد بل بما يدل عليه ذلك، كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم وهلا تأنيت حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم " ونهج صاحب تفسر المنار نهجهما فقال: " .. كان مقتضى الحزم أن تتلبث في الإذن أو تمسك عنه اختباراً لهم ". * * * (بيان وجه الصواب في الإذن لهم بالقعود) أما بيان الآيات التالية لهذه الآية الكريمة من أن الأذن لهم بالقعود عن الخروج إلى غزوة تبوك صواب في موضعه لما يترتب على خروج المنافقين من الإفساد في الجيش، وإحداث الفتن بين المجاهدين وتثبيط عزائمهم فقد

(نفي الإيمان عن المستأذنين)

تمثل فيما يلي: (نفي الإيمان عن المستأذنين) أولاً - في أن الله تعالى نفى الإيمان بالله واليوم الآخر عن المستأذنين في التخلف والقعود عن الجهاد في سبيك الله بأموالهم وأنفسهم ووصمهم بارتياب القلوب، وأنهم متحيرون في أمرهم يوافقون المسلمين فيما يسهل عليهم من العبادات تغطية لما في قلوبهم من نفاق، ويلتمسون لأنفسهم الأعذار مما فيه مشقة عليهم أو إنفاق لأموالهم، قال تعالى (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)). * * * (ظهور عداوة المنافقين توجب منعهم من الخروج مع جيش المؤمنين) ومن كان كذلك فلا يؤتمن على السير مع عباد الله المجاهدين في سبيله ولا يمكن السماح له بالخروج مع جيش المسلمين لأنه عدو لله تعالى ولدينه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً - قال تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)). * * * (وجوه صواب إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين بالقعود عن الخروج معه) وهذه الآية الكريمة دليل على أن نفس إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بالقعود صواب من وجوه: الوجه الأول: أنه تعالى سجل عليهم ما كانوا يتسترون عليه من عدم عزيمتهم على الخروج بأنهم لم يعدوا العدة لهذا الخروج، وهو خروج لازم بمقتضى تصريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغزوة، ذلك التصريح الذي يصور مشقات

(خطر اندساس المنافقين في المجتمع الإسلامي)

السفر، وشدائد الرحلة مما يتطلب أهبة واستعداداً كبيراً. الوجه الثاني: قوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ) وكَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ معناه عدم إرادته لخروجهم مع المؤمنين لئلا يفسدوا عليهم حالهم في تصميمهم على الجهاد في سبيل الله، وترحيبهم بالاستشهاد أملاً في رضا الله تعالى، ونشراً لدينه، ونصراً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثالث: قوله (فَثَبَّطَهُمْ) وهذا تصوير لعدم إرادة الله خروجهم بعدم أخذهم الأهبة والاستعداد للخروج فقذف في قلوبهم الوهن والتكاسل دون إعداد العدة للخروج، ثم ختم ذلك بقوله (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) وهذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإذن لهم بالقعود، فكأنه قول الله تعالى، وهو مؤكد في المعنى لقوله (فَثَبَّطَهُمْ). * * * (خطر اندساس المنافقين في المجتمع الإسلامي) ثالثاً - قال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)). وهذه الآيات كسابقتها تظهر أن الإذن لهؤلاء المنافقين بالقعود كان صحيحاً من وجوه أيضاً:

الوجه الأول: قوله تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) وهذه جملة شرطية صريحة في بيان ما انطوت عليه أنفسهم من العمل المفسد للمجتمع الإسلامي، وإيقاع الخبال فيه، والفتن التي تذهب بقوة الجيش وتوهن عزائمه. والتعبير بقوله (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) المقتضي لوجود أصل الخبال في جمهرة المسلمين إنما يقصد إلى بعض ضعفاء الإيمان الذين يسمعون إلى قول المنافقين، ويتأثرون به في ضعف عزائمهم، ورعب قلوبهم، وخوفهم من ملاقاة العدو، وهم المقصودون بقوله (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ). الوجه الثاني: قوله (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) ومعنى هذا أن الله تعالى يصف هؤلاء المنافقين بأنهم سراع الحركة والتوثب بين جماعات المسلمين لإلقاء الأكاذيب والمفتريات تخذيلاً لهم، وفتنة لأنفسهم لصرفهم عن معالي أمور الجهاد، ثم أكد هذا الأمر بقوله (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي أن هذه المجتمعات الكبيرة المتعددة الأفراد والطوائف، المتعرضة لأشق ما يتعرض له المجاهدون لا تخلو عن ضعاف النفوس الذين يفرقرن بمجرد سماع الإشاعات والأكاذيب، فإذا سمعوا من المنافقين أكاذيبهم فى افتراءاتهم تخاذلوا عن جهادهم ومواقفتهم للعدو في صفوف المؤمنين. ثم ختم الله تعالى بما يسجل أظلم الظلم على هؤلاء المنافقين، وقد تضمن ذلك وعيداً شديداً لهم على ما أضمروا في أنفسهم من إحداث الفتن بين المؤمنين، والإبهام في الوعيد أشد من التصريح به.

الوجه الثالث: قوله (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)). وهذا بيان لما جبل عليه هؤلاء المنافقون من إحداث الفتن، وإشاعة المخاوف بين المجتمع الإسلامى، فذكر الله تعالى أن هذا ديدنهم وعادتهم من قبل، ففد أحدثوا قبل ذلك عظائم الفتن في المجتمع الإسلامى، كالذي كان منهم في غزوة بني المصطلق وأمثالها، ولكن الله تعالى أوبقهم في موبقاتهم، وأوقعهم فيما دبروه لإفساد مجتمع المؤمنين. وهذا هو المراد بقوله (حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ) أي نصر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من خلص المؤمنين، وكان المنافقون أكره الناس لهذا النصر، وأبغضهم لا يرون بين المؤمنين من توافق وألفة ومحبة وإخاء. الوجه الرابع: قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)).وهذا تسجيل عليهم بأنهم مردوا على الكذب، ومرنوا على الفتن، ولما أخبروا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - متوجه إلى تبوك لغزو الروم وفي الروم جمال لنسائهم، وثروات في بلادهم لعلها تطمعهم فِي الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هي عادتهم في حب الدنيا - تعللوا في ترك الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ليس لهم فيه عذر. فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر ابن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لجد بن قيس: " يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر؟ " قال جد: أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو معرض عنه -

(جفوة التعبير دليل ضعف في التفكير)

" قد أذنت لك " فأنزل الله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي. . . . . . .) الآية ونحوه عند الطبري من طريق أخرى. فرد الله تعالى على هذا المنافق وأمثاله بأنهم سقطوا في الفتنة بما مرنوا عليه من الكذب والبهتان، ثم أوعدهم بأشد العذاب فقال: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) تسجيلاً للكفر عليهم وتكذيباً لما يتظاهرون به من شعائر الإسلام. وفي قوله (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) دليل على أنَّهم منغمسون فيها وفي صنوف عذابها لا يغيبون عنها، ولا هم منه بمخرجين. * * * (جفوة التعبير دليل ضعف في التفكير) وقد أساء الزمخشري الأدب في التعبير عن بيان العتاب -في زعمه- فقال إن قوله تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ).: " كناية عن الجناية لأن العفو رادف لها ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت ". وقد استغواه في هذا التعبير السيئ سلفه الجبائى الذي يرى أن إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمستأذنين من المنافقين بالقعود عن الخروج معه إلى غزوة تبوك " كان قبيحاً ووقع صغيرًا " فالزمخشري مقلد في سوء الأدب لشيخ شيوخ المعتزلة، وقد تابع البيضاويُّ الزمخشري في جفوة التعبير في هذا الموضع من تفسيره.

(تلطف في التعبير لا عتابا له)

وقد علق أبو حيان - رحمه الله تعالى - في البحر على هذا المسلك من التفكير والتعبير فقال: " وكلام الزمخشري في تفسر قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) مما يجب إطراحه فضلاً عن أن يذكر فيرد عليه ". قال الآلوسي: " وكم لهذه السقطة في الكشاف من نظائر ". * * * (تلطف في التعبير لا عتاباً له) ومن العلماء من لم ير في هذه الآية عتاباً، وإنما هي -عندهم- من باب التلطف في الكلام، والدعاء للمخاطب الجاري على الأسلوب العربي في مخاطبة الكرام، ومراسلة الأحباء والأصدقاء على نحو قولهم: " عفا الله عنك هلا أعطيتني كذا، وأصلحك الله، ووفقك الله كان الأمر كذا وكذا. . " فابن الأنباري يقول: " لم يخاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك لجرم أجرمه، ولكن الله وقره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله: " عفا الله عنك " كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريماً: " عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك هلا زرتني؟ ". وممن قال بذلك أيضاً القاضي عياض في الشفا، والقسطلاني في المواهب ونقلا فيهما عن الداودي، ومكي والقشيري ونفطويه، ونسبه القرطبي إلى مكي والمهدوي والنحاس، ونقله الزرقاني عن

ابن المنير. فالقشيري قال: " وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب " وقال نفطويه فيما أورده عنه أبي حيان في البحر: " ذهب ناس إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك بل كان له أن يفعل وألا يفعل حتى ينزل عليه الوحي، كما قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ". لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل، وقد قال الله تعالى (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي، واستأذنه المتخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه - صلى الله عليه وسلم -، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن هم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم وأنَّهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة، فـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ) عنده افتتاح كلام أعلمه به أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن وليس هو عفواً عن ذنب إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق، وما وجبتا قط " ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك. قال أبو حيان -بعد أن أورد كلام نفطويه-: " ووافقه عليه قوم فقالوا: ذِكْرُ العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العرب بأن تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره، يقصدون بذلك الدعاء

(إجراء الخطاب على وجهه خير من تأويله)

له فيقولون: أصلح الله الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر ومعناه الدعاء ". * * * (إجراء الخطاب على وجهه خير من تأويله) والذي يظهر من أسلوب هذه الآية الكريمة أن ذكر العفو في افتتاحها وإن لم يكن عن تقدم ذنب إلا أنه يحتمل أنه كان عن خطأ في الاجتهاد فات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبذل فيه جهده وهو الإسراع لهم بالإذن بالقعود والتخلف وجعل اجتهاده في خروجهم معه وما يتسبب عليه من إفساد وبلبلة وفتنة وتثبيط للجيش بإشاعات كاذبة ماكرة. فقوله تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ) معقباً بالاستفهام الإنكاري يبعده عن إرادة الدعاء به ومجرد التلطف لأن الاستفهام الإنكاري يقتضي منكراً والمنكر هنا إسراع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإذن لهم -وهو لازم للإذن مدخول أداة الإنكار- دون أن يتلبث بهم ليتبين له ولأصحابه المؤمنين حقيقة حال المستأذنين من الصدق أو الكذب. وما ذكروه من أمثلة جرت على لسان بعض الأدباء واللغويين ليس فيه شيء من قبيل الآية لأنَّهم لم يذكروا مثالاً عقب باستفهام إنكاري. * * * (موضع العتاب في هذه الآية) فالآية عتاب متلطف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سبق بالأخبار بالعفو، وهذا يكفى في بيان ما فيها من التلطف والحفاوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجعلها من قبيل عتاب التنبيه، إذ لم تعقب بشىء يحذر في المستقبل، أو يخاف وقوعه.

(ثانية آيات هذا النوع من العتاب)

(ثانية آيات هذا النوع من العتاب) وثانية آيات هذا النوع من العتاب: -بحسب ما وصل إليه بحثنا- هى قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)). وقد وردت هذه الآية الكريمة إثر أن بيّن الله تعالى حال المنافقين مع المؤمنين، وكشف الستر عنهم فإن أولئك المنافقين لم يكتفوا بما هم غارقون فيه من بخل بما أوجبه الله عليهم في أموالهم أو ندبهم إليه فيها، ولم يخجلهم شحهم بمال الله تعالى، بل تعدوا ذلك كله إلى إيذاء المؤمنين المتصدقين أغنياء وفقراء استجابة لدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بقوله: " تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً " فلمزوهم بما هم برآء منه وعابوهم على ما يبذلونه في سبيل الله تطوعاً، فتوعدهم الله تعالى بالسخرية منهم في الدنيا بأن " جعلهم سخرية للمؤمنين، والناس أجمعين بفضيحته لهم في هذه السورة " الفاضحة لأحوالهم، الحافرة عما في قلوبهم من دغل، وتوعدهم بالعذاب الأليم الذي سينزله بهم فِي الدنيا والآخرة. قال ابن كثير في تفسيره: " هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين، لأن الجزاء من جنس العمل فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصاراً للمؤمنين في الدنيا وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليماً لأن الجزاء من جنس العمل ".

وقد أفزعهم هذا الوعيد الشديد، وعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بحالهم ولمزهم للمتصدقين من المؤمنين فجاءوا إليه يعتذرون، ويطلبون أن يستعفر لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) الآية التي هي موضع البحث هنا. وهي في سياقها -الموحي بأنها تسجيل لكفر المنافقين، وبيان لفسقهم- كشف لحال المنافقين، وإعلان لخاتمتهم الخائبة، وإيعاز لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لا جدوى من الاستغفار لهم، ولو كثر منه ذلك لهم، فلن ينفعهم، ولن يتقبل في حقهم فيما لو استغفر لهم، وسبب ذلك كفرهم بالله ورسوله وفسقهم عن جادة الإيمان. فالآية إخبار للرسول - صلى الله عليه وسلم - بحكم الله في المنافقين ليصرف النظر عنهم، وتوجيه للمؤمنين لئلا يبقى لهم تعلق بهم، وإبعاداً لأولئك المنافقين عن صفوف المؤمنين. وضمير الجمع الغائب في قوله (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) عائد على اللامزين الذين جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يستغفر لهم بعد أن فضحهم الله وتوعدهم بقوله (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهذا هو قول ابن عباس والحسن - رضي الله عنهما - من أنا المنافقين اللامزين حين نزل قوله تعالى: (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم فنزلت هذه الآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية.

فلما كان مجيئهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلبهم إليه الاستغفار لهم بعد ذلك ليس عن رغبة منهم في الإيمان، ولا ندماً على ما دنسوا به أنفسهم من أوضار النفاق، والهزء بالمؤمنين، وإنما هو استمرار منهم فيما هم فيه غارقون من النفاق، وإيغال في أوحاله، ومحاولة لخديعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتضليل للمؤمنين عما تكنه قلوبهم من كفر بالله ورسوله، وفسوق عن الهدى، أخبر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بحالهم كشفاً لما كانوا يتسترون عليه من النفاق، وربأ به - صلى الله عليه وسلم - عن أن يستغفر لمن ليس بأهل للاستغفار وكشف الله تعالى حالهم للناس أجمعين، فقطع بذلك من نفوس المؤمنين رجاء الخير لهم حتى لا ينخدعوا بما يموهون به عليهم. والذي دفع البحث إلى ضم هذه الآية إليه مع أن لا عتاب فيها لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو ظاهر من سياقها ولحاقها - ما وجد من روايات حديثية بأسانيد صحيحة من روايات الشيخين وغيرهما تذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استغفر لابن أبي فهماً منه - صلى الله عليه وسلم - من الآية التخيير بين الاستغفار وعدمه للمنافقين، وأن العدد المذكور فيها للتحديد لا للتكثير والمبالغة بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - كما تقول رواية البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر - عندما أراد عمر منعه من الصلاة على ابن أبي بقوله: " يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه "، وفي رواية أخرى عند البخاري أيضاً عن ابن عمر أيضاً أن عمر قال: " تصلي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم "، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما خيرني الله أو أخبرني "

(نفي التخيير عن دلالة هذه الآية)

فقال: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم " فقال: " سأزيده سبعين ". وحديث ابن عمر الذي أوردنا المطلوب منه وما جرى مجراه من سائر الروايات التي تنسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم التخيير من الآية الكريمة وأن العدد فيها للتحديد قد توقف في قبوله بعض الأكابر من الأئمة والنظار من أهل العلم كالقاضي أبي بكر الباقلاني الذي قال: " هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها "، وإمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي والداودي أحد شراح صحيح البخاري. * * * (نفي التخيير عن دلالة هذه الآية) وحجتهم في التوقف عن قبوله أن فهم التخيير في الآية يتنافى مع ما جرت عليه أساليب اللغة من أن هذا الأسلوب يجري مجرى الإخبار المقتضي للتسوية بين الاستغفار وعدمه في عدم حصول أية فائدة للمنافقين بدليل قوله في الآية (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) والإشارة تعني التعليل للإخبار المفهوم من التسوية في الآية فكأن عدم الغفران لهم -وهو الخبر المقصود من الآية- معلل بكفرهم وعدم توفيقهم إلى الحق وموتهم على الفسق والخروج عن جادة الإيمان. * * * (إفادة العدد سبعة) والمعروف أيضاً أن الأعداد -ولا سيما عدد سبعة وعدد سبعين- إنما تذكر لإفادة التكثير والمبالغة لا لإفادة التحديد الذي لو زيد عليه تغير المقصود.

قال ابن الأثير في النهاية: " وقد تكرر ذكر السبعين والسبعة والسبعمائة فِى القرآن والحديث والعرب تضعها موضع التضعيف والتكثير كقوله (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) وكقوله (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: " وقد قيل إن السبعين إنما ذكرت حسماً لمادة الاستغفار لهم، لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد بها ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها ". وقال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: ". . . وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولاً. . بل المراد بهذا هو المبالغة في عدم القبول، فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير، والمعنى: أنه لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم استغفاراً بالغاً في الكثرة غاية المبالغ ". فنسبة فهم التخيير من الآية الكريمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن العدد فيها للتحديد لا للتكثير مستبعدة جداً بل هي إلى المحال أقرب لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أفصح من نطق بالضاد، وهو أعرف الناس بالبيان القرآني وأساليبه لأنه القيم على فهمه وإفهامه كما أريد من معانيه وحقائقه ولا يمكن أن يفهم

جميع البلغاء من أهل العناية بالبيان القرآني التسرية في الآية وينسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يخالف ذلك من فهم التخيير، وتحديد العدد ويقول: " إنما خيرني الله، وسأزيد على السبعين ". ويزيد في بيان وجه توقف بعض النظار من أهل العلم عن قبول حديث عبد الله بن عمر ما ذكره صاحب تفسير المنار من أن " حديث معارضة عمر بطريقيه " مشكل ومضطرب من وجوه: 1 - جعل الصلاة على ابن أبي سبباً لنزول آية النهي وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر وغزوة تبوك سنة ثمان، وإنما مات ابن أبي في السنة التي بعدها. 2 - قول عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نهاك ربك أن تصلي عليه " يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي - وقوله بعده فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. . .). الخ، صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة عليه. 3 - قوله أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تعالى خيّره في الاستغفار لهم وعدمه إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كما ذكر في الحديث ولم يكن فيها بقيتها أي التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم وأن الله لا يهدي القوم الفاسقين، ومن ثم كان المتبادر من " أو " فيها أنها للتسوية بين ما بعدها وما قبلها لا للتخيير وبه فسرها المحققون كما فهمها عمر واستشكلوا الحديث إذ لا يعقل أن يكون فهم عمر أو

غيره أصح من فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخطاب الله له ولذلك أنكر بعضهم صحته. 4 - التعارض بين رواية " فلو أعلم أنني لو زدت على السبعين غفر له لزدت له " ورواية " وسأزيد على السبعين ". 5 - التعارض بين إعطائه - صلى الله عليه وسلم - قميصه لابنه لتكفينه فيه وحديث جابر إخراجه - صلى الله عليه وسلم - لابن أبي من قبره وإلباسه قميصه. 6 - إذا أمكن أن تكون الصلاة على ابن أبي قبل نزول النهي عن الصلاة عليهم فلا شك في أنها كانت بعد آية (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) والجزم في كل منهما بأن الله لن يغفر لهم. ثم أورد صاحب تفسير المنار كلام الحافظ ابن حجر في الفتح فيما يتعلق بالآيات رروايات الأحاديث فيها وعلق عليه فقال: " أقول حاصل ما لخصه الحافظ من أقوال العلماء في هذه المسألة وهو من أوسع حفاظ الملة إطلاعاً أنه لا يمكن الجمع بين القرآن والحديث فيها على وجه مقبول إلا إذا فرضنا أن آية النهي عن الصلاة عليهم قد نزلت بعد الصلاة على ابن أبي وهو وإن كان خلاف ظاهر السياق لا مانع منه عقلاً، ولكن يبعد جداً أن تكون آية الاستغفار للمنافقين قد نزل صدرها أولاً ثم نزل باقيها متراخياً بعد سنة أو أكثر أي بعد الصلاة على ابن أبي، وكذا تأويل قول

عمر: " وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين " بأنه يعني بالصلاة الاستغفار، وإذا سلمنا نزول صدر آية من سياق طويل كآية براءة في سنة، ونزول باقيها في سنة أخرى على بعده، فماذا نقول في آية سورة المنافقين، وقد نزلت قبل آية براءة بأربع سنين في غزوة بني المصطلق وكانت سنة خمس من الهجرة، وهى أصرح في التسرية بين الاستغفار وعدمه؟. الحق أن هذا الحديث معارض للآيتين فالذين يعنون بأصول الدين ودلائله القطعية أكثر من الروايات والدلائل الظنية لم يجدوا ما يجيبون به عن هذا التعارض إلا الحكم بعدم صحة الحديث ولو من جهة متنه، وفي مقدمتهم أكبر أساطين النظار كالقاضي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين والغزالي، ووافقهم على ذلك الداودي من شراح البخاري. وأما الذين يعنون بالأسانيد أكثر من عنايتهم بالمتون، والفروع أكثر من الأصول فقد تكلفوا ما بينا خلاصته عن أحفظ حفاظهم. ومن الأصول المتفق عليها أنه ما كل ما صح سنده يكون متنه صحيحاً، وما كل ما لم يصح سنده يكون متنه غير صحيح، وإنما يعول على صحة السند إذا لم يعارض المتن ما هو قطعي في الواقع أو في النصوص، وإن القرآن مقدم على الأحاديث عند التعارض وعدم إمكان الجمع، فمن اطمئن قلبه لما ذكررا من الجمع أو لوجه آخر ظهر له فهو خير له من رد الحديث ومن لم يظهر له ذلك فلا مندوحة له عن الجزم بترجيح القرآن، والتماس عذر لرواة الحديث بنحو مما ذكرناه في تعارض أحاديث الدجال ". أ. هـ

(تقديم منطوق حديث ابن عباس على منطوق حديث ابن عمر)

(تقديم منطوق حديث ابن عباس على منطوق حديث ابن عمر) على أن هذا الحديث وهو من رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - يعارضه بعض المعارضة حديث من رواية ابن عباس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في نفس الموضوع أورده البخاري في صحيحه عقيب حديث ابن عمر هذا من غير فاصل بينهما، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو أعلم أني إن زدت على السبعين، يغفر له لزدت عليها ". وهذا دليل قاطع على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحمل العدد على التحديد بخلاف ما جاء في حديث ابن عمر، ويؤكد هذا أن حديث ابن عباس رواه عن عمر وهو الذي وقف أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحاوره في الصلاة على ابن أبي والاستغفار له، فلو كانت الآية للتخيير - والعدد للتحديد ما وقف عمر هذا الموقف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمر من أساطين العربية الذين يحتج بقولهم فيها وفِي فهم أساليبها. ونبه الآلوسي -ككثير من العلماء- في روح المعاني على هذا التعارض بين الروايات فقال: " والأخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض ". وقد فسر الطبري -وهو شيخ المفسرين وإمامهم- الآية على عدم التخيير، وأن المقصود بها الإخبار بعدم المغفرة فقال: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ادع الله لهؤلاء المنافقين الذين وصف صفاتهم في هذه الآيات بالمغفرة أو لا تدع لهم بها، وهذا كلام خرج مخرج الأمر، وتأويله الخبر، ومعناه: إن استغفرت لهم يا محمد أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم. وقوله (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) يقول إن تسأل لهم

أن تستر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضحهم بها، فلن يستر الله عليهم ولن يعفو لهم عنها، ولكنه يفضحهم بها على رؤرس الأشهاد يوم القيامة (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) يقول جل ثناؤه: هذا الفعل من الله بهم، وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم من أجل أنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله - صلى الله عليه وسلم - (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) يقول: والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله من آثر الكفر به، والخروج عن طاعته على الإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ". أ. هـ ثم قال بعد ذلك -على خلاف عادته فيما يتصل بالروايات التي يستأنس بها من أقوال السلف- " وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل "، أو " وبنحو هذا القول كان يقول. . " ويعدد القائلين بقوله قال: " ويروي " وساق أخباراً وآثاراً مسندة ومرسلة لا تتصل بما فسر الآية به، وهذا يدل على عدم ارتضائه هذه الروايات تفسيراً للآية. وقد غلط الزمخشري ومن تابعه من المفسرين -بعد أن فهم الآية على وجهها الصحيح- فأقر فهماً فاسداً مدخولاً فقال: " فإن قلت: كيف خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار كيف: قد تلاه بقوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ) الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى

(الرد على الزمخشري)

قال: قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين؟ قلت: لم يخف عليه ذلك ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ". * * * (الرد على الزمخشري) وقد رد عليه أبو حيان في البحر هذا الفهم السقيم فقال: " وفي هذا السؤال والجواب غض من منصب النبوة وسوء أدب على الأنبياء ونسبته إليه مما لا يليق بهم، وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لم يكن لنبي خائنة الأعين " أو كما قال وهي الإشارة فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التخييل حاشا منصب الأنبياء عن ذلك ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم ". ومما يتصل بهذا البحث في قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) الآية، البحث في قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)). وذلك أن المراد بها المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجهاد الذين أشير إليهم بقوله: تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ

(التماس وجه القول لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله ابن أبي)

وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)). وهذا كما قال الإمام الطبري في تفسيره: " ولا تصل يا محمَد على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبداً ". وهذا السياق يقتضي أن هذه الآية نزلت في جماعة من المنافقين لم يعينوا ولم يذكر فيهم ابن أبي غير أن بعض الروايات التي وردت في بعض الصحاح بأسانيد صحيحة جعلت سبب نزولها تهيؤ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه حين طلب ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي منه ذلك، وكان ابنه عبد الله من صالحي الصحابة - رضي الله عنهم -، أو حين طلب عبد الله بن أبي نفسه ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته بطلب من ابنه أن يمن عليه فيعطيه قميصه ليكفن فيه ويصلى عليه. * * * (التماس وجه القول لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله ابن أبي) ويمكن تخريج هذه الروايات على حملها على أن عبد الله بن أبي أحد من نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليه في ضمن العموم الذي يدل عليه قوله (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) وعند ذلك يمكن حمل تهيؤ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه أو الصلاة عليه فعلاً والقيام على قبره على ما ظهر منه في مرض موته مما يمكن أن يؤخذ منه أنه راجع الإسلام، وتاب من النفاق،

فقد أخرج الطبري عن قتادة قال: " أرسل عبد الله بن أبي ابن سلول وهو مريض إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل عليه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أهلكك حب يهود " قال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني، ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره فأنزل الله تعالى ذكره (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ونقله الحافظ ابن حجر في الفتح عنه وعن عبد الرزاق عن معمر من طريق سعيد كلاهما عن قتادة " وقال " وهذا مرسل مع ثقة رجاله ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس قال: " لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول فأمنن عليَّ فكفني في قميصك وصلِّ عليَّ ففعل ". فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تهيأ للصلاة عليه أو صلى عليه فعلاً أخذاً بظاهر حاله. وقد استحسن الحافظ ابن حجر هذا فقال: " ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك. . وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة. * * *

(النهي عن الاستغفار للمشركين)

(النهي عن الاستغفار للمشركين) ومما يدخل في هذا النوع من العتاب قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)). قبل أن ندخل في الحديث عن هذه الآية الكريمة بياناً لما فيها من بحثنا نرى أنه ورد في أسلوبها جملة " ما كان للنبي " وهذا الأسلوب المكون من " كان " المنفية بـ " ما " الآتي بعدها لام الجحود تأكيداً لتقوية النفى فيها قد ورد في القرآن الكريم، وكلام العرب على وجهين، كما قال المفسرون وأهل المعاني: الوجه الأول: النفي كما هو ظاهر أسلوبها كقوله تعالى (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) وقوله (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، وهذا هو الأصل في معنى هذا الأسلوب، لأن توكيد فعل الكون بلام الجحود هو " أبلغ لفظ يستعمل في النفي " ومعناه انصباب النفى على ما قبل اللام وما بعدها نفياً مطلقاً " يشمل جميع الحالات المعنوية التي يتضمنها الكلام ".

(نفي التهيؤ للفعل أبلغ من نفي الفعل)

(نفي التهيؤ للفعل أبلغ من نفي الفعل) ويفيد هذا التركيب معنى زائداً على نفى مجرد الفعل وهو نفي التهيؤ للفعل المنفي عنه وإرادته والصلاحية له، بمعنى أن النفي عنه ما في الجملة من معنى منفي عنه أيضاً إرادة ذلك الفعل والتهيؤ والاستعداد والصلاحية له كما أوضح ذلك أبو حيان في البحر، وابن هشام في المغني، وصاحب النحو الوافي وغيرهم. ولا شك أن " نفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ. وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة: ما كان من شَأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث هو نبي، وما كان شأن المؤمنين من حيث هم مؤمنون أن يدعوا للمشركين بالمغفرة، ولا أن يطلبوا من الله لهم الرحمة (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) لأن النبوة تنافي العطف على الشرك، والإيمان من حيث هو إيمان يمنع المؤمنين من ذلك، ولو دعتهم رقة القرابة وشفقة الرحم، ووشائج الدم إلى العطف والحنو عليهم، وحب المغفرة لهم. فالآية على هذا الوجه لا تدل على وقوع الاستغفار بل تدل على نفيه، فهي تبرئة وتنزيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عن أن يقع منه أو منهم ذلك حسبما يدل عليه هذا الأسلوب.

وتذييل الآية الكريمة بقوله (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) تعليل لنفى الاستغفار للمشركين، وبيان لسبب عدم صدوره من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، لأنَّهم يعلمون أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به فلا يسألون " ربهم ما قد علموا أنه لا يفعله ". ويؤيد هذا الفهم قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. . . .). ولا يعكر على هذا الفهم ما ورد من استغفار إبراهيم لأبيه في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ) لأن استغفاره له كان قبل التبين، فلما تبين له أنه من أصحاب الجحيم أمسك عنه لأنه ليس من شأن النبي أن يستغفر للمشركين الذين هم من أصحاب الجحيم. وتبين أصحاب الجحيم يكون إما بموتهم على شركهم وكفرهم بالله وإما بنزول الوحي فيهم يدمغهم بأنهم من أصحاب النار خالدين فيها كما نزل في أبي لهب وغيره، أو بإخباره تعالى بأنهم طبع على قلوبهم. .

أما الوجه الثاني من وجهي استعمال هذا الأسلوب في القرآن الكريم فهو متضمن لمعنى النهي كقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ). وقد جعل منه بعض العلماء آية بحثنا هذا وأمثالها من نحو قوله تعالى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى). وعلى هذا الوجه يكون معناها: النهي عن الاستغفار للمشركين، أي: لا تستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لكم أنهم من أصحاب الجحيم. فالآية على هذا الوجه واردة على أمر اقتضاها، وهي من آيات العتاب. والذي دعا هؤلاء العلماء إلى حمل هذه الآية الكريمة على هذا الوجه -دون الوجه الأول، وبه كانت من آيات العتاب- ورود أحاديث في صحيحي البخاري ومسلم تذكر أن سبب نزولها عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان على عمه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه إذ دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية المغيرة فقال: " أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله " فقال أبو جهل وعبد الله

ابن أبي أمية: " أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: " على ملة عبد المطلب ". وأبى أن يقول لا إله إلا الله. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والله لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك " فأنزل الله - عز وجل - (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). فهل يدل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك " على وقوع الاستغفار منه لأبي طالب فعلا؟ أو يدل على وعد منه بالاستغفار له فنزلت الآية نهياً عن الاستغفار أو الوعد به؟. فالآية على هذا مكية نزلت عند موت أبي طالب كما يدل عليه أصل استعمال الفاء في التعقيب والترتيب بغير مهملة، ولهذا لا وجه للقول " بتقدم السبب وتأخير النزول " إلى أواخر العهد بالمدينة حملاً للفاء على السببية كما ذهب إلبه بعض من أهل العلم، لما بينا من أصل استعمال الفاء، ولأن الرابط بين السبب والمسبب أمر عقلي لا يمكن أن يتأخر المسبب فيه عن السبب زمناً طويلاً كما يقولون، وقد يكون الربط عادياً فيتخلف المسبب عن السبب. فعلى حمل معنى الآية على الوجه الأول من معنيي هذا الأسلوب- وهو النفى والتبرئة والتنزيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون وقع منه استغفار لأبي طالب- فلا عتاب فيها لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكون قوله " لأستغفرن

(موقع العتاب من هذه الآية)

لك ما لم أنْهَ عنك "، " تطييباً لنفس أبي طالب لعله يدخل الرجاء إلى قلبه فيتوب، ويراجع الإيمان في آخر عهده بالدنيا قبل المعاينة، أو هو من قبل الدعاء له بالهداية كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا لكفار أحد فقال: " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " وقد أوضحت الرواية الأخرى -وهي قوله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون "- أن الدعاء بالمغفرة هنا أريد به الدعاء بالهداية لهم ليؤمنوا. وهذا لا يعاتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أن نزلت الآية عند مناسبتها في ذلك الوقت قطعاً لرجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إيمانه وزجراً لبعض المؤمنين الذين وقع منهم الاستغفار لذوي قرباهم من المشركين، وقد تبين له - صلى الله عليه وسلم - بصريح قوله أنه باقٍ على كفره، وهذا معنى قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ). أما حمل معنى الآية على الوجه الثاني من معنيي هذا التركيب -وهو الذي يدل على تضمنها للنهي- فالعتاب وارد على احتمال وقوع الاستغفار من النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه وفاء بوعده " لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك " أو على مجرد الوعد بذلك كما يدل عليه تذييل الآية الكريمة، لأن من مات على الكفر لا يستغفر له، ولا يوعد بالاستغفار له. * * * (موقع العتاب من هذه الآية) وموقع العتاب في هذا جاء على شدة رجاء وإلحاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إيمان أبي طالب مع تمسكه بملة الأشياخ وقوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لولا

(إيجاب تعليق عموم الأعمال على مشيئة الله)

أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع. لأقررت بها عينك ". وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية نزلت في نهي المؤمنين عن استغفارهم لآبائهم المشركين، واستدلوا لذلك بما رواه الترمذي وحسنه والإمام أحمد في مسنده -ونقله ابن كثير في تفسيره في المسند، ولم يعقب عليه بشيء- عن علي - رضي الله عنه - قال: " سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو ليس استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). فهذا الحديث صريح في أن هذه الآية نزلت لنهي المؤمنين عن الاستغفار لآبائهم المشركين، وإنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر الآية باعتباره - صلى الله عليه وسلم - المتلقي للوحي المبين لأحكامه. * * * (إيجاب تعليق عموم الأعمال على مشيئة الله) ومما ينتظم في هذا النوع من العتاب قوله تعالى (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)).

وقد نزلت هاتان الآيتان في قصة تقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سئل من بعض شياطين قريش بإيعاز من أحبار اليهود بالمدينة عن ثلاثة أشياء: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وعن الروح ما هو؟ فقال هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أخبركم غداً بما سألتم عنه " ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي أياماً قيل إنها أربعون يوماً، وقيل إنها خمسة عشر يوماً، وقيل إنها ثلاثة أيام. وهذا الأخير هو الأقرب إلى المعقول، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإبطاء الوحي عليه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. " فأتاه جبرائيل فقال: اشتد عليك احتباسنا عنك، وتكلم في ذلك المشركون، وإنما أنا عبد الله ورسوله، إذا أمرني بأمر أطعته (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ). قال بعض المفسرين: في الآيتين عتاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك الاستثناء أي لتركه قول " إن شاء الله ".

وعبر بعضهم عن العتاب بالتأديب، ولفظ العتاب أحسن وأليق بموضعه، وقد أبدع الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى - في التعبير عن هذا فقال: " هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله - عز وجل - علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ". وكيفما يكن الأمر من العتاب أو التأديب أو التعليم والإرشاد، فإن النظر في الآيتين يكون أولاً في تركيبهما، وموضع الاستثناء من الآية الأولى وبأي ألفاظها يرتبط، وثانياً في بيان ما فيها من عتاب ووجهه، وثالثاً في بيان كون هذا العتاب من عتاب التنبيه وهو النوع الثاني من أنواع العتاب فيما ذهبنا إليه من تنويع. وقد اختلف في تعلق الاستثناء في الآية الثانية وارتباطه بالآية الأولى. فقيل إن الاستثناء مرتبط بالنهي لا بقوله " إني فاعل ذلك " لأن تعلقه بقوله " إني فاعل " يجعل المعنى: إني فاعل كذا إلا أن تمنعني مشيئة الله من الفعل. وهذا المعنى لا مدخل له في النهي، والنهي هو المقصود في الآية لورردها من أجله. وارتباط الاستثناء بالنهي محتمل لوجهين:

الوجه الأول: يصير المعنى به: " ولا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقول بأن يأذن لك فيه ". وهذا معنى صحيح في ذاته ولكنه غير مراد هنا، لأن المراد هنا النهي عن القول إلا مرتبطاً بقوله " إن شاء الله " وهو الوجه الثاني في الاحتمال، إذ المراد في هذا الوجه الثاني: ولا تقولن قولاً تعد فيه أحداً بوعد أو تعزم على فعل شيء في المستقبل إلا أن تربط وعدك أو عزمك على الفعل بقولك " إن شاء الله ". هذا ملخص كلام الزمخشري في المراد بتركيب الآيتين، وقد أوضح الوجه المراد هنا فيهما الناصر ابن المنير في انتصافه على الكشاف فقال: " .. إنما الغرض النهي عن هذا القول إلا مقروناً بقول المشيئة " أي بقول " إن شاء الله ". وعبارة القاسمي -في تفسيره- أوضح هنا في بيان المراد من عبارة ابن المنير حيث قال: " ولا تقولن لما عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك غداً إلا قائلاً معه: إن شاء الله ". وقد نهي عليه الصلاة والسلام عن أن يقول قولاً إلا مقرناً بقوله (إن شاء الله " تعليماً له - صلى الله عليه وسلم - وتشريعاً لأمته كلها في مستقبل حياتها حتى يتحقق كل قائل لقول أو فاعل لفعل يفعله في مستقبل الأيام بأن قوله أو فعله

لا يقع إلا بمشيئة الله تعالى على حد قوله - عز وجل - (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ). فالآيتان على هذا تعليم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - -ولأمته عامة- لما ينبغي له التزامه حين يسأل عن أمر، يعلمه ألا يعد بالجواب أحداً وألا يقول بأنه سيفعل كذا غداً " إلا أن يصله بمشيئة الله تعالى لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته " ابتعاداً عما يظن بذلك من لزوم التحكم على الله تعالى وتبرؤا مما يشعر أنه قام بالفعل بإرادته ". قال ابن كثير في اعتراض هاتين الآيتين وسط قصة أصحاب الكهف " واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقاً لا تعليقاً ". وهذا هو الأوجه بمعنى الآيتين الكريمتين، لأنه رد للمشيئة إلى الله تعالى وحده، وإبعاد للمسلم عن الكذب فيما لو لم يتمكن من الوفاء بوعده أو القيام بما عزم عليه من فعل لعارض من عوارض الدنيا اعترضه أو لموت أصابه، لأنه (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا).

(وجه كون الخطاب بهذه الآية عتابا)

وإذا بدر منه قول ناسياً الاستثناء فيه فليذكر ربه ليتذكر ما فاته من ذكر المشيئة تداركاً لنسيانه إياها امتثالاً لما أمره ربه به في ذلك. وختمت الآية الثانية بإرشاده - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرجو ربه أن يمنحه من الآيات البينات والدلائل الواضحات الدالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام، وصدقه فيها ما عساه أن يكون أظهر مما سألوه عنه وأكثر خيراً ومنفعة فقال (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا). والظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم - " أخبركم غداً " أنه وكل الأمر إلى الوحي فأعطى لنفسه فرصة الانتظار إلى الغد اعتماداً على ما في قلبه الطاهر من اطمئنان بالجواب منه تعالى، وليس استقلالاً منه بالتفكير والإخبار، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل هذه الأمور، ولعل العتاب حينئذ كان من أجل التقييد بالغد. ويظهر مما قلناه أن الآيتين فيهما تلطف في عتاب سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تركه الاستثناء في قوله " أخبركم غداً ". ولا شك أن في هذا العتاب من لطف الإرشاد والتعليم لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجعله مثلاً في الأسوة به لاقتداء أمته - صلى الله عليه وسلم - به في ربط قولها وفعلها بمشيئة الله تعالى. * * * (وجه كون الخطاب بهذه الآية عتاباً) وأما وجه كون هذا العتاب من سبيل عتاب التنبيه فلأنه إرشاد لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقترن بشيء من شدة الخطاب أو التحذير مما يخشى وقوعه لو لم ينبه وهو توجيه لأمته - صلى الله عليه وسلم - أن ترتبط في قولها وفعلها بمشيئة الله وأن تنهج من بعده - صلى الله عليه وسلم - هذا النهج الذي يجعلها خير أمة أخرجت للناس.

النوع الثالث عتاب التحذير

النوع الثالث عتاب التحذير أما النوع الثالث من أنواع العتاب لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ما أطلقنا عليه عتاب التحذير. ويقصد به التخويف من عاقبة فعل يتوقع ضرره في أسلوب يحمل شيئاً من الشدة يختلف باختلاف مواقف العتاب دون أن يذكر في النص شىء من عقوبة أو وعيد. ويشترك عتاب التحذير مع عتاب التنبيه في أن كلا منهما فيه تخويف من عاقبة مثل هذا الفعل لو تكرر، وينفرد عتاب التحذير عن عتاب التنبيه في أن أسلوب عتاب التحذير لا يخلو من شدة تُقرِّبُه من الإنذار. * * * (آيات عتاب التحذير) والآيات التي تدخل تحت هذا الضابط بحسب ما وصل إليه بحثنا هي الآيات التالية: 1 - قوله تعالى من سورة النساء (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)). 2 - قوله تعالى من سورة الأنعام (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ

وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)). 3 - وقوله تعالى من سورة الأنعام أيضاً (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)). 4 - وقوله تعالى من سورة الكهف (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)). 5 - وقوله تعالى من سورة الأنفال (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)). 6 - وقوله تعالى من سورة الأحزاب (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ

(تفصيل القول في الموضع الأول من هذه الآيات)

فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37)). 7 - قوله تعالى من سورة التحريم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)). 8 - قوله تعالى من سورة عبس (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)). * * * (تفصيل القول في الموضع الأول من هذه الآيات) أما الموضع الأول من هذا النوع من العتاب فهو قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)). وقد جاءت هذه الآيات الثلاث -في سياقها من سورة النساء- إثر تحريض الله تعالى المؤمنين، وتقوية عزائمهم في قوله (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ

(الأمر بالتزام الحق والعدل في معاملة جميع الناس)

وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)) ليواصلوا الجهاد، وملاحقة الكافرين الذين ناصبوهم العداء كسراً لشوكة الكفر والكافرين، وخضداً لقوة أعداء الإسلام والمسلمين الذين يحاولون القضاء على الدين الإسلامى وإهلاك أهله المنتمين إليه المخلصين في الدعوة إلى سبيله إعلاء لشأنه وترسيخاً لأركانه. ولتذكيرهم بألا يجعلوا من آلامهم الجسمية التي أصابتهم في جهادهم لأعداء الله ورسوله مانعاً من ابتغاء الكافرين ومطاردتهم، فإن أعداءهم أصيبوا بمثل ما أصيبوا به من الآلام وأوجاع الجراح والقتل، ومع ذلك فهم يصبرون على آلامهم، وينازلون المسلمين للقضاء عليهم، وعلى دينهم، فلا ينبغى لكم أيها المؤمنون أن تكونوا أقل صبراً من أعدائكم ولا أن تضعفوا عن مواقفتهم وملاحقتهم وأنتم تزيدون عليهم برفعة الإيمان والرجاء من الله نصره وتأييده وإظهار دينه وهو ما لا يرجوه أعداؤكم لأن الله مولاكم ولا مولى لهم. ولتحذير المؤمنين ألا يضعفوا عن ملاحقة أعدائهم وألا يغفلوا عن الاستعداد لهم كسراً لشوكتهم في كل آن. * * * (الأمر بالتزام الحق والعدل في معاملة جميع الناس) وقد جاء صدر الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث -موضع البحث- بعثاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التزام الحق والعدل في معاملة جميع الناس أعداء كانوا أم أصدقاء، كفاراً أم مؤمنين -كما هو ديدنه - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال والأوقات والملابسات ومع جميع الناس من حيث هم ناس دون نظر إلى ما هم عليه من عقيدة ليكون ذلك نهجاً واجب السلوك على أمته من بعده في مقام انتصارها على أعدائها والظهور عليهم والتمكن منهم ألا يجانبوا الحق

والعدل في معاملتهم لأن العداوة لا تبيح مجانبة الحق والعدل، ولأن الكفر لا يبيح معاملة الكافر بما لم يعاملنا به، فلا يعتدى عليهم في مال أو عرض بغير حق ثابث وعدل قائم القواعد ولا يمثل بهم. وجاء قوله (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) مقرراً لقاعدة عامة هامة، وهي أن الله تعالى قد جعل الحكم بين جميع الناس قائماً على الحق والعدل سواء كان الناس كفاراً أم مؤمنين، أصدقاء أم أعداء، لا يُحَابي قريباً لقرابته ولا صديقاً لصداقته ولا يتحيف على عدو لعداوته، بل الناس بجميع أجناسهم وألوانهم وأديانهم وأحوالهم أمام الحكم بالحق والعدل سواء. وهذا رد إلى ما تقدم في هذه السورة الكريمة من الأمر بالحكم بين الناس بالعدل في قوله (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) فهو من باب التأكيد المعنوي، فقوله هنا في هذه الآية -موضع البحث- (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) في مقابلة قوله في تلك (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). ولعل هذا هو وجه من جعل ربط هذه الآيات الثلاث بالآية المتقدمة الآمرة بالحكم بين الناس بالعدل. والذي أراه الله إياه اختلف فيه العلماء فقال فريق: هو ما يراه - صلى الله عليه وسلم - بالرأي والاجتهاد، وقال فريق آخر هو ما ينزل عليه به

الوحي. وأياً ما كان فمرجع ما أراه الله إياه سواء أكان عن رأي واجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - أم عن وحي منزل فإن مرجعه إلى الوحي إذ لو كان ما أراه الله رأياً واجتهاداً فإما أن يصوب إن كان خطأ وإما أن يقر إن كان صواباً فرجع في صورتيه إلى الوحي. وخطابه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) يشعر بأنه - صلى الله عليه وسلم - هجس في نفسه الشريفة شىء أو حدث نفسه بشيء أخذاً بظاهر الحال قبل أن يبين الله له جلية الأمر، ولا يلزم هذا النهي وقوع المنهي عنه. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن اللام في قوله (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) لام التعليل بمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن مخاصمة البرآء لأجل الخائنين. ومن المفسرين من ذهب إلى أنها بمعنى " عن " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن أن يكون مخاصماً عن الخائنين.

(ما يدل عليه توسيط الأمر بالاستغفار بين النهيين)

وفي كلا الحالين ينتهي المعنى إلى أمر واحد، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن أن يكون خصيماً للبرآء لأجل الخائنين. وعطف هذه الجملة، وهى قوله (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) -وهي جملة إنشائية لفظاً ومعنى- على الجملة التي قبلها من هذه الآية -وهي خبرية لفظاً ومعنى- إنما صح لكون المعطوف عليه ليس هو الجملة الخبرية، وإنما هو " ما ينسحب عليه النظم الكريم " من تضمن أمر محذوف تقديره: فاحكم بين الناس به ولا تكن للخائنين خصيماً. ثم عطف على جملة النهي الأولى وهي (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) جملة النهي الثانية وهي (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ) من باب عطف الأثر على المؤثر، والمسبب على السبب لأن الجدل عن الخائنين أثر من آثار الكون خصيماً للبرآء لأجل الخائنين وهو -أي الجدل- مسبب عن الكون خصيماً للبرآء. * * * (ما يدل عليه توسيط الأمر بالاستغفار بين النهيين) وتوسيط الأمر بالاستغفار بين النهيين لمحو بها عسى أن يكون هجس في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء أخذاً بظاهر الحال قبل أن يبين الله له جلية الأمر. والنهي وإن كان لا يدل على وقوع المنهي عنه من المنهي إلا أنه لا ينفي أن يكون قد دار في النفس من متضمن النهي شيء فجاء الأمر بالاستغفار ليمحو ذلك الأثر.

(تصوير حال المختانين أنفسهم)

(تصوير حال المختانين أنفسهم) وفي قوله (الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ) تصوير بالغ لحال أولئك المختانين، فإن خيانتهم ومعصيتهم قد بلغت مبلغاً من الشناعة والفظاعة تجاوزت فيه الذين خانوهم وغدروا بهم إلى حد أنهم من شدة خيانتهم قد انعكست الخيانة عليهم فخانوا أنفسهم وظلموها وأوردوها موارد الهلاك والعذاب الشديد من الله تعالى. وفي التعبير بالاختيان عن الخيانة إشعار بالتدسس النفسي وشدة إخفاء معالم الخيانة التي كانوا عليها إظهاراً للنفاق الذي في أنفسهم. وجاء قوله (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) بياناً لقاعدة عامة -جرياً على سنة القرآن الكريم- من أنه إذا تحدث القرآن الكريم عن موضوع في وعد أو وعيد أو تحذير أو زجر عن حادث وقع من فرد أو طائفة فإنه يختم آيات ذلك الموضوع بقاعدة عامة لتكون تشريعاً أبدياً للأمة يحميها من الوقوع فيما وقع فيه أصحاب ذلك الحادث. وفِي التعبير بصيغتي المبالغة (خَوَّانًا أَثِيمًا) بيان لمدى ما وصل إليه أولئك المختانون أنفسهم من خبث في الخيانة، وأنها ثابتة في طبائعهم، مستقرة في نفوسهم، فقد خانوا الله بمعصيته وخانوا الناس بالاعتداء على حقوقهم التي ائتمنوهم عليها، وخانوا أنفسهم بظلمها وإيرادها موارد العذاب، وخانوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكذب عليه وإخفاء الحقيقة عنه طمعاً منهم في حمله على تبرئتهم بتظاهرهم بالصلاح في الإسلام وبما زكى به بعضهم بعضاً.

(وصفهم بسوء ما بيتوا للتحذير من الاغترار بمثل ما تجمعوا عليه)

(وصفهم بسوء ما بيتوا للتحذير من الاغترار بمثل ما تجمعوا عليه) فكشف الله خيانتهم، ووصمهم بسوء ما بيتوا فقال (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)). وقوله تعالى -في خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ولا تجادل) نهي للتحذير وليس عن أمر واقع لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجادل عن خائن، ويعصمه الله تعالى عن أن يدلسوا عليه الحقيقة. والتحذير إنما كان لما احتف بالحادثة من تجمع المنافقين المتظاهرين بالصلاح في الإسلام وشهادتهم ببراءة صاحبهم والطعن على من ألقيت عليه الدِّرْع وهو زيد بن السمين اليهودي أو غيره ممن ذكرت الروايات، وقصدهم خدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإكثارهم الطعن على من ألقيت عليه الدرع ولا سيما إذا كان هو اليهودي، ولذلك جاء الخطاب لهؤلاء المنافقين تبكيتاً لهم وتقريعاً على ما فعلوه من الخيانة وشهادة الزور والطعن على البراء فقال تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)). وهو خطاب يدل على وقوع الجدل الكاذب الخؤون من هؤلاء المنافقين المتجمعين الذين كانوا ألحن بحجتهم من خصومهم البرآء، والله يعلم أنه جدل زائف باطل نبه رسوله - صلى الله عليه وسلم - على بطلانه وزيفه فلم ينخدع به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترتيب شيء عليه من القضاء أو الحكم.

(التمويه بالجدل الكاذب في الدنيا لا ينجي من عذاب الآخرة)

(التمويه بالجدل الكاذب في الدنيا لا ينجي من عذاب الآخرة) ولما كان الجدل في لدنيا يمكن أن يقع به التمويه والخداع، وكان الجدل في الآخرة مكشوف السوأة لا يخدع به أحد نبه الله تعالى على أن جدلهم في الدنيا وإن كان خادعاً لم ينفعهم بشيء لأن الله تعالى أعلم رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونبهه على ما فيه من خيانة وخداع، ولكن جدل الآخرة لا يمكن أن يقع بسببه خداع ولا خيانة لأن الحاكم إذ ذاك هو الله وحده علام الغيوب فقال لهم منكراً مقرعاً (فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يوم تنكشف الحقائق فلا يغطيها خداع أو لحن بحجة. ثم قال لهم (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أي من يكون كفيلاً لهم يوم القيامة ينجيهم من عذاب الله حيث لا خداع ولا خيانة. * * * (فتح باب التوبة للتائبين) ثم فتح الله تعالى للتائبين باب التوبة رحمة منه وتفضلاً على عباده فقرر قاعدة عامة يدخل فيها كل تائب مستغفر فقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)). ثم بيّن أن من يكسب إثماً ومعصية من خيانة أو خداع عن الحق فإنما كسبه لها راجع علي نفسه يضرها ولا يضر غيرها فقال: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)) وفي هذه الفاصلة تهديد ووعيد لهؤلاء المنافقين بأن الله لا يخفى عليه خداعهم، وأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - في عصمة وحماية منه تعالى لا يتركه لخداعهم وخيانتهم، وأنه تعالى حكيم يضع الأمور في مواضعها.

(قطع أطماع المنافقين في حجب الحقيقة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم)

ثم أخبر تعالى عن القائمين بالباطل والخيانة في هذه الحادثة بأنهم إذ كسبوا الإثم ورموا به البريء فقد احتملوا جريمة البهتان والإثم المبين فقال تعالى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)). * * * (قطع أطماع المنافقين في حجب الحقيقة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم) ثم عقب الله تعالى هذه الآيات بما امتن به على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من عصمته أن ينالوا بخداعهم ومكرهم منه شيئاً أو يضروه بشيء مما هموا به من الضلال والإفساد فقطع بذلك -إلى الأبد- أطماع الذين يظنون أن في استطاعتهم حجب الحقيقة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يحجبونها عن غيره من الناس، كما عقب ذلك بمنة أخرى وهي إظهار فضل الله عليه وتعليمه ما لم يكن يعلم، وكان ذلك من عظيم فضل الله على رسوله وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)). قال السيد محمد رشيد رضا في تفسير المنار: " وهذه الآية ناطقة بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجادل عنهم ولا أطمعهم في التحيز لهم قبل نزول الوحي ولا بعده بالأولى ".

ثم نقل عن أستاذه الشيخ محمد عبده في تعقيب هذه الآيات قوله: " كان الكلام في المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحق، وقد أراد الله تعالى بعد بيان تلك الأوامر والنواهي وتوجيهها إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين فضله ونعمته عليه، قال الأستاذ: ولا يصح تفسير الآية بما ورد من قصة طعمة لأنه على ما روي قد هم هو وأصحابه بإضلال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحق الذي أنزله الله عليه، وهو تعالى يقول إنه بفضله ورحمته عليه قد صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلاله والهم بذلك، وذلك أن الأشرار إذا توجهت إرادتهم وهممهم إلى التلبيس على شخص ومخادعته ومحاولة صرفه عن الحق فلابد له أن يشغل طائفة من وقته لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم وذلك يشغل المرء عن تقرير الحقائق وصرف وقت المقاومة إلى عمل آخر صالح نافع ولذلك تفضل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه حتى بِالهمِّ بغشه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه ". أ. هـ. وهذا إيجاز لما فصلناه فيما سبق من تفسير الآيات. والذي نفاه الأستاذ محمد عبده من عدم صحة تفسير الآيات بقصة طعمة يقصد به ما أورده جمهور المفسرين والمحدثين من قصة ذكروها في أسباب النزول تنسب إلى رجل من بني أبرق يقال له بشر واشتهر بطعمة وهو متهم بالنفاق وكان يقول الشعر يهجو به المسلمين وينسبه إلى بعض شعراء العرب، وجملة القصة -في إيجاز كما أوردها الترمذي.

والطبري وغيرهما- أن هذا الرجل نقب مشربة لرفاعة بن زيد وسرق منها أدرعاً له وطعاماً فذهب قتادة ابن أخي رفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو إليه بني أبيرق، ويخبره بما وقع من السرقة. قالت الرواية " فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سأنظر في ذلك " فلما أحس بنو أبيرق بأن الأمر وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا له: " يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينه ولا ثبت قالت الرواية: " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتادة بن النعمان: " عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينه " ولم يلبث أن نزل القرآن بهذه الآيات. وقد علق الترمذي على هذه القصة بعد أن أوردها بقوله: " هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني وذكر أن سائر رواياتها الأخرى مرسلة ".

(موضع العتاب في هذه الآية)

ولعل الأستاذ محمد عبده في نفيه لتفسير الآيات بهذه القصة نظر إلى إرسال أسانيدها فيما عدا رواية محمد بن سلمة الحراني وهو ثقة. * * * (موضع العتاب في هذه الآية) وموطن العتاب في هذه الآيات في توجيه النهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولاً: ألا يكون خصيماً للبرآء لأجل الخائنين. وهذا الأسلوب وإن كان لم يستلزم وقوع المنهي عنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه قد يشعر بحديث هجس في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبين الله له جلية الأمر فيهم - أخذاً بظاهر الحال من الذين تجمعوا وشهدوا عنده - صلى الله عليه وسلم - ببراءة هذا الرجل، مع ما في أسلوب الآية من شدة في الخطاب وتصوير هذه الشدة بألفاظ تؤكد هذه الشدة مما يشعر لأول وهلة وقبل التأمل أنه قد وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبرر هذا النهي بهذا الأسلوب. وثانياً: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المجادلة عن الخائنين التي هي أثر من آثار ما تضمنه النهي في الجملة الأولى مع ما فيها -كالنهي الأول- من شدة في الأسلوب والألفاظ. أما أنه من عتاب التحذير فلاشتماله -في موضعيه- على شدة الأسلوب الذي خرج مخرج التحذير مما يخشى في ظاهر الحال أثر وقوعه لو تكرر. * * *

(ثانية آيات هذا النوع من العتاب)

(ثانية آيات هذا النوع من العتاب) وثانية آيات هذا النوع من العتاب قوله تعالى -من سورة الأنعام-: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35). وهذه الآية تدخل في ظاهر أمرها ومجمل موضوعها تحت عتاب التوجيه لأنها عتاب على شدة حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إيمان قومه الذي بلغ فيه مبلغاً ليس وراءه مطلب لحرص حريص، فهي بحسب هذا الظاهر من قبيل (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ). غير أنَّهَا لما اشتملت على تحذير وشيء من الشدة في الخطاب بلغ مبلغ التيئيس من إيمانهم الذي أشعر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يترك طريقاً من طرائق جذبهم إلى الإيمان إلا وقد سلكه معهم، حتى كأنه - صلى الله عليه وسلم - رغب في أن لا يأتيه الله بشيء ينفرهم منه وأن ينزل عليه ما يقربهم منه فمن هنا كانت أنسب بوضعها في عتاب التحذير. ْوقد جاءت هذه الآية إثر بيان الله تعالى مبلغ ما وصل إليه حزنه - صلى الله عليه وسلم - على عدم إيمان قومه وأنه بلغ في هذا الحزن مبلغاً جعله كالمتطلع إلى أن يأتيه الله تعالى في وحيه بما يقربهم منه ويرغبهم في الاستجابة إليه بتحقيق ما اقترحوا من آيات.

(تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يلقاه من أذى المشركين)

فقدم الله تعالى إلى رسوله الكريم التعزية والتسلية على حزنه البالغ الذي لم يبق في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - أثراً في الأمل فيهم والرجاء في إيمانهم فقال له (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)). وهاتان الآيتان تضمنتا أموراً: أولاً - إخبار الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه علم ما يحزنه علماً أكده بحرف التحقيق الذي يفيد أن هذا العلم محقق ثابت وبدخول اللام على خبر إن المؤكدة، وإبهام ما يحزنه في الإتيان بصلة الموصول مبهمة غير مفسرة (يقولون). * * * (تسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يلقاه من أذى المشركين) ثانياً - إخباره سبحانه وتعالى رسوله بأن تكذيب هؤلاء المشركين لم يكن قط موجهاً لذاته الشريفة - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) وفِى هذا تلطف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلميح إلا ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق ورفيع الشمائل التي يعترف بها هؤلاء المشركون رغم ما يكنونه لدعوته من عداء فهذا تنزيه لذاته - صلى الله عليه وسلم - وتبرئة لساحته أن يتوجه إليها الكذب.

وقد روى الترمذي والحاكم والطبري عن علي - رضي الله عنه -: " أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به " فأنزل الله تعالى (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ). ثالثاً - بيان أن سبب عناد هؤلاء المشركين وتعنتهم بطلب الآيات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو جحدهم آيات الله، وهذا كأنه موجه إلى الله سبحانه وتعالى فكأن الله تعالى قال له: إن هذا التكذيب موجه إليَّ في آياتي ولم يوجه إليك في دعوتك وصدق رسالتك. ثم سلك الله تعالى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - مسلكاًْ آخر في التلطف والتعزية ليستل من قلبه الطاهر كل أثر للحزن على عدم إيمان هؤلاء المشركين وهو مسلك التأسي بإخوانه الأنبياء والمرسلين وبيان أن ذلك العناد والتعنت من الكفرة والمشركين سبيل الأمم قبله وقبل أمته، وأن التذرع بالصبر والاحتمال سبيل حملة رسالات الله تعالى فقال له (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)). وهو بأسلوب التأكيد المفتتح بلام القسم وحرف التحقيق ليبين له أن شأن الرسل من جميع من تقدمك منهم أن يكذبوا وشأن الأمم عامة أن تقابل رسالات الله بالكفر والجحود وإيذاء حملة رسالات الله الذين يدعونهم إلى الجنة وهم لا يريدون إلا النار إلا من عصم الله، وأن عاقبة هذا الصبر والاحتمال على التكذيب والجحود هي تنزل

نصر الله تعالى على أنبيائه ورسله وأخذ الظالمين الجاحدين بانتقامه وبطشه الشديد. وفي إبهام الفاعل في قوله (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) والتصريح بالمكذَّبين -بفتح الذال المشددة- من الرسل إعظام لرسل الله ورسالاته وتحقير لمن كذبهم وجحد آيات الله التي جاءوا بها لهدايتهم. وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن هذا سنة من سننه التي لا تتبدل ولا تتغير وأن نصره آتٍ لا يتخلف فقال (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) وكلمات الله هي الآيات التي أنزلها على رسله ووعدهم النصر فيها كقوله تعالى: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي). وقوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)). وقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)). وهذا سنة من سنن الله تعالى في خلقه. ثم أخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب التأكيد الموثق بأن هذا مما أخبره الله به فقال له (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ). فلما بلغت التسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبلغها -وكان ما طبع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرأفة والرحمة وحب إيمان قومه وحرصه الشديد عليهم أن يجنبهم انتقام الله وبأس عذابه- وجه الله تعالى الخطاب إلى رسوله عليه

الصلاة والسلام في نوع من الحسم ليفصم عرى هذا الحرص ويقطع رجاء رسوله في هؤلاء المتعنتين وبيانه: أنه لا أمل في إيمانهم لأن الإيمان إنما يتعلق بمشيئة الله تعالى وإرادته ولو شاء الله هدايتهم لهداهم أجمعين - فقال (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)). أي أنك قد استنفدت كل طرائق موجبات دلائل الإيمان وآتيتهم من الآيات ما فية الغنية عن طلب المزيد وتحقق لهم أنك صادق فيما جئتهم به من عند ربك ومع ذلك لم يؤمنوا مكابرة وإعناتاً واستهزاء ولم يبق إلا أن تأتيهم بالمستحيلات وما ليس فِي استطاعتك الإتيان به فقد شق عليك إعراضهم وعظم عليك صدودهم عن الإيمان وبلغ بك الحرص على إيمانهم إلى أن لو استطعت أن تدخل سرباً في الأرض أو ترقى سلماً في السماء فتأتيهم بما اقترحوا من الآيات توصلاً إلى إيمانهم وتطلعاً إلى نجاتهم من عذاب الله بدخولهم حظيرة الإيمان لفعلت ذلك. ولكنهم بما طبعوا عليه من سوء الاستعداد لقبول الإيمان لن يؤمنوا ولو فعلت معهم ما تستطيع وما لا تستطيع، فتخفف من الحزن عليهم إذ لو شاء الله هدايتهم واستقامتهم على الدين لوفقهم لذلك بلطفه ورحمته ولكنه لم يشأ لهم ذلك بعدله وسابق علمه بحالهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تكن في رجائك إيمانهم -بعد ما تضافرت لك البراهين على عتوهم وإصرارهم على الكفر- ممن يغفل عن واقعهم ويطمع في إيمانهم لأن هذا شأن الجاهلين الذين ينساقون مع عواطف الرحمة والشفقة فيطمعون في غير مطمع، وهذا ليس من شأنك ولا مما يتعلق برسالتك.

(الرد على المستهينين بالفقراء من المؤمنين)

ثم عقب هذه الآية (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ. . .) الآية بما هو كالبيان لها فقال (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)). أي أنك في حرصك الشديد على إيمانهم لا تستطيع منعهم عن هذا الإعراض الذي أحزنك ولا أن تحصل على آية تجذبهم إلى الإيمان بدعوتك لأن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمعون ما يلقى عليهم سماع تدبر وانتفاع وهؤلاء المعرضون عن الإيمان بما جئتهم به وإن كانوا في ظاهر الحال في صور الأحياء إلا أنهم بمنزلة الموتى " فآيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك ". وقد سبق أن أشرنا إلى وجه العتاب في هذه الآية، وبينا أنها من عتاب التحذير باعتبار أن فيها شيئاً من شدة الأسلوب وصرامته وإن كانت فيما عوتب عليه النبي من من شدة حرصه على إيمانهم أقرب إلى عتاب التوجيه منها إلا عتاب التحذير. * * * (الرد على المستهينين بالفقراء من المؤمنين) ومما يدخل في هذا النوع من العتاب أيضاً قوله تعالى في سورة الأنعام (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)).

وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق بيّن الله تعالى فيه مهمة الرسل، وأنها تبشير عباد الله المؤمنين بالخير، وإنذار الكافرين بالله النقمات والعقوبات الدنيوية والأخروية، وأن الناس أمام مهمة الرسل إما مؤمن موعود بالأمن والأجر العظيم، وإما مكذبون بآيات الله ينالهم العذاب الشديد بكفرهم بالله وما جاءتهم به الرسل من الله تعالى، وفسوقهم عن أوامر الله وخروجهم عن طاعته وارتكاب محارمه. وبعد أن بيّن الله تعالى أن مقترحاهم المتعنتة إنما كانت على سبيل العناد والصلف والاستهزاء والمكابرة، بيّن لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مهمته إزاء هذه الآيات، وأنه لا يستطيعها ولا يملكها، شأنه في ذلك شأن إخوانه الرسل من قبله، ومثل لذلك بثلاثة أمور نفاها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبر بها هؤلاء الجاحدين وهى: أولاً - أن خزائن الله تعالى التي يطلبون الثراء منها ليست عنده ولا في ملكه ولا في استطاعته. ِثانياً - أنه نفى علم الغيب عنه فهو لا يعلم منه إلا ما أطلعه الله عليه. ثالثاً - أنه لا يقول لهم إنه ليس بشراً، ولا يدعي الملكية فيقدر على ما لا يقدر عليه البشر، وإنما شرفه الله بالوحي إليه وأنعم به عليه فهو متبع لما أوحي إليه ولا يخرج عنه. ثم بيّن أنَّهم إن اتبعوا هدايته كانوا مبصرين للحق، وإن تولوا وأعرضوا كانوا عمياً عن الحق وهدايته، ووبخهم على عدم تفكرهم ونظرهم فيما جاءهم به من الآيات فقال (أَفلَا تَتفَكَّرُونَ).

ثم بيّن أن الإنذار بالقرآن وبما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يفيد الذين يُقرّون بالبعث ويخافون أن يحشروا إلى ربهم وهؤلاء هم المؤمنون، ولا يضرهم فقرهم ولا ضعف منزلتهم في الدنيا، لأنهم سموا بأنفسهم فآمنوا واهتدوا وانقطعوا إلى الله تعالى متبتلين في محاريب دعائه غدوة وعشية لا يريدون بذلك إلا وجهه ولا يتطلعون إلى شيء من الدنيا وزخارفها، وهذا هو قول الله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ثم قال تعالى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ). أي أن هؤلاء الصفوة لم يُحمِّلوك شيئاً من أمرهم فلا أنت ترزقهم ولا أنت تحصي عليهم أعمالهم فتجازيهم عليها وإنما أمرهم إلى الله. فهؤلاء الصفوة لم يطلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً يشق عليه وهم أخلص الناس في مودته وأسعدهم بعلو دعوته وهو بهم رءوف رحيم. (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي أن هؤلاء الصفوة لا يتحملون شيئاً من أمرك وتصرفاتك ونشر دعوتك، وتبليغ رسالتك، لأنهم متبعون لأمرك وهديك. ثم فرع على ذلك تأكيداً لتأسي الأمة به - صلى الله عليه وسلم - ووجوب إتباعها له ووقوفها عند أمره فقال (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي إن فعلت ذلك اقتدت بك أمتك وتابعتك عليه، وهو ظلم أنت أبعد الناس عنه، ولتكن قدوة أمتك بك أن تكون على منهجك وحالك فلا يطرد الضعفاء والمساكين من المؤمنين من أجل تقريب الكبراء المترفين من غير المؤمنين

(ما فتن به المستكبرون عن قبول الإيمان)

طمعاً في إيمانهم، لأن شأن الإيمان مرتبط بالقلوب لا بالمظاهر والثراء والترف وزخرف الدنيا. * * * (ما فتن به المستكبرون عن قبول الإيمان) ثم بيّن الله تعالى أن هؤلاء الكفرة المستكبرين فتنوا في أنفسهم بالإعراض عن النظر في آيات الله تعالى ومعجزات رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقبول هديه، وأن مثل هذا الإفتتان وقع لهم بافتتانهم بإيمان هؤلاء الصفوة من ضعفاء المؤمنين حسداً لهم وتحقيراً لشأنَّهم لما يرون عليهم من سمات الفقر والضعف، ونيلهم المنزلة العظمى بإيمانهم وقبول هدى الله وانقطاعهم له سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرع آناء الليل والنهار لا يبتغون بذلك شيئاً من رغائب الدنيا وزخارفها وإنما يريدون وجه الله تعالى. وهذا كناية عن كمال الإخلاص والعبودية لله تعالى، فالمشبه به في قوله (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) فتنة رؤوس الكفر بإعراضهم عن النظر في آيات الله وبراهينه ودلائله على توحيده واستقامة هديه، والمشبه فتنتهم بإيمان هؤلاء الصفوة الذين أثنى الله عليهم أعظم الثناء، ولم يكن لهم من الدنيا شيء، وإنما هم منقطعون إلى الله تعالى بدعائه والتضرع له والتعبد لذاته المقدسة. ثم أظهر الله تعالى مدار فتنتهم بهم وأنَّهم حقروهم عن أن تكون لهم هذه المنزلة العظمى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التقريب والاحتفاء بهم فقالوا: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) أي أهؤلاء الفقراء الذين لا يملكون من الدنيا شيئاً وليس لهم ثراء مثل ثرائنا ولا هم مستطيعون أن يترفوا بالنعم ويتمتعوا بنعم الدنيا كما نترف ونتمتع، فالاستفهام إنكاري مشعر بالاستهزاء والتحقير.

(ما يكون به علو المنزلة عند الله ورسوله)

ثم رد الله تعالى عليهم باطلهم بأسلوب استفهامي يتلاقى في الإنكار والتوبيخ مع أسلوب استفهامهم في الإنكار والتحقير. فقال تعالى: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)؟. * * * (ما يكون به علو المنزلة عند الله ورسوله) ومعناه: أن علو المنزلة عند الله تعالى والتقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ الصدارة في مجالس الإيمان ليس بكثرة عرض الدنيا ولا بمظاهر الترف والزخرف ورغائب الشهوات، وإنما هو بما وقر في القلب من قوة الإيمان واستدامة الشكر لله تعالى، وأنتم محرومون من هذا بسوء استعدادكم وإعراضكم عن هدى الله تعالى، ولكن هؤلاء الضعفاء هم صفوة الله من خلقه، وهم أهل الشكر الذين علم الله أن قلوبهم عامرة بحبه وذكره فخصهم بما خصهم به من علو المنزلة عنده تعالى وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثم زاد الله تعالى في حفاوته بهؤلاء الصفوة فأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يكون بهم حفياً وأن يقربهم منه وأن يبدأهم بالتحية تلطفاً بهم أو أن يبلغهم تحية الله لهم، وهذا معنى قوله تعالى (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). ثم بيّن أن هذا من غمرات رحمة الله الشاملة التي كتبها على نفسه لعباده المؤمنين، ثم فتح باب التوبة لسائر الخلق مبيناً شأنه تعالى مع التائبين

(موضع العتاب من هذه الآية)

وأنه غفور رحيم لما يبدر منهم من الذنوب والآثام إذا رجعوا نادمين تائبين إليه مما اقترفوا من أسواء ارتكبوها بجهالتهم لجلال الله تعالى وعظمته فقال تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). * * * (موضع العتاب من هذه الآية) والعتاب في هذه الآية موضع البحث على هذا التفسير الذي نهجناه في فهم الآية إنما هو في أسلوب الآية: أولاً - بتسليط النهي على الطرد، والطرد إبعاد مشعر بالنفرة. وثانياً - توجيه الخطاب في جواب النهي في قوله (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) مباشرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكون من الظالمين إن وقع منه ذلك -وحاشاه أن يقع منه- -صلى الله عليه وسلم- فيه شدة تتناسب مع صدر الآية في توجيه النهي إلى الطرد فكانت الآية بصدرها وفاصلتها مشعرة بالشدة التي تحمل العتاب. وكأن الله تعالى يحذر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقع منه ذلك لئلا يكون منهحاً لأمته من بعده بتقريب أهل الدنيا وإبعاد صفوة الله الذين انقطعوا إلى الله تعالى تضرعاً وتعبداً لا يبتغون إلا وجهه وذلك على الضد من مقاصد هدايات الله. ومن هنا كان العتاب فيها من عتاب التحذير. وقد ذكر المفسرون والذين يُعنَون بأسباب نزول الآيات الكريمة روايات مذكورة في بعض الصحاح تشعر بأن قوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ). . .) الآية إنما نزلت بسبب أن

المشركين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - إبعاد فقراء المؤمنين عن مجلسه وإخلاص مجلسه لهم لعل ذلك يكون أطوع إلى قبول هدايته والإيمان به فوقع في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع وحدَّث نفسه. وهذا مشعر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هَمَّ بإبعاد هؤلاء الفقراء عن مجلسه فنزلت الآية الكريمة تنهاه وتعاتبه على ما هَمَّ به. روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفر فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما. فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه فأنزل الله - عز وجل - (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. . .). وهذا أصح ما رُوي في سبب نزولها، وعند الحاكم في مستدركه جاء هذا الحديث عن سعد أيضاً من طريق سفيان ولم يذكر فيه ما جاء في رواية مسلم من قول سعد " فوقع في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع فحدَّث نفسه فنزلت الآية "، وإنما الذي جاء في حديث الحاكم أن سعداً قال: " نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ابن مسعود قال: كنا نستبق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وندنو منه ونسمع منه فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا فنزلت (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ).

ولا يخلو هذا من الإشعار الذي أشعر به حديث مسلم في كلام سعد، وإن كان حديث مسلم أصرح في الإشعار من حديث الحاكم. ولعل حديث الحاكم دخله شىء من الاختصار، أو أن حديث مسلم روي بالمعنى فدخله شىء من التفصيل. وحديث سعد -عند مسلم- صريح في أن العتاب في الآية وقع على ما حدَّث به النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه إن كان قد حدَّث نفسه بما قال سعد. والله اًعلم. بيد أن حديث النفس أمر داخلي في النفس الإنسانية محجوب عن غير صاحبه، لا يطّلع عليه أحد من الخلق سوى من حدّث نفسه بما حدّثها به إن كان قد حدّثها فعلاً. وهذا النظر يجعلنا نطمئن تماماً إلى ترجيح القول بأن رواية مسلم لحديث سعد هذا قد رويت بالمعنى، فدخلها تفصيل أخرجها من نسقها الصحيح الذي قاله سعد، إذ ما كان لسعد ولا لغيره من الناس كائناً من كان أن يطلع على ما دار بخلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنذاك، ولا أن يتجرّأ بالقول عليه، وهو لم يخبر عن نفسه بشيء في هذا إن كان قد حدث من المشركين ما عُدَّ سبباً لنزول هذه الآية الكريمة. وأيضاً لم يرد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سياق قول سعد في هذا الحديث قول ولا تقرير حتى يمكن أن يستأنس بشيء منه لما زُعم في ما نسب لسعد من قول في هذه الرواية.

وظاهر حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إخلاصه التام في الدعوة إلى عبادة الله وحده، وحبه للمؤمنين، وتفرغه الكامل للجلوس معهم، وانقطاعه لتعليمهم، وتفقيههم في الدين مما هو معلوم عنه بالاستفاضة يرد كل ما زُعم في هذا الشأن. وسياق قول سعد الذي رواه الحاكم -كما مر آنفاً- هو اللائق بحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المؤمنين، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يلقي بالاً لما كان يتعنت به المشركون من أقوال وأعمال ومطالب يأملون بها إبعاد المؤمنين بها عنه. ويؤيد قولي هذا، ويعززه ما أخرجه أبو داود في سننه بإسناده عن علي أبي أبي طالب - رضي الله عنه - أقرب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حالاً، وأتمهم به معرفة وأخبرهم به تصرفاً في دعوته، وجميع شؤون حياته حيث قال علي - رضي الله عنه -: " خرج عِبْدَانٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -يعني يوم الحديبية- قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد، والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق، فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله ردَّهم إليهم، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا " وأبى أن يردهم، وقال: " هم عتقاء الله - عز وجل ". ورواه -أيضاً- الترمذي في جامعه بإسناده من طريق رِبْعي بن حِراشٍ -أيضاً- بتفصيل أتم وأوضح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال:

" لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو، وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقهٌ في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا. قال: فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر قريش لتنْتهُنّ أو ليبعثنّ الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف علي الدين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان ". وهذا الحديث بسياقيه صريح في عدم رضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم ذلك، وردٌّ وصد، ورفض صريح لطلبهم وبيان لغضبه - صلى الله عليه وسلم - عليهم، وعلى من آزرهم بالقول منهم، وتهديد ووعيد شديدين لهم جميعاً، مما يدل على أن ما صدر منه من تهديد ووعيد وتوعد لهم في الحديبية قد صدر منه - صلى الله عليه وسلم - مثله قبل ذلك حين صدر منهم شبيه بطلبهم ذلك في سابق أيامهم يوم أن كان بمكة، لأن حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال واحدة في جميع ما يُعترض به على دعوته إلى إخلاص العبادة لله وحده في أول أمره، وآخره لا يتغير. وقد أمره الله - عز وجل - بإبلاغ ما أنزل إليه، وأنه - عز وجل - يعصمه من الناس، ويمنعهم من قتله واستئصاله فقال (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وأمره بجهاد الكافرين بالقرآن جهاداً كبيراً، والتشديد عليهم به حتى يؤمنوا بالله وحده. قال تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا). وقد ضمن الله له حفظه منهم، ووعده بأن يكفيه منهم. قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)). وقال (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)). وكل هذا تثبيت من الله - عز وجل - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووعد له بالحفظ والعصمة من أعدائه مما يدل بحق ويقين على أن حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه حال واحدة لا تتغير بتغير أعدائه، ولا بتغير أنواعهم، وأصنافهم، وقوة مواقفهم منه، فالله هو الحافظ له، وناصره على أعدائه ومؤيد دينه ما بقيت السماوات والأرض مؤيداً بالطائفة المنصورة التي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها بأنَّهَا ستبقى على الحق ظاهرة حتى يأتي أمر الله لا يضرهم من خالفهم. ومما يكمل قصة الصفوة الواردة في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ. .) الآية ما جاء في سورة

(الربط بين آية سورة الأنعام وآية سورة الكهف الناهيتين عن طرد الذين يدعون ربهم)

الكهف في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)). فالقصة واحدة تتعلق بطلب فجار الكفرة من المشركين إبعاد الصفوة الفقراء من المؤمنين عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليستأثررا به استكباراً وعلواً واحتقاراً لضعفاء المؤمنين. * * * (الربط بين آية سورة الأنعام وآية سورة الكهف الناهيتين عن طرد الذين يدعون ربهم) فآية الأنعام كانت بدءاً للقصة بالنهي عن طرد الصفوة وإبعادهم عن مجلسه - صلى الله عليه وسلم -، وآية الكهف كانت ختاماً للقصة بازدياد حفاوة الله تعالى وحفاوة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصفوة الضعفاء من المؤمنين، أن يحبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه معهم حتى يشبعوا رغباتهم من حديثه والأخذ عن منهجه في التربية والسلوك. * * * (اختصاص الله بعلم الغيب وانفراده بالحكم في خلقه) وقد رردت هذه الآية الكريمة في موضعها من سورة الكهف بين آيتين من آيات هذه السورة تأمر الآية السابقة لها - وهي قوله تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلاوة مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّه في هذا الكتاب تلاوة تبليغ وتعبد واستمساك به، واتباع له وإعلان له على الدنيا كلها دون حذر ولا مبالاة بأحد من الناس، لأن هذا الكتاب هو آخر كتاب ينزله الله على بشر، فلا مبدل لكلماته ولا مغير لشيء منها

ولن يتبع الحق أهواءهم في قولهم (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) إذ كلمات هذا الكتاب هي السبيل والملجأ لهداية البشر أجمعين. وفي قوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) إخبار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لو ترك -وحاشاه من ذلك- كلمات هذا الكتاب فلن يجد غيره من الكلمات هادياً ومرشداً يلجأ إليه " في البيان والإرشاد "، إذ لا بيان لمصالح العباد كبيان الله تعالى العليم الخبير، ولا إرشاد لهم كإرشاده تعالى وهدايته وهو الرءوف الرحيم بهم. وهذا الذي قاله في هذه الآية (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ) الآية، هو مضمون ما ختمت به آخر آية من آيات قصة أهل الكهف وهي قوله تعالى: (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)). المفيد لاختصاص الله تعالى بعلم غيب السماوات والأرض الذي يدخل فيه علم ما جرى لأهل الكهف، وترك التماري في أمرهم لأنه مما اختص الله تعالى بعلمه، وانفراده بالحكم في خلقه فلا يشركه في ذلك أحد من خلقه. وهذا فيه إفراد لله تعالى بإحاطة علمه وإفراده بوحدة الحكم بين عباده. وهذا هو ما تضمنه الكتاب الكريم المنزل على خاتم النبيين الذي أمره الله فيه بتلاوته تبليغاً واتباعاً له وتعبداً واستمساكاً به، وعدم تركه لأنه

لا يوجد كتاب غيره يجمع ما جمع من الهدى والنور والخير. ومن هنا كان آخر كتاب ينزل من السماء لا مبدل لكلماته ولا مغير لمحكماته. ولما كان أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلاوه الكتاب الذي أوحى إليه، والاستمساك به الذي لا مبدل لكلماته مقتضياً للحفاوة بالمؤمنين به ولا سيما الذين تبتلوا في محاريب الإيمان منقطعين إلى الله تعالى يبتغون وجهه لا يريدون شيئاً من زينة الحياة الدنيا وزخارفها ومقتضياً لإبعاد الظالمين المستغرقين في الدنيا وزخارفها المحقرين لصفوة المؤمنين، وهذه الحفاوة بهؤلاء الصفوة من عباد الله المخلصين تتمثل في أن يصبر النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه على الجلوس معهم وفي إعراضه عن الظالمين المستكبرين من المستغرقين في الدنيا وزينتها. وقد جاء الأمر بطريق الاستئناف المشعر بأن هؤلاء الصفوة أحقاء بالقرب والتقريب فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. . .) الآية، أمراً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحبس نفسه ويقصرها على مجالستهم وتعليمهم إعلاء لمنزلتهم عند الله تعالى ولمكانتهم من الإيمان بالرسالة وإخلاص العبودية لله تعالى ابتغاء وجهه لا يريدون زينة الحياة الدنيا ولا يحبون أن يكونوا من أهلها. وقد أكّد الله تعالى ذلك بنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن تتجاوز عيناه النظر إلى أولئك الصفوة من المؤمنين طلباً لإسلام الكبراء من العظماء والأعيان والأغنياء من أئمة الكفر ورؤوس الباطل طمعاً في إيمانهم وإيمان أتباعهم ومن يسيرون في ركبهم وظلهم من عامة الناس الذين يتبعون كل ناعق لا يريدون من الحياة

(تيئيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجاء إيمان المستكبرين)

إلا ملء بطونهم وتحقيق رغائبهم الدنيوية لضعف عقولهم عن إدراك الهدى في رسالة الله وعن النظر في آياته ودلائله وبراهينه التي تنهى عن المتابعة دون تعقل أو تدبر. وهذا كناية عن تقدير فضل أولئك الصفوة من المؤمنين، وحبهم وإيثارهم في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غيرهم من أهل الدنيا المستغرقين في زخارفها وترفها تطلعاً إلى أن يكونوا جنداً للرسالة ليتبعهم غيرهم من أتباعهم الذين يقلدونهم ويأخذون بأقوالهم، فالمراد بإرادة زينة الحياة الدنيا إرادة " أهلها وأشرافها " -كما قال ابن زيد فيما نقله عنه الطبري- ليكونوا ذرائع لإيمان غيرهم ممن يتبعهم من عامة الناس. * * * (تيئيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجاء إيمان المستكبرين) وفي قوله تعالى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً) دمغ للظالمين الجاحدين لآيات الله تعالى بأن الغفلة مستولية على قلوبهم فلا يفيقون من سكرتها ولا يصحون من رقدتها لينظروا في آيات الله ودلائله لأن الله تعالى ختم بالغفلة على قلوبهم وعقولهم فكان أمرهم إلى التبار والضياع. وهذا يتضمن تيئيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجاء إيمانهم، وفيه تعريض بأن هؤلاء المستكبرين لا تنفع فيهم دعوة إلى الله تعالى ولا إقامة حجة أو برهان على صدق رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم، وفيه إشارة إلى أن أمر هؤلاء الصفوة من عباد الله المؤمنين في ثبات وعلو وارتفاع على عكس أمر أولئك الغافلين.

(تهديدهم بالعذاب الشديد)

(تهديدهم بالعذاب الشديد) ثم عقب آية (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. . .) الآية، بتهديد موجع ووعيد شديد يبين أن هؤلاء الجاحدين واقفون على شفا نار جهنم بما اختاروه لأنفسهم من الكفر والجحود والاستهزاء بصفوة المؤمنين والسخرية بهم. فقال تعالى (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر). ثم أتبع الله تعالى ذلك التهديد بالإخبار عما أعده للظالمين من سوء العذاب في أسلوب تنخلع له القلوب، وتذهب منه العقول وتجف من هوله الجلود. قال تعالى (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)). * * * (وجه العتاب في الآية) ووجه العتاب في هذه الآية الكريمة أولاً في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحبس نفسه مع الصفوة من المؤمنين، وثانياً ما في قوله (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) من المبالغة التي تفيد في ظاهرها إلزام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغض بصره عن كل من عداهم كما يشعر به منطوق النهي ومتعلقه. وما في قوله (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) من إفادته بظاهره أن مجاوزة نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصفوة الفقراء من المؤمنين إلى غيرهم إرادة لزينة الحياة الدنيا. ثم عقب ذلك بما هو كالمقابل لطرد الصفوة عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم حبس نفسه عليهم بما هو سمة الفجرة من الكفار الذين طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فنهاه الله عن إطاعتهم ووصفهم بغفلة قلوبهم عن ذكر الله واتباعهم للهوى والشهوات حتى كان أمرهم صائراً إلى البوار والهلاك

(النهي عن استبقاء الأسرى)

في قوله تعالى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). وأما أنَّهَا من عتاب التحذير فلأن ما فيها من شدة النهي يتضمن تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون منه ما لم يكن خشية أن يقع ما هو أكثر منه. وفي هذا التحذير عناية برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في توجيه رسالته وإظهار منهجه في تبليغها ولبيان أن رفعة الشأن عند الله ونيل شرف القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ينالهما الناس باستجابتهم لله تعالى بإخلاص العبادة له وبإتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليس بما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من مال وجاه وسلطان. ولما كان رسول الله من أسوة لأمته في الدعوة إلى الحق كان ذلك تحذيراً للأمة وإقامة لوجهها على المنهج الذي مضى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الله وتوفيقه وتسديده. * * * (النهي عن استبقاء الأسرى) ومن آيات هذا النوع من العتاب أيضاً قوله تعالى من سورة الأنفال (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)).

وقد جاءت هاتان الآيتان في سياقهما من سورة الأنفال بعد أن أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتحريض المؤمنين على القتال وحثهم على الاستبسال، والصبر فيه تقوية لعزائمهم على خوض المعركة والثبات في ميدانها لمواقفة المشركين والانتصار عليهم، وبشَّرهم أن العشرين الصابرين منهم يغلبون مائتين من أعدائهم، وأن مائة منهم يغلبون ألفاً من الذين كفروا، وذلك لأن المؤمنين يقاتلون متوكلين على الله تعالى طالبين نصره ورضاه، هدفهم إعلاء كلمته ونصرة دينه وإقامة شريعته بين جميع البشر، فهدفهم من القتال واضح، أما الكافرون فيقاتلون المؤمنين تعالياً وإفساداً فى الأرض وطمساً لمعالم الحق والهدى فيها، فلذلك فإنهم لا يفقهون للقتال غاية في معرفة الحق والاهتداء إليه، ولا يعرفون له هدفاً في إصلاح الحياة وإقامتها على الإحسان والعدل، لأنَّهم يقاتلون لرغائبهم الشخصية وإشباع شهواتهم من زينة الحياة الدنيا ومتاعها، وهذا هدف لا يقوم على دعائم ثابتة، وسرعان ما تعصف به رياح الحق، ولذا وصفهم الله تعالى (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) وهذا وصف لهم بالغباء والجهالة وتقديم شهوات الحياة الدنيا الفانية على الآخرة الباقية. ولما لم يكن جميع المؤمنين في الصبر واحتمال فوادح الكفاح والنضال على غرار أولئك المتقدمين من أهل بدر -وهم الرعيل الأول الذين لم يلحق بهم أحد ممن جاء بعدهم في أجر ولا فضل- أعلمهم الله تعالى أنه خفف عنهم فجعل على الواحد منهم مقابلة اثنين من الكافرين، وأنه تعالى مع الصابرين.

ولما كان الأمر بالتحريض على القتال، وبيان قدرة المؤمنين على غلبة عدوهم في مقابلة المؤمنين لأكثر من عددهم مقتضياً ألا يبقوا على عدو جاء ساحة القتال. قال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية. أما بحث تركيب (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ) فقد استوفيناه عند الحديث على قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) من سورة التوبة. وإجمال ذلك أن هذا التركيب المؤلف من (ما) النافية الداخلة على (كان) المقرون خبرها بلام الجحود يحتمل معنيين: الأول: التبرئة والتنزيه، وعدم الوقوع. الثاني: النهي الضمني عن أن يقع متعلق الخبر. ومعنى الآية على الوجه الأول: أن الله يبرئ نبيه - صلى الله عليه وسلم - وينزه ساحته عن أن يكون له قصد في أخذ الأسرى وإنهاء المعركة قبل الإثخان في الأرض. ويجوز -على الوجه الثاني- أن يكون المراد نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكون له أسرى قبل الإثخان في الأرض والمبالغة في إضعاف قوة العدو، وإن كان النهي لا يستلزم وقوع المنهي عنه من المخاطب لجواز أن يكون وقوع المنهى عنه كان ممن له صلة تبعية بالمخاطب، ويؤيد هذا " أن في التنكير -أي تنكير نبي في قوله (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ) - إبهاماً في كون النفي لم يتوجه عليه معيناً تلطفاً به - صلى الله عليه وسلم - وإشارة إلى أن هذا سنة من سنن الله تعالى مع

(توجيه وجه الخطاب بالآية الكريمة)

أنبيائه وبياناً لأنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - متوجه القصد إلى أن يكون له أسرى قبل الإثخان في العدو، وإكثار القتل والجراح فيه. * * * (توجيه وجه الخطاب بالآية الكريمة) وعلى ذلك يكون الخطاب -في ظاهره- موجهاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع هذا التلطف الذي يبرئ ساحته عليه الصلاة والسلام مما يوجب العتاب، ويكون الخطاب في حقيقته موجهاً إلى الذين أسرعوا في إنهاء المعركة وأخذ الغنائم والأسرى بمجرد ظهرر طلائع النصر، ولم يصبروا حتى يكثروا القتل والجراح في العدو كسراً لشوكته وتوهيناً لقوته ولا سيما أن هذه هي المعركة الأولى في الإسلام وقد نصر الله تعالى فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع قلة عددهم وضعف عدتهم في مقابل كثرة عدد العدو وقوة عدته. وقد امتن الله تعالى عليهم بهذا النصر بقوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ). * * * (تنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إرادة شيء من الدنيا) وقد نزه الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن إرادة شيء من الدنيا بنقل توجيه الخطاب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة إلى أصحابه في قوله (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدر بخلده أن ينهي المعركة قبل الإثخان في العدو ليأخذ الأسرى ويغنم أصحابه المغانم ويؤكده ما رواه ابن إسحاق في سيرته قال: " ولما وضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له: " كأني بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ " قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك

(موضع العتاب من الآية)

فكان الإثخان في القتل أحب إليَّ من استبقاء الرجال ". وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على سعد بن معاذ ما رأى في وجهه من كراهية ما يصنع القوم فاستفسره عن ذلك فقال له: " كأني بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ " فقال سعد: أجل يا رسول الله، وعلل سعد ذلك بأن هذه أول وقعة في الإسلام نصر الله فيها المسلمين على أعدائهم من المشركين فكان الإثخان في القتل أحب إليه من استبقاء الرجال. * * * (موضع العتاب من الآية) وفيه دلالة على أن المعاتب عليه عدم الإثخان في القتل والإسراع إلى الغنيمة لا أخذ الفداء لأن سعداً أبان عن رأيه قبل الاستشارة في أخذ الفداء. وقد جاء في الروايات الأخرى أن العذاب لو نزل ما نجا منه غير سعد وعمر رضى الله عنهما. * * * (المعاتبون بالآية) وهذا كالصريح في أن أخذ الفداء من الأسرى لا عتاب عليه، وقد بيّن الله تعالى هذا بقوله (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فإنه تعالى لعظيم فضله وبالغ رحمه منع عذابه العظيم عن المؤمنين المجاهدين يوم بدر الذي استحقوه بما مالت إليه أنفسهم من الإسراع في جمع الغنائم والاشتغال بها وترك الإثخان في القتل وحس المشركين حين ظهروا عليهم في أول وقعة تلتقي فيها الفئة المؤمنة من صفوة أصحاب

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قلة في العدد وضعف في العدة بجحافل الشرك ورءوس الطغيان الذين يفوقونهم أضعافاً عدداً وعدة. وهذه الآية الكريمة (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) -كما هو ظاهر منها- لا تمنع الأسر وأخذ الفداء نهائياً ولكنها تقرر أنهما لا يكونان إلا بعد الإثخان في الأرض بظهور المسلمين على أعدائهم، وهى لا تتنافى مع آية سورة محمد -كما يقول الفخر الرازي- لأنه لا زيادة في حكم آية سورة محمد (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) - على حكم هذه الآية لأن كلتا الآيتين متوافقتان " فإن كلتيهما تدلان على أنه لابد من تقديم الإثخان ثم بعد أخذ الفداء فلا نسخ إذن كما يزعم بعضهم. ولكن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - حين اشتغلوا بجمع الغنائم قدموا عرض الدنيا على الآخرة فخالفوا ما أراده الله تعالى لهم من عظيم الظهور وقوة الشوكة وشدة الرهبة في قلوب أعدائهم فيما لو سددوا إليهم الضربة القاصمة استئصالاً لشأفة الكفر والكافرين، إرهاباً لقلوب أعداء الله ورسوله وإظهاراً لقوة المؤمنين وتمكنهم من القضاء على أعدائهم في أول لقاء لهم معهم.

(إشارة إلى اختلاف العلماء في بيان الإبهام بالمراد بالكتاب الذي سبق)

(إشارة إلى اختلاف العلماء في بيان الإبهام بالمراد بالكتاب الذي سبق) أما الكتاب المذكور في قوله تعالى: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فقد أدى إبهامه إلى اختلاف العلماء فيه على أقوال كثيرة أوصلها الشوكاني -في فتح القدير- إلى ستة أقوال، لعل أرجحها وأقربها إلى العقول وأولاها بالقبول هو: ألا يعذب الله أحداً إلا بعد أن يقدم إليه أمراً أو نهياً فيخالف ما قدمه الله إليه. وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما وعن مجاهد رحمه الله تعالى. ثم بيّن الله تعالى ما كان مسطوراً في غيبه من إحلال الغنيمة وتطييبها لعباده المؤمنين من هذه الأمة -وهذا كان من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء كما ورد في الحديث الصحيح فيما رواه الإمامان البخاري ومسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم - " وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي " فقال تعالى: تطيباً لنفوس أؤلئك المجاهدين (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)).

وهذا يدل على أن أخذ الغنائم وأكلها كان حلالاً طيباً لا شبهة فيه ولا عتاب عليه وإنما كان العتاب على الإسراع في إنهاء الوقعة قبل الإثخان في العدو وكسر شوكته وإضعاف قوته وهو نظير ما ذكرناه في قوله تعالى: (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) في أن الإذن للمنافقين بالتخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك كان صواباً بالأوجه التي ذكرناها وإنما كان العتاب على الإسراع بالإذن لهم دون التلبث الذي يكشف عن حقيقة المنافقين ليعرفهم الناس ويفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد. وتذكر بعض روايات الأحاديث وأسباب النزول أن هذه الآيات نزلت بعد مشاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في أمر أسرى بدر واختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرأي أبي بكر ومن معه القائلين بقبول الفداء من الأسرى تقوية لجيش المسلمين على الكفار بالفداء ورجاء أن يهديهم الله تعالى للإسلام أو أن يخرج من أصلابهم بعد وقعة بدر من يؤمن بالله ويهتدي بهداه. ومن أصح هذه الروايات ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما يرويه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال ابن عباس: " فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ "، فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قلت: لا، والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكنني من فلان (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(قرار الصحابة بأخذ الفداء)

ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدان يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة " شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل الله - عز وجل - (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) فأحل الله الغنيمة لهم ". وحديث مسلم هذا ظاهر في سياقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ أصحابه بمشاورتهم في شأن الأسرى فأشار أبو بكر بأخذ الفداء منهم للأسباب التي ذكرها أيضاً، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى أبو بكر ولم يهو ما رأى عمر. وهو أيضاً صريح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى هو وأبو بكر من أجل ما عرض عليه من عذاب أصحابه فِي أخذ الفداء. وصريح أيضاً في أن بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبي بكر إنما كان شفقة منه لأجل ما عرض عليه من عذاب أصحابه لأخذهم الفداء. * * * (قرار الصحابة بأخذ الفداء) ومن ثم فالحديث لا يفيد أصلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بأخذ الفداء وإنما شاور أصحابه فأشارت الكثرة منهم بأخذ الفداء وهم الذين عوتبوا بقول الله تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فلما خرج إليهم بعد

المشاورة قال لهم " أنتم عالة فلا يبقين أحد إلا بفداء أو ضربة عنق ". وهذا ما يدل عليه حديث مسلم دلالة قاطعة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مختاراً لأخذ الفداء وإنما كان مشاوراً لأصحابه. وهذه المشاورة مأمور بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدل على ذلك صريح حديث جبريل الذي رواد الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم -قال الحافظ ابن حجر وقد عزاه إلى من ذكرنا: (بإسناد صحيح) - عن علي - رضي الله عنه - قال: " جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فقال: خيِّر أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاماً مقبلاً مثلهم قالوا: الفداء ويقتل منا ". وفي طبقات ابن سعد وعيون الأثر من مرسل عبيدة لهذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - -حين أخبره جبريل بذلك- " نادى في أصحابه فجاءوا أو من جاء منهم فقال: " هذا جبريل يخيركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم وبين أن تفادوهم ويستشهد قابل منكم بعدتهم " فقالوا: بل نفاديهم فنتقوى به عليهم ويدخل قابل منا الجنة سبعون. . . ففادوهم.

وكما يدل عليه ما أورده السيوطي في الدر من إخراج عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة عن أبي عبيدة - رضي الله عنه - قال: " نزل جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فقال: إن ربك يخيرك إن شئت تقتل هؤلاء الأسارى وإن شئت أن تفادي بهم ويقتل من أصحابك مثلهم. فاستشار أصحابه فقالوا: ْنفاديهم فنتقوى بهم ويكرم الله بالشهادة من يشاء ". ومن هذا يظهر جلياً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يختر أخذ الفداء ولا حبَّذه. " وأن حديث مسلم لم يتعرض قط لتخيير جبريل، وإنما ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بمشاورة أصحابه في شأن الأسرى. وأحاديث جبريل -في التخيير في أسرى بدر- جعلت المشاورة بعد الإخبار بالتخيير، ولم يذكر فيها مشاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه التي ذكرها حديث مسلم وجاء فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - هوى ما قال أبو بكر ولم يهو ما قاله عمر. وكذلك ليس في أحاديث التخيير في قتل الأسرى إشارة قط إلى بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وتعليل ذلك بعرض العذاب للذين أخذوا الفداء. وهذا الاختلاف بين حديث مسلم في مشاورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في أمر أسرى بدر وبين أحاديث جبريل في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أصحابه في هؤلاء الأسرى يجعل المرء بين واحد من ثلاثة احتمالات: فإما أن يحتمل حديث مسلم اختصار ما جاء من التخيير في أحاديت جبريل -عند من ذكرنا- اكتفاء بالمشاورة، وإما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(لا عتاب على الفداء ولا على أخذ الغنيمة)

لم يذكر تخيير جبريل لأصحابه واكتفى بمشاورتهم تأنيْساً لهم بما يشمل جانبي التخيير لأن المشاورة لا تخرج عنهما، إذ هي لا تنتهى إلا بأحدهما القتل أو الفداء. ْوإما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأهم بالمشاورة فلما اختلفوا فيما يفعلون بالأسرى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزله فجاءه جبريل بالأمر بالتخيير. * * * (لا عتاب على الفداء ولا على أخذ الغنيمة) ومما قدمنا يظهر أن أخذ الفداء لا عتاب عليه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل أحاديث تخيير جبريل في أمر الأسرى، إذ لو كان أخذ الفداء موضع مؤاخذة ما جاء جبريل بالتخيير بينه وبين القتل، لأنه لا يخيّر بين جائز مطلق وبين مؤاخذ عليه، ولما صح التفريع على الآيتين بالأمر بالأكل مما غنموه حلالاً طيباً بقوله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) لأن الفداء ليس من الغنيمة، إذ الغنيمة هى ما يؤخذ من المحاربين بالقوة والقهر فالذي أخذوه في قوله (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)). هو الغنائم التي شغلوا بجمعها عن الإثخان في القتل الذي كان الأولى والأجدر بهم أن يفعلوه. والذي أحل الله لهم وأمروا بالأكل منه حلالاً طيباً هو الغنيمة بدليل قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) فلا ذكر للفداء في المؤاخذة في الآية الكريمة حتى يجعل محلاً للعتاب، ويؤيد هذا ما رواه البخاري من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: " لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني

ْفي هؤلاء النتني لتركتهم له ". وهذا يدل على أن لا عتاب على أخذ الفداء لعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك الأسرى وإطلاقهم بدون فداء فيمالو كان المطعم بن عدي حياً وكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم. ويؤيده أيضاً أنه سبق أن فادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن كيسان مولى هشام ابن المغيرة وعثمان بن عبد الله بن المغيرة اللذين أسرتهما سرية عبد الله بن جحش الأسدي - رضي الله عنه - حين أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -ومعه ثمانية من المهاجرين- إلى وادي نخلة بين مكة والطائف لرصد عير لقريش -وذلك قبل غزوة بدر الكبرى بأكثر من شهرين- فالتقوا بهم (في آخر يوم من رجب) من السنة الثانية من الهجرة فغنموا العير واقتادوا معهم الأسيرين إلى المدينة فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين وقال أهل الكفر: استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وأكثروا في ذلك فرد الله عليهم قولهم فأنزل (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ

سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)). فقبض رسول الله من العير والأسيرين وأخذ الغنيمة وهي (أول غنيمة غنمها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام) ولم يعاتب الله تعالى أحداً على شىء من ذلك. وممن قال إن أخذ الفداء من أسرى بدر لا عتاب عليه لسبق أخذه في سرية عبد الله بن جحش ولم يعاتبوا عليه -القاضي عياض ونقله- في الشفاء - عن القاضي بكر بن العلاء. وعلى ذلك فلا عتاب لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء الأسرى يوم بدر لعدم العتاب على أخذه وأخذ الغنيمة فيما سبق هذه الغزوة أولاً، ولأن اختيار أخذ الفداء يوم بدر من الصحابة - رضي الله عنهم - كما في أحاديث تخيير جبريل.

(توجيه العتاب إلى من تعجلوا أخذ الغنيمة ولم يثخنوا في العدو)

(توجيه العتاب إلى من تعجلوا أخذ الغنيمة ولم يثخنوا في العدو) وما في هذه الآيات -موضع البحث- من عتاب موجه لمن تعجلوا أخذ الغنيمة واشتغلوا بجمعها وليس على مجرد أخذها، وإنما لكون الاشتغال بجمعها كان سبباً في ترك الإثخان في العدو الذي قد يعطيه اشتغال المجاهدين من المسلمين بجمع عرض الدنيا فرصة التجمع ولم الشمل واستعادة الهجوم على المسلمين مرة ثانية فيضيع النصر من أيديهم ويبغتوا بما لم يحسبوا له حساباً. والذي دعانا لضم هذه الآية إلى آيات العتاب مع أنه لا عتاب فيها لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أوضحناه فيما سبق ما درج عليه المفسرون وغيرهم من ذكرها مثالاً للعتاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ورد من روايات وأسباب للنزول يؤيدون بها ما يقولون وقد بينا -فيما سبق- وجهة نظرنا في أقوى وأصح ما استدلوا به. * * * (وجه القول بأن في الآية عتاباً) على أن بعض الأئمة -من الذين يرون أن في الآية عتاباً أخذا بظاهر رواية مسلم- رجحوا مسلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدلوا له بأدلة قوية، ومن هؤلاء العلامة ابن قيم الجوزية -في كتابه زاد المعاد- إذ يقول: " وقد تكلم الناس في أي الرأيين أصوب، فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث، ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب ولتشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - له في ذلك بإبراهيم وعيسى وتشبيهه لعمر بنوح وموسى، ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أؤلئك الأسرى، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ولموافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر أولاً لموافقة الله له

آخراً حيث استقر الأمر على رأيه، ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخراً وغلبة جانب الرحمة على جانب العقوبة قالوا: وأما بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما كان رحمة لنزول العذاب بمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يرد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ". وقال الحافظ ابن حجر -في الفتح-: " وقد اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب؟ فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر، ولما استقر الأمر عليه، ولدخول كثير منهم في الإسلام إما بنفسه، وإما بذريته التي ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب كما ثبت ذلك عن الله في حق من كتب له الرحمة ". وهؤلاء المختلفون إنما نظروا لحديث مسلم ولم ينظروا لحديث تخيير جبريل وهو ليس دون حديث مسلم في الصحة كما سبق أن ذكرنا حكم الحافظ ابن حجر عليه بالصحة عند الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وحديث تخيير جبريل ينفى نفياً قاطعاً ما جاء في حديث مسلم من البدء بمشاورة الصحابة قبل إخبارهم بالتخيير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هوى ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر. وهذا إنما يعني ميل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رأي أبي بكر لغلبة الرحمة عليه - صلى الله عليه وسلم - ويمنع قتل الأسرى لو أراده الصحابة، بل في بعض الروايات ما يدل على أكثر من ذلك في حق ما كان يسمع به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسارى من المن عليهم

(إبطال عادة التبني على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

وعدم قتل أحد منهم كما في حديث البخاري الذي قدمناه في قصة المطعم ابن عدي الذي يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان في نفسه عزيمة أخذ الفداء. * * * (إبطال عادة التبني على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ومن آيات هذا النوع من العتاب أيضاً قوله تعالى من سورة الأحزاب (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37)). وهذه الآية في قصتها من أظهر آيات العتاب وأشدها وروداً فيما يتعلق بشخص سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد وردت هذه الآية الكريمة بعد أن ذكر الله تعالى -في قوله عز شأنه- (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)) أنه ليس لأحد من المؤمنين والمؤمنات خيرة وراء خيرة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - له، وما على المؤمن والمؤمنة إلا الرضا والتسليم لحكم الله تعالى فيه وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كما قال تعالى في سورة النساء (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ

وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)). وقوله تعالى في سورة النور (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لأن (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) إذ أنه بعث هادياً وأسوة لهم ومن كان أحق بأنفسهم منهم فله -بلا شك- كامل التصرف والحكم فيهم بما قضى الله تعالى، وما عليهم إلا الانقياد له والامتثال لأمره لما فيه من ضمان السعادة لهم لأن أمره من أمر الله تعالى، وقضاءه من قضائه، ولذلك جعل قضاء الله ورسوله -في هذه الآية الكريمة- أمراً واحداً فمن لم يرض بذلك فقد عصى الله ورسوله وخرج عن سبيل الهدى والرشاد. فكان قوله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . .) الآية توطئة وتمهيد لما ستقرره الآيات التالية لها من حكم شرعي يجب على المؤمنين الانصياع له وامتثاله والعمل به وتقبله بنفس راضية وقلب مطمئن وتسليم كامل. روى الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسباً، وكانت امرأة فيها حدة فأنزل الله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . .) الآية كلها

وروى نحوه عن مجاهد ونحوه عن قتادة. وقال السيوطي في لباب النقول: " أخرج الطبراني -بسند صحيح- عن قتادة قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب -وهو يريدها لزيد- فظنت أنه يريدها لنفسه فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت فأنزل الله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ. . .) الآية فرضيت وسلمت ". ومن ثم زوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش الأسدية القرشية -بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب- هاشمية الرحم قرشية العصبية بزيد ابن حارثة مولاه، وهي في شرفها النسبي لم تر في هذا الزواج كفاءة نسبية ولكنها سلمت ورضيت بزيد بعلاً خضوعاً لأمر رسول الله من اتباعاً لقوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. . . .) الآية، ولم يكن هذا الخضوع بمزيل من نفسها تعاليها بنسبها على زيد بن حارثة، وذلك التعالي بالحسب كان أكبر سبب في جعل حياة البيت بين الزوجين -زيد وزينب- حياة منغصة فقد فيها الود والسكون والتراحم وهي من الحكمة الكبرى في الزواج. فصبر زيد - رضي الله عنه - قدر ما واتته الطبيعة البشرية، لكن ذلك استمر ولم تنفع فيه وداعة زيد ومسالمته وتلطفه بزوجه فرأى أن لا سبيل إلي الاستمرار في هذه الحياة الزوجية القلقة المنغصة التي تتعالى فيها الزوجة عليه بحسبها ونسبها فتثير بينه وبينها نار المساءة والتنافر والعداء.

(تزويج الله - عز وجل - زينب بنت جحش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)

فشكا زيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلقى من زوجته وما يسود حياتهما من تباعد وتنافر فلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكوى زيد بما جبل عليه - صلى الله عليه وسلم - من الرحمة وأدب المعاشرة " واختباراً لما عند زيد مما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها " فقال له: " امسك عليك زوجك واتق الله ". ورجع زيد إلى بيته ووجد من زوجته أشد مما كان يجد، ففي خبر طويل ذكره البيهقي في سننه في قصة زواجها بزيد بن حارثة وفراقه إياها قالت زينب رضى الله عنها: ". . فأخذته بلساني فشكاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي من: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ " ثم أخذته بلساني فشكاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما أن ضاق زيد ذرعاً بحياته معها لتعاليها عليه وتناولها إياه بلسانها ولم يمكنه رأب الصدع بينهما صمم على طلاقها وذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكوها وهو عازم على طلاقها وكأنما أحسَّ زيد في هذه المرة حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - منعه من الإجابة على شكواه منها فقال زيد -فيما ترويه زينب رضي الله عنها - كما في سنن البيهقي-: " أنا أطلقها، قالت فطلقني، فبتَّ طلاقي ". * * * (تزويج الله - عز وجل - زينب بنت جحش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فلما انقضت عدتها نزل قول الله تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37)). فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل عليها وهي

مكشوفة الشعر فقالت: " هذا أمر من السماء. . يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة؟ قال: " الله المزوّج وجبريل الشاهد " كما في رواية البيهقي عن مذكور مولى زينب أم المؤمنين - رضي الله عنها -. وفي صحيح مسلم -في قصة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حين نزل القرآن بتزويجه إياها " جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن ". وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37)). وقد افتتحت الآية بتذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنعام الله تعالى على مولاه زيد بن حارثة بنعمة الإسلام وإنعامه - صلى الله عليه وسلم - عليه بنعمة الحرية والتربية والمحبة التي خصه بها دون سائر أقربائه وأصحابه زيادة من الله تعالى في الإنعام عليه وتفضيلاً له حيث لم يذكره باسمه، وإنما ذكره بوصف الإنعام عليه من الله تعالى ومن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل أنه ذكر بوصف الإنعام عليه ولم يذكر باسمه -في مفتتح الآية تمهيداً لبيان إنعام الله بالإيمان وإنعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه بالحرية والتربية اللذين كان لهما أثر عند عرض زيد طلاق زينب التي ضاق ذرعاً بالعيش معها لشدة لسانها عليه- " لرفع استحياء النبي - صلى الله عليه وسلم - منه في موافقته على طلاقها ".

وتذكير الله تعالى رسوله. - صلى الله عليه وسلم - بقوله لهذا المنعم عليه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) لبيان إعظام حياء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنه استحيا ممن لا يستحيا من مثله في علاقته به ومكانته منه. وفي قوله (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) احتمالان: الأول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك وقد " أعلمه الله أنَّهَا ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها " بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها منه. فلما عرض عليه زيد طلاقها -وعنده العلم بأنَّهَا ستكون زوجة له- أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يتعرف ما عند زيد من بقاء رغبة فيها وميل إليها، وأن ما وقع إنما هو ثورة غضب قد تذهب فيما بعد، أو أن إرادة طلاقها كانت عزيمة صارمة تشعر بعدم بقاء أي رغبة فيها وميل إليها. الثاني: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك - وزيد يعرض عليه طلاق زوجه زينب لتعاليها عليه بنسبها وحسبها وشدة لسانها - من باب الرأفة والرحمة اللتين جُبل عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنصح لهما وتقديم الأمر بالمعروف إذ لم يحدد الله تعالى له وقت طلاق زيد لها وزواجه بها فما تزال الفرصة قائمة في اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -. فكان هذا القول (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) من قبيل الاجتهاد في عدم التوقيت.

والاحتمال الأول أرجح -عندنا- لأن تعرف ما في نفس زيد يكشف عن حقيقة ما في عزيمته، فإن كان له فيها بقية رغبة وميل إليها وأن الذي حدث فورة غضب قد تذهب بالتراضى وإحسان العشرة فعندئذ يكون -لو وافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - على طلاقها- كالمكره على طلاقها، ومن ثم كان هذا التعرف ضرورياً ليكون زيداً مختاراً في الطلاق راغباً فيه فلا تتبعها نفسه بعد ذلك، وقد يؤكد هذا إبراز زينب في هذه الجملة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) بعنوان الزوجية المقتضي للمودة والرحمة والسكون والرغبة. أما قوله " واتق الله " فإنما جاء لأمر زيد بعدم التجاوز في تناولها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو قوله فيها " إن زينب اشتد عليَّ لسانها: أنا أريد أن أطلقها " فيما رواه قتادة. ثم قال تعالى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهي جملة حالية من فاعل " تقول " في (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ. . .). والذي أبداه الله تعالى إنما هو زواجه بها بعد انقضاء عدتها من زيد، وهذا لا يكون موضع عتاب إلا إذا كان قد سبقه إعلام به حتى يصلح التقييد به وقت قوله لزيد " أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ " فالذي أخفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة هو إعلامه أنها ستكون زوجة له بدليل إظهار هذه الزوجية عملاً واقعاً بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها منه. وهذا القدر -أي إخفاء الإعلام بتزويجها منه - صلى الله عليه وسلم - وهي ما زالت تحت زيد- كافٍ في توجيه العتاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخف

(ما أخفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه)

هذا الإعلام المتعلق بكونها زوجة له مخالفة لأمر من الله تعالى وإلا لكان ذنباً تجب منه التوبة وليس في الآية الكريمة ما يشعر بشيء من ذلك. * * * (ما أخفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه) وإنما الذي تعطيه التلاوة الكريمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخفى إعلام الله له بتزويجها منه بعد طلاق زيد لها اجتهاداً منه - صلى الله عليه وسلم - في توقيت الإعلام إذ لم نر أحداً من المفسرين والمحدثين قال بتقييد هذا الإعلام بوقت معين، فاجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأجيله وتلبثه به متأنياً انتظاراً لإنجاز الله له الوعد بتزويجه إياها، وحتى يعلم حقيقة ما عند زيد بالنسبة لها من ميل إليها ورغبة فيها أو عزيمة باتة في إرادة طلاقها. وعلى هذا القدر في الخطأ في الاجتهاد عاتب الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عتاباً تحذيرياً. وبهذا القول -الذي تعطيه التلاوة من أن الذي أخفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو إعلام الله له أنَّهَا ستكون زوجة له بعد طلاقها منْ زيد- قال جمهور السلف ومنهم علي بن الحسين -زين العابدين- والزهري والسدي والمحققون من أهل التفسير والعلماء الراسخون والقاضي بكر بن العلاء وابن العربي والقرطبي والقاضي عياض في الشفاء والقسطلاني في المواهب والزرقاني في شرحها وغيرهم ممن يعنون بفهم الآيات القرآنية وفقهها وتنزيه الرسل عما لا يليق بهم من الروايات البعيدة عن منطق الحق والواقع.

(احتمالات ما يدل عليه الخطاب بهذه الآية الكريمة)

(احتمالات ما يدل عليه الخطاب بهذه الآية الكريمة) ثم قال تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) وهي جملة حالية جاءت لتؤكد ما تضمنته جملة الحال الأولى (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) لأن الإخفاء المعاتب عليه كأنه خشية من الناس لا تصلح أن تكون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقامه العظيم، فجاءت الجملة الثانية (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) لتؤكد هذا المعنى، وتبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسارعة إلى الأخذ بما كان قد أعلم به أولاً حين أنجز له بقوله (زَوَّجْنَاكَهَا). وفيها احتمال ثان وهو أن يكون عطف جملة (وَتَخْشَى النَّاسَ) على جملة (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) من باب عطف السبب على المسبب، فإن إخفاء الإعلام بتزويجها له، وعدم الإسراع إلى إعلان ما أعلمه الله به وقوله لمولاه زيد " أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ " إنما كان سببه خشية قالة الناس من المنافقين ومرضى القلوب وأعداء الإسلام من اليهود والمشركين، لما في توهم من التشهر به من صد للناس الراغبين فِي دخول الإسلام وزعزعة لقلوب حدثاء الإيمان من أهل الإسلام. وفيها احتمال ثالث يجعلها مستقلة بمعناها، والعطف فيها من عطف جملة على جملة كل منهما تفيد معنى مستقلاً وهو حمل معنى لفظ الناس في قوله تعالى (وَتَخْشَى النَّاسَ) -كما قال بعض المفسرين- على المؤمنين خشية أن يفتتنوا بما يقع من زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمطلقة دعيه لأن عدم زواج مطلقة الدعي كان عادة متأصلة في النفوس عميقة الجذور، وكان في المؤمنين حدثاء الإسلام من لم يرسخ الإيمان في قلوبهم فكانت خشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

على المؤمنين رحمة بهم أن يلقي الشيطان في أنفسهم شيئاً يأثمون به ويهلكون. وإنما أوثر تعدية فعل الخشية إلى مفعوله بنفسه على هذا الوجه -دون تعديته بلفظ على المناسب للظاهر من الكلام- تضميناً للفظ الخشية معنى الحذر بمعنى تحذر فتنة الناس -أي المؤمنين- فترحمهم أن يقعوا في الفتنة. ونظير هذا -في الخشية على المؤمنين أن يفتنوا- ما ورد في الحديث الصحيح مما رواه البخاري من أن صفية بنت حيي أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أتت تزور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معتكفه فتحدثت إليه ساعة ثم أرادت الإنصراف فقام معها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة " مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله يا رسول الله. وكبر عليهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً ". قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: - " إنما قال لهما ذلك لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنا به التهمة فبادر إلى إعلامهما نصيحة لهما قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئاً يهلكان به ". فهذه الخشية كانت من قبيل الرحمة والإحسان إلى المؤمنين ليحفظ - صلى الله عليه وسلم - عليهم إيمانهم كما تضمنه كلام الإمام الشافعى.

(ما كان يخشاه من الناس)

ولعل هذا الوجه من أحسن ما تنزل عليه الآية الكريمة لأنه اللائق بما جُبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرأفة والرحمة، وبما كان في المسلمين من حدثاء الإسلام الذين لم تتعمق جذور الإيمان في قلوبهم بعد، فخشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم ذلك. * * * (ما كان يخشاه من الناس) وحمل خشيته - صلى الله عليه وسلم - من الناس على الخوف من كلام المشركين والمنافقين واليهود، وما يرمونه به - صلى الله عليه وسلم - من أقوال سيئة تسيء إليه - صلى الله عليه وسلم - برده ما تعالم وعرف في تاريخ تبليغه الرسالة على مدى مدة الإقامة في مكة -وكان ثلاثة عشر عاماً- وما مضى من مدة قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة إلى حين وقوع قصة زيد وزينب -وهي قد وقعت في السنة الثالثة أو الرابعة من الهجرة- من مناهضة الكفر والشرك والوثنية وطغيان ملأ قريش وعتوهم وفجور سفهائهم من مواقف حفظها تاريخ السيرة النبوية المطهرة من صبر على البلاء ومجابهة للأعداء في أحداث ووقائع كثيرة تدل -قطعاً- على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان في حياته المباركة يخشى أحداً غير الله تعالى، ولا يقيم وزناً لأقوال الناس فيه وأفعالهم معه حتى رفع لواء العقيدة خفاقاً في آفاق الأدلة والبراهين التي جعلت من العقيدة التوحيدية بنياناً راسخاً وطيد الدعائم لا يستطع -والحمد لله- أحد من الناس أن يخدشه بسوء. ولم يهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة حتى كان بنيان العقيدة التوحيدية شامخاً يراه كل من ينظر إليه من قريب أو بعيد. وفي مهاجره - صلى الله عليه وسلم - لقي من أعداء الإسلام اليهود والمنافقين وبقايا المشركين ما لا يقل فى عنفوانه وعتوه عن فجور مشركي مكة فلم يحفل به ولا خشي أحداً من الناس بل نصب لأعدائه الحرب حتى قضى عليهم

جميعاً، وانفرد الإسلام عزيزاً منصوراً يمشي في تبليغ رسالته إلى أطراف الجزيرة العربية وإلى خارجها. ولو لم يكن من صور صبره - صلى الله عليه وسلم - على سفاهة السفهاء وقالة السوء من أعدى أعداء الإسلام المنافقين واليهود إلا صبره في قصة الإفك، ومقابلة ذلك بأرسخ اليقين، والثقة في الله تعالى، وعدم المبالاة بتقول المتقولين وافتراء المفترين لكفاه - صلى الله عليه وسلم - ذلك في مواقف مفاخره بالاعتصام بالله وإفراده وحده بالخشية منه دون خشية أحد من خلقه. ثم قال تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) وهذا تفريع على جملتي الحال السابقتين في قوله (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وقوله (وَتَخْشَى النَّاسَ) على ما ذكرنا من الوجوه في معنييهما والمراد منهما. وهما في ارتباطهما كأنهما جملة واحدة تضمنتا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخفى في نفسه إعلام الله له أن زينب بنت جحش ستكون زوجاً له بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها منه. ومعنى قضاء الوطر منها: هو عدم الرغبة فيها وعدم الميل إليها وبذلك حلت لك فزوجناكها. والوطر في الآية الكريمة ما يكون بين الزوجين وهو متضمن معه انتهاء الحب والمودة والرحمة والسكون والميل إليها وتعلق نفسه بشيء منها. وحيث انتهى ذلك كله لم يبق إلا تنفيذ ما أعلمناك به من زواجك بها.

(التشريع المقصود بهذه الآية الكريمة)

وهنا أبرز زيد - رضي الله عنه - باسمه ولم يبرز بوصف الإنعام عليه من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في صدر الآية -لأنه حينئذ- أي بعد انقضاء الوطر منها - لم يبق للوصف ما يدعو إلى وجوده لما في التزوج بها من تأكيد رفع وإبطال البنوة المدعاة. * * * (التشريع المقصود بهذه الآية الكريمة) ثم قال تعالى (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ) وهذا الباب القصة وقلبها، وتشريعها المقصود الأهم منها، وكل الذي سبق كان تمهيداً لها فكأنما قيل: زواج زيد بزينب وقضاء وطره منها، ووقوع النفرة بينهما وذهاب الرغبة منها والميل إليها من قلبه وتزويج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها إنما كان تمهيداً لهذا التشريع الذي يمتد مع الأمة في خلودها والرسالة في عمومها وتفنى الأشخاص ويبقى هذا التشريع قائماً ينادي على عظمة الإسلام في مساواته بين الناس أجمعين، وقطع جذور أباطيل الجاهلية فيما ابتدعوه من عادات وقبائح سيئة لا تعبر عن حقيقة واقعة أبطها الله تعالى في صدر هذه السورة بقوله تعالى (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ). وألزم الله رسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة - بقوله (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا. . . . .) - بالتزوج من زينب بنت جحشن مطلقة دعيه ليكون - صلى الله عليه وسلم - حامل راية تقل إبطال هذه العادة الجاهلية لأن ذلك من أمور التشريع

(التنويه بزيد بن حارثة ووجه ذلك)

والتبليغ عن الله تعالى إبقاء على التأسي به - صلى الله عليه وسلم - لأمته إلى يوم القيامة. وقد ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) بياناً لأن ما يريده الله تعالى ويقضي به لابد أن يقع وتشهده الحياة في أحداثها ووقائعها تطبيقاً لما شرعه الله تعالى لعباده المؤمنين. * * * (التنويه بزيد بن حارثة ووجه ذلك) ويلاحظ أن زيداً ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مرات: الأولى: بالوصف الخاص به الذي لا يكون لغيره وهو تزاوج الإنعام عليه من الله تعالى ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى كأنهما شيء واحد. وقد كان الإنعام عليه من الله تعالى بالهداية للإيمان والإنعام عليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعتق والحرية والمحبة وحسن التربية. الثانية: ذكر باسمه العلم (زيد) العين له. الثالثة: في ضمن العموم المدلول عليه بقوله تعالى (فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ) إذ كان دعياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك. وفي هذا من اللطائف -فوق العناية بزيد والخفاوة به- أن ذكره بوصف الإنعام عليه يحمل في طياته الإشارة إلى ما في القصة من نوع إنعام الله عليه بتزويجه من زينب بنت جحش في مكانها من قريش وتعززها بنسبها وحسبها وقربها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكونها بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب. وإن ذكره باسمه يحمل في طياته اختصاصاً له بهذا المقام لا يمكن أن يشركه فيه غيره، لأن أدنى مراتب العلمية منع المشاركة في حقيقة ما تدل عليه.

(رد الله تعالى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -)

وإن ذكره في ضمن العموم المعلل بنفي الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم يحمل في طياته أن زيداً - رضي الله عنه - كان سبباً في هذا التشريع العام الذي رفع عن الأمة الحرج والضيق فيما كانت الأمة تكرهه وتضيق به ذرعاً. ولما قضى الله تعالى في غيبه زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش بعد قضاء زيد منها وطراً أعلمه الله تعالى بذلك كما هو صريح في الآية (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) فأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تنفيذ أمر ربه معلناً له غير مبال بتقول المتقولين وأباطيل الكاذبين فدخل عليها زوجاً بتزويج الله له إياها. * * * (رد الله تعالى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -) وعندئذ اشرأب النفاق والخبث اليهودي والضغن الوثني فقالوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قالة السوء ما أوحت به إليهم شياطينهم من كونه - صلى الله عليه وسلم - تزوج زوجة ابنه وكان يحرمها، فضاق بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -ذرعاً وحزن لإشاعة هذه الأباطيل، فتولى الله تعالى الرد على أعدائه أكاذيبهم ومزاعمهم الباطلة فقال تعالى (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا (39)). وهذا كالبيان لقوله تعالى -في أول السورة- (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) لأن قوله تعالي (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) صريح في نفي الحرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إتيانه ما شرع الله له وأجازه له من تزويجه بزوجة دعيه الذي ليس له من صلة البنوة

(وجه تقديم نفي الحرج عن المؤمنين على نفيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم)

الصلبية أي شىء من قريب أو بعيد. * * * (وجه تقديم نفي الحرج عن المؤمنين على نفيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم) ونفى الله الحرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) وإن كان متأخراً في ترتيب التلاوة عن رفع الحرج عن المؤمنين بقوله تعالى: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) إلا أنه -أي رفع الحرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - -كالمتقدم في الواقع على نفي الحرج عن المؤمنين لأن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بمطلقة دعيه كان السابق على كل زواج بمطلقة دعي فكان التطبيق العملي لرفع الحرج عن المؤمنين في التزوج بزوجات الأدعياء. ونفى الحرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفي للحرج عن أمته ما لم يدل دليل على الاختصاص، ولا دليل هنا على ذلك. وإنما سبق نفي الحرج عن المؤمنين -في ترتيب التلاوة- نفي الحرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما في نفى الحرج عن المؤمنين من الإشعار بعموم الحكم الشامل لأفراد الأمة في جميع أزمانها وأجيالها. * * * (رفع الحرج عن المجتمع المؤمن بإبطال عادة التبني) وفي التعبير بالحرج في قوله (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) دليل على أن المجتمع المؤمن قد ضاق ذرعاً بهذه العادة الجاهلية وحرج من بقائها تُلْقى عليه جرانها وما يستتبعها من دخول الدعي على زوجة متبنيه وعلى بناته من كشف الحرمات بدخوله عليهن واختلاطه من اختلاط الابن والأخ فيرى منهن ما لا يراه غيره من العورات والمفاتن والمحاسن مما قد يكون سبباً لأفدح الأضرار وإذهاب الغيرة وفتح باب الفساد والإفساد في المجتمع.

ومما يؤيد ضيق المجتمع من ذلك أن أبا حذيفة - رضي الله عنه - كان قد تبنى سالماً ولكنه ضاق نفساً من دخوله على أهله لما كبر سالم وبلغ مبلغ الرجال فلما أحست زوجته سهلة بنت سهيل رضى الله عنها منه ذلك جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها - فقالت: " يا رسول الله والله إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم " قالت عائشة: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرضعيه " فقالت: " إنه ذو لحية ". فقال: " أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة " فقالت: " والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة " وإرضاع الكبير كان خاصاً لسالم وليس لأحد من بعده ". وقوله تعالى: (فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ) معناه: فيما شرع الله له و " أحله له " كما قال قتادة في رواية الطبري عنه. وهذا الحل يشير إلى أنه كان قبله حظر ومنع. والحظر الذي كان هنا لم يكن حظراً شرعياً بل هو ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم لزوجة الدعي بزعمه ابناً عندهم. فالله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - هذا الحظر من الأباطيل التي لم تشرع في دينك ورسالتك والله تعالى شرع لك فيها ما أحله لك ولأمتك من التزوج بزوجة الدعي بعد فراقه إياها وانتهاء عدتها منه.

وهذا على خلاف قوله " فرض عليك " فإنه مشعر بالإلزام والإيجاب. ثم قال تعالى: (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ويعني بسنة الله: طرائقه في شرائعه لأنبيائه ورسله السابقين من كل ما أحله لهم ولأممهم عموماً، ويدخل فيه ما حظرته أباطيل الجاهلية وهو حلال في شرائع الله تعالى. ثم بيّن تعالى أن تشريع الله وأوامره ونواهيه القضائية في قدره حق واقع لا يتخلف فقال (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا). ثم بيّن تعالى أن (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) -أي الرسل الذين سبقوا الرسول محمداً - صلى الله عليه وسلم - برسالاتهم وأنه شرع لهم في شرائعهم ما أحله الله لهم ولأممهم فكانوا يبلغونه إلى أممهم، لأنه من رسالات الله التي أوجب الله عليهم تبليغها لهم- لم يخافوا أحداً غير الله في تبليغ ما أنزل إليهم مهما كان فيه من حرج جاهلي وشدة في التبليغ وإبطال لعادات ألفها الجاهليون وقاموا عليها حياتهم. فقال تعالى في وصفهم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ). وهذا معناه: أنهم القدوة في سنن الله وشرائعه وتبليغها إلى أممهم دون خوف أو خشية من أحد كما قال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).

فهو من قبيل الإرشاد والتربية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يكون في تبليغ أوامر الله تعالى وشريعته إلى أمته على سنن إخوانه الأنبياء والمرسلين لا يخشى في التبليغ أحداً إلا الله. وليس في هذا إشارة من قريب أو بعيد تفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خشي - في تبليغه رسالات الله أحداً غير الله. ثم قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى هو المختص بمحاسبة الضمائر والقلوب على ما تضمر وتُكِن، والجوارح على ما تعمل فقال (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا) ومعناه: أن الخوف والرجاء لا يكونان إلا من الله ولله تعالى وليس لأحد من الخلق دخل في رجاء أو خوف، لأنَّهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. فالذي قاله المنافقون وخبثاء اليهود، ونفايات الناس أهل الوثنية - من قالة السوء، وإشاعة الأباطيل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زواجه بزينب التي كانت زوجاً لزيد بن حارثة: قد تزوج زوجة ابنه وكان يحرمها - باطل. وقد رد الله عليهم قالتهم وأكاذيبهم وجهالتهم وقولهم على الله غير الحق بقوله (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) بياناً لأن التحريم الذي كان ينادي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما زال، وأنزله الله عليه في شريعته إنما هو في زوجة الابن الصلبي النسبي الذي جاء في قوله تعالى: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) وليس الدعي ابناً صلبياً نسبياً، وإنما كان ابناً ادعائياً، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أباً

لأحد من رجالهم أبوة صلبية نسبية حتى يحتج بها في تحريم زوجة الابن الدعي. وفي أسلوب الآية ما يشعر بالعموم الشمولي الذي ينفي كل أبوة صلبية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن أي فرد من أفرادهم، وذلك بدلالة التنكير في قوله (أبا) و (أحد) والإضافة في قوله (من رجالكم). ثم أثبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يثبت له أبوة التقديس والاحترام والتوقير -كإثبات الأمومة لأمهات المؤمنين في قوله تعالى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) - فقال تعالى مستدركاً على العموم السابق: " وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ " فكل رسول أب لأمته في الاحترام والتقديس والتوقير، وإلى هذا يشير قوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وقد قيل في بعض التفاسير وكتب الحديث إنه قرئ " وهو أبٌ لهم " وهذا محمول على أنه تفسير الأولوية في قوله (أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ). والرسالة إذ يلزمها ذلك فهي عامة الترابط لكل مؤمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالاستدراك جيء به لإثبات هذه الرابطة العامة بكل مؤمن وهى في حقيقتها أعظم وأجل من رابطة الأبوة لأن الله تعالى قال في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للمؤمنين (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) فخصه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، بعد وصفه بالرسالة في هذه الآية نفسها بقوله (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)

ليحقق هذا الترابط الشامل للأمة في حاضرها، ومستقبلها إلى يوم القيامة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة دائمة لأمته، وقدوة لها في جميع ما تأتي به من خير أو تذر من شر، وهذا إنما كان مستمداً من رسالته وشريعته في عمومها وخلودها. ثم قال تعالى: (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ليبين أن هذه الرابطة بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين جميع المؤمنين لا تقتضي وراثة في النبوة ليقطع جذور إدعاء أحد من أمته النبوة من بعده اعتماداً على رابطة الأبوة بالرسالة وبياناً لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا نبي بعده يستدرك عليه وعلى شريعته شيئاً من الأحكام والتشريع، لأن ختم النبوة يستلزم حتماً ختم التشريع. وهذا يقتضي باعتبار عموم رسالته وخلودها أن تكون كاملة في أصولها وجميع ما يتفرع عن تلك الأصول لتؤدي إلى الأمة المسلمة وإلى الحياة عامة ما تتطلبه احتياجاتها في سائر الأزمنة والأمكنة والأجيال فتشمل الحاضر والمستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثم ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) بياناً لعموم إحاطة علمه تعالى بأحوال عباده، وما يشرعه لهم من شرائع الخير والهدى وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو النبراس الذي يضيء لأمته طريق السير في هدايتها. بعد هذا العرض للقصة كما تفيدها الآيات الكريمة وسياقاتها نرى أن نعرض في إجمال وإيجاز -ما قيل فيها من اختلاف أقوال العلماء- فأقول:

(تنزه كثير من أهل العلم عن أقوال القصاص)

(تنزه كثير من أهل العلم عن أقوال القصاص) ذهب فريق إلى أقوال تنزه بعض المفسرين والمحدثين عن حكايتها لما فيها من عبارات لا يحوطها أدب التعبير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيها فتح باب لأعداء الإسلام ونبي الإسلام لينفذوا منها - كما هى طرائقهم أن يتصيدوا من ساقط الروايات ومكذوبها ما يطعنون به على الإسلام ونبي الإسلام - إلى قالة السوء والطعن في رسالته - صلى الله عليه وسلم - وسمو مقامه، ولولا أن الذين تعرضوا لهذا الاتجاه -وفي مقدمتهم الإمام الطبري في تفسيره والزمخشري ومن تابعه- لهم شهرة بين الأمة ومؤلفاتهم في التفسير وغيره مقروءة، ولها اعتبارها لما أشرنا لشيء من هذا الاتجاه في فهم القصة وآياتها. * * * (مذهب السلف إثبات ما أثبته القرآن الكريم) وذهب فريق من السلف - منهم علي بن الحسين " زين العابدين " والزهري والسدي وغيرهم، وتبعهم على ذلك فريق من العلماء منهم القاضي بكر بن العلاء والقاضي عياض وابن فورك

وجمع من المحدثين منهم الحافظ ابن حجر والقسطلاني في المواهب والزرقاني في شرحها والحذاق من المفسرين منهم ابن العربي والقرطبي وغيرهم ممن يعنون بفهم الآيات القرآنية في سياقها وطلب الهداية منها وتنزيه الرسل عما لا يليق بهم من الروايات البعيدة عن منطق الحق والواقع - إلى القول بأن ما أخفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأبداه الله تعالى إنما هو إعلام الله له أنَّهَا ستكون من أزواجه بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها منه كما ذكرناه سابقاً. وإنما كان العتاب على إخفاء الإعلام بزواجها منه وتلبثه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عرض عليه زيد طلاقها - اجتهاداً منه - صلى الله عليه وسلم - استجابة لطبيعته - صلى الله عليه وسلم -، المجبولة على الرأفة والرحمة وأخذاً بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة والإرشاد إذ لم يعين الله له وقت تزويجه منها، وليتعرف - صلى الله عليه وسلم - ما عند زيد بالنسبة إليها من رغبة فيها وميل إليها. ويحتمل في فهم القصة وآياتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استشعر منذ نزلت عليه آية إبطال التبني في قوله تعالى (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)

(العمل على إبطال التعاظم بالأنساب والأحساب)

الذي يترتب على إبطاله إبطال ما ينتج عنه من أمور وآثار جاهلية. * * * (العمل على إبطال التعاظم بالأنساب والأحساب) وقد نشأ بإبطال التبني أن نزل الأدعياء إلى درجة الموالي وهي أقل في نظر المجتمع مما كانوا عليه حيث أصبحوا أدنى منزلة اجتماعية ممن كانوا في مستواه، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أول من يطلب منه العمل على إبطال ومحو الفوارق الاجتماعية القائمة على غير ما أنزله الله ومن أهمها وأشدها أثراً على المجتمع عادة التعالي والتعاظم بالأحساب والأنساب، التي يراها الجاهليون شرعة مرعية في أنكحتهم والظهور في أنديتهم - وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بقاء هذه العادة الجاهلية مدمر للمجتمع المسلم بما تنشره في النفوس من الأحقاد والضغائن وتقسيمه إلى طبقات يحتقر بعضها بعضاً ويتميز بعضها على بعض غيظاً فلما أن أرسلت زينب بنت جحش الأسدية أختها حمنة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبره أن كثيراً من أصحابه خطبها وهى تشاوره وتستأذنه أن يختار لها ممن خطها من يراه أصلح لها رأى - صلى الله عليه وسلم - أن تزويجها بزيد بن حارثة مولاه يحقق أمرين عظيمين صالحين: أولهما: أن زيد خير ممن خطبها علماً بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فتزويجها إياه يحقق لها عصمة زوجية ونفعاً دينياً ولذلك قال لأختها: " فأين هي ممن يعلمها كتاب ربها وسنة نبيها؟ ". قالت حمنة: من؟. قال: " زيد بن حارثة " فغضبت وقالت: تزوج ابنة عمتك مولاك؟ وعادت إلى زينب، فأخبرتها، فاشتد غضبها وقولها بأكثر مما قالت أختها فأنزل الله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)). قالت

زينب: فأرسلت إليه: زوجني من شئت فزوجني منه " وثانيهما: أن تزويج زيد بها - وهي في شرفها ونسبها من قومها في قريش، وقرابتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل عظيم يسديه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته يهدم به عادة جاهلية، ويغرس به قاعدة العدالة، والمساواة بين أفراد المجتمع المسلم، حتى لا يتفاضل بالأحساب والأنساب، وليرجع إلى ما أمر الله به من التفاضل بالتقوى والعمل الصالح تحقيقاً لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عريى، ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ". فزوّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيداً وأمهرها عنه ما ذكرته الروايات، وبهذا وضعت قاعدة المساواة في النكاح بين جميع المسلمين والمسلمات تحقيقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " الذي جعل قاعدة المساواة في الدين والخلق، ولا دخل في ذلك للأنساب والأحساب مما كان يبني عليه الجاهليون اعتباراتهم.

(بدء التنافر بين قلبي زينب وزيد بن حارثة)

وكان رضاؤها بهذا الزواج لا يعبر عن رغبة قلبية وميل نفسي منها فاشتد لسانها على زيد وتعاظمت وافتخرت عليه بنسبها وحسبها مما جعل الحياة بينهما حياة لا استقرار فيها ولا سكون ولا مودة. * * * (بدء التنافر بين قلبي زينب وزيد بن حارثة) قالت زينب رضى الله عنها وهي تقص خبرها مع زيد: " فأخذته بلساني فشكاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ققال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك عليك زوجك واتق الله. . ". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ بدأ في نفسه الاستشعار بإبطال ما يترتب على إبطال بنوة الدعي -وأدى هذا الاستشعار إلى إبطال عادة التعالي والمفاخرة بالأنساب والأحساب ورد المؤمنين إلى التفاضل بالدين والتقوى- لا يزال يدور في نفسه ويقوى معه استشعاره بإبطال ما هو أقوى في جذوره الجاهلية من عادة التفاخر بالأنساب والأحساب وهو إبطال عدم صحة زواج المتبنِّي بزوجة دعيه بعد فراقه إياها. فلما جاءه زيد يشكو إليه زوجه زينب واشتداد لسانها عليه وعدم طاقته الصبر على ما يلقى منها وعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلقها فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك عليك زوجك واتق الله " - أخذاً بما جُبل عليه - صلى الله عليه وسلم - من الرحمة والرأفة وتلبثاً لمعرفة ما عند زيد نحوها، وهل شكايته منها فورة غضبية لعلها تزول، أو تسكن وتهدأ بإحسان العشرة منها، أو أنها عزيمة لا تردد فيها ولا محيد عنها، وأن ثورة المصاعب في هذا الزواج وتصاعد النزاع بين زيد وزينب واشتعال نار الخلاف بينهما لن تهدأ - عرف عليه الصلاة والسلام أن عشرتهما لن يكتب لها الدوام ما احتفت بهذه المصاعب لعدم توافقهما في الحياة الزوجية لنفور زينب من زوجها زيد وكرهها

(الله المزوج وجبريل الشاهد)

للعيش معه وعدم استطاعة زيد على الصبر عليها لتناولها إياه بلسانها، فرأى - صلى الله عليه وسلم - أنه إن طلقها زيد فسيتزوجها عليه الصلاة والسلام ليهدم بزواجه منها -بوصفها مطلقة دعيه زيد- عادة الجاهلية التي تمنع تزوج المتبنِّي بمطلقة الدعي ويتحمل - صلى الله عليه وسلم - ثقل إزالة هذه العادة رفعاً للحرج عن المؤمنين في التزوج بمطلقات الأدعياء حيث قد يسر الله تعالى بقضائه وقدره سبيل هدمها على يديه بتطليق زيد دعيه لزوجه زينب، لأن إبطال عادة التبني -قبل تزوج زيد بزينب- يستلزم إبطال جميع ما ينتج عنها من آثار وفي مقدمتها إبطال منع التزوج بمطلقة الدعي. ولما ضاق زيد ذرعاً بالعيش مع زينب رضي الله عنهما ولم يبق له وطر فيها عاد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكوها إليه وققال: " أنا أطلقها " فطلقها وبتَّ طلاقها. ولما انقضت عدتها أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيداً إليها يخطبها عليه فنزل القرآن بتزويجه - صلى الله عليه وسلم - بها قبل أن يعود زيد من خطبتها فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل عليها زوجاً لها تنفيذاً لأمر الله تعالى فِي قوله تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37)). * * * (الله المزوِّج وجبريل الشاهد) قالت زينب -كما في سنن البيهقي- حين دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجاً لها: " هذا أمر من السماء " وقالت: " يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة؟ " فقال: " الله المزوج وجبريل الشاهد ".

(الخير العام في كل من زواج زييد بن حارثة بزينب بنت جحش وطلاقه لها)

ويدل لصحة هذا ما رواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: " كانت زينب تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: " زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات " وما رواه مسلم من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " دخل عليها بغير إذن " حين نزل القرآن بتزويجه إياها. * * * (الخير العام في كل من زواج زييد بن حارثة بزينب بنت جحش وطلاقه لها) وهكذا كان زواج زيد بزينب خيراً في أوله حين قضى ومحا الفوارق القائمة على التعالي بالأحساب والأنساب " وذلك أن الموالي تزوجت في قريش، وتزوج زيد بزينب، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوّج أبو حذيفة سالماً من هند بنت عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار ". وكان طلاق زيد لزينب خيراً كبيراً أيضاً حيث كان سبباً لإبطال عادة الجاهلية التي تمنع تزوج المتبني بمطلقة دعيه، أو أرملته. وحينئذ يكون ما أخفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وعوتب عليه هو استشعاره - صلى الله عليه وسلم - من تمكنه من إبطال عادة عدم صحة تزوج المتبني بمطلقة دعيه بمجيء زيد شاكياً زوجه زينب ويعرض طلاقها دون أن يكون له - صلى الله عليه وسلم - دخل قلبي سوى إرادة تحقيق ما أراده الله تعالى من زواجه بزوجة دعيه -التي قضى وطره منها- لرفع الحرج عن المؤمنين في التزوج بمطلقات الأدعياء.

(آية آخرى في عتاب التحذير)

فإن قيل: إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أراد تحقيق ما أراده الله تعالى بإبطال عادة جاهلية ففيم يكون العتاب؟. فالجواب أن العتاب كان على التأخير بقوله لزيد أمسك عليك زوجك. * * * (آية آخرى في عتاب التحذير) ومن الآيات التي هي من هذا النوع من العتاب أول آية من سورة التحريم وهي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)). والبحث في هذه الآية الكريمة يقع في موضعين منها: الموضع الأول: في بيان المراد بهذا التحريم الذي وجه الإنكار إليه. الموضع الثاني: فيما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه فخاطبه الله تعالى بهذا الخطاب لذلك التحريم الذي صدر منه - صلى الله عليه وسلم -. أما الموضع الأول -وهو ما المراد بالتحريم في هذه الآية؟ - فإنا نقول: أن المعنى الأصلي لمادة (حرم) في اللغة " هو المنع والتشديد " كما قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة. وقد ورد التحريم بهذا المعنى في القرآن الكريم في آيات منها قوله تعالى (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي: " منعنا موسى المراضع أن

(المنع المحرم وغير المحرم)

يرتضع منهن من قبل أمه "، وقوله تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). أي " منعه من دخولها ". * * * (المنع المحرم وغير المحرم) وعلى ذلك فمن منع نفسه من شيء كان له التمتع به فعلاً كان أو قولاً أو غير ذلك فقد حرم نفسه من ذلك الشيء أي منعها منه، ما لم يؤد هذا المنع إلى ضرر شرعى يلحق بالشخص المحرم على نفسه أو بغيره ممن له علاقة به فحينئذ يصير المنع والتحريم بذلك منعاً وتحريماً شرعياً، وهذا كالذي رواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن رهطاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منعوا أنفسهم وحرموها من التمتع بأمور كان لهم حق التمتع بها، لكن هذا المنع أدى إلى ضرر بالنفس وبالغير فإن منه المنع من إتيان النساء وهذا يضر بالزوجة بل يضر بالزوج نفسه، وهكذا في كل ما ذكر مما منعوا أنفسهم منه، ولهذا أباه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: " أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ". وهذا دليل على أن المنع والتحريم أصبح منعاً وتحريماً شرعياً ليس لأحد من الخلق أن يقدم عليه إلا بتشريع من الله تعالى، بل قوله - صلى الله عليه وسلم - " إني لم أومر بالرهبانية " وقوله " إن الرهبانية لم تكتب علينا " يدل على أن

هذا تحريم شرعى إذ منع النفس من هذه الأشياء منع لها مما كان مباحاً شرعاً. ويرشح هذا ما ورد في بعض الروايات أنَّهم أرادوا بهذا المنع التشبه بالقسيسين والرهبان كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن السدي فيما أخرجه الطبري عنهما في تفسيره. ويؤيده هذا ما رواه البخاري عن أبي جحيفة عن أبيه قال: " آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال، كُلْ، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حى تأكل، قال:. فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا. فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا. فأعطِ لكل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " صدق سلمان ". أما الحرام في الشرع فإنه ما طلب الشارع من المكلف الكف عنه على وجه الحتم والإلزام كما عرفه الأصوليون بذلك.

(التحليل والتحريم خاص بالله)

(التحليل والتحريم خاص بالله) فإذا ما حرم الله تعالى شيئاً فليس لأحد من كان أن يحله، لأن التحريم حكم الله تعالى وشرعه لعباده، وهو العليم بخفايا الأشياء والأفعال ومضارها، فيحرم منها ما يشاء، ويحل منها ما يشاء، فإذا أحل الله شيئاً فلا محرم له من بعده وإذا حرم شيئاً فلا محل له من بعده. ومن ذلك يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم على نفسه شيئاً تحريماً شرعياً مما كان الله تعالى قد أحله له، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك ذلك ولا يخالف لله تعالى أمراً ولا نهياً لعصمة الله تعالى له من ذاك كله. فلم يبق إلا أن يتوجه التحريم المخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية إلى المعنى اللغوي -وهو الامتناع كما قال به حذاق المفسرين- إذ هو الأصل أولاً، ولامتناع صدور المعنى الشرعي منه - صلى الله عليه وسلم - في المراد بالتحريم في هذه الآية ثانياً. * * * (ما يدل عليه تصدير الآية بندائه بوصف النبوة) فيكون معنى الآية على هذا -وقد صدرت بندائه - صلى الله عليه وسلم -، بوصف النبوة تشريفاً لمكانه وتعظيماً لمقامه- يا أيها النبي لم تمنع نفسك وتحرمها من الاستمتاع بما أحله الله لك مما لك فيه رغبة ومتعة ونفع بما يشق عليك من حرمان نفسك حقها مما أحللناه لك من متعة الحياة وزهرتها. أما ما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه فمنعها منه فجمهور المفسرين على أنه سريته مارية القبطية أم ولده إبراهيم - عليه السلام.

وهو ما صدر به ابن كثير تفسيره لهذه الآية الكريمة، واستدل بما رواه النسائي عن أنس - رضي الله عنه -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه فأنزل الله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)). وقد أورده الحافظ ابن حجر -في الفتح- فقال: " وقد أخرج النسائي بسند صحيح - فذكره ثم قال: وهذا أصح طرق هذا السبب وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي الشهير قال: أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم إبراهيم ولده في بيت بعض نسائه فقالت: يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حراماً. فقالت: يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها فنزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ). ثم ساق ابن كثير تعزيزاً لهذا الرأي قول زيد بن أسلم نقلاً عن الطبري -كما نقله عنه الحافظ ابن حجر حسبما ذكرناه آنفاً- وعزز بما أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده بسنده إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحفصة: " لا تخبري أحداً وإن أُم إبراهيم عليَّ حرام " فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: " فوالله لا أقربها " قال:

فلم يقربها حتى أخبرت عائشة ". قال فأنزل الله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). قال ابن كثير تعليقاً على هذا الحديث وتعزيزاً له: " وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الضياء المقدسي في كتابه المستخرج ". وقد نقله الحافظ ابن حجر -في الفتح- عن الضياء المقدسي من المختارة وأيده بما أخرجه الطبراني -في عشرة النساء- وابن مردويه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمارية بيت حفصة فجاءت فوجدتها معه فقالت: يا رسول الله في بيتي تفعل هذا معي دون نسائك " - قال ابن حجر: " فذكر نحوه " أي نحو حديث عمر المتقدم. ثم قال الحافظ ابن حجر في ترجيحه بين الأقوال التي قيلت فيما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه: " والراجح - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال كلها قصة مارية لاختصاص عائشة وحفصة بها بخلاف العسل فإنه اجتمع فيه جماعة منهن ".

(ما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه)

واختيارات الضياء المقدسي -التي نقل عنها كل من الحافظين ابن كثير وابن حجر حديث عمر السابق- يقول عنها الإمام ابن تيمية: " إن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك ". * * * (ما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه) ثم ذكر ابن كثير حديث الطبراني - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) قال: " حرّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريته ". وظاهر الآية الكريمة يعزز هذا القول لأن " ما " في قوله تعالى: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وتعليل التحريم بقوله عز شأنه (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) يدل على أن المحرم شيء من جنس ما يُبتغَى به مرضاة الزوجات ويتوصل به إلى قلوبهن في الاستمتاع، وعدم تحريمه بالامتناع عنه يثير في أنفسهن الغيرة، وإن كان المحرم ليس بداخل في الزوجات بوصف الزوجية لكنه مشارك لهن في وجود الاستمتاع به لتحققه فيه كتحققه فيهن، وذلك يناسبه أن يكون المحرم المتنع عنه سريته مارية أم ولده إبراهيم - عليه السلام - التي أحل الله له - صلى الله عليه وسلم - الاستمتاع بها، وكانت تثير في أنفس الزوجات الطاهرات الغيرة منها، وتحريمه إياها على نفسه وامتناعه عنها أشد مرضاة لهن وأدعى لسرورهن. ويؤيد هذا أن في لفظ " لك " من قوله تعالى: (مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من معنى الخصوصية ما يدل على أن المحرم من تعلقت به هذه الخصوصية

- وهي سريته - صلى الله عليه وسلم - إذ لا خصوصية في غيرها من العسل ونحوه. وهذا التعزيز مال إليه جمهور المفسرين الذين قالوا: إن الذي حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه هو مارية القبطية أم ولده إبراهيم. قد ذكر هذا ابن الجوزي في تفسيره -زاد المسير- وأسنده إلى بعض أئمة السلف والأكثرين من المفسرين فقال: " وإلى هذا المعنى - أي تحريم مارية على نفسه - صلى الله عليه وسلم - ذهب سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومسروق ومقاتل والأكثرون ". وممن مال إلى هذا القول -أيضاً- ابن العربي في تفسيره لآيات الأحكام حين قال: " وأما ما روي أنه حرم مارية فهو. . أقرب إلى المعنى ". ولعل ابن العريى يقصد بالأقربية إلى المعنى أن هذا التحريم قد علل في الآية الكريمة بابتغاء مرضاة الزوجات، وهذا ما صرح به الجصاص في أحكام القرآن بقوله ". . . الأظهر أنه حرم مارية، وأن الآية فيها نزلت لأنه قال (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) وليس في ترك شرب العسل رضا أزواجه، وفي ترك قرب مارية رضاهن ". وإلى هذا الترجيح مال جمال الدين القاسمي في تفسيره -محاسن التأويل- حيث قال: " والذي يظهر لي هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها وذلك لوجوه:

منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات (1) ويهتم به لهن. ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه. . . ". وذهب جمهور المحدثين إلى أن المحرم الممتتع عنه هو العسل وحجتهم في ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما. والروايات عندهما متفقة على أن ما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه ومنع نفسه منه - صلى الله عليه وسلم - هو العسل، ومختلفة في التي شرب عندها العسل من زوجاته. وأكثرها أن التي شرب عندها العسل هي زينب بنت جحش، ويليها أن التي شرب عندها هي حفصة. وهناك روايات صحيحة الإسناد -كما يقول السيوطي في الدر- لكنها لم ترد في الصحيحين تذكر أن التي شرب عندها العسل هي سودة بنت زمعة رضي الله عنها.

_ (1) وهو يقصد بالضرات الزوجات وإن كانت السرية ليست ضرة بالمعنى الشرعي وإنما هي ضرة في الواقع النفسى لهن.

وعزا الحافظ ابن حجر -في الفتح- مثل هذا القول إلى الطبراني وابن مردويه في تفسيره عن ابن عباس وقال: " ورواته موثقون ". ودعواه بأن أبا عامر -أحد رواة هذا الحديث عند الطبراني وابن مردويه- " وهْمٌ فِي قولة سودة " دعوى لم يقم عليها دليلاً، سوى أنها نحو رواية البخاري التي تذكر أنه شرب العسل عند حفصة. ولا معنى لتوهيمه الراوي بعد توثيقه إياه، مع أن الروايات مختلفة في التي شرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها العسل. وفي رواية أسندها الحافظ ابن حجر -في الفتح- إلى السدي في تفسيره ونقلها عن الطبري تقول إن التي شرب عندها العسل هي أم سلمة رضي الله عنها وقال: إنها مرجوحة ومرسلة. وأسند السيوطي -في الدر- مثلها إلى ابن سعد فِي الطبقات عن عبد الله بن رافع. فهذا الاختلاف في التي شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها العسل من زوجاته -وهو موجود في الصحيحين في روايات أغلبها متوالية- يدل على الاضطراب مما حمل بعض حذاق العلماء على الترجيح بين هذه الروايات،

فذهب القاضي عياض والنسائي والأصيلي -فيما نقله عنهم النووي في شرح مسلم- إلى ترجيح رواية أن التي شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها العسل زينب. وقالوا: إنها أصح. ولم يكلموا في صحة غيرها، والأصحية لا تنافي الصحة، وحينئذ يبقى الحديث على الاحتمال فلا يصلح به القطع في الاستدلال. ورجح الحافظ ابن حجر ما رجحه هؤلاء الأئمة بأن عائشة وحفصة كانتا متظاهرتين على النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما جاء عن عمر - رضي الله عنه - فيما أخرجه البخاري في التفسير وفي الطلاق وسبق أن حمل القصة على التعدد جمعاً بين الروايات وبذلك يبقى الاحتمال قائماً إذ لم يمكنه رفع الاحتمال عن الحديث. وهذا مما يؤيد ترجيح ما ذهبنا إليه من أن الذي حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه هو سريته مارية أم ولده إبراهيم - عليه السلام -، ويرشح ذلك تعليل التحريم المنكر عليه بقوله (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ). ووجه الترشيح بهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفعة مقامه وجلال مكانته -نبياً ورسولاً- قدوة لأمته في جميع ما يقع منه قولاً أو فعلاً أو تقريراً ما لم يدل دليل على اختصاصه به - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم مأمورون بمتابعته، وأن متابعته قد جعلها الله تعالى دليلاً على حبه سبحانه في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ

(موئل العتاب من هذه الآية)

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وفي قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) إذ لو لم يحذر - صلى الله عليه وسلم - من التحريم على نفسه مما أحله الله له لكان قد أتانا به. والمتابعة -في القدوة- قائمة دائمة خالدة مع دوام الرسالة وخلود شرائعها وأحكامها، فلا ينبغي لمن رفع الله شأنه فوق جميع خلقه، وجعله القدوة الحسنة لأمته أن يمنع نفسه مما أحله الله له تطلباً وابتغاء لمرضاة أزواجه، لأن ذلك مما يشق على أمته في مستقبل حياتها. وختمت هذه الآية الكريمة -موضع البحث- بقوله تعالى: (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تلطفاً به - صلى الله عليه وسلم -، وإشعاراً له بعلو مقامه، وأنه لا ينبغي له وقد حباه الله تعالى بفضله، ورفعه مكاناً علياً على سائر خلقه أن يكون في مستوى دون مستوى مقامه الرفيع في ترضية أزواجه. والغفران والرحمة من باب التبشير له - صلى الله عليه وسلم - بكمال الطهر والنقاء على حد قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - ذنب يقتضي الغفران وإنما الذي وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تنازل منه عن بعض فضله، ورفعة شأنه ترضية لزوجاته وإحساناً لهن ورحمة بهن. * * * (موئل العتاب من هذه الآية) وبناء على ما تقدم وعلى ترجيح أن الذي حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه هو سريته مارية القبطة أم ولده إبراهيم يكون العتاب على ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - من تقديمه رضا أزواجه على ما يختص براحته النفسية ومتعته الجسدية

وسروره القلبي بمنعه نفسه مما أحله الله له لابتغاء مرضاة أزواجه. فالقيد " تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ " هو محط العتاب في الحقيقة، فكأنه قيل له: يا أيها النبي لم تمنع نفسك وتحرمها مما أحل الله لك من متعة وراحة وسرور تَبْتَغِي بذلك مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ؟. وليس مجرد منعه - صلى الله عليه وسلم - نفسه من المتعة بالمباح محلاً للعتاب لأنه - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما منع نفسه من بعض المباحات -التي ينعم بها الناس ولا سيما في مجال المتعة الجسدية- زهداً في الدنيا وبعداً عنها، ولم يحظر عليه ذلك، ولم يعاتبه الله تعالى على شيء من ذلك كله. وفي ذلك تلميح إلى ما فِي طبائع النساء من قلة رضاهُنّ بما يمنحن من الفضل والعطاء والإحسان. وفيه -أيضاً- تلميح إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكانته العليا وفضله العظيم أنه ما كان ينبغي له - صلى الله عليه وسلم - أن يتنزل -تفضلاً منه وإحساناً إليهن- بمقامه العظيم عند ترضية أزواجه بتحريم ما أحل الله له، ومنعه نفسه الطاهرة من المتعة والسرور لمجرد إرضائهن. وإن رضاءهن -ولا سيما فيما يختص بأسرار الزوجية ومتعتها- عزيز المنال أن رضين مرة فقد يغضبن مرات. ومن هنا كان في ذلك درس بالغ لتربية أزواجه الطاهرات على سنن الزوجية، وكان في ذلك -أيضاً- درس للنبي - صلى الله عليه وسلم - في معاملة أزواجه ومعاشرتهن معاشرة تبقى معها القدوة للنساء المؤمنات.

أما قوله تعالى: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فإن حملناه على ما جاء في الروايات من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لحفصة ألا يصيب مارية فيكون معنى الآية: قد شرع الله لكم الكفارة لتتحللوا من أيمانكم في قوله تعالى -من سورة المائدة- (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)). وإن حملناه على غير هذه الروايات فيكون من باب المجاز بجعل عزيمة النبي - صلى الله عليه وسلم - المصممة على عدم إصابة سريته في قوة الحلف على ذلك. ولا شك أن الوجه الأول أظهر لموافقته لظاهر الآية الكريمة. وأما قوله (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فهو بيان لإحاطة علم الله تعالى بما كان وما يكون، وأن ذاك جار على مقتضى الحكمة الإلهية التي تضع الأمور في مواضعها. ثم قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ

قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)) فهذا من الامتنان على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتذكيره بنعم الله تعالى عليه لأن قوله (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) معمول لفعل محذوف تقديره واذكر إذ أسر النبي. وإبراز النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاسم الظاهر بوصف النبوة، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وإذا أسررت إلى بعض أزواجك حديثاً، من باب الحفاوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإظهاره في هذا المقام بأشرف أوصافه وهو النبوة مما يتضمن تعريضاً بمن أفشت سره - صلى الله عليه وسلم منهن. وفي قوله (إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) بصورة الإبهام تلطف بهن بعدم الكشف عن شخصيتهن. وتنكير " حديثاً " للدلالة على عظمة هذا الحديث وأنه من الأسرار التي ما كان ينبغى أن تفشى، وتذاع ولو لأصدق الصديقات. وهذا الحديث الذي أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض أزواجه هو تحريمه مارية ومنعه نفسه - صلى الله عليه وسلم - من التمتع بها إرضاء للتي غضبت وتألمت مما نالها من جراء تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم - بسريته في بيتها. ْويحتمل أن يكون الحديث الذي أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض أزواجه -عند من يقول بغير ما رجحنا- هو منعه نفسه - صلى الله عليه وسلم - من شرب العسل كما ورد في بعض الروايات. ْويحتمل أن يكون إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة أن أباها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سيلي أمر أمته - صلى الله عليه وسلم - بعد أبي بكر - رضي الله عنه.

وتحتمل الآية العموم الشامل لتحريم السرية والإنباء بالخلافة أو لتحريم العسل والإنباء بالخلافة. ولما أفشت من أسر إليها هذا الحديث إلى صديقتها وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ عليها أن تكتمه ولا تخبر به أحداً عرفه الله تعالى إفشاءها سره وأظهره عليه، فذهب عن الحديث وصف سريته وعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضه وأعرض عن بعض. والذي عرف به هو تحريم سريته - صلى الله عليه وسلم - أو شربه العسل، والذي أعرض عنه هو الإنباء بالخلافة لما يترتب على إذاعته والتحدث فيه من أضرار وفتنة قد تؤثر على أنفس بعض المؤمنين الذين قد يكونون يتطلعون -في صمت- إلى منصب الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما نبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبة إذاعة السر وإفشائه بما أفشته من سره دهشت وقالت: " من أنبأك هذا؟ " ولعلها ظنت أن صاحبتها هي التي أخبرته فقالت له: " من أنبأك هذا؟ " فقال لها -كما حكى الله تعالى ذلك- " نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ". ثم توجه الخطاب في قوله تعالى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) -من باب الحفاوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والتأديب لمن أفشت سره بهذا الأسلوب المشعر بالزجر والتهديد- إلى اللتين تظاهرتا عليه - صلى الله عليه وسلم - بالإذاية والغيرة وإفشاء سره بأنهما إن يتوبا إلى الله تعالى مما أزعجا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن التوبة حق واجب عليكما لأن قلوبكما قد مالت عن الحق كما تدل عليه قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - " زاغت قلوبكما ".

وعلى هذا فإن قوله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ليس جواب الشرط وإنما هو دليله وتعليله. والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإيذائه بالتظاهر عليه وإفشاء سره فالتوبة حق واجب عليكما، لأن قلوبكما قد زاغت ومالت عن الحق في مغاضبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه. ويمكن أن تحمل الآية على فهم آخر يأتي من حمل قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) على معنى أنها مالت " إلى الحق وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله - صلى الله عليه وسلم - وندمت على ما كان منها من مغاضبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإيذاه. والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله وترجعا عن مغاضبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتندما على ما كان منكما، فقد مالت قلوبكما إلى الحق ومصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراضاته، وأن ما كان منكما من مغاضبة وإيذاء لم يكن صادراً عن قلوبكما وإنما هو فورة غضب ونار غيرة. ويؤيد هذا قوله (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) أي استمررتما على المغاضبة والإيذاء وتعاونتما عليها فإن الله تعالى ناصر رسوله بقوته القاهرة وخواص ملائكته وعامتهم وصالح المؤمنين، وهذا كالمقابل لقوله (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).

(قصة نزول عبس وتولى)

ثم تلطف الله تعالى بنبيه - صلى الله عليه وسلم - إظهاراً لحفاوته به وإعلاء لمقامه بما زاد في تأديب الزوجات الطاهرات متمشياً مع أسلوب الزجر والتهديد فقال (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) أي جامعات للكمال في إسعاده - صلى الله عليه وسلم - حساً ومعنى فلا يعصين له أمراً، ولا يخالفن له نهياً، يعملن على إسعاده وإدخال السرور عليه بما يفرغ قلبه عن حمل أثقال الزوجية إلى القيام بواجبه الأعظم وهو تبليغ رسالته وتعليم أمته وإعطاؤها الأسوة الحسنة به لتكون كما أرادها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس. * * * (قصة نزول عبس وتولى) ومن آيات هذا البحث من النوع الثالث من أنواع العتاب صدر سورة عبس وهو قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)). وقد بدأت هذه الآيات بالإخبار عن حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه الأعمى -وهو ابن أم مكتوم وأشهر الأقوال في اسمه أنه عبد الله القرشي العامري وهو من سابقي المهاجرين- يطلب الهداية والعلم منه - صلى الله عليه وسلم -،

وهو ينادي -كما في موطأ الإمام مالك رحمه الله- " يا محمد استدنني " وفي رواية الترمذي " يا رسول الله أرشدني " وفي بعض الروايات " يا رسول الله علمني مما علمك الله ". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشغولاً يتحدث في شأن رسالته والدعوة إلى الله تعالى مع صناديد قريش وأعيانها الذين ذكر المفسرون منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف أو أخاه أبي بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب. وكان ابن أم مكتوم ينادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصوت جهير ويشبه أن يكون أنه لم يعرف اشتغال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القوم بدعوتهم إلى الله تعالى. وقد اتفق جمهور المفسرين على أن فاعل " عبس وتولى " هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأجمعوا على أن هذه الآيات الكريمة نزلت في ابن أم مكتوم. وأنه لم يصرح بذكر الفاعل للفعلين الماضيين -عبس وتولى- تلطفاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المفاجأة بمواجهته بهذا الخطاب المشعر بالشدة.

وإبراز ابن أم مكتوم بوصفه المشتق من العمى دون اسمه بيان لعذره فيما واجه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تكرير القول عليه، وسبب في أحقية التلطف به والعطف عليه فهو مما له مدخل في العتاب. ثم قال تعالى مخاطباً رسوله - صلى الله عليه وسلم - (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) في هذه الآية تذكير له - صلى الله عليه وسلم - بأن ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من التقطيب والإعراض -بسبب قطع الأعمى لحديثه المستمر مع من يدعوه إلى الله تعالى- ليس من سجيته الكريمة - صلى الله عليه وسلم -، ولا مما يصلح أن يكون منه - صلى الله عليه وسلم - لما ينبغي أن يقابل به الأعمى طالب الهداية من التلطف والرأفة والرحمة به وبكل من جاء يطلب هداية الله تعالى ويسمع آياته، ويتعلم منه - صلى الله عليه وسلم - مما علمه الله تعالى، ولا سيما إذا كان في حال ابن أم مكتوم في عذره بالعمى الذي حجب عنه من كان يتحدث مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولعله لم يسمع الحديث لأن المتعارف في أحاديث هؤلاء الكبراء أن تكون أقرب إلى الهمس منها إلى الجهارة. وإبراز تزكية الأعمى ابن أم مكتوم - في أسلوب الترجي فيه إشعار بأنه لم يكن إذ ذاك مسلماً، ولا سيما إذا انضم إلى هذا ما ورد في موطأ الإمام مالك - رحمه الله تعالى - من قوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا محمد استدنني ". وقد ذهب السهيلي -في الروض الأنف- إلى ترجيح عدم إيمانه حين جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده القوم فقال: ". . مع أنه -أي الأعمى- لم يكن آمن بعد، ألا تراه يقول (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) الآية، ولو كان قد صح إيمانه وعلم ذلك منه لم يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . وكذلك لم يكن ليخبر عنه ويسميه بالاسم المشتق من العمى دون الاسم المشتق من الإيمان والإسلام، ولو كان دخل في الإيمان من قبل -والله أعلم- وإنما دخل فيه

بعد نزول الآية، ويدل على ذلك قوله - رضي الله عنه -: " استدنني يا محمد " ولم يقل استدنني يا رسول الله، مع أن ظاهر الكلام يدل على أن الهاء في لعله يزكي عائدة على الأعمى لا على الكافر، لأنه لم يتقدم له ذكر بعد، (ولعل) تعطى الترجي والانتظار، ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والانتظار للتزكي والله أعلم ". أما قوله تعالى (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) فهو معطوف على قوله " يزكى " الواقع خبراً لحرف الرجاء " لعل " فهو من مدخول الرجاء معه على معنى: أن قوله " لعله يزكى " يدل على أنه يراد منه التطهر بالإيمان وهذا قول ابن زيد حيث فسر " يزكى " بـ " يسلم " -كما نقله الطبري عنه- الذي يدل على أنه- حسب تفسيره- لم يكن قد أسلم بعد. ولعل هذا القول هو مستقى كلام السهيلي في اختياره عدم إيمانه حين مجيئه. وقوله " أَوْ يَذَّكَّرُ " أي بعد إيمانه يتذكر ما علم عن دلائل الإيمان وبراهينه ما عسى أن يكون قد غاب عنه أو نسيه. أما قوله تعالى (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)) فهذا من قبيل البدء في المقابل بعد الانتهاء من طرف الحديث الأول.

ويراد بالمستغني إما شخص، أو أشخاص على حسب ما جاء في روايات أسباب النزول، ففى بعضها أنه الوليد بن المغيرة، وفي بعضها أنه أمية بن خلف، وفي بعضها أنه عظيم من عظماء المشركين ولم يسمه، وفي بعضها ناس من وجهاء المشركين منهم أبو جهل وعتبة. والتعبير بقوله " استغنى " فيه دلالة على الجحود استكباراً وعناداً وتعالياً بما في الأيدي من نشب الدنيا. ثم قال تعالى (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي أن هذا المستكبر المستغي المعاند الذي عرف الحق فلم يقبل عليه ولم يقبله، وقد عرفت ذلك من سابق حاله معك فأنت تتصدى له وتتعرض لدعوته، وتحرص على إسلامه وهو- في مقابل إعراضه واستغنائه- أحق بالإعراض والتولي ممن جاءك يسعى لطلب الهداية والإيمان. ثم قال تعالى في حق هذا المستغني عن الإيمان والهداية مع الإقرار بحقيتهما: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) بياناً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن التزكي والتطهر بقبول الإيمان والهداية لا يتوقف على الأشخاص ومكانتهم في هذه الحياة الدنيا من الثراء والتفاخر بكثرة الأولاد والأموال والإعتزاز بالقبلية وكثرة الاتباع والأعوان. ثم قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى) أي لطلب الإيمان والهداية أو لطلب الإزدياد في العلم بما أنزل الله من أحكام الشريعة، (وَهُوَ يَخْشَى) أي يخاف من الله تعالى، ومن عذابه (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي بالحديث مع المستغني المستكبر المعاند حرصاً على دخوله الإسلام طمعاً في أن يسلم

بإسلامه اتباعه، مع أن الإقبال على الذي جاء يسعى وهو يخشى أحق وأولى لمجيئه راغباً، ولا سيما أن الله تعالى ذكره بوصف جعله عذراً له في مناداته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلبه الهداية وفي أحقيته بالترفق به والإحسان إليه بحسن الاستقبال. هذا هو رأي جمهور المفسرين من السلف والخلف في فهم هذه الآيات الكريمة. وقد حكى الحافظ ابن حجر -في الفتح- عن الداودي شارح البخاري أن فاعل (عبس) " هو الكافر " الذي كان يحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم يرتض الحافظ هذا القول فوصفه بالغرابة لعدم اختلاف السلف -كما قال- في أن فاعل عبس هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وقد نقل القاضي عياض هذا القول -في الشفاء- عن أبي تمام. وقد رده شارحا الشفاء الشهاب الخفاجي وعلى القاري في شرحيهما فقال الشهاب -في رده-: " وهو قول -أي القول بأن فاعل عبس هو الكافر- في غاية الضعف بعيد عن السياق، والذي عليه المفسرون أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وقال علي القاري في رده هذا القول: " وهذا التأويل مخالف لظاهر التنزيل بل كاد في مقام النزاع أن يكون مخالفاً للإجماع ". وظاهر الآيات يرد قول الداودي، لأن سياقها ظاهره الإخبار عن حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يحدّث بعض عظماء المشركين حين جاءه الأعمى يطلب الهداية والتعليم، ويؤيد هذا أن ضمير الخطاب في قوله تعالى (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) متعين لأن يكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس أبو تمام الشاعر ممن يعرف بين علماء التفسير أو الحديث بشيء وإنما هو رجل شاعر حكيم في شعره، ولا ندري من أين استقى هذا الرأي، ولا يدخل في دائرة العقول أن يكون الداودي شارح صحيح البخاري قد أخذ هذا القول عنه ".

ثم بيّن الله تعالى أن الهداية والإيمان ليست مرتبطة بالأشخاص وحالاتهم من فقر وضر أو ثراء ومكانة في الحياة الدنيا فقال تعالى: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)). وإنما هي تذكرة ينتفع بها من في قلوبهم استعداد لقبول الهداية، ولو كانوا من أهل الفقر والضر. وهذا درس تربوي وتوجيه إلهي ختم الله تعالى به الآيات ليبين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه في رسالته الخاتمة للرسالات الإلهية لا ينبغي له أن يلتفت إلى الأشخاص، ومكانتهم في الحياة الدنيا وتكثير عدد المسلمين بكثرتهم، لأنه في هدايته قدوة عامة خالدة يتأسى بها كل من تشرف بإتباعها. ْولا شك أن أهل الفقر والضر في الناس أكثر عدداً من أهل الثراء والمعافاة. وأهل الضر والفقر هم أحوج إلى المواساة والترفق بهم لإدخالهم فِي حظيرة الإيمان ليكون الإيمان عدتهم على تحمل شدائد الحياة والصبر على نوائبها لما في الإيمان من رضى بالله تعالى وقضائه والتسليم بشرائعه وأحكامه.

وفي هذه الآية ما يشعر بأن اجتهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه مع الكافر ليستميله إلى الإيمان رجاء أن يؤمن بإيمانه عدد ممن يتبعه كان غير متمش مع طبيعة الهداية الإلهية- التي عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يعرضها على الناس دون أن يبخع نفسه حرصاً على إيمانهم- فجاءت الآية الكريمة تصحح هذا الاجتهاد، وتبين الطريق للدعاة إلى الله تعالى الذين يرثون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ رسالته ونهجه - صلى الله عليه وسلم - في إيصالها إلى جميع الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. * * *

الخاتمة

الخاتمة نحمد الله تعالى على فضله أن وفقنا لإتمام ما أردنا إظهاره فيما عرضنا من الآيات التي نصبت هذه الرسالة لدراستها، وتوجيه الأنظار إلى وجه الهدى فيها حفظاً لإيمان المؤمنين، وإنارة لسبيل الحق أمام المنصفين. وبعد. . . فقد ظهر لنا من دراستنا -في الباب الأول- لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن جمهور العلماء على القول بعصمة الأنبياء قبل النبوة، وبعدها من الكفر إجماعاً، وأنَّهم كذلك معصومون مأمونون فيما يبلغونه عن الله تعالى. وأنهم معصومون من جميع كبائر الذنوب بعد النبوة إجماعاً، وما يخل بالمروءة من صغائرها ترجيحاً. ثم عرضنا -في الباب الثاني- لبحث الاجتهاد، وبينا الأدلة الدالة على الإذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاجتهاد فيما لم ينزل عليه به وحي. وذكرنا من الحوادث التطبيقية ما يؤكد هذه النصوص. وبينا -في الباب الثالث- معنى العتاب، واستطردنا منه إلى بيان معنى الذنب، ووجه إسناده في بعض الآيات إلى ضمير خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قسمنا العتاب -بحسب ما ظهر لنا من فهم الآيات- إلى ثلاثة أنواع هي: عتاب التوجيه، وعتاب التنبيه، وعتاب التحذير. وذكرنا ما في كل من الآيات الكريمة، وبينا وجه دخول كل آية منها في نوعها.

وقد وجدنا أن العتاب فيما قيل إنه عوتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان على ما حكم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد والاجتهاد محتمل الخطأ. فما جاء من العتاب إنما هو من قبيل تصحيح الخطأ في الاجتهاد فوجهه الله تعالى إلى الأخذ بالأصوب فعاد الحكم بذلك إلى الوحي. كما ظهر لنا من البحث أن بعضاً من الآيات التي قيل إن فيها عتاباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتمل العتاب وغيره كما قد أوضحنا ذلك في مكانه من دراستنا للآيات الكريمة. ومما يشرح الصدر، ويبهج النفس أن المتتبع لآيات عتابه - صلى الله عليه وسلم -، يرى بوضوح وجلاء أن كل موضع من ذلك يعقب بنوع من الترفق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخطاب طمأنة لقلبه الطاهر، تنادي بأن ما صدر منه من خطأ في الاجتهاد ووجه إلى الأخذ بالأصوب منه فيما يستقبل من حوادث، لم يؤثر على شيء مما ناله من شرف القرب والرضا عليه من الله تعالى، مما يمكن أن يقال فيه: إنه مسح بيد الرحمة على القلب الطاهر الرحيم الذي جعله الله هدى للعالمين. وتظهر فائدة هذا البحث في بيان المراد من الخطاب بهذه الآيات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجلاء معناها في سياقها ردًا لبعض الشبه التي يتعلق بها أعداء الإسلام ومقلدوهم من المسلمين. كما تظهر فائدته -أيضاً- في تثبيت إيمان المؤمنين بمعرفتهم الصحيحة لمعاني هذه الآيات، وإظهار مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفاوة الله تعالى به في تربيته ومخاطباته فيما يعلمه الله إياه ليكون قدوة لأمته.

وأما فائدة هذا البحث الاجتماعية، فتظهر في توطيد إيمان المؤمنين وتقوية محبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفتهم بمكانته العليا، وتفتح باباً للدراسة في مثل هذه الموضوعات ليزداد يقين الموقنين وتزول شبه الملحدين والمشككين في هذا الدين القيم. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هداه إلى يوم الدين. وكان الفراغ من كتابة هذه الرسالة المباركة وتأليفها مساء يوم الجمعة لثلاث خلون من شهر جمادى الثاني من سنة ألف وثلاثمائة وسبع وتسعين من هجرة سيدنا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وذلك بمكة المكرمة، واسأله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا وجميع المسلمين، والحمد لله ربِّ العالمين. * * *

§1/1