آراء محمد رشيد رضا العقائدية في أشراط الساعة الكبرى وآثارها الفكرية

مشاري سعيد المطرفي

آراء محمد رشيد رضا العقائدية في أشراط الساعة الكبرى وآثارها الفكرية تأليف مشاري سعيد حميد المطرفي

المقدمة

المقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، ، ، فإن مما لاشك فيه أن العقيدة الإسلامية ليس لها سوى مصدرين، وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فما ثبت بهما قبلناه وآمنا وسلمنا به، وما خالفهما رددناه ولو كان قائله من كان، ودعونا له بالهداية والسداد. وإن مما ثبت بكتاب الله والسنة النبوية الصحيحة الصريحة المتواترة، أن هناك علامات وأشراطاً تسبق قيام الساعة، وإن من هذه العلامات والأشراط ما قد ظهر وانقضى، كبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وموته، وانشقاق القمر وغيره، وإن من هذه العلامات والأشراط ما قد ظهر ولا يزال يكثر، كأن ترى الحفاة الرعاة يتطاولون في البنيان، وكثرة الهرج والمرج، وانتشار الزنا، وكثرة النساء وغيرها. وإن من هذه العلامات والأشراط ما لم يظهر بعد، وإنها إذا ظهرت فإن الساعة قد اقترب قيامها مما لا ريب فيه، وهي ما يطلق عليه عند أهل العلم أشراط وعلامات الساعة الكبرى، ومنها «نزول عيسى ابن مريم، وخروج المسيح الدجال، وخروج المهدي المنتظر، وطلوع الشمس من مغربها».

مسوغات اختيار الموضوع

وقد ثبت صحة وقوع هذه الأشراط والعلامات في كتاب الله والسنة النبوية الصحيحة الصريحة المتواترة، وقد ذكر جمع من أهل العلم نقل الإجماع على صحة هذه الأخبار والآثار الواردة في أشراط الساعة الكبرى ووجوب الإيمان والتصديق بها. ولم يخالف في هذه المسألة إلا نزرٌ يسير من أهل العلم والفضل، ومنهم أصحاب المدرسة العقلية الحديثة، وعلى رأسهم الشيخ/ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار، وذلك بدعوى التعارض والتناقض فيما بينها، أو أن أحاديثها لا تصح، أو أنها مخالفة للسنن الكونية، وغيرها من الأمور التي سوف نتطرق لذكرها في ثنايا بحثنا هذا. وبعد استخارة الله ومشورة أهل العلم والفضل أحببت أن أجمع آراء الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره المنار حول أشراط الساعة الكبرى وآثارها الفكرية، وأبين ما لها وما عليها، وقد سميت بحثي بعنوان ((آراء محمد رشيد رضا العقائدية في أشراط الساعة الكبرى في تفسير المنار، وآثارها الفكرية)) دراسة عقدية. مسوغات اختيار الموضوع: هناك كثير من الأسباب والمسوغات التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع والكتابة فيه، ولعل من أهم هذه الأسباب والمسوغات ما يأتي: 1 - محاولة الرد على التساؤلات والشبهات التي تثار حول أشراط الساعة الكبرى وتحاول التشكيك فيها والطعن في إمكانية وقوعها. 2 - عدم وجود دراسة عقدية تحليلية موسعة حول آراء محمد رشيد

الدراسات السابقة

رضا في أشراط الساعة الكبرى في تفسير المنار وآثارها الفكرية. 3 - بيان خطورة رد الأحاديث الصحيحة لاسيما التي في كتابي البخاري ومسلم، واللذان هما أصح الكتب بعد القرآن وقد تلقتهما الأمة بالقبول بدعوى أنها تعارض القرآن (¬1) أو تعارض العقل (¬2) وغيرها من الأمور. 4 - بيان خطورة إنكار وقوع علامات وأشراط الساعة الكبرى لاسيما وأنها ثابتة بالكتاب والسنة الصحيحة الصريحة المتواترة بمجرد دعوى التعارض فيما بينها أو أنها خبر آحاد (¬3) 5 - بيان حقيقة المنهج العقلي الذي يتبعه أصحاب المدرسة العقلية الحديثة كمحمد رشيد رضا وغيره في تقرير مسائل العقيدة. الدراسات السابقة: هناك الكثير من الدراسات والبحوث التي تناولت دراسة آراء محمد رشيد رضا العقائدية ومنهجه العقدي وموقفه من بعض القضايا الكلامية، ولعل من أبرز هذه الدراسات: 1 - كتاب «الاتجاه العقدي في تفسير المنار» لأستاذنا الدكتور/ محمد ¬

(¬1) الصحيح أنه لا يوجد تعارض بين القرآن والسنة الصحيحة وهو ما سوف أبينه في البحث. (¬2) الصحيح أنه لا يوجد تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح، وهو ما سوف أبينه في البحث. (¬3) الصحيح أن خبر الآحاد يحتج به ويفيد العلم وهو ما سوف أبينه في البحث.

علي الزغول عميد كلية الشريعة السابق في جامعة آل البيت، وهو عبارة عن رسالة ماجستير نوقشت في الجامعة الأردنية في الأردن وهي مكونه من 440 صفحة تقريباً ذكر فيها التعريف بالشيخ رشيد رضا وجهوده الإصلاحية ومنهجه في تفسيره المنار، ومنهجه العقدي في آيات العقيدة، وموقفه من الملائكة والجن والخوارق والمعجزات، وموقفه من أشراط الساعة ومن البعث والحشر. وفي الحقيقة أن الباحث في هذه الرسالة بذل جهداً كبيراً في تتبع آراء محمد رشيد رضا العقدية وبيان ما لها وما عليها، ولكن مع عدم التوسع في الرد عليها لأن الهدف من الرسالة كما ذكرنا هو ذكر آرائه العقدية. 2 - كتاب (موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف دراسة تطبيقية على تفسير المنار) لشفيق عبد الله شقير، وهو عبارة عن رسالة ماجستير نوقشت في الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد في باكستان وهي مكونه من 430 صفحة تقريباً، تطرق في مبحث كامل من الدراسة عن موقف محمد رشيد رضا من أحاديث الاعتقاد، وذكر مثالاً لذلك موقفه من أحاديث أشراط الساعة الكبرى، وأحاديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها من الأحاديث، حيث كان يذكر آراء محمد رشيد رضا ويرد عليها ولكن بشكل مجمل وسريع، بحيث لم يستوعب جميع الشبه والتساؤلات والاعتراضات التي ذكرها الشيخ في تفسيره، لاسيما التي تختص بأشراط الساعة الكبرى والتي هي مدار بحثي، كذلك عند ذكر شبه وتساؤلات محمد رشيد رضا لم يتوسع في الرد عليها وتفنيد الشبه والاعتراضات والتساؤلات وتفنيد دعوى الشيخ بالتعارض فيما بينها،

وحشد الأدلة والبراهين والحجج على عدم صحة ما ذهب إليه، وذلك لأن الباحث ذكر هذا المبحث على سبيل المثال لا على سبيل دراسة هذا المبحث دراسة متكاملة من جميع الاتجاهات. 3 - كتاب «منهج محمد رشيد رضا في العقيدة» لتامر محمود متولي وهو عبارة عن رسالة ماجستير نوقشت في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وهي مكونة من 985 صفحة تقريباً ذكر فيها جملةً من آرائه العقدية في الأسماء والصفات، وفي توحيد الألوهية، وفي التوسل، وفي البدع، وفي القدر والملائكة والكتب والرسل والجن والشياطين، وفي عصمة الأنبياء وفي آيات الأنبياء وكرامات الأولياء والخوارق، واليوم الأخر، وفي الساعة وأشراطها مع بيان ما لها وما عليها، ولكن دون التطرق للآثار الفكرية لآرائه العقدية. وفي الحقيقة أن هذه الدراسة من أجمل ما كتب عن آراء محمد رشيد رضا العقدية، حيث ذكر المؤلف أنه أمضى أكثر من ثلاث سنوات في كتابة رسالته هذه. 4 - كتاب «منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير» لفهد بن عبد الرحمن الرومي، وهو عبارة عن رسالة ماجستير نوقشت في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض وهي أيضا مكونة من 800 صفحة تقريبا، تكلم فيها عن رجال المدرسة العقلية الحديثة ومنهجهم في التفسير، وموقفهم من بعض القضايا القرآنية كالوحي والقضاء والقدر والمعجزات وعقيدة البعث وأمارات الساعة، وأصل الإنسان والملائكة والجن، وغيرها

مشكلة الدراسة

دون التوسع في الرد على الآراء العقدية لأصحاب المدرسة العقلية الحديثة عموماً وعلى آراء محمد رشيد رضا في المنار خصوصاً في مسألة أشراط الساعة الكبرى. هذه أبرز الدراسات السابقة في آراء محمد رشيد رضا العقائدية، وفي الحقيقية لم أقف على دراسة تتناول آراء محمد رشيد رضا العقائدية في أشراط الساعة الكبرى بشكل موسع، مع بيان آثارها الفكرية سوى تلك الدراسات السابقة التي ذكرتها والتي لم تتوسع في الرد على استشكالات وتساؤلات رشيد رضا العقدية في رأيه في أشراط الساعة الكبرى، فضلا عن بيان آثارها الفكرية المترتبة على هذه الآراء. مشكلة الدراسة: تحاول هذه الدراسة الإجابة عن العديد من التساؤلات التي تخص موضوع البحث ومن أهمها: 1 - ما سيره محمد رشيد رضا؟ 2 - ما جهوده الإصلاحية؟ 3 - ما عقيدته بشكل عام؟ 4 - ما عقيدته في أشراط الساعة الكبرى؟ 5 - ما منهجه في التفسير؟ 6 - بم استدل رشيد رضا على آرائه في أشراط الساعة الكبرى؟ 7 - ما الرد على استدلالاته واستشكالاته تجاه أشراط الساعة الكبرى؟

حدود الدراسة

8 - ما الآثار الفكرية المترتبة على آراء محمد رشيد رضا في أشراط الساعة الكبرى؟ حدود الدراسة: حدود دراستي في هذا البحث هو استعراض آراء الشيخ محمد رشيد رضا في مسائل الاعتقاد، وتحديداً في مسألة أشراط وعلامات الساعة الكبرى في تفسيره المسمى بتفسير المنار، وهي «خروج المسيح الدجال - وخروج المهدي - ونزول عيسى بن مريم عليه السلام - وطلوع الشمس من مغربها»، والرد عليها، وإثبات ما لها وما عليها، وبيان آثارها الفكرية. منهج الدراسة: يقوم منهج البحث في هذه الدراسة على ما يلي: 1 - استقراء آراء محمد رشيد رضا في أشراط الساعة الكبرى من خلال تفسيره المنار، وبما استدل به على آرائه. 2 - استقراء الأقوال المخالفة لآراء محمد رشيد رضا في أشراط الساعة الكبرى، وبما استدلوا على آرائهم فيها ذهبوا إليه. 3 - بيان ما توصلت إليه من نتائج تجاه أشراط الساعة الكبرى، مع الرد على أدلة القول الذي أخالفه مستنداً في ذلك إلى كتاب الله والسنة النبوية الصحيحة، وأقوال أهل العلم الثقات المشهود لهم بالعلم والصلاح والبعد عن الهوى والتعصب. وقد اعتمدت في بحثي هذا على ثلاثة مناهج:

أولا: المنهج الاستقرائي

أولا: المنهج الاستقرائي: ويكون بتتبع الموضوع واستقرائه في مظانه وجمع المعلومات المتعلقة به، سواء فيما ذكره رشيد رضا في تفسيره أو ما ذكره المخالفون له في كتبهم. ثانيا: المنهج الاستدلالي: ويكون بالتدليل على كل ما أطرحه من أفكار أو آراء بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة أو بأقوال أهل العلم الثقات. ثالثا: المنهج التحليلي: ويكون بتحليل ودراسة آراء رشيد رضا والأدلة التي استند عليها للرد عليها وبيان ما لها وما عليها. متممات المنهج: الحرص على الآتي: 1 - إثبات النصوص القرآنية مضبوطة بالشكل وبالرسم الإملائي الحديث مع بيان مواضعه في القرآن الكريم. 2 - تخريج الأحاديث النبوية وفق أسس التخريج الفني المعمول بها في كليات الشريعة. 3 - عزو الأقوال والآثار إلى مظانها في الكتب. 4 - شرح المفردات الغريبة في البحث. 5 - التعريف الموجز بالأعلام الذين يتم ذكرهم عدا المشهورين منهم. 6 - التعريف بالفرق التي يتم ذكرها تعريفاً موجزاً.

خطة البحث: يشمل هذا البحث على مقدمة، وفصل تمهيدي، وأربعة فصول أخرى، وخاتمة. أما المقدمة، فتشمل على أهمية هذه الرسالة، وأسباب اختيارها، والدراسات السابقة، ومشكلة الدراسة وحدودها، والمنهج المتبع فيها، وخطتها. وأما الفصل التمهيدي، فيشمل على عدة مباحث: المبحث الأول: ذكرت فيه معنى أشراط الساعة في اللغة والاصطلاح. المبحث الثاني: ذكرت فيه الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على أن الساعة واقعةٌ لا محالة. المبحث الثالث: ذكرت فيه الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة على أن قيام الساعة قريب. المبحث الرابع: تحدثت فيه على أقسام أشراط الساعة، والذي هو في الحقيقة تقسيم اجتهادي. المبحث الخامس: تحدثت فيه عن حجية خبر الآحاد في العقائد. المبحث السادس: وتحدثت فيه عن العقل والنقل والعلاقة بينهما وما عليه أهل السنة والجماعة. أما الفصل الأول، ذكرت فيه نبذة عن محمد رشيد رضا، ويشمل عدة مباحث:

المبحث الأول: نسبه ومولده. المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم. المبحث الثالث: بداية تحوله. المبحث الرابع: هجرته إلى مصر. المبحث الخامس: مجلة المنار. المبحث السادس: جهوده الإصلاحية. المبحث السابع: مذهبه. المبحث الثامن: عقيدته. المبحث التاسع: وفاته. المبحث العاشر: آثاره ومؤلفاته. أما الفصل الثاني، ذكرت فيه نبذة عن تفسيره المنار، ويشتمل على عدة مباحث: المبحث الأول: تعريف بتفسير المنار. المبحث الثاني: منهجه في التفسير. المبحث الثالث: طريقته في التفسير. المبحث الرابع: خصائص تفسير المنار. المبحث الخامس: منهجه العقدي في التفسير. المبحث السادس: المآخذ التي على التفسير.

أما الفصل الثالث، تحدثت فيه عن آرائه العقدية في أشراط الساعة الكبرى، والرد عليها، ويشمل على عدة مباحث. المبحث الأول: رأيه في أشراط الساعة بشكل مجمل، والرد عليه. المبحث الثاني: رأيه في خروج المسيح الدجال، والرد عليه وتضمن هذا المبحث عدة مسائل منها: معنى المسيح. معنى الدجال. الأحاديث الواردة في خروج المسيح الدجال. تواتر أحاديث المسيح الدجال. الأحاديث الواردة في بيان صفته. الحكمة من عدم ذكره بالقرآن؟ موقف رشيد رضا من أحاديث المسيح الدجال. الرد على ما ذكره من استشكالات وتساؤلات. هل هناك تناقض بين حديث الجساسة وحديث ابن عمر؟ رأي رشيد رضا في حديث الجساسة، والرد عليه. خاتمة رأي رشيد رضا بأحاديث الدجال، والرد عليه. خلاصة القول في المسيح الدجال. المبحث الثاني: رأيه في المهدي، والرد عليه وتضمن هذا المبحث عدة مسائل مهمة منها:

معنى المهدي. الأحاديث الواردة فيه. تواتر الأحاديث الواردة في ظهور المهدي. اسمه ونسبه. الحكمة من كونه من نسل الحسن. صفته. سبب ظهوره. مكان خروجه. بيان حال حديث «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» رأي رشيد رضا في أحاديث المهدي. الرد على ما ذكره من استشكالات وتساؤلات. المبحث الرابع، رأيه في نزول عيسى بن مريم عليه السلام، والرد عليه وتضمن هذا المبحث عدة مسائل منها: معنى المسيح. عقيدة أهل السنة والجماعة بعيسى بن مريم. أدلة نزوله من القرآن. أدلة نزوله من السنة. تواتر الأحاديث في نزول عيسى ابن مريم عليه السلام.

هل رفع ببدنه وروحه أم بروحه؟ مدة بقائه بعد نزوله. رأي رشيد رضا في نزول عيسى بن مريم عليه السلام. الرد على استشكالاته وتساؤلاته. خاتمة المبحث. المبحث الخامس، رأيه في طلوع الشمس من مغربها، والرد عليه وتضمن هذا المبحث عدة مسائل منها: أدلة طلوع الشمس من مغربها من القرآن. أدلة طلوع الشمس من مغربها من السنة. تواتر الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها. التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها. رأي رشيد رضا في طلوع الشمس من مغربها. الرد على استشكالاته وتساؤلاته. الفصل الرابع، وذكرت فيه الآثار الفكرية لآراء رشيد رضا وتضمن ستة مباحث: المبحث الأول: الطعن في السنن النبوية. المبحث الثاني: الطعن في الصحيحين. المبحث الثالث: تشكيك المسلمين في عقائدهم.

المبحث الرابع: إحياء تراث المعتزلة. المبحث الخامس: إيجاد نوع من الجرأة على الثوابت الإسلامية. المبحث السادس: خدمة أغراض المستشرقين. وفي نهاية البحث ذكرت الخاتمة وما توصلت إليه في بحثي هذا، ثم المراجع والفهارس.

الفصل التمهيدي

الفصل التمهيدي ويتضمن المباحث التالية: المبحث الأول: معنى أشراط الساعة. المبحث الثاني: أدلة وقوعها. المبحث الثالث: قرب قيام الساعة. المبحث الرابع: أقسام أشراط الساعة. المبحث الخامس: حجية خبر الآحاد في الاعتقاد. المبحث السادس: حجية العقل والنقل.

المبحث الأول معنى أشراط الساعة

المبحث الأول معنى أشراط الساعة معنى الشرط: الشرَطُ هو العلامة، وجمعه أشراط. وأشراط الساعة أي علامتها، فهي العلامة التي تدل على قرب قيام الساعة. (¬1) معنى الساعة: معنى الساعة في اللغة: هي جزء من أجزاء الليل والنهار، جمعها ساعات. وجزء من أربعة وعشرين جزءاً من الليل والنهار. والليل والنهار معاً أربعةٌ وعشرون ساعة. (¬2) معنى الساعة في الاصطلاح الشرعي: المراد بالساعة في اصطلاح الشرع، هو الوقت الذي تقوم فيه القيامة ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر، (2/ 460) للعلامة مجد الدين المبارك بن الأثير الجزري، دار الفكر، الطبعة الثانية 1399 هـ. - لسان العرب (7/ 329، 330) لأبي الفضل ابن منظور، دار صادر، بيروت. (¬2) المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية ص 328.

فأشراط الساعة

وسميت بذلك لأنها تفاجئ الناس في ساعة، فيموت الخلق كلهم بصيحة واحدة. (¬1) والقيامة هي اليوم الذي يخرج فيه الناس من قبورهم بأمر ربهم ليحاسبوا فينعم محسنهم، ويعذب مسيئهم. وهذا اليوم ذكر بأكثر من اسم في القرآن الكريم منها (يوم القيامة، يوم البعث، يوم الحساب، يوم الدين، الطامة، الحاقة، الواقعة، الصاخة، الغاشية ... ). (¬2) فأشراط الساعة: هي علامات القيامة التي تسبقها وتدل عليها. (¬3) ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث لأبن الأثير (2/ 460). (¬2) ذكر ابن كثير ليوم القيامة أكثر من ثمانين اسما، انظر (النهاية في الفتن والملاحم) تحقيق د. طه زيني (1/ 255). (¬3) لسان العرب (7/ 329)، والنهاية في غريب الحديث (2/ 460).

المبحث الثاني أدلة وقوعها

المبحث الثاني أدلة وقوعها وردت الكثير من النصوص الشرعية سواء في القرآن الكريم أو في السنة النبوية ما يدل على أن الساعة واقعة لا محالة، ومن هذه النصوص. قوله تعالى {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}. (¬1) وقوله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. (¬2) وقوله تعالى {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)}. (¬3) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها. (¬4) ¬

(¬1) الحج 7. (¬2) القمر 1. (¬3) طه 15 - 16. (¬4) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب بعثت أنا والساعة كهاتين، دار ابن كثير، بيروت، الطبعة الثالثة، 1400 هـ (5/ 2385)، رقم (6138)، تحقيق مصطفى ديب البغا، ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب قرب قيام الساعة، دار أحياء التراث العربي، بيروت، (4/ 2268)، رقم (2951)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

فالنصوص الشرعية واضحة وصريحة في أن الساعة واقعة بلا ريب، بل إن وقوعها قريب كما بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق.

المبحث الثالث قرب قيام الساعة

المبحث الثالث قرب قيام الساعة لقد دلت النصوص الشرعية من القرآن والسنة على أن الساعة واقعة لا محالة، كما ذكرت في المبحث السابق، وكذلك دلت النصوص الشرعية على أن قيام الساعة قريب، وعلى أننا في آخر أيام الدنيا. فمما يدل على قرب وقوعها من القرآن: 1 - قوله تعالى {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)}. (¬1) 2 - وقوله تعالى {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)}. (¬2) 3 - وقوله تعالى {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}. (¬3) 4 - وقوله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. (¬4) ومما يدل على قرب وقوعها من السنة: ¬

(¬1) الأنبياء 1. (¬2) الأحزاب 63 (¬3) المعارج 6 - 7. (¬4) القمر 1.

1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها. (¬1) 2 - وقوله - صلى الله عليه وسلم - «بعثت أنا والساعة جميعا، إن كادت لتسبقني». (¬2) - إشارة إلى شدة قربها من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى خشي سبقها له لعظم القرب بينهما. 3 - وقال - صلى الله عليه وسلم - «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر، ومغرب الشمس». (¬3) 4 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال، كنا جلوسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والشمس على قعيقعان (¬4) بعد العصر فقال «ما أعماركم في أعمار من مضي إلا كما بقي من النهار، وفيما مضى منه». (¬5) ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب «بعثت أنا والساعة كهاتين»، (5/ 2385)، رقم (6138)، ورواه مسلم، كتاب الفتن، باب قرب قيام الساعة، (4/ 2268). (¬2) مسند أحمد (5/ 348) تحقيق أحمد شاكر، طبعة دار المعارف، مصر 1365 هـ قال ابن حجر: «أخرجه أحمد والطبري وسنده حسن» فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد ابن علي ابن حجر العسقلاني (11/ 348) تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز نشر إدارة البحوث العلمية والإفتاء. (¬3) رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (2/ 1274)، رقم (3272). (¬4) قعيقعان، بضم القاف الأولى وكسر الثانية بلفظ التصغير وهو جبل بمكة في جنوبها، النهاية لابن الأثير (4/ 88). (¬5) مسند أحمد (8/ 176) تحقيق أحمد شاكر، وقال: «إسناده صحيح»، وقال ابن حجر: حسن «فتح الباري»، (11/ 350).

فهذه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة تدل دلالة قطعية على قرب قيام الساعة من زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما بالك في قرب قيامها من زمننا هذا بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرناً على بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي وقع فيه كثير من أشراط الساعة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق إلا أشراط الساعة الكبرى كما يسميها أهل العلم ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولكن لابد من القول أنه لا يعلم مقدار ما بقي على قيام الساعة إلا الله، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء في هذا الباب، ثم إننا غير مأمورين شرعاً بمعرفة وقت وقوعها، بل نحن مأمورون بالاستعداد والعمل لها بالتقرب إلى الله بالطاعات وترك المنكرات والاستعداد ليوم الرحيل عن هذه الدنيا الفانية، والإنسان العاقل يعلم حق العلم أن الإنسان إذا مات فقد قامت قيامته.

المبحث الرابع أقسام أشراط الساعة

المبحث الرابع أقسام أشراط الساعة إن ليوم القيامة ووقوع الساعة علامات وأشراطاً تدل على قرب وقوعها، وتنقسم هذه الأشراط إلى قسمين وهي كالآتي: القسم الأول: أشراط الساعة الصغرى: وهي العلامات والأمارات والأشراط التي تكون قبل قيام الساعة بأزمان متطاولة، وتكون من نوع المعتاد، كقبض العلم، وانتشار الجهل، (¬1) وتضييع الأمانة، (¬2) والتطاول في البنيان (¬3) ونحوها. وقد يظهر بعضها مصاحبا للأشراط الكبرى، أو بعدها. القسم الثاني: أشراط الساعة الكبرى: وهي العلامات والأمارات والأشراط التي تظهر قرب قيام الساعة، ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب العلم، باب رفع العلم وظهور الجهل (1/ 43)، رقم (80)، وصحيح مسلم - كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضة وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (4/ 2056)، رقم (2671). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة (5/ 2382)، رقم (6131). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (1/ 36)، رقم (8).

وتكون غير معتادة الوقوع، كظهور الدجال، (¬1) ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، (¬2) وخروج يأجوج ومأجوج، (¬3) وطلوع الشمس من مغربها. (¬4) وقسم بعض أهل العلم أشراط الساعة إلى ثلاثة أقسام: (¬5) 1 - قسم ظهر وانقضى، كبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (¬6) وموته (¬7) وفتح بيت المقدس (¬8). 2 - قسم ظهر ولا يزال، كانتشار الزنا (¬9) والربا (¬10) وكثرة شرب ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الفتن باب الآيات التي تكون قبل قيام الساعة (4/ 2225)، رقم (2901). (¬2) نفس المصدر السابق. (¬3) نفس المصدر السابق. (¬4) نفس المصدر السابق. (¬5) أنظر فتح الباري (13/ 83، 84)، و» لوامع الأنوار البهية ومواضع الأسرار الأثرية (2/ 66)، «للعلامة محمد بن أحمد السفاريني، تعليق الشيخ عبد الله بن عبدالرحمن أبا بطين والشيخ سليمان بن سحمان، منشورات مؤسسة الخافقين، دمشق، الطبعة الثانية 1402 هـ. (¬6) صحيح البخاري، كتاب الرقاق - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «بعثت أنا والساعة كهاتين» (5/ 2385)، رقم (6138). (¬7) صحيح البخاري - كتاب الجزية والموادعة - باب ما يحذر من الغدر (3/ 1159)، رقم (3005). (¬8) نفس المصدر السابق. (¬9) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب رفع العلم وظهور الجهل (1/ 43)، رقم (81). (¬10) رواه الطبراني كما في «الترغيب والترهيب للمنذري» (3/ 9)، وقال «رواته رواة الصحيح».

الخمر (¬1) وقلة الرجال وكثرة النساء (¬2). 3 - قسم لم يظهر حتى الآن، كخروج الدجال (¬3) وطلوع الشمس من مغربها، (¬4) ونزول عيسى بن مريم عليه السلام (¬5). - فأما القسمان الأولان فهما من أشراط الساعة الصغرى. - وأما القسم الثالث، فهو من الأشراط الكبرى. ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب العلم - باب رفع العلم وظهور الجهل (4/ 2056)، رقم (2671). (¬2) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب رفع العلم وظهور الجهل (1/ 43)، رقم (81). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب في الآيات التي تكون قبل قيام الساعة (4/ 2225)، رقم (2901). (¬4) نفس المصدر. (¬5) نفس المصدر.

المبحث الخامس حجية خبر الآحاد في العقائد

المبحث الخامس حجية خبر الآحاد في العقائد سبب ذكر هذا المبحث، هو أن له صلة وثيقة بموضوع أشراط الساعة، وذلك لأن أكثر الأشراط جاء ذكرها في أحاديث آحاد. (¬1) وقد ذهب بعض علماء الكلام قديماً، (¬2) وبعض الأصوليين، (¬3) وتابعهم ¬

(¬1) ينقسم الخبر باعتبار وصوله إلينا إلى متواتر وآحاد: المتواتر: هو ما رواه جمع من العدول الثقات عن جمع من العدول الثقات حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الآحاد: هو ما لم يجمع شروط المتواتر. انظر «تيسير مصطلح الحديث» للدكتور محمود الطحان، مكتبة الهداية - العراق - أربيل 18 - 21. وكتاب «قواعد التحديث» للعلامة جمال الدين القاسمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ، ص 146. (¬2) كالمعتزلة وبعض الأشاعره والماتريدية، انظر كتاب «موقف المعتزلة من السنة» لأبي لبابه حسين، وكتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي تحقيق محي الدين عبد الحميد ص 180. (¬3) كإمام الحرمين في «البرهان» و» الورقات» والغزالي في «المستصفى» وابن الأثير في «مقدمة جامع الأصول» وابن الحاجب في «منتهى الوصول» وابن السبكي في «جمع الجوامع». - وردت نصوص هؤلاء وغيرهم في كتاب «السيف الحاد في الرد على من أخذ بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد» لسعيد ابن مبروك القنوبي، الطبعة الثالثة، مطابع النهضة، عُمان، 1418 هـ، ص 61 - 78.

توضيح شبهة هؤلاء

أصحاب المدرسة العقلية الحديثة (¬1)، إلى أن خبر الآحاد لا تثبت به عقيدة وإنما تثبت بالنص القطعي الثبوت (¬2)، وإذا لم يكن النص قطعي الثبوت، فإنه لا يجوز الاحتجاج به عندهم. توضيح شبهة هؤلاء: سبب رد بعض علماء أهل الكلام وبعض الأصوليين لحديث الآحاد، وعدم قبولهم به في العقائد ولو كان صحيحا هو قولهم أن أدلة العقائد لابد أن تفيد اليقين، وأحاديث الآحاد لا تفيد اليقين بل هي ظنية، والظن لا يجوز أن يحتج به في العقائد. لقوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}. (¬3) ولقوله تعالى {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)}. (¬4) ونحو ذلك من الآيات التي يذم الله فيها المشركين لإتباعهم الظن، فدل ذلك على عدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد لأنها تفيد الظن ولا تفيد اليقين، والظن قد ذمه الله تعالى في كتابه. ¬

(¬1) كمحمد عبده في «رسالة التوحيد»، ص 202، تصحيح محمد رشيد رضا، ومحمود شلتوت في «الإسلام عقيدة وشريعة»، ص 53، والدكتور أحمد شلبي في «المسيحية، مقارنة الأديان»، ص 44، وعبد الكريم عثمان في كتاب «قاضي القضاة عبد الجبار الهمداني»، ص 88، «وهناك أيضا كثيرون يسيرون على نهج المدرسة العقلية الحديثة مثل محمد عماره وفهمي هويدي وخالد محمد خالد ومحمد سليم العوا وغيرهم. (¬2) يعنون بالقطعي الثبوت، القرآن والحديث المتواتر. (¬3) النجم 23. (¬4) النجم 28.

الرد على شبهتهم

الرد على شبهتهم: مما لا شك فيه أن احتجاج القائلين بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد، بهذه الآيات وأمثالها التي تذم الظن وأهله، مردود وغير صحيح. وذلك من عدة وجوه: أولا: إن الظن الوارد في الآية ليس المقصود به الظن الراجح أو الغالب الذي عنوه «وإنما المقصود به هو الشك والكذب والخرص والتخمين، فقد جاء في «النهاية» و «اللسان» وغيرهما من كتب اللغة»: «الظن» هو الشك يعرض لك في شيء، فتحققه وتحكم به. (¬1) قال ابن كثير في تفسير هذه الآية {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} (¬2) (أي ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} أي لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»). (¬3) (¬4) فالشك والكذب هو الظن الذي ذمه الله تعالى في كتابه، ونعاه ¬

(¬1) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر «3/ 162 - 163». (¬2) النجم 28. (¬3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس (4/ 1985)، رقم (2563). (¬4) تفسير القرآن العظيم للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير (7/ 434) تحقيق عبد العزيز غنيم وزميليه، مطبعة الشعب، القاهرة.

على المشركين، ويؤيد ذلك قوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)}. (¬1) فوصفهم بالظن والخرص الذي هو مجرد الحزر والتخمين. (¬2) ثانيا: لو كان الظن المنعي به على المشركين هو الظن الغالب أو الراجح، فإنه لا يجوز الأخذ به في الأحكام أيضاً، لأن الله أنكر على المشركين الأخذ بالظن إنكاراً مطلقاً، ولم يخصه بالعقيدة دون الأحكام، فكيف تقبلونه في الأحكام وتردونه في العقائد. ثالثا: أما قولهم إن أحاديث الآحاد في العقائد لا تفيد اليقين ولو كانت صحيحة السند، فهو غير صحيح فحديث الآحاد إذا ثبتت صحته برواية الثقات، ووصل إلينا بطريق صحيح، فإنه يجب الإيمان به وتصديقه، سواء كان في العقائد أو الأحكام، وإنه يوجب العلم اليقيني. وهذا هو مذهب سلف الأمة وأئمتها، استجابة لأمر الله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. (¬3) وقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ ¬

(¬1) الأنعام 116. (¬2) انظر «العقيدة في الله» 59 - 61 للدكتور عمر سليمان الأشقر، طبع دار النفانس - الأردن - عمان - الطبعة الخامسة عشر، وكتاب «أشراط الساعة» يوسف الوابل، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 35. (¬3) الحشر 7.

النصوص الدالة على قبول خبر الواحد

لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. (¬1) ثم إنه ليس هناك دليل يصح الاعتماد عليه في أن الحديث المتواتر يفيد اليقين والحديث الآحاد لا يفيد اليقين، فالأدلة الشرعية لم تفرق بين المتواتر والآحاد من حيث الحجية، بل إن التفريق بينهما في الحجية قولٌ مبتدع لم يعرفه سلف الأمة من أصحاب القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية. (¬2) النصوص الدالة على قبول خبر الواحد: وردت نصوص كثيرة تدل على وجوب قبول خبر الواحد والاحتجاج به، سواء في العقائد أو الأحكام. أدلة الكتاب: وهي كثيرة أذكر منها: 1 - قال تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}. (¬3) - فهذه الآية فيها حث للقبائل والعشائر وأهل النواحي والأقطار المختلفة من المؤمنين على أن ينفر من كل منهم طائفة ليتفقهوا في دينهم، ثم يرجعوا إلى قومهم فينذرونهم. ¬

(¬1) الأحزاب 36. (¬2) انظر أشراط الساعة ليوسف الوابل، ص 36. (¬3) التوبة 122.

- والطائفة في لغة العرب، تطلق على الواحد، فما فوق. - قال البخاري: ويسمى الرجل طائفة، لقوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬1) فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية. (¬2) - والتفقه في الدين يشمل العقائد والأحكام، بل التفقه في العقائد أهم من التفقه في الأحكام، فالإمام أبو حنيفة لما ألف كتابا في العقائد سماه «الفقه الأكبر». - ففي الآية دليل صريح على وجوب الأخذ بخبر الواحد، سواء في العقائد أو الأحكام وإلا لما جاز للطائفة أن تنذر قومها. (¬3) 2 - قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}. (¬4) - وفي قراءة أخرى «فتثبتوا». (¬5) - فإنها تدل على أن من لم يكن فاسقا بأن كان عدلا إذا جاء بخبر ما فالحجة قائمة به، وأنه لا يجب التثبت بل يؤخذ حالا. (¬6) ¬

(¬1) الحجرات 9. (¬2) صحيح البخاري - كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق (6/ 2646). (¬3) انظر العقيدة في الله، الأشقر 64. (¬4) الحجرات 6 (¬5) فتح القدير، للعلامة محمد ابن علي الشوكاني، دار الفكر، الناشر محفوظ علي، بيروت، الطبعة الثالثة 1393 هـ. (¬6) «العقيدة في الله» عمر الأشقر ص 64.

أدلة من السنة

3 - قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ}. (¬1) - قال ابن القيم: «أجمع المسلمون أن الرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى سنته بعد مماته، واتفقوا على أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته، فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علماً، ولا يقيناً لم يكن للرد إليه وجه». (¬2) أدلة من السنة: وأدلة السنة كثيرة وأذكر منها: 1 - ما ثبت في البخاري ومسلم أيضا، أن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة والإسلام، قال، فأخذ بيد أبي عبيدة فقال «هذا أمين هذه الأمة». (¬3) - فلو لم تقم الحجة بخبر الواحد لم يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة وحده، وكذلك يقال في إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري في بلاد مختلفة ونوبات مختلفة واحدا بعد واحد. ¬

(¬1) النساء 59. (¬2) «مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» للإمام ابن القيم (2/ 352) اختصره الشيخ محمد الموصلي - الناشر مكتبة الرياض الحديثة - الرياض. (¬3) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح (4/ 1881)، رقم (2419)، والذي في البخاري أنه أرسله إلى أهل نجران - كتاب التمني - باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق (6/ 2649)، رقم (6827).

وأحاديثهم في الصحيحين وفي غيرهما. - ولا ريب أن هؤلاء كانوا يعلمون العقائد في جملة ما يعلمون، فلو لم تكن الحجة قائمة بهم عليهم لم يبعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرادا. (¬1) - قال الشافعي رحمه الله في كتابه «الرسالة»: «وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». (¬2) 2 - روى البخاري في صحيحة عن مالك بن الحويرث قال «أتينا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوما، وكان رسول الله رحيماً رقيقاً، فلما ظن أنَّا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال «أرجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي». (¬3) - ففي هذا الحديث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحد من هؤلاء الشباب أن يعلم أهله، والتعليم يعم العقيدة، بل هي أول ما يدخل في العموم، فلو لم يكن خبر الآحاد مما تقوم به العقيدة لم يكن لهذا الأمر معنى. (¬4) 3 - ما روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال «بينا ¬

(¬1) العقيدة في الله، عمر الأشقر 65. (¬2) كتاب «الرسالة» للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر مطابع المختار الإسلامي، دار السلام، الناشر مكتبة التراث، القاهرة، ط 2، 1399 هـ، ص 412. (¬3) صحيح البخاري - كتاب التمني - باب ما جاء في إجازة خير الواحد الصدوق (6/ 2649)، رقم (2419). (¬4) «العقيدة في الله» عمر الأشقر ص 65.

الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم أتٍ. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة». (¬1) - فلو لم يكن خبر الواحد يفيد اليقين لما أخذ أهل قباء بخبر الواحد. - قال ابن حجر: «والحجة منه بالعمل بخبر الواحد ظاهرة، لأن الصحابة الذين كانوا يصلون إلى جهة بيت المقدس تحولوا عنه بخبر الذي قال لهم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستقبل الكعبة، فصدقوا خبره وعملوا به في تحولهم عن جهة بيت المقدس وهي شامية إلى جهة الكعبة وهي يمانية على العكس من التي قبلها». (¬2) 4 - وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «نضر الله أمرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلّغٍ أوعى من سامع». (¬3) «وهذا أيضا لا يقتصر على أحاديث الأعمال دون غيرها، بل هو عام متناول لأحاديث الأعمال والأحكام الاعتقادية، فلو لم يكن الإيمان بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من عقائد بأخبار الآحاد واجباً، لما كان لهذا الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ حديثه مطلقا معنى، بل لبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك مقصور على أحاديث ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب التمني - باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق (6/ 2649)، رقم (2419). (¬2) فتح الباري (13/ 237). (¬3) رواه الترمذي وقال حديث «حسن» صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6764، طبعة المكتب الإسلامي.

العقائد التي تثبت بأحاديث الآحاد

الأعمال دون غيرها». (¬1) 5 - عن أنس بن مالك قال: «كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأُبي بن كعب شراباً من فضيخ وتمر، فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجراء فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت». (¬2) قال الشافعي: «وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتَقَدمُّ صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه فجاءهم آتٍ وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة، وهو مالك الجراء - بكسر الجراء ولم يقل هو ولا هم ولا واحد منهم، نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة، وذلك أنهم لا يهرقون حلالا، وإهراقه سرف وليسو من أهله والحال في أنهم لا يدعون إخبار رسول الله ما فعلوا، ولا يدع لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم أن ينهاهم عن قبوله». (¬3) العقائد التي تثبت بأحاديث الآحاد: ثم إنه من مساوئ هذا القول المحدث، هو رد المئات من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوى أنها آحاد منها: ¬

(¬1) أشراط الساعة، يوسف الوابل 43. (¬2) صحيح البخاري - كتاب التمني - باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق (6/ 2649)، رقم (2419). (¬3) كتاب «الرسالة» للشافعي تحقيق أحمد شاكر ص 401.

1 - القول بنبوة آدم عليه السلام، وغيره من الأنبياء الذين لم ينص القرآن على نبوتهم. 2 - أفضلية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأنبياء والمرسلين. 4 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم - العظمى في المحشر. 5 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته. 6 - معجزاته كلها ما عدا القرآن. 7 - كيفية بدء الخلق، وصفة الملائكة والجن، وصفة الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان، وأن الحجر الأسود من الجنة. 8 - سؤال منكر ونكير في القبر. 9 - الإيمان بعذاب القبر. 10 - ضغطة القبر للميت. 11 - الصراط - الحوض - والميزان ذو الكفتين. 12 - الإيمان بحوضه - صلى الله عليه وسلم -، وأن من شرب منه شربه لا يظمأ بعدها أبدا. 13 - دخول سبعين ألفا من أمته - صلى الله عليه وسلم - الجنة بغير حساب. 14 - خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - التي جمعها السيوطي في كتاب «الخصائص الكبرى» مثل دخول الجنة ورؤية أهلها، وما أعد للمتقين فيها، وإسلام قرينه من الجن. 15 - القطع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة. 16 - عدم تخليد أهل الكبائر في النار. 17 - الإيمان بالقلم الذي كتب كل شيء.

خاتمة هذا المبحث

18 - الإيمان بأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. 19 - الإيمان بكل ما صح في الحديث في صفة القيامة والحشر والنشر مما لم يرد في القرآن الكريم. 20 - الإيمان بمجموع أشراط الساعة، كخروج المهدي، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج الدجال، وخروج النار، وطلوع الشمس من مغربها والدابة وغير ذلك. ثم إنه ليست أدلة جميع هذه العقائد التي قالوا هي ثابتة بخبر الآحاد، ليست أدلتها أحاديث آحاد، بل منها ما دليله أحاديث متواترة، ولكن قلة علم هؤلاء المنكرين لحجية خبر الآحاد، وقلة بضاعتهم في علم الحديث جعلهم يردون كل هذه العقائد، وغيرها من العقائد، التي جاءت بها الأحاديث الصحيحة. (¬1) خاتمة هذا المبحث: يتضح مما سبق، أن القول بأن أحاديث الآحاد لا تثبت بها عقيدة، قولٌ مبتدع محدث لا أصل له في الدين، وكل ما كان كذلك فهو مردود. والصواب القول، بأن الحديث إذا ثبتت صحته برواية الثقات ووصل إلينا بطريق صحيح، فإنه يجب الإيمان به وتصديقه، سواء كان خبرا متواترا، أو آحادا، وأنه يوجب العلم اليقيني، وهذا هو مذهب علماء سلف الأمة، انطلاقا من أمر الله تعالى للمؤمنين بقوله {وَمَا ¬

(¬1) انظر رسالة «وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة» للشيخ محمد ناصر الدين اللألباني، دار العلم، بنها، مصر، ص 36 - 39 وكتاب «العقيدة في الله» عمر الأشقر، ص 54 - 55.

كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. (¬1) ولقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}. (¬2) ولقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. (¬3) فأهل السنة يقبلون أحاديث الآحاد الصحيحة في العقائد والأحكام من غير تفريق في ذلك، يدلك على هذا تخريج أئمة أهل السنة كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داوود والترمذي والنسائي والدارمي وغيرهم للأحاديث المثبتة للعقائد في مدوناتهم والمتواتر منها قليل، ولو لم يرتضوا الاستدلال بها لما أتعبوا أنفسهم في روايتها وضبطها وتدوينها، ومن قال عنهم خلاف ذلك فقد افترى عليهم. (¬4) قال ابن حجر: «قد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد، من غير نكير، فاقتضى الاتفاق منهم على القبول». (¬5) وقال ابن أبي العز الحنفي: «خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، عملا به، وتصديق له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع». (¬6) ¬

(¬1) الأحزاب 36. (¬2) النور 63. (¬3) الحشر 7. (¬4) العقيدة في الله، عمر الأشقر 63. (¬5) «فتح الباري» (13/ 234). (¬6) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز الحنفي 399 - 400، طبع المكتب الإسلامي، خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني، ط الرابعة بيروت.

وقال الشافعي: «متى رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا صحيحا فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب». (¬1) وقال الإمام أحمد: «كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد، أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودفعناه، ورددناه، رددنا على الله أمره، قال الله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. (¬2) (¬3) قال ابن تيمية: «السنة إذ ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب إتباعها». (¬4) وقال ابن القيم في رده على من ينكر حجية خبر الواحد: «ومن هذا إخبار الصحابة بعضهم بعضا؛ فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصفات؛ تلقاه بالقبول، واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين؛ كما اعتقد رؤية الرب، وتكليمه، ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب، ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة، وضحكه، ¬

(¬1) «مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» لأبن قيم الجوزية، اختصره محمد الموصلي، الناشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض (2/ 350). (¬2) الحشر 7. (¬3) «اتحاف الجماعة» للشيخ محمود التويجري، طبع مطابع الرياني، ط الأولى 1394 هـ (1/ 4). (¬4) «مجموع الفتاوي» لابن تيمية (19/ 85)، جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، مطابع الدار العربية - بيروت، 1398 هـ.

وفرحه، وإمساك السماوات على إصبع من أصابع يده، وإثبات القدم له، من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق، ولم يرتب فيها، حتى إنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام .. ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة، بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها، وتصديقها، والجزم بمقتضاها، وإثبات الصفات بها، من المخبر لهم بها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن له أدنى إلمام بالنسبة والتفات إليها؛ يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر في ذلك، لذكرنا أكثر من مائة موضع، فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة، وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا به المعتزلة، والجهمية، والرافضة، والخوارج، الذين انتهكوا هذه الحرمة، وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك، بل صرح الأئمة بخلاف قولهم؛ ممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم: مالك، والشافعي، وأصحاب أبي حنيفة، وداود بن علي، وأصحابه كأبي محمد بن حزم». (¬1) (¬2) ¬

(¬1) «مختصر الصواعق» (2/ 361 - 362). (¬2) للأستزاده في مسألة حجية خبر الآحاد في العقائد انظر. - كتاب «الرسالة للشافعي» تحقيق أحمد شاكر. - وكتاب «فتح الباري شرح صحيح البخاري» لابن حجر، كتاب أخبار الآحاد. - ورسالة «وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة» للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. - وكتاب «حجية الآحاد في العقيدة ورد شبهات المخالفين» محمد عبد الله الوهيبي، دار المسلم - الرياض.

المبحث السادس حجية العقل والنقل

المبحث السادس حجية العقل والنقل سبب إيراد هذا المبحث هو أن له علاقة وثيقة جداً أيضاً بالموضوع الذي سوف نتناوله وهو «آراء محمد رشيد رضا في أشراط الساعة الكبرى». حيث أن رشيد رضا رد غالب الأحاديث الصحيحة التي تثبت أشراط الساعة الكبرى، كالأحاديث التي تثبت خروج المسيح الدجال، والأحاديث التي تنص على خروج المهدي وأحاديث نزول عيسى بن مريم وأحاديث خروج الشمس من مغربها. ولم يكن رده لهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرها من كتب السنن لعلةٍ في أسانيدها أو رواتها، ولكن لعللٍ أخرى يراها رشيد رضا أنها كفيله برد الحديث ولو كان صحيح السند ولو كان في الصحيحين. كأن تكون العلة في الحديث، كما يرى هو مخالفته للعقل والحس أو مخالفته للسنن الكونية والإلهية، أو كأن يكون فيها إشكال أو تعارض كما يقول مما يوجبُ تساقطها وردها. مثال ذلك رده للأحاديث الواردة في المسيح الدجال، والتي هي في الصحيحين وفي غيرها من كتب السنن، بدعوى «أنها مشكلة وأنها منافية

لحكمة إنذار الناس بقرب قيام الساعة وإتيانها بغتةً، وأنها متعارضة تعارضاً كبيراً فيما بينها، مما يوجب تساقطها». (¬1) ومثال ذلك أيضا رده للأحاديث الواردة في المهدي حيث يقول «وأما التعارض في أحاديث المهدي فهوى أقوى وأظهر والجمع بين الروايات فيه أعسر، والمنكرون لها أكثر والشبهة فيها أظهر. ولذلك لم يعتد الشيخان بشيء من روايتهما في صحيحيهما». (¬2) وكذلك رده لحديث «طلوع الشمس من مغربها» في آخر الزمان والذي رواه أبو هريرة ورفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - والذي هو في الصحيحين. فرشيد رضا يرد هذا الحديث، بدعوى أنه مشكل وأن أبا هريرة لم يصرح في هذا الحديث بالسماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخشى أن يكون قد سمع ذلك من كعب الأحبار! ! ! (¬3) وفي الحقيقة أن الشيخ رشيد رضا لم يَردُ أحاديث أشراط الساعة الكبرى فقط، لأنه كما يقول فيها إشكال وتعارض. بل رد كذلك أحاديث أخرى كثيرة وهي التي سوف أذكرها في مبحث عقيدته تحت عنوان «المآخذ التي عليه». ومنها على سبيل المثال رده للحديث الذي في صحيح البخاري والذي لا مطعن فيه وهو حديث «سجود الشمس عند العرش». ¬

(¬1) تفسير المنار، للشيخ محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، (6/ 450). (¬2) تفسير المنار (9/ 459). (¬3) تفسير المنار (8/ 211).

حيث يرده رشيد رضا بدعوى أنه من أعظم المتون إشكالاً (¬1) كما يقول، وكذلك رده للأحاديث التي تثبت سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي هي في الصحيحين، بدعوى أنها تورد شبهةً على الدين (¬2)، وكذلك رده للأحاديث التي تنص على انشقاق القمر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي هي في الصحيحين بدعوى اختلاف المتون مما يوجب تساقطهما، (¬3) وغيرها الكثير من الأحاديث الأخرى. وهذا بلا شك مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة في تعظيم نصوص السنة النبوية وقبولها إذا صح سندها، وعدم دفعها وردها لمجرد مخالفتها للعقل أو الحس أو غيرها من الاحتمالات والآراء التي لا قيمة لها إذا صح نسبة الحديث للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن تقديم العقل على النقل من أقوال الفلاسفة ومن نحا نحوهم من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام، وتابعهم به أصحاب المدرسة العقلية الحديثة. (¬4) ومما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالا وتفصيلا، فأما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل ¬

(¬1) تفسير المنار (8/ 210). (¬2) مجلة المنار (14/ 623). (¬3) مجلة المنار (30/ 262). (¬4) يقول محمد عبده «اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل ... » انظر مجلة المنار (13/ 8/613).

بصحة النبوة وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة. وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقاً وتعضيداً، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول. فإن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحا ليس فيه دلالة صحيحة على المدعي، وإما أن يكون العقل فاسدا بفساد مقدماته. فمن احتج - مثلا - في إنكار الصفات الإلهية بأن لازم ذلك إثبات آلهة مع الله، فقد احتج بعقل غير صحيح، بل لا يجوز تسمية ذلك عقلاً أصلاً؛ إذ لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات؛ بل هو من أعظم الممتنعات العقلية؛ لأنه يستلزم رفع النقيضين، حيث يقال: هو موجود ولا موجود، ولا يقال هذا في حق المخلوق، فلا يستلزم إثبات المخلوق متصفاً بصفات السمع والبصر والكلام والحياة أن يتعدد المخلوق، بحيث تكون كل صفة منها إنساناً قائماً بنفسه، وهذا معلوم البطلان في حق المخلوق، وبطلانه في حق الخالق أظهر وأولي، فهذا عقل فاسد لا يقاوم النقل الصحيح الصريح من آيات الصفات وأحاديثها. وقد يكون النقل مكذوبا والعقل صحيحاً، كما في حديث يروى عن

أبي هريرة- رضي الله عنه - أنه قال: «قيل يا رسول الله: مم ربنا؟ قال: من ماء مرور، لا من أرض، ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق ... » (¬1) (¬2). ففي هذا الكذب وأمثاله لا يقال إنه يعارض دليل العقل، فلا يصلح أن يكون دليلا فضلا عن أن ينسب إلى الشرع ليعارض به العقل، علاوة على أن الأدلة الشرعية تنقضه وتبطله. وقد يكون النقل صحيحاً، إلا أنه لا يدل على المعنى المدعى، فيتوهم التعارض بين المنقول والمعقول، كما في حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني .. الحديث» (¬3). فمن فهم من الحديث أن الله تعالى يمرض أو يجوع ويعطش لم يفهم معنى الحديث؛ لأن الحديث فسره المتكلم به، وبين المراد منه، وهو أن العبد هو الذي جاع وعطش ومرض، وأن الله تعالى منزه عن ذلك. (¬4) «والمقصود ¬

(¬1) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، للشيخ أبي حسن الكناني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ، (1/ 134). (¬2) علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة، الدكتور محمد يسري، ص 360، دار طيبة، الطبعة الأولى، 2006. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب باب فضل عيادة المريض (4/ 1990)، رقم (2569). (¬4) علم العقيد عند أهل السنة والجماعة، الدكتور محمد يسري، ص 361.

هو بيان أنه إذا ظهر تعارض بين الدليلين النقلي والعقلي، فلا بد من أحد ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون أحد الدليلين قطعياً والآخر ظنياً، فيجب تقديم القطعي نقلياً كان أم عقلياً، وإن كانا ظنيين فالواجب تقديم الراجح، عقلياً كان أم نقلياً. الثاني: أن يكون أحد الدليلين فاسداً، فالواجب تقديم الدليل الصحيح على الفاسد سواء أكان نقلياً أم عقلياً. الثالث: أن يكون أحد الدليلين صريحاً والآخر ليس بذاك، فهنا يجب تقديم الدلالة الصريحة على الدلالة الخفية، لكن قد يخفي من وجوه الدلالات عند بعض الناس ما قد يكون بيناً وواضحاً عند البعض الآخر، فلا تعارض في نفس الأمر عندئذٍ. أما أن يكون الدليلان قطعيين - سنداً ومتناً - ثم يتعارضان، فهذا لا يكون أبداً، لا بين نقليين، ولا بين عقليين، ولا بين نقلي وعقلي» (¬1). وخلاصة اعتقاد أهل السنة في الباب «أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه» (¬2). ¬

(¬1) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن (1/ 366). (¬2) (درء تعارض العقل والنقل)، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، 417 هـ، تحقيق عبداللطيف عبد الرحمن، (1/ 231، 232).

وقد أعمل الصحابة رضي الله عنهم هذا الأصل، وتلقاه عنهم التابعون، وتواترت عبارات أهل العلم بهذا المعنى. قال ابن تيمية رحمه الله: «فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم» (¬1). وقال الإمام الشافعي رحمه الله: «كل شيء خالف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر هو به» (¬2). وقال الإمام مالك رحمه الله: «أو كلما جاء رجل أجدل من الآخر، رد ما أنزل جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬3). ومن ثمرات الالتزام بهذه القاعدة، إثبات عصمة الشرع الحكيم إذ ليس فيه ما يخالف العقل الصحيح، وسد باب التأويل والتفويض، واستقامة الحياة على الوجه الأتم الأكمل عند نفي التعارض بين وحي الله تعالى وخلقه، فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه وتنتفع بما أنعم على خلقه. (¬4) ¬

(¬1) مجموع الفتاوي (13/ 28). (¬2) (كتاب الأم) لمحمد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1393 هـ، (2/ 193). (¬3) (شرح أصول اعتقاد السنة) لهبة الله ابن الحسن بن منصور اللألكائي، دار طيبة، الرياض، 1402 هـ، تحقيق أحمد سعد حمدان (1/ 144). (¬4)

الفصل الأول نبذة عن محمد رشيد رضا

الفصل الأول نبذة عن محمد رشيد رضا ويتضمن المباحث التالية: المبحث الأول: نسبه ومولده. المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم. المبحث الثالث: بداية التحول. المبحث الرابع: هجرته إلى مصر. المبحث الخامس: مجلة المنار. المبحث السادس: جهوده الإصلاحية. المبحث السابع: مذهبه. المبحث الثامن: عقيدته. المبحث التاسع: وفاته. المبحث العاشر: أثاره ومؤلفاته.

المبحث الأول نسبه ومولده

المبحث الأول نسبه ومولده هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن السيد منلا علي خليفة البغدادي. فهو بغدادي الأصل، حسيني النسب، حيث يرجع نسبه إلى الصحابي الجليل، الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. (¬1) حيث كان يؤكد ذلك النسب في كثير من كتاباته، كأن يقول عن الإمام علي- رضي الله عنه - (جدنا المرتضى عليه السلام). (¬2) ويقول: (جدنا الحسين عليه السلام). (¬3) ويقول: (جدنا جعفر الصادق عليه السلام). (¬4) ¬

(¬1) انظر كتاب (الأعلام) لخير الدين الزركلي (6/ 126) ط دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية عشر 19970 م. وكتاب (السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة) لشكيب أرسلان، ص 809، مطبعة ابن زيدون، دمشق، الطبعة الأولى 1365 هـ. (¬2) مجلة المنار (13/ 132). (¬3) المصدر السابق (15/ 78). (¬4) تفسير المنار (1/ 51).

وقد ولد محمد رشيد رضا في 27 جمادي الأولى سنة 1282 هـ الموافق 23 سبتمبر سنة 1865 م. في القلمون بعد ما نزحت أسرته إليها من بغداد. وهي قرية تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن طرابلس الشام (¬1) نحو ثلاثة أميال. (¬2) ¬

(¬1) طرابلس الشام يقصد بها طرابلس التي في لبنان، وذلك للتفريق بينها وبين طرابلس الأفريقية التي هي عاصمة ليبيا. (¬2) «رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة» شكيب أرسلان، ص 15، رشيد رضا «المنار والأزهر»، ص 133، ط 1، المنار سنة 1353 هـ.

المبحث الثاني نشأته وطلبه للعلم

المبحث الثاني نشأته وطلبه للعلم نشأ الشيخ محمد رشيد رضا في أسره متدينة، أشتهرت بالعلم والصلاح والتقى والعفاف والاستقامة على طاعة الله، فكان والد الشيخ رشيد هو شيخ قرية القلمون، وإمام مسجدها. وكانت قرية (القلمون) قد اشتهر أهلها بحسن السيرة، والتدين والاستقامة، وقلة ظهور المنكرات بينهم، فلقد كان لنشأة رشيد رضا في أسرة متدينة وفي قرية يغلب عليها طابع التدين والاستقامة والبعد عن المنكرات، أثر كبير في تكوين شخصيته وفكره وأخلاقه وسلوكه. فنشأ محباً للتدين والاستقامة والعبادة، ملازما أهل الصلاح والتقى والخير، حريصاً على وقته، دائم الجلوس في المسجد (¬1). وقد كان في سن المراهقة يذهب إلى المسجد في السحر ولا يعود إلا بعد ارتفاع الشمس، حتى أنه أتخذ لنفسه حجرة خاصة في المسجد للعبادة والمطالعة. يقول عن نفسه «كانت تلذ لي صلاة التهجد تحت الأشجار في بساتينها الخالية وأفكر في صدق من قال» أهل الليل في ليلهم أنعمُ من أهل اللهو في ¬

(¬1) (المنار والأزهر) للشيخ محمد رشيد رضا، طبعة المنار، القاهرة، 1352 هـ، ص 133.

لهوهم» وقول الآخر «لو يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيف» نعم إن للبكاء من خشية الله وتدبر كتابه في صلاة الليل حيث يعلم المصلي أنه لا يسمع صوته أحد إلا الله لذة روحية تعلو كل لذات الضحك واللهو على اختلاف أسبابها». (¬1) أما بداية طلبه للعلم، فكانت في قريته (القلمون) حيث دخل في كُتابها وتعلم مبادئ القراءة والكتابة وقواعد الحساب، وحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم (¬2). ثم التحق بعد ذلك بالمدرسة (الرشيدية) في طرابلس الشام، وهي مدرسة ابتدائية تابعة للدولة العثمانية، والتعليم فيها بالتركية، حيث يُدرس فيها مبادئ العلوم الشرعية واللغوية ومبادئ الجغرافيا لكن لم يستمر بها إلا سنةً واحدة ثم تركها (¬3). ثم التحق بعد ذلك بالمدرسة (الوطنية الإسلامية في عام 1300 هـ - 1883 م) في طرابلس الشام أيضاً، والتي أسسها الشيخ حسين الجسر (¬4)، والتي كان التعليم فيها باللغة العربية وتُدرس فيها اللغة التركية والفرنسية. ¬

(¬1) نفس المصدر ص 137. (¬2) نفس المصدر ص 139. (¬3) رشيد رضا (المنار والأزهر) ص 139. (¬4) هو حسين بن محمد بن مصطفى الجسر الطرابلسي، عالم وأديب وصحفي، ولد بطرابلس الشام سنة 1845 م وتوفي فيها سنة 1909 م من آثاره «الرسالة الحميدية» انظر معجم المؤلفين (4/ 58).

وكانت غاية الشيخ الجسر من إنشاء هذه المدرسة هو الجمع بين العلوم الدينية والعلوم العصرية، حيث كان يرى أن الأمة الإسلامية لا ترقى إلا بالجمع بين علوم الدين والدنيا. ولكن المدرسة لم تعمر طويلاً وأغُلقت، وذلك بسبب أن الحكومة العثمانية رفضت اعتبار هذه المدرسة مدرسة دينية وبالتالي لم تعفِ طلابها من الخدمة العسكرية، الأمر الذي أدى إلى إلغائها وتفرق طلبتها على بقية المدارس (¬1)، فالتحق رشيد رضا بالمدارس الدينية بطرابلس، ومع هذا لم يقطع صلته بأستاذة حسين الجسر، فظل ينهل الكثير من المدرسة، ومن الشيخ الجسر، حتى نال الشهادة العالمية من المدرسة، ونال الإجازة في التدريس من شيخه. حيث تلقى عنه العلوم الشرعية والعربية، فشرح له حاشية البيجوري على الجوهرة في العقائد على الطريقة الأشعرية، وقرأ عليه الشيخ رشيد كتاباً في المنطق، وكان الشيخ حسين الجسر أشعرياً، وقد ألف كتابه «الحصون الحميدية» وسلك فيه طريقة المتكلمين الأشاعرة في العقيدة وألف «الرسالة الحميدية» ليوفق بين النصوص الدينية ونظرية النشوء والارتقاء. (¬2) ¬

(¬1) رشيد رضا (المنار والأزهر) ص 139. (¬2) رشيد رضا، مجلة المنار (19/ 69) وكتاب (المنار والأزهر) ص 141.

شيوخه

شيوخه: 1 - الشيخ محمود نشابه (¬1) حيث قرأ عليه الأربعين النووية وأجازه بها، وحضر دروسه في شرح صحيح البخاري في الجامع الكبير، وقرأ عليه صحيح مسلم، وشرح المنهاج في بيته، وتلقى عنه الفقه الشافعي. يقول عنه الشيخ رشيد: «وما عرفت قيمتهُ وتفوقه على جميع من لقيت من علماء الإسلام في علومه إلا بقراءة صحيح مسلم عليه، فإنني كنت أقرأ عليه المتن فيضبط لي الرواية أصح الضبط، من غير مراجعة ولا نظر في شرح، وأسأله عن كل ما يشكل علي من مسائل الرواية والدراية فيجيبني عنه أصح جواب، وكنت أراجع بعض تلك المسائل بعد الدرس في شرح مسلم وغيره، ولا أذكر أنني عثرت على خطأ في شيءٍ منها». (¬2) 2 - الشيخ عبد الغني الرافعي (¬3)، حيث تلقى عنه العلوم العربية ¬

(¬1) هو الشيخ محمود نشابه ولد عام (1308 هـ) من أهل طرابلس الشام، جلس في مصر بالأزهر نحو ثلاثين سنة طالباً ومدرساً، كان يشبه بالشافعي، من كتبه حاشية على متن البيقونية في مصطلح الحديث وحاشية على شرح الفناري في المنطق وحاشية على همزية البوصري توفي عام 1813 هـ الموافق 1890 م، الأعلام للزركلي (7/ 185). (¬2) مجلة المنار (21/ 155) والمنار والأزهر ص 142. (¬3) هو الشيخ عبد الغني الرافعي البيساري الفاروقي ولد عام (1223 هـ - 1818 م) قاضي من فقهاء الحنفية، ولد وتعلم في طرابلس الشام، عين مفتياً لطرابلس ثلاث سنوات ثم قاضياً في لواء تعز باليمن، فرئيساً لاستئناف الحقوق والخبراء في ولاية صنعاء وغلب عليه التصوف في آخر عمره فانقطع للعبادة بمكة وتوفي فيها عام 1308 هـ الموافق 1891 م، له عدة كتب منها «شرح بديعية الصفي الحلي» الأعلام (4/ 32).

والأدبية، وحضر بعض دروسه في نيل الأوطار للشوكاني (¬1)، واستفاد كثيراً من معاشرته في العلم والأدب والتصوف (¬2). 3 - الشيخ محمد القاوقجي (¬3)، حيث درس عليه بعض علوم الحديث، وصفه الشيخ رشيد بأنه «العالم المحدث العابد الشهير» أخذ عنه الشيخ رشيد كتابه في الأحاديث المسلسلة، ومنها المسلسل بالأولية، وكتابه «المعجم الوجيز» في الحديث، وكان الشيخ القاوقجي من أهل الطريقة الشاذلية، وتأثر به الشيخ رشيد في هذا الجانب في أول الأمر (¬4). وفي هذه الفترة من شبابه كان يكثر من قراءة كتاب «إحياء علوم ¬

(¬1) هو العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني ولد عام 1173 هـ الموافق 1760 م، في بهجة شوكان من بلاد خولان باليمن ونشأ بصنعاء وتولى القضاء فيها عام 1229 هـ مفسر ومحدث وفقيه مجتهد كان يرى تحريم التقليد وله العديد من المؤلفات أبرزها (نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار) و (فتح القدير) و (السيل الجرار) و (الدرر البهية) وغيرها توفي عام 1250 هـ الموافق 1834 م، (الأعلام للزركلي 7/ 190). (¬2) مجلة المنار (1/ 160) (21/ 157). (¬3) هو الشيخ محمد بن خليل بن إبراهيم أبو المحاسن القاوقجي، ولد عام «1305 هـ - 1888 م» عالم بالحديث، فقيه حنفي من أهل طرابلس الشام، ولد وتلقى مبادئ العلوم فيها ثم رحل إلى مصر سنة 1239 هـ فتفقه في الأزهر وأقام فيه ما يقارب سبعة وعشرون سنة ثم عاد إلى بلدة كان مسند بلاد الشام في عصره له نحو مائة كتاب منها (ربيع الجنان في تفسير القرآن) و (المقاصد السنية في آداب الصوفيه)، توفي حاجاً بمكة عام 1305 هـ الموافق 1888 م، الأعلام للزركلي (6/ 118) (¬4) رشيد رضا (المنار والأزهر) ص 147 ومجلة المنار (14/ 428).

الدين» للغزالي (¬1)، فتأثر به تأثراً كبيراً مما جعله يميل إلى الزهد والتصوف واحتقار الدنيا. لكنه لم يكن منعزلاً عن الناس وعن مجتمعه، فقد كان إماماً لمسجد القرية الذي بناه جده، فكان يعظ الناس ويذكرهم ويرشدهم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحارب بدع البناء على القبور وتعظيمها. وكان يذهب للمقاهي وينصح من فيها بأداء الصلوات ويبسط في تعليمهم أبواب الفقه ويقرب قواعده للعامة، ويلقي الدروس على نساء القرية لتعليمهن أمور دينهن في الطهارة والعبادات واللباس. (¬2) ¬

(¬1) هو العلامة محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد، حجة الإسلام، فيلسوف متصوف، شافعي المذهب، ولد عام 450 هـ الموافق 1058 م، في الطاجران (قصبة طوس، بخرسان) رحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر ثم عاد إلى بلدته، له نحو مائتي مصنف أشهرها إحياء علوم الدين وتهافت الفلاسفة والمستصفى من علم الأصول وإلجام العوام عن علم الكلام وغيرها، توفي عام 505 هـ الموافق 1100 م في خرسان «الأعلام للزركلي 7/ 22» (¬2) رشيد رضا (المنار والأزهر) ص 150.

المبحث الثالث بداية التحول

المبحث الثالث بداية التحول كانت بداية التحول في منهج رشيد رضا بتحوله من التصوف والزهد إلى الاهتمام بإصلاح المسلمين والذود عنهم، في عام 1310 هـ/ 1892 م، حيث كان يبلغ عمره آنذاك ثمانٍ وعشرين سنة. وسبب هذا التحول، هو وقوع أعداد من مجلة «العروة الوثقى» في يديه والتي كان يصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من باريس، فأعجب بها وبمقالاتها وبما يكتب بها، فأخذ يبحث عن بقية أعداد المجلة فوجدها كاملة في مكتبة شيخه حسين الجسر، فنسخها، وأنكب على مطالعتها. (¬1) يقول الشيخ رضا: «كنتٌ أقلب في أوراق والدي فرأيت عددين من جريدة العروة الوثقى فقرأتهما بشوق ولذة، ففعلا في نفسي فعل السحر، وكان كل عدد منها كسلك من الكهرباء اتصل بي فأحدث في نفسي من الهزة والانفعال والحرارة والاشتعال ما قذف بي من طور إلى طور ومن حال إلى حال وكان همي قبل ذلك محصورا في تصحيح عقائد المسلمين ونهيهم عن المحرمات وحثهم على الطاعات وتزهيدهم في الدنيا ... ¬

(¬1) (تاريخ الأستاذ الإمام) محمد رشيد رضا، طبعة مطبعة المنار، الطبعة الأولى، 1350 هـ، (1/ 84).

فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب إرشاد المسلمين عامة إلى المدنية والمحافظة على ملكهم ومباراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات، وجميع مقومات الحياة، فطفقت استعد لذلك استعداداً». (¬1) ¬

(¬1) المصدر السابق (1/ 84 - 85).

المبحث الرابع هجرته إلى مصر

المبحث الرابع هجرته إلى مصر بعدما قرأ رشيد رضا العروة الوثقى، أعجب أشد الإعجاب بجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، فكان يتمنى أن يلتقي بجمال الدين الأفغاني، وأن ينهل من علمه وحكمته وخبرته في الإصلاح. قال الشيخ رشيد: «توجهت نفسي بتأثير العروة الوثقى إلى الهجرة إلى السيد جمال والتلقي عنه، وكان قد جاء إلى الآستانة فكتبت إليه بترجمتي ورغبتي في صحبته، وأنه لا يصدني عنها إلا إقامته في الآستانة لاعتقادي أنه لا يستطيع طول المقام فيها، وعللت ذلك بقولي «لأن بلاد المشرق أمست كالمريض الأحمق يأبي الدواء ويعافه لأنه دواء»، وبعد أن توفاه الله تعالى إليه فيها، تعلق أملي بالاتصال بخليفته الشيخ محمد عبده للوقوف على أخباره وآرائه في الإصلاح الإسلامي، ومازلت أتربص الفرص لذلك حتى سنحت لي في رجب سنة 1315 هـ وكان ذلك عقب إتمام تحصيلي للعلم في طرابلس، وأخذ شهادة العالمية أو التدريس من شيوخي فيها، فهاجرت إلى مصر». (¬1) ولكن في الحقيقة هناك أسباب أخرى دفعت الشيخ رضا للهجرة إلى مصر والإقامة فيها، حيث يقول الشيخ رشيد «عزمت على الهجرة إلى مصر ¬

(¬1) تفسير المنار (1/ 10 - 12).

لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، ومن مناهل العلم العذبة الموارد، ومن طرق النشر الكثيرة المصادر، وكان أعظم ما أرجوه من الاستفادة في مصر، الوقوف على ما استفاده الشيخ محمد عبده من الحكمة والخبرة وخطة الإصلاح التي استفادها من صحبة السيد جمال الدين، وأن أعمل معه، وبإرشاده في هذا الجو الحُر ... ». (¬1) فهاجر الشيخ محمد رشيد رضا إلى مصر في عام 1315 هـ الموافق 1897 م، وكان عمره آنذاك ثلاثة وثلاثين عاماً تقريباً. وحل ضيفاً على الشيخ محمد عبده وكان لا يعرف في مصر قبل هجرته أحد غيره، إذ سبق له اللقاء به أثناء فترة نفيه إلى بيروت عام 1885 م، والتقى به كذلك في طرابلس عام 1894 م عندما كان الشيخ عبده يصطاف هناك فلازمه ووثق علاقته به. (¬2) ¬

(¬1) انظر أحمد بركات، محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية ص 24 - 27، دار عمان الأردن - ط الأولى 1409 هـ - 1989 م (¬2) تاريخ الأستاذ الإمام (1/ 995).

المبحث الخامس مجلة المنار

المبحث الخامس مجلة المنار كان السيد محمد رشيد رضا من قبل هجرته إلى مصر يتمنى أن ينشئ مجلة تحل محل مجلة «العروة الوثقى» والتي توقفت بعد ثمانية عشر عدداً، وتكون بنفس القيمة العلمية لها، وتسير على نفس النهج الذي سارت عليه، حيث تدعو إلى الإصلاح ومعالجة أوضاع المسلمين وحل مشاكلهم وما يستحدث من المسائل الشرعية. فعرض فكرته على أستاذة الإمام محمد عبده، فوافق الأستاذ ولكن بعد أن اقترح ثلاثة أمور: الأولى: وهي أن لا تتحيز لحزب من الأحزاب. الثانية: وهي أن لا يرد على أي جريدة من الجرائد التي تتعرض له بالذم أو الانتقاد. الثالثة: وهي أن لا يخدم أفكار أحد من الكبراء. فوافقه رشيد رضا على اقتراحاته الثلاثة، ثم بعد ذلك شاوره في اختيار اسم لها وعرض عليه مجموعة من الأسماء ومن بينها المنار، فاختار المنار. وصدر العدد الأول من المجلة في 22/ شوال سنة 1315 هـ الموافق 17/ مارس سنة 1898 م.

أي بعد ثلاثة أشهر تقريبا من وصوله إلى مصر. (¬1) وكتب رشيد رضا في افتتاحية العدد الأول منها: «أما بعد: فهذا صوتٌ صارخ بلسانٍ عربي مبين، ونداءُ حق يقرع سمع الناطق بالضاد مسامع جميع الشرقيين ... يقول أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذِ أحلامه، حسبك حسبك، فقد جاوزت بنومك حد الراحة .... ». (¬2) وفي مقدمة الطبعة الثانية للعدد الأول يقول عن أغراض المنار «أغراضها كثيرة يجمعها الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي لأمتنا الإسلامية، هي ومن يعيش معها وتتصل مصالحة بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر في كل قُطر وكل مصر وإبطال ما يورد من الشبهات عليه، وتفنيد ما يعزى من الخرافات إليه ..... ». (¬3) وكانت في بداية إنشائها تصدر كل أسبوع على شكل «الجريدة اليومية» وتتكون من ثماني صفحات، وبعد عام من الصدور صارت على شكل «مجلة» تصدر كل أسبوع أيضاً، ثم أصبحت في العام التالي تصدر مرتين في الشهر، وبعد سنتين ونصف أو ثلاث أصبحت تصدر كل شهر عربي مرة. وكان الشيخ رشيد يكتب على الصفحة الأولى «المنار مجلة شهرية تبحث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران». ¬

(¬1) انظر «تاريخ الأستاذ الإمام» رشيد رضا (1/ 103). (¬2) مجلة المنار (1/ 1 - 2). (¬3) مجلة المنار (12/ 1).

وكانت المنار في بداية صدورها تطبع في مطابع خاصة، ثم اشترى الشيخ رشيد مطبعة خاصة للمنار، يطبع فيها المجلة وغيرها من كتبه ومطبوعاته. ولم يمر سبعة أعوام على المجلة حتى ذاع صيتها واشتهرت بين أوساط المثقفين وطلبة العلم، وحرص الناس على اقتنائها وقراءتها، فكانت في عصرها أكبر وأشهر مجلة إسلامية في العالم، ولا تزال تحتل هذه المكانة المرموقة في الصحافة الإسلامية حتى اليوم على الرغم من مرور أكثر من سبعين عاماً على انقطاعها. (¬1) وكانت المجلة تستهل عددها بتفسير القرآن الكريم، والذي كان محمد عبده يلقيه في جامع الأزهر، ثم يقيده رشيد رضا بعد ذلك وينشره في المجلة، وبعد وفاة الإمام أصبح رشيد رضا هو الذي يكتب التفسير في أعداد المجلة. ثم بعد ذلك يأتي قسم «فتاوى المنار» حيث تنشر فيها الإجابة على الأسئلة التي ترد إلى المجلة من جميع أقطار العالم الإسلامي. بالإضافة إلى أبواب أخرى في المجلة مثل «باب البدع والخرافات»، «باب المراسلة والمناظرة» «وباب تراجم الأعيان» و «باب» الآثار العلمية والأدبية» و «باب للأخبار والآراء». وكانت أغلب المقالات والبحوث يكتبها رشيد رضا بنفسه، وقد ينشر بعض المقالات والبحوث المميزة التي يرسلها إليه العلماء والمثقفون لنشرها ¬

(¬1) انظر «الصحافة الإسلامية في القرن التاسع عشر» للأستاذ سامي عبد العزيز العومي - دار الوفاء - المنصورة - مصر - 1992 م.

في المجلة فينشرها. ولعل من أبرز من كتب في المنار ونشرت كتاباته «مصطفى صادق الرافعي (¬1) ومصطفى لطفي المنفلوطي (¬2) وحافظ إبراهيم (¬3) وشكيب أرسلان (¬4) ومحمد الخضر حسين (¬5) وعبد القادر المغربي (¬6) وغيرهم من قادة ¬

(¬1) وهو عالم بالأدب، شاعر، من كبار الكتاب في عصره، أصله من طرابلس الشام، له العديد من المؤلفات أشهرها (وحي القلم) طبع في ثلاث مجلدات وتاريخ آداب العرب طبع في مجلدين وكتاب في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية طبع في مجلد واحد وكتاب المعركة طبع في مجلد واحد وهو رد على كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي (الأعلام للزركلي) (7/ 235). (¬2) وهو نابغة في الإنشاء والأدب، شاعر وكاتب، ولد في منفلوط في مصر، من مدن الوجه القبلي بمصر درس في الأزهر واتصل بمحمد عبده اتصالا وثيقاً، له العديد من المؤلفات من أشهرها (مختارات المنفلوطي) (الأعلام للزركلي) (7/ 240). (¬3) وهو شاعر مصر القومي، ومدون أحداثها نيفاً وربع قرن يلقب بشاعر النيل عين رئيساً في القسم الأدبي في دار الكتب المصرية عام 1911 م واستمر فيها إلى قبيل وفاته له العديد من المؤلفات منها ديوان حافظ طبع في مجلدين والبؤساء وغيرها (الأعلام للزركلي) (6/ 76). (¬4) وهو عالم بالأدب والسياسة، مؤرخ، من أكابر الكتاب في عصره، يُنعت بأمير البيان، من أعضاء المجمع العلمي العربي، من أشهر مؤلفاته (رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة) و (الحلل السندسية في الرحلة الأندلسية) و (غزوات العرب في فرنسا وشمالي إيطاليا) ولماذا تأخر المسلمون (الأعلام للزركلي) (3/ 173). (¬5) وهو عالم إسلامي أديب وباحث وممن تولوا مشيخة الأزهر، من مؤلفاته (الخيال في الشعر العربي) و (حياة اللغة العربية) و (الحرية في الإسلام) و (بلاغة القرآن)، (الأعلام للزركلي) (6/ 114). (¬6) وهو عالم ومفسر وكاتب صحفي، وكان عضو في المجمع العلمي العربي له العديد من المؤلفات منها (الاشتقاق والتعريب) و (البيانات) و (مجموعة مقالات له في جزءين) (أعلام الأدب أدهم الجندي) ج 2/ 120.

الفكر والإصلاح في المجتمع. ولم تقتصر المجلة على البحوث الدينية، بل نشرت كثيرا من المقالات والبحوث في الطب والصحة والأدب والشعر والاجتماع والطبيعة وغيرها من المواضيع المهمة. وهكذا استمرت المنار في الصدور أربعين عاماً حتى وفاه مؤسسها الشيخ محمد رشيد رضا في عام 1935، حيث بذل كل ما في وسعه من أجل نجاحها وانتشارها واستمرارها، فكانت منارةً للعلم والإصلاح والثقافة والفتيا، وكانت سبباً في شهرة السيد رشيد رضا والأستاذ محمد عبده ولقد وصلت أعداد مجلة المنار في تلك الفترة كافة أنحاء العالم الإسلامي حتى أنها وصلت الهند وأندونيسيا. وبعد وفاة مؤسسها السيد رشيد رضا توقفت المجلة عن الصدور لمدة سبعة أشهر، ثم بعد ذلك أسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ «بهجت البيطار». (¬1) ¬

(¬1) هو محمد بهجت بن محمد البيطار، ولد عام 1894 م في دمشق عالم، وقاضي، ومصلح، وخطيب، ومؤلف، يعتبر من دعاة السلفية في الشام، كان مدير المعهد العلمي في مكة في عهد الملك عبد العزيز آل سعود ومدرساً في الحرم المكي وكان عضو في رابطة العلماء في دمشق ودَرس في كلية الشرعية في دمشق، توفي عام 1976 م في دمشق «رجال من التاريخ، علي طنطاوي» دار المنار - جدة - السعودية - ط الثامنة 1413 هـ.

فقام على تحريرها وإعادة إصدارها، وحاول إكمال التفسير الذي كان ينهض به الشيخ رشيد فأتم تفسير سورة يوسف ثم توقفت المنار مره أخرى لمدة تقترب من الثلاث سنوات، ثم أسندت أسرة الشيخ رشيد إصدار المجلة إلى الشيخ «حسن البنا» (¬1) فأصدر منها ستة أعداد على مدى أربعة عشر شهراً ثم توقفت بعد ذلك في عام 1940 م. (¬2) ¬

(¬1) هو حسن بن أحمد بن عبد الرحمن البنا، مؤسس جماعة الأخوان المسلمين بمصر، ولد في المحمودية بمصر سنة 1906 م، وكان خطيباً مفوهاً ينحو منحي الوعظ والإرشاد في خطبة، توفي عام 1949 م بعدما تصدى له ثلاثة أشخاص فأطلقوا عليه النار فتوفي «الأعلام 2/ 183». (¬2) انظر إبراهيم العدوي «رشيد رضا الإمام المجاهد» الدار المصرية للتأليف - القاهرة. وأحمد الشرباصي «رشيد رضا، الصحفي، المفسر، الشاعر» مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية - القاهرة - 1977 م.

المبحث السادس جهوده الإصلاحية

المبحث السادس جهوده الإصلاحية كان للشيخ محمد رشيد رضا الكثير من الجهود الإصلاحية في المجتمع، والتي حاول من خلالها إصلاح أحوال الأمة الإسلامية وإخراجها مما هي فيه من ضياع الهوية والتخلف الفكري والتعليمي والديني والسياسي، والتبعية والإعجاب بالحضارة الغربية إلى حد التقليد الأعمى والافتتان بها، وسوف أعرض فيما يلي مجالات الإصلاح التي قام بها. أ) الإصلاح التعليمي: كان الشيخ محمد رشيد رضا حريصاً جداً على إصلاح التعليم في مصر لاسيما التعليم الديني المتمثل بالأزهر آنذاك. فكتب الكثير من المقالات في مجلة المنار ينتقد فيها الوضع التعليمي في مصر ومن ذلك قوله «ومن العار على مصر أن تكون على سبقها البلاد العربية كلها إلى التعليم العصري خالية من مدرسة كلية للعلوم العالية بجميع فروعها، تغنيهم عن المدارس الأجنبية الخالية من لغتهم ومن التربية الملَّية التي تليق بهم». (¬1) وكتب أيضا الكثير من المقالات التي ينتقد فيها التعليم بالأزهر والذي ¬

(¬1) مجلة المنار (14/ 566).

وصفه أنه يتسم بالجمود والتقليد وعدم مواكبة العصر، وأنه لابد من فتح باب الاجتهاد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة، حتى أنه كتب في ذلك كتاباً بعنوان «المنار والأزهر» ضمنه آراءه في الإصلاح التعليمي. وقد كان الشيخ رشيد من أوائل المصلحين الذين طالبوا بإدخال بعض الفنون في ميدان التعليم لمسايرة ركب العلم والمعرفة، كعلم أصول الدين وتهذيب الأخلاق وفقه الحلال والحرام والعبادات والاجتماع والتاريخ والاقتصاد والحساب والصحة والخط. (¬1) وقد بلغ الشيخ من تشجيعه على العلم والتعليم أن أفتى بأنه إذا وجد في بلد مسجد لإقامة الشعائر، فبناء المدارس والوقوف عليها في ذلك البلد أفضل لا محالة، بل لا فضل في بناء مسجد لا حاجة إليه، لأن من أغراض الشريعة جعل المسجد على قدر الحاجة لما في كثرتها من تفريق المسلمين. (¬2) ولم يكتف الشيخ رشيد بالجانب النظري في محاولة الإصلاح التعليمي والحث على التعليم والتعلم، فلقد قام الشيخ رشيد بإنشاء مدرسة في مصر سماها باسم مدرسة «دار العلم والإرشاد» والتي أنشئت تحت رعاية جمعية عرفت باسم «جماعة الدعوة والإرشاد» حيث انتخب لرئاسة هذه الجمعية محمود بك سالم وانتخب رشيد رضا وكيلاً لها، وناظراً لمدرسة «العلم والإرشاد». (¬3) ¬

(¬1) رشيد رضا لإبراهيم العدوي 177 - 178. (¬2) مجلة المنار (11/ 78). (¬3) مجلة المنار (14/ 115).

والتي افتتحت الدراسة بها عام 1330 هـ، وكانت تمنح الطالب شهادة مرشد بعد ثلاث سنوات من الدراسة تؤهله للدعوة والإرشاد بين المسلمين، أما إذا واصل الدراسة ثلاث سنوات أخرى فيصبح داعياً من الدعاة لغير المسلمين للدخول في الإسلام، وكان لهذه المدرسة أثر كبير في إعداد الدعاة. (¬1) وأما المدرسون فيها، فقد كان يدرس فيها بجوار الشيخ رشيد رضا الشيخ محب الدين الخطيب (¬2) والشيخ أحمد العبد بن الشيخ سليمان العبد من علماء الأزهر وغيرهم. ومن أبرز الطلاب الذين درسوا بها: 1 - الشيخ محمد بهجت البيطار. (¬3) 2 - الشيخ يوسف ياسين. (¬4) 3 - الشيخ محمد حامد الفقي. (¬5) ¬

(¬1) انظر كتاب منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير للدكتور فهد الرومي (1/ 179) الطبعة الثانية 1983 م. (¬2) هو محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح الخطيب، ولد بدمشق سنة 1303 هـ / 1886 م، عالم ومؤلف له الكثير من الكتب أشهرها الخطوط العريضة التي قام عليها دين الشيعة، توفي عام 1389 هـ / 1969 م في مصر (الأعلام للزركلي) (5/ 82). (¬3) من أكابر أهل العلم في عصره وقد تمت الترجمة له في صفحة 52. (¬4) وقد كان مستشاراً للملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، انظر الزركلي، الأعلام (8/ 253). (¬5) مؤسسي جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر، ومن أكابر أهل العلم.

ب) الإصلاح الديني

4 - الشيخ محمد عبد الرزاق حمزه. (¬1) 5 - الشيخ عبد الظاهر أبو السمح. (¬2) 6 - الشيخ أمين الحسيني. (¬3) (¬4) ب) الإصلاح الديني: كان للشيخ محمد رشيد رضا أيضا جهود واضحة في محاولة إصلاح الواقع الديني للمسلمين في مصر والعالم الإسلامي من خلال مجلته المنار والتي كان ينادي من خلالها المسلمين بالتمسك في دينهم والاعتصام بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ولقد كان ينادي بوجوب تصفية العقيدة الإسلامية من البدع والخرافات والشرك، وتعظيم القبور والتوسل بها. ولقد انبرى الشيخ رشيد ومن خلال مقالاته في مجلة المنار بالدفاع عن الشريعة الإسلامية وبيان محاسنها وأنها صالحةٌ لكل زمانٍ ومكان، وكان يقوم بالرد على كثير من الشبهة والافتراءات التي تحاول الطعن في الإسلام والتقليل من شأنه، والتي كان يثيرها المستشرقين تارة ومن تأثر بالثقافة الغربية من أبناء المسلمين تارة. ¬

(¬1) كان إمام وخطيباً ومدرساً في الحرم المكي، له بعض المؤلفات منها ظلمات أبي ريه والشواهد والنصوص وهو نقد لكتاب الأغلال لعبد الله القصيمي الزركلي (6/ 203). (¬2) من أئمة الحرم المكي، الزركلي (4/ 11). (¬3) وقد كان مفتي فلسطين وزعيمها السياسي، الزركلي (6/ 45). (¬4) مجلة المنار (21/ 49 - 54) (22/ 43) (17/ 463).

ج) الإصلاح السياسي

وكان الشيخ رشيد قد خصص في مجلته قسم للإجابة عن الأسئلة الشرعية التي يتلقاها من قراء المجلة ويجيب عليها، وكان الشيخ يدعو أهل العلم إلى النزول إلى الناس وتعليمهم أمور دينهم وتحمل المشاق المترتبة على ذلك، وكان دائماً ما يقول «لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجة ولا حجة مع بقاء التقليد». (¬1) ج) الإصلاح السياسي: كان للشيخ رشيد رضا بالإضافة إلى جهوده في الإصلاح الديني والتعليمي نشاط سياسي بارز، وهو قلما تجد في شيوخ الدين وأهل العلم، وبخاصة بعد وفاة أستاذه الشيخ محمد عبده والذي كان يكبح جماحه كلما هم بالانطلاق نحو معترك السياسة، حيث يقول «وبعد وفاة الأستاذ الإمام صرفنا وقت الفراغ والراحة الذي كنا نجالسه فيه إلى مجالسه إخواننا العثمانيين المعنيين في القاهرة فازددنا علماً بسوء الحال وخطر المآل». (¬2) وكان يكتب الكثير من المقالات السياسية في مجلته المنار والتي حاول من خلالها إيضاح المخاطر التي تحيط بالعالم الإسلامي والعربي، ويبين فيها الأحوال السياسية في العالم والتي تدل على حنكة سياسية قلما تجدها عند علماء المسلمين، فكان يكتب ويحلل الأوضاع السياسية، بحيث لو قرأها إنسان لا يعرفه لقال إنه رجلٌ مختص بالسياسية وتحليلها. (¬3) ¬

(¬1) رشيد رضا، الأمام المجاهد، إبراهيم العدوي، صـ 43. (¬2) نفس المصدر صـ 50. (¬3) انظر مجلة المنار وكتاباته عن الأحوال السياسية في العالم (1/ 23، 53).

فكتب سلسلة مقالات عن ثورة فلسطين وبيان أسبابها ونتائجها وبيان حال اليهود والانجليز والغرب. وكان له كذلك مشاركات واسعة على أرض الواقع من خلال المشاركة في الجمعيات والأحزاب السياسية، والتي من أبرزها: 1 - جمعية الشورى العثمانية: والتي أسست عام 1898 م في القاهرة، وكان رشيد رضا، رئيس مجلس إدارتها، وكانت أهدافها تدور حول نقد الحكم الفردي، وإبراز مزايا الحكم والشورى. 2 - حزب الاتحاد السوري: والذي تأسس عام 1918 م في مصر، وكان رئيسه الأمير ميشيل لطف الله اللبناني الأصل، وكان الشيخ رشيد رضا نائباً للرئيس، وكان هدف الحزب الكفاح من أجل القضية السورية في الميدان السياسي المحلي والدولي، ضد الاستعمار الفرنسي. 3 - جمعية الشبان المسلمين: والتي تأسست عام 1927 م في مصر، وكان الشيخ عضواً نشيطاً فيها، والتي من خلالها تعرف على الشيخ حسن البنا، وحصلت بينهما مراسلات عدة تدور حول مسائل علمية والبحث في أحوال المسلمين. (¬1) ¬

(¬1) انظر كتاب (محمد رشيد رضا) للشوابكة، وكتاب (موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف دراسة تطبيقية على تفسير المنار)، شفيق بن عبد الله شقير، طبعة المكتب الإسلامي، صـ 80.

المبحث السابع مذهبه

المبحث السابع مذهبه درس الشيخ محمد رشيد رضا في بداية طلبة للعلم الفقه الشافعي على شيخه العلامة «محمود نشابه»، ولكن بعد هجرته إلى مصر وأقامته واستقراره بها، وملازمته الأستاذ محمد عبده أعجب بمنهجه في محاربة التقليد والتعصب المذهبي. (¬1) فترك التمذهب والتقليد بل وحمل على التقليد والمقلدين، بعدما ظهر له «تحريم التقليد والأخذ فيه بآراء البشر ... ». (¬2) وأن «التقليد ليس من العلم في شيء، والمقلد لا يكون عالماً ولا مفيداً للعلم ولا مستفيداً له». (¬3) ويشير إلى مساوئ التقليد وأثره على المقلد فيقول «ومن رُزِءَ بالتقليد كان محروماً من ثمرة العقل وهي الحكمة، ومحروماً من الخير الكثير الذي أوجبه الله لصاحب الحكمة، فيكون كالكرة تتقاذفه وسوسة شياطين الجن وجهالة شياطين الإنس يتوهم أنه قد يستغني بعقول الناس عن عقله وبفقه الناس عن فقه القرآن ... ». (¬4) ¬

(¬1) رشيد رضا في مقدمه كتاب «تاريخ الأستاذ الإمام». (¬2) تفسير المنار (9/ 570). (¬3) مجلة المنار (6/ 521). (¬4) تفسير المنار (3/ 76).

ويقول أيضاً: «كل ما نزل من الآيات في مدح العلم وفضله واستقلال العقل والفكر وحرية الوجدان يدل على ذم التقليد، وقد ورد في ذمه والنعي على أهله آيات كثيرة، كقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}. (¬1) وكقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}. (¬2) فالله سبحانه وتعالى ذمهم من ناحيتين: إحداهما: الجمود على ما كان عليه آباؤهم والاكتفاء عن الترقي في العلم والعمل، وليس هذا من شأن الإنسان الحي، العاقل، فإن الحياة تقتضي النمو والتوليد والعقل يطلب المزيد والتجديد. والثانية: أنهم باتباعهم لآبائهم قد فقدوا مزية البشر في التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والحسن والقبيح، بطريق العقل والعلم وطريق الاهتداء في العمل. (¬3) وفي سبيل محاربة التقليد نشر عدة مقالات في ذم التقليد والتعصب المذهبي، وحمل كذلك على الأزهر لأنه لم يقبل بالحالة التي عليها الأزهر، إذ أنها قائمة على التقليد، فكان يدعو إلى إصلاح التعليم في الأزهر، وألف في ذلك كتاباً بعنوان «الأزهر والمنار». ¬

(¬1) البقرة 170. (¬2) المائدة 104. (¬3) تفسير المنار (11/ 252).

1 - قوله بجواز التيمم بالسفر حتى مع وجود الماء عند تفسير آية التيمم في سورة النساء

فكان الشيخ رشيد رضا لا يلتزم بمذهب فقهي معين، فكانت له بعض الآراء الفقهية الجريئة، والتي قد يكون بعضها لم يسبقه إليها أحد، وقد يكون بعضها مخالفاً للإجماع. وسوف أذكر هنا بعض هذه الآراء ولكن بشكل موجز مع الرد عليها بشكل سريع ومختصر؛ لكي لا أخرج عن صلب موضوع الرسالة، ولكي يتضح منهجه الفقهي في ذهن القارئ: 1 - قوله بجواز التيمم بالسفر حتى مع وجود الماء عند تفسير آية التيمم في سورة النساء: وهي قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. (¬1) متبعاً في ذلك قول أستاذه وشيخه محمد عبده حيث يقول، «قال الأستاذ الإمام: المعنى أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثاً أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء، فعلى كل هؤلاء التيمم فقط. (¬2) فالشيخ رشيد رضا يرى أن التيمم مباح للمسافر مع وجود الماء، وهذا القول لم يسبق أن قال به أحد، بل إن الإجماع منعقد على خلافه، فالتيمم إنما يباح عند فقد الماء أو عند عدم القدرة على استعماله. (¬3) ¬

(¬1) النساء 43. (¬2) تفسير المنار (5/ 97). (¬3) انظر المغني (1/ 148) طبعة دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

2 - قوله بجواز ربا الفضل، لأنه كما يقول منع سدا للذريعة إلى الربا الجاهلي فيباح للضرورة

فالتيمم بدل عن الوضوء والغسل عند انعدام الماء أو تعذر استعماله، قال النووي «هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم». (¬1) 2 - قوله بجواز ربا الفضل، لأنه كما يقول منع سداً للذريعة إلى الربا الجاهلي فيباح للضرورة: (¬2) وهذا القول بلا شك مخالف لإجماع أهل العلم والذي حكاه غير واحد منهم. (¬3) قال بن تيميه: «إن النهي عن الربا في القرآن يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسيء والفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله وإن قصر نصوص النهي على البعض إنما يقع ممن لم يفهم معاني النصوص». (¬4) قال ابن قدامه: «والربا على ضربين، ربا الفضل، وربا النسيئه، وأجمع أهل العلم على تحريمهما». (¬5) ¬

(¬1) انظر المجموع للنووي (2/ 240)، طبعة دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ. (¬2) انظر كتاب «الربا والمعاملات في الإسلام» محمد رشيد رضا، دار النشر للجامعات، مكتبة الوفاء، ط الأولى 2009. (¬3) انظر ابن قدامه المغني (4/ 3) والنووي شرح مسلم (11/ 9) والقرطبي «الجامع لأحكام القرآن 3/ 352». (¬4) انظر مجموع الفتاوي (20/ 347) طبعة عالم الكتب، الرياض 1312 هـ، وللشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله، رسالة في الرد على رشيد رضا بعنوان «الروضة الندية في الرد على من أجاز المعاملات الربوية». (¬5) المغني (4/ 134).

3 - قوله بجواز العمل بالحساب في الرؤية الشرعية

3 - قوله بجواز العمل بالحساب في الرؤية الشرعية: (¬1) وهذا القول مخالف لإجماع أهل العلم، قال ابن تيمية: «فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الايلاء أو غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث إلا عن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة في جواز أن يعمل الحاسب في نفسه بالحساب، وهذا شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه». (¬2) قال النووي: «ومن قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين (إنا أمة أميه لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا)، ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار، فالصواب ما قاله الجمهور وما سواه فاسد مردود بصرائح الأحاديث السابقة». (¬3) 4 - موافقته أستاذه محمد عبده بجواز جمع الصلاتين دونما عذر: حيث ذكر في مقدمة كتابه «تاريخ الأستاذ الإمام» أن الأستاذ الإمام محمد عبده كان يجمع الصلاتين دونما عذر ثم قال «وهذه كبيرة عند المقلدين». ¬

(¬1) تفسير المنار (2/ 185). (¬2) انظر مجموع الفتاوي (25/ 113) وحاشية ابن عابدين (2/ 393) والمجموع (6/ 279) وبداية المجتهد (1/ 423). (¬3) المجموع (6/ 270).

5 - قوله بجواز نكاح الوثنيات

والصحيح أن هذه كبيرة عند فقهاء أهل السنة قاطبة لا عند المقلدين كما يقول الشيخ رشيد، وأن الذين يجمعون بلا عذر هم الشيعة والإباضية. (¬1) ثم إنه لا يجوز الجمع في الحضر إلا عند المطر أو عند الحاجة العارضة لا أن يكون الأصل هو الجمع، وهذا هو قول جمهور أهل العلم. (¬2) 5 - قوله بجواز نكاح الوثنيات: (¬3) وهذا مخالف لاتفاق العلماء، قال ابن قدامه: «وسائر الكفار غير أهل الكتاب، كمن عبد ما استحسن من الأصنام والأحجار والشجر والحيوان، فلا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم». (¬4) وقال سيد سابق: «اتفق العلماء على أنه لا يحل للمسلم أن يتزوج الوثنية ولا الزنديقة ولا المرتدة عن الإسلام، ولا عابدة البقر، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}. (¬5) ¬

(¬1) انظر «المفسرون مدارسهم ومناهجهم» للدكتور فضل حسن عباس 52، ط دار النفائس 2007 م. (¬2) انظر مجموع الفتاوي (24/ 25) و» شرح مسلم» للنووي (2/ 3509). (¬3) تفسير المنار (6/ 185). (¬4) المغني (15/ 151). (¬5) (فقه السنة) للسيد سابق، (2/ 209) مكتبة الرشد - الرياض 2001 م.

6 - قوله بعدم حرمة أكل لحوم الحمر الأهلية

6 - قوله بعدم حرمة أكل لحوم الحمر الأهلية: فيقول عند تفسيره قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}. (¬1) «الآية وردت بصيغة الحصر القطعي، فهي نص قطعي في حل ماعدا الأنواع الأربعة التي حصر التحريم فيها». (¬2) «فليس في القرآن ناسخ لهذه الآية وما في معناها من الآيات المؤكدة لها، ولا مخصص لعمومها». (¬3) فيرى أن تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عارضاً ومؤقتاً. والصحيح هو حرمة لحوم الحمر الأهلية تحريماً مؤبداً لحديث أنس بن مالك- رضي الله عنه - قال «أصبنا من لحوم الحمر يعني يوم خيبر، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس أو نجس». (¬4) وهو الذي عليه جمهور أهل العلم، قال ابن قدامه «أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهلية، قال ابن عبد البر، لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها». (¬5) ¬

(¬1) الأنعام 145. (¬2) تفسير المنار (8/ 149). (¬3) المصدر نفسه. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الحمر الإنسية (5/ 2103)، رقم (5208). (¬5) المغني (7/ 404).

7 - قوله أن تعدد الزوجات يباح عند الضرورة

قال النووي: «قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، لم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافاً إلا عن ابن عباس». (¬1) وذكر ابن حزم أنه نقل تحريم الحمر الأهلية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق تسعة من الصحابة بأسانيد كالشمس، فهو نقل متواتر لا يسع أحد خلافه. ثم قال «فإن ذكر ذاكر أن ابن عباس أباحها قلنا لا حجة في أحد على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكيف وابن عباس قد أخبر بأنه متوقف فيها، فقد روى البخاري عنه أنه قال «لا أدري أنهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أجل أنه كان حمولة الناس فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرم في يوم خيبر لحم الحمر، الحمر الأهلية» وإن ذكروا أن عائشة رضي الله عنها أحلتها. واحتجت بقوله تعالى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ...... }. قلنا لم يبلغها التحريم ولو بلغها لقالت به كما فعلت في الغراب، فقد حرمته مع أنه ليس مذكوراً في الآية». (¬2) 7 - قوله أن تعدد الزوجات يباح عند الضرورة: يقول الشيخ رضا: «إن تعدد الزوجات خلاف الأصل الطبيعي في الزوجية فإن الأصل أن يكون للرجل امرأة واحدة يكون بها كما تكون به زوجاً ولكنه ضرورة تعرض للاجتماع ولا سيما في الأمم الحربية كالأمة الإسلامية، فهو إنما أبيح للضرورة واشترط فيه عدم الجور والظلم». (¬3) ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي (4/ 332). (¬2) (المحلى) لعلي ابن أحمد ابن حزم، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، (7/ 406). (¬3) تفسير المنار (4/ 421).

وهو بقوله هذا يردد ما قاله قبله أستاذه وشيخه محمد عبده إذا يقول «إن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمرٌ مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور». (¬1) فمحمد رشيد رضا وأستاذه محمد عبده يحريان أنه لا يجوز الزواج بثانية ما دامت الزوجة الأولى في عصمته، وليس بها بأس أو عله فجاؤا بقول لم يقل به أحد من قبلهم. (¬2) وفي الحقيقة أن هذا القول بعيد كل البعد عن الصواب بل وعن الواقع، وهو أيضاً قولٌ مردود إذ لا دليل عليه لا من كتاب الله ولا من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومازال المسلمون منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عهدنا هذا يتزوجون من غير ضرورةٍ ولا حاجة من غير نكير من أحد، فمن أين أتى الإمام محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا بهذا القيد وهو أن التعدد لا يباح إلا عند الضرورة؟ والذي عليه إجماع أهل العلم أنه يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة، ولم يُذكر عن أحدٍ منهم أنه قيده بالضرورة والحاجة (¬3)، بل هو من الأمور المباحة التي أباحها الله لعباده حيث قال تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬4) قال بن كثير: «أي انكحوا ما شئتم من النساء ¬

(¬1) المصدر السابق (4/ 349). (¬2) المصدر السابق. (¬3) «فتح القدير» للشوكاني (1/ 385). (¬4) النساء 3.

إن شاء أحدكم اثنتين وإن شاء ثلاثاً وإن شاء أربعاً». (¬1) ثم أنه لم يكتف الإمام محمد عبده بالقول أن تعدد الزوجات أبيح للضرورة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك فقد كان يطالب بإصدار قانون يمنع بموجبه تعدد الزوجات. حيث يقول «يجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم وأن من أصوله منع الضرر والضرار، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغيير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة، يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرمة قطعا عند الخوف من عدم العدل». (¬2) ويقول: «وأما جواز إبطال هذه العادة أي عادة تعدد الزوجات فلا ريب فيه» (¬3) فهو يرى أنها «عادة» وليست حكماً شرعياً أباحة الله لعباده. ¬

(¬1) تفسير بن كثير (2/ 207). (¬2) تفسير المنار (4/ 349). (¬3) (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده)، جمع وتحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1978 م، (2/ 94).

المبحث الثامن عقيدته

المبحث الثامن عقيدته يعتبر الشيخ محمد رشيد رضا من أصحاب المدرسة العقلية الحديثة بل هو من أحد رموزها والتي تعتبر امتدادً للمدرسة العقلية القديمة (المعتزلة). والتي أسسها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والتي لها آراء كثيرة وشطحات تخالف رأي السلف، وذلك لمبالغتهم الشديدة في تحكيم العقل وتقديمه على النصوص الشرعية الصحيحة والتي أعطت العقل أكثر من حقه، وكلفته مالا يطيق، ورفعت من قيمته، وضخمت من حجمه حتى ساوته بالوحي، بل قدمته عليه فقدمت ما زعمته من أحكامه على أحكام الوحي. (¬1) وسوف أذكر هنا جمله من آرائه في العقيدة والتي يكفي بالحكم على من قال ببعضها أنه إلى فكر الاعتزال أقرب منه للسلفية، فكيف بمن قال بها كلها؟ ¬

(¬1) للاستزادة في معرفة منهج المدرسة العقلية الحديثة انظر كتاب منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، للدكتور فهد الرومي، وكتاب رياض الجنة في الرد على المدرسة العقلية ومنكري السنة، للدكتور سيد بن الحسن العفاني، وكتاب موقف المدرسة العلقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف، دراسة تطبيقية على تفسير المنار شفيق شقير.

1 - إنكاره أشراط الساعة الكبرى

1 - إنكاره أشراط الساعة الكبرى: كخروج المهدي وخروج المسيح الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وخروج الشمس من مغربها، بدعوى التعارض فيما بينها أو أنها مخالفة للعقل أو الحس أو السنن الكونية وغيرها من الأعذار. مع إن غالب أحاديثها في الصحيحين، وقد تلقتهما الأمة بالقبول والتصديق، والتي هي جزء من عقيدة المؤمن التي لا يمكنه إلا الإيمان بها وتصديقها لكثرة الأخبار والأثار الصحيحة الواردة فيها. فمذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بهذه الأشراط وتصديقها لا سيما وأنها ثابتة بالأحاديث الصحيحة. وسوف أتطرق في الفصل الثالث بإذن الله بذكر آرائه في أشراط الساعة الكبرى والرد عليها بشكل مفصل. 2 - إنكاره جميع أشراط الساعة الصغرى ما عدا بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -: فالشيخ رشيد رضا ينكر جميع أشراط الساعة الصغرى على الرغم من أن أغلبها في الصحيحين بحجج عقلية واستشكالات غير منطقية حيث يرى أن الأحاديث الواردة في أشراط الساعة الصغرى من الأمور المعتادة التي لا فائدة منها، حيث يقول «ويرد من الإشكال على ما ذكر أن ما ورد من الأشراط الصغرى المعتاد مثلها التي تقع عادة بالتدريج لا يذكر بقيام الساعة ولا تحصل به الفائدة التي من أجلها أخبر الشارع بقرب قيام

3 - قوله بفناء النار، وعدم خلود أهلها فيها

الساعة» (¬1)، فهذا إشكال بحد ذاته يكفي عند الشيخ رشيد رضا لرد جميع الأحاديث الواردة في أشراط الساعة الصغرى ولا أدري كيف يرد على رجل يصطنع الإشكالات والتساؤلات ليثبت صحة رأيه وما ذهب إليه وهذا بلا شك قول مردود، فأهل السنة والجماعة يثبتون للساعة أشراطاً صغرى تكون قبل قيام الساعة بأزمنة طويلة، وذلك تذكيراً للبشر بقرب قيام الساعة وزوال الدنيا ليتعظ من تنفع به الموعظة أما من سواه فلا يتعظ حتى تقوم قيامته. 3 - قوله بفناء النار، وعدم خلود أهلها فيها: (¬2) فالشيخ رشيد رضا يميل للقول بفناء النار وعدم خلود أهلها فيها مخالفاً بذلك إجماع أهل السنة بالقول بعدم فناء النار وخلود أهلها فيها. قال الإمام أحمد رحمه الله: «وقد خلقت النار وما فيها، وخلقت الجنة وما فيها، خلقهما الله عز وجل، ثم خلق الخلق لهما لا يفنيان ولا يفني ما فيهما أبداً، فإن احتج مبتدعٌ أو زنديق بقول الله عز وجل {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬3) وبنحو هذا من متشابه القرآن قيل له، كل شيء مما كتب الله ¬

(¬1) المنار (9/ 488). (¬2) انظر تفسير المنار سورة الأنعام آية 128، حيث أطال الشيخ رشيد رضا الكلام في هذه المسألة، ثم مال إلى القول بفناء النار وعدم خلود أهلها فيها. - وأنظر كذلك تفسيره سورة المائدة آية 118، حيث يقول عند قوله تعالى «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» قال «فإن ظاهر هذه الآية جواز مغفرة الشرك، فإن قيل إن الله تعالى بين أنه لا يغفرُ الشرك، قلنا إنما يدل هذا على أن العقاب على الشرك حتمٌ مقضي ولكنه لا يدل على أنه سرمدي». (¬3) سورة القصص 88.

عز وجل عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقهما الله للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا». (¬1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة، على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفني بالكلية، كالجنة والنار والعرش». (¬2) وقال الإمامان الحافظان الرازيان رحمهما الله، أبو حاتم وأبو زرعة: «أدركنا العلماء في جميع الأمصار - حجازاً وعرقاً - شاماً - ويمناً - فكان من مذهبهم .. الجنة حق والنار حق، وهما مخلوقتان لا يفنيان أبداً». (¬3) وقال الحافظ ابن حزم: «الجنة حق والنار حق، داران مخلوقتان هما ومن فيهما بلا نهاية، كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، ومن خرج عنه خرج عن الإسلام». (¬4) (¬5) ونسب بعضهم القول بفناء النار، وعدم خلود الكافرين فيها إلى ابن ¬

(¬1) (طبقات الحنابلة) للعلامة محمد ابن محمد أبي يعلى، طبعة دار المعرفة، بيروت، تحقيق محمد الفقي، (1/ 28). (¬2) مجموع الفتاوي (18/ 307). (¬3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 199) للالكائي. (¬4) (الدرة فيما يجب اعتقاده) للعلامة علي ابن أحمد ابن حزم، تحقيق عبد الحق التركماني، طبعة دار ابن حزم، بيروت، ص 27. (¬5) للاستزادة انظر، ما قاله الإمام أحمد في الرد على الجهمية وبن خزيمة في كتاب التوحيد، وأبو جعفر الطحاوي في عقيدته المشهورة بالطحاوية، وأبو الحسن البربهاري في شرح السنة، والأجرى في الشريعة، وابن أبي زيد في القيروانية، وابن حزم في المحلى.

القيم بناءً على ما فهمه من كلامه سواء في «حادي الأرواح» أو في «شفاء العليل». والصحيح أن ابن القيم قد صرح بأن القول بفناء الجنة والنار قولٌ مبتدع حيث يقول «والمقصود أن القول بفناء الجنة والنار قولٌ مبتدع لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة السلف، والذين قالوه إنما تلقوه من قياسٍ فاسد كما اشتبه أصله على كثير من الناس فاعتقدوه حقاً». (¬1) وقال أيضا: «الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يفتر عنهم وأنهم خالدون فيها». (¬2) وقال أيضاً: «الذي دل عليه القرآن والسنة أن الكفار خالدون في النار أبداً وأنهم غير خارجين منها، وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين». (¬3) ومثل ذلك موجود في كثير من مؤلفاته، وقد حاول بعض الباحثين المعاصرين، تبرئة ابن القيم مما نسب إليه أو فهم من كلامه، ومنهم الدكتور بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه «ابن القيم حياته وآثاره» ص 148. ¬

(¬1) (حادي الأرواح) للعلامة محمد ابن أبي بكر ابن قيم الجوزية، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ص 247. (¬2) (حادي الأرواح) 314. (¬3) المصدر نفسه 312.

4 - طعنة في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما

والدكتور عبد الله محمد جار النبي في كتابه «ابن القيم وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف» ص 567. وللعلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني كتاب بعنوان: «رفع الأستار لإبطال أدله القائلين بفناء النار» وقد حققه العلامة الألباني، وكان رداً علمياً رصيناً قوياً أبطل فيه أدلة القائلين بفناء النار وبين كذلك أن الآثار التي استشهدوا بها إما أنها لا تصح والصحيح منها غير صريح. وكذلك لابن تيمية رسالة بعنوان: «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» وبيان الأقوال في ذلك» بتحقيق ودراسة د. محمد عبد الله السمهري والذي أثبت في مقدمة الرسالة صحة نسبتها لابن تيمية. 4 - طعنة في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: حيث يقول: «إن سيرة معاوية تفيد بجملتها وتفصيلها أنه كان طالبا للملك ومحبا للرياسة، وأنني لأعتقد أنه قد وثب على هذا الأمر مفتاتاً، وأنه لم يكن له أن يحجم عن مبايعة علي بن أبي طالب بعد أن بايعه أولوا الأمر ... ». (¬1) ويقول في موضع آخر: «ونحن من أولياء علي - عليه السلام والرضوان لا من أولياء معاوية وفئته الباغية - عليهم من الله ما يستحقون ـ ولكننا لسنا بسبابين ولا لعانين كما ورد في وصف المؤمنين، وقد ذكرت في ترجمة الوالد رحمه الله - من المجلد الثامن - أنه كان يقول «لا نحُب ¬

(¬1) مجلة المنار (9/ 213).

معاوية ولا نسُبه» وكيف نحُب من بغى على جدنا وخرج عليه وكان سبباً في تلك الفتن التي كانت نكتةً سوداء في تاريخ عصر النور الأول لنور الإسلام، وبه تحول شكل الحكومة الإسلامية عن القاعدة التي وضعها لنا الله تعالى في كتابه بقوله في المؤمنين {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬1) إلى حكومة شخصية استبدادية .... ». (¬2) وهذا القول بلا شك مخالف لاعتقاد أهل السنة والجماعة في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. فالذي عليه أهل السنة والجماعة، وسلف الأمة وأئمتها، هو محبة الصحابة والترضي عنهم والدعاء لهم ومعاوية بن أبي سفيان من جملة هؤلاء الصحابة الكرام، بل ومن خيارهم. كيف لا وهو خال المؤمنين، وكاتب وحي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد دعي له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اللهم علم معاوية الكتاب وقه العذاب». (¬3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهده واهدِ به، ولا تعذبه». (¬4) ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية 38. (¬2) مجلة المنار (12/ 954). (¬3) رواه أحمد في المسند (4/ 127) وابن حبان في صحيحة رقم (7210) وابن خزيمة في صحيحة برقم (1938) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1961). (¬4) أخرجه البخاري التاريخ الكبير (5/ 240) وأحمد في المسند (4/ 216) والترمذي في سننه برقم (4113) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (3018) وبالسلسلة الصحيحة برقم (3227).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أول جيشٍ من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم». (¬1) وكان أول من غزا معاوية في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنهما. ولقد ولاه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - الشام كلها، لما رأى حسن سيرته، وقيامه بالمسلمين، وسد الثغور، وإصلاح الجند، وغلبة العدو، وسياسة الخلق. وسئل الإمام أحمد عن رجُلٍ انتقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال إنه رافضي؟ قال: «إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئةُ سوء، وما يبغض أحدٌ أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وله داخلةُ سوء». (¬2) وقال ابن المبارك: «معاويةٌ عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إلى معاوية شزراً أهمناه على القوم، يعني على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -». (¬3) وقيل لعبد الله بن المبارك، ما تقول في معاوية هو أفضل أم عمر بن عبدالعزيز؟ ، فقال: «لترابٌ في منخري معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرٌ أو أفضل من عمر بن عبدالعزيز». (¬4) وقال ابن تيمية: «من لعن أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كمعاوية بن أبي ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب ما قيل في قتال الروم (3/ 1069)، رقم (2766). (¬2) (تاريخ دمشق) لابن عساكر، طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى، 1418 هـ، (59/ 209). (¬3) المصدر نفسه. (¬4) المصدر نفسه.

سفيان وعمرو بن العاص ونحوهما ... فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين». (¬1) وقال في العقيدة الواسطية في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» ثم قال: «ويتبرأون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقولٍ أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد ونقص وغير عن وجهه الصريح، والصحيح منه هم فيه معذورون، وإما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون، مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر». (¬2) وقال ابن تيمية في منهاج السنة: «لم يكن من ملوك الإسلام ملكٌ خيراً من معاوية، وكانت سيرته مع رعيته من خيار سيرة الولاة، وقد كانت رعيته يُحبونه وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خيارُ أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرارُ أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم». (¬3) ¬

(¬1) مجموع الفتاوي (35/ 58). (¬2) (العقيدة الواسطية) لابن تيمية ص 484، طبعة دار ابن الجوزي، الطبعة الرابعة، 1427 هـ. (¬3) بن تيمية «منهاج السنة» (6/ 88) مؤسسة قرطبة، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.

5 - إنكاره أن للسحر حقيقة

وقال ابن خلدون في تاريخه: «إن دولة معاوية وأخباره كان ينبغي أن تلُحق بدول الخلفاء الراشدين وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة». (¬1) فكان الأولى بالشيخ محمد رشيد رضا جهة الصحابة أن يقول بجملة ما قاله ابن تيمية في الصحابة، لا سيما وأن ما قاله ابن تيمية هو قول أهل السنة والجماعة، وأن يبتعد عن اثاره ما جرى من الفتن والقتال بين الصحابة، والطعن والتقليل من شأن معاوية- رضي الله عنه -، لا سيما أن الكلام في هذه المسألة لا يستفاد منه في شيء سوى إثارة النعرات الطائفية والخلافات بين عامة الناس، ويكون مدعاةً لسب معاوية والتنقص منه من من لا يمنعه من ذلك دينٌ ولا تقوى. 5 - إنكاره أن للسحر حقيقة: فالشيخ محمد رشيد رضا لا يرى أن للسحر حقيقةً مطلقاً. (¬2) حيث يعرفه فيقول «والمعنى الجامع للسحر أنه أعمال غريبة من التلبيس والحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم بأسبابها فمن عرف سبب شيءٍ منها بطل إطلاق اسم السحر عليه ... ». (¬3) وهذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. ¬

(¬1) (مقدمة ابن خلدون) للعلامة عبد الرحمن ابن خلدون المغربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1967 م (1/ 104)، وما بعدها. (¬2) للاستزادة أنظر تفسيره لقوله تعالى ((قال الملأ من قومِ فرعون إن هذا لساحرٌ عليم)) في سورة الأعراف. (¬3) تفسير المنار (9/ 45).

فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن السحر ثابت وله حقيقة، والذين قالوا بأن السحر لا حقيقة له هم المعتزلة وبعض من شذ من أهل السنة. قال الخطابي: «أنكر قومٌ من أصحاب الطبائع السحر، وأبطلوا حقيقته والجواب أن السحر ثابت وحقيقته موجودة ... ». (¬1) وقال القرطبي: «ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الاستربادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به». (¬2) قال النووي رحمه الله: «الصحيح أن السحر له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة». (¬3) وقال ابن قدامه: «والسحر له حقيقة، فمنه ما يقتل وما يُمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه». (¬4) وقال أبو العز الحنفي: «وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه والأكثرون يقولون، إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيءٍ ظاهرٍ إليه». (¬5) ¬

(¬1) (شرح السنة) للعلامة محمد ابن الحسين البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1390 هـ (12/ 188). (¬2) تفسير القرطبي (2/ 46). (¬3) نقلا عن شرح النووي على مسلم (10/ 222). (¬4) المعني (10/ 106). (¬5) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، ص 505، طبعة المكتب الإسلامي 1996 م.

6 - إنكاره سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -

6 - إنكاره سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -: فالشيخ محمد رشيد رضا يميل إلى إنكار سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - متبعاً في ذلك قول أستاذه محمد عبده، حيث يقول محمد عبده: «وقد قال كثيرٌ من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوه وما يجب لها إن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر، فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح في نظر المقلد للبدعة». (¬1) ورشيد رضا نفسه قد أورد الأحاديث التي تنص على سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمن الأحاديث التي ينبغي أن ترد لعله في متنها؛ لأنها تمثل شبهه على الدين، ولأن نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى من أن يكون لمن دونه تأثيراً فيها. (¬2) والصواب أن أحاديث السحر صحيحة لا مطعن ولا شبهه فيها، وهي في الصحيحين وفي غيرها من كتب السنن. قال ابن القيم: عن حديث السحر «ثابتٌ عند أهل العلم بالحديث، لا يختلفون في صحته، وقد أتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمه واحده، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين». (¬3) ¬

(¬1) تفسير جزءهم، محمد عبده، ص 180. (¬2) مجلة المنار (14/ 623). (¬3) انظر التفسير القيم، ابن القيم سورة العلق، ص 566.

وقال الأستاذ عبد القادر الأرناؤوط: «ورواه أيضا أحمد والنسائي وابن سعد والحاكم وعبد بن حُميد وابن مردوية والبيهقي في دلائل النبوه وغيرهم، وقال ابن القيم في بدائع الفوائد: وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم متلقى عندهم بالقبول». (¬1) تلك هي درجة الحديث عند أهل الحديث والمختصين به، أما ما ذكر من أن الحديث فيه تقليل من منصب النبوه أو أنه يمثل شبهة في الدين فهو غير صحيح. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «قال المازري قد أنكر هذا الحديث المبتدعة من حيث إنه يحبط من منصب النبوه، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وقالوا فلعله حينئذ يخيل إليه أن جبريل عليه السلام يأتيه وليس ثم جبريل، وأن أوحى إليه وما أوحى إليه، وهذا كله مردود لأن الدليل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضه لما يعترض البشرى كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمرٍ من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين». (¬2) وقال أبو الجعني اليوسفي رحمه الله: «أما وقوع المرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب ¬

(¬1) جامع الأصول في أحاديث الرسول، ابن الأثير، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط (5/ 67). (¬2) فتح الباري لابن حجر (ج 10/ 226).

السحر فلا يجر خللاً لمنصب النبوه، لأن المرض الذي لا نقص فيه في الدنيا يقع للأنبياء ويزيد في درجاتهم في الآخرة، فإذا خيل له بسبب مرض السحر أنه يفعل شيئا من أمور الدنيا وهو لم يفعله ثم زال ذلك عنه بالكلية بسبب إطلاع الله تعالى له على مكان السحر وإخراجه إياه من محله ودفنه فلا نقص يلحق الرسالة من هذا كله، لأنه مرض كسائر الأمراض، لا تسلط له على عقله، بل هو خاص بظاهر جسده كبصره حيث صار يخيل إليه تارةً فعل الشيء من ملامسة بعض أزواجه وهو لم يفعله وهذا في زمن المرض لا يضر، والعجب ممن يظن هذا الذي وقع من المرض بسبب السحر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادحاً في رسالته مع ما هو صريح في القرآن في قصة موسى مع سحرة فرعون، حيث صار يخيل إليه من سحرهم أن عصيهم تسعى، فثبته الله كما دل عليه قوله تعالى {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تلقف ما صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)} (¬1)، ولم يقل أحد من أهل العلم ولا من أهل الذكاء أن ما خُيل لموسى أولاً من سعي عصي السحرة قادحاً في رسالته، بل وقوع مثل هذا للأنبياء يزيد من قوة الإيمان بهم، لكون الله ينصرهم على أعدائهم، ويخرق لهم العادة بالمعجزات الباهرة، ويخذل السحرة والكفرة ويجعل العاقبة للمتقين». (¬2) وقال القاضي عياض رحمه الله: في «الشفاء» في رده على من ينكر حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يقول بأنه فيه تشكيكاً في الشرع. ¬

(¬1) سورة طه الآية 68 - 70. (¬2) زاد المسلم (4/ 22).

7 - تقديمه العقل على النقل

قال: «فاعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الحديث صحيح متفقٌ عليه، وقد طعنت فيه الملحده وتذرعت به لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها، إلى التشكيك في الشرع، وقد نزه الله الشرع والنبي - صلى الله عليه وسلم - عما يدخل في أمره لبساً، وإنما السحر مرضٌ من الأمراض وعارضٌ من العلل، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته، وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طرُوُءه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ولا فضل من أجلها، وهو فيها عرضةٌ للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان». (¬1) 7 - تقديمه العقل على النقل: لعل من أكثر المأخذ على الشيخ رشيد رضا هو رده لكثير من الأحاديث الصحيحة، والتي غالبها في الصحيحين، لا لعلةٍ في سندها أو روايتها، بل لأنها تخالف العقل أو الحس، أو بدعوى وجود تعارض فيما بينها مما يوجب إسقاطها وعدم الاحتجاج بها، مما جعل الكثير من أهل العلم والباحثين يعيدون النظر في سلفيته، وذلك لأن تقديم العقل أو الحس على النقل هو من أقوال المعتزلة وغيرهم من الفرق الكلامية، وقد جرى بسبب هذا القول البدعي الكثير من المخالفات والبدع ورد للأحاديث الصحيحة. ¬

(¬1) (الشفا بتعريف أحوال المصطفى) للقاضي عياض ابن موسى الأندلسي، تحقيق أمين قرة علي، طبع الوكالة العامة للنشر، مؤسسة علوم القرآن، ومكتبة دمشق، (2/ 160).

وهو في فعله هذا يكون متابعاً لقول شيخه وأستاذه محمد عبده، حيث يقول «اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل». (¬1) ومما لا شك فيه أن هذا القول معلومٌ بطلانه، والأصل المستقر عند أهل السنة أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، والعبرة في المسائل الاعتقادية هي صحة الحديث والإسناد وسلامته من العلل القادحة فيه. ولعل من أبرز الأحاديث التي رفضها وردها بحجج عقلية، الأحاديث الواردة في الدجال، حيث يرى أن هذه الأحاديث مشكلة حيث إنها منافية لحكمة إنذار الناس بقرب قيام الساعة وإتيانها بغتةً، وأن ما أعطي الدجال من الفتن والخوارق تضاهي أكبر الآيات التي أيد الله بها أولي العزم من الرسل، وأن أحاديثها متعارضة تعارضاً كبيراً، مما يوجب تساقطها. (¬2) فهو يرد أحاديث الدجال الثابتة في صحيح البخاري ومسلم والذي هما أصح الكتب بعد القرآن والذين قد تلقتهما الأمة بالقبول، لمجرد أنها تخالف العقل والحس. وكذلك إنكاره للأحاديث الواردة في المهدي حيث يقول «وأما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات فيها أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد الشيخان بشيء من روايتهما في صحيحيهما». (¬3) ¬

(¬1) مجلة المنار (13/ 8/613). (¬2) تفسيرا المنار (ج 6/ 450). (¬3) تفسير المنار (ج 9/ 459).

ومن ذلك أيضا رده لحديث: «طلوع الشمس من مغربها» في آخر الزمان والذي رواه أبو هريره ورفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فرشيد رضا يرد هذا الحديث بدعوى أنه مشكل وأن أبا هريرة لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار! ! وكذلك رده لحديث «سجود الشمس عند العرش» والذي أخرجه البخاري في صحيحة. حيث يقول: «ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب بن أبي جناده: الذي يُعد متنه من أعظم المتون إشكالاً، فهو يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله، أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ قال: قلت لا أدري، قال إنها تنحني دون العرش فتخر ساجدهً، ثم تقوم حتى يقال لها أرجعي فيوشك يا أباذر أن يقال أرجعي من حيثُ دخلتِ وذلك حين لا ينفعُ نفساً إيمانها لم تكن أمنت من قبل». (¬1) فالشيخ يرى أن الحديث مشكل ولا يقبله العقل وإن كان إسناده من أصح الأسانيد. وكذلك إنكاره للأحاديث التي تثبت سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتي هي في صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن الأخرى، بدعوى أنها تمثل شبهة على الدين. ¬

(¬1) تفسير المنار (8/ 210).

سبحان الله يرد حديث صحيح السند، سالم من العلة، ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لشيء إلا لأن فيه شبهة على الدين كما يقول. والله إن الحديث لا شبهة فيه، لو أنه رجع لأقوال أهل العلم وشراح الحديث أهل الرواية والدراية والذين هم أعلم الناس بالحديث. فأي تهاون وأي تساهل في رد الأحاديث بهكذا أعذار لا قيمة لها أمام صحة السند والرواية، فالمدار عند أهل السنة على قبول الحديث أو رده هو صحة السند أو ضعفه، أما خلاف ذلك فهو قول أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم. وغير ذلك من الأحاديث الأخرى التي مقياس الحكم على صحتها هو العقل والحس لا صحة السند والرواية. مما جعل الكثير من أهل العلم يستاء من آرائه، بل ذهب بعضهم إلى القول بأنه إلى الاعتزال أقرب منه للسلفية. (¬1) ولقد أنصف الشيخ الدكتور/ فضل حسن عباس حيث قال: «وخلاصة القول إن رشيد رضا رحمه الله نفر من الإسرائيليات في تفسيره ونفر منها وحذر ولكن غالى وتطرف، وحكّم العقل أكثر مما ينبغي وجعله أعظم المقاييس التي يقاس بها تمريض الحديث أو تصحيحه، فكانت النتائج التي وصل إليها لا تقل خطورة عن الإسرائيليات بل إنها والحق يقال إنها أشد ¬

(¬1) انظر كتاب الشيخ مقبل الوادعي «ردود أهل العلم على الطاعنين بحديث السحر وبيان بُعد محمد رشيد رضا عن السلفية» طبعة دار الآثار حيث يرى الشيخ أن رشيد رضا إلى الاعتزال أقرب منه إلى السلفية وذكر جملة من آرائه وأقواله.

8 - إنكاره لمعجزة انشقاق القمر

خطورة وأسوأ آثاراً، ذلك لأنها تتعلق بمصدر من مصادر التشريع وهو السنة وليست كذلك الإسرائيليات». (¬1) 8 - إنكاره لمعجزة انشقاق القمر: الشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له ينكر معجزة انشقاق القمر الثابتة في القرآن بقوله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. (¬2) فالشيخ رشيد رضا يرى أن معنى «انشق القمر» أي طلع وانتشر نوره. (¬3) وأما الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تنص على أن القمر قد انشق في مكة قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية ومعجزةً من الله له. فيرى الشيخ أنها لا تصح للاحتجاج بها لأنها مرسلة، وإن كانت في الصحيحين كحديث أنس وابن عباس! ! ثم ذكر بعد ذلك مطعناً آخر وهو دعوى اختلاف المتون في أحاديث انشقاق القمر مما يوجب تساقطهما! ! (¬4) ثم ختم ذلك بذكر ما أسماه الإشكال الأصولي الأعظم. ¬

(¬1) «المفسرون مدارسهم ومناهجهم د. فضل حسن عباس، ص 188. (¬2) سورة القمر، آية 1. (¬3) انظر مجلة المنار (30/ 262). (¬4) المصدر نفسه، ويقصد باختلاف المتون أن في بعض روايات ابن مسعود في الصحيحين أنه قال (انشق القمر ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في منى)، وفي رواية أخرى أنه قال (انشق القمر بمكة)، وقد جمع ابن حجر بين هاتين الروايتين فقال بأن منى من جملة مكة لأنها تابعه لها، ولأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس ولكن على ما يبدو أن هذا الجمع لم يرضي الشيخ.

9 - تفسيره لبعض الآيات على رأي الخوارج والمعتزلة

وهو قوله: «أن سنته قد مضت بأن ينزل عذاب الاستئصال لكل قومٍ اقترحوا آية على رسولهم ولم يؤمنوا بإجابتهم إلى ذلك .... ». (¬1) وقال: «وجمله القول أنه لو صح أن قريشاً سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أيةً تدل على صدق نبوته وأن الله تعالى أجابهم إلى طلبهم فجعل انشقاق القمر آية كما هو نص حديث أنس في الصحيحين وغيره في غيرهما لعذب الله أمته وقومه باستئصالهم على حسب القاعدة الصحيحة الثابتة بالنص القطعي ... ». (¬2) وهذه في الحقيقة إستشكالات لا قيمة لها أمام النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة عن جملةٍ من الصحابه والذين منهم أنس وابن عباس. 9 - تفسيره لبعض الآيات على رأي الخوارج والمعتزلة: وذلك في تفسير قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}. (¬3) قال: «وقد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار وأوله بعضهم بطول المكث فيها، وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار في النار، فيقال إن المراد به طول المكث فيها». (¬4) وقال في وعيد آكلي الربا في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}. (¬5) ¬

(¬1) المصدر نفسه. (¬2) مجلة المنار (30/ 262). (¬3) سورة النساء، الآية 93. (¬4) تفسير المنار (5/ 341). (¬5) سورة البقرة، الآية 275.

10 - إنكاره لكثير من المعجزات وتأويلها

قال: «ما الوعيد هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد وليس هناك شبهة على إرادة الاستحلال». (¬1) وهذا القول بلا شك قول غير صحيح وهو من أقوال الخوارج والمعتزلة الذين قالوا بخلود صاحب الكبيرة في النار، أما أهل السنة والجماعة فيرون أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار إلا إذا استحلوا فعلها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ونصوص الكتاب والسنة مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذب، وأنه لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان». (¬2) 10 - إنكاره لكثير من المعجزات وتأويلها: فالشيخ رشيد رضا يميل إلى إنكار الكثير من المعجزات أو تأويلها متبعاً في ذلك رأي شيخه محمد عبده. حيث يرى أن رواية القرآن لمعجزات الأنبياء السابقين كانت سبباً لإعراض العلماء والعقلاء عن الدين الإسلامي! ! إذ يقول: «ولولا رواية القرآن لتلك المعجزات لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأوسع». (¬3) ¬

(¬1) تفسير المنار (3/ 98)، ولقد أجاد وأحسن الدكتور فهد الرومي في الرد على هذه الشبهة في رسالته «منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير»، فمن أرد الاستزادة فيرجع إليها في ص 653 وما بعدها. (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 479) (¬3) تفسير المنار (11/ 155) والوحي المحمدي 62.

11 - قوله إن الإسراء والمعراج كان رؤيا منامية

ويقول أيضا: «وأما آيته - أي محمد - صلى الله عليه وسلم - التي احتج بها على كونه من عند الله تعالى هي القرآن، وأمية محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهي آية علمية تدرك بالعقل والحس والوجدان. كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم. وأما تلك العجائب الكونية فهي مثار شبهات وتأويلات كثيرة، في روايتها وفي صحتها وفي دلالتها». (¬1) ولم يكتف رشيد رضا بذلك، فكان يدافع عن كتاب «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل والذي جرد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من جميع المعجزات إلا القرآن الكريم، بل وينتصر له انتصاراً عظيماً في كتابه «الوحي المحمدي» (¬2)، ومجلته المنار. 11 - قوله إن الإسراء والمعراج كان رؤيا منامية: فالشيخ رشيد رضا يميل إلى القول بأن الإسراء والمعراج لم يكن حقيقياً بالروح والبدن وإنما كان رؤيا منامية. (¬3) والذي عليه أكثر أهل العلم من أهل السنة والجماعة أنه أُسريَ به - صلى الله عليه وسلم - ببدنه وروحه يقظة لا مناما، والدليل على ذلك قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}. (¬4) ¬

(¬1) تفسير المنار (11/ 155). (¬2) مجلة المنار (34/ 10/793). (¬3) مجلة المنار (1/ 771). (¬4) الإسراء، آية 1.

12 - متابعة شيخه محمد عبده بالقول بأن الملائكة قوى طبيعية

والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن فيه شيئ كبير، ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن قد أسلم، وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والبدن». (¬1) 12 - متابعة شيخه محمد عبده بالقول بأن الملائكة قوى طبيعية: حيث يقول الشيخ محمد عبده: «وذهب بعض المفسرين مذهبا آخر في فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقه حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة، فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان. فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكاً، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمى هذه المعاني القوى الطبيعية إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة». (¬2) فالشيخ محمد عبده يروي هذا القول أولا ثم يؤيده ويحبذه ويدافع عنه لأن فيه تقريباً للإيمان بالملائكة من عقول الماديين، ثم يزعم أنه لا فرق بين هذا القول وقول السلف، فالحقيقة واحده وإنما الخلاف في الأسماء! ! ¬

(¬1) (الإرشاد إلى سبيل الاعتقاد) للشيخ صالح الفوزان، دار ابن الجوزي، الطبعة الثاني عشر، 1428 هـ، ص 203. (¬2) تفسير المنار (1/ 267).

13 - متابعة شيخه محمد عبده في التشكيك بأن آدم أبو البشر

وفي الحقيقة إن هذا القول لا يقوم على أي مستند من الكتاب أو السنة بل هو من الخوض في أمور لا تدرك إلا بالوحي، استقوه من خيالاتهم، ثم ما الفرق بين من ينكر وجود الملائكة وبين من يزعم أنها قوة طبيعية ما دام منكر الملائكة يقر ويعترف بوجود قوة نمو في النباتات، وخلقه في الحيوان، وحفظ في الإنسان، ولكنها قوة طبيعية لا ينطبق عليها ما ورد في القرآن الكريم من أوصاف للملائكة. 13 - متابعة شيخه محمد عبده في التشكيك بأن آدم أبو البشر: حيث يقول محمد عبده عند تفسير قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (¬1). «ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين من يقول إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة أو قريش، فإذ صح هذا هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش، إن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان، وإذا قلنا إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام أي لجميع الأمم فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، فالذين يعتقدون أن لكل صنف من البشر أبا يحملون النفس على ما يعتقدون ... والقرينة على أنه ليس بالنفس الواحدة آدم قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} بالتنكير، وكان المناسب على الوجه أن يقول: وبث منهما جميع الرجال والنساء. وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب عام لجميع الشعوب، وهذا العهد ليس معروفا عند ¬

(¬1) سورة النساء، آية 1.

جميعهم، فمن الناس من لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما. وهذا النسب المشهور عند ذرية نوح مثلا هو مأخوذ عن العبرانيين، فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخا متصلا بآدم وحددوا له زمنا قريبا. وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون. والعلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين، ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود وإن عزوه إلى موسى عليه السلام فإنه لا ثقة عندنا بأنه من التوراة وأنه بقي كما جاء به موسى» (¬1). ويقول أيضا: «نحن لا نحتج على ما وراء مدركات الحس والعقل إلا بالوحي الذي جاء به نبينا عليه السلام، وإننا عند هذا الوحي لا نزيد ولا ننقص كما قلنا مرات كثيرة، وقد أبهم الله تعالى ههنا أمر النفس التي خلق الناس منها وجاء بها نكرة فندعها على إبهامها. فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من الإفرنج من أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير وارد على كتابنا كما يرد على كتابهم التوراة لما فيها من النص الصريح في ذلك، وهو مما حمل باحثيهم على الطعن في كونها من عند الله تعالى ووحيه وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله «يا بني آدم» لا ينافي هذا ولا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبنائه، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم». (¬2) ¬

(¬1) تفسير المنار (4/ 323 - 324). (¬2) نفس المصدر (4/ 324 - 325).

وتابع الشيخ رضا أستاذه على هذا القول فقال: «وأقول زيادة في الإيضاح: إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم، فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة المسلمة عندهم وهي أن آدم أبو البشر ... ». (¬1) وهذا القول في الحقيقة مخالف لما ثبت في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في أن آدم أبو البشر، فمنها على سبيل المثال قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} (¬2)، وقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)}. (¬3) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب». (¬4) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد .... ». (¬5) ¬

(¬1) نفس المصدر (4/ 325). (¬2) سورة الأعراف، آية 11 - 12. (¬3) سورة الجحر، آية 26 - 31. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 361)، وأخرجه الألباني في الصحيح الجامع برقم (4568) وقال صحيح. (¬5) أخرجه الأمام أحمد في مسنده وقال شعيب الأرناوط إسناده صحيح.

المبحث التاسع وفاته

المبحث التاسع وفاته توفي محمد رشيد رضا في 23 جمادي الأول عام 1354 هـ الموافق 22 أغسطس 1935 م. وكان قد خرج لوداع الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود (¬1)، في السويس، وفي أثناء عودته بالسيارة، إلى القاهرة فاضت روحه وهو في السيارة. وروى المرافقون له أنه كان يقرأ القرآن، وشعر المرافقون فجأة بسكوته واتكائه على ظهره، فإذا بروحه قد فاضت إلى خالقها. ودفن رحمه الله تعالى في قرافة المجاورين بجوار قبر أستاذه محمد عبده (¬2)، عن عمرٍ يناهز السبعين عاماً قضاها في طاعة الله والعمل الصالح، وفي طلب العلم وتعليمه وتفسير كتاب الله، ونشر سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والدفاع عنها والدفاع عن الإسلام وأهله في كل مكان، ومحاولة إصلاح أحوال المسلمين والنصح لهم ومحاربة البدع والخرافات والجمود والتقليد. ¬

(¬1) هو سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل أل سعود، من ملوك الدولة السعودية، تولى العرش السعودي عام «1373 هـ - 1953 م» فور وفاة أبيه ولكن خلع عن الملك سنة 1964 م وبويع لفيصل، توفي عام «1388 هـ - 1969 م» انظر الأعلام للزركلي (3/ 90). (¬2) رشيد رضا، إبراهيم العدوي 281 - 283.

وقد أحدثت وفاته صدى هائلا في الأوساط المصرية ورثاه العلماء والأدباء والشعراء. (¬1) ¬

(¬1) مجلة المنار (35/ 149).

المبحث العاشر آثاره ومؤلفاته

المبحث العاشر آثاره ومؤلفاته للشيخ محمد رشيد رضا، الكثير من الآثار والمؤلفات والكتابات منها: (¬1) 1 - تفسير القرآن الكريم الشهير «بتفسير المنار» فسر فيه إلى قوله تعالى {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} يوسف: 101، ويقع في 12 مجلداً. 2 - مجلة المنار وتقع في 35 مجلداً. 3 - تاريخ الأستاذ محمد عبده. 4 - نداء للجنس اللطيف. 5 - الوحي المحمدي. 6 - المنار والأزهر. 7 - ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد. 8 - ذكر المولد النبوي. 9 - الوحدة الإسلامية. 10 - الخلافة أو الإمامة العظمى. ¬

(¬1) السيد رشيد رضا أو أخاء أربعين سنة لأمير البيان شكيب أرسلان ص 8.

11 - الوهابيون والحجاز. 12 - السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة. 13 - المسلمون والقبط. 14 - الربا والمعاملات في الإسلام. 15 - سير الإسلام وأصول التشريع العام. 16 - مناسك الحج وأحكامه. 17 - رسالة في الصلب والفداء. 18 - خلاصة السيرة المحمدية. 19 - محاورات المصلح والمقلد. 20 - شبهات النصاري وحجج الإسلام. 21 - مساواة الرجل بالمرأه. 22 - رسالة في أبي حامد الغزالي. 23 - إنجيل برنابا. 24 - تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن. 25 - المقصورة الرشيدية.

الفصل الثاني نبذه عن تفسير المنار

الفصل الثاني نبذه عن تفسير المنار ويتضمن المباحث التالية: المبحث الأول: تعريف بتفسير المنار. المبحث الثاني: منهجه في التفسير. المبحث الثالث: طريقته في التفسير. المبحث الرابع: خصائص تفسير المنار. المبحث الخامس: منهجه العقدي في التفسير. المبحث السادس: المآخذ التي على التفسير.

المبحث الأول تعريف بتفسير المنار

المبحث الأول تعريف بتفسير المنار كان سبب تأليف تفسير المنار، هو عبارة عن اقتراح من محمد رشيد رضا إلى شيخه وأستاذه الإمام محمد عبده، بأن يلقي دروساً في تفسير القرآن الكريم، تتلائم مع روح العصر الحديث، وتكون العناية الأولى فيه ببيان هداية القرآن على الوجه الذي يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة في وصفه أو ما أنزل لأجله من الإنذار والتفسير والهداية والإصلاح. (¬1) وأن يكون هذا التفسير بعيداً عن الإسرائيليات، والأحاديث الموضوعة والخرافات، وجدل المتكلمين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق وكثرة الروايات والعلوم الرياضية والطبيعية، والتي علقت بكثير من كتب التفسير فأخرجته عن مقصوده. (¬2) فاستحسن الشيخ محمد عبده هذا الرأي، فوافق عليه، فكان يلقي دروسه في التفسير في الجامع الأزهر، وكان رشيد رضا يكتب أهم ما يلقيه الأستاذ ثم يقوم بنشره في مجلة المنار. وقد بدأ الأستاذ محمد عبده والشيخ رشيد رضا في هذه الطريقة من التفسير من غرة محرم عام 1318 هـ. ¬

(¬1) تفسير المنار (1/ 10). (¬2) تفسير المنار (1/ 7 - 10).

يقول الشيخ رضا في ذلك: «وكنت أكتب في أثناء إلقاء الدرس مذكرات أودعها ما أراه أهم ما قاله، وأحفظ ما كتب لأجل أن أبيضه وأمده بكل ما أتذكره في وقت الفراغ، ولم ألبث أن اقترح عليَّ بعض الراغبين في الإطلاع عليه من قراء المنار في البلاد المختلفة، ومن الحريصين على حفظه من الإخوان بمصر أن أنشره في المنار، فشرعت في ذلك في أول المحرم سنة 1318 هـ وذلك في المجلد الثالث من المنار، وكنت أولاً أطلع الأستاذ الإمام على ما أعده للطبع كلما تيسر ذلك بعد جمع حروفه في المطبعة وقبل طبعه فكان ربما ينقح فيه زيادةً قليلة أو حذف كلمة أو كلمات، ولا أذكر أنه انتقد شيئاً مما لم يره قبل الطبع، بل كان راضياً بالمكتوب بل معجباً به، على أنه لم يكن كله نقلا منه ومعزوا إليه، بل كان تفسيرا للكاتب من إنشائه اقتبس فيه من تلك الدروس العالية جل ما استفاد منها، لذلك كنت أعزو إليه القول المنقول عنه إذا جاء بعد كلام لي في بيان معنى الآية أو الجملة على الترتيب، فإذا انتهى النقل وشرعت بكلام لي بعده قلت في بدئه (أقول) ولم يكن هذا التمييز ملتزماً في أول الأمر، بل يكثر في الجزء الأول مالا أعزو فيه، ومنه ما هو مشترك بين ما فهمته منه ومن كتب التفسير الأخرى، أو من نص الآية، على أنني عبرت عنه بأمالي مقتبسة، ولما كان رحمه الله تعالى يقرأ كل ما أكتبه إما قبل طبعه وهو الغالب، وإما بعده وهو الأقل، لم أكن أرى حرجاً فيما أعزو إليه مما فهمته منه وإن لم أكن كتبته عنه في مذكرات الدروس، لأن إقراره إياه يؤكد صحة الفهم وصدق العزو». (¬1) واستمر الإمام محمد عبده والشيخ رضا في هذه الطريقة من التفسير من عام 1318 هـ إلى عام 1343 هـ/ حيث توفي الإمام في هذا العام، بعدما ¬

(¬1) انظر تفسير المنار (1/ 12 - 15).

استمر أكثر من ست سنوات في إلقاء دروس التفسير في جامع الأزهر، مبتدءا من أول القرآن إلى أن وصل إلى قوله تعالى في سورة النساء {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)} (¬1)، فكان مجمل ما قرأه الأستاذ الإمام ما يقارب خمسة أجزاء في ست سنين. وبعد أن توفي الإمام رحمه الله، شعر محمد رشيد رضا بعبء المسئولية الملقاة إليه، وأنه لابد من أن يتحمل وحده تبعه تأليف تفسير للقرآن، فعزم على إتمام هذا التفسير كاملاً، فبدأ من حيث انتهى الإمام في تفسير القرآن إلى أنه وافته المنية بعدما أنهى تفسير الآية 101 من سورة يوسف وهي قوله تعالى {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}. (¬2) فكان مجمل ما فسره بعد وفاة الإمام ما يقارب سبعة أجزاء في أكثر من ثلاثين سنة. وانتهى تفسير المنار بما أتمه الشيخ رضا إلى اثني عشر مجلداً، ينتهي المجلد الثاني عشر وقد أكمل الأستاذ بهجت البيطار تفسير سورة يوسف، وطبع تفسير هذه السورة بتمامها في كتاب مستقل يحمل اسم الشيخ رضا رحمه الله. (¬3) ¬

(¬1) النساء 126. (¬2) يوسف 101. (¬3) انظر التفسير والمفسرون للدكتور الذهبي (2/ 577)، وكتاب «المفسرون مدارسهم ومناهجهم» للأستاذ الدكتور فضل حسن عباس، 95 - 96 دار النفائس الأردن، الطبعة الأولى 2007 م.

المبحث الثاني منهجه في التفسير

المبحث الثاني منهجه في التفسير كان المنهج المتبع في بداية تأليف المنار، هو منهج الإمام محمد عبده، حيث كان يمتاز بالخصائص التالية: (¬1) 1 - نظرته للسورة القرآنية على أنها وحده كاملة. 2 - يسر العبارة وسهولة الأسلوب. 3 - عدم تجاوز النص في مبهمات القرآن. 4 - محاربته الإسرائيليات والخرافات. 5 - حرصه على بيان هداية القرآن الكريم. 6 - دحضه للشبهات التي تثار حول القرآن والإسلام. 7 - نبذ التقليد والجمود. 8 - بيانه لحكمة التشريع. ولكن بعد وفاة الإمام، لم يلزم رشيد رضا نفسه بنهج الإمام وطريقته، بل كان له نهج آخر عبر عنه بقوله «وإني لما استقللت بالعمل بعد وفاته ¬

(¬1) انظر كتاب «المفسرون مدارسهم ومناهجهم» للدكتور فضل حسن عباس وكتاب «التفسير والمفسرون» للذهبي وكتاب «الإمام محمد عبده ومنهجه في التفسير» عبد الغفار عبد الرحيم.

خالفت منهجه رحمه الله تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيرا لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة - وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو بحل بعض المشكلات التي أعيا حلها بما يطمئن به القلب وتسكن إليه النفس». (¬1) ¬

(¬1) تفسير المنار (1/ 16).

المبحث الثالث طريقته في التفسير

المبحث الثالث طريقته في التفسير طريقة رشيد رضا في تفسيره المنار، هو أن يذكر مقدمة للسورة كبيان مكيتها أو مدنيتها، وعدد آياتها، ومناسبتها لما قبلها، وسبب نزولها، وما يخصها من بعض الوجوه الأخرى. ثم بعد ذلك يأخذ آية أو أكثر ويفسرها على حدة، وقد يتوسع في بعضها إذا رئي أنها تحتاج لبيان وشرح وتفصيل، وذكر للأقوال المخالفة، وقد يختصر في البعض الآخر إذا لم تكن بحاجة إلى التوسع في تفسيرها أو قد يكون تناول تفسيرها في موضوع سابق. وبعد أن ينتهي من تفسير السورة بشكل مجمل، يأتي بخلاصة للسورة في آخرها، عدا سورة البقرة أوردها في أولها: مثال ذلك: ذكر في آخره سورة (براءة) أنها تحتوي على خمسة أبواب: (¬1) الباب الأول: في صفات الله تعالى وشؤونه في خلقه وأحكامه وسننه فيها. ¬

(¬1) تفسير المنار (10/ 134).

الباب الثاني: في مكانة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخاتم النبيين عند ربه وفي هداية دينه وحقوقه على أمته. الباب الثالث: في دين الإسلام، وما في السورة من حججه وأصوله وصفات أهله. الباب الرابع: في المسائل المالية والعسكرية والسياسية، وما فيها من أحكام القتال. الباب الخامس: في شؤون الكفار والمنافقين وحكم الإسلام عليهم، وسياسته فيهم. وذكر في آخر سورة الأعراف أنها تحتوي على ستة أبواب: فالباب الأول: توحيد الله تعالى إيمانا وعبادة وتشريعا، وصفاته وشؤون ربوبيته. الباب الثاني: الوحي والكتب والرسالة والرسل. الباب الثالث: الآخرة والبعث والجزاء. الباب الرابع: أصول التشريع وبعض قواعد الشرع العامة. الباب الخامس: آيات الله وسننه في الخلق والتكوين. الباب السادس: سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري، وشؤون الأمم، المعبر عنه في عرف عصرنا بعلم الاجتماع. (¬1) ¬

(¬1) المصدر السابق (9/ 576 - 580).

المبحث الرابع خصائص تفسير المنار

المبحث الرابع خصائص تفسير المنار إن المتأمل لتفسير المنار يجد أنه قد تفرد بخصائص كثيرة مما جعل الكثير من الناس يقبل على قراءته ودراسته والعناية به على الرغم من كثرة التفاسير، ولا عجب في ذلك فقد كان الشيخ محمد رشيد رضا عالماً متبحراً في جميع العلوم والفنون سواء الشرعية أو غير الشرعية، وصاحب مادة غزيرة وإلى جانب هذا فقد حباه الله قوةً في التعبير وجمالا في الأسلوب وروعةً في البيان. ولعل من أهم الخصائص التي اختص بها ما يلي: 1 - العناية بالتحقيقات اللغوية: يرى رشيد رضا أنه لا مجال لفهم القرآن وتذوق حلاوته إلا بالإلمام باللغة العربية التي أنزل بها القرآن. فكان يهتم اهتماماً واسعاً بالتحقيقات اللغوية في تفسيره لبيان مراد الله في كتابه، وتقريب معناه للقارئ. حيث يقول: «لا يتعظ الإنسان بالقرآن، فتطمئن نفسه بوعده، وتخضع لوعيده إلا إذا عرف معانيه، وذاق حلاوة أساليبه، ولا يأتي هذا إلا بمزاولة الكلام العربي البليغ، مع النظر في بعض النحو كنحو ابن هشام وبعض

فنون البلاغة كبلاغة عبد القاهر، وبعد ذلك يكون له ذوق في فهم اللغة يؤهله لفهم القرآن». (¬1) مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا}. (¬2) يقول «وليخش» أمر من الخشية، وهي كما في المعاجم الخوف، وقال الراغب: هي خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خُص العلماء بها في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. (¬3) (¬4) وعند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}. (¬5) يذكر أقوال أهل اللغة في معنى «الذرء». ويعقب عليها بقوله: «فإذا تأملت مع هذه الأقوال استعمال القرآن لهذا الحرف في النبات والحيوان والإنسان خاصة، علمت أن الذرء في أصل اللغة، بمعنى خلق ذلك أي إيجاده، كما أن أصل معنى الخلق التقدير، ويسند إلى الله تعالى بمعنى إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافاً ولهذا عطف الذرء ¬

(¬1) تفسير المنار (1/ 182). (¬2) النساء 9. (¬3) فاطر 28. (¬4) تفسير المنار (1/ 187). (¬5) الأعراف 179.

2 - العناية بالقضايا البلاغية والإعرابية

والبدل على الخلق في حديث الدعاء «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ». (¬1) 2 - العناية بالقضايا البلاغية والإعرابية: كان اهتمام الشيخ بالقضايا البلاغية والإعرابية لا يقل عن اهتمامه بالتحقيقات اللغوية، فكان يهتم في تفسيره بالقضايا البلاغية المهمة، كتحدثه عن براعة خواتم السورة وفواتحها، وعلاقة السورة بما قبلها، وبلاغة التناسب بين سوره وآياته، وبلاغته في إيجازه، وكان يرى أن الإنسان لا يمكنه أن يتعظ بالقرآن إلا إذا كان لديه بعض فنون البلاغة. (¬2) مثال ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}. (¬3) قال: «ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر «غفور» له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات، والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جداً، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن ¬

(¬1) تفسير المنار «9/ 386». (¬2) المصدر نفسه والصفحة. (¬3) البقرة 173.

3 - بيانه لحكمة التشريع

يعرف القدر الذي يمسك الرمق وبقي من الهلاك بالتدقيق، وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود والله أعلم». (¬1) وعند تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}. (¬2) يقول: «قالوا إن هذا خبر لا يقصد به الأخبار، بل التحسر والتحزن والاعتذار، فهو بمعنى الإنشاء وذلك أنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت الله والانقطاع لعبادته فيه، والأنثى لا تصلح لذلك عادة لا سيما في أيام الحيض». (¬3) 3 - بيانه لحكمة التشريع: فكان لا يكتفي رشيد رضا في تفسيره للآية أو السورة في بيان معناها وما تدل عليه والمراد منها. بل كان يذهب إلى أبعد من ذلك، فكان يذكر الحكمة من تشريعها وما تشتمل عليه من مصالح للفرد أو للجماعة سواء كانت روحية أو مادية، نجد هذا واضحاً في آيات الحج والصوم والقصاص وغيرها، وهو في أثناء ذلك كله يبين عظمة الإسلام وما يمتاز به من رحمة وعدالة ويسر. ¬

(¬1) تفسير المنار (2/ 300). (¬2) آل عمران 36. (¬3) تفسير المنار (3/ 288).

مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}. (¬1) فبعد أن بين معنى الآية والمراد منها ذكر الحكمة من تشريع الصيام، حيث يقول: «ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى أن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتاً فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رؤوفٌ رحيم، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أمرهم بالتأسي به ووصفهم بقوله: «رحماء بينهم» ومن فوائد الصيام الاجتماعية المساواة بين الأغنياء والفقراء والمملوك والسوقه، ومنها تعليم الأمة النظام في المعيشة، فجميع المسلمين يفطرون في وقتٍ واحد لا يتقدم أحد على أحد آخر دقيقه واحدة وقلما يتأخر عنه دقيقة واحدة، ومن فوائده الصحية أنه يفني المواد الراسبة في البدن ولا سيما أبدان المترفين أولي النهم وقليلي العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الأمعاء من فساد الذرب والسموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم أو يحول دون كثرته في الجوف وهي شديدة الخطر على القلب، فهو كتضمير الخيل الذي يزيدها قوه على الكر والفر، قال - صلى الله عليه وسلم - «صوموا تصحو» رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وأشار في الجامع الصغير إلى حسنه ويؤيده «أغزو تغنموا، وصوموا تصحوا وسافرو تستغنوا» رواه الطبراني في الأوسط عنه. وقال بعض أطباء الأفرنج: إن صيام شهر واحد في السنة يذهب بالفضلات الميتة في البدن مدة سنة. ¬

(¬1) البقرة 183.

4 - ابتعاده عن الإسرائيليات

وأعظم فوائدة كلها الفائدة الروحية التعبدية المقصودة بالذات وهي أن يصوم لوجه الله تعالى، كما هو الملاحظ في النية على ما قدمناه ومن صام لأجل الصحة فقط فهو غير عابد لله تعالى في صيامه، فإذا نوى الصحة مع التعبد كان مثابا كمن ينوي التجارة مع الحج، فإنه لولا العبادة لاكتفى بالجوع والحمية وآية الصيام بهذه النية والملاحظة التحلي بتقوى الله تعالى وما يتبعها من أحاسن الصفات والخلال وفضائل الأعمال». (¬1) 4 - ابتعاده عن الإسرائيليات: كان رشيد رضا من أشد الناس محاربة للإسرائيليات والتحذير منها. وبيان خطرها في تفسيره، متبعاً بذلك منهج شيخه محمد عبده الذي كان حريصاً على تنقيه التفسير من هذه الإسرائيليات. حيث يقول: «وقد قلت لكم غير مرة إنه يجب الاحتراس في قصص بني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء، وعدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المفسرين والمؤرخين، فالمشتغلون بتحرير التاريخ والعلم اليوم يقولون معنا إنه لا يوثق بشيء من تاريخ تلك الأزمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات، إلا بعد التحري والبحث واستخراج الآثار، فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لا يوثق بها، لحسن قصدهم، ولكننا لا نعول على ذلك بل ننهي عنه، ونقف عند نصوص القرآن لا نتعداها، وإنما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته». (¬2) ¬

(¬1) تفسير المنار (2/ 119). (¬2) تفسير المنار (10/ 347).

5 - يسر العبارة وسهولة الأسلوب

5 - يسر العبارة وسهولة الأسلوب: منَّ الله تعالى على رشيد رضا بقلمٍ سيال بحيث يستطيع أن يقدم للقارئ مادة علمية رصينة بأسلوب سهل وبعبارة يسيره بحيث توضح المعنى وتجلي الفكرة، وكل ذلك بعيداً عن التقعر في الألفاظ والكلمات. وبأسلوب أدبي رفيع يجذب القارئ إليه. ولا عجب ولا غرابه في ذلك فالشيخ رشيد رضا أعطى حظاً وافراً في الكتابة والتعبير وإيصال المعاني. 6 - كثرة استشهاده بالأحاديث النبوية: فقد كان الشيخ محمد رشيد رضا عالماً في علم الحديث متمكناً منه بعكس شيخه الإمام محمد عبده الذي لم يكن له دراية في الحديث وعلومه. فكان يكثر من الاستشهاد بالأحاديث النبوية في تفسيره ويبين المراد منها. حيث يقول: «هذا وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه رحمه تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها ...... ». (¬1) 7 - بيان سنن الله في الكون والإنسان والحياة: لعل من أعظم ما امتاز به تفسير المنار إرشاده إلى سنن الله وكونها لا تتخلف ولا تتبدل ولا تتغير. فلا نكاد نمر بتفسير آية إلا ونجد فيه ما يلفت المسلمين إلى واقعهم ¬

(¬1) تفسير المنار (1/ 16).

السيئ وإلى المسافات الشاسعة بين هذا الواقع وبين هدي القرآن كما نجد الإفاضة الكثيرة في تقرير هذه السنن في الاجتماع والعمران وهذه لفتات كريمة حقاً، فإن الله تبارك وتعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وقد أرشدنا القرآن لأن نعتبر بأحداث الأمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}. (¬1) فلا عجب أن يشرح رشيد رضا هذه السنة وآثارها وأن يبث ذلك في تفسيره كل ذلك من أجل أن يستيقظ المسلمون من سباتهم وأن ينهضوا من كبوتهم وأن ينفضوا عنهم غبار اليأس المتراكم ووعثاء الغرور والتمني، حتى أننا نجده يعقد فصولاً في ذلك، من ذلك ما نراه في خلاصة تفسيره سورة الأعراف حيث يفرد باباً في سنن الله تعالى يضمنه الأصول التالية: (¬2) 1 - إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها وغيرها. 2 - بيان أن للأمم آجالاً لا تتقدم ولا تتأخر عن أسبابها، التي اقتضتها السنن الإلهية العامة. 3 - ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة، وبضدها من الرخاء والنعماء تارة أخرى. 4 - بيان أن الإيمان بما دعا الله إليه، والتقوى في العمل بشرعه فعلاً ¬

(¬1) آل عمران 137. (¬2) تفسير المنار (9/ 531).

8 - عدم تجاوز النص فيما ورد مبهما

وتركاً، سبب اجتماعي طبيعي لسعة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة. 5 - استدراجه تعالى للمكذبين والمجرمين وإملاؤه لهم. 6 - سنة الله في الأمم التي ترث الأرض من بعد أهلها الإملاء، هي سنته تعالى في أهلها. ويفصل كل أصل من هذه الأصول، ولا نعدو الحقيقة إن قلنا أن تفسير المنار كان له أثر كبير في السنن، وهو ينعي على المتواكلين، ولا نعدو الحقيقة إن قلنا إن خير ما يمتاز به هذا التفسير هو تفصيل هذه السنن تفصيلاً يجمع إلى دقه البحث وعمق الفهم نبيل الغاية وكريم المقصد. (¬1) 8 - عدم تجاوز النص فيما ورد مبهماً: لقد كان منهج الإمام محمد عبده ومن بعده تلميذه رشيد رضا عدم تجاوز النص فيما ورد مبهماً في القرآن. وذلك بالوقوف عند حدود ما ذكره القرآن، فلو كان فيما وراء ذلك حكمة وفائدة لما أغفلها النص وأهمل ذكرها. مثال ذلك يقول محمد عبده عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}. (¬2) ¬

(¬1) أنظر فضل حسن عباس، المفسرون مدارسهم ومناهجهم 192. (¬2) البقرة 59.

«ونسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن». (¬1) ويقول عند تفسير قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}. (¬2) «ونسكت عن تعيين نوع ذلك الرجز كما هو شأننا في كل ما أورده القرآن .... ». (¬3) ¬

(¬1) تفسير المنار (1/ 324). (¬2) البقرة 59. (¬3) تفسير المنار (1/ 325).

المبحث الخامس منهجه العقدي في تفسير المنار

المبحث الخامس منهجه العقدي في تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره المنار منهج عقدي واضح في تفسير آيات العقيدة، يتضح ذلك من خلال الاطلاع على ما كتبه في تفسيره لبعض الآيات الواردة في الحث على الإيمان والتوحيد، وكذلك الآيات الواردة في الأسماء والصفات، أو الآيات الواردة في القضاء والقدر، أو التي تحث على التفكر والتدبر، ويمكن القول بأن منهجه العقدي في التفسير يتميز بما يلي: أولا: عدم الالتفات إلى أسباب النزول في تفسير آيات العقيدة: يرى الشيخ رشيد رضا أن معرفة أسباب النزول إنما يحتاج إليه في آيات الأحكام، أما آيات العقيدة والتوحيد فلا يحتاج إلى معرفة سبب نزولها. حيث يقول: «ويقول الأستاذ الإمام إن سبب النزول إنما يحتاج إليه في آيات الأحكام، لأن معرفة الوقائع والحوادث التي نزل فيها الحكم تعين على فهمه وفقه حكمته وسره، ومثلها ما فيه إشارة إلى بعض الوقائع كغزوة بدر والنصر فيها، ومصيبة المؤمنين في أحد، وأما الآيات المقررة للتوحيد وهو المقصود الأول من الدين فلا حاجة إلى التماس أسباب نزولها، بل هي لا تتوقف على انتظار السؤال، وإنما كان يبين عند كل مناسبة» (¬1)، وهذا ¬

(¬1) تفسير المنار (2/ 33).

أساس من الأسس التي قام عليها منهج المنار في تفسير آيات العقيدة. فعند تفسير قوله تعالى (¬1): {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} (¬2) قال الأستاذ الإمام: «نبههم سبحانه وتعالى إلى أن المنافع التي يرقبونها من شركهم إنما هي بيده الكريمة وحده، كأنه يقول: إذا أنتم تركتم ما أنتم فيه لأجله تعالى فهو بتفرده بالالوهية يكفيكم كل ضرر تخافونه، ويعطيكم برحمته الواسعة كل ما ترجونه، فإن بيده ملكوت كل شيء، وكل ما تعتمدون عليه من دونه فليس محلاً للاعتماد، بل اعتمادكم عليه من قبيل الشرك، فيجب أن تطرحوه جانباً، وتعتقدوا أن الإله الذي بيده أزمة المنافع والقادر على دفع المضار وإيقاعها هو واحد لا سلطان لأحد على إرادته، ولا مبدل لكلمته، ولا أوسع من رحمته، وإنما أكد أمر الوحدة هذا التأكيد تحذيراً من طرق الشرك الخفية، على أنها أساس الدين وأصله، ثم قال: أرأيت هذا الاتصال المحكم بين الآية وما قبلها؟ إن بعض المفسرين قد قطع عراه وفصمها وجعل الآية جواباً لقوم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك .. (¬3) فهو إن صح رواية لا يزيدنا بياناً في فهم الآية ولا يصح أن يجعل سبباً لنزولها، لا سيما بعد الذي علم من اتصالها بما قبلها كما يليق ببلاغة القرآن، ومثل هذا السبب ¬

(¬1) ومن أمثلته أيضاً ما جاء في تفسير الآية رقم (48) من سورة النساء، انظر تفسير المنار 5/ 147. وأيضا ما جاء في تفسير آية (144) من سورة البقرة، انظر تفسير المنار 2/ 10 - 11، وانظر 1/ 428 - 429. (¬2) سورة البقرة آية 163. (¬3) انظر تفسير الجلالين ص 33، وتفسير البيضاوي ص 33، وتفسير أبي السعود 1/ 184، وتفسير الخازن 1/ 101، وحاشية الصاوي على الجلالين ص 73.

يجعل القرآن مبدداً متفرقاً لا ترتبط أجزاؤه، ولا تتصل أنحاؤه. ومثله ما قالوه في سبب الآية التي بعد هذه الآية، فإنها جاءت على سنة القرآن من وصل الدليل بالدعوى، ولكنهم رووا في سببها روايات منها أن آية {وإلهكم إله واحد}، نزلت بالمدينة، ثم سمع بها مشركوا مكة فقالوا ما قالوا وعجبوا كيف يسع الخلق إله واحد، وطلبوا الدليل على ذلك. كأنهم لم يكونوا قد سمعوا عليه دليلاً، وكأن هذه الدعوى لم تكن طرأت على أذهانهم ولا طرقت أبواب مسامعهم، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أقام فيهم يدعوهم إلى هذا التوحيد عشر سنين ونيفاً، وسبق لهم التعجب منه {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} (¬1) ومعظم ما نزل بمكة آيات وبراهين عليه، فكيف نسلم أن ما نراه في التنزيل المدني من آيتين متصلتين إحداهما في التوحيد والأخرى في دليله، قد كان من الفصل بينهما أن نزل الدليل بعد المدلول بزمن طويل وسبب متأخر؟ . وأضاف الأستاذ الإمام بعد بيان اتصال الآية بما قبلها وتقرير معناها: ومن هنا يظهر أنها لا يصح أن تكون جواباً للذين قالوا: انسب لنا ربك، أو صف لنا ربك، لأن هذا السؤال إنما يصدر عمن لا يعرف شيئاً من صفات هذا الرب العظيم، أو ممن يبغي أن يعرف مقدار علم المسؤول بهذه الصفات، ويجب أن يكون جوابه بذكر العلم والحكمة والإدارة والقدرة، وهي صفات لا تعقل الألوهية إلا بها، وسببه أن أولئك الكفار لم يكونوا يكتمونها ولا يشركون مع الله أحداً فيها، وإنما أشركوا في الألوهية بعبادة غير الله تعالى ¬

(¬1) سورة ص آية 5.

ثانيا: عدم اللجوء إلى تأويل الصفات

بالدعاء والنذور والقرابين، ويستلزم هذا عدم اكتفائهم برحمته» وقال: إن الاكتفاء بذكر الوحدة والرحمة على الوجه الذي قررناه في تفسير الآية ظاهر لا تطلب البلاغة غيره، لأن الوحدة تذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق بأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، وذكر الرحمة بعدها يرغبهم في التوبة ويحول دون يأسهم من فضل الله بعد إيئاسهم ممن اتخذوهم شفعاء ووسطاء عنده». (¬1) ثانيا: عدم اللجوء إلى تأويل الصفات: فمنهج الشيخ رشيد رضا في آيات العقيدة، أن لا يلجأ إلى تأويل آيات الصفات مختاراً بذلك رأي ابن تيمية ومدافعاً عن نهجه. (¬2) إلا أنه نسب إلى ابن تيمية أنه يقول بأن آيات الصفات من المتشابهات (¬3)، وهذا خطأ من الشيخ، فابن تيمية ينفي التشابه عن آيات الصفات ويرى أنها معقولة المعنى مجهولة الكيف. (¬4) فيقول عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}. (¬5) ¬

(¬1) انظر تفسير المنار (2/ 55 - 57). (¬2) انظر تفسير المنار (3/ 172) و (7/ 336) و (7/ 144). (¬3) نفس المصدر (3/ 165). (¬4) انظر موقف ابن تيمية من المتشابهات في القرآن من كتاب «الإمام ابن تيمية وموقفه من قضية التأويل» ص 164. (¬5) الأعراف 180.

«المعنى، ولله دون غيره جميع الأسماء الدالة على أحسن المعاني وأكمل الصفات». (¬1) ويقول في موضع آخر: «وأسماء الله كثيرة وكلها حسن بدلالة كل منها على منتهي كمال معناه وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم» (¬2)، وهذا القول موافق لما عليه أهل السنة في الأسماء. ويقول في موضع آخر: «فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق، الثابت عقلاً ونقلاً بقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬3) فنقول إن لله علماً حقيقياً هو وصف له، ولكنه لا يشبه علمنا، وإن له سمعاً حقيقياً هو وصف له لا يشبه سمعنا، وإن له رحمة حقيقية هي وصف له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى، فنجمع بذلك بين العقل والنقل ... ». (¬4) ويقول أيضاً مثبتاً أن طريقة السلف هي الصحيحة وأنها تجمع بين العقل والنقل، قال: «إنما الطريقة المثلي في الجمع بين العقل والنقل في الصفات أن يقال: إنه قد ثبت بهما أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وثبت ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 431). (¬2) المصدر نفسه (9/ 432). (¬3) الشورى 11. (¬4) تفسير المنار (1/ 177)

ثالثا: التأكيد على أن الإسلام دين العقل

عقلاً أن خالق العالم لابد أن يكون متصفاً بصفات الكمال، وثبت نقلاً عن الوحي الذي جاء به الرسل وصفه تعالى بالعلم والقدرة والرحمة والمحبة، والعلو فوق الخلق، والاستواء على العرش، وتدبير أمر العالم كله فنحن نتخذ قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}». (¬1) قاعدة ومرآة لفهم جميع ما وصف الله تعالى به نفسه وما وصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه ليس كمثله شيء وأنه سميع بسمع ليس كمثل أسماع المخلوقين، ويبصر ببصر ليس كبصرهم، وعليم بعلم ليس كعلمهم، ورحيم برحمة ليست كرحمتهم، ويحب بمحبة ليست كمحبتهم، ومستو على عرشه استواءً ليس كاستواء ملوكهم على عروشهم، وتدبير أمورهم تدبيراً ليس كتدبير ملوكهم ورؤسائهم لما يدبرونه .... ». (¬2) ثالثا: التأكيد على أن الإسلام دين العقل: كان الشيخ رشيد رضا ومن خلال تفسيره المنار دائم التركيز والتأكيد على أن الإسلام دين العقل. وأنه متوافق مع العقل من غير تضاد. حيث يقول: «بناء أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع على إدراك العقل لها، واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد، وسد ذرائع الفساد والشاهد عليه من هذه السورة (¬3)، قوله تعالى في الاستدلال على توحيده بآياته في السموات والأرض ما بينهما: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ¬

(¬1) الشورى 11. (¬2) مجلة المنار (28/ 270). (¬3) أي سورة البقرة.

وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. (¬1) (¬2) فالعقل كما يرى رشيد رضا يشارك النقل في الدين بكونه مدركا له، وبالتالي فإن العقل يعتبر شريكاً للنقل في تفسير النصوص القرآنية، ويرى بأنه لا يجوز لنا أن نحرف الآية عما يقتضيه سياقها إلا بحجة من خبرٍ صحيح أو عقل. (¬3) وقد بين رشيد رضا أن الإسلام معقول ولا محال في عقائده حيث يقول: «إنه ليس في عقائد الإسلام شيء يحكم العقل باستحالته، وإنما فيه أخبار عن عالم الغيب لا يستقل العقل بمعرفتها، لعدم الإطلاع على ذلك العالم، ولكنها كلها من الممكنات أخبر بها الوحي فصدقناه، فالإسلام لا يكلف أحداً أن يأخذ بالمحال». (¬4) وقال: «إن الإسلام دين البصيرة والعقل والبينة والبرهان، وآيات القرآن الكثيرة ناطقة بذلك. كقوله تعالى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} (¬5)، وكقوله تعالى {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى ¬

(¬1) سورة البقرة 164. (¬2) تفسير المنار (1/ 621). (¬3) نفس المصدر (7/ 615). (¬4) نفس المصدر (6/ 31). (¬5) البقرة 111.

رابعا: الدفاع عن العقيدة الإسلامية ورد الشبهات المثارة حولها

مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (¬1)، وكقوله تعالى {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)}. (¬2) (¬3) رابعا: الدفاع عن العقيدة الإسلامية ورد الشبهات المثارة حولها: يعتبر العصر الذي عاش فيه الشيخ رشيد رضا بداية انفتاح المجتمعات الإسلامية على المجتمعات الغربية أو الإفرنجية كما كانت تسمى. وكانت ترسل كثيراً من البعثات الطلابية للتعلم في تلك البلاد، وكان كثيرٌ منهم يعود إلى بلده بعد إنهاء دراسته هناك وهو محمل بكثير من الشبه والشكوك حول الدين والإسلام والعقيدة. وانتشرت في هذه الفترة العلمانية والشيوعية والقومية وغيرها من الأفكار والأقوال التي تتناقض مع ما جاء به الدين. فكان أكثر كتاب الصحف والمجلات هم من أصحاب هذه الأفكار وكانوا يكتبون ويرددون هذه الأفكار، ويثيرون الشبهات حول الإسلام من خلال ما يكتبون، فيلبّسون على العامة ومن لا علم له في الشريعة. فكان رشيد رضا ينبري ويدافع من خلال تفسيره المنار عن الإسلام وعن العقيدة الإسلامية ببيان صلاحيته لكل زمان ومكان، وكان يرد على كثير من الشبه والاتهامات التي توجه إلى الإسلام من أعدائه الطاعنين فيه. ¬

(¬1) الأنفال 42. (¬2) الأنعام 148. (¬3) تفسير المنار (6/ 152).

فكان يرد على شبه المستشرقين وافتراءاتهم على الإسلام تارة، ويكشف زيف افتراءات الكنيسة تارة أخرى، ويصحح العقائد المزلزلة في نفوس المستغربين تارة ثالثة، ويبين خطورة المذاهب الدخيلة والنحل الباطنية، كالبهائية والقاديانية وغيرهما، كل ذلك بأسلوب واضح، وحجة دامغه تتبختر اتضاحا، مضمنا ذلك كله الميزات التي يمتاز بها هذا الدين، فلقد رد على منكري الوحي عموما، وعلى الخصوص منكري الرسالة المحمدية، وبين أن الإسلام دين الفطرة والعقل، كما رد على منكري الجن، وهذا يدحض ما اتهم به من أنه أنكر وجودهم، وكذلك وضح سبق الإسلام في تحرير الرقيق والمرأة، وتكلم عن مقاصد القرآن في تربية النوع الإنساني، وأظهر عظمة القرآن في ما شرعة من نظم مالية وحربية وسياسية وغير ذلك. (¬1) مثال ذلك رده على الذين يدعون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ من علماء النصارى في الشام بقوله: «ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقى عن علماء النصارى في الشام شيئاً أو عاشرهم لنقل ذلك أتباعه الذين لم يتركوا شيئاً علم عنه أو قيل فيه ولو لم يثبت إلا ودونوه ووكلوا أمر صحته أو عدمها إلى إسناده، ولو وقع ما ذكر لاتخذه أعداؤه من كبار المشركين شبهة يحتجون بها على أن ما يدعيه من الوحي قد تعلمه في الشام من النصارى، فإنهم كانوا يوردون عليه ما هو أضعف وأسخف من هذه الشبهة، وهو أنه كان في مكة قين «حداد» رومي يصنع السيوف وغيرها، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته فاتهموه بأنه يتعلم منه، فرد الله عليهم بقوله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ¬

(¬1) المفسرون مدارسهم ومناهجهم، د. فضل حسن عباس، صـ 130.

خامسا: استشهاده بآراء المتكلمين والرد عليها

إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}. (¬1) (¬2) وكذلك رده على الكنيسة وما تثيره من شبهات وتهم للإسلام، فكتب في ثنايا تفسير سورة يونس فصلاً كاملاً بعنوان «صد الكنيسة عن الإسلام وبغيه عوجاً». (¬3) خامسا: استشهاده بآراء المتكلمين والرد عليها: من ضمن المنهج العقدي الذي اتبعه رشيد رضا في تفسير المنار هو كثرة استشهاده بآراء المتكلمين والرد عليها وبيان بعدها عن الصواب والحق، وذلك لكي يتضح للقارئ مدى صحة ما يذهب إليه من آراء وأقوال. والذي يدل على سعة إطلاع الشيخ رشيد بآراء المتكلمين وأدلتهم أنه يذكر القول الذي يميلون إليه فيفسده ويبين بطلانه بأسلوب رائع وبأدلة علمية لا مجال لردها أو تأويلها. وسوف أذكر هنا بعض تلك الاستشهادات ورده عليها، ليتضح للقارئ الكريم مدى سعه علم الشيخ وإطلاعه. مثال ذلك عند تفسيره لقوله تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬4) من سورة الأنعام. ¬

(¬1) النحل 103. (¬2) تفسير المنار (11/ 187). (¬3) تفسير المنار (11/ 127) (¬4) الأنعام 160.

يقول: «ومن المباحث الكلامية في الآية قول الأشعرية إن الثواب كله بفضل الله تعالى، ولا يستحق أحد من المحسنين منه شيئاً، وقول المعتزلة إن الثواب هو المنفعة المستحقة على العمل، والتفضل المنفعة غير المستحقة، وإن الثواب يجب أن يكون أعظم من التفضل في الكثرة والشرف، إذ لو جاز العكس أو المساواة لم يبق في التكليف فائدة، فيكون عبثاً قبيحاً، ومن ثم قال الجبائي وغيره: يجب أن تكون العشرة الأمثال في جزاء الحسنة تفضلاً، والثواب غيرها وهو أعظم منها وقال آخرون، يجوز أن يكون أحد العشرة هو الثواب، والتسعة تفضل، بشرط أن يكون الواحد أعظم وأعلى شأناً من التسعة، ونقول، إن هذه النظريات كلها ضعيفة ولا فائدة فيها وإذا كان التفضل مازال وفضل على أهل الثواب المستحق بوعد الله تعالى وحكمته وعدله، فأي مانع أن يزيد الفرع على الأصل، وهو تابع له، متوقف عليه وإنما كان يكون الثواب حينئذ عبثاً، على تقدير التسليم، لو كان التفضل يحصل بدونه فيستغنى به، عنه كما هو واضح». (¬1) وكذلك عند تفسير قوله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}. (¬2) يعقد فصلاً طويلاً يتكلم فيه عن آراء المتكلمين وأهل الكلام في الخلق والتقدير والجبر والتوفيق والخذلان واختيار الإنسان. والرد على الجبرية والقدرية، والقول الوسط في مسألة الحسن والقبح، ومسألة أفعال العباد وأفعال الباري عزوجل. ¬

(¬1) تفسير المنار (8/ 236). (¬2) الأنعام 125.

ثم يقول في آخره: «وجملة القول أن كلاً من الفريقين قصد تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، ووصفه بالكمال الذي لا يعقل معنى الإلوهية الربوبية بدونه، فبالغ بعضهم في الإثبات وبعضهم في النفي والوسط بين ذلك وقول الرازي وأمثاله من غلاة الأشعرية في هذا المقام أبعد عن الصواب، وعن مذهب السلف. ويمكن أن يستنبط من لوازم رأيهم، مثل ما استنبطوا من رأي خصومهم في التشنيع أو أشد، بل وجد من فعل ذلك والحق أن هذه ليست لوازم مقصودة لمذهب هؤلاء ولا هؤلاء، والجمهور على أن لازم المذهب ليس بمذهب ........... ». (¬1) وكذلك عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} (¬2)، حيث يقول: «وما أخطأ كثير من العلماء في فهم كثير من الآيات، إلا لذهولهم عن مقارنة الآيات المتناسبة بعضها ببعض، واستبدالهم بذلك تحكيم الاصطلاحات والقواعد التي وضعها علماء مذاهبهم، وإرجاء الآيات إليها وحملها عليها، فهذا يستشكل نفي الظلم عن الله عزوجل، لأن العبيد لا يستحقون عنده شيءً من الأجر، فيكون منعه أو النقص منه ظلماً، ثم يجيب عن ذلك بأنه بالنسبة إلى الوعد فهو قد وعد بإثابة المحسن، وأوعد بعقاب المسيء ثم جعلوا جواز تخلف الوعد أو الوعيد محل بحث وجدال أيضا، فهذا يقول إن إثابة المحسن وعقاب المسيء، أمر حسن في ذاته، وموافق للحكمة، فهو ¬

(¬1) تفسير المنار (8/ 62). (¬2) سورة النساء، الآية 40.

واجب عليه تعالى أو واجب في حقه، كما يجب له كل كمال، ويستحيل عليه كل نقص فقام الآخرون يجادلونهم على لفظ «واجب عليه» ولعلهم قالوا «يجب له» فحرفوها، ومهما قالوا فالمقصود واحد، وهو إثبات الكمال لله تعالى وتنزيهه عن النقص، وأكثر الجدل الذي أهلك المسلمين وفرقهم شيعاً وأذاق بعضهم بأس بعض، كان مبنياً على المشاحة في الألفاظ والاصطلاحات، وكتاب الله ودينه يتبرأ من ذلك وينهى عنه». (¬1) ¬

(¬1) تفسير المنار (5/ 107).

المبحث السادس المآخذ التي عليه

المبحث السادس المآخذ التي عليه أولا: عنفه على مخالفيه: لعل من أكثر المآخذ على تفسير المنار ومؤلفه رشيد رضا هو عنفه على مخالفيه وشدته عليهم، ونبزهم بأبشع الألقاب واتهامه العلماء تارةً بالتقليد وتارةً بعدم الفهم وتقليله من شأنهم ومكانتهم، ووصفهم بأسوء الأوصاف. مثال ذلك تشنيعه على الرازي في تفسيره: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬1)، فيقول «إن هذا الذي قاله الرازي من أظهر هفواته الكثيرة بطلاناً، وسببه امتلاء دماغه عفا الله عنه بنظريات الكلام وجدل الاصطلاحات الحادثة، وغفلته عن معنى الإله في أصل اللغة». (¬2) وكذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} (¬3)، يقول: «إننا نرى أن نصرح بأن الفخر الرازي عفا الله عنه، قد صرح في تفسيرها بأنها تدل على الجبر، وإننا نذكر عبارته بنصها، ونبين بطلانها حتى لا يغتر بها من ينخدع بلقبه وكبر شهرته». (¬4) ¬

(¬1) الأعراف 138. (¬2) تفسير المنار (9/ 110). (¬3) الأنعام 132. (¬4) تفسير المنار (8/ 116).

وعند تفسير قول الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1)، يشنع عن الرازي بقوله: «فما أضعف دلائل هذا الإمام الشهير، ولا سيما في هذا التفسير الملقب بالكبير». (¬2) ومن أمثلة تجنيه على أهل العلم ووصفهم بأسوأ الأوصاف. يقول عند تفسيره قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (¬3)، «وأبعد الناس عندنا في الصبر، وأدناهم من الجزع والهلع والفزع، المشتغلون بالعلوم الدينية، فإن الشجاعة والفروسية والرماية عندهم، من المعايب التي تزري بالعلم وتحط من قدره». (¬4) ولا شك أن هذا الكلام فيه تجن على أهل العلم وطعن فيهم، وتقليل من شأنهم، والذين هم أخشى الناس لله وأتقاهم له، والذين هم أكثر الناس إيماناً بالله وتوكلاً عليه وصدعاً بالحق والجهر والقوه في الحق وعدم الخوف مما سواه، وأكثرهم صبراً واحتساباً للأجر لمعرفتهم بفضله وفضل أهله، وأبعدهم عن الهلع والجزع لعلمهم بأنه من أكبر الآثام وأسوأ الأخلاق. ولا حاجة لذكر أمثلة أكثر لعنفه على مخالفيه، وإن كان رأيهم معتبراً وحيث يجده القارئ مبثوثاً في ثنايا تفسيره، حتى ولو كان بعيداً كل البعد عن موضوع الآية المفسرة. ¬

(¬1) الأنعام 141. (¬2) تفسير المنار (8/ 138). (¬3) البقرة 177. (¬4) تفسير المنار (2/ 122).

ثانيا: كثرة الاستطرادات

ثانيا: كثرة الاستطرادات: كثرة الاستطرادات والتفريعات من المآخذ التي تحسب على تفسير المنار ولذا رأيناه ينصح القارئ في مقدمة تفسيره بمطالعة هذه الفصول الاستطرادية في غير وقت قراءته التفسير، ولكن هذا قد يكون صعباً على القارئ من الناحيتين الموضوعية والنفسية، إذ لا نتصور قارئاً ما يسهل عليه أن يقرأ تفسير بعض آية ثم يترك الاستطرادات التي قد يكون لها تعلق بتفسير الآية ولو من بعيد، ولعل من أبرز تلك الاستطرادات والتفريعات الكثيرة. تفسيره لمطلع سورة يونس حيث كتب فصولاً عند تفسير قوله تعالى {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ}. (¬1) تزيد على مائة وخمسين صفحة وهي التي جردت فيما بعد فكانت كتاب «الوحي المحمدي». وكذلك عند تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬2) من سورة المائدة، حيث كتب ما يزيد عن سبعين صفحة. وعند قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} (¬3) من سورة الأنعام. كتب ما يزيد عن خمسين صفحة. ¬

(¬1) يونس 2. (¬2) المائدة 101. (¬3) الأنعام 128.

وكذلك استطراداته وتفريعاته في خلاصات السور والتي يجعلها في نهاية كل سورة. ولا شك أن هذه الاستطرادات والتفريعات تخرج بالقارئ في كثير من الأحيان عن موضوع الآية. كما أنها ليست دائما تتعلق بمسائل الدين، أو قضايا اللغة بل تتعداها إلى بعض المسائل الكونية كالنبات والفلك والرياح. مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} (¬1) من سورة الأعراف. حيث استطرد في بيان بعض نعم الله على الخلق كالهواء والرياح وبدأ يتكلم عن تركيب الهواء وفائدته للحياة والإنسان والنبات. (¬2) وكان الشيخ رشيد رضا رحمه الله شعر بذلك فحاول أن يكتب تفسيراً مختصراً يجعله كالمتن لهذا التفسير على حد تعبير الأمير شكيب أرسلان. إلا أن المنية عاجلته فلم يكتب منه إلا بعض الأجزاء وسماه «التفسير المختصر المفيد». (¬3) ¬

(¬1) الأعراف 58. (¬2) تفسير المنار (8/ 482). (¬3) انظر «المفسرون مدارسهم ومناهجهم» د. فضل حسن عباس 201، وكتاب (رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة) لشكيب ارسلان، ص 162 - 165.

ثالثا: مخالفته جمهور المفسرين في تفسير بعض الآيات

ثالثا: مخالفته جمهور المفسرين في تفسير بعض الآيات: فقد كان لرشيد رضا في تفسيره آراء وأقوال خالف فيها آراء جمهور المفسرين، وقد كانت له آراء أيضاً لم يسبقه بالقول فيها أحد. مثال ذلك مخالفته جمهور المفسرين في آية الوصية (¬1)، وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} (¬2) فجمهور المفسرين على أنها منسوخة، ويرى رشيد رضا أنها غير منسوخة، ثم يحاول بعد ذلك أن يضعف حديث «لا وصية لوارث»، بحجة أن الشيخين لم يروياه مسنداً لعدم ثقتهما به، وأن البخاري قد رواه مرفوعاً عن ابن عباس- رضي الله عنه -، وأنه لا يعقل أن ينسخ القرآن بالحديث. ولا شك أن الصحيح هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين بأن الآية منسوخة وأن حديث: «إن الله قد أعطى لكل ذي حقٍ حقه فلا وصية لوارث». (¬3) حديثٌ صحيح تلقته الأمة بالقبول. وأجمع جمهور الأئمة على صحته، يقول الشافعي رحمه الله: «وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم من بالمغازي من قريش وغيرهم ¬

(¬1) تفسير المنار (2/ 137 - 140). (¬2) البقرة: 180. (¬3) رواه الترمذي في أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث حديث (212)، وقال حديث حسن صحيح ورواه النسائي في السنن في كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث ورواه ابن ماجه في كتاب لا وصية لوارث حديث (2712)، ورواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 186، 187، 238).

لا يختلفون في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: «لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر». (¬1) ويقول: ويؤثر عمن حفظوا عنه، ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد، كذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين». (¬2) ومثال ذلك أيضا، مخالفة جمهور المفسرين في تحديد من ينطبق عليها معنى الإحصان. فهو يقول عند تفسير قول الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. (¬3) «ثم قيدوا المحصنات هنا بقيد آخر وهو كونهن أبكاراً، ولأنهم يعدون من تزوجت محصنةً، وإن تأيمت بطلاق، أو موت زوجها، والوصف لا يفيد ذلك، فإن المحصنة بالزواج هي التي لها زوج يحصنها، فإذا فارقها لا تسمى محصنة بالزواج كما أنها لا تسمى متزوجة». (¬4) وهذا القول بلا شك مخالف لما عليه جمهور المفسرين والفقهاء بأن المحصنة «هي من تزوجت وإن أمت بطلاق زوجها أو موته»، ثم أن الغامدية التي رجمت لم تكن ذات زوج والحق ما أجمع عليه العلماء. (¬5) ¬

(¬1) الأم (ج 4/ 36) طبعة دار الشعب. (¬2) الرسالة صـ 139، ت/ أحمد شاكر. (¬3) النساء 25. (¬4) تفسير المنار (2/ 150). (¬5) المفسرون مدارسهم ومناهجهم، د. فضل حسن عباس، ص 139.

وكذلك مخالفته إجماع المفسرين في آية التيمم في سورة النساء وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. (¬1) حيث يرى أن التيمم مباح للمسافر حتى مع وجود الماء، وهذا القول لم يسبقه إليه أحد. (¬2) والمجمع عليه عند العلماء والأئمة أن التيمم إنما يباح عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله. (¬3) وكذلك مخالفته جمهور المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)} (¬4)، فجمهور المفسرين على أن المسخ هنا مسخ حقيقي، وذهب الشيخ رشيد رضا إلى القول بأنه معنوي، تابعاً في ذلك رأى مجاهد، لأنه موافق لمنهجه العقلي. (¬5) قال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر أثر مجاهد: «وهذا قولٌ غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره. قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ ¬

(¬1) النساء 43. (¬2) تفسير المنار (2/ 154). (¬3) انظر المغني (4/ 3) والنووي شرح مسلم (11/ 9) والقرطبي «الجامع لأحكام القرآن» (3/ 352). (¬4) سورة البقرة، الآية: 65. (¬5) تفسير المنار (9/ 379).

مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} (¬1) (¬2) ثم قال بعد أن ساق أقوال الأئمة المؤيده لقوله: «والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان معنويا لا صورياً، بل الصحيح أنه معنوي صوري والله تعالى أعلم». (¬3) يعني أنه يشمل مسخ صورهم ومسخ أخلاقهم. وكذلك تأويله لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ..... } (¬4)، حيث يقول: «ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعة بل يصح مثله في القصص التمثيلية» (¬5)، وهذا بلا شك قول باطل لم يقل به أحد من أئمة التفسير، فالقصص القرآنية هي عبارة عن قصص حقيقية واقعة باتفاق أهل التفسير. (¬6) ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 60. (¬2) تفسير بن كثير (1/ 190). (¬3) تفسير بن كثير (1/ 192). (¬4) سورة البقرة، الآية: 243. (¬5) تفسير المنار (2/ 457). (¬6) انظر (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) للدكتور فهد الرومي، ص 442 - 465.

الفصل الثالث آراؤه العقدية في أشراط الساعة الكبرى، والرد عليها

الفصل الثالث آراؤه العقدية في أشراط الساعة الكبرى، والرد عليها ويتضمن المباحث التالية: المقدمة المبحث الأول: رأيه في أشراط الساعة الكبرى، بشكل مجمل، والرد عليه. المبحث الثاني: رأيه في خروج المسيح الدجال، والرد عليه. المبحث الثالث: رأيه في المهدي، والرد عليه. المبحث الرابع: رأيه في نزول عيسى مريم، والرد عليه. المبحث الخامس: رأيه في طلوع الشمس من مغربها، والرد عليه.

المقدمة

المقدمة ذكرنا في الفصول والمباحث السابقة، أن من المآخذ التي تثار حول رشيد رضا وسلفيته، هو رده لكثير من الأحاديث الصحيحة، باستشكالات وتساؤلات عقلية. لا سيما الأحاديث التي في الصحيحين، والتي اتفقت الأمة على أنها أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، والتي تلقتهما الأمة بالقبول. وكذلك رده لجملة من الأحاديث الصحيحة، التي شهد بصحتها أهل الحديث، والتي ليس فيها مطعن أو علة من العلل التي يرد بسببها الحديث أو يضعف. وذكرنا أن من جمله الأحاديث التي ردها الشيخ رشيد رضا هي الأحاديث الوارده في أشراط الساعة الكبرى. وذلك بدعوى أنها متعارضة فيما بينها تعارضا يوجب تساقطها، أو بدعوى معارضتها للسنن الكونية الإلهية، أو بدعوى عدم تقبل العقل لها، أو بغيرها من الدعاوي الأخرى والاستشكالات. وسوف أتطرق بمشيئة الله في هذا الفصل إلى ذكر آرائه في أشراط الساعة الكبرى، والتي بينها وذكرها في تفسيره المنار في سورة الأعراف عند الآية 186 وما بعدها. ومن ثم أرد على ما أثاره من استشكالات وتساؤلات حول أشراط الساعة الكبرى، مبينا ما لها وما عليها.

المبحث الأول رأي رشيد رضا في أشراط الساعة الكبرى، بشكل مجمل

المبحث الأول رأي رشيد رضا في أشراط الساعة الكبرى، بشكل مجمل للشيخ رشيد رضا حول الأحاديث الواردة في أشراط الساعة الكبرى رأيان، رأي مجمل حول هذه الأشراط بشكل عام وما تحويه من استشكالات وتساؤلات كما يسميها، ورأى مفصل تناول فيه رأيه بكل شرط وذكر ما فيه من استشكالات وتساؤلات. وسوف أذكر في هذا المبحث الرأي المجمل للشيخ رشيد رضا حول أشراط الساعة الكبرى بشكل عام، ثم بعد ذلك أتناول في المباحث القادمة رأيه في كل شرط من أشراط الساعة الكبرى، واستشكالاته وتساؤلاته والرد عليها. يرى الشيخ رشيد رضا أن الأحاديث الواردة في أشراط الساعة الكبرى. كالأحاديث الواردة في خروج المسيح الدجال. والأحاديث الواردة في المهدي. والأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام. والأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها.

يرى أنها من الأحاديث المشكلة، وأن فيها الكثير من التعارض والتناقض والاختلاف فيما بينهما. - وأن فيها مخالفة للعقل والحس والسنن الكونية والإلهية مما يوجب ردها وعدم اعتقاد صحتها وعدم الإيمان بها. حيث يقول: إن ما ورد من الأشراط الكبرى الخارقة للعادة يضع العالم به في مأمن من قيام الساعة قبل وقوعها كلها، فهو مانع من حصول تلك الفائدة، فالمسلمون المنتظرون لها يعلمون أن لها أشراطا تقع بالتدريج، فهم آمنون من مجيئها بغتة في كل زمن، وإنما ينتظرون قبلها ظهور الدجال والمهدي والمسيح عليه السلام ويأجوج ومأجوج، وهذا الاعتقاد لا يفيد الناس موعظة ولا خشية، ولا استعدادا لذلك اليوم أو لتلك الساعة، فما فائدة العلم به إذا؟ وهل من الحكمة أن تكون فائدتها محصورة في وقوع الرعب في قلوب الذين يشاهدون هذه الآيات الكبرى، ولا سيما آخر آية منها؟ وكيف يتفق هذا وما ورد من كون كل رسول كان يخوف قومه وينذرهم الساعة والدجال قبلها؟ وكيف وقع هذا منهم ولم يصدقه الواقع ومثله لا يكون بمحض الرأي؟ وهل كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يريد بالإخبار بها تأمين الناس من قيام الساعة مدة قرون كثيرة إلى أن تظهر هذه الأشراط؟ أم كان يتوقع ظهورها بعده في قرنه أو فيما يقرب منه كغيره من الرسل؟ بدليل ما ورد من تجويزه ظهور الدجال في زمنه، وتصديقه ما حكاه تميم الداري من خبر الجساسة، وكون الدجال محبوسا في جزيرة). (¬1) ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 488).

هذا هو رأي الشيخ رشيد رضا في ما ورد في أشراط الساعة الكبرى بشكل مجمل. فهو يرى أن ما ذكره من إشكالات وتساؤلات عقلية كفيل برد كل ما ورد من أحاديث في أشراط الساعة الكبرى ولو كانت أحاديثها من أصح الأحاديث، ولو ذكرت في أصح الكتب بعد القرآن كصحيحي البخاري ومسلم. وفي الحقيقة أن جميع ما ذكره من إشكالات أو تساؤلات لا قيمة لها أمام تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة التي لا يسع المسلم إلا أن يؤمن ويصدق بها تصديقاً جازماً، والتي تنص وتؤكد على أن للساعة علامات وأشراطاً كبرى تسبق قيامها. فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الحديث إذا صح فلا يلتفت إلى غيره من إشكالات أو تساؤلات عقلية، فالواجب على كل مسلم هو الإيمان والتسليم بما ثبت بتلك الأحاديث الصحيحة الصريحة وعدم ردها ودفعها بتساؤلات لا قيمة لها ولا وزن ولا حجه أمام نص نبوي صحيح ثبت لدينا بأصح الأسانيد. ثم إن الشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له، يستشكل ما ليس بمشكل، ويثير الإشكالات والتساؤلات العقلية ويتكلف في الدفاع عنها، من أجل إثبات وجهة نظره ورأيه، وإن كان ليس له من الحجة لرد تلك الأحاديث سوى إثارة التساؤلات والإشكالات حول تلك الأحاديث الصحيحة لكي يجعل القارئ على الأقل يفقد الثقة بصحته.

الرد على إشكالاته وتساؤلاته

الرد على إشكالاته وتساؤلاته: 1 - بالنسبة لقوله «إن ما ورد من الأشراط الكبرى الخارقة للعادة، يضع العالم بها في مأمن من قيام الساعة قبل وقوعها، فهو مانع من حصول تلك الفائدة». فهذا كلام في الحقيقية غير صحيح، وذلك لأن كل شَرَطٍ في حد ذاته فتنةٌ، ولأن وقوع الأشراط قد يكون متسارعاً ومتتالياً، ولا يدري أحد بوقت وقوع هذه الأشراط على وجه التعيين، ولا حتى على وجه التقريب وبالتالي فسيبقى لها منتظراً ومترقباً. (¬1) ثم أنه هو نفسه قد أثبت أن للساعة أشراطاً ونص بالذكر منها بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). 2 - أما قوله إن الاعتقاد بأشراط الساعة لا يفيد موعظة ولا خشية. فيقال له ولمن يقول بقوله: هل الإيمان بالملائكة أو الجن وما شابهما مما أخبر الله به من عالم الغيب يفيد موعظة أو خشية؟ فإن كان يفيد ذلك، فإن الإيمان بأشراط الساعة أيضا يفيد ذلك، لأنه من جنس الإيمان بالغيب. والفائدة التي تحصل من الإيمان بالغيب هي نفس الفائدة التي تحصل من الإيمان بأشراط الساعة. ¬

(¬1) موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف، دارسة تطبيقية على تفسير المنار، شفيق بن عبد الله شقير، المكتب الإسلامي صـ 291. (¬2) تفسير المنار (9/ 483).

3 - أما قوله: إنها لا تفيد استعداداً لذلك اليوم، أي يوم القيامة. فهذا الشعور في الحقيقة يختلف من شخص لآخر، بحسب حال الشخص، وبحسب قربه أو بعده من الاستقامة على طريق الله. فقد يستمع أحدهم موعظة أو كلمة، فتؤثر به أشد التأثير، وقد تغير مجرى حياته كلها، وتحيي قلبه ووجدانه. وقد يستمع شخص آخر نفس الموعظة أو الكلمة، ولا تؤثر فيه بل ولا تحرك شعره من جسده، فمسألة الموعظة والخشية مسألة نسبية تختلف من شخص إلى آخر. ثم إنه منذ متى أصبح الحكم عن الحديث من حيث تأثيره أو عدم تأثيره دليلا على صحته أو ضعفه، فلو سرنا على هذه القاعدة التي يتبناها أصحاب المدرسة العقلية لرددنا الكثير من الأحاديث الصحيحة لا سيما الأحاديث التي في جانب الاعتقاد. فقد يأتي بعد ذلك قائل وهذا غير مستبعد، ويقول ما فائدة الأحاديث الواردة في عذاب القبر؟ فهي لا تفيد موعظةً ولا خشيةً ولا استعداداً ليوم القيامة فيجب ردها، وهكذا دواليك كل حديث لا يفيد موعظة ولا خشية ولا استعدادا ليوم القيامة يجب رده، فهل يقول بهذا القول إنسان عاقل؟ وفي الحقيقة إنه بمثل هذه الاستشكالات والتساؤلات فتح باب التشكيك في السنة والطعن فيها تحت مسمى البحث العلمي، كالذي كتبه المدعو أبو ريه في كتابه الذي سماه «أضواء على السنة المحمدية»، والذي كان يعتمد فيه في كثير من طعوناته في السنة على أقوال محمد رشيد رضا

واستشكالاته وتساؤلاته والتي هي في الحقيقة ليست استشكالات ولا تساؤلات إنما هي طعونات وتشكيكات في الحديث النبوي الشريف. 4 - أما بالنسبة لقوله: ما الحكمة في حصر الفائدة في وقوع الرعب في قلوب الذين يشاهدون هذه الآيات ولا سيما آخر آية منها؟ وكيف يتفق هذا مع ما ورد من تخويف كل رسول لقومه من الساعة والدجال قبلها؟ وكيف وقع منهم هذا التخويف من الدجال ولم يحصل في الواقع، ومثله لا يكون بمحض الرأي؟ وهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتوقع ظهورها بعده في قرنه أم فيما يقرب منه؟ فواضح أن الشيخ رشيد رضا مغرم بإثارة الاستشكالات والتساؤلات، حتى ولو كانت في غير صلب الموضوع، ويعتقد أنه بإثارته لمثل هذه التساؤلات يستطيع الوقوف أمام تلك الأحاديث النبوية الصحيحة، أو على الأقل التشكيك في صحتها أو صدق وقوعها، وما علم أن هذه التساؤلات لا قيمة لها ولا وزن أمام تلك الأحاديث المتواترة عن سيد البشرية محمد - صلى الله عليه وسلم - الواردة في أشراط الساعة الكبرى وأنه من المستحيل في الشريعة الإسلامية أن يكون هناك تناقض أو تعارض بين النصوص الشرعية. ثم إن هذه الاستشكالات الغالب عليها التكلف في محاولة لإثارة الشكوك حول هذه الأحاديث.

وإلا ما معنى تساؤله عن الحكمة في حصر الرعب في قلوب الذين يشاهدون الآيات الكبرى دون غيرهم. ونحن نجيب عن تساؤله هذا بتساؤل مشابه له فنقول: - ما الحكمة من ابتلاء الله بعض البشر بالفقر دون بعض؟ - ما الحكمة من ابتلاء الله بعض البشر بالزلازل دون بعض؟ - ما الحكمة من ابتلاء الله بعض البشر بالمرض دون بعض؟ - ما الحكمة من ابتلاء الله بعض البشر بالحروب والقتل دون بعض؟ بل ما الحكمة من خلق الله البشر وامتحانهم بالخير والشر والسراء والضراء.؟ فكما أن الله ابتلى بعض من عبادة بالمرض والفقر والقتل، فكذلك ابتلى بعض عبادة بفتنة المسيح الدجال أو يأجوج ومأجوج أو غيرها من الفتن، فالخلق خلقه، والعبيد عبيده، يفعل ما يشاء كيفما شاء، في أي وقت شاء سبحانه وتعالى. 6 - أما تساؤله عن وجه تحذير الأنبياء لأقوامهم من الساعة ومن الدجال قبلها، والحال أن الواقع لم يصدقهم؟ فالأنبياء بشر يبلغون ما أمرهم الله بتبليغه، فكما أنهم لا يعلمون متى وقت قيام الساعة، فكذلك لا علم لهم في وقت خروج الدجال. ثم إنه إذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الساعة ولم تقع في زمنه هل هذا دليل على

عدم قيام الساعة؟ بالطبع لا، فكذلك عدم خروج المسيح الدجال في زمنه ليس دليلا على عدم خروجه. ومازال الأنبياء يحذرون أقوامهم من المسيح الدجال، ولم يقع في زمن أي منهم، فهل يقال بأنهم كانوا يكذبون على قومهم وذلك لعدم خروج المسيح الدجال في زمنهم؟ بالطبع لا، فهذا أمر غيبي، علمه عند الله وحده، وما على الرسل إلا البلاغ، أما متى يخرج فهذا علمه عند الله وحده كما قلنا، وليس دليل على عدم صدق الأنبياء وحشاهم ذلك. 7 - أما تساؤله، هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يريد تأمين الناس لقرون من الدجال أم أنه كان يتوقع ظهوره بعده أو فيما يقرب منه. فهذا تساؤل لا إشكال فيه لا كما يظن الشيخ رشيد رضا. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا وقلنا لم يعرف وقت ظهور الدجال بالتحديد، وإنما كان يحذر أصحابه وأمته من بعده امتثالا لأمر الله. ولا أدل على ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فأمرؤُ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم». (¬1) ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (4/ 2250)، رقم (2937).

المبحث الثاني رأيه في خروج المسيح الدجال والرد عليه

المبحث الثاني رأيه في خروج المسيح الدجال والرد عليه معنى المسيح: يقول ابن الأثير: «سمي الدجال مسيحاً، لأن عينه الواحدة ممسوحة، والمسيح، الذي أحد شقي وجهة ممسوح لا عين له ولا حاجب فهو فعيل بمعنى مفعول، بخلاف المسيح ابن مريم فإنه فعيل بمعنى فاعل، سمي به لأنه كان يمسح المريض فيبرأ بإذن الله». (¬1) وقيل سمي مسيحا، لأنه يمسح الأرض، ويسير فيها كلها في أربعين يوماً. (¬2) والقول الأول هو الأقرب للصواب، لما جاء في الحديث «إن الدجال ممسوح العين». (¬3) معنى الدجال: أصل الدجل، الخلط. يقال دجل إذا لبس وموه. ¬

(¬1) انظر جامع الأصول (4/ 204). (¬2) انظر لسان العرب (2/ 594)، والنهاية في غريب الحديث (4/ 326). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال (4/ 2246)، رقم (2930).

الأحاديث الواردة في خروج المسيح الدجال

والدجال، هو المموه الكذاب، وهو من أبنية المبالغة على وزن فعال. أي يكثر منه الكذب والتلبيس. وجمعه دجالون، وجمعه الإمام مالك على دجاجلة وهو جمع تكسير. (¬1) ولفظ «الدجال» أصبحت علماً على المسيح الأعور الكذاب، الذي حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذا قيل الدجال، فلا يتبادر إلى الذهن غيره. وسمي الدجال دجالاً، لأنه يغطي الحق بالباطل، أو لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيسه عليهم. وقيل لأنه يغطي الأمر بكثرة جموعه. (¬2) الأحاديث الواردة في خروج المسيح الدجال: ثبت بالأحاديث الصحيحة الصريحة عن الصادق المعصوم - صلى الله عليه وسلم - أنه سوف يخرج في آخر الزمان من جهة المشرق من خراسان من يهودية أصبهان، رجلٌ يدعي الربوبية، ويكون معه ما يشبه الجنة والنار، والحقيقة أن ناره جنة، وجنته نار، يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها فتستجيب، ويحي الميت وغيرها من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول وتحير الألباب، يمكث في الأرض أربعين يوماً، وما ذلك إلا فتنةً للبشر واختباراً لإيمانهم، وصدق اتباعهم لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - والذي حذرهم من اتباعه وتصديقه، فمن كفر به فقد نجى وسلم، ومن صدقه فقد كفر وهلك. ¬

(¬1) انظر (النهاية في غريب الحديث» (2/ 102) وفتح الباري (13/ 97). (¬2) لسان العرب (11/ 236 - 237).

وسوف أذكر هنا جمله من هذه الأحاديث الصحيحة التي تنص على خروج المسيح الدجال في آخر الزمان، مما لا يسع أحد ردها أو الطعن في صحتها، متحاشياً ذكر الأحاديث الضعيفة أو المتكلم بها لكي لا يكون لأحد حجه في رد بعض الأحاديث. 1 - عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال «ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدجال ذات غداة فرفع فيه وخفض حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا. قال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولستُ فيكم فأمرؤُ حجيجُ نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. إنه شابٌ قطط (¬1) عينة طافئة (¬2) كأني أشبهه بعبد العزى ابن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة (¬3) بين الشام والعراق. فعاثن يمينا وعاثن شمالاً، يا عباد الله، فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوماً يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدره. قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال، كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروحُ عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً (¬4) وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم ¬

(¬1) شابٌ قطط، أي شديد جعوده الشعر. (¬2) عينة طافئه، أي ذهب نورها. (¬3) خله، أي طريقا. (¬4) الذرى، جمع الذروه وهي أعلى الشيء والمراد السلام.

فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيءٌ من أموالهم. ويمرُ بالخربه فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. (¬1) ثم يدعو رجُلاً ممتلئا شباباً، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين (¬2) رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين (¬3)، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جماناً كاللؤلؤ فلا يحلُ لكافرٍ يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد (¬4) فيقتله ... ». (¬5) 2 - عن حذيفه بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر فقال «ما تذاكرون». قالوا: نذكر الساعة. قال: «إنها لن تقوم الساعة حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر منها الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخرُ ذلك نارٌ تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم». (¬6) ¬

(¬1) اليعاسيب، جمع يعسوب وهو ذكر النحل. (¬2) جزلتين، أي قطعتين. (¬3) مهرودتين، المهرودة الثوب المصبوغ بالورد والزعفران. (¬4) باب لد، قرب بيت المقدس في فلسطين. (¬5) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (4/ 2250)، رقم (2937). (¬6) صحيح مسلم، كتاب الفتن - باب الآيات التي تكون قبل قيام الساعة (4/ 2225)، رقم (2901).

3 - عن أنس- رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينية مكتوبٌ كافر». (¬1) 4 - وعن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أحدثكم حديثاً عن الدجال، ما حدث به نبيٌ قومه، إنه أعور وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار». (¬2) 5 - عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الدجال وهو محرمٌ عليه أن يدخل أنقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ، فيخرج إليه رجلٌ هو يومئذٍ خير الناس أو من خير الناس. فيقول، أشهدُ أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله حديثه، فيقول الدجال، أرأيتم إن قتلتُ هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون لا، فيقتله ثم يُحييه، فيقول حين يُحييه (¬3): والله ما كنت قط أشد بصيرةً من اليوم، فيقول الدجال، أقتلُهُ؟ ولا يُسلط عليه». (¬4) 6 - عن حذيفة- رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنةٌ ونار، فناره جنة، وجنته نار». (¬5) ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (6/ 2608)، رقم (6712)، صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (4/ 2248)، رقم (2933). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (4/ 2250)، رقم (2936). (¬3) الذي يقول هو الرجل المؤمن. (¬4) صحيح مسلم - كتاب الفتن، باب صفة الدجال (4/ 2256)، رقم (2938). (¬5) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (4/ 2248)، رقم (2934).

7 - عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه - قال، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدجال يخرج من أرضٍ بالمشرق يقال لها خرسان». (¬1) 8 - وعن أنس- رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفاً من اليهود». (¬2) 9 - عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض». (¬3) 10 - عن أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال». (¬4) أي من فتنته. 11 - عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم التي أعوذُ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال». (¬5) ¬

(¬1) جامع الترمذي، باب ما جاء من أين يخرج الدجال؟ (6/ 495) - مع تحفة الأحوذي، قال الألباني صحيح، «صحيح الجامع الصغير» (3/ 150). (¬2) «الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد» (24/ 73)، قال ابن حجر «صحيح». «فتح الباري» (13/ 328). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (1/ 138)، رقم (158). (¬4) صحيح مسلم - كتاب صلاة المسافرين - باب فضل سورة الكهف (1/ 555)، رقم (809). (¬5) صحيح مسلم - كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/ 412)، رقم (588).

تواتر أحاديث المسيح الدجال

وذلك تحذيراً وتعليماً لأمته من المسيح الدجال، لينشر خبره بينهم جيلاً بعد جيل بأنه كذاب مبطل، ساع على وجه الأرض بالفساد وحتى لا يلتبس كفره على من أدركه. والأحاديث الواردة في خروجه كثيرة جداً ذكر منها الشوكاني في التوضيح مائة حديث وهي في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد. تواتر أحاديث المسيح الدجال: صرح الكثير من أهل العلم بتواتر الأحاديث الواردة في المسيح الدجال وقد صرح بتواترها الشوكاني، كما نقل ذلك عنه القنوجي في كتابه «الإذاعة»، حيث قال: «والأحاديث الواردة فيه كثيرة جداً ذكر منها الشوكاني في كتابه التوضيح مائة حديث وهي في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد، قال: «وليس المراد هنا إلا بيان كون أحاديث خروج الدجال متواترة، والتواتر يحصل ببعض ما سقناه، وقد بقيت أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة تركنا ذكرها، ووقفنا على هذه المائة، التي أشرنا إليها وإلى من خرجها». (¬1) وقد صرح بتواترها أيضا ابن حجر وأبو إسحاق الشيرازي كما نص على ذلك السخاوي في فتح المغيث وابن كثير في الفتن والملاحم، حيث قال بعد ذكر أحاديث الدجال: وسبب عدم ذكره بالقرآن: «ولكن انتصر الرسل لجانب الرب عز وجل فكشفوا لأممهم عن أمره، وحذروهم مما معه من الفتن المظله والخوارق المضمحله فاكتفى بإخبار الأنبياء وتواتر ذلك عن ¬

(¬1) الإذاعة للقنوجي 151.

سيد ولد آدم». (¬1) وقد عنون الإمام أبو داود في سننه باباً أسماه «باب في تواتر الملاحم»، وساق فيه أحاديث فيها ذكر الدجال. (¬2) ومن نص على التواتر أيضا الكتاني في كتابه «نظم المتناثر من الحديث المتواتر» حيث قال: «والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، وكذا الواردة في الدجال، وفي نزول عيسى ابن مريم عليه السلام» (¬3)، وقال أيضا: «خروج المسيح الدجال ذكر غير واحد أنها واردة من طرق كثيرة صحيحة عن جماعة كثيرة من الصحابة، وفي التوضيح للشوكاني منها مائة حديث، وهي في الصحاح والمعاجم والمسانيد، والتواتر يحصل بدونها فكيف بمجموعها، وقال بعضهم: أخبار الدجال تحتمل مجلدات، وقد أفردها غير واحد من الأئمة بالتأليف». (¬4) ونقل الأبي في شرحه على مسلم قول ابن رشد: «الأشراط عشرة المتواتر منها خمسة، الدجال، ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها». (¬5) ¬

(¬1) النهاية في الفتن والملاحم (102/ 1). (¬2) (سنن أبي داود) لأبي داود سليمان ابن الأشعث السجستاني، دار الكتاب العربي، بيروت، (4/ 183). (¬3) (نظم المتناثر في الحديث المتواتر) للعلامة جعفر الحسيني الكتاني (229/ 1). (¬4) (الأنوار الكاشفة) للعلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار عالم الكتب 1403 هـ، ص 233. (¬5) المصدر السابق.

الأحاديث الواردة في بيان صفته

وقال المعلمي رحمه الله في «الأنوار الكاشفة»: «فأما ذكره الدجال فمتواتر قطعاً ومن اطلع على ما في صحيح البخاري وحده علم ذلك. (¬1) الأحاديث الواردة في بيان صفته: ثبت كذلك بالأحاديث الصحيحة كثير من صفاته لتعريف الناس به وتحذيرهم من شره. حتى إذا خرج عرفه المؤمنون فلا يفتنون به ولا يغترون بما جاء به من عظيم الأمور والأعمال. ومن هذه الصفات أنه رجلٌ، شابٌ، أحمر قصير أفجع، جعد الرأس، أجلي الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى وعينه اليسرى عليها طفره غليظة. ومكتوب بين عينيه «كافر»، يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب. وهذه جملة من الأحاديث التي جاء فيها ذكر صفاته السابقة: 1 - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذكر الدجال بين ظهر الناس، فقال «إن الله تعالى ليس بأعور، ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه طافية». (¬2) ¬

(¬1) الأنوار الكاشفة للمعلمي (233). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (6/ 2607)، رقم (6709)، وصحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال (4/ 2246)، رقم (2930).

2 - وفي حديث النواس بن سمعان- رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: في وصف الدجال، «إنه شاب قطط (¬1)، عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن (¬2)». (¬3) 3 - وفي حديث عباده بن الصامت- رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المسيح الدجال رجل قصير، أفجع، جعدٌ، أعور، مطموس العين، ليس بناتئة ولا جحراء، فإن ألبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور». (¬4) 4 - وفي حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأما مسيح الضلالة، فإنه أعور العين، أجلي الجبهة عريض النحر، فيه دفأ». (¬5) (¬6) 5 - وفي حديث حذيفه- رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر». (¬7) (¬8) ¬

(¬1) قطط، أي شديد جعوده الشكر. (¬2) ابن قطن، أسمه عبد العزى بن قطن بن عمرو الخزاعي، أمه هاله بنت خويلد «الإصابة في تمييز الصحابة» (4/ 239). (¬3) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب ذكر الدجال (4/ 2256)، رقم (2937). (¬4) سنن أبي داود (11/ 443) عون المجود. (¬5) دفأ، الدفأ مقصور، الانحناء، ورجل أدفى، بغير همز، فيه انحناء، انظر «النهاية في غريب الحديث (2/ 126) ولسان العرب (1/ 77 و 14/ 263) «. (¬6) مسند الإمام أحمد (15/ 28 - 30) تحقيق وشرح أحمد شاكر، وقال إسناده صحيح - وحسنه ابن كثير، انظر «النهاية / الفتن والملاحم» (1/ 130) تحقيق طه زيني. (¬7) جفال الشعر، أي كثير الشعر، انظر النهاية في غريب الحديث (1/ 280). (¬8) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال (4/ 2248)، رقم (2934).

فائدة

6 - وفي حديث أنس- رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وإن بين عينيه مكتوب كافر». (¬1) وفي رواية عن حذيفة: «مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب». (¬2) فائدة: جاء في الروايات السابقة وصف عينه اليمنى بالعور، وفي بعضها وصف عينه اليسرى كذلك بالعور، وكل الروايات صحيحة فكيف يجمع بينهما؟ ذهب الحافظ ابن حجر إلى أن حديث ابن عمر الوارد في الصحيحين والذي جاء فيه وصف عينه اليمنى بالعور أرجح من رواية مسلم والتي جاء فيها وصف عينه اليسرى بالعور، لأن المتفق على صحته أقوى من غيره». (¬3) وذهب القاضي عياض إلى أن عيني الدجال كلتيهما معيبة، لأن الروايات كلها صحيحة، وتكون العين المطموسة والممسوحة هي العوراء الطافئة بالهمز، أي التي ذهب ضوؤها وهي العين اليمنى، كما في حديث ابن عمر. ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب بالفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال (4/ 2248)، رقم (2933). (¬2) صحيح مسلم مع شرح النووي (18/ 61). (¬3) انظر فتح الباري (13/ 97).

الحكمة من عدم ذكره بالقرآن؟

وتكون العين اليسرى التي عليها ظفرة غليظة، وهي الطافية - بلا همز - معيبة أيضا، فهو أعور العين اليمنى واليسرى معاً فكل واحدة منهما عوراء، أي معيبة، فإن الأعور من كل شيء المعيب، لا سيما من يختص بالعين، فكلا عيني الدجال معيبة عوراء، إحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها. قال النووي في هذا الجمع: «هو في نهاية من الحسن». (¬1) ورجحه أبوعبد الله القرطبي. (¬2) الحكمة من عدم ذكره بالقرآن؟ ورد فيما ذكرنا في الأحاديث السابقة أن الدجال أعظم فتنة خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته منها حتى أنه حذرنا منه - صلى الله عليه وسلم - أشد التحذير. ولذا حذر جميع الأنبياء أممهم منه. وأمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن نستعيذ من فتنة المسيح الدجال في آخر كل صلاة، وما ذلك إلا لعظم فتنته على البشر. ثم إنه قد ذكر الله عز وجل في القرآن عددا من أشراط الساعة الصغرى والكبرى، مثل انشقاق القمر فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}. (¬3) ويأجوج ومأجوج فقال: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)}. (¬4) ¬

(¬1) انظر شرح النووي لمسلم (2/ 235). (¬2) التذكره صـ 663. (¬3) القمر 2. (¬4) الأنبياء 96.

وخروج الدابة فقال: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} (¬1) وغيرها. ومع ذلك لم يذكر الله سبحانه وتعالى المسيح الدجال صراحة باسمه في القرآن فما الحكمة من ذلك؟ ! في الحقيقة أنه حاول كثير من أهل العلم الإجابة عن هذا التساؤل فكان بعضهم أقرب إلى الصواب من بعض، وقد حاول الحافظ ابن حجر في الفتح الإجابة على هذا التساؤل. حيث قال: «اشتهر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن مع ما ذكر عنه من الشر وعظم الفتنة به، وتحذير الأنبياء منه، والأمر بالاستعاذة منه في الصلاة، وأجيب بأجوبة به أحدها أنه ذكر في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}. (¬2) فقد أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة رفعه: «ثلاثٌ إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها». الثاني، قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى بن مريم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (¬3) وفي قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}. (¬4) ¬

(¬1) النمل 82. (¬2) الأنعام 158. (¬3) النساء 159. (¬4) الزخرف 61.

وصح أنه الذي يقتل الدجال فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر ولكونه يلقب المسيح كعيسى لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى. الثالث، أنه ترك ذكره احتقاراً وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج وليست الفتنة بهم بدون الفتنة بالدجال. والذي قبله وتعقب بأن السؤال باقٍ وهو ما الحكمة ترك التنصيص عليه، وأجاب شيخنا الإمام البلقيني بأنه اعتبر كل من ذكر بالقرآن من المفسدين، فوجد كل من ذكر إنما هم ممن مضى وانقض أمره، وأما من لم يجيء بعد فلم يذكر منهم أحد. انتهى. وهذا ينتقض بيأجوج ومأجوج وقد وقع في تفسير البغوي أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}. (¬1) وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل على البعض وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيانه والعلم عند الله تعالى». (¬2) وحاول كذلك الحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله، بيان الحكمة من عدم ذكر المسيح الدجال في القرآن. حيث يقول: «إنه إنما لم يذكر بصريح اسمه في القرآن احتقاراً له حيث ¬

(¬1) غافر 57. (¬2) فتح الباري (13/ 92).

موقف الشيخ رشيد رضا من أحاديث الدجال

يدعي الإلهية وهو بشر، ينافي جلال الرب وعظمته وكبريائه وتنزيهه عن النقص، فكان أمره عند الرب أحقر من أن يذكر وأصغر وأدحر من أن يجلي عن أمر دعواه ويحذر، ولكن انتصر الرسل لجناب الرب عز وجل فجلوا لأممهم عن أمره وحذروهم ما معه من الفتن المضلة والخوارق المنقضية المضلة، فاكتفى بإخبار الأنبياء، وتواتر ذلك، عن سيد ولد آدم إمام الأتقياء عن أن يذكر أمره الحقير بالنسبة إلى جلال الله في القرآن العظيم، ووكل بيان أمره إلى كل نبي كريم، فإن قلت: فقد ذكر فرعون في القرآن وقد ادعى ما أدعاه من الكذب والبهتان، فالجواب أن أمر فرعون قد انقضى وتبين كذبه لكل مؤمن وعاقل، وهذا أمر سيأتي وكائن، فيما يستقبل فتنةً واختباراً للعباد، فترك ذكره في القرآن احتقاراً له، وامتحاناً به». (¬1) قلت: وهذا القول هو الأقرب إلى النفس والله أعلم، فهو أحقر وأذل من أن يذكره الله تعالى بصريح اسمه. ووكل بيان كذبه ودجله إلى رسله عليهم الصلاة والسلام فبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح بيان، وبين صفاته وما يجئ به، وبين كيفية الاعتصام والوقاية من شره ودجله. موقف الشيخ رشيد رضا من أحاديث الدجال: يقول الشيخ رضا: «إن أحاديث الدجال مشكلة من وجوه: (أحدها) ما ذكرناه آنفا من منافاتها لحكمة إنذار القرآن الناس بقرب الساعة وإتيانها بغتة. ¬

(¬1) الفتن والملاحم (ج 1/ 106).

(ثانيا) ما ذكر فيها من الخوارق التي تضاهي أكبر الآيات التي أيد الله بها أولى العزم من المرسلين أو تفوقها، وتعد شبهة عليها، كما قال بعض علماء الكلام، وعد بعض المحدثين ذلك من بدعتهم. ومن المعلوم أن الله ما آتاهم هذه الآيات إلا لهداية خلقه، التي هي مقتضى سبق رحمته لغضبه، فكيف يؤتى الدجال أكبر الخوارق لفتنة السواد الأعظم من عباده؟ فإن من تلك الروايات أنه يظهر على الأرض كلها في أربعين يوما إلا مكة والمدينة، وقد روى أبو نعيم في الحلية عن حسان بن عطية (¬1) من ثقات التابعين أنه لا ينجو إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة (¬2). وقال الحافظ وهذا لا يقال من قبل الرأي فيحتمل أن يكون مرفوعا أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب أ. هـ» (¬3) وهو الصحيح المختار عندي. (ثالثهما) وهو من متعلقات ما قبله أن ما عزي إليه من الخوارق مخالف لسنن الله تعالى في خلقه، وقد ثبت بنصوص القرآن القطعية أنه لا تبديل لسنته تعالى ولا تحويل. وهذه الروايات المضطربة المتعارضة لا تصلح لتخصيص هذه النصوص القطعية ولا لمعارضتها. (رابعها) اشتمال بعض هذه الأحاديث على مخالفة بعض القطعيات ¬

(¬1) حسان بن عطية المحاربي، مولاهم، أبو بكر الدمشقي، ثقة فقيه عابد، من الطبقة الرابعة، مات بعد العشرين ومائة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. (انظر تقريب التهذيب 1/ 162). (¬2) الحلية لأبي نعيم (6/ 77). (¬3) فتح الباري (13/ 99).

الرد على هذه الإشكالات

الأخرى من الدين كتخلف أخبار الرسل، أو كونها عبثاً وإقرارهم على الباطل وهو محال في حقهم. (خامسا) أنها متعارضة تعارضاً كثيراً يوجب تساقطها» (¬1). وبين بعض أوجه التعارض (¬2) فيما يراه تعارضا وقال: «وقد حاول شراح الصحيحين وغيرهم الجمع بين الروايات المتعارضة في كل مسألة، فجاءوا بأجوبة متكلفة للجمع بينها وردها المحققون كلها أو أكثرها» (¬3) بل ذهب إلى اعتبار بعضها مما تعارض فتساقط. (¬4) الرد على هذه الإشكالات: يرى الشيخ رشيد رضا «أن أحاديث المسيح الدجال مشكلة من عدة وجوه»، وفي الحقيقة أن أحاديث المسيح الدجال ليس فيها أي أشكال أو تعارض فيما بينها، كما يرى الشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له. وإنما الإشكال في اعتقادي هو عد الشيخ رشيد رضا وجعله مثل هذه الأحاديث مشكلة، ومحاولته رد هذه الأحاديث الصحيحة باستشكالات وتساؤلات لا قيمة لها ولا وزن أمام مجموعة الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواتر التي ذكرت في خروج المسيح الدجال. فكان الواجب على الشيخ رشيد رضا وهو الضليع في علم الحديث ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 489 - 490). (¬2) انظر تفسير المنار (9/ 490 - 491). (¬3) تفسير المنار (9/ 491). (¬4) انظر نفس المصدر ص (9/ 494).

مناقشة الإشكال الأول

والملقب بمحي السنة في زمنه، أن ينحى ينحو أهل الحديث في التعامل مع نصوص الحديث النبوي الشريف وذلك بمحاولة الجمع بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها التعارض، إن كان فيها تعارض, لا أن يرد الأحاديث الصحيحة، لا سيما المتفق عليها في الصحيحين والتي هما أصح الكتب بعد القرآن، وقد تلقتهما الأمة بالقبول، باستشكالات وتساؤلات ومعارضات عقلية لا قيمة لها ولا وزن أمام النص النبوي الثابت بأصح الأسانيد، فإن هذا من منهج المعتزلة وأهل الكلام في التعامل مع النصوص النبوية، وعدم توقيرها واحترامها، لا منهج أهل السنة والجماعة. حيث إنهم يردون الحديث بمجرد مناقضته للعقل بأي وجه من الوجوه، وما حديث الذباب عنا ببعيد، أو يؤولون الحديث تأويلا باطلاً يتماشى مع ما يريدون، كما أول أستاذه محمد عبده معنى الدجال بأنه رمز للخرافات والدجل والقبائح (¬1) وهذا بلا شك تأويل باطل لا يتماشى مع نص الحديث وما يدل عليه. ومع هذا سوف أذكر هذه الاستشكالات التي ذكرها الشيخ رشيد رضا والتي بسببها رد الأحاديث الواردة في خروج المسيح الدجال وأبين ما فيها من مجانبة الحق، وعدم معارضتها للأحاديث السابقة. مناقشة الإشكال الأول: وهي قوله «أنها منافيه لإتيان الساعة بغتة». وفي الحقيقة أنه لا تعارض ولا منافاة بين مجيء الساعة بغتة وبين وجود أمارات وعلامات تدل على قرب وقوعها. ¬

(¬1) تفسير المنار (3/ 317)

فالعلامات والأمارات قد تكون بعيده عن قيام الساعة كبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وموته والتطاول في البنيان. فلا تعارض إذن ولا منافاة بين وجود الأمارات، ومجيء الساعة بغته. ثم إن هناك فرقا بين الساعة وأماراتها كما ورد في حديث جبريل عليه السلام، الذي ورد في الصحيحين عندما سأل جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، فقال جبريل عليه السلام: فأخبرني عن أماراتها؟ أي عن أمارات الساعة ولا أظن أن الشيخ ينكره، ثم إن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعظم علامات الساعة، كما ذكر الشيخ من قبل، فلا ينافي هذا كون إتيان الساعة بغتة يقول الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (¬1) فأمارات الساعة إذا مما يستأنس به المؤمنون ويزيدهم إيماناً. (¬2) فالأمارات تجعل البشر يستعدون للساعة، وكأنها مقبلة الآن، فتكون حاضرة في وجدانهم، وإن لم تكن حاضرة في واقعهم، وتجعلهم يتوقعونها في كل آنٍ وحين مع جهلهم بوقتها. (¬3) فال القرطبي: «والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها تنبيه الناس على رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة، كي لا يباغتوا بالحول بينهم وبين تدارك العوارض منهم، فينبغي للناس أن ¬

(¬1) طه 15. (¬2) المفسرون مدارسهم ومناهجهم، فضل حسن عباس، صـ 184. (¬3) موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف، شفيق شقير صـ 297.

مناقشة الإشكال الثاني

يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم، وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها». (¬1) مناقشة الإشكال الثاني: وهو قول الشيخ رشيد رضا عن الأحاديث الواردة في المسيح الدجال «ما ذكر فيها من الخوارق التي تضاهي أكبر الآيات التي أيد الله بها أولى العزم من المرسلين أو تفوقها، وتعد شبهه عليها كما قال بعض علماء الكلام وعد بعض المحدثين ذلك من بدعتهم ... ». فالشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له، يرى أن ما ذكر عن المسيح الدجال. وما سيأتي به من خوارق الأمور والأعمال التي تبهر العقول وتحير الألباب، مشابه أو مساوي لما أيد الله به أولى العزم من المرسلين من المعجزات والكرامات. وهذا بحد ذاته يعتبر شبهةً وإشكالاً كبيراً عند رشيد رضا، بل وهذه الشبهة أو الإشكال كفيلة برد كل الأحاديث الصحيحة التي ذكرت في المسيح الدجال. وفي الحقيقة أن المسألة أهون وأيسر من ذلك، لمن وفقه الله وأنار بصيرته للجمع بين النصوص أو التوفيق بينها. فالمسألة في الواقع لا شبهة ولا إشكال فيها، فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، مؤمنون بالله مقرون ومعترفون بربوبيته على خلقه، ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي، صـ 624.

ومقرون ومعترفون بأن ما جاءوا به من المعجزات إنما هو بتأييد الله لهم ليعلم الناس صدقهم وصدق ما جاؤوا به من الشرائع والأحكام، وأنهم ما أرسلوا إلا لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة من سواه. بعكس المسيح الدجال، فهو وإن جاء ببعض الأعمال والأمور العظيمة التي تبهر العقول وتحير الألباب كإحياء الموتى وأمره للسماء أن تمطر فتمطر وغيرها من الأمور، فإن أمره واضحٌ وبين لمن ثبته الله في تلك الفتنة وربط على قلبه، وذلك أن الدجال لم يدع النبوة فيلتبس أمره، وإنما إدعى الألوهية ودعا الناس إلى عبادته والكفر بعبادة الله، وهو مع دعوته الناس إلى إتباعه وطاعته فهو ناقص ومعيب ومشوه الخلق، فهو أحقر وأذل أن يدعي هذه الدعوة. ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين وحذر أمته من المسيح الدجال وبين صفاته، وأن من أوضح صفاته أنه مكتوبٌ بين عينيه كافر يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب، وأنه أعور والله تعالى متصف بصفات الكمال والجمال والجلال وليس بأعور. فبهذا يتبين الفرق بين ما جاء به أولوا العزم من الرسل وما سوف يجيء به المسيح الدجال من أعمال وخوارق، فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الأحاديث ويؤمنون بها وبما دلت عليه، ولا يعتبرون ما جاء فيها من الخوارق مظنة لردها، كما يقول أهل الكلام من المعتزلة والجهمية وغيرهم. وإن قال البعض منهم بأن ما مع الدجال ليس له حقيقة، وأن ذلك إنما هو في نظر العين وليس بحقيقة، كابن حزم والطحاوي وآخرين إلا أن

هؤلاء دليلهم النقل لا غيره حيث تمسكوا بحديث حذيفة بن اليمان وغيره أن ماءه نار، وناره ماء بارد. (¬1) ولا شك أن قول هؤلاء مخالف للصواب، ولما عليه ظاهر الحديث، ولما عليه جمهور أهل السنة والجماعة. وقد رد الحافظ ابن حجر على هذا القول، حيث قال: «إن خوارق الدجال حقيقة وليست بخيالات ولا تمويهات، وهذه الخوارق من الأمور التي أقدره الله عليها فتنةً وابتلاءً للعباد، والدجال لا يمكن أن يشتبه حاله بحال الأنبياء، لأنه لم يثبت أنه يدعي النبوة حال ظهور الخوارق بين يديه، بل يكون ظهور الخوارق عند إدعائه الربوبية». (¬2) أما بالنسبة لقوله: «كيف يؤتي الله عز وجل الدجال هذه الخوارق لفتنة السواد الأعظم من عباده؟ فهذا سؤال ما كان ينبغي للشيخ رشيد رحمه الله وغفر له، أن يسأله فإن الله سبحانه وتعالى يسأل ولا يُسأل سبحانه، ومن نحن حتى نسأل الله كيف تفعل كذا وكذا؟ فالخلق خلقه والعبيد عبيده، يفعلُ ما شاء ومتى شاء سبحانه وتعالى لا راد لأمره ولا معقب لحكمه. ثم إننا لو فتحنا باب (كيف) و (لم) و (لماذا) لفتحنا على الدين وأهله باب شر لن يغلق، يلج منه كل مبغضٍ للدين وأهله، فاسد النية، خبيث ¬

(¬1) النهاية في الفتن والملاحم (120/ 1) (¬2) فتح الباري (105/ 13)

الطوية للطعن في الدين وأحكامه وعقائده، ولأصبح الدين مسائل وأفكار قابلةً للأخذ والرد على حسب الأهواء والأمزجة، فذاك يستنكر حد الردة، وذاك يجادل في حد الرجم، وذاك يجادل في وجود الملائكة، وذاك يشكك في اليوم الآخر. وهكذا يكون الدين ألعوبة لكل فاسقٍ وفاسد يشكك ويطعن بالدين بدعوى البحث عن الحقيقة، وما علم أن السلامة أن يمسك عن هذه الأقوال وعن هذا الجدل العقيم، فالأصلُ بالمؤمن أن يؤمن ويصدق بكل ما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة سواء علم الحكمة من ذلك أو لم يعلم، فقه معناه أو لم يفقههُ فذاك أسلم لدينه وخيرٌ لعاقبته. إلا أننا نجيب عن ما يرى الشيخ رشيد أنه إشكال فنقول: إن الله تبارك وتعالى هو رب الخلق، خلقهم لعبادته وطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ثم إنه ابتلاهم بالشر والخير ليعلم الصادق في عبوديته لربه من الكاذب، فالله سبحانه وتعالى جعل الابتلاءات والمصائب كي يمحص إيمانهم وصدقهم فمن صبر واحتسب فله الأجر، ومن جزع واعترض فعليه الوزر. وقد جاءت الكثير من الآيات في هذا الصدد. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} (¬1) ¬

(¬1) البقرة 155 - 156.

وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} (¬1) وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} (¬2) وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} (¬3) وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} (¬4) فالإنسان في هذه الدنيا معرض للابتلاء والمصائب والفتن كما ذكرنا في الآيات السابقة، اختباراً وامتحاناً له. وفتنة المسيح الدجال من جملة هذه الفتن التي يسأل الإنسان ربه أن يقيه شرها ويسلمه منها. أما قوله: «وقد روى أبو نعيم في الحلية عن حسان بن عطية من ثقات التابعين أنه لا ينجو إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة». ¬

(¬1) آل عمران 179. (¬2) العنكبوت 2 - 3. (¬3) البقرة 214. (¬4) الأنبياء 35.

مناقشة الإشكال الثالث

فأحسن ما يقال فيه ما قاله ابن حجر في الفتح حيث قال «وهذا لا يقال من قبل الرأي فيحتمل أن يكون مرفوعاً أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب». (¬1) والتابعي إذا تكلم عن أمر غيبي أو أسند شيئاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون من قبيل الحديث المرسل الضعيف الذي لا تقوم به حجة، ثم إن ابن حجر لم يجزم بصحته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال حسن صحيح إلى حسان بن عطية ثم قال أرسله، ثم قال لعله أخذه من أهل الكتاب، وكلام ابن حجر واضح جلي، فهو حديث مرسل تابعي وهو حسان بن عطية. والمرسل كما هو معلوم ليس بحجة، قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة، قال النووي في المنهاج معلقاً على كلام مسلم: مذهب الشافعي وجمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء أنه لا يحتج بالمرسل. (¬2) مناقشة الإشكال الثالث: وهو قوله: «أن ما أعطيه من خوارق مخالف لسنن الله تعالى في خلقه، وقد ثبت بنصوص القرآن القطعية أنه لا تبديل لسننه تعالى ولا تحويل». قبل الإجابة عن هذا الإشكال والذي هو ليس بإشكال في الحقيقة لابد من معرفة أمر هام. ¬

(¬1) الفتح (13/ 92)، وقال عن سند الحديث بأنه حسنٌ صحيح. (¬2) للاستزادة أنظر مقدمة النووي المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج صـ 149، فصل في ألفاظ يتداولها أهل الحديث.

وهو أن هناك فرقا بين السنن الإلهية الإنسانية، وبين السنن الإلهية الكونية. فالسنن الإلهية الإنسانية، لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول، وهي عادة الله في سير الحياة الإنسانية، وعادته في إثابة الطائعين وعقاب المخالفين. (¬1) والسنن الإلهية الكونية، قابلة للتغيير والتبديل والتحول، والتي هي منهج الله في تسيير هذا الكون وعمارته وحكمه. (¬2) ولابن تيمية كلام جميل يبين فيه ثبات السنن الإلهية الإنسانية وعدم انخرامها مطلقاً وأن السنن الإلهية الكونية قد تنخرم وتتبدل وتتحول. حيث يقول رحمه الله في رسالة لفظ السنة في القرآن: «اعلم أنه قد ذكر الله تعالى لفظ سننه في مواضع من كتابه فقال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}». (¬3) وقال تعالى {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}. (¬4) وقال تعالى: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}. (¬5) ثم قال بعد ذلك: «وهذه السنن كلها سنن تتعلق بدينه وأمره ونهيه ¬

(¬1) السنن الإلهية في الحياة الإنسانية، للدكتور شريف الخطيب صـ 55. (¬2) نفس المصدر. (¬3) الإسراء 77. (¬4) فاطر 43. (¬5) غافر 85.

ووعده ووعيده وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية كسنته في الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من العادات. فإن هذه السنة ينقضها إذا شاء بما شاء من الحكم، كما حبس الشمس على يوشع، وكما شق القمر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكما ملأ السماء بالشهب، وكما أحيا الموتى غير مره، وكما جعل العصا حية، وكما أنبع الماء من الصخرة بعصا، وكما أنبع الماء من بين أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فالعادات الطبيعية ليس للرب فيها سنة لازمة، فإنه قد عرف انتقاض عامة العادات، فالعادة في بني آدم ألا يخلقوا إلا من أبوين وقد خلق المسيح من أم، وحواء من أب، وآدم من غير أم ولا أب، وأحياء الموت متواتر مرات عديدة، وكذلك تكثير الطعام والشراب لغير واحد من الأنبياء والصالحين ... ». (¬1) وما سوف يأتي به المسيح الدجال من خوارق، كإحياء الموتى وأمره السماء أن تمطر فتمطر والأرض فتنبت وغيرها إنما هو من السنن الإلهية الكونية القابلة للتغيير والتبديل. ثم إنه لابد من التنبه إلى أمر آخر وهو أن سنن الله ليس كل ما ألفه الناس فقط، فمن سننه أيضا مالا يألفه الناس كإحياء الموتى وقلب العصا إلى حية وغيرها من الأمور الأخرى. ولقد تنبه الأستاذ/ سيد قطب لهذا الفرق من خلال تفسيره (في ظلال القرآن)، حيث يقول في آخر تفسير سورة الفيل عند كلامه عن السنن: «إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه، وما يعرف البشر من سنة ¬

(¬1) جامع الرسائل لابن تيمية صـ 52.

الله إلا طرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل، فهذه الخوارق، كما يسمونها هي من سنة الله، ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه ... ». (¬1) فما سوف يأتي به المسيح الدجال من خوارق ليس فيه خلاف أو تحول لسنن الله تعالى، بل هي من سنة الله تعالى، ولكنها خوارق وخلاف للسنن بالنسبة إلى مقاييس البشر ولما عرفوه كما ذكر سيد قطب. ثم إن وقت ظهور الدجال هو من مقدمات اليوم الآخر، وفيه تكثر الخوارق، وكان ينبغي للشيخ رشيد أن يطبق قاعدته الصحيحة في أمور الغيب والآخرة، وهي الإيمان بما ورد منها مع تفويض الكيفية. (¬2) ثم إن ما يعطاه الدجال من الخوارق ليس فيه مخالفة لسنن الله الكونية فإننا لو أجرينا كلام السيد رشيد رضا على ظاهره لأبطلنا معجزات الأنبياء، لأنها مخالفة لسنن الله الكونية وما يقال في الخوارق التي يُعطاها الدجال على سبيل الفتنة والامتحان والبلاء، ولو سلمنا أن خوارق الدجال مخالفة لسنن الله الكونية، فإننا نقول إن زمن الدجال تنخرق فيه العادات، وتحدث أمور عظيمة مؤذنة بخراب العالم وزوال الدنيا وقرب الساعة، وإذا كان خروجه في زمن فتنة أرادها الله، فلا يقال إن الله ألطف بعباده من أن يفتنهم بخوارقه، فهو اللطيف الخبير ولكن اقتضت حكمته أن يبتلي عباده، وقد أنذرهم وحذرهم منه». (¬3) ¬

(¬1) في طلال القرآن سيد قطب (ج 6/ 3977). (¬2) انظر منهج الشيخ رشيد رضا في العقيدة، تامر محمد متولي، صـ 842. (¬3) أشراط الساعة، يوسف الوابل، 280.

مناقشة الإشكال الرابع

مناقشة الإشكال الرابع: وهو قوله «اشتمال بعض هذه الأحاديث على مخالفة بعض القطعيات الأخرى من الدين، كتخلف أخبار الرسل أو كونها عبثاً وإقرارهم على الباطل وهو محال في حقهم». ففي الحقيقة أن إشكاله هذا ليس بإشكال، ولكن الشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له يصطنع التعارضات والمخالفات، ويجعل منها إشكالا يوجب رد تلك الأحاديث الصحيحة الواردة في المسيح الدجال. وذلك أن الأحاديث الصحيحة الواردة في المسيح الدجال ليس فيها أي مخالفة للقطعيات أو أخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام. ولا أدري ماذا يقصد الشيخ رشيد رضا، بمخالفتها للقطعيات فإن كان يقصد عدم وقوع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من خروج المسيح الدجال. فهذا إشكالٌ لا قيمة له في الحقيقة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما حذر من الدجال حذر من قيام الساعة. فكما أن الساعة لم تقع ولم يأتِ وقت وقوعها فكذلك المسيح الدجال لم يخرج ولم يأتِ وقت خروجه. وليس في هذا دليل على مخالفتها للقطعيات أو كذب تلك الأخبار أو تخلفها. وهل يعقل أن ينكر أحد الساعة لعدم وقوعها في زمنه فكذلك يقال في شأن المسيح الدجال، فمن السفه أن ينكر أحدهم خروج المسيح الدجال أو

مناقشة الإشكال الخامس

خروج يأجوج ومأجوج أو غيرها من أشراط الساعة الكبرى لا لشيء إلا لعدم وقوعها في زمنه. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين وقت خروج المسيح الدجال كي يقال إنها لم تقع. ثم إن الساعة لم تقم حتى الآن كي يقال إن الأخبار الواردة في المسيح الدجال غير صحيحة أو أنها مكذوبة. مناقشة الإشكال الخامس: وهي قوله: «إنها متعارضة تعارضاً يوجب تساقطها». فالشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له يرى أن مجرد وجود شبهة التعارض بين مجموع تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة الواردة في المسيح الدجال، والمذكورة في أصح الكتب بعد القرآن وهما صحيح البخاري وصحيح مسلم، مجرد وجود تلك الشبهة كفيل برد تلك الأحاديث، وعدم الالتفات إليها عند الشيخ رشيد رضا. ولا يشفع لها عنده صحة إسانيدها وإن كانت أسانيدها كالشمس في رابعة النهار. ثم إننا نقول أن دعوى التعارض فيما بينها غير صحيح ولا نقبله من الشيخ رشيد رضا، فالشيخ رشيد رضا يمزج بين الروايات الصحيحة والضعيفة والمقبول منها والمردود ثم يبني على ذلك نتائجه وما توصل إليه. وكان أحرى بالشيخ رشيد وهو العالم بالسنة والصحيح منها والضعيف أن يميز الروايات الصحيحة من الضعيفة ثم يحاول بعد ذلك

الجمع بين الأحاديث الصحيحة إن كان في ظاهرها تعارض أو تناقض كما يقول. متبعاً بذلك منهج أهل السنة والجماعة في الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، فالجمع بين النصوص أولى من ردها أو إهمال بعضها. ثم إن دعوى التعارض بين الأدلة الشرعية غير ممكن، وقد حكي الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقاً، كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك فقال «يقول الباقلاني: وكل خبرين علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما متعارضين، لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب إحداهما منافياً لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كان أمراً أو نهياً أو إباحة أو حظراً، أو يوجب كون إحداهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة وكل مثبت للنبوة» (¬1). فالتعارض بين النصوص الشرعية سواء بين القرآن والسنة أو بين الأحاديث فيما بينها غير ممكن، وسببه قلة العلم أو قصور في الفهم. قال الشيخ بن عثيمين: «إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة، فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له». (¬2) ¬

(¬1) الكفاية للخطيب البغدادي صـ 433. (¬2) شرح الواسطية لابن عثيمين دار ابن الجوزي صـ 70، الطبعة الرابعة 1427 هـ.

وقد استعمل هذه القاعدة كثير من أئمة العلم والدين في كسر المبتدعة وتفنيد شبهاتهم، كصنيع الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب «الرسالة»، وفي كتاب «مختلف الحديث»، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في «الرد على الجهمية» والإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتاب «مختلف الحديث»، والطحاوي رحمه الله في «مشكل الآثار» وغير هؤلاء كثير من أئمة السنة». (¬1) ثم إنه لو اكتفى الشيخ رشيد رضا بذكر الروايات الصحيحة واعتمد عليها وأهمل غيرها من الروايات الموضوعة والمكذوبة وما أكثرها، لما وجد هناك تعارضاً فيما بين الأحاديث الصحيحة وإن كان هناك ما يوهم التعارض منها فقد بينه العلماء وشراح الحديث، وذلك بالجمع بين الروايات الصحيحة والترجيح بينها من دون رد لأي منها أو إهماله. ونضرب لذلك مثالاً ليتضح المقصود، وذلك بذكر كيفية جمع القاضي عياض بين الرواية الصحيحة الواردة في الصحيحين في وصف عين الدجال اليمنى بالعور. وبين الرواية الصحيحة الأخرى الواردة في صحيح مسلم في وصف عين الدجال اليسرى بالعور دون رد لأي منهما. حيث ذهب إلى أن عيني الدجال كلتيهما معيبة، لأن الروايات كلها صحيحة، وتكون العين المطموسة والممسوحة هي العوراء الطافئة بالهمز أي التي ذهب ضوؤها وهي العين اليمنى كما في حديث ابن عمر. (¬2) ¬

(¬1) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن (1/ 348). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (6/ 2607)، رقم (6709).

حديث الجساسة

وتكون العين اليسرى التي عليها ظفره غليظة، وهي الطافية بلا همز - معيبة أيضاً. (¬1) فهو أعور العين اليمنى واليسرى معاً. فكل واحدة منهما عوراء، أي معيبة، فإن الأعور من كل شيء، المعيب، لا سيما ما يختص بالعين فكلا عيني الدجال معيبة عوراء، إحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها. قال النووي: «في هذا الجمع هو في نهاية من الحسن». (¬2) حديث الجساسة: روى الإمام مسلم بسنده إلى عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول، فقال: حدثيني حديثاً سمعتيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسنديه إلى أحد غيره فقالت لئن شئت لأفعلن، فقال لها أجل حدثيني، فقالت: نكحت ابن المغيرة وهو من خيار شباب قريش يؤمنذٍ، فأصيب في أول الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تأيمت خطبني عبد الرحمن بن عوف في نفر من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - وخطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مولاه أسامة بن زيد، وكنت قد حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «من أحبني فليحب أسامة». فلما كلمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت أمرى بيدك، فأنكحنى من شئت فقال: «انتقلى إلى أم شريك». وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله، ينزل عليها ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال (1/ 154)، رقم (169). (¬2) انظر شرح النووي لمسلم (2/ 235).

الضيفان فقلت سأفعل فقال: «لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم»، وهو رجل من بني فهرِ فهرِ قريش وهو من البطن الذي هي منه - فانتقلت إليه فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي الصلاة فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال «ليلزم كل إنسان مصلاه». ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال «إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت فقالت أنا الجساسة. قالوا وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون - شيطانة قال - فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد قلنا ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم فلعب بنا الموج شهراً ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه،

فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدري ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت فقالت: أنا الجساسة. قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة فقال أخبروني عن نخل بيسان، قلنا: عن أي شأنها تستخبر قال أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم. قال أما إنه يوشك أن لا تثمر قال أخبروني عن بحيرة الطبرية. قلنا عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال أخبروني عن عين زغر، قالوا: أي شأنها تستخبر قال هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها، قال أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا نعم. قال كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، فهما محرمتان على كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطعن بمخصرته في المنبر «هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة». يعني المدينة «ألا هل كنت حدثتكم ذلك». فقال الناس نعم «فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة،

ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو». وأومأ بيده إلى المشرق. قالت فحفظت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) مسألة: هل هناك تناقض أو تعارض بين حديث الجساسة الذي يدل على أن الدجال حي منذ زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنه - الذي هو في الصحيحين وهو قوله، صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: «أرايتكُم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد». (¬2)؟ ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب قصة الجساسة وقد أخرج حديث الجساسة أيضا الإمام أحمد في المسند (6/ 374) وأبي داوود في كتاب الملاحم، باب خبر الجساسة (14/ 18) برقم (4325) وابن ماجة في أبواب الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى بن مريم (2/ 397) برقم (4125). - قال الألباني: «حديث الجساسة صحيح لسببين، الأول أنه رواه مسلم في صحيحة والثاني أنه لا يوجد في إسناده مغمزاً أو مطعناً، وممن صحح حديث الجساسة الإمام البخاري رحمه الله حيث قال، وحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس في الدجال حديث صحيح وقد رواه غير مسلم الإمام أحمد وأبو يعلى وأبو داود وابن ماجه ورواه غير فاطمة بنت قيس أبو هريره وعائشة وجابر رضوان الله عليهم مما يدل على تعدد مخرجه وكثرة طرقه فالحديث لم ينفرد به الإمام مسلم ولم تنفرد به فاطمة بنت قيس» (شرح مختصر صحيح مسلم للمنذري للعلامة اللألباني، التعليق على حديث الجساسة). (¬2) صحيح البخاري - كتاب العلم، باب الحديث في الليل قبل النوم (1/ 55)، رقم (116)، صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة. باب «لا يأتي مائة سنه وعلى الأرض نفسه منفوسة» (4/ 1965)، رقم (2537).

الجواب: الصحيح الذي لا شك فيه أنه ليس هناك تناقض أو تعارض بين حديث الجساسة وحديث ابن عمر. فحديث ابن عمر عام وحديث الجساسة خاص، فيكون مستثنى من العموم. قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: في الجواب على من قال بحياة الخضر محتجاً بأن العموم ليس نصاً في الاستغراق يعني العموم في قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يبقى على ظهر الأرض أحد». قال: «لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إنه حدثه به تميم الداري وأنه أعجبه حديث تميم المذكور، لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال، ثم ذكر حديث تميم ثم قال: فهذا نص صريح في أن الدجال حيٌ موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري، وإنه باقٍ وهو حي حتى يخرج في آخر الزمان، وهو نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة. والقاعدة المقررة في الأصول، أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه، فما أخرجه نصٌ مخصص خرج من العموم وبقى العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدل على إخراجها دليل، كما قدمناه مراراً وهو الحق ومذهب الجمهور، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات، يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص ويبقى العام حجة في الباقي». (¬1) ¬

(¬1) «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» للعلامة المفسر محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (3/ 397) دار الفكر، بيروت - لبنان، 1415 - 1995.

رأي رشيد رضا في حديث الجساسة والرد عليه

وقال العلامة محمد ناصر الألباني رحمه الله: «حديث الجساسة صحيح ولا مطعن فيه ولا يخالف حديث (فإنه لا يبقى على رأس مائة سنة منها اليوم أحد) فإن هذا الحديث عام وقد خص، فإن الشيطان الرجيم على وجه الأرض، والشيطان خالد إلى يوم القيامة، ولفظ الحديث شامل لكل من على وجه الأرض، وليس خاصاً ببني آدم، فكما خرج الشيطان من هذا العموم، فما الذي يمنع الدجال من الخروج من هذا العموم أيضاً، وما ينبغي أن ترد أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرأي، وما كنا لنترك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكلام أحد، فالجمع بحمد الله سهل، ولا تعارض ولا منافاة». (¬1) رأي رشيد رضا في حديث الجساسة والرد عليه: يرى الشيخ رشيد رضا بأن حديث الجساسة مصنوع، ولا يصح نسبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. حيث يقول: «وجملة القول في حديث الجساسة أن ما فيه من العلل والاختلاف والإشكال من عدة وجوه يدل على أنه مصنوع وأنه على تقدير صحته ليس له كله حكم الرفع». (¬2) فالشيخ رشيد يرى أن الحديث فيه العديد من العلل والاختلافات والإشكالات التي توجب رده والحكم عليه بأنه مصنوع. ولكن في الحقيقة أن ما أثاره الشيخ رشيد من إشكالات وتساؤلات لا ترقي إلى درجة رد الحديث لا سيما وأنه في صحيح مسلم. ¬

(¬1) في سلسلة الهدى والنور الصوتية لأبي ليلي الأثري وهي موجودة باليوتيوب بعنوان «الألباني يزيل الأشكال حول حديث الجساسة». (¬2) تفسير المنار (9/ 497).

فغاية ما ذكره الشيخ رضا هي إشكالات وتساؤلات يمكن الإجابة عليها، دون رد للحديث أو القول بأنه مصنوع. ولكن الشيخ عفا الله عنه كما قلنا من قبل، يستشكل ما ليس بمشكل وما من إشكال إلا عدة هذه الأمور الواضحة الجلية إشكالات. وسوف أذكر هنا الإشكالات والتساؤلات التي ذكرها الشيخ رضا في تفسيره المنار حول حديث الجساسة والرد عليها: 1 - قوله: «من علل الحديث أنه من الأحاديث التي تتوفر الدواعي على نقلها بالتواتر لغرابة موضوعه، ولاهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - به وجمع الناس له وتحديثه به على المنبر، واستشهاده بقول تميم على ما كان حدثهم به قبل إسلامه، وسماع جمهور الصحابة منه، فمن غير المعقول أن لا يروى إلا آحادياً ويؤيده امتناع البخاري عن إخراجه في صحيحة لشدة تحريه». (¬1) الرد عليه: في الحقيقة أن الشيخ رشيد رضا حينما ذكر هذا الإشكال أجاب عليه بنفسه بقوله «وقد أجاب الحافظ في الفتح عند شرح حديث جابر في ابن صياد من كتاب الاعتصام عن هذا الإعلال بقوله: ولشدة التباس الأمر في ذلك أي الاختلاف بينه وبين حديث ابن صياد - سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد (¬2)، ولم يخرج ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 492). (¬2) يقول محمد بن المنكدر «رأيت جابر بن عبدالله يحلف بالله، أن ابن الصياد الدجال قلت، تحلف بالله؟ قال إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. صحيح البخاري - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، لا من غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم، وقد توهم بعضهم أنه غريب فرد وليس كذلك، فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر، أما أبو هريرة فأخرجه أحمد من رواية عامر الشعبي عن المحرز بن أبي هريرة عن أبيه بطوله، وأخرجه أبو داود مختصراً وابن ماجه، عقب رواية الشعبي عن فاطمة قال الشعبي «فلقيت المحرز فذكره» وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أبي هريرة .. وأما حديث عائشة فهو في الرواية المذكوره عن الشعبي قال: ثم لقيت القاسم بن محمد، فقال أشهد على عائشة حدثتني كما حدثتك فاطمة بنت قيس، وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود بسند حسن من رواية أبي سلمه عن جابر وذكر لفظه. (¬1) وقول الحافظ ابن حجر هذا بلا شك أنه هو الصحيح، فالبخاري سلك مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد. مع تصحيحه لحديث الجساسة، حيث قال، وحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس في الدجال هو حديثٌ صحيح. ثم إن التواتر ليس شرطاً في قبول الحديث، ولا يلزم من صدور الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من على المنبر وفي حشدٍ من الناس أن يروي ذلك متواتراً. فكم من خطبة خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وفي حشدٍ عظيم من الصحابة ومع ذلك لم يروها أو يرو بعضها منها إلا واحد أو اثنان أو أكثر، ممن لا يبلغ عددهم شرط التواتر؟ ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 492)، فتح الباري (13/ 340).

«وقد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عدة خطب في أعظم حشد كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم ينقل خطبته إلا العدد القليل من الصحابة رضي الله عنهم. وقد روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي زيد وعمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى ثم تصعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس - فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا». وقد كانت هذه الخطبة العظيمة الطويلة جداً على المنبر، وفي حشد من الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك لم ينقل شيء منها بالتواتر». (¬1) فالحديث بفضل الله صحيح ويكفي إيراد مسلم له للقطع بصحته، وإن لم يخرجه البخاري، فالبخاري لم يزعم أنه جمع كل الصحيح، إنما اشترط أن لا يخرج في كتابه إلا الصحيح، حيث قال: لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الحديث أكثر. (¬2) وهو مروي عن صحابية جليلة وهي فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد رواه عنها «الشعبي» الذي اعترف الشيخ نفسه بثناء المحدثين حتى على مراسيله، فكيف وقد صرح بالسماع منها، ولقد رواه مع فاطمة بنت قيس، أبو هريرة وعائشة وجابر رضي الله عنهم أجمعين. ¬

(¬1) إتحاف الجماعة، حمود عبد الله النويجري (2/ 61). (¬2) انظر هدي الساري صـ 9.

ثم إنك لتعجب من أمر الشيخ رضا والإشكالات التي يثيرها لرد الحديث النبوي فإذا كان الحديث عند البخاري ولم يوافق عليه أتى عليه بالتأويل والتشكيك كما فعل مع حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وانشقاق القمر. وإن كان عند مسلم أو غيره من الأئمة احتج عليهم بعدم رواية البخاري له في صحيحة وذلك لشدة تحريه فهو لا يسير على منهج معين في التعامل مع الحديث النبوي الشريف. 2 - قوله: من الإشكال المعنوي في هذه الحكاية أن تميماً وأصحابه الثلاثين كانوا من عرب الشام، والمتبادر أنهم ركبوا سفينتهم من بعض ثغورهم في البحر المتوسط وقد ذكرت فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن سرد للناس الحكاية: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت حدثتكم به عنه - أي الدجال - وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق». قالت: فحفظت هذا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: «فإن صح الحديث روايةً فهذا التردد من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان الجزيرة التي ذكرها تميم الداري في أي البحرين هي؟ ثم إضرابه عنهما وجزمه بأنه من جهة المشرق إلخ، إشكال آخر في متنه، وينظر إلى اختلاف الروايات الأخرى في مكان الدجال بعين وينظر إلى اختلاف الروايات في ابن صياد بالعين الأخرى، وينظر بالعينين كلتيهما إلى سبب هذا التردد،

ومنافاته لأن يكون كلامه صلوات الله وسلامة عليه في أمر الدجال عن وحي من الله تعالى». (¬1) فالشيخ رشيد رضا يعتبر أن تردد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر في مكان الجزيرة التي ذكرها تميم الداري، وتردده - صلى الله عليه وسلم - كذلك في ابن صياد، يثير إشكالا معنويا، بحيث يكون كلامه - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال ليس عن وحي من الله. وفي الحقيقة كان يسع الشيخ رشيد ما وسع أهل العلم وشراح الحديث من قبله، وأن يكتفي بما قاله الأئمة في موضوعي الجساسة وابن صياد. يقول النووي عن ابن صياد: «قال العلماء»: وظاهر الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر- رضي الله عنه -: «إن يكن هو فلن تستطيع قتله». (¬2) وقال العلامة الطيبي: «لما تيقن عليه السلام بالوحي، أنه من قبل المشرق نفى الأولين، وظاهر العبارة يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق تميماً في أول الأمر ولذلك قال: «ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن» بالتأكيد بـ «إن» والبدء بأداة الاستفتاح «ألا» ثم كوشف في موقفه بأنه ليس في هذا ولا ذلك بل في جهة المشرق». (¬3) ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 493). (¬2) شرح النووي عن مسلم (18/ 46). (¬3) النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب يراجع (2/ 235) وما بعدها.

وقال النووي: «قال القاضي لفظة «ما هو» زائدة صلة للكلام ليست بنا فيه، والمراد إثبات أنه في جهات المشرق». (¬1) وقال ابن كثير: «قال بعض العلماء إن ابن صياد كان بعض الصحابة يظنه الدجال الأكبر وليس به، إنما كان دجالاً صغيراً». إلى أن قال: «والمقصود أن ابن صياد ليس بالدجال الذي يخرج في أخر الزمان قطعاً، لحديث فاطمة بنت قيس الفهرية، فإنه فيصل في هذا المقام» وقال ابن كثير أيضا: والأحاديث الواردة في ابن صياد كثيرة، وفي بعضها توقف في أمره هل هو الدجال؟ ويحتمل أن يكون هذا قبل أن يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، في أمر الدجال وتعيينه، وقد تقدم حديث تميم الداري في ذلك، وهو فاصل في هذا المقام». وقال أيضا: «وقد قدمنا أن الصحيح أن الدجال غير ابن صياد، وأن ابن صياد كان دجالاً من الدجاجلة ثم تيب عليه بعد ذلك، فأظهر الإسلام والله أعلم بضميره وسريرته، وأما الدجال الأكبر فهو المذكور في حديث فاطمة بنت قيس الذي روته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تميم الداري، وفيه قصة الجساسة، ثم يؤذن له في الخروج في آخر الزمان». (¬2) ولقد حاول ابن حجر أيضا التوفيق بين الأحاديث الواردة في ابن صياد، وحديث الجساسة حيث قال: «أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقاً وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة، ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (18/ 66). (¬2) النهاية لابن كثير (1/ 70) تحقيق طه زيني.

إلى أن توجه إلى أصبهان، فاستتر مع قرينه، إلى أن تجيء المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها». (¬1) ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بخروج ثلاثين دجالاً غير الدجال الموعود وقد يكون ابن صياد منهم، ورواية تميم تؤكد على أن ابن صياد ليس هو الدجال الموعود، خاصةً وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على ذلك كما قلنا. فابن صياد والله أعلم ليس بالمسيح الدجال الأكبر كما قال أكثر أهل العلم، وإنما هو دجال من الدجاجلة غير الدجال الموعود. ثم إنه ما دام قد صحت رواية تميم وصحت رواية ابن صياد فالواجب الجمع، والجمع ولله الحمد ممكن وغير متعذر، بين تلك الروايات الصحيحة، ولا يصل الأمر إلى رد الحديث بإشكالات وتساؤلات يمكن الأجابة عليها والتوفيق فيما بينهما كما هو منهج أهل الحديث. 3 - قوله: «ثم أين الجزيرة التي رفأ إليها تميم وأصحابه في سفينتهم؟ إنها في بحر الشام أو بحر اليمن كما في اللفظ المرفوع - إن صح الحديث - أي الجهة المقابلة لسواحل سورية من البحر المتوسط أو الجهة المجاورة لشواطئ اليمن من البحر الأحمر، وكلاً قد مسح في هذه الأزمة مسحاً، وجابوا سطحهما طولاً وعرضاً، وقاسوا مياههما عمقاً، وعرفوا جزائرها فرداً فرداً، فلو كان في إحداهما جزيرة فيها دير أو قصر حبس فيها الدجال، وبه جساسة فيها تقابل الناس وتنقل إليه الأخبار، لعرف ذلك كله كل الناس». (¬2) ¬

(¬1) فتح الباري (13/ 328). (¬2) تفسير المنار (9/ 494).

الرد: عدم رؤية الجساسة أو المسيح الدجال ليس دليلاً على أنه غير موجود أو أن قصته مكذوبة وموضوعة. فيأجوج ومأجوج نؤمن بهم وأنهم موجودون ولكن لا نعلم مكانهم، ولم يسبق لأحد أن التقى بهم على الرغم من أن البشر مسحوا الأرض شبراً شبراً ولا يوجد مكان على وجه الأرض لم تطأه قدم بشر خاصةً في زمننا هذا، والذي تطورت فيه وسائل النقل والاستكشاف بشكل لم يسبق إليه من قبل. فالله سبحانه وتعالى له حكمة في إخفاء مكان يأجوج ومأجوج وكذلك له حكمة أيضا في إخفاء المسيح الدجال والجساسة، وذلك لأن ظهوره علامة من علامات الساعة الكبرى، ولن يكون له ظهور إلا إذا أذن الله بذلك، وعلى هذا فمن الطبيعي أن يخفيه الله عن أعين البشر فلا يصل إليه أحد، ما دام أن أوان الساعة لم يحن بعد. ثم إنه ليس من المستحيل أن يخفيه الله عن أعين البشر، خاصةً وأن بقاءه مرتبط بحكمة إلهية كبرى يتوقف عليها مصير البشرية كلها بل الكون أجمع. (¬1) ولكن قد يتساءل سائل فيقول: إذا كيف رآه تميم وصحبه دون الناس؟ ؟ فتقول، في الحقيقة أن رؤية تميم له كانت بتقدير الله وبعلم الله كرامة لتميم وصحبه، وتقريراً لصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ أنه وافق ما يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، وليزيد الله في بيان أمره ليحذروه ويسألوا الله أن يقيهم شره وأن يعصمهم منه. ¬

(¬1) المدرسة العقلية الحديثة، شفيق شقير صـ 321.

4 - أما قوله: «فهل يجب أن تكون حكايته - صلى الله عليه وسلم - لما حدثه به تميم تصديقاً له؟ ». (¬1) الرد يرى الشيخ رشيد رضا، أن مجرد حكاية النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حدثه به تميم الداري- رضي الله عنه - ليس دليلا على أنه مصدق له ولما قاله! ! بل قد يكون مكذباً له، ولما جاء به، ويحكيه عنه، ويرويه للناس! ! وهذا والله مبالغة وتكلف في إيراد الإشكالات والتساؤلات والشبهات لرد حديث تميم الداري- رضي الله عنه -، فالشيخ رشيد رحمه الله وغفر له يحاول بكل ما أوتي من حجه وبيان أن يثير الشبه حول حديث الجساسة، من أجل رده وأنى له ذلك. فهل يعقل أن ينقل رجلا من عامة الناس كلاماً عن رجلٍ آخر، ويجمع له الناس ويحدثهم به وهو في قرارة نفسه غير مصدقٍ به، فضلاً عن أن يكون الناقل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤيد بالوحي من رب العالمين. فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مصدق لما جاء به تميم الداري- رضي الله عنه -، وغير مصدق لما قال له، فلما يجمع الناس، ويرسل المنادي أن ينادي «الصلاة جامعة» ثم يلزم الناس بالجلوس بقوله - صلى الله عليه وسلم - «ليلزم كلُ إنسانٍ مصلاه»، ثم قال «أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا رهبه، ولكن جمعتكم لأن تميم الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 495).

وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت حدثتكم عن المسيح الدجال .... »، ثم حدثهم بما حدثه به تميم الداري- رضي الله عنه -. اليس هذا إقرارا منه - صلى الله عليه وسلم - على صدقه- رضي الله عنه - وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما ينطق عن الهوى ولا يقر إلا على صواب. فإذا لم يعن هذا الفعل إقراراً وتصديقاً منه - صلى الله عليه وسلم - بصدق ما جاء به تميم، وتصديق ما قاله، فكيف هو الإقرار والتصديق. وإنه واللهِ إقرارٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لتميم الداري ما بعده إقرار، وإنها والله من مناقب تميم الداري وكفى به منقبة ومزية وكرامة أن يُحدث عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويروي عنه. قال النووي عن حديث تميم: «هذا معدود في مناقب تميم- رضي الله عنه - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عنه هذه القصة، وفيه رواية الفاضل عن المفضول، ورواية التابع عن تابعه». (¬1) فتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - واضح لا لبس فيه، إلا أن مغالاة رشيد رضا وتعصبه في رد الخوارق والغرائب أدى به إلى رد كل حديث لا يتوافق مع منهجه العقلي الذي ورثه عن شيخه وأستاذه محمد عبده. ولو أن الشيخ لزم غرز أئمة الدين، ومنهج أهل السنة وأهل الحديث في التعامل مع الحديث النبوي، لكان أسلم له في دينه وخيراً له في عاقبته، ولكفى المسلمين باب شر يلج منه كل مبتغٍ للفتنة، مبغضٍ للدين وأهله. ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (18/ 37).

5 - ومن الإشكالات التي أوردها أيضا على حديث الجساسة قوله «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق تميماً في أول الأمر ولذلك قال «ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن». فيرى الشيخ رشيد أن نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض قول تميم يبطل الثقة به كله، حيث يقول «ههنا يجئ إشكال آخر وهو أن نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض قول تميم يبطل الثقة به كله». الرد: وهذا في الحقيقة إشكال باطل، فتحديد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان الجزيرة ليس فيه أي تكذيب لتميم حتى تبطل الثقة به كله كما قال الشيخ رشيد. فتميم الداري لم يحدد مكان الجزيرة، بل ذكر أنه قاده البحر إليها ولا يدري أين هي أصلاً، حتى يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى بعض قول تميم. ثم أنه على افتراض أنه حددها وأخطأ في تحديد مكانها فهو ليس معصوما من الخطأ والزلل. ولكنه والله التجني ولي أعناق النصوص، إلى درجة استشكال أمر غير موجود أصلا، فتميم لم يتعرض إلى مكان الجزيرة والذي تعرض لبيان مكانها هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا تردد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بداية الأمر في تحديد مكانها فما هو ذنب تميم الداري حتى تبطل الثقة به كله، وهو صحابي جليل قد صدقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما قاله وحدث به الناس. 6 - تساؤله هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوماً من تصديق كل كاذب في خبر، فيعد تصديقه لحكاية تميم دليلاً على صدقة فيها؟ (¬1) ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 495).

ثم يجيب عن ذلك بقوله «أن ما قالوه في العصمة لا يدخل فيه هذا، فالمجمع عليه هو العصمة في التبليغ عن الله تعالى وعن تعمد عصيانه بعد النبوة». ثم يورد أقوالا في تحديد عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومؤداها عدم عصمته - صلى الله عليه وسلم - في الشؤون الدنيوية بخلاف الدينية منها. (¬1) الرد: يقصد الشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له، بقوله «هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم معصوما من تصديق كل كاذب، فيعد تصديقه لحكاية تميم دليلا على صدقه فيها». هو التشكيك في صدق تميم الداري رضي الله عنه. وأن قد يكون ما قاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كذب، وأن القصة قد ألفها ونسجها من مخيلته، وأن لا وجود لها في الواقع ورواها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وبكل بساطة صدقها، لأنه غير معصوم من تصديق الكاذب، ثم جمع الناس وذكر لهم ما قاله تميم الداري له. وقد نسى الشيخ رشيد رضا أو تناسى بأن من يتكلم عليه ويتهمه بالكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - هو صحابي جليل مشهود له بالتقى والصلاح والعبادة، وغير متهم في دينه أو أمانته أو عدالته. وهو بنفسه قد شهد له بذلك حيث قال «كان تميم الداري من عرب فلسطين «سوريا» وقد وصف بأنه راهب زمانه، وقد جاء هو وأخوه نعيم المدينة في آخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع من الهجرة وأسلما، وحدث هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكاية الجساسة الغريبة، وذكروا أنه كان بعد إسلامه من العباد ¬

(¬1) المصدر نفسه.

والقصاصين ولم يذكر لأحدٍ شبهةٌ فيه، بل عدوا من مناقبه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عنه». (¬1) فهو نفسه يشهد له بالعبادة والصلاح وأنه غير متهم في دينه وأمانته ولم يذكر لأحدٍ شبهةً فيه. ثم يأتي بعد ذلك ويثير الشكوك والتساؤلات بأنه قد يكون كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه. فهذا تناقض عجيب من الشيخ رشيد رضا، يثني على شخص في بداية الأمر، ثم يأتي ويثير الشكوك والتساؤلات التي توحي بكذبه بعد ذلك. ولكن كما قيل إذا عرف السبب بطل العجب، فكل هذه المحاولات من الشيخ رشيد رضا والتشكيكات من أجل الطعن في أمانة الصحابي الجليل تميم الداري وذلك لرد حديث الجساسة، الذي أرق مضجعه، ولا يعرف كيف يتخلص منه، أو بأي طريقة يرده. والذي يرى الشيخ أنه مصنوع حيث يقول «وجملة القول في حديث الجساسة أن ما فيه من العلل والاختلاف والإشكال من عدة وجوه يدل على أنه مصنوع». (¬2) إلى أن وصل به الحال الطعن في عدالة تميم الداري- رضي الله عنه - وغاب عن الشيخ رشيد رضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهداً بصدق قول تميم الداري أمام مجمع من الصحابة بعد ما جمعهم، «وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم به عن المسيح الدجال». ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 492). (¬2) تفسير المنار (9/ 495).

أليس هذا إقراراً من النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدق ما قاله تميم الداري- رضي الله عنه -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما ينطق عن الهوى، ولا يقر إلا على صواب! ! ثم أن ما ذكره الشيخ رشيد رضا بقوله: «أن ما قالوه في العصمة لا يدخل فيه هذا»، ويقصد فيه تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - للكاذب، ويقصد به تميم الداري- رضي الله عنه - وأرضاه، فهو استشكال باطل ولا قيمة له، والرد عليه لا يحتاج إطالة. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم في التبليغ والتحمل في أمور الدين وقد نقل الإجماع على هذا غير واحد. (¬1) أما أمور الدنيا فيجوز عليه الخطأ فيها على المشهور كما في حادثه تأبير النخل. (¬2) والدجال والجساسة من أمور الغيب والدين، وليس من شؤون الدنيا قطعاً، فلماذا أخرجهما الشيخ رشيد رضا من خبر العصمة بقوله «إن ما قالوه في العصمة لا يدخل فيه هذا». والجواب عن هذا التساؤل بكل بساطة، هو أن إخراج رشيد رضا لحديث الجساسة من خبر العصمة من أجل رده وعدم الأخذ به، لأنه لو قال ¬

(¬1) انظر الفتاوي لابن تيمية (10/ 289) وما بعدها ولوامع الأنوار البهية (2/ 304). (¬2) عندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، كانوا يأبرون النخل (يلقحونه) فقال - صلى الله عليه وسلم - "ما أظن يغني ذلك شيء" فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر بذلك - صلى الله عليه وسلم - فقال "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني أنما ظننتوا ظنن فلا تأخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيءً فخذوا به، فإني لن أكذب - أي أخطئ على الله عز وجل" صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب وجوب أمتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا على سبيل الرأي.

خاتمة رأي رشيد رضا، في أحاديث الدجال

إن حديث الجساسة من أمور الغيب والدين، فيلزم نفسه بأن يقول بأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما نقله عن تميم وهو لا يريد هذا. ولهذا قال: «إن ما قالوه في العصمة» أي عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الخطأ والزلل فيما ينقله عن ربه «لا يدخل فيه هذا» أي لا يدخل في مسألة العصمة من الخطأ والزلل حديث الجساسة، أي يحتمل أن تميم كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه. وهذا كله تناقض في إيراد الاستشكالات والتساؤلات سببه محاولة إثبات أن الحديث مصنوع بأي وسيلة، واستشكال ما ليس بمشكل والله المستعان. خاتمة رأي رشيد رضا، في أحاديث الدجال: بعد ما ذكر الشيخ رشيد رضا الاستشكالات والتساؤلات التي ترد على الأحاديث الواردة في خروج المسيح الدجال وحديث الجساسة، والتي حاول من خلالها التشكيك في صحة تلك الأحاديث ثم حكم عليها بالأخير بأنها مصنوعة ومكذوبة لأنها كما يقول «تتعارض تعارضاً كثيراً يوجب تساقطها». (¬1) حيث ختم حديثه بقوله: «بمثل هذه الخرافات كان كعب الأحبار يغش المسلمين ليفسد عليهم دينهم وسنتهم، وخُدع به الناس لإظهاره التقوى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ثم يتابع فيقول: «وجمله أخبار الدجال قالوا إنها متواترة يعنون التواتر المعنوي، وهو أن لها أصلاً وإن لم يتواتر شيءٌ من روايتها». ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 489).

ثم يقول بعد ذلك: «ويدل القدر المشترك منها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف له وتمثل له ظهور الدجال في آخر الزمان، ويظهر للناس خوارق كثيرة وغرائب يفتن بها خلقٌ كثير، وأنه من اليهود وأن المسلمين يقاتلونه ويقاتلون اليهود في هذه البلاد المقدسة وينتصرون عليهم، وقد كشف له ذلك مجملاً غير مفصل ولا يوحي به عن الله تعالى، كما كشف له غير ذلك من الفتن». (¬1) الرد: اتهم الشيخ رشيد رضا كعب الأحبار (¬2) بأنه كان من الذين يغشون المسلمين بنشر هذه الخرافات، ويقصد بها أحاديث المسيح الدجال. وفي الحقيقة أن كعب الأحبار برئ من هذه التهمة التي اتهمه بها الشيخ رشيد رضا، وذلك أن جميع الأحاديث الواردة في المسيح الدجال في الصحيحين ليس هو من رواتها، وليس له رواية واحدة في الصحيحين في المسيح الدجال. ولا أدري كيف يأتي بعد ذلك رشيد رضا وهو العالم في السنة ويتهم كعب الأحبار بأنه كان يغش المسلمين برواية تلك الأحاديث التي فيها ذكر للمسيح الدجال. ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 490) وما بعدها. (¬2) هو أبو إسحاق كعب بن ماتع الحميري اليماني العلامة الحبر كان من يهود اليمن وصاحب معرفة وعلم كبير في التواره والإنجيل وأنبياء وروايات بني إسرائيل أسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدم المدنية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - وكان حسن الإسلام متين الديانة سكن في حمص في أخر حياته وتوفي فيها عن مائة وأربعة سنوات (سير أعلام النبلاء 5/ 488).

ثم إننا لا نرتضي تسمية الشيخ رشيد رضا الأحاديث الواردة في المسيح الدجال بأنها «خرافات». إنما هي عقيدة ثابتةٌ بالأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة والتي لا يسع المؤمن سوى الإيمان بما جاءت به وتصديقها، وتصديق ما أخبرت به من الأمور والفتن التي سوف تقع في آخر الزمان، كخروج المسيح الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام وغيرها. لا سيما وأن المخبر بذلك هو النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والذي قال الله سبحانه وتعالى في حقه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1) فكان الأولى بالشيخ رشيد رضا أن يؤمن ويصدق بما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأن يفوض أمرها وكيفيتها إلى الله تعالى، لا أن يردها باستشكالات وتساؤلات وحجج عقلية يمكن الإجابة عليها، والجمع بينها وبين ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة دون الحاجة لرد أي من الأحاديث الصحيحة. أما قوله، بأن أحاديث الدجال متواترة تواتراً معنوياً، ولم يتواتر شيء في روايتها، فهو صحيح فإن روايات المسيح الدجال متواترة تواتراً معنوياً كما صرح بذلك كثير من أهل العلم كابن كثير والسخاوي والشوكاني والكتاني وغيرهم، ولم يتواتر شيء من روايتها. ولكن التواتر الذي يعنيه الشيخ رشيد وهو التواتر في روايتها، ليس شرطاً في صحة الحديث. ¬

(¬1) النجم آية (3 - 4).

فالذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بكل ما صح سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ سواء كان متواتراً أو آحاداً، وقد تقدم إيضاح ذلك في الفصل التمهيدي في مبحث حجية خبر الواحد في الاعتقاد. فكيف والأحاديث الواردة في المسيح الدجال متواترة كما يقول الشيخ رشيد تواتراً معنوياً، وهو نفسه يرى أن الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً تفيد العلم اليقيني. حيث يقول «ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث، أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعدداً تحليل العادة تواطؤهم فيه على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني إلى قائله ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير». (¬1) ثم إن الشيخ رشيد رضا نفسه أيضا يرى أن الأحاديث الأحادية المتفق على صحتها لذاتها، كأكثر الأحاديث المسندة في صحيحي البخاري ومسلم، جديرة بأن يجزم بها جزماً لا تردد فيه ولا اضطراب وتعد أخبارهم مفيدة لليقين. (¬2) بل إنه رحمه الله يرى أن الخبر الواحد إذا احتفت به القرائن فإنه يفيد العلم (¬3) وهذا في الحقيقة تعارض في منهجه في التعامل مع الحديث، فهو ¬

(¬1) مجلة المنار (19/ 342). (¬2) نفس المصدر السابق (19/ 342). (¬3) مجلة المنار (19/ 348) باختصار.

يشكك في أحاديث المسيح الدجال لأنها متواترة تواتراً معنويا، ولم يتواتر شيء من روايتها. وهنا يصرح بأن الأحاديث المتفق على صحتها لابد من الجزم بصحتها دون تردد أو اضطراب، وأن أحاديث الآحاد إذا احتفت بها القرائن فإنها تفيد العلم. أما قوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كشف له ذلك مجملاً غير مفصل كما كشف له غير ذلك من الفتن، ولم يوح به عن الله تعالى! ! فلا ندري ماذا يقصد الشيخ رشيد رضا بقوله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كشف له، ولم يوح به عن الله تعالى. فهو هنا يفرق بين معنى الكشف والوحي، ولكنه لم يبين هذا الفرق، حتى نحكم على قوله إن كان صحيحاً أو باطلاً. ثم إنه في قوله هذا أوقع نفسه في أمرين كلاهما مر بالنسبة له، وذلك أنه يرى أن السنة وحي من الله تعالى حيث يقول « .. وأعني بالوحي هنا القرآن ... وكذلك الأحاديث النبوية عند من صحت عنده فصدق بالرواية» فهو يرى أن السنة تعتبر وحي من الله وهذا هو الصحيح وذلك لقوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1) ولكن هنا لابد له من إبطال أحد القولين وذلك إما أن يقول إن السنة الصحيحة ليست بوحي ويناقض كلامه السابق وهذا لا يصح، وإما أن

خلاصة القول في المسيح الدجال

يعترف بفساد قوله الأول، وذلك بادعائه أن قوله - صلى الله عليه وسلم - في المسيح الدجال ليس بوحي. ثم إنه كيف يدعى رشيد رضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوح به عن الله شيء عن المسيح الدجال، وقد جاءت الكثير من الأحاديث عن النبي في وصف شكله وزمن خروجه وما يجيء به من العجائب والغرائب. فإذا لم يكن هذا كله عن وحي من الله تعالى، فمن أين يكون إذاً، لا سيما وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكلم عن أمور سوف تحدث في المستقبل قبل قيام الساعة، ويتكلم في أمر من أمور الدين وليس من أمور الدنيا التي قد يقال أنه يتكلم بها عن غير الوحي. وكما ذكرنا في السابق أنه في أمور الدين وتبليغ الرسالة معصوم عن الخطأ والزلل أو القول على الله بغير علم وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - ذلك. خلاصة القول في المسيح الدجال: الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الأحاديث الواردة في المسيح الدجال أحاديث صحيحة باتفاق أهل الحديث فيجب الإيمان بها وتصديقها وأن المسيح الدجال، سوف يظهر في آخر الزمان، فتنة للبشر وامتحانا من الله لهم. قال النووي: (قال القاضي هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه

واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره ويقتله عيسى - صلى الله عليه وسلم -، ويثبت الله الذين آمنوا، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافا للبخاري المعتزلى وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود ولكن الذي يدعى مخارف وخيالات لا حقائق لها وزعموا أنه لو كان حقا لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر إلا الرعاع من الناس لسد الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو تقية وخوفا من أذاه لأن فتنته عظيمة جدا تدهش العقول وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأمر، فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله، ودلائل الحدوث فيه والنقص فيصدقه من صدقه في هذه الحالة ولهذا حذرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنته ونبهوا على نقصه، ودلائل إبطاله، وأما أهل التوفيق فلا يغترون به ولا يخدعون لما معه لما ذكرناه من الدلائل المكذبة له مع ما سبق لهم من العلم بحاله ولهذا يقول له الذي يقتله ثم يحييه ما ازددت فيك إلابصيرة). (¬1) ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (18/ 58 - 59).

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «ثم يؤذن له (أي: الدجال) في الخروج في آخر الزمان، يظهر أولا في صورة ملك من الملوك الجبابرة، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فيتبعه على ذلك الجهلة من بني آدم والطغام من الرعاع والعوام، ويخالفه ويرد عليه من هداه الله من الصالحين وحزب الله المتقين، يأخذ البلاد بلدا بلدا، وحصنا حصنا، وإقليما إقليما، وكورة كورة، ولا يبقى بلد من البلدان إلا وطئه بخيله ورجله، غير مكة والمدينة، ومدة مقامه في الأرض أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيام الناس هذه، ومعدل ذلك سنة وشهران ونصف. ويكون نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مسيح الهدى في أيام مسيح الضلالة، فيجتمع عليه المؤمنون، ويلتف معه عباد الله المتقون، فيسير بهم المسيح عيسى ابن مريم عليه والسلام قاصدا نحو الدجال وقد توجه نحو بيت المقدس، فينهزم منه الدجال، فيلحقه عند باب مدينة لد، فيقتله بحربته وهو داخل إليها، ويقول له: إن لي فيك ضربة لن تفوتني، وإذا واجهه الدجال؛ ينحاع كما يذوب الملح في الماء، فيتداركه، فيقتله بالحربة بباب لد، فتكون وفاته هناك لعنه الله؛ كما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح من غير وجه». (¬1) وقال الشيخ صالح الفوزان: «وقد تواترت الأحاديث من وجوه متعددة في إثبات خروج الدجال وبيان فتنته والاستعاذة منه، وأجمع أهل السنة والجماعة على خروج الدجال في آخر الزمان، وذكروا ذلك ضمن مباحث العقيدة؛ فمن أنكر خروجه؛ فقد خالف ما دلت عليه الأحاديث المتواترة، ¬

(¬1) «النهاية/ الفتن والملاحم» (1/ 121).

وخالف ما عليه أهل السنة والجماعة، ولم ينكر خروجه إلا بعض المبتدعة كالخوارج والجهمية وبعض المعتزلة وبعض الكتاب العصريين والمنتسبين إلى العلم، ولم يعتمدوا على حجة يدفعون بها النصوص المتواترة سوى عقولهم وأهوائهم، ومثل هؤلاء لا عبرة بهم ولا بقولهم. والواجب على المؤمن الإيمان بما صح عن الله ورسوله، واعتقاد ما يدل عليه، ولا يكون من الذين قال الله تعالى فيهم: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} (يونس: 39) (¬1)؛ لأن مقتضى الإيمان بالله ورسوله هو التسليم لما جاء عنهما والإيمان بالله ورسوله هو التسليم لما جاء عنهما والإيمان به، ومن لم يفعل؛ فإنه متبع لهواه بغير هدى من الله». (¬2) ¬

(¬1) سورة يونس الآية 39 (¬2) «الإرشاد إلى سبيل الاعتقاد» الدكتور صالح الفوزان، صـ 231.

المبحث الثالث رأيه في المهدي، والرد عليه

المبحث الثالث رأيه في المهدي، والرد عليه معنى المهدي: المهدي لغة: اسم مفعول من هداه هدى، والهدى هو الرشاد والدلالة، قال ابن الأثير: المهدي الذي هداه الله إلى الحق. (¬1) والمراد بالمهدي هنا، هو الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجيء في آخر الزمان، ويؤيد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويكون من أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، ويخرج في زمنه عيسى بن مريم عليه السلام، والمسيح الدجال. الأحاديث الواردة في ظهور المهدي: جاءت الكثير من الأحاديث الصحيحة الدالة على ظهور المهدي في آخر الزمان، وسأذكر هنا بعض هذه الأحاديث والتي فيها كفاية في إثبات ظهوره: 1 - عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج في آخر أمتي المهدي؛ يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعا أو ثمانيا (يعني: حججا». (¬2) ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث (5/ 254). (¬2) «مستدرك الحاكم» (4/ 557 - 558)، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: «هذا سند صحيح، رجاله ثقات». «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (م 2/ ص 336) (ح 711).

2 - وعنه- رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبشركم بالمهدي؛ يبعث على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وسكان الأرض، يقسم المال صحاحاً». فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: «بالسوية بين الناس». قال: «ويملأ الله قلوب أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - غنى، ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً، فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: أئت السدان - يعني: الخازن، فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا. فيقول له: أحث، حتى إذا حجره وأبرزه؛ ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً، أو عجز عني ما وسعهم؟ ! ». قال: «فيرده، فلا يقبل منه. فيقال له: إنا لا نأخذ شيئا أعطيناه، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده»، أو قال: «ثم لا خير في الحياة بعد». (¬1) 3 - وعن علي- رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة». (¬2) ¬

(¬1) «مسند الإمام أحمد» (3/ 37 - مع منتخب الكنز). قال الهيثمي: «رواه الترمذي وغيره باختصار كثير، ورواه أحمد بأسانيد، وأبو يعلى باختصار كثير، ورجالهما ثقات». «مجمع الزوائد» (7/ 313 - 314). (¬2) «مسند أحمد» (2/ 58) (ح 645)، تحقيق أحمد شاكر، وقال: «إسناده صحيح»، و «سنن ابن ماجه» (2/ 1367). والحديث صححه أيضا الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (6/ 22) (ح 6611).

قال ابن كثير: «أي: يتوب عليه، ويوفقه، ويلهمه، ويرشده بعد أن لم يكن كذلك». (¬1) 4 - وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين». (¬2) 5 - وعن أم سلمة رضي الله عنها؛ قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهدي من عترتي، من ولد فاطمة». (¬3) 6 - وعن جابر- رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا؛ إن بعضهم أمير بعض؛ تكرمة الله هذه الأمة». (¬4) 7 - وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تذهب ¬

(¬1) «النهاية في الفتن والملاحم» (1/ 29)، تحقيق د. طه زيني. (¬2) «سنن أبي داود»، كتاب المهدي، (11/ 375) (ح 4265)، و» مستدرك الحاكم» (4/ 557)، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وقال الألباني: «إسناده حسن». «صحيح الجامع» (6/ 22، 23) (ح 6612). (¬3) «سنن أبي داود» (11/ 373)، و» سنن ابن ماجه» (2/ 1368). قال الألباني في «صحيح الجامع»: «صحيح» (6/ 22) (ح 6610) وانظر: رسالة عبد العليم في المهدي (ص 160). (¬4) رواه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده»؛ كما في «المنار المنيف» لابن القيم (ص 147 - 148)، و» الحاوي في الفتاوي» للسيوطي (2/ 64). قال ابن القيم: «هذا إسناد جيدا».

تواتر أحاديث المهدي

أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي» (¬1). وفي رواية: «يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي». (¬2) 8) عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجلٌ من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي». (¬3) فهذه الأحاديث كلها صحيحة وصريحة في النص على ظهور المهدي في آخر الزمان. (¬4) تواتر أحاديث المهدي: صرح الكثير من أهل العلم أن أحاديث المهدي بلغت من الكثرة أنها ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في «أخبار المهدي»؛ كما قال السيوطي في «الحاوي» (2/ 64)، ورمز له بالضعف، وكذلك المناوي في «فيض القدير» (6/ 17). وقال الألباني: «صحيح». انظر: «صحيح الجامع الصغير» (5/ 219) (ح 5796). وقال عبد العليم في رسالته: «إسناده حسن لشواهده» (ص 241). (¬2) «مسند أحمد» (5/ 199) (ح 3573)، تحقيق أحمد شاكر، وقال: «إسناده صحيح». والترمذي (6/ 485)، وقال: «هذا حديث حسن صحيح» و» سنن أبي داود» (11/ 371). «سنن أبي داود» (11/ 370). (¬3) مسند أحمد (5/ 199) تحقيق أحمد شاكر وقال «إسناده صحيح» والترمذي (6/ 485) وقال «هذا حديث حسن صحيح». (¬4) وقد صحح كثير من الحفاظ أحاديث المهدي، ومنهم شيخ الإسلام بن تيمية في كتابة «منهاج السنة» (14/ 2011). والعلامة ابن القيم في كتابه «النهاية/ الفتن والملاحم» (1/ 24 - 32) تحقيق طه زيني، وغيرهم من أهل العلم كما سيأتي.

متواترة تواتراً معنوياً، وسوف أذكر هنا جمله من أقوالهم في النص على تواترها: 1 - قال الحافظ أبو الحسن الآبري (¬1): «قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسي علية السلام يخرج، فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسي خلفه (¬2). 2 - وقال محمد البرزنجي (¬3) في كتابه «الإشاعة لأشراط الساعة»: «الباب الثالث في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة، وهي كثيرة، فمنها المهدي، وهو أولها، واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر (¬4). وقال أيضا: «قد علمت أن أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ولد فاطمة عليها السلام بلغت حد التواتر ¬

(¬1) هو الإمام الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين السجستاني، كان مجودا ثبتا مصنفاً، روي عن ابن خزيمة وطبقته، وله كتاب «مناقب الشافعي»، توفي سنة (363 هـ) رحمة الله. انظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 954 - 955)، و» شذرات الذهب» (3/ 46 - 47). (¬2) «العرف الوردي في أخبار المهدي» محمد بن الحسين السجستاني (2/ 85). (¬3) هو الشيخ محمد بن عبد الرسول بن عبد السيد الحسني البرزنجي من فقهاء الشافعية، له علم بالتفسير والأدب، رحل إلى بغداد ودمشق ومصر، واستقر في المدينة، ودرس بها، وفيها توفي سنة (1103 هـ)، وله عدة مؤلفات رحمة الله انظر: » الأعلام» للزركلي (6/ 203 - 204). (¬4) «الإ شاعة» (ص 87).

المعنوي، فلا معني لإنكارها» (¬1). 3 - وقال العلامة محمد السفاريني (¬2): «وقد كثرت بخروجه- أي: المهدي- الروايات، حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة، حتي عد من معتقداتهم». ثم ذكر طائفة من الأحاديث والآثار في خروج المهدي، وأسماء بعض الصحابة ممن رواها، ثم قال: «وقد روي عمن ذكر من الصحابة وغير من ذكر منهم رضي الله عنهم بروايات متعددة، وعن التابعين من بعدهم، ما يفيد مجموعة العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم، ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة». (¬3) 4 - وقال الشوكاني: «الأحاديث في تواتر ماجاء في المهدي المنتظر التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثا، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر علي ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن ¬

(¬1) «الإ شاعة» (ص 112). وتعبيد الأسماء لغير الله تعالي لايجوز. (¬2) هو العلامة محمد سالم السفاريني، عالم بالحديث والأصول والأدب، محقق ولد في (سفارين)، من قرى نابلس، له عدة مؤلفات، وله منظومة في العقيدة وشرحها، سماها «لوامع أو لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية المضيئة لشرح الدرة المضيئة في عقد الفرقة المرضية»، وله «غذاء الألباب شرح منظومة الآداب» وله نفثات صدر المكمد وقرة عبن المسعد شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد وغيرها» توفي رحمة الله سنة (1188 هـ) في نابلس. انظر ترجمته في «الأعلام للزركلي» (6/ 14). (¬3) «لوامع الأنوار البهية» (2/ 84) وانظر «عقيدة أهل السنة والأثر «(ص 173).

الصحابة المصرحة بالمهدي؛ فهي كثيرة أيضا، لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك» (¬1). 5 - وقال صديق حسن (¬2): «الأحاديث الواردة فيه- أي: المهدي-علي اختلاف رواياتها كثيرة جدا، تبلغ حد التواتر المعنوي، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام من المعاجم والمسانيد» (¬3) 6 - وقال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني (¬4): «والحاصل أن الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متوافرة، وكذا الواردة في الدجال، وفي نزول سيدنا عيسي بن مريم علية السلام». (¬5) 7 - قال الإمام ابن باز: «أمر المهدي معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها، وتواترها معنوي لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، ¬

(¬1) من رسالة للشوكاني اسمها «التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح» ذكر ذلك صديق حسن في كتابة «الأذاعة» (ص 113 - 114) ونقل ذلك أيضا عن الشوكاني الكتاني في كتابة «نظم المتناثر من الحديث المتواتر» (ص 145 - 146). (¬2) هو العلامة محمد صديق خان بن حسن الحسيني البخاري القنوجي، صاحب المصنفات في التفسير والحديث والفقة والأصول، نزل ببيهوبال، وتزوج بملكتها وتوفي سنة (1307 هـ)، انظر» الأعلام» (7/ 176 - 168) (ص 112). (¬3) «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة» (ص 112). (¬4) هو أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي، مؤرخ ومحدث ولد في فاس، ورحل إلى الحجاز ودمشق، ثم عاد إلى المغرب، وتوفي في فارس رحمة الله سنة (1345 هـ)، وله عدة مصنفات. أنظر «الإعلام» (6/ 72 - 73). (¬5) نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص 147) للشيخ محمد بن جعفر الكتاني.

اسمه ونسبه

فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت من ذرية الحسن بن على رضي الله عنهم، وهذا الإمام من رحمه الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان يخرج فيقيم العدل والحق ويمنع الظلم والجور وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلاً وهداية وتوفيقاً وإرشاداً للناس». (¬1) اسمه ونسبه: أما بالنسبة لاسم المهدي، فهو محمد بن عبد الله، فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي». (¬2) أما نسبه، فهو يرجع إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ابن فاطمة ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها وعن أولادها. فعن أم سلمه رضي الله عنها، قالت، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهدي من عترتي (¬3) من ولد فاطمة». (¬4) ¬

(¬1) نقلاً عن كتاب «الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي» للشيخ عبدالمحسن البدر العباد، ص 157 - 159. (¬2) رواه الترمذي في كتاب الفتن (9/ 74) وقال هذا حديثٌ حسن صحيح، وصححه ابن تيمية في منهاج السنة (4/ 211). (¬3) قال الخطابي، العترة ولد الرجل لصلبه، ويكون العترة للأقرباء وبني العمومة، ومنه قول أبي بكر- رضي الله عنه - يوم السقيفة، نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. «معالم السنن 4/ 474» في سنته كتاب الفتن (2/ 1368) وصحة الألباني في صحيح الجامع (2/ 140 (¬4) رواه أبو داود في سننه - كتاب المهدي (4/ 474) وابن ماجه في سننه كتاب الفتن (2/ 1368) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 140).

الحكمة من كونه من نسل الحسن

وعن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليله». (¬1) وعنه أيضا، أنه نظر إلى الحسن، وقال: «إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيخرج الله من صلبه رجلٌ، يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلق ولا يشبهه في الخَلق يملأ الأرض قسطاً». (¬2) قال بن كثير في المهدي: «هو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني، - رضي الله عنه -». (¬3) الحكمة من كونه من نسل الحسن: قال ابن القيم: «وفي كونه من ولد الحسن سر لطيف وهو أن الحسن- رضي الله عنه - ترك الخلافة لله فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض، وهذه سنة الله في عباده أنه من ترك لأجله شيئاً أعطاه الله أو أعطى ذريته أفضل منه، وهذا بخلاف الحسين- رضي الله عنه - فإنه حرص عليها، وقاتل عليها فلم يظفر بها، والله أعلم». (¬4) ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 84) تخفيف أحمد شاكر وقال إسناده صحيح وابن ماجه (2/ 1367) ومعنى يصلحه الله في ليلة، أي يتوب عليه ويوفقه ويلهمه رشده بعد أن لم يكن كذلك «النهاية في الفتن، لابن كثير (1/ 55)». (¬2) رواه أبو داود في سننه وصححه بن تيمية في منهاج السنة (4/ 211) وابن القيم في المنار المنيف (1/ 144). (¬3) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 29). (¬4) المنار المنيف (1/ 151).

صفته

صفته: عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ويملك سبع سنين». (¬1) وفي رواية «المهدي منا أهل البيت، أشم الأنف، أقنى، أجلى، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً». (¬2) ومعنى (الأجلى) فهو الذي انحسر الشعر عن مقدم راسه، قال ابن الأثير «الأجلى، الخفيف شعر ما بين النزعتين من الصدغين. والذي انحسر الشعر عن جبهته». (¬3) وأما «الأقنى» فهو المحدودب الأنف، قال ابن الأثير «القنى في الأنف: طوله ورقة أرنبته مع حدب في وسطه». (¬4) سبب ظهوره: يظهر المهدي في آخر الزمان، وذلك بعد ما يعم الأرض الظلم والفساد والطغيان. فيأتي ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت جوراً وظلماً وفساداً. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود - سنن أبو داود برقم (2485) بأسناد حسن - وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6736). (¬2) أخرجه الحاكم - وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬3) النهاية في غريب الحديث (1/ 290). (¬4) نفس المصدر (4/ 116).

مكان خروجه

فعن ابن مسعود- رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يومٌ واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلاً مني، أو قال من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً». (¬1) قال الجوهري: «الشمم» ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه، فإن كان فيها أحديداب فهو القنى». (¬2) وقال ابن منظور: «الشمم في الأنف، ارتفاع القصبة وحسنها واستواء أعلاها وانتصاب الأرنبه». (¬3) مكان خروجه: الصحيح أنه ليس هناك رواية صحيحة صريحة تدل على مكان خروج المهدي، وإن كان هناك رواية واحدة يستأنس بها في هذا الباب، مع ما فيه من الضعف، وعدم التصريح في مكان خروجه. فقد جاء في الحديث عن ثوبان- رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يقتتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحدٍ منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم، ثم ذكر شيئاً لا أحفظه فقال، فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج». (¬4) ¬

(¬1) رواه الترمذي - كتاب الفتن (6/ 485) هذا الحديثٌ، وقال حسن صحيح، وصححه ابن تيمية في منهاج السنة (4/ 211). (¬2) الصحاح للجوهري (1/ 369). (¬3) لسان العرب (12/ 325). (¬4) أخرجه ابن ماجه - سنن ابن ماجه - كتاب الفتن - باب خروج المهدي (2/ 1367)، ومستدرك الحاكم (4/ 463) وقال حديثٌ صحيح على شرط الشيخين، وقال ابن كثير، هذا إسنادٌ قوي صحيح «النهاية/ الفتن والملاحم (1/ 29) تحقيق طه زيني، وضعف الحديث آخرون كأحمد والذهبي في الميزان وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع، وضعفة الألباني في ضعيف ابن ماجه (9/ 84).

حديث (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)

قال ابن كثير رحمه الله: والمراد بالكنز المذكور في هذا السياق كنز الكعبة، يقتتل عنده ليأخذه ثلاثة من أولاد الخلفاء، حتى يكون آخر الزمان فيخرج المهدي، ويكون ظهوره من بلاد المشرق لا من سرداب سامرا، كما يزعمه جهلة الرافضة من أنه موجود فيه الآن، وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان، فإن هذا نوع من الهذيان، وقسط كبير من الخذلان، شديد من الشيطان؛ إذ لا دليل على ذلك، ولا برهان لا من كتاب ولا سنة ولا معقول صحيح ولا استحسان، إلى أن قال: «ويؤيده بناس من أهل المشرق ينصرونه ويقيمون سلطانه ويشدون أركانه، وتكون راياتهم سوداء أيضا، وهو زي عليه الوقار؛ لأن راية رسول - صلى الله عليه وسلم - كانت سوداء يقال له العقاب» إلى أن قال: «والمقصود: أن المهدي الممدوح الموعود بوجوده في آخر الزمان يكون أصل خروجه وظهوره من ناحية المشرق، ويبايع له عند البيت كما دل على ذلك نص الأحاديث». (¬1) حديث (لا مهدي إلا عيسى بن مريم): احتج بعض المنكرين لأحاديث المهدي بالحديث الذي رواه ابن ماجه والحاكم عن أنس بن مالك- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً، ولا الناس إلا شحاً، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم». (¬2) ¬

(¬1) النهاية في الفتن والملاحم: (1/ 55، 56). (¬2) سنن ابن ماجه (2/ 1340)، ومستدرك الحاكم (4/ 441).

ويجاب عليهم بأن هذا الحديث ضعيف، لأن مداره على محمد بن خالد الجندي: وهو مما لا يحتج به وقد ضعفه جمع من أهل الحديث كابن حجر والذهبي وابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي والشوكاني والألباني وغيرهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه، وليس مما يعتمد عليه، ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي، والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد بن خالد الجندي، وهو ممن لا يحتج به، وليس هذا في مسند الشافعي، وقد قيل إن الشافعي لم يسمعه من الجندي، وإن يونس لم يسمعه من الشافعي». (¬1) وقال فيه ابن حجر: «مجهول». (¬2) وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: «لا مهدي إلا عيسى». «منكر. أخرجه ابن ماجه (2/ 495) والحاكم (4/ 441) وابن الجوزي في «الواهيات» (1447) وابن عبد البر في «جامع العلم» (1/ 155) وأبو عمرو الداني في «السنن الواردة في الفتن» (3/ 3/2، 4/ 9/1، 5/ 22/2) والسلفي في «الطيوريات» (62/ 1) والخطيب (4/ 221) من طريق محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس مرفوعا بلفظ: «لا ¬

(¬1) منهاج السنة (4/ 211). (¬2) تقريب التهذيب (2/ 157).

يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى بن مريم». قلت: وهذا إسناد ضعيف فيه علل ثلاث: الأولى: عنعنة الحسن البصري، فإنه قد كان يدلس. الثانية: جهالة محمد بن خالد الجندي، فإنه مجهول كما قال الحافظ في «التقريب» تبعا لغيره كما يأتي. الثالثة: الاختلاف في سنده. قال البيهقي: قال أبو عبد الله الحافظ: محمد بن خالد مجهول واختلفوا عليه في إسناده، فرواه صامت بن معاذ قال: حدثنا يحيى بن السكن، حدثنا محمد بن خالد ... فذكره، قال صامت: عدلت إلى الجند مسيرة يومين من صنعاء، فدخلت على محدث لهم، فوجدت هذا الحديث عنده عن محمد بن خالد عن أبان بن أبي عياش عن الحسن مرسلا، قال البيهقي: فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد الجندي وهو مجهول عن أبان أبي عياش، وهو متروك عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو منقطع، والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح البتة إسنادا، نقله في «التهذيب». وقال الذهبي في «الميزان»: إنه خبر منكر، ثم ساق الرواية الأخيرة عن ابن أبي عياش عن الحسن مرسلا ثم قال: فانكشف ووهي، وقال الصغاني: موضوع كما في «الأحاديث الموضوعة» للشوكاني (ص 195) ونقل السيوطي في «العرف الوردي في أخبار المهدي» (2/ 274) عن

القرطبي أنه قال في «التذكرة»: إسناد ضعيف، والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التنصيص على خروج المهدي من عترته من فاطمة ثابتة أصح من هذا الحديث فالحكم بها دونه، وقد أشار الحافظ في «الفتح» (6/ 385) إلى رد هذا الحديث لمخالفته لأحاديث المهدي، وهذا الحديث تستغله الطائفة القاديانية في الدعوة لنبيهم المزعوم: ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادعى النبوة، ثم ادعى أنه هو عيسى بن مريم المبشر بنزوله في آخر الزمان، وأنه لا مهدي إلا عيسى بناء على هذا الحديث المنكر، وقد راجت دعواه على كثيرين من ذوي الأحلام الضعيفة، شأن كل دعوة باطلة لا تعدم من يتباناها ويدعو إليها، وقد ألفت كتب كثيرة في الرد على هؤلاء الضلال، ومن أحسنها رسالة الأستاذ الفاضل المجاهد أبي الأعلى المودودي رحمه الله في الرد عليها، وكتابه الآخر الذي صدر أخيرا بعنوان «البيانات» فقد بين فيهما حقيقة القاديانيين، وأنهم مرقوا من دين المسلمين بأدلة لا تقبل الشك، فليرجع إليهما من شاء. (¬1) قال ابن القيم في المنار المنيف: «فأما حديث لا مهدي إلا عيسى ابن مريم فرواه ابن ماجة في سننه عن يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي عن محمد بن خالد الجندي عن أبان بن صالح عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مما تفرد به محمد بن خالد، قال أبو الحسين محمد بن الحسين الآبري في كتاب مناقب الشافعي، محمد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعية للألباني (1/ 176).

رأي رشيد رضا في أحاديث المهدي

وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه، وقال البيهقي تفرد به محمد بن خالد هذا وقد قال الحاكم أبو عبد الله هو مجهول وقد اختلف عليه في إسناده فروي عنه عن أبان ابن أبي عياش عن الحسن مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول عن أبان بن أبي عياش وهو متروك عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو منقطع والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادا». (¬1) رأي رشيد رضا في أحاديث المهدي: يرى الشيخ رشيد رضا أن الأحاديث الواردة في ظهور المهدي في آخر الزمان لا يصح منها شيء. وذكر جملة من الاستشكالات والتساؤلات التي بسببها رد تلك الأحاديث. وسوف أذكر هنا أهم تلك الاستشكالات والتساؤلات التي أثارها في تفسيره المنار تحت عنوان «التعارض والإشكالات في أحاديث المهدي» ثم بعد ذلك أذكر الرد على هذه الاستشكالات والتساؤلات. ذكر الشيخ رشيد رضا أن أحاديث المهدي متعارضة والمنكرون لها أكثر، ولذلك لم يعتد بها الشيخان، حيث يقول «وأما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات فيها أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد الشيخان بشيء من روايتها في صحيحهما». (¬2) ¬

(¬1) المنار المنيف (1/ 141). (¬2) تفسير المنار (9/ 499).

ثم ذكر نماذج من تعارض أحاديث المهدي وتهافتها كما يزعم ومن ذلك قوله «إن أشهر الروايات في اسمه واسم أبيه عند أهل السنة أنه محمد بن عبد الله، وفي رواية أحمد بن عبد الله، والشيعة الإمامية متفقون على أنه محمد بن الحسن العسكري، وهما الحادي عشر والثاني عشر من أئمتهم المعصومين، ويلقبون بالحجة، والقائم، والمنتظر، وزعمت الكيسانية (¬1) أن المهدي هو محمد بن الحنفية وأنه حي مقيم بجبل رضوي ... ». (¬2) ثم قال: «المشهور من نسبه أنه علوي فاطمي من ولد الحسن وفي بعض الروايات من ولد الحسين، وهو يوافق قول الشيعة الإمامية، وهناك عدة أحاديث مصرحة بأنه من ولد العباس». (¬3) ويزعم أن سبب الاختلاف في الروايات هو كونها موضوعه حيث يقول «وسبب هذا الاختلاف أن الشيعة كانوا يسعون لجعل الخلافة في آل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذرية علي سلام الله ورضوانه عليهم، ويضعون الأحاديث تمهيدا لذلك، ففطن لهذا الأمر العباسيون فاستمالوا بعضهم، ورأى أبو مسلم الخرساني وعصبته أن آل علي يغلب عليهم الزهد، وأن بني العباس كبني أمية في الطمع في الملك، فعمل لهم توسلاً بهم إلى تحويل عصبية الخلافة إلى الفرس، تمهيداً لإعادة الملك والمجوسية، وحينئذٍ وضعت ¬

(¬1) الكيسانية إحدى فرق الرافضة، وهم أتباع المختار بن أبي عبيد الله الثقفي الكذاب وينسبون إلى كيسان مولى علي- رضي الله عنه -، وقيل كيسان لقب لمحمد بن الحنفية "الفرق بين الفرق صـ 38، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. (¬2) تفسير المنار (9/ 501). (¬3) نفس المصدر (9/ 502).

الرد على استشكالاته وتساؤلاته

أحاديث المهدي مشيرة إلى العباسين مصرحة بشارتهم «السواد» وأشهرها حديث ثوبان المرفوع في سنن ابن ماجه، «يقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا تصير إلى واحدٍ منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلاً لم يقتله قوم - ثم ذكر شيء لا أحفظه - فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج فإنه خليفة الله المهدي». (¬1) ثم ذكر بعد ذلك أن الأحاديث الواردة في المهدي سبب للفساد والفتن، حيث يقول: «وقد كانت أكبر مثارات الفساد والفتن في الشعوب الإسلامية، إذ تصدى كثير من محبي الملك والسلطان، ومن أولياء الولاية وأولياء الشيطان، لدعوى المهدوية في الشرق والغرب، وتأييد دعواهم بالقتال والحرب، وبالبدع والإفساد في الأرض، حتى خرج ألوف الألوف عن هداية السنة النبوية، ومرق بعضهم من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية». (¬2) الرد على استشكالاته وتساؤلاته: أولا: إن دعوى التعارض بين الأحاديث النبوية دعوى دائما ما يرددها ويكررها الشيخ رشيد رضا، فهو يرى أن هذه الدعوة كفيلة برد الحديث وإسقاطه ولو كان من أصح الأحاديث، بل ولو كان حتى من أحاديث الصحيحين، كالأحاديث الواردة في المسيح الدجال والتي غالبها في الصحيحين، والتي قال عنها «أنها متعارضة تعارضاً كثيراً يوجب تساقطها». (¬3) والتي في الأخير أنكرها كلها. ¬

(¬1) تفسير المنار (9/ 502). (¬2) نفس المصدر السابق (9/ 499). (¬3) نفس المصدر السابق (9/ 489).

وهو الآن يدعي نفس الدعوى التي أدعها في الأحاديث الواردة في المسيح الدجال يدعيها في الأحاديث الواردة في المهدي، وذلك تمهيداً منه وتوطئه للقول بأنها منكرة. ومشكلة الشيخ رشيد رضا كما قلنا من قبل في مبحث المسيح الدجال ونعيد ونقوله هنا وهو أنه رحمه الله وغفر له، يمزج بين الروايات الصحيحة والضعيفة بل وحتى الموضوعة، ثم يبني على ذلك نتائجه وما توصل إليه، ولو أنه أزاح الروايات الضعيفة والموضوعة واكتفى بالروايات الصحيحة، لما وجد أي تعارض بين تلك الروايات. فأحاديث المهدي كما قال أهل العلم مثل ابن القيم وغيره فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، فما كان منها موضوعاً أو ضعيفاً لا يحتج به، فإنه لا يلتفت إليه، ولا يعارض به غيره، أما ما صح منها فهو مؤتلف غير مختلف ومتفق غير مفترق. (¬1) فالشيخ رشيد رضا يستعمل هنا نفس الأسلوب والمنهج الذي تعامل به مع الأحاديث الواردة في المسيح الدجال، فهو يستشهد بالأحاديث الضعيفة بل والموضوعة ثم يدعي بعد ذلك التعارض والتناقض فيما بينها، وهذا بلا شك نتيجة حتمية وطبيعية عند الجمع بين الروايات الصحيحة وغير الصحيحة. ثم إننا لا ندري هل يتعمد الشيخ رشيد رضا الاستشهاد بالأحاديث ¬

(¬1) الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي عبد المحسن البدر صـ 24، مطابع الرشيد، ط 1، 1402 هـ.

الضعيفة والموضوعة الواردة في المهدي ليثبت أن هناك تناقضاً وتعارضاً فيما بينها. أم أنه لا يعلم ولا يدري بأن هذه الأحاديث ضعيفة وموضوعة وكلا القولين لا يليقان به وهو العالم بالسنة والملقب بمحيى السنة في زمنه. ثم إننا نقول هنا كما قلنا من قبل في مبحث المسيح الدجال، وهو أن التعارض بين الروايات الصحيحة مستحيل وغير ممكن، وإن كان ظاهرهما التعارض، وقد حكي الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقاً. كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك فقال «يقول الباقلاني»: وكل خبرين علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما متعارضين، لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب إحداهما منافياً لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كانا أمراً ونهياً أو إباحة وحظراً، أو يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة وكل مثبت للنبوة». (¬1) ثم إن التشبث بدعوى التعارض بين الأحاديث وكثرة ترديدها من غير دليل ولا بينة ولا برهان هي من أقوال أهل البدع والأهواء «الذين قصر علمهم عن الاتساع في الآثار وعييت أذهانهم عن وجوهها فلم يجدوا شيئاً ¬

(¬1) الكفاية للخطيب البغدادي، صـ 433.

أهون عليهم من أن يقولوا: متناقضة فأبطلوها كلها». (¬1) وللأسف فإن شيخنا رشيد رضا رحمه الله وغفر له دائماً ما يردد هذه العبارة ودائماً ما يلجأ إليها إذا ضاقت به السبل، وتعسرت عليه الاستشكالات والتساؤلات. وهي نفس الدعوى التي قام يرددها ويتكئ عليها من بعد الشيخ رشيد رضا، الطاعنون في السنة النبوية، كالمدعو أبو ريه في كتابه «أضواء على السنة المحمدية» والذي رد فيه الكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة بدعوى التعارض فيما بينها ولا حول ولا قوة إلا بالله. (¬2) فالذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرتها في بداية المبحث، كحديث على بن أبي طالب، وحديث أبي سعيد الخدري وحديث أم سلمه، وحديث عبد الله بن مسعود أنه من نسل الحسن بن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه -، وهذا الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة وأهل الحديث قاطبة، قال ابن كثير في المهدي «هو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسنين- رضي الله عنه - (¬3) ولا عبرة بما يقوله الشيعة الإمامية من أنه محمد بن الحسن العسكري، أو ما يقوله الرافضة الكيسانية من أن المهدي هو محمد بن الحنفية، فهذه كلها أقوال باطلة لا دليل عليها من السنة النبوية الذين هم أبعد الناس عن العلم فيها فضلا عن تميز الصحيح من السقيم منها. ¬

(¬1) كتاب الإيمان لابن سلام صـ 40. (¬2) انظر الكتاب أضواء على السنة المحمدية للمدعو أبو رية. (¬3) النهاية/ الفتن والملاحم (1/ 29).

ثانيا: أما بالنسبة لقوله بأن المنكرين لها أكثر، فهذه دعوى غير صحيحة بل إن العكس هو الصحيح وهو أن القائلين والمقرين بها أكثر، فقد ثبتت الأحاديث الواردة في المهدي عن أكثر من ستة وعشرين صحابياً. قال الشيخ عبد المحسن العباد: «جملة ما وقفت عليه من أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول - صلى الله عليه وسلم - ستة وعشرون هم: 1 - عثمان بن عفان- رضي الله عنه -. 2 - علي بن أبي طالب- رضي الله عنه -. 3 - طلحة بن عبيد الله- رضي الله عنه -. 4 - عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه -. 5 - الحسين بن علي- رضي الله عنه -. 6 - أم سلمه رضي الله عنها. 7 - أم حبيبة رضي الله عنها. 8 - عبد الله بن عباس- رضي الله عنه -. 9 - عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -. 10 - عبد الله بن عمر- رضي الله عنه -. 11 - عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه -. 12 - أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه -. 13 - جابر بن عبد الله- رضي الله عنه -.

14 - أبو هريرة- رضي الله عنه -. 15 - أنس بن مالك- رضي الله عنه -. 16 - عمار بن ياسر- رضي الله عنه -. 17 - عوف بن مالك- رضي الله عنه -. 18 - ثوبان مولى رسول الله- رضي الله عنه -. 19 - قرة بن إياس- رضي الله عنه -. 20 - علي الهلالي- رضي الله عنه -. 21 - حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه -. 22 - عبد الله بن الحارث بن حمزة- رضي الله عنه -. 23 - عوف بن مالك- رضي الله عنه -. 24 - عمران بن حصين- رضي الله عنه -. 25 - أبو الطفيل- رضي الله عنه -. 26 - جابر الصدفي- رضي الله عنه -». (¬1) ثم ذكر بعد ذلك، أسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم، حيث قال: «وأحاديث المهدي خرجها جماعة كثيرون من الأئمة في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد وغيرها قد بلغ عدد الذين وقفت على كتبهم أو اطلعت على ذكر تخريجهم لها ثمانية وثلاثين هم: ¬

(¬1) الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، صـ 5.

1 - أبو داود في سننه. 2 - الترمذي في جامعه. 3 - ابن ماجه في سننه. 4 - النسائي ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية والمناوي في فيض القدير وما رأيته في الصغرى ولعله في الكبرى. 5 - أحمد في مسنده. 6 - ابن حبان في صحيحه. 7 - الحاكم في المستدرك. 8 - أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف. 9 - نعيم بن حماد في كتاب الفتن. 10 - الحافظ أبو نعيم في كتاب المهدي وفي الحلية. 11 - الطبراني في الكبير والأوسط والصغير. 12 - الدارقطني في الأفراد. 13 - البارودي في معرفة الصحابة. 14 - أبو يعلى الموصلي في مسنده. 15 - البزار في مسنده. 16 - الحارث بن أبي أسامة في مسنده. 17 - الخطيب في تلخيص المتشابه وفي المتفق والمفترق. 18 - ابن عساكر في تاريخه. 19 - ابن منده في تاريخ أصبهان.

20 - أبو الحسن الحربي في الأول من الحربيات. 21 - تمام الرازي في فوائده. 22 - ابن جرير في تهذيب الآثار. 23 - أبو بكر بن المقري في معجمه. 24 - أبو عمرو الداني في سننه. 25 - أبو غنم الكوفي في كتاب الفتن. 26 - الديلمي في مسند الفردوس. 27 - أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار. 28 - أبو الحسين بن المناوي في كتاب الملاحم. 29 - البيهقي في دلائل النبوة. 30 - أبو عمرو المقري في سننه. 31 - ابن الجوزي في تاريخه. 32 - يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده. 33 - الروياني في مسنده. 34 - ابن سعد في الطبقات. 35 - ابن خزيمة. 36 - الحسن بن سفيان. 37 - عمر بن شبه. 38 - أبو عوانة». (¬1) ¬

(¬1) نفس المصدر، صـ 7.

ثم إنه لم يشتهر القول بتضعيف الأحاديث الواردة في المهدي إلا عن عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ المشهور (¬1) بدعوى عدم ورودها في الصحيحين. حيث قال بعد ذكر جملة من الأحاديث الواردة في المهدي «فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه». (¬2) وقال في موضع آخر مشككاً في صحة ظهور المهدي «فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهور دعوته .. ». (¬3) وفي الحقيقة أنه لم يقل أحد بمثل هذا القول قبل ابن خلدون، وكل من طعن في أحاديث المهدي من المتأخرين احتج بأقوال ابن خلدون. (¬4) ¬

(¬1) هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون، ولي الدين الحضرمي الأشبيلي أشتهر بكتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر» طبع في سبع مجلدات، أولها «المقدمة» وقد نشأ في تونس ورحل منها إلى مصر، وتولى قضاء المالكية فيها وتوفي بالقاهرة سنة 808 هـ «الإعلام» (3/ 330). (¬2) مقدمه ابن خلدون، صـ 322، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1967 م. (¬3) نفس المصدر 327. (¬4) مثل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في كتابه «لا مهد ينتظر بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - خير البشر»، ومحمد فريد وجدي في «دائرة معارف القرن العشرين» (10/ 480)، وأحمد أمين في كتابة «ضحى الإسلام»، ومحمد فهيم أبو عبيه في تعليقه على «النهاية الفتن والملاحم» لابن كثير ومحمد عبد الله عنان في كتابه «مواقف حاسمه في تاريخ الإسلام» صـ 359، وعبد الرحمن محمد عثمان في تعليقه على «تحفة الأحوذي» (6/ 474)، وعبد الكريم الخطيب في كتابه (المسيح في القرآن والتوارة والأنجيل) صـ 539، وقد تولى الرد على جميع هؤلاء الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه القيم «الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي» وخص منها رسالة الشيخ ابن محمود، حيث بين أن ما فيها مجانب للحق والصواب.

والرد على ما ذهب إليه ابن خلدون من عدة وجوه

والرد على ما ذهب إليه ابن خلدون من عدة وجوه: أولا: إن عبارة ابن خلدون وهي قوله «لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه» فعبارته تدل على أنه سلم من نقده القليل من الأحاديث ولو صح حديث واحد من بين الأحاديث الكثيرة التي ردها لكفى به حجة في شأن المهدي، كيف والأحاديث فيه صحيحة ومتواترة. ثانيا: إن ابن خلدون لا يعتد به في التصحيح والتضعيف لأنه مؤرخ، وإنما الذي يعتد به في ذلك هم، رجال الحديث وأئمته أمثال البيهقي والخطابي والعقيلي والرازي والذهبي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل الرواية والدراية الذين قالوا بصحة الكثير من أحاديث المهدي. (¬1) وقد أحسن الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المسند حيث قال «أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها ... ». (¬2) وقال عنه أيضا: «إنه قد تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي تهافتاً عجيباً وغلط أغلاطاً واضحة» (¬3)، حيث إن ما كتبه في هذا الفصل مملوء بالأغاليط الكثيرة في أسماء الرجال ونقل العلل. ¬

(¬1) الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة، ص 10 وما بعدها. (¬2) مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (5/ 197). (¬3) مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (5/ 197).

ثالثا: إن ابن خلدون نفسه قد شهد بأن القول في ظهور المهدي في آخر الزمان هو ما عليه أكثر أهل الإسلام، حيث يقول في مقدمته للمهدي «أعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على مر الأعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي .... ». فكيف يدعي بعد هذا رشيد رضا أن المنكرين لها أكثر! ثم ألا يسع رشيد رضا ما وسع أكثر أهل الإسلام على مر الأعصار! ثم هل يعقل أن كل هؤلاء الذين ذكرنا من أهل العلم على خطأ وابن خلدون ورشيد رضا على صواب؟ لا سيما وأن الأمر ليس اجتهادياً وإنما هو أمر غيبي لا يسوغ لأحد إثباته أو نفيه إلا بدليل من الكتاب أو السنة النبوية لا سيما أيضا وأن الدليل معهم وهم أهل الاختصاص والتمييز بين المقبول منه والمردود. ثالثا: أما احتجاجه في ردها بدعوى أن الشيخين لم يخرجا شيء من روايتها في صحيحهما، وذلك لضعفها. فإنها دعوى مردودٌ عليها من عدة وجوه، كالآتي: 1 - إن الصحيح كما هو موجود في الصحيحين فإنه موجود في غيرهما، فهما لم يستوعبا كل الصحيح ولا اشترطا ذلك أبداً، فقد قال ابن حجر في مقدمه فتح الباري: إن الإسماعيلي قد روى عن البخاري

أنه قال «لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً وما تركت من الصحيح أكثر» (¬1)، وقال مسلم في صحيحة في آخر باب التشهد في الصلاة، «ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه». (¬2) ومما يدل على أن البخاري لم يستوعب كل الأحاديث الصحيحة، قوله «أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح» (¬3)، مع أن جملة ما في صحيحه من الأحاديث المسندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في ذلك الأحاديث المعلقة لا تبلغ عشرة آلاف حديث. فالصحيح كما أنه موجود في الصحيحين، فهو موجود في غيرهما من الكتب المؤلفة في الحديث النبوي، كموطأ مالك، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، ومسند الإمام أحمد وغيرهما. قال ابن كثير «إن البخاري ومسلماً لم يلتزما بإخراج جميع ما يُحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده بل في السنن وغيرها». (¬4) ¬

(¬1) هدي الباري صـ 9. (¬2) صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب التشهد في الصلاة (1/ 304). (¬3) علوم الحديث صـ 16. (¬4) «الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير» تأليف أحمد شاكر، صـ 25، طبع دار الكتب العلمية.

ثم إن هناك الكثير من العقائد لدى أهل السنة والجماعة، مصدرها أحاديث صحيحة في غير الصحيحين، مثل الحديث المشتمل على العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، فإنه في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره وليس في الصحيحين، ومثل حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه - الطويل في نعيم القبر الذي وصف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يجري عند الموت حتى البعث وهو في مسند الإمام أحمد وغيره، وكذا الحديث الذي فيه تسمية الملكين السائلين في القبر بالمنكر والنكير، فهو لم يرد في الصحيحين، وكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره الدال على وزن الأعمال وهو حديث البطاقة والسجلات وهو لم يرد في الصحيحين، والحاصل أن الأحاديث إذا كانت صحيحة يجب العمل بموجبها سواء كانت في الصحيحين أو في غيرهما ومن ذلك أحاديث المهدي. (¬1) 2 - أنه جاء في بعض الأحاديث في الصحيحين، ما يدل على ظهور المهدي، وإن لم تكن صريحة ومن ذلك. 1) عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟ ! ». (¬2) 2) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) عبد المحسن العباد، صـ 63. (¬2) صحيح البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء - باب نزول عيسى بن مريم عليه السلام (3/ 1272)، رقم (3265)، وصحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب نزول عيسى بن مريم عليه السلام حاكماً (1/ 135)، رقم (155).

يقول «لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة» قال: «فينزل عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول، لا، إن بعضكم على بعضٍ أمراء، تكرمة الله هذه الأمة». (¬1) في رواية عن غير مسلم «يقول أميرهم المهدي ..... » الحديث (¬2) فهذه الرواية تدل على أن ذلك الأمير المشار إليه في رواية مسلم يقال له المهدي ولا محمل له ولأمثاله إلا المهدي. (¬3) 3) وعن جابر بن عبد الله، قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عداً». قال الجريري أحد رواة الحديث «قلت لأبي نضره وأبي العلاء، أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا، لا». 4) عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «العجبُ أن ناساً من أمتي يؤموّن البيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم». (¬4) 5) وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يغزو جيشٌ ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب نزول عيسى بن مريم عليه السلام حاكماً (1/ 137)، رقم (156). (¬2) رواه الحارث بن أبي أسامة في مسندة عن جابر، انظر ابن القيم، المنار المنيف صـ 144، وانظر الداني، السنن الواردة في الفتن «6/ 1236». (¬3) انظر صديق حسن خان، الإذاعة، صـ 118. (¬4) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت (4/ 2210)، رقم (2884).

الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم» قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: «يخسف بأولهم وأخرهم ثم يبعثون على نياتهم» (¬1)، فهذه الأحاديث وإن لم يكن فيها ذكر اسم المهدي أو لقبه إلا أنه لا محمل لها إلا عليه كما قال أهل العلم. ثم إنني على يقين بأنه لو وردت أحاديث صريحة في الصحيحين تنص على ظهور المهدي لما قبل بها الشيخ رشيد رضا، ولأولها وأثار الاستشكالات والتساؤلات حولها، كما فعل بالأحاديث الواردة في المسيح الدجال، حتى يردها، وذلك لأنه لا يقبل أي حديث فيه شكل من أشكال الخارقة أو الخروج عن المألوف، وإلا فكم من حديث رواه الشيخان ولم يقبل به لتعارضه مع منهجه العقلي، ولا أدل على ذلك إلا رده للأحاديث الصحيحة الصريحة التي رواها الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما أن القمر انشق على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدعوى أنها لو وقعت فعلاً لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر. ورده كذلك للحديث الذي رواء الشيخان أيضا في صحيحيهما عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ...... ». (¬2) بدعوى أن أبا هريرة- رضي الله عنه - لم ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب ما ذكر في الأسواق (2/ 746)، رقم (2012). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الرفاق - باب طلوع الشمس من مغربها (5/ 386)، رقم (6/ 41)، صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (1/ 137)، رقم (157).

يصرح بالسماع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخشى أن يكون قد رواها عن كعب الأحبار! ! ورده كذلك للحديث الذي رواه البخاري في صحيحة عن أبي ذر- رضي الله عنه -، حينما سأله - صلى الله عليه وسلم -، أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ قال، قلت لا أدري، قال إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة، ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث دخلت، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل (¬1) بدعوى أن متنه من أعظم المتون إشكالاً! ! فعجيبٌ ذلك المنهج الذي يسير عليه الشيخ رشيد رضا في قبول الحديث أورده، فإذا لم تتفق الأحاديث مع مقاييسه الخاصة رفضها جملةً وتفصيلاً دون الالتفات إلى صحة أسانيدها وإذا لم تكن في الصحيحين احتج بأن الشيخين لم يعبأ بها لذا لم يخرجاها في صحيحيهما. وإن ورد الحديث في صحيح مسلم كحديث الجساسة رد الحديث محتجاً بأن البخاري لم يخرجه، وإذا ورد في صحيح البخاري كحديث سجود الشمس عند العرش رد الحديث بدعوى أنه مشكل أو أنه لا يخلو من علةٍ إسرائيلية أو من خطأ الرواية في المعنى. رابعا: أما بالنسبة لقوله بأن أحاديث المهدي موضوعة، وضعها الشيعة لأسباب سياسية، فنحن لا ننكر كما قلنا في بداية الرد على أن هناك أحاديث ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب وكان عرشه على الماء (6/ 2700)، رقم (6988).

في المهدي موضوعة ومكذوبة وضعها الشيعة وغير الشيعة أيضا، لأسباب سياسية أو لأسباب أخرى. ولكن هذه الأحاديث تتبعها أئمة الحديث وبينوا المكذوب منها من الصحيح، ثم إنه إذ كان هناك أحاديث موضوعة أو كذوبة في هذا الباب فإنه ليس معنى هذا أنه لم يرد فيها أحاديث صحيحة، ثم إنه إذ كان هناك روايات موضوعة في المهدي تعصباً، فإن ذلك لا يجعلنا نترك ما صح من الروايات فيه، والروايات الصحيحة جاء فيها ذكر صفته واسمه واسم أبيه. ثم إنه لا يجوز أن ترد الأحاديث الصحيحة الواردة في ظهور المهدي من أجل خرافات الشيعة وأباطيلهم، فالشيعة لهم قول في المهدي لا يعتد به عند أهل السنة، وهو قول شاذ ولا دليل عليه، ومخالف للعقل، فهم يعتقدون أن المهدي قد دخل في سرداب في سامراء منذ أكثر من ألف سنة ولم يخرج إلى الآن، وأنه سوف يخرج في آخر الزمان. قال ابن القيم في كلامه على المهدي عند الشيعة والرافضة: «وأما الرافضة الإمامية فلهم قول رابع، وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار، الذي يورث العصا ويختم الفضاء، دخل سرداب سامرا طفلا صغيرا من أكثر من خمسمائة سنة فلم تره بعد ذلك عين، ولم يحس فيه بخبر ولا أمر، وهم ينتظرونه كل يوم يقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن

يخرج إليهم، اخرج يا مولانا، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم ودأبه ولقد أحسن من قال: ما آن للسرداب أن يلد الذي ... كلمتموه بجهلكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... كلمتم العنقاء والغيلانا ولقد أصبح هؤلاء عارا على بني آدم وضحكة ليسخر منهم كل عاقل». (¬1) خامسا: أما بالنسبة لقوله بأن الاعتقاد في ظهور المهدي ترتب عليها فتن وفساد وكثرة دعاة المهدي، فإن ذلك حتى ولو كان صحيحاً فإنه لا يسوغ رد الصحيح من الأحاديث الواردة في المهدي، كيف وهو لا يصح سبباً، فإن سبب ذلك هو الجهل والهوى، ولو علم الناس السنة وتجردوا ومن الهوى لما وقع ذلك. فوقوع الفتنة بسبب فهم خاطئ لأحاديث صحيحة لا يصلح حجة لرد تلك الأحاديث، أوليس الخوارج فتنوا بنصوص الوعيد والمرجئة بنصوص الوعد؟ والمعطلة والمشبهة بنصوص الصفات بسبب فهمهم الخاطئ لها؟ فهل يعني ذلك رد تلك النصوص؟ ولو جاز رد النصوص الثابتة بسبب فهم بعض الفرق الخاطئة لها، وإفراطهم أو تفريطهم فيها لكان ذلك باباً واسعاً لرد الشريعة كلها بأصولها وفروعها، إذ إنه ما من نص قرآني أو نبوي أفاد حكماً شرعياً إلا وله ¬

(¬1) المنار المنيف، صـ 152.

معارضون ومحرفون يكونون على طرفي نقيض. (¬1) ثم إنه هل يمنع إنكار خروج المهدي في آخر الزمان من وقوع الفتن وادعاء المهدي؟ أليس ختم النبوة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مما هو مجمع عليه ومع ذلك وجد كثيرون ممن ادعى النبوه وحصل بذلك للمسلمين فتن وأضرار كثيرة، وإنما الذي يعصم حقيقة من الفتن والمصائب ويكفل السلامة والأمن والنجاة هو الاستمساك بشرع الله والاعتصام بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. أما وجود دعاه المهدوية من المجانين وأشباه المجانين يخرجون في بعض الأزمان ويحصل بسببهم على المسلمين أشرار كبيرة، فإنه لا يؤثر في التصديق بمن عناة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة وهو المهدي الذي يصلي عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - خلفه، فما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب التصديق به، ويجب القضاء على كل متمهدٍ يريد أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم، والواجب قبول الحق، ورد الباطل لا أن يرد الحق ويكذب بالنصوص من أجل أنه ادّعى مقتضاها مدعون مبطلون دجالون. (¬2) ثم إنه متى كان استغلال أعداء الإسلام لعقيدة من عقائد المسلمين مبرراً لطمسها أو التشكيك في ثبوتها؟ إن أعداء الإسلام لم يستغلوا المهدوية فحسب بل استغلوا ما هو أكبر وأعظم وأوضح عند المسلمين، أعني عقيدة ¬

(¬1) بحث للدكتور خالد النجار بعنوان «محمد رشيد رضا»، موقع شبكة الألوكة. (¬2) مجلة الجامعة الإسلامية العدد 45، صـ 302.

النبوه، استغلوا هذا وخرج أدعياء النبوة، ولازلنا في هذا العصر نعاني من أولئك كالبهائية (¬1) والقاديانية (¬2). ¬

(¬1) البهائية، حركة نبعت من المذهب الشيعي الشيخي سنة 1844 م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الانجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية، أسسها الميرزا على محمد رضا الشيرازي قام من بعده الميرزا حسين علي الملقب بالبهائي وسمى حركته بالبهائية، أدعى أولا أنه المسيح ابن مريم ثم زعم أنه يوحى إليه وبأنه نبي وله كتاب يسمى (الأقدس) أدعى أنه أوحى إليه، ولنحلته عقائد فاسدة (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة صـ 413). (¬2) القاديانية، حركة نشأت سنة 1900 م بتخطيط من الاستعمار الانكليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص، مؤسسها هو الميرزا غلام أحمد القدياني، أدعى أنه المهدي ثم أدعى أنه المسيح ابن مريم ثم أدعى النبوه والرسالة وأنه يوحى إليه، ولهم عقائد فاسدة منها أن النبوه لم تختم (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة صـ 416).

المبحث الرابع رأيه في نزول عيسى بن مريم عليه السلام والرد عليه

المبحث الرابع رأيه في نزول عيسى بن مريم عليه السلام والرد عليه معنى المسيح: المسيح على وزن فعيل بمعنى فاعل، وسمي به لأنه يمسح المريض وذا العاهة، فيبرأ بإذن الله. (¬1) وقيل المسيح الصَّديق، وقيل سمي به لأنه كان سائحاً في الأرض لا يستقر (¬2)، وقيل: كلمة المسيح تعني الحاكم الذي سوف يأتي في نهاية الزمان ليملك ويملأ الأرض عدلاً، وهي من أصول عبرية. (¬3) عقيدة أهل السنة والجماعة في عيسى بن مريم عليه السلام: الذي عليه اعتقاد أهل السنة والجماعة في عيسى بن مريم عليه السلام، ما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة، وهو أنه نبي من أنبياء الله عز وجل، من أولى العزم من الرسل المقربين اختصه الله بأن يوجد من أمٍ دون أب ¬

(¬1) انظر، جامع الأصول (4/ 204). (¬2) انظر لسان العرب (2/ 594) مادة مسح. (¬3) Habasheh, Bahjat, the Word Al- Masih in Quran and Hadith «Analylic study» Al- Manarah, Jorsan, 2002. pp 15 - 21

وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل. وقد أيده الله ببعض المعجزات كرامة وتصديقاً له، فكان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وكان يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها، فتكون طيراً بإذن الله. فحسده بنو إسرائيل فعزموا على قتله، فحاصروه في دار ببيت المقدس، فلما دخلوا عليه ألقى الله شبهه على شاب من أصحابه الحاضرين، ورفع عيسى بن مريم عليه السلام من ذلك البيت إلى السماء، وأهل البيت ينظرون، فلما دخلوا وجدوا الشاب الذي ألقي عليه شبه عيسى فأخذوه ظانين أنه عيسى بن مريم عليه السلام فقتلوه وصلبوه، قال تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (¬1) فهو لم يقتل ولم يصلب وإنما رفعه الله إليه. وسوف ينزل في آخر الزمان، على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فينزل واضعا حالة نزوله كفيه على أجنحة ملكين وقت صلاة الصبح، وينزل ليقتل الدجال، ويدعو إلى دين الإسلام، ويحكم به، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعوه الناس للصلاة بهم فيمتنع ويقول إمامكم منكم، فيتقدم المهدي فيصلي إماما بهم وبه، وذلك إكراماً لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأمته ويمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. (¬2) ¬

(¬1) النساء، آية 157. (¬2) انظر (العقيد الصافية للفرقة الناجية) سيد سعيد عبد الغني، دار طيبة الخضراء، مكة المكرمة، الطبعة الرابعة، 1422 هـ، ص 141.

وقال ابن حزم: «وأن عيسى عليه السلام لم يقتل، ولم يصلب ولكن توفاه الله عز وجل ثم رفعه إليه». (¬1) قال ابن تيمية: «وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إليه إلى السماء». (¬2) وقال ابن تيمية أيضاً: «والمسيح - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر الأنبياء لابد أن ينزل إلى الأرض .. كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ولهذا كان في السماء الثانية، مع أنه أفضل من يوسف وإدريس وهارون، لأنه يريد النزول إلى الأرض قبل يوم القيامة». (¬3) وقال القاضي عياض: «نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته. وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى: {وخاتم النبيين}، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا نبي بعدي)، وبإجماع المسلمين أنه لا نبي بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة ولا تنسخ! وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا وما سبق في كتاب الإيمان وغيرها أنه ينزل حكما مقسطا يحكم بشرعنا ¬

(¬1) المحلى (1/ 23). (¬2) بيان تلبيس الجهمية (2/ 419). (¬3) مجموع الفتاوي (4/ 329).

ويحيي من أمور شرعنا ما هجره الناس». (¬1) قال السفاريني: «ونزوله عليه الصلاة والسلام ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة: .... » إلى أن قال: «وأما الإجماع؛ فقد أجمعت الأمة على نزوله، ولم يخالف فيه أحد من أهل الشريعة، وإنما أنكر ذلك الفلاسفة والملاحدة أو من لا يعتد بخلافه، وقد انعقد إجماع الأمة على أن ينزل ويحكم بهذه الشريعة المحمدية، وليس بشريعة مستقلة عند نزوله من السماء، وإن كانت النبوة قائمة به، وهو متصف بها، ويتسلم الأمر من المهدي، ويكون المهدي من أصحابه وأتباعه كسائر أصحاب المهدي». (¬2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: «وعيسى حي في السماء لم يمت بعد، وإذا نزل من السماء لم يحكم إلا بالكتاب والسنة، لا بشيء يخالف ذلك» (¬3)، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة .... »، ثم ذكر جملة من عقائد أهل السنة، ثم قال «والإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوبٌ بين عينيه «كافر» والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كائن، وأن عيسى ينزل فيقتله بباب لد». (¬4) ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (م 9/ ج 18/صـ 261). (¬2) لوامع الأنوار البهية (1/ 94). (¬3) مجموع الفتاوي (4/ 322 - 324). (¬4) «طبقات الحنابلة» (1/ 241) للقاضي الحسن بن محمد بن أبي يعلى، طبع دار المعرفة للنشر، بيروت.

وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في سرده لعقيدة أهل السنة والجماعة: «الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيء، ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى يقتله» (¬1)، وقال الطحاوي: «ونؤمن بأشراط الساعة، من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء». (¬2) ونقل أبو حيان في البحر المحيط عن الإمام ابن عطية أنه قال في تفسيره: «وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى في السماء حي وأنه ينزل في آخر الزمان، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويفيض العدل وتظهر به مله محمد - صلى الله عليه وسلم - ويحج البيت ويعتمر». (¬3) قال الغماري: «وقد ثبت القول بنزول عيسى عليه السلام من غير واحد من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء من سائر المذاهب على مر الزمان إلى وقتنا هذا». (¬4) وقال الشيخ أحمد شاكر: «نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان مما لم يختلف فيه المسلمون، لورود الأخبار الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وهذا ¬

(¬1) «مقالات الإسلاميين» (1/ 345) تحقيق الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية 1389 هـ، طبع مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية، صـ 564، تحقيق الألباني. (¬3) البحر المحيط لأبي حيان (2/ 473). (¬4) عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام، صـ 12، مكتبة القاهرة، مطبعة دار المختار.

أدلة نزوله من القرآن

معلوم من الدين بالضرورة، لا يؤمن من أنكره». (¬1) وقال الشيخ صالح الفوزان: «وفي عصرنا هذا ينكر بعض الكتاب الجهال وأنصاف العلماء نزول عيسى عليه السلام؛ اعتمادا على عقولهم وأفكارهم، ويطعنون في الأحاديث الصحيحة، أو يؤولونها بتأويلات باطلة، والواجب على المسلم التصديق بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وصح عنه واعتقاده؛ لأن ذلك من الإيمان بالغيب الذي أطلع الله رسوله عليه ... ». (¬2) وقال الشيخ صالح الفوزان أيضاً: «إن نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كما دل عليه القرآن فقد أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتواتر النقل عنه بذلك، وأجمع عليه علماء الأمة سلفاً وخلفاً، واعتبروه مما يجب اعتقاده والإيمان به». (¬3) أدلة نزوله من القرآن: ورد في القرآن الكريم آيتان تدلان دلالة واضحة على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان: الآية الأولى: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (¬4). أي إن نزول عيسى عليه السلام قبل القيامة علامة على قرب الساعة، ويدل على هذا: القراءة الأخرى فقد قرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن ¬

(¬1) من حاشية «تفسير الطبري» (6/ 460)، تخريج الشيخ أحمد شاكر، تحقيق محمود شاكر، طبعة دار المعارف مصر. (¬2) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، صالح الفوزان صـ 234. (¬3) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، د. صالح الفوزان صـ 235، دار ابن الجوازي ط 12 سنة 1428 هـ. (¬4) سورة الزخرف، الآية: 61.

دينار والضحاك (وإنه لعَلم للساعة) بفتح العين واللام، أي خروجه علم من أعلام الساعة وشرط من شروطها وأمارة على قرب قيامها. (¬1) وروى الإمام أحمد والحاكم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) في تفسير هذه الآية {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قال: هو خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة (¬2). وهذا المعنى مروي عن عدد من أئمة التفسير واختاره الحافظ ابن كثير وغيره (¬3). والآية الثانية: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}. (¬4) قرر كثير من المفسرين أن الضميرين في (به)، و (موته) لعيسى ابن مريم عليه السلام (¬5). وقد روى ابن جرير الطبري - رحمه الله - عن أبي مالك - رحمه الله - في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: ¬

(¬1) (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (16/ 105). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 329) حديث رقم 2921، وقال أحمد شاكر - رحمه الله - إسناده صحيح، وفي مستدرك الحاكم (2/ 254) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 131 - 132)، وأيضا: تفسير الطبري (25/ 90). (¬4) سورة النساء، الآية: 159. (¬5) انظر تفسير الطبري (6/ 21)، وتفسير البغوي (1/ 497)، وتفسير ابن كثير (1/ 577).

أدلة نزوله من السنة

«ذلك عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن به». (¬1) قال بن كثير: «ولا شك أن هذا هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، فأخبر الله أنه رفعه إليه، وأنه باق حي، وأنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها إن شاء الله قريبا، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، يعني: لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم». (¬2) أدلة نزوله من السنة: وجاءت في السنة أحاديث كثيرة تدل على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان منها: 1 - عن النواس بن سمعان قال ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال «ما شأنكم». قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ¬

(¬1) تفسير ابن جرير الطبري (6/ 18). (¬2) تفسير ابن كثير (1/ 514).

ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا». قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال «أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم». قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدوار له قدره، قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال: «كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب (¬1) النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرفي دمشق بين مهرودتين (¬2) واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد (¬3) فيقتله، ¬

(¬1) يعاسيب النحل، ذكرها. (¬2) مهرودتين، المهرودة الثوب المصبوع. (¬3) اللد بلدة قرب بيت المقدس في فلسطين، ويعتقد اليهود أن عيسى عليه السلام حكم في القدس، وصلب في المدينة اللد، حيث يعتقدون أن مدينة اللد هي مدينة الأشرار «تلمود بابل السنهدرين 14».

ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء. ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسي كموت نفسٍ واحدةٍ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يَكُنُّ منه بيت مدرٍ ولا وبرٍ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وردى بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرِّسْلِ حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة. (¬1) ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (4/ 2250)، رقم (2937).

2 - عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر فقال «ما تذاكرون». قالوا نذكر الساعة. قال «إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات». فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس، من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. (¬1) 3 - عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبلها من كافر، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها» (¬2). ثم يقول أبو هريرة- رضي الله عنه -: اقرأوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} (¬3). 4 - عن جابر- رضي الله عنه -: قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب في الآيات التي تكون قبل الساعة (4/ 2225)، رقم (2901). (¬2) صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء - باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام (11/ 265)، رقم (3192)، صحيح مسلم كتاب الإيمان - باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام (1/ 93)، رقم (406). (¬3) سورة النساء، الآية: 159.

يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة»، قال: «فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله لهذه الأمة». (¬1) 5 - عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأنبياء إخوة لعلات (¬2) أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران (¬3)، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون» (¬4) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة. ¬

(¬1) صحيح مسلم كتاب الإيمان - باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام (1/ 93)، رقم (406). (¬2) العلات: جمع علة، والعلة هي الضرة، والمرد: الإخوة من أمهات مختلفة وأبوهم واحد، والمراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة: النهاية في غريب الحديث. (3/ 291). (¬3) الممصران: تثنية ممصر، والممصر من الثياب الذي فجه صفرة خفيفة. النهاية لابن الأثير (4/ 336). (¬4) أخرجه أحمد (2/ 406) وقال أحمد شاكر: حديث صحيح، عمدة التفسير (4/ 36)، وأبو داود: كتاب الملاحم، باب خروج الدجال (4/ 498)، والحاكم (2/ 595)، وفال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير رحمه الله في النهاية في الفتن والملاحم (1/ 188): وهذا إسناد جيد قوي.

تواتر الأحاديث في نزول عيسى بن مريم

تواتر الأحاديث في نزول عيسى بن مريم: جاءت الكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة في الصحاح والسنن والمسانيد التي تنص على نزول عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان، حتى بلغت هذه الأحاديث حد التواتر كما صرح بذلك جملةٌ من أهل العلم، وسوف أذكر هنا جملة من أقوالهم، حتى لا يدعي مدعٍ أن أحاديث نزول عيسى ابن مريم من أحاديث الآحاد التي ينبغي أن لا يجزم بها. (¬1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله معلقا على أحاديث نزول عيسى عليه السلام: «فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رواية أبي هريرة وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهم، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه، وأنه بالشام، بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند الإقامة لصلاة الصبح .. فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين، وهذا إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان، حيث تنزاح عللهم، وترتفع شبههم من أنفسهم، ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى عليه السلام وعلى ¬

(¬1) كما أدعى الشيخ محمود شلشوت بأن أحاديث نزول عيسى في آخر الزمان لا حجة فيها لأنها أحاديث آحاد! ! كتاب «الفتاوي» للشيخ محمود شلتوت، طبع دار الشروق، ط 8 عام 1395 هـ، بيروت.

يديه، ولهذا قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} (¬1). وهذه الآية كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (¬2) وقرئ «لعلم بالتحريك، أي أمارة ودليل على اقتراب الساعة، وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال فيقتله الله على يديه ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله ببركة دعائه». (¬3) قال ابن جرير الطبري - بعد ذكره الخلاف في معنى وفاة عيسى عليه السلام: «وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: «معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، ورافعك إلي»؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدجال». (¬4) ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في نزوله. وقال صديق حسن: «والأحاديث في نزوله عليه السلام كثيرة، ذكر الشوكاني منها تسعة وعشرين حديثاً؛ ما بين صحيح، وحسن، وضعيف منجبر، منها ما هو مذكورٌ في أحاديث الدجال .. ومنها ما هو مذكورٌ في أحاديث المنتظر، وتنضمُّ إلى ذلك أيضا الآثار الواردة عن الصحابة، فلها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في ذلك». ثم ساقها وقال: «جميع ما ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 159. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 61. (¬3) تفسير ابن كثير (1/ 519، 520) (¬4) تفسير الطبري (3/ 291).

سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطلاع». (¬1) وقال الغماري (¬2): «وقد ثبت القول بنزول عيسى عليه السلام من غير واحد من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء من سائر المذاهب على مر الزمان إلى وقتنا هذا». (¬3) وقال: «تواتر هذا تواتراً لا شك فيه، بحيث لا يصح أن ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ كالقاديانية ومن نحا نحوهم؛ لأنه نقل بطريق جمع عن جمع، حتى استقر في كتب السنة التي وصلت إلينا تواتراً بتلقي جيل عن جيل» (¬4). وقد ذكر من رواه من الصحابة، فعد أكثر من خمسة وعشرين صحابيا، رواه عنهم أكثر من ثلاثين تابعيا، ثم رواه تابعو التابعين بأكثر من هذا العدد. وهكذا حتى أخرجه الأئمة في كتب السنة، ومنها المسانيد؛ كـ» مسند» الطيالسي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة، وأبي يعلى، والبزار، والديلمي، ومن أصحاب الصحاح: البخاري، ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وأبو عوانة، والإسماعيلي، والضياء المقدسي، وغيرهم، ورواه أصحاب الجوامع، والمصنفات، والسنن، والتفسير بالمأثور، والمعاجم، والأجزاء، والغرائب، والمعجزات، والطبقات، والملاحم. ¬

(¬1) «الإذاعة» (ص: 160). (¬2) هو أبو الفضل عبد الله محمد الصديق الغماري، من علماء هذا العصر، من مؤلفاته (عقيدة أهل الإسلام في نزول الله). (¬3) «عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام» (ص: 12). (¬4) «عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام» (ص: 5).

وممن جمع الأحاديث في نزول عيسى عليه السلام الشيخ محمد أنور شاه الكشميري (¬1) في كتابه «التصريح بما تواتر في نزول المسيح»، فذكر أكثر من سبعين حديثاً. وقال صاحب «عون المعبود شرح سنن أبي داود»: «تواترت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نزول عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - من السماء بجسده العنصري إلى الأرض عند قرب الساعة، وهذا هو مذهب أهل السنة». (¬2) وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: «اعلم أن أحاديث الدجال ونزول عيسى عليه السلام متواترة، يجب الإيمان بها، ولا تغتر بمن يدعي فيها أنها أحاديث آحاد؛ فإنهم جهال بهذا العلم، وليس فيهم من تتبع طرقها، ولو فعل لوجدها متواترة؛ كما شهد بذلك أئمة هذا العلم؛ كالحافظ ابن حجر، ومن المؤسف حقا أن يتجرأ البعض على الكلام فيما ليس من اختصاصهم، لا سيما والأمر دين وعقيدة» (¬3). ونزول عيسى عليه السلام ذكره طائفة من العلماء في عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنه ينزل لقتل الدجال قبحه الله. ¬

(¬1) هو الشيخ المحدث محمد أنور شاه الكشميري الهندي، له عدة مصنفات، منها: «فيض الباري على صحيح البخاري» في أربعة مجلدات، و» العرف الشذي على جامع الترمذي»، وغيرهما، توفي (1352 هـ) رحمه الله في مدينة ديوبند، انظر ترجمته في: مقدمة كتاب «التصريح» للشيخ عبد الفتاح أبو غدة. (¬2) «عون المعبود» (11/ 457) لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي. (¬3) «حاشية شرح العقيدة الطحاوية» (ص 565) بتخريج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث الشام.

مسألة: هل رفع عيسى عليه السلام ببدنه وروحه أم بروحه؟

مسألة: هل رفع عيسى عليه السلام ببدنه وروحه أم بروحه؟ الصحيح والذي عليه جمهور المفسرين كالطبري والقرطبي وابن كثير وغيرهم. (¬1) أنه رفع ببدنه وروحه، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، وقد سأل ابن تيمية عن وفاة عيسى عليه السلام ورفعه فقال: «الحمد لله، عيسى عليه السلام حي، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «ينزل فيكم ابن مريم عدلاً وإماماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية» وثبت في الصحيح عنه أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأنه يقتل الدجال، ومن فارقت روحه جسده، لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحُيي فإنه يقوم من قبره، وأما قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. (¬2) فهذا دليل على أنه لم يعن بذلك الموت، إذ لو أراد بذلك الموت، لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين فإن الله يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء فعُلم أن ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3) ولو كان قد فارقت الأنبياء أو غيره من الأنبياء، وقد قال تعالى في الآية الأخرى {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ ¬

(¬1) انظر تفسير الطبري (25/ 9 - 95)، وتفسير القرطبي (16/ 105)، وتفسير ابن كثير (7/ 222 - 224). (¬2) آل عمران، الآية 55. (¬3) آل عمران، آية: 55.

مدة بقائه بعد نزوله

عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} (¬1)، فقوله هنا «بل رفعه الله إليه» يبين أنه رفع بدنه وروحه كما ثبت في الصحيح أنه ينزل ببدنه وروح إذا لو أرُيد موته لقال: وما قتلوه وما صلبوه بل مات .. ولهذا قال من قال من العلماء إني متوفيك، أي قابضك، أي قابض روحك وبذلك، يقال توفيت الحساب واستوفيته، ولفظ «التوفي» لا يقتضي نفسه توفي الروح دون البدن، ولا توفيهما جميعاً إلا بقرينه منفصلة، وقد يراد به توفي النوم كقوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (¬2)، وقوله {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (¬3)، وقوله {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (¬4) (¬5) فهذا بلا شك ما يوافق معنى ما جاء في القرآن والسنة. مدة بقائه بعد نزوله: وأما مدة بقاء عيسى عليه السلام إذا نزل: ففي بعض الروايات أنه يمكث سبع سنين، وفي الروايات الأخرى أنه يمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون، ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فيبعث الله عيسى ابن مريم .. ثم يمكث الناس سبع سنين ليس ¬

(¬1) النساء، الآية 157 - 158. (¬2) الزمر، الآية: 42. (¬3) الأنعام، الآية: 60. (¬4) الأنعام، الآية: 61. (¬5) مجموع الفتاوي (4/ 322 - 223).

بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته». (¬1) وفي حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - السابق: «ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون». (¬2) وقد جمع الحافظ ابن كثير رحمه الله بين الروايتين فقال: «هكذا وقع في الحديث: أنه يمكث أربعين سنة، وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه يمكث في الأرض سبع سنين، فهذا مع هذا مشكل، اللهم إلا إذا حملت هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله، وتكون مضافة إلى مدة مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء، وكان عمره إذ ذاك ثلاثا وثلاثين سنة على المشهور، والله أعلم». (¬3) وقد عارض السفاريني هذا الجمع فقال بعد أن ذكره بدون عزو: وهذا والله أعلم ليس بشيء لما مر من حديث عائشة عند الإمام أحمد وغيره «فيقتل الدجال، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة»، ثم حكى عن البيهقي أنه اعتمد رواية «أربعين»، وكما نقل عن السيوطي أنه ذهب إلى ترجيحها؛ لأن زيادة الثقة يحتج بها، ولأنهم يأخذون برواية الأكثر ويقدمونها على رواية ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب خروج الدجال (4/ 2258)، رقم (2940). (¬2) مسند الإمام أحمد (2/ 406) قال بن حجر (صحيح) (6/ 493)، «وسنن أبي داود» كتاب الملاحم، باب خروج الدجال (11/ 456). (¬3) النهاية في الفتن والملاحم (1/ 193).

رأي رشيد رضا في نزول عيسى بن مريم - عليه السلام - والرد عليه

الأقل لما معها من زيادة العلم، ولأنه مثبت والمثبت مقدم. (¬1) وقال البرزنجي: «إن القليل لا ينافي الكثير». (¬2) ولعل الراجح أن يقال: إن رواية «أربعين سنة» هي المعتمدة؛ لأنها رواية الأكثر، كما أشار إلى ذلك السفاريني، ولعل هذه السنين تمر كأنها سبع سنين، ويستأنس لذلك بما رواه عبد بن حميد عن أبي هريرة- رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (¬3). قال: خروج عيسى، يمكث في الأرض أربعين سنة، وتكون تلك الأربعون كأربع سنين، يحج ويعتمر (¬4). والله أعلم. رأي رشيد رضا في نزول عيسى بن مريم - عليه السلام - والرد عليه: رأى الشيخ رشيد رضا رحمه الله وغفر له في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، لا يختلف عن رأيه فيما ورد في خروج المسيح الدجال وظهور المهدي، وذلك لأنه كما قلنا من قبل يرفض أي شكل من أشكال الخارقة أو الخروج عن المألوف، متابعاً في ذلك نهج المدرسة العقلية القديمة «المعتزلة»، فهو يشكك في الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان. ويثير مجموعة من الاستشكالات والتساؤلات حولها، كما ¬

(¬1) لوامع الأنوار البهية (2/ 99). (¬2) الإشاعة ص (304). (¬3) سورة الزخرف، الآية: 61. (¬4) انظر: الدر المنثور: (6/ 20).

فعل مع أحاديث المسيح الدجال والمهدي، معتقداً أنه باستطاعته رد تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة بمجموعة استشكالات وتساؤلات لا قيمة لها أمام الكم الهائل من تلك الأحاديث النبوية التي تنص وبشكل واضح على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، حيث يقول: «وأما أحاديث نزول عيسى عليه السلام فبعض أسانيدها صحيحة، وهي على تعارضها واردة في أمر غيبي متعلق بأحاديث الدجال المتعارضة، كما تقدم بيانه أيضا في ذلك البحث، فينبغي أن يفوض أمرها إلى الله تعالى وأن لا تكون سبباً للتقصير في إقامة الدين والدنيا بما شرعه الله تعالى فيهما». (¬1) وأجاب عن سؤال وجه إليه في مجلته المنار حول صحة اعتقاد نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان - فأجاب بقوله «إن القرآن ليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الإسلام إلى الآن بثها في المسلمين ... ». (¬2) ثم تكلم عن الأحاديث الواردة في نزوله عليه السلام، حيث يقول «والأحاديث الواردة في نزوله عليه السلام كثيرة في الصحيحين والسنن وغيرها، وأكثرها واردة في أشراط الساعة، وممزوجة بأحاديث الدجال، وفي تلك الأشراط ولا سيما أحاديث الدجال والمهدي المنتظر واضطراب ¬

(¬1) تفسير المنار (10/ 394). (¬2) مجلة المنار (28/ 755 - 756).

الرد عليه

واختلاف وتعارض كثير ... ». (¬1) إلى أن قال: (والخلاصة أنه لا يجب على مسلم أن يقف على تلك الأحاديث وأمثالها، لأنها ليست من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام، ولا يضره في إيمانه وإسلامه الاشتباه في صحتها .. ». (¬2) الرد عليه: أولا: بالنسبة لقوله عن الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام أن بعض أحاديثها صحيحة، فيه تجن على تلك الأحاديث، حيث يفهم من كلامه أن أكثر أحاديثها غير صحيحة ومكذوبة، وهذا بلا شك كلام غير صحيح، بل إن العكس هو الصحيح، وهو أن غالب أحاديثها صحيحة، سواء تلك الأحاديث التي في الصحيحين والتي هي في أعلى مراتب الصحة، أو تلك الأحاديث الأخرى الموجودة في السنن والمسانيد وغيرها من دواوين السنة. والتي شهد بصحتها أكابر أهل العلم المختصين بالحديث كابن تيمية (¬3)، وابن كثير (¬4)، وابن حجر (¬5) والنووي (¬6)، والحاكم (¬7) والشوكاني (¬8) ¬

(¬1) نفس المصدر والصفحة. (¬2) نفس المصدر صفحة (757). (¬3) مجموع الفتاوي (4/ 322)، (4/ 329). (¬4) «النهاية/ الفتن والملاحم» (1/ 131)، (1/ 137). (¬5) «فتح الباري - شرح صحيح البخاري»، (6/ 492). (¬6) شرح النووي على مسلم (2/ 193 - 194). (¬7) «مستدرك الحاكم» (2/ 595). (¬8) «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح».

والكتاني (¬1) والغماري (¬2) والكشميري (¬3) والألباني. (¬4) ثانياً: أما ادعاءه من أن الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام فيها تعارض، فهي دعوى سبق أن ذكرها في الأحاديث الواردة في المسيح الدجال والأحاديث الواردة في المهدي، وثبت عدم صحتها. ثم إني لا أدري أين هذا التعارض الذي أشار إليه الشيخ رشيد رضا؟ ولماذا لم يذكر هذا التعارض كعادته في إثارة الاستشكالات والتساؤلات؟ والسبب في نظري في عدم ذكره لهذا التعارض هو عدم الوقوف على حدثين متعارضين حقيقةً، فجعل المسألة مبهمة ولم يبين، أما إن كان يقصد التعارض والاختلاف في مدة بقائه بعد نزوله هل هي أربعين سنة أو سبع سنين؟ فقد ذكرنا أقوال أهل العلم في هذه المسألة، والتي رجحنا أن رواية «أربعين سنة» هي الأصح لأنها رواية الأكثر. ثم إن هذا الخلاف خلاف جزئي ومعتبر، لأن لكلٍ دليله، ولكن لا يصح أن يكون اعتبار هذا الخلاف حجة يرد بسببها تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة التي تنص وبدلاله قطعية على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وإن اختلف في مدة مكثه في الأرض. ثالثا: أما بالسنة لقوله عن أحاديث نزول المسيح عليه السلام بأنه ينبغي أن لا تكون سبباً للتقصير في إقامة الدين والدنيا بما شرعه الله، فهذا كلام ¬

(¬1) «نظم المتناثر في الحديث المتواتر»، صـ 147. (¬2) «الإذاعة لما كان ويكون بين يدى الساعة»، (159 - 161). (¬3) «التصريح بما تواتر في نزول المسيح». (¬4) «المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام وقتله إياه».

طيب من الشيخ رشيد رضا، ولا يخالفه أحد في وجوب الأخذ بالأسباب وعدم التواكل، فنحن مأمورون بأن نصدق بنزول عيسى عليه السلام وغيرها من الاعتقادات التي ثبتت بالنص الصحيح الصريح، والمؤمن الحق هو الذي يتوسط ويجمع بين العمل والتصديق من غير إفراط ولا تفريط. (¬1) رابعاً: أما بالسنة لقوله، بأنه ليس في القرآن نص صريح بأنه ينزل من السماء، فهي دعوى باطلة، وإلا فما معنى قوله تعالى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (¬2)، فهذه الآية وما قبلها من الآيات جاءت في الكلام على عيسى عليه السلام، والتي فيها دلاله على نزوله عليه السلام قبل يوم القيامة علامةً على قرب الساعة، ويدل على ذلك القراءة الأخرى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} بفتح العين واللام، أي علامة وأمارة على قيام الساعة، وهذه القراءة مروية عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أئمة التفسير. (¬3) وقال الحافظ ابن كثير: «الصحيح أنه ـ أي الضمير - عائد على عيسى عليه السلام، فإن الباقي في ذكره» (¬4)، بل وما معنى قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (¬5)، فهي بلا شك عند نزول عيسى عليه السلام. ¬

(¬1) موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف، شفيق شقير، صـ 338. (¬2) الزخرف، الآية: 61. (¬3) تفسير القرطبي (16/ 105)، وانظر تفسير الطبري (25/ 90). (¬4) تفسير بن كثير (7/ 222). (¬5) النساء، الآية: 159.

فقد روى ابن جرير الطبري رحمه الله عن أبي مالك رحمه الله قال عن هذه الآية: «ذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن به» (¬1)، قال الحافظ ابن كثير: «ولا شك أن هذا هو الصحيح - لأن المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم، فقتلوا الشبه وهم لا يثبتون ذلك، فأخبر الله أنه رفعه إليه، وأنه باقٍ حي، وأنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة». (¬2) خامساً: أما دعواه أن الاعتقاد بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان أنها من عقائد النصارى, فهذا الكلام وإن كان فيه بعض الصحة وهو اعتقاد بعض النصارى بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان إلا أنه ليس دليلاً أو مسوغاً ترد بسببه عقيدة من عقائد المسلمين ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. ثم إن عقيدة المسلمين في عيسى ورفعه إلى السماء ومن ثم نزوله في آخر الزمان تختلف اختلافاً كبيراً عن ما يعتقده النصارى. فهم يعتقدون أن عيسى هو ابن الله، وأن اليهود صلبوه وقتلوه، ورفع بعد صلبه بثلاثة أيام إلى السماء وهذا كله بلا شك باطل وغير صحيح. ثم إنه هناك الكثير من العقائد لدى المسلمين ويعتقد بمثلها النصارى ¬

(¬1) تفسير ابن جرير الطبري (6/ 18). (¬2) تفسير بن كثير (1/ 514).

بل واليهود، كاعتقادهم بنبوة إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وغيرهم فهل نترك ما ثبت لدينا بالكتاب والسنة ونرده ولا نؤمن به لا لشيء إلا لأنها من عقائد أهل الكتاب، فهذا كلام غير صحيح ولا يقول به إنسان من عامة الناس فضلاً عن أن يكون من أهل العلم. سادساً: أما بالسنة لتشكيكه بصحتها بدعوى أنها واردة من ضمن أحاديث أشراط الساعة، وممزوجة بأحاديث الدجال والمهدي، والتي يرى هو أنها كلها مكذوبة وموضوعة. فقد بينا فيما سبق في مبحث المسيح الدجال ومبحث المهدي أن هناك من أحاديث أشراط الساعة ما هو مكذوب ومنها ما هو صحيح فهل من الإنصاف ومن العدل رد الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام بدعوى أنها قد تكون من ضمن تلك الأحاديث المكذوبة، دون الالتفات إلى الأحاديث الأخرى الصحيحة الصريحة المتواترة التي وردت في نزول عيسى عليه السلام. سابعاً: أما بالنسبة لقوله «إنه لا يجب على المسلم أن يقف على تلك الأحاديث وأمثالها ... »، ويقصد بها أحاديث أشراط الساعة وأحاديث الاعتقاد. «لأنها ليست من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام، ولا يضره في إيمانه وإسلامه الاشتباه في صحتها .... »، أي بما أن أحاديث أشراط الساعة ليست من أركان الإسلام ولا من أركان الإيمان فإنه لا يضره إنكار وقوعها وعدم الاعتقاد بها. وهذا والله إنه لكلامٌ خطير ينبئ عن سوء منهج المدرسة العقلية الحديثة في التعامل مع الحديث النبوي الشريف، وعدم توقيره.

وإن كنا لا نستغرب هذا الموقف من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلا أننا نستغربه من محمد رشيد رضا وهو العالم بالسنة. وإلا فكيف يرد أحاديث ثابتة عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - بأصح المسانيد في أصح الكتب بعد كتاب الله، وهما صحيحاً البخاري ومسلم، بدعوى أنها ليست من أركان الإسلام أو الإيمان ولا يضره إنكارها. فالإسلام ليس محصوراً في أركان الإسلام والإيمان، وهناك الكثير من الأمور التي لا يصح إيمان المرء إلا بها، ويكفر إذا جحدها وليست من أركان الإسلام والإيمان. مثال ذلك: التصديق بوجود الجن، والتصديق بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، واعتقاد براءة عائشة رضي الله عنها من الزنى وغيرها الكثير. ورحم الله الشيخ أحمد شاكر عندما قال: «نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان مما لم يختلف فيه المسلمون، لورود الأخبار الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وهذا معلوم من الدين بالضرورة، لا يؤمن من أنكره». (¬1) وقال في تعليقه على مسند الإمام أحمد: «وقد لعب المجددون أو المجردون في عصرنا الذي نحيا فيه بهذه الأحاديث الدالة صراحةً على نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، قبل انقضاء الحياة الدنيا، بالتأويل المنطوي على الإنكار تارة، وبالإنكار الصريح أخرى، ذلك أنهم في حقيقة أمرهم - لا يؤمنون بالغيب أو لا يكادون يؤمنون، وهي أحاديث ¬

(¬1) من حاشية «تفسير الطبري» (6/ 460) تخريج أحمد شاكر.

خاتمة المبحث

متواترة المعنى في مجموعها يعلم مضمون ما فيها من الدين بالضرورة فلا يجديهم الإنكار ولا التأويل». (¬1) خاتمة المبحث: في الحقيقة إن المتأمل لرأي رشيد رضا في الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يعلم علم اليقين بأن رأيه هذا نابع من تأثره بآراء وأفكار شيخه وأستاذه محمد عبده، الذي لم يستطع التخلص من آثار آرائه الكلامية والفلسفية عليه حتى بعد موته بزمن طويل. حيث يقول محمد عبده عند تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬2)، إن المراد بالتوفي هنا الإماتة العادية، وإن الرفع بعد ذلك هو رفع الروح. (¬3) ثم قال، ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي، لأنه من أمور الغيب والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي، لأن المطلوب فيها اليقين، وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه، وسر رسالته ¬

(¬1) حاشية «مسند الإمام أحمد» (12/ 257). (¬2) أل عمران، الآية 55. (¬3) تفسير المنار، (3/ 316).

على الناس، وما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم والأخذ بمقاصد الشريعة. دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها، وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأت اليهود بشريعة جديدة، ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسي عليه السلام، ويوقفهم على فقهها، والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته، وبما يجذبهم إلى عالم الأرواح، بتحري كمال الآداب ... فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر. (¬1) وقال الشيخ رشيد معقبا على كلام أستاذه: «هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه، ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعني كأكثر الأحاديث، والناقل للمعني ينقل ما فهمه» وأضاف قائلا: «وسئل عن المسيح الدجال، وقتل عيسى له، فقال: إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها. وأن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك». (¬2) من كل ما سبق نتبين أن المسلك الذي سلكة الأستاذ الإمام وتلميذه مسلك خطر، فالأحاديث في نزول عيسى عليه السلام والدجال أحاديث صريحة صحيحة، وليست من الآحاد في شئ، ثم دعوى أن أحاديث ¬

(¬1) انظر تفسير المنار (3/ 316 - 317). (¬2) نفس المصدر.

الآحاد لا يؤخذ بها في شئون العقائد دعوى غير مسلمة، فمحور الأمر كله يدور على صحة الحديث، وأخطر من هذا المسلك مسلك التأويل لهذه الأحاديث، وهذا قريب من تأويل الباطنية، وما كان ينبغي له أن يخوض مثل هذا الخوض، وإذا فتح باب التأويل على هذا المنوال، فإن جميع النصوص سيلحق بها هذا الظن، وللناس مشارب مختلفة، فمن يمنع كل واحد إذن أن يؤول كل ما لم يقتنع به، أو ما له هوى في تأويله، من أجل أن يوافق مذهبه وهواه. (¬1) وقد بين الشيخ محمد الصديق الغماري فساد هذا التأويل وأنه لا يليق أن يصدر من مصلح من وجوه: الأول: أنه لا دليل عليه. الثاني: أنه لو صح لكانت الأحاديث حينئذ مبشرة بانتشار روح المسيحية، وذيوع تعاليمها، وهو نقيض ما صرحت به من انتشار الإسلام عند نزوله، وتعميم تعاليم الكتاب والسنة. الثالث: أن الرحمة والمحبة والسلم، هي أصل تعاليم الإسلام، ولا يعرف دين حافظ على هذه المعاني، وحض عليها، وأكد حقها مثل دين الإسلام، ونصوصه في ذلك كثيرة جدا، حتى إنها أوجبت الرحمة للحيوان الأعجم، وتوعدت من قسا عليه أوعذبه باللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وخوطب نبي الإسلام بقوله تعالي: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً ¬

(¬1) انظر (اتجاهات التفسير في العصر الحديث في مصر وسوريا) للدكتور فضل حسن عباس، ص 270.

لِلْعَالَمِينَ (107)} (¬1) وخوطب أهل الإسلام بقوله تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (¬2) فليس معقولا والحالة هذه أن تكني الأحاديث عن انتشار المحبة والرحمة والسلم بنزول عيسى، لأن حصة الإسلام في هذه المعاني أكثر وأثرها فيه أظهر. الرابع: أن أئمة الإسلام وعلماءه من الصحابة وغيرهم، عرفوا مقاصد الشريعة ولبابها، واجتهدوا قدر استطاعتهم، وخلفوا لنا ثروة علمية هائلة لم توجد في دين من الأديان، ولا ظهرت بها أمة من الأمم، ومن المحال شرعا وعادة أن يأتي من الأمة من يفوق الصحابة والتابعين وتابعيهم في فهم الشريعة وأسرارها، أو يساويهم، حتى يقال إن الأحاديث كَنَّت عنه بنزول عيسي، ثم أي علاقة بين فهم شئ وبين نزول شخص! ؟ ولم لم يغير عن هذا الفهم بنزول الخضر مثلا! ؟ . الخامس: أن اشتهار دعوة عيسى بالرحمة والمحبة والسلم إنما أتى في هذه العصور المتأخرة لما اتصل الغرب بالشرق ودرس المستشرقون كتب الإسلام، وصاروا يتهمون الإسلام بأنه دين القسوة، ولأنه انتشر بالسيف، ويفضلون دينهم بأنه دين الرحمة والمحبة والسلم، فلما ترددت في كتبهم ومحاضراتهم هذه المطاعن، وأيدوها بفقرات من أناجيلهم، رسخ في أذهان مسلمة اليوم أن دين عيسى ما يقوله هؤلاء المستشرقون حتى صار اسم عيسى عندهم عنوانا على المعاني المذكورة، من غير أن يرد شئ من ذلك في الدين، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬2) سورة البقرة، الآية: 208.

ومن الجهل القبيح أن تؤل الفاظ الكتاب والسنة بمعان دخيله مستحدثة بعد مئات القرون، نعم أديان الله كلها أتت بالرحمة والمحبة والسلم. لكن دين الإسلام أكثر وأبرز وأظهر، ولم يؤمر عيسى بالجهاد لأنه بعث إلى شعب خاص بدين خاص به، ولم يكلف إبلاغ دينه إلى سائر الناس، وهذا بخلاف الإسلام فإنه لما كان دين العالم كله كان لا بد - بمقتضى تباين استعدادات أفراد الإنسان - أن تقف في طريقة عقول مريضة، ونفوس خبيثة، لا تصفى لمنطق البرهان، ولا تستجيب لدعوة الحق، وكان فرض الجهاد أمرا حتما لا معدل عنه في سبيل إبلاغ الدين إلى بعض العقول وبعض النفوس، والعقلاء متفقون على استساغة الدواء المر لاستئصال شأفة الداء، وقد يقتضي الحال قطع بعض الأعضاء في سبيل سلامة باقيها. السادس: أن دعوى جمود اليهود على ظواهر ألفاظ التوراة دعوى تفتقر إلى دليل، ودون إثباته خرط القتاد، بل يمكننا أن نقول- مطمئنين- عكس ذلك وهو أن اليهود خرجوا على ظواهر ألفاظ التوراة، وتحايلوا في التخلص منها، وذلك كان سبب كفرهم وضلالهم، فقد أخبر الله عنهم أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وذكر أشياء من تحريفاتهم وتحايلاتهم في مواضع من كتابه الكريم. السابع: أن الأحاديث أخبرت أن عيسى يقتل الدجال، ويقاتل الناس على الإسلام، وروح عيسى وسر رسالته وتعاليمه ليس فيها قتل ولا قتال. الثامن: أن النبي عليه الصلاة والسلام، أمرنا أن نبلغ سلامه إلى عيسى عليه الصلاة والسلام حين نزوله، ومحال عقلا تبليغ السلام إلى روح عيسى

وسر رسالته وتعاليمه. التاسع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخبر أنه اجتمع بعيسى عليه السلام ليلة الإسراء، وأخبره أنه نازل ليقتل الدجال، ومن المحال العقلي، أن تكون روح عيسى وسر رسالته وتعاليمه اجتمعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته أنها ستنتشر في آخر الزمان، وتقضي على الخرافات والدجال كما يقول فضيلة المصلح العظيم. العاشر: أن الأحاديث أخبرت أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، واضعا يديه على أجنحة ملكين وأنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، وأن عليه ممصرتين، وأنه يصلى خلف إمام المسلمين، ويقتل الدجال، ويرى المسلمين دمه في حربته ويحج البيت ويعتمر، ويزور القبر النبوي الشريف .. إلخ ويستحيل عقلا أن يقوم شئ من هذه الصفات بروح عيسى وسر رسالته وتعاليمه. الحادي عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح من نطق بالضاد وهو- في فصاحته المنقطعة النظير- غير محتاج إلى استعمال الرموز والألغاز في أحاديثه، بل لا يليق به استعمالها، لأنه مبلغ عن الله، ومبين لمراده، ونحن لا ننكر أن في اللغة والقرآن والسنة كنايات واستعارات تمثيلية، ومجازات عقلية وغيرها، لكن لها حد تقف عنده، دلائل عليها، وقرآءن ترشد إليها، فإذا خرجت عن حدها المقرر لها في كلام العرب، صارت ألغازا وأحاجي تورث الكلام قبحا واختلالا، لا حسنا ورونقا، وأين الدليل في أحاديث نزول عيسى على أنه أريديها غير معناها الصريح؟ .

الثاني عشر: أنه لو صح هذا التأويل، لصح تأويل بقية الأشراط بل سائر السمعيات لأنها متماثلة، فما جاز في بعضها جاز في الجميع، والتفريق تحكم، وحينئذ لا يكفر من أول الملائكة والجن والحشر والنشر والجنة والنار بغير معانيها المعروفة كما فعل الفلاسفة، وكذا لا يكفر البهائية والقاديانية المحرفون للنصوص باسم التأويل، ولا شك أن كفر هؤلاء معلوم قطعا لا يتردد فيه مسلم. (¬1) وإذا كان من عذر للأستاذ الإمام وهو قلة بضاعته في الحديث فإنه لا عذر للشيخ رشيد وهو الضليع بهذا العلم. فكنا نظن لأول وهلة أنه لن يتابع شيخه فيما ذهب اليه، حيث علق على كلامه بقوله بأن ظواهر الأحاديث تخالفه، إلا أنه عاد فقال: إنها مروية بالمعني أي إن كل راو روى بحسب ما فهم، وكان الإنصاف أن يقول: إن صرائح الأحاديث تخالفه، لأن الأحاديث في هذا الباب صريحة لا تقبل التأويل. أما احتمال الرواية بالمعني، الذي أورده الأستاذ رشيد، فكنا نود أن لا يصدر عن مثله، لأنه لا يخطر على بال مسلم فضلا عن أن يكون عالما! وهل يخطر على باله أن واحدا وثلاثين صحابيا، فيهم ستة من حفاظهم المشهورين وهم: أبو هريرة وابن عباس وأنس وجابر وعائشة وأبو سعيد الخدري وفيهم عبدالله بن عمر الذي كان يكتب كل ما سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جده ومزاحه، وفيهم عبد الله بن مسعود الذي كان إذا روى حديثا شك في حفظه، اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، ثم قال: أو مثله أو ¬

(¬1) عن عقيدة أهل الإسلام بتصرف، انظر ص 77.

نحوه أو شبيه به كلهم يتواطأون على رواية الحديث بالمعني من غير أن يبينوا ذلك؟ فأين حفظ حفاظهم؟ وأين كتابة من كان يكتب منهم؟ وأين حرصهم على تأدية اللفظ الذي سمعوه، رجاء حصول النضرة وجزيل الثواب؟ ثم لا يخفى أن نزول عيسى وما يحيط به من الأحداث أمر غيبي، يتوقف على النقل، ولا يدرك بالاستنباط فلا تتأتي روايته بالمعني حسب فهم الراوي، لأنه لا يمكنه أن يدرك باستنباطه أن عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويقتل الدجال بباب لد، ويقاتل الناس على الإسلام، ولا يقبل الجزية إلى آخر ما ذكر من أوصافه، والأحداث الواقعة عند نزوله وبعده، فلولا أنهم سمعوها بصريح العبارة، ما أدركوها بمجرد الإشارة، إلا أن يقال وأخذوا بعضها عن الاسرائيليات، وضموه إلى ما سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذا القول لا يجوز ولا يصح، لأنه ينطوي على اتهام الصحابة بعدم العدالة، أو الغفلة والاختلاط، وذلك باطل، لأن الله عدلهم ورسوله، فهم مبرأون من كل ما يشين - رضي الله عنهم - ثم ما الذي دعاهم إلى رواية هذا الحديث بالمعني؟ أعجزوا عن حفظ ألفاظه؟ مع أنهم حفظوا القرآن وآلاف الأحاديث، أم تركوا فهم المراد إلى ذكاء السامع؟ لكن هذا أمر غيبي نقلي بحت، أم أرادوا تضليلنا عن مراد الرسول؟ وهذ لا يليق بعامي فضلا عمن أثنى عليهم الله ورسوله، ثم إن رواية الحديث بالمعنى على القول بجوازها، لا تدخل في جميع الأحاديث بل بعضها، وهذا مما لا تتأتى فيه. والحاصل أن الشيخ رشيدا لم يرشد في إصلاح موقف شيخه، بل زاده

تورطا وتوريطا فهو على رأي المثل «زاد الطين بلة». (¬1) (¬2) وفي ختام هذا المبحث أقول: إن القارئ لآراء محمد رشيد رضا ليعجب من كيفية تعامله مع السنة النبوية، وكيف أنه يصطنع المشكلات والشبهات والافتراضات والظنون والأوهام والتشكيكات من أجل رد هذا الحديث أو ذاك، ومن ذلك محاولته رد جمله من الأحاديث الصحيحة لا لشيء إلا لاحتمال أنها رويت بالمعنى، وقد نسي أو تناسى أن معظم هذه الأحاديث التي حاول ردها لشبهة الرواية بالمعنى قد رواها جملة من الصحابة وبنفس الألفاظ دون اختلاف فيما بينها، وإن كان هناك خلاف في بعض ألفاظ الأحاديث، فهو خلاف لفظي لا يخرج الحديث عن مراده ومعناه، وهي في بعض الأحاديث كما قلنا لا كلها. ¬

(¬1) المرجع السابق ص 82. (¬2) بتصرف من رسالة الماجستير التي بعنوان «الاتجاه العقدي في تفسير المنار» لاستاذنا الدكتور محمد علي الزغول حفظه الله.

المبحث الخامس رأيه في طلوع الشمس من مغربها والرد عليه

المبحث الخامس رأيه في طلوع الشمس من مغربها والرد عليه مما لا شك فيه أن طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان من أشراط الساعة الكبرى، الثابتة بالكتاب والسنة، وسوف أذكر طرفاً من هذه الأدلة. الأدلة من القرآن: قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)} (¬1). قال ابن جرير الطبري رحمه الله بعد ذكره لأقوال المفسرين في الآية: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ذلك حين تطلع الشمس من مغربها». (¬2) وقال الشوكاني: «فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه، فهو واجب التقديم، محتم الأخذ به». (¬3) ¬

(¬1) الأنعام، الآية: 158. (¬2) «تفسير الطبري» (8/ 103). (¬3) تفسير الشوكاني (2/ 182).

الأدلة من السنة

الأدلة من السنة: والأحاديث الدالة على طلوع الشمس من مغربها كثيرة وسوف أذكر هنا ثمانيةً أحاديث صحيحة تنص على طول الشمس من مغربها في آخر الزمان أغلبها في الصحيحين. 1 - عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن الناس أجمعون، فذلك حيث لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا». (¬1) عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها». (¬2) عن صفوان بن عسال- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله فتح بابا قبل المغرب، عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها». (¬3) ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب طلوع الشمس من مغربها (5/ 2386)، رقم (6141)، صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (1/ 137)، رقم (157). (¬2) صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة (4/ 2113)، رقم (2759). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 240)، والترمذي في سننه في كتاب الدعوات (5/ 546) وقال هذا حديثٌ حسنٌ صحيح، وأخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن (2/ 1353) والطبراني في معجمه الكبير (8/ 67) وقال الألباني حديثٌ حسن «صحيح الجامع» (2/ 442).

عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر ومعاوية رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل». (¬1) عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وذكر منها طلوع الشمس من مغربها». (¬2) عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات»، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوفٍ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم. (¬3) عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً». (¬4) ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 133) وقال أحمد شاكر إسناده صحيح وقال ابن كثير في النهاية «الفتن والملاحم» (1/ 221) إسناده جيد قوي. (¬2) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الزمن الذي لا يقبل فيه التوبة (1/ 138)، رقم (158). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب الآيات التي تكون قبل الساعة (4/ 2225)، رقم (2901). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب ذكر الدجال (4/ 2260)، رقم (2941).

عن أبي ذر- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس». قالوا الله ورسوله أعلم. قال «إن هذه تجرى حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها». فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أتدرون متى ذاكم، ذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا». (¬1) ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب وكان عرشه على الماء (6/ 2700)، رقم (6988)، صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (1/ 138)، رقم (159). يطعن الشيخ رشيد رضا في هذا الحديث حيث يقول «ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب ابن أبي جنادة الذي يعد متنه من أعظم المتون إشكالاً فهو يقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله، أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ قال، قلت لا أدري، قال، إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجده ثم تقوم حتى يقال لها أرجعي، فيوشك يا أباذر أن يقال أرجعي من حيث دخلتِ وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل" "تفسير المنار (8/ 211)، وفي الحقيقة أن الحديث لا إشكال فيه فقد ورد في الكتاب الكريم سجود كل مخلوقات الله له طوعاً وكرهاً، يقول تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} سورة الرعد، آية: 15، والشمس من مخلوقات الله فالحديث بالجملة موافق للآية. «وصحة الحديث على قواعد أهل السنة والجماعة مما لا يناقش فيه، ثم إن هذا السجود للشمس لا ندري كيفيته ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى الذي يسجد له كل من في السماوات والأرض كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} سورة الحج، آية: 18، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} سورة النحل، الآيات: 48 - 50. وقد تكلم العلماء رحمهم الله تعالى عن حديث سجود الشمس تحت العرش وردوا على من أول ذلك، وبينوا أن سجودها تحت العرش سجود حقيقي، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مستقرها تحت العرش" قال: "لا ننكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده وإنما أخبرنا عن غيب فلا نكذب به ولا نكيفه؛ لأن علمنا لا يحيط به .. ثم قال عن سجودها تحت العرش: وفي هذا إخبار عن سجود الشمس تحت العرش فلا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرها والتصرف لما سخرت له، وأما قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} سورة الكهف، آية: 86، فهو نهاية مدرك البصر إياها حالة الغروب ومصيرها تحت العرش للسجود، وإنما هو بعد الغروب»، قال القاضي عياض عقب شرحه للحديث السابق: «وهو على ظاهره عند أهل الفقه والحديث والمتكلمين من أهل السنة خلافا لمن تأوله من المبتدعة والباطنية، وهو أحد أشراط الساعة العظام المنتظرة»، وقال الإمام النووي رحمه الله: «وأما سجود الشمس فهو بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى»، وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: يسجد لعظمته تعالى كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء مما يختص به، وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري: «إنما ينكر ذلك من يرتاب في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأما من لا يشك في صدقه، ويعتقد أنه مبلغ عن ربه كما أخبر الله عنه في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}؛ فلا ينكر ذلك ولا يرتاب فيه، فإن قيل: إن الشمس لا تزال طالعة على الأرض، ولكنها تطلع على جهة منها، وتغرب عن الجهة الأخرى؛ فأين يكون مستقرها الذي إذا انتهت إليه سجدت واستأذنت في الرجوع من المشرق؟ ! فالجواب أن يقال: حسب المسلم أن يؤمن بما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعتقد أنه هو الحق، ولا يتكلف ما لا علم له به من تعيين الموضع الذي تسجد فيه الشمس، بل يكل علم ذلك إلى الله تعالى. وقد روى: الإمام أحمد، والشيخان؛ "عن أبي ذر- رضي الله عنه -؛ قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}؛ قال: «مستقرها تحت العرش». فهذا المستقر الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا انتهت إليه الشمس؛ سجدت، واستأذنت في الرجوع من المشرق، فيؤذن لها، فإذا كان في آخر الزمان؛ سجدت كما كانت تسجد، فلم يقبل منها، واستأذنت في الرجوع من المشرق؛ فلم يؤذن لها؛ يقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها. قال ابن كثير: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: {والشمس تجري لمستقر لها}؛ أي: ليست مستقرة؛ فعلى هذا تسجد وهي سائرة".

تواتر الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها

تواتر الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها: صرح كثير من أهل العلم بتواتر الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها، فقد ذكر الأبي في شرحه على مسلم قول ابن رشد: «الأشراط عشرة المتواتر منها خمسة، الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها». (¬1) وقال الكتاني في كتابه «نظم المتناثر في الحديث المتواتر»: «طلوع الشمس من مغربها ورد عن أبي سعيد وأبي هريرة، وابن عمرو، وحذيفة، وأبي ذر، وابن عباس، وعبد الله ابن أبي أوفى، وصفوان بن عسال، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وأنس، وأبي أمامه، وحذيفة ابن أسيد، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم، وخروج الدابة ورد عن أبي هريرة وابن عمرو، وأنس وحذيفة ابن أسيد، وحذيفة بن اليمان، وأبي أمامه، وسلمان ¬

(¬1) «نظم المتناثر في الحديث المتواتر» للكتاني (1/ 229).

التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها

وغيرهم، وخروج يأجوج ومأجوج عن ابن مسعود وحذيفة والنواس بن سمعان وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم، وتواتر هذه الثلاثة تقدم في كلام الأبي في شرح مسلم والله سبحانه وتعالى أعلم». (¬1) وقالا بن كثير بعدما ذكر الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها: «فهذه الأحاديث المتواترة مع الآية الكريمة دليل على أن من أحدث إيماناً أو توبة بعد طلوع الشمس من مغربها لا تقبل منه». (¬2) ولقد ورد ذكر طلوع الشمس من مغربها في الصحيحين فقط أكثر من ثمانية عشر مرة من طرق مختلفة تصل حد التواتر. التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها: دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من مغربها، فمن ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}. (¬3) قال الطبري بعد ذكره لأقوال المفسرين في هذه الآية: «وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذلك حيث تطلع الشمس من مغربها». (¬4) ¬

(¬1) نفس المصدر السابق، (1/ 231). (¬2) الفتن والملاحم لابن كثير (1/ 144). (¬3) الأنعام 158. (¬4) تفسير الطبري (8/ 103).

قلت وهو الصحيح وهو الذي عليه أكثر المفسرين، وقد رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبمثله قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -. فإذا طلعت الشمس من مغربها، لم تقبل التوبة بعد ذلك، قال ابن كثير في قوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}: «أي إذ أنشأ الكافر إيمانا يؤمئذ إذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك؛ فإن كان مصلحا في عمله؛ فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحا؛ فأحدث توبة حينئذ؛ لم يقبل منه توبته؛ كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، وعليه يحمل قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}؛ أي: ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك». (¬1) وقال القرطبي رحمه الله: «قال العلماء: وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحالة لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت». (¬2) ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل جعل بالمغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من قبله، وذلك قول الله تبارك وتعالى «يوم يأتي بعضُ آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن ¬

(¬1) تفسير بن كثير (3/ 371). (¬2) تفسير القرطبي (7/ 146)، «التذكرة» صـ 706.

رأي رشيد رضا في طلوع الشمس من مغربها

آمنت من قبل .. ». (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس أمنوا أجمعون فذلك حيث لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً». (¬2) وغيرها من الأحاديث الكثيرة الأخرى التي ذكرتها في أدلة طلوع الشمس من مغربها من السنة، والتي فيها إشارة صريحة إلى عدم قبول التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها. رأي رشيد رضا في طلوع الشمس من مغربها: رأي رشيد رضا في الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان لا يختلف عن رأيه في الأحاديث الواردة في المسيح الدجال والمهدي ونزول عيسى بن مريم عليه السلام. وذلك لأن المنهج الذي يتعامل به مع هذه الأحاديث منهج واحد، وهو رفضه لأي شكل من أشكال الخارقة أو مخالفة المألوف، ومحاولة رد تلك الأحاديث الصحيحة بإثاره الاستشكالات والتساؤلات العقلية حولها تمهيداً لردها والتشكيك في صحتها. ¬

(¬1) رواه الترمذي في باب ما جاء في فضل التوبة والاستغفار (9/ 517)، قال الترمذي «هذا حديثٌ حسن صحيح»، وقال ابن كثير «صححه النسائي» «تفسير بن كثير» (3/ 369). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الرفاق - باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان صحيح مسلم - كتاب الإيمان باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.

حيث يقول عن الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها: «وأقوى الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها، ما رواه البخاري في كتاب الرقاق عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين «لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً .. ». وأخرج الترمذي وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة أيضا، وقد رفعه: «ثلاثٌ إذا خرجت لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن أمنت من قبل، طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض». (¬1) وهو مشكل مخالف للأحاديث الأخرى الواردة في نزول عيسى بعد الدجال وإيمان الناس به، والمشكلات في الأحاديث الواردة في أشراط الساعة كثيرة، أهم أسبابها فيما صحت أسانيده، واضطربت المتون، وتعارضت أو أشكلت من وجوه أخرى، وأن هذه الأحاديث رويت بالمعنى، فاختلف التعبير باختلاف الأفهام، على أنهم اختلفوا في ترتيب هذه الآيات وما استشكل أن علة عدم قبول الإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها لا تنطبق على من رآها أو رويت له بالتواتر». ثم قال: «هذا وإن أبا هريرة- رضي الله عنه -، لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار وأمثاله، فتكون مرسلة». (¬2) ¬

(¬1) تفسير المنار (8/ 211 - 221). (¬2) نفس المصدر.

الرد عليه

الرد عليه: في الحقيقة أن الأحاديث الواردة في إثبات طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، أحاديث صحيحة وصريحة وغالبها في الصحيحين وهي واضحة المعنى بحيث لا تحتمل التأويل أو التشكيك، فلهذا لم يستطع الشيخ رشيد رضا إثارة الاستشكالات والتساؤلات حولها كما أثار الاستشكالات والتساؤلات الكثيرة حول أحاديث المسيح الدجال وأحاديث المهدي. فلهذا وذاك ذهب للتشكيك بصحتها بدعوى الاختلاف في الترتيب حيث يقول عن الرواة «إنهم اختلفوا في ترتيب هذه الآيات». (¬1) وفي الحقيقة ليس هناك إشكال في مسألة ترتيب هذه الآيات، وإنما الإشكال فعلا هو عد رشيد رضا لما هو غير المشكل مشكلاً. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب». (¬2) قال البرزنجي في الإشاعة: وهذا جمع حسن رحمه الله. (¬3) ¬

(¬1) تفسير المنار (8/ 210). (¬2) فتح الباري (11/ 353). (¬3) الإشاعة صـ 350.

أما بالنسبة لقوله بأنها أحاديث رويت بالمعنى فهي شبهة سبق وأن ذكرها وكررها أكثر من مرة، فقد انبرى للرد على شبهته هذه الباحث تامر متولي في رسالته «منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة»، حيث أثبت أنها شبهة لا أساس لها من الصحة حيث يقول: «وأريد هنا أن أجيب وباختصار عن هذه الشبهة فأقول: أولا: لقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إلى نشر حديثه وحثهم على روايته بلفظه فقال: «نضر الله أمرءا سمع مقالتي فحفظها فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع» (¬1) ولا ريب أن أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم كانوا يعظمون أمره ويمتثلونه، ولقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل علمه دعاءً فقال فيه: «وبنبيك الذي أرسلت» فقال الرجل: «وبرسولك الذي أرسلت» فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدره وقال له «وبنبيك الذي أرسلت» (¬2) وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك وعملوا به. ونأخذ أمثلة على حرص هؤلاء ومن بعدهم على رواية اللفظ: أولا الصحابة: المثال الأول: ابن عباس- رضي الله عنه - حبر الأمة- كان من المكثرين (¬3) وكان ¬

(¬1) هذا حديث متواتر وقد أثبت تواتره فضيلة الشيخ العلامة: عبد المحسن في دراسة وافية، انظر له: دراسة حديث «نصر الله امرءا سمع مقالتي ... » (¬2) صحيح البخاري: الصحيح، كتاب الوضوء، باب: فضل من بات على وضوء (1/ 97)، رقم (244)، والرجل هو: البراء بن عازب رضي الله عنه رواي الحديث. (¬3) انظر: أحمد شاكر: الباعث الحثيث (ص: 187).

يكتب الحديث، وقال لطلابه: «قيدوا العلم بالكتابة» (¬1)، وكان يحرص على اللفظ فإذا روى حديثا وشك في ألفاظه بين ذلك، فقد روى حديث وفد عبد القيس وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من الوفد؟ أو من القوم؟ وقال: مرحبا بالقوم أو بالوفد» (¬2) المثال الثاني: أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه - من المكثرين أيضا (¬3)، وكان يحرص على اللفظ، فقد سمع أبا هريرة يروي حديثا فيه: «ذلك لك ومثله معه» فقال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال أبو هريرة: ما حفظت إلا قوله: «ذلك لك ومثله معه» قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «ذلك لك وعشرة أمثاله» (¬4). ولا تعارض بين الروايتين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالهما وروى كل واحد منهما ما سمعه (¬5). وعنه أيضا في حديث الشفاعة: «ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) ... » (¬6). المثال الثالث: ابن مسعود: المقرئ الكبير، كان يحرص على اللفظ كما كان يكتب الحديث (¬7)، فقد روى حديث آخر أهل النار خروجا، وفيه: ¬

(¬1) جامع بيان العلم لابن عبد البر (ص: 72). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله (1/ 46)، رقم (17). (¬3) انظرا: أحمد شاكر: الباعث (ص: 187) (¬4) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب معرفة طريق الرؤية (1/ 167)، رقم (183). (¬5) نفس المصدر السابق. (¬6) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب إثبات الشفاعة (1/ 172)، رقم (185). (¬7) انظر: مصطفي الأعظمي: دراسات في الحديث النبوي (1/ 125 - 126).

«فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها» أو: «إن لك عشرة أمثال الدنيا» (¬1)، وفيه أيضا: «قال فيقول: أتسخر بي (أو: أتضحك بي) وأنت الملك» (¬2). المثال الرابع: أبو هريرة -- رضي الله عنه - محدث الإسلام، من المكثرين (¬3)، كان يحرص على أداء اللفظ وإن شك في لفظين رواهما. ففي حديث شعب الإيمان روى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة ... » (¬4)، وقد سبق تمسكه بما سمعه في حديث الشفاعة، بينما تمسك أبو سعيد بما سمعه أيضا. المثال الخامس: عبد الله بن عمر- رضي الله عنه - من المكثرين، وكان أشد الناس حرصا على لفظ الحديث، وكان يغضب غضبا شديدا إذا تغير لفظ الحديث، ونأخذ له روايتين: الأولي: سمع ابن عمر عبيد بن عمير (¬5) يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المنافقين كمثل الشاة الرابضة (¬6) بين الغنمين»، فقال ابن عمر: «ويلكم لا ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب أخر أهل النار خروجاً (1/ 173)، رقم (186). (¬2) نفس المصدر السابق. (¬3) انظر: أحمد شاكر: الباعث (ص: 187). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب شعب الإيمان (1/ 63)، رقم (35). (¬5) هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله مسلم-، وعده غير في كبار التابعين، وكان قاضي أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر. التقريب (ص: 651). (¬6) الرابضة: ربوض الغنم والبقر مثل بروك الإبل وبابه جلس. مختار الصحاح (ص: 97، مادة ربض). انظر: ابن الأثير: النهاية (2/ 185) ط. المكتبة العلمية، بيروت.

تكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة (¬1) بين الغنمين» (¬2). فقد سمى ابن عمر الرواية بالمعني كذبا. الثانية: روى ابن عمر حديث أركان الإسلام فقال: «بني الإسلام على خمس: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج» فقال رجل مستفهما: الحج وصيام رمضان؟ قال: «لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬3). فقد رفض ابن عمر مجرد التقديم والتأخير في الألفاظ. المثال السادس: أنس بن مالك -- رضي الله عنه - من المكثرين (¬4)، وكان يتقي مع ذلك الحديث عن النبي لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تعمد على كذبا فليتبوأ مقعده من النار» (¬5)، وكان إذ روى حرص على اللفظ، فقد روى حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه (أو قال: لجاره) ما يحب لنفسه»، فقد تردد أنس في اللفظ فبين ذلك من حرصه على أداء اللفظ كما سمعه (¬6). المثال السابع: أبو بكرة -- رضي الله عنه - روى حديث الكبائر فقال: «كنا عند ¬

(¬1) العائرة: أي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع (انظر: ابن الأثير النهاية 3/ 328). (¬2) انظر: أحمد: المسند (8/ 16) ت: أحمد شاكر، وصحح إسناده. ط. دار المعارف. (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب معرف الإيمان الإسلام (1/ 45)، رقم (16). (¬4) انظر: أحمد شاكر: الباعث الحثيث (ص: 187). (¬5) صحيح مسلم - المقدمة - باب التحذير من الكذب على رسول الله (1/ 10)، رقم (2). (¬6) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه (1/ 67)، رقم (45).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا) الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور (أو: وقول الزور) ... » (¬1)، وذلك أيضا من الحرص على أداء ما سمع، وقد رواه أنس بلا تردد (¬2). وقد انتقل هذا المنهج للتابعين فقد تبعوا فيه الصحابة، ولنضرب لذلك ثلاثة أمثلة: المثال الأول: أبو حازم (¬3) عن سهل بن سعد، فقد روى عنه أبو حازم مرفوعا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا، أو سبعمائة ألف ... » قال مسلم: «لا يدري أبو حازم أيهما قال» (¬4). المثال الثاني: أبو الزبير (¬5) عن جابر، فقد قال ابن جريج (¬6): أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المُهل؟ فقال: سمعت (ثم انتهي، فقال: أراه يعني) النبي - صلى الله عليه وسلم - ... » (¬7)، فقد احتاط أبو الزبير للسماع. ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها (1/ 91)، رقم (87). (¬2) نفس المصدر السابق. (¬3) هو: سلمة بن دينار، روى عن سهل بن سعد وأبي أمامة، إمام قدوة. السير (6/ 96). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (1/ 95)، رقم (97). (¬5) هو: محمد بن مسلم بن تدرس، إمام حافظ، مولى حكيم بن حزام، روى عن جابر، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وغيرهم. السير (5/ 380). (¬6) هو: عبد الملك بن عبد العزيز، الإمام العلامة الحافظ شيخ الحرم، صاحب التصانيف وأول من دون العلم بمكة، حدث عن عطاء بن أبي رباح فأكثر عنه، ونافع مولى ابن عمر. السير (6/ 325). (¬7) صحيح مسلم - كتاب الحج - باب مواقيت الحج والعمرة (2/ 840)، رقم (1183).

المثال الثالث: الأسود (¬1) عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كان إذا قام من الليل فدخل إلى أهله فألم بهم ثم اضطجع، ولم تقل: نام. فإذا جاء المؤذن وثب، ولم تقل: قام. ثم أفاض على نفسه، ولم تقل: اغتسل» (¬2). ويشهد الأعمش شهادة عامة لهذا الجيل فيقول: «كان هذا العلم عند أقوام لأن يخر من السماء أحب إليهم من أن يزيد فيه واوآ أو ألفآ أو دالا» (¬3). فإذا وصلنا إلى عصر المؤلفين نجد مالك بن أنس رحمة الله يحترز من تبديل لفظ بآخر كالذي والتي ونحوهما (¬4) وكذلك أحمد يقول: حدثنا يزيد بن هارون (¬5) وعباد بن عباد المهلبي (¬6) قالا: أخبرنا هشام، قال عباد ابن زياد عن أبيه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن على مرفوعا: «ما من مسلم يصاب بمصيبة وإن طال عهدها، قال عباد: «وإن قدم عهدها» (¬7)، فقد أشار أحمد إلى اختلاف شيخيه في ملاحظتين أحدهما في الإسناد والأخرى في المتن وذكر لفظهما. ¬

(¬1) هو: ابن يزيد بن قيس النخعي، تابعي مخضرم، إمام قدوة، روى عن معاذ بن جبل وبلال وابن مسعود وعائشة وحذيفة وغيرهم. السير (4/ 50). (¬2) الخطيب: الكفاية (ص: 174). (¬3) الخطيب: الكفاية (ص: 178). (¬4) نفس المصدر والصفحة. (¬5) هو: ابن زادي، إمام قدوة، شيخ الإسلام، كان رأساً في العلم. السير (9/ 358). (¬6) هو: ابن حبيب، إمام حافظ ثقة، حدث عن هشام بن عروة وجماعة. السير (8/ 294). (¬7) أحمد: المسند (1/ 20) ط. الميمنية (مصورة المكتب الإسلامي).

ومسلم رحمة الله يقول: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (¬1) حدثنا أبو معاوية (¬2) ووكيع (¬3) ح وحدثنا ابن نمير (¬4)، حدثنا أبي (¬5) جميعا عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة (¬6)، عن مسروق (¬7) عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية» ثم قال مسلم: هذا حديث يحيى، وأما ابن نمير وأبو بكر فقالا: «وشق ودعا» بغير ألف» (¬8)، فأنت ترى مسلما أيضا يحترز من الألف في الرواية، وهكذا صنع مسلم في كل كتابه، يبين اختلاف الرواة في الألفاظ وفي المتون والأسانيد. وهذا أبو داود (¬9) رحمه الله، يقول: «وقد روى حديثا عن شيخين: ¬

(¬1) هو عبد الله بن محمد الكوفي - واسطي الأصيل- ثقة حافظ مصنف (ابن حجر: تقريب التهذيب، ص: 540) ط. دار العاصمة، الأولي 1416 هـ. (¬2) هو محمد بن حازم - بمعجمتين - الضرير الكوفي، ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش (تقريب، ص: 840). (¬3) هو ابن الجراح أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد من كبار التاسعة (تقريب، 1037). (¬4) هو محمد بن عبد الله بن نمير: ثقة حافظ فاضل من العاشرة (تقريب 866). (¬5) هو عبد الله بن نمير الكوفي أبو هشام ثقة حافظ من أهل السنة من كبار التاسعة (تقريب 553). (¬6) هو الهمداني الكوفي ثقة من الثالثة، روى له الجماعة (544 - 545). (¬7) هو ابن الأجدع بن مالك، ثقة فقيه عابد مخضرم، من الثانية (تقريب: 935). (¬8) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب (1/ 99)، رقم (103). (¬9) هو السجستاني، صاحب السنن: سليمان بن الأشعث من كبار العلماء (تقريب: 404).

عمرو بن مرزوق (¬1)، ومحمد بن المثنى (¬2)، فيبين اختلاف ألفاظهم، ولفظ الحديث: «ولولا أن يقول الناس» فقال: قال ابن المثني: أن يقولوا. وبلفظ: «لقد أراك الله خيرا» فقال: «ولم يقل عمرو: لقد» (¬3). ثانيا: أن من كان يروي بالمعني منهم - كان يقرن ذلك بما يدل عليه - إذا كان شاكا في اللفظ - كأن يقول: نحوا من ذا قريبا من ذا (¬4)، احتياطا في الأداء. فهذا ما كان من الصحابة والتابعين عند رواية الحديث النبوي في الرواية بالمعني وفي غير المتعبد بلفظه، ويتبعون ذلك بقول يفيد احتياطهم في روايته وينبهون أثناء سياق الحديث على موضع السهو أو التردد، بما لا تجده لأمة من الأمم في أي عصر من العصور، ويتضح ذلك بأدنى نظر في أي من كتب الرواية. وبناء على ذلك فإن كل ما كتبه المستشرقون - في الكتابة والرواية بالمعنى - وكذا من تبعهم من المسلمين - يصبح لا قيمة له. ثالثا: أن اختلاف ألفاظ الحديث التي تتوارد على معنى واحد لا يرجع إلى الرواية بالمعني وحدها، بل كان لمجالسه - صلى الله عليه وسلم - المتعددة بتعدد الأزمنة والأمكنة والحوادث، والسامعين والمستفتين والمتخاصمين والمتغاضبين، والوافدين والمبعوثين، أثر في ذلك كبير، فكانت ألفاظه - صلى الله عليه وسلم - تختلف في ¬

(¬1) هو الباهلي، أبو عثمان البصري ثقة فاضل من صغار التاسعة (تقريب: 745). (¬2) هو العنزي، أبو موسى ثقة ثبت من العاشرة (تقريب: 892). (¬3) سنن أبو داود، كتاب الصلاة، أبواب الأذان، باب كيف الأذان. (¬4) انظر: أحمد: المسند (5/ 245) ت: أحمد شاكر، والخطيب: الكفاية (ص: 205).

ذلك، إيجازا وإطنابا، ووضوحا وخفاء، وتقديما وتأخيرا، وزيادة ونقصا، بحسب ما يقتضيه الحال ويدعو إليه المقام (¬1). رابعا: وإذا أردنا أن نتبين حقيقة الأمر وننظر في الأمثلة التي ضربها هؤلاء لنا جدلا، فسنجد العجب، إن هذه الأمثلة هي الأدلة على الاختلاف الناتج عن الرواية بالمعني، والذي حدا بهم إلى رفض السنة، وسأعتمد على أبي رية فإنه ذكر أمثلة كثيرة لذلك (¬2). المثال الأول: وهو حديث رواه مسلم: جاء رجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي آخر الحديث يذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أفلح إن صدق». وفي رواية: «أفلح وأبيه إن صدق»، وفي ثالثة: «دخل الجنة وأبيه إن صدق». هذا هو حجم الاختلاف الذي أقاموا عليه الدنيا: «أفلح إن صدق» «أفلح وأبيه إن صدق» و «دخل الجنة وأبيه إن صدق». (¬3) ¬

(¬1) انظر: أبو زهو: الحديث والمحدثون (ص: 207)، ط. مطبعة مصر، الأولي، 1378 هـ وقد خصص أبو زهو فصلا للرد على دعوى الشيخ رشيد، انظر له: نفس المصدر (ص: 220 - 242) وكذا أبو شهبة، انظر له: دفاع عن السنة (ص: 195). (¬2) صاحب «كتاب أضواء على السنة المحمدية»، والذي ملئه بالطعن بالسنة النبوية تحت ذريعة البحث العلمي، وقد كان كثير النقل والاستشهاد بأقوال رشيد رضا في كتابه، بل إنه تلقف شبهة الرواية بالمعنى من الشيخ رشيد رضا وزاد عليها. وقد تولى الرد على كتابه الشيخ محمد أبو شهبه في كتاب أسماه «دفاع عن السنة» وكذلك العلامة المعلمي اليماني في كتاب أسماه «الأنوار الكاشفة بما في كتاب، أضواء على السنة، من الزلل والتضليل والمجازفة». (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (1/ 40)، رقم (11).

المثال الثاني (¬1): حديث الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدم رجل بقوله: يارسول الله: أنكحنيها ولم يكن معه من المهر غير بعض القرآن، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «أنكحتكها بما معك من القرآن» وفي رواية: «زوجتكما بما معك من القرآن»، وفي رواية: «زوجتكها على ما معك»، وفي رابعة: «قد ملكتكها بما معك» (¬2). هذا الاختلاف: زوجتكها، ملكتكها، أنكحتكها، بما معك على ما معك .. ؟ ! . لقد تأسف هؤلاء على أن السنة رويت بالمعني فأدت الرواية إلى هذا الاختلاف الشنيع، ولم ترو باللفظ كما روي القرآن بلفظه، كما أنها لم تكتب كما كتب، هذا ما يقولونه (¬3)، ولكن القرآن أيضا وقع فيه مثل ما نقموه على السنة، فمتى جمع القرآن؟ (¬4) وماذا يقولون في اختلاف القراءات العشر المروية، بل إن القراءات أكثر من عشر بكثير (¬5). ما قولهم في قراءة: (فتثبتوا) بدلا من (فتبينوا)، و (ننسأها) بدلا من (ننسها)، وقراءة (لا تقتلوهم) ¬

(¬1) انظر: أبو ريه: أضواء (ص: 91). (¬2) صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب إذا كان الولي هو الخاطب (5/ 1972)، رقم (4839)، وسنن ابن ماجه - كتاب النكاح - باب صداق النساء. (¬3) انظر: رشيد رضا: مجلة المنار (10/ 766) وأبو ريه: أضواء (ص: 20، 76). (¬4) لم يجمع القرآن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مصحف واحد، وأول جمع بهذا المعني كان في عهد الصديق، ثم الجمع الأكبر في عهد عثمان رضي الله عنهم، انظر: ابن أبي داود: المصاحف ط. مؤسسة قرطبة، مصر. (ص: 5) وما بعدها، ود. لبيب السعيد: المصحف المرتل (ص: 32) وما بعدها، ط. دار المعارف، بمصر. (¬5) انظر: ابن الجزري: النشر في القراءات العشر (1/ 88) وما بعدها ط. مكتبة القاهرة بمصر.

و (لاتقاتلوهم)، و (إثم كبير) و (إثم كثير)، (ولولا دفع الله) (ولولا دفاع الله)، و (وسارعوا) مع القراءة من دون الواو، وقراءة (لامستم) بالألف والقراءة بدونها، وقراءة (هل يستطيع ربك) و (هل تسطيع ربك)، و (أنا اخترتك) و (أنا اخترناك)، إلي غير ذلك من أوجه الخلاف في القراءة، هل يدل ذلك على الرواية بالمعني وعلى الاختلاف، وهل يقولون في القرآن مثل ما قالوه في السنة؟ (¬1). أما بالنسبة لقوله: «بأن أبا هريرة لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ». فهو قولٌ مردودٌ عليه، وذلك لأن الإرسال في حديث الصحابي ليس بعلة، فالصحيح المشهور والذي قطع به الجمهور أن حكم مرسل الصحابي صحيحٌ محتج به، لأن رواية الصحابة عن التابعين نادرة، وإذا رووا عنهم بينوها، فإذا لم يبينوا وقالوا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالأصل عندهم أنهم سمعوها من صحابي آخر، وحذف الصحابي لا يضر. (¬2) ¬

(¬1) «منهج محمد رشيد رضا في العقيدة» تامر متولي (146 - 154). (¬2) «تيسير مصطلح الحديث» الدكتور محمود الطحان، صـ 74.

الفصل الرابع الآثار الفكرية لآراء محمد رشيد رضا

الفصل الرابع الآثار الفكرية لآراء محمد رشيد رضا ويتضمن المباحث التالية: المبحث الأول: فتح باب الطعن في السنة النبوية. المبحث الثاني: فتح باب الطعن في الصحيحين. المبحث الثالث: تشكيك المسلمين في عقائدهم. المبحث الرابع: إحياء تراث المعتزلة. المبحث الخامس: إيجاد نوع من الجرأة على الثوابت الإسلامية. المبحث السادس: خدمة أغراض المستشرقين.

المبحث الأول فتح باب الطعن في السنه النبوية

المبحث الأول فتح باب الطعن في السنه النبوية مما لاشك فيه ولا ريب أن من أعظم وأسوأ الآثار الفكرية المترتبة على إنكار الشيخ محمد رشيد رضا للأحاديث الواردة الصحيحة الصريحة المتواترة في أشراط الساعة الكبرى، وطعنه في صحتها، وردها بدعوى وجود التعارض والتناقض فيما بينها، تحت ذريعة البحث العلمي، وتصفية العقيدة والسنة النبوية مما علق بها من الخرافات والإسرائيليات. هو فتحه باب الطعن في السنة النبوية على مصراعيه، والذي ولج منه بعده كل مبغض للسنة النبوية من أصحاب الأهواء من أعداء السنة، وأصبحت العمدة في طعونهم وشبهاتهم هي أقوال وآراء رشيد رضا التي كتبها حول السنة النبوية. وذلك أن الشيخ رشيد رضا كان دائم التشكيك في السنة النبوية، بإثارته للتساؤلات والاستشكالات حول جملة من الأحاديث والتي يبدأ معها بإثارة بعض الأسئلة والشبهات حولها ومن ثم إنكارها جملةً وتفصيلاً حتى ولو كانت في الصحيحين، بل حتى ولو كانت متواترة، كأحاديث المهدي ونزول عيسى بن مريم والمسيح الدجال وطلوع الشمس من مغربها.

وإنك لتستغرب إن قلت لك أن الشيخ محمد رشيد رضا من المشجعين للكتابات التي تثير الشبهات والشكوك حوله السنة النبوية وتشكك في صحتها، ولا تستعجل علي بالحكم. فإليك الدليل، فقد نشر الشيخ محمد رشيد رضا مقالا للدكتور توفيق صدقي بعنوان «الإسلام هو القرآن وحده» يطعن فيه بحجية السنة النبوية، وقد نشره في عددين من مجلته المنار السابع والثاني عشر من السنة التاسعة. حيث يزعم في مقاله أن القرآن قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكل حكم من أحكامه، وأنه بينه وفصله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر كالسنة وإلا كان الكتاب مفرطاً فيه ولما كان تبينا لكل شيء. ثم بعد ذلك ذهب ليلحد في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}. (¬1) فيزعم أن الله تكفل بحفظ القرآن وحده دون السنة ولو كانت دليلاً وحجة كالقرآن لتكفل بحفظها؟ ! ومع هذا كله يقوم الشيخ محمد رشيد رضا بنشر مقاله: «الإسلام هو القرآن وحده» في مجلته المنار بدعوى البحث العلمي، فتعساً لهذا البحث القائم على الطعن في السنة وإنكار حجيتها. ومن بعد الدكتور توفيق صدقي، جاء الدكتور محمد حسين هيكل، وألف كتاباً سماه «حياة محمد»، ينكر فيه معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، ويطعن في السنة ويشككك في صحتها وفي صدق الأحاديث التي انطوت عليها بصورة ¬

(¬1) الحجر، الآية: 9

قطعية، ويقدم الكتاب الشيخ محمد مصطفى المراغي، ويقرظه السيد رشيد رضا بل ويدافع عنه في مجلته المنار دفاعاً مستميتاً! ! ومن بعد الدكتور محمد حسين هيكل، جاء المدعو محمود أبو ريه، والذي تأثر بآراء رشيد رضا في السنة النبوية، فأصدر كتاباً سماه «أضواء على السنة المحمدية أو دفاع عن الحديث»، ملأه من أوله إلى آخره بالطعن في السنة النبوية وإنكار حجيتها مع إلقاء أفظع السباب والشتائم على رواتها وناقليها لاسيما على ناقلها الأول أبي هريرة- رضي الله عنه -، ثم يزعم بعد هذا أنه يدافع عن السنة النبوية. وإذا ما قال له قائل كيف تنكر حجية السنة وأنت تستدل على ما ذهبت إليه بأحاديث منها؟ أجاب: «أن الأحاديث التي أوردها في سياق كلامي للاستدلال بها على ما أريد في كتابي إنما أسوقها لكي نقنع من لا يقنع إلا بها، على اعتبار أنها عنده من المسلمات التي يصدقها ولا يماري فيها، ويشبه أسلوبه هذا باحتجاج المسلم على النصراني بما في الإنجيل وهو في نفسه غير مؤمن بما يحتج به أو عكس ذلك؟ ! (¬1) وحينما عاب عليه طه حسين كثرة نقله عن رشيد رضا أجاب بأنه لم يصنع ذلك «عفواً أو فقراً من الأدلة». وإنما كان يقصد من ذلك أموراً مهمة منها «أن هذا السيد يعتبر في هذا العصر من كبار أئمة الفقهاء المجتهدين عند أهل السنة الذين يعتد برأيهم .... الخ». (¬2) ¬

(¬1) أضواء على السنة المحمدية: محمود أبو ريه ص 33. (¬2) أضواء على السنة المحمدية 34.

«وأنه بلا منازع شيخ محدثي أهل السنة في عصرنا بحيث يعلم من أمر الأحاديث التي حملتها الكتب المشهورة لدى الجمهور ويدرك ما اعتراها من فعل الرواة وغير ذلك مما يتصل بكتابي ما لم يعلم مثله سواه». (¬1) «على أنه فوق ذلك ورث علم الأستاذ الإمام محمد عبده، وناهيك به علماً وفضلاً بحيث لا يختلف اثنان في أنه من كبار أئمة الدين المجتهدين، فما يقوله السيد رشيد إنما أعتبره كأنه صادر عن أستاذة الإمام، وذلك فيما أرى أنه من منهج الأستاذ الإمام وأسلوبه في النظر إلى الدين». (¬2) ولا تعجب ولا تستغرب إن علمت أن محمود أبو ريه قد اعتمد بشكل أساسي في طعوناته بالسنة النبوية، بآراء وأقوال رشيد رضا، فكان كثيراً ما يسوق نصوصه ويستشهد بها في التقليل من شأن حجية السنة، أو التجريح بصحابي جليل. وكانت هذه النقول تطول حتى تبلغ صفحات من مؤلفات الشيخ رشيد، بل وصل الأمر به إلى أن عقد فصلا كاملاً بعنوان «المنافقون من الصحابة» لم يكتب فيه كلمة واحدة، بل كان عبارة عن نقل عبارات رشيد رضا مع عزوها إلى صفحاتها. وفي كل مرة ينقل فيها عن رشيد رضا يسبق اسمه بعبارات المديح والثناء كالمحدث والفقيه والمحدث الكبير وشيخ المحدثين. فلقد قلد محمود أبو ريه رشيد رضا في كل آرائه وأقواله في السنة النبوية، ¬

(¬1) نفس المصدر 35. (¬2) نفس المصدر والصفحة.

حتى في تقسيمها إلى سنة عملية وسنة قولية (¬1)، وفي شبهات هذا التقسيم وفي الطعن في الصحابة، وزاد عليه طعنه في أبي هريرة وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما، وطعن في الأحاديث التي طعن فيها وزاد عليها، ونقل كلام رشيد رضا في الأحاديث الواردة في أشراط الساعة ثم قال «إنه نقل ذلك ليسحب هذا البحث على السنة كلها لا أحاديث أشراط الساعة فحسب». (¬2) ولقد تولى الرد على كتاب هذا الضال المنحرف الشيخ محمد أبو شهبه في كتاب أسماه «دفاع عن السنة» والذي عقد فيه فصلاً كاملاً أيضاً للرد على بعض دعاوى وشبه رشيد رضا تجاه السنة. وكذلك رد عليه الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في كتاب أسماه «الأنوار الكاشفة بما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة». وممن تأثر بآراء رشيد رضا تجاه السنة النبوية وبمدرسة المنار التي تعتبر منارة لأصحاب المدرسة العقلية الحديثة أيضا أحمد أمين صاحب كتب «فجر الإسلام، وضحاه وظهره». ¬

(¬1) يقسم رشيد رضا السنة النبوية من حيث حجيتها إلى قسمين: القسم الأول: يطلق عليه السنة النبوية العملية ويعتبره دين عام لكل زمان ومكان وتعتبر من الدين ويجب العمل بها. القسم الثاني: يطلق عليه السنة القولية، ويعتبره ليس ديناً عاماً كالأولى وهي صالحة عنده للاهتداء لا للاحتجاج، للاستزادة في هذه المسألة انظر منهج الشيخ رشيد في العقيدة لتامر متولى صـ 136 - صـ 161. (¬2) أضواء على السنة المحمدية، 20 - 40، 164 - 181 - 258.

تحدث في فجر الإسلام عن الحديث النبوي فمزج السم بالدسم وخلط الحق بالباطل كما يقول الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله. (¬1) حيث زعم أن هناك أموراً كثيرة تضعف من حجية السنة، منها أن الحديث لم يدون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم أنه نشأ عن هذا كثرة الوضع والكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساعد على ذلك كثرة دخول الشعوب في الإسلام، وزعم أن علماء الحديث إنما اعتنوا بالسند ولم يعتنوا بنقد المتن عشر عنايتهم بالسند، ثم شكك في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - وفي حفظه؟ ! وأنت قد لا تجد في كلامه نصاً صريحاً واضحاً في إنكار حجية السنة، فهو أدهى من أن يظهر هذا، بل يرشد من يريد إنكار حجية السنة إلى السبيل لذلك فيقول للدكتور علي حسن عبد القادر «إن الأزهر لا يقبل الآراء العلمية الحرة، فخير طريقة لبث ما تراه مناسبا من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم صراحة، ولكن ادفعها إلى الأزهريين على أنها بحث منك وألبسها ثوباً رقيقا لا يزعجهم مسها، كما فعلت أنا في فجر الإسلام، وضحى الإسلام» هذا ما قاله الدكتور علي حسن نفسه للمرحوم بإذن الله مصطفى السباعي. (¬2) ومن بعد أحمد أمين جاء إسماعيل أدهم وألف كتاباً بعنوان «مصادر التاريخ الإسلامي»، زعم فيه أن الأحاديث التي تضمنتها كتب الصحاح ليست ثابتة الأصول والدعائم، بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة ¬

(¬1) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: مصطفى السباعي صـ 236. (¬2) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: مصطفى السباعي صـ 238.

الوضع، وثارت حول هذه الرسالة ضجة انتهت بمصادرتها ودافع أدهم عن نفسه بأن ما قاله قد وافقه عليه أدباء وعلماء كبار، ذكر منهم أحمد أمين، ولم يُكذب أحمد أمين ما قاله، بل كتب ما يفيد تألمه مما حصل لصاحبه واعتبر ذلك محاربةً لحرية الرأي، وحجر عثرة في سبيل البحوث العلمية». (¬1) وفي الأخير جاء المدعو أبو زيد الدمنهوري وألف كتاباً أسماه «الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن» وقد أحدث هذا الكتاب ضجة كبرى في المحيط العلمي وثورة ساخطة من شيوخ الأزهر على مؤلفه، وانتهى الأمر بمصادرة الكتاب والحكم على صاحبه بالزيغ والضلال (¬2)، ويتلخص قول هذا الضال المضل في السنة أنها نكبة على المسلمين وعلى دين الله عز وجل وهو يتمنى إحراقها وإعدامها من الوجود، وتكون نقطة بداية التحريق من صحيح البخاري فمسلم فيرتاح الناس من شر ما فيهما. هذا هو الأثر الفكري الأول لرد رشيد رضا للأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة في أشراط الساعة الكبرى وهو فتح باب الطعن في السنة ولج منه كل مبغض للسنة النبوية من أصحاب الأفكار المنحرفة، وآراء رشيد رضا بلا شك كانت سبباً في جرأة كثير منهم على السنة، وذلك عندما تجرأ هو وبدأ في التشكيك في صحتها، ونشر ذلك في مجلته المنار، وبدأ بعد ذلك في نشر المقالات التي تطعن في السنة، دون التعليق عليها أو بيان خطئها، فكان كأنه مؤيداً ما يقولون. ¬

(¬1) منهاج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير 746. (¬2) «الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم» للدكتور محمد حسين الذهبي صـ 94، و» منهاج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير» صـ 736.

المبحث الثاني فتح باب الطعن في الصحيحين

المبحث الثاني فتح باب الطعن في الصحيحين مما لا شك فيه أن أصح الكتب بعد كتاب الله عند أهل السنة والجماعة هما صحيحاً البخاري وسلم، وقد أجمعت الأمة على تلقي كتابيهما بالقبول، وذلك لشدة تحريهما وشدة شروطهما في قبول الحديث. قال البخاري: «ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وما تركت من الصحاح أكثر». (¬1) وقال: «أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح». (¬2) وقال مسلم: «ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه». (¬3) فلصحيحي البخاري ومسلم مكانة علمية كبيرة في التراث الإسلامي، كيف لا وهما كما ذكرنا أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، مازالت هذه المكانة العلمية باقية في قلوب المسلمين وعلماء الأمة. ¬

(¬1) علوم الحديث لأبن الصلاح 16. (¬2) نفس المصدر والصفحة. (¬3) نفس المصدر والصفحة.

إلى أن جاء أصحاب المدرسة العقلية الحديثة وعلى رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا ومن قبله أستاذه محمد عبده. فقام ـ بدعوى البحث العلمي، وتصفيه العقيدة وتنقية السنة مما علق بها من الإسرائيليات ـ برد العشرات من الأحاديث الواردة في الصحيحين كالأحاديث الواردة في المسيح الدجال وحديث الجساسة. والأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان والأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان أيضا وغيرها من الأحاديث الأخرى الكثيرة. وكل ذلك لا لعلةٍ في أسانيدها، بل بدعوى التعارض والتناقض فيما بينها، ومخالفتها للسنن الكونية، وعدم تصديق العقل لها وغيرها من الأعذار التي في الحقيقة لا قيمة لها، ولا ترقي إلا رد جملة من الأحاديث الواردة بأصح الأسانيد في أصح الكتب. وبسبب آراء رشيد رضا في هذه الأحاديث وجرأته في ردها والحكم عليها بالوضع، تجرأ العديد من بعده من الكتاب والمفكرين الذين ينتمون لنفس المدرسة وهي «المدرسة العقلية الحديثة» فقاموا بالطعن في صحيحي البخاري ومسلم جهاراً ونهاراً وبنشر ذلك في الصحف والمجلات، ولعمري إن هذا من أسوء الآثار الفكرية التي ورَّثها محمد رشيد رضا بعد وفاته، وهي فتح باب الطعن في الصحيحين وتجرئة الناس عليه. حيث قام من بعده المدعو محمود أبو ريه، صاحب كتاب «أضواء على

السنة المحمدية أو دفاع عن الحديث» وذلك فملأ كتابه بالطعن في السنة النبوية وإنكار حجيتها، والطعن في صحيحي البخاري ومسلم طعناً لا هوادة فيه، لكي تفقد الأمة الثقة بأصح كتب الحديث عندها، وحتى يسهل فيما بعد الطعن في باقي كتب السنن والمعاجم الأخرى والتي هي دونه في الصحة والضبط. معتمداً في طعونه على آراء وأقوال رشيد رضا في رده لجمله من الأحاديث الواردة في الصحيحين التي توافق هواه ومنهجه المنحرف. ومن بعد محمود أبو ريه، جاء الضال الزائق المدعو السيد صالح أبو بكر وألف كتاباً أسماه «الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها». والذي زعم فيه أن من أهدافه كما يقول «تقديم حصيلة الفحص الدقيق للأحاديث المعارضة للقرآن، والمنافية لما يليق بالله وبرسوله والتي جمعناها من صحيح البخاري باعتباره عمدة المراجع في هذا المجال وعددها مئة وعشرون حديثاً، والتعقيب القرآني على كل منها بما يثبت أنها دخيلة على كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -». (¬1) والذي عد من أهدافه أيضاً: «القضاء على مشاركة الحديث الباطل للقرآن الكريم»، ومنها «إدراك العواقب المترتبة على ترك الأحاديث المخالفة ¬

(¬1) الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها، السيد صالح أبو بكر 3 - 6، وقد رد على كتابه هذا الشيخ محمود التويجري في كتاب أسماه «الرد القويم على المجرم الأثيم» مكتبة دار العليان الحديثة.

للقرآن الكريم دون تجريح وإظهار عيوبها»، ومنها «إثبات أن دين الله هو القرآن بدايةً ونهايةً». (¬1) وفي الحقيقة أن المؤلف السيد صالح أبو بكر، غالب كتابه نقولات عن كتاب محمود أبو ريه والتي هي في الحقيقة آراء وأقوال رشيد رضا ومحمد عبده. بل إن بدء هجومه على أبي هريرة- رضي الله عنه - يصدره برأي مدرسة المنار والتي رشيد رضا مؤسسها ومنظرها الأول فيضع فصلاً بعنوان «أبو هريرة ورأي علماء الحديث فيه ممثلاً في مدرسة المنار» (¬2)، حيث خصص من صـ 58 إلى صـ 63 في الطعن في أبي هريرة- رضي الله عنه - وفي روايته. وإن شئت مثالا من الأحاديث المئة والعشرين التي كذبها المؤلف من صحيح البخاري وأسلوبه في التكذيب، حتى تدرك بعد منهجه عن عنوان الكتاب «الأضواء القرآنية» وعن أهدافه التي زعمها فإليك واحدا منها. ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه وما من نبي إلا أنذره قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور» رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}. أتدرون ماذا قال المؤلف بعد أن نقله نقلا غير ملتزم بألفاظه كما هو ¬

(¬1) نفس المصدر والصفحة. (¬2) نفس المصدر 58.

شأن علماء الحديث الصالحين أتحسبون الرجل استند إلى آية قرآنية واحدة في رد الحديث فضلا عن التزام «الأضواء القرآنية»! ! لا لا ليس الأمر كما تحسبون. بل قال «ودلائل الزيف في هذا الحديث وغيره من أحاديث الدجال كلها نقول فيها ما يلي: أولا: إن المسيح الدجال هو كل مبدل وكل ماسخ لجمال الحق ... وأن هذا المسيح ليس رجلاً واحداً فقط، ولكنهم كثيرون، وهم عور وغير عور، يعيشون معنا وأناس منا وكانوا مع من قبلنا، وسيكونون مع من بعدنا، وفي كل زمان ومكان .. وليسوا مسيحاً واحداً كما يقول الحديث. ثانياً: إذا كان المسيح سيظهر في آخر الزمان فقط .. فمن هو المسيح الدجال الذي كان سببا في ظهور الفساد والفتن في عهود الخلفاء وزمن التابعين بل زماننا هذا. ثالثا: إذا كان المسيح الدجال رجلا واحدا ولا يأتي إلا في آخر الزمان فمن أي مسيح كان يتعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه والتابعون .. ومن أي مسيح نتعوذ نحن الآن في نهاية كل صلاة كما علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ؟ رابعا: بأي عقل نصدق أن يعطيه الله كل هذه الأسباب ثم يأمرنا بمحاربته أو بلوم أتباعه، وقد أعطاه من وسائل الإغراء والإقناع للناس ما لا يعطي الأنبياء والمرسلين. خامسا: في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إن المسيح الدجال رجل أعور وإن ربكم ليس بأعور، فكيف يعقل أن تجري هذه الألفاظ على لسان النبي

- صلى الله عليه وسلم - وأن تكون ألفاظه قد وصلت إلى هذا النقص في التعبير عن ذات الله وأن يتكلم عن خالقه بتلك الصورة المزرية الركيكة. سادسا: كيف أنذر نوح قومه من المسيح الدجال كما يقول الحديث مع أن الأحاديث التي وردت فيه تقول كلها أن المسيح سيأتي في آخر الزمان. (¬1) وليس هدفنا هنا أن نرد على شبهة ونبطلها فليس هذا موضعه وإنما أردنا أن نظهر أسلوبه في النقد وأن أدلته تلك ليست أضواء قرآنية كما زعم، ولم يستند فيها إلى آية آية قرآنية بل كلها شبه من فكره ومن مفهومه الضال الذي لم يستند إلى كتاب ولا إلى سنة أيضا. وليس هذا الأمر في هذا الحديث فحسب، بل هو في كل الأحاديث التي أوردها، لم يستدل فيها بآية قرآنية إلا آية تعرض عرضا في حديثه وليس فيها من معارضة الحديث شيء. إذا فلا عجب إذا ما أكثر النقل عن «محمود أبو ريه» وعض على أقواله بنواجذه، ولا عجب أيضا إذ ما استند إلى أقوال محمد عبده ورشيد رضا بل وإلى مدرسة المنار. (¬2) ولقد رد الشيخ حمود التويجري علي السيد صالح أبي بكر في كتابه «الرد القويم على المجرم الأثيم» في جزءين فأفحمه .. قال الشيخ: «فقد رأيت كتاباً لبعض أهل الزيغ والفساد والإلحاد من العصريين تهجم فيه ¬

(¬1) الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية: السيد صالح أبو بكر صـ 206 - 207. (¬2) يتعرف من منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير صـ 750 وما بعد.

على بعض الصحابة والتابعين، وعلى مائة وعشرين حديثا في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد القرآن، وزعم أنها أحاديث إسرائيلية وأنه يكتسحها بالأضواء القرآنية، ويطهر البخاري منها. وتهجم أيضا على غير ذلك من الأحاديث الصحيحة وقابلها بالرد والإنكار، وقد سمى المؤلف نفسه بالسيد صالح أبي بكر، وليس بسيد ولا صالح ولا كرامة ولا نعمة عين، لما رواه أبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد عن أبي بريدة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل» ورواه الحاكم في مستدركه والبيهقي بنحوه وصححه الحاكم، وفي تهجمه على بعض الصحابة والتابعين وعلى الأحاديث الصحيحة أوضح دليل على زيغه وفساد عقيدته وأنه ليس بصالح في الحقيقة. وقد سمى الملحد كتابه «الأضواء القرآنية، في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها» .. وكلام الملحد كله شبهات وحمل لكتاب الله على غير محامله، فهو في الحقيقة ظلمات بعضها فوق بعض كما سأبينه إن شاء الله تعالى، ومن تأمل كتابه لم يشك أنه محارب للإسلام والمسلمين، وأنه إنما أراد بكتابه الطعن في الإسلام وأهل الإسلام، وإن أظهر ذلك في قالب الإصلاح فهو بلا شك ممن يسعى في الأرض فسادا وإن زعم أنه مصلح. وقد قال الله تعالى مخبرا عن سلف هذا الملحد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال الملحد غاية المطابقة، طهر الله الأرض منه ومن أمثاله من المفسدين إنه سميع مجيب. وقد رأيت

من الواجب الرد على أباطيل هذا الزائغ المفتري على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطهير الأحاديث في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة من تلطيخ هذا الظالم المعتدي». (¬1) وللشيخ الفاضل أحمد شاكر رحمه الله كلام حسن في توجعه من آراء بعض معاصريه من أصحاب المدرسة العقلية الحديثة وآراء رشيد رضا من قبلهم حول السنة النبوية وصحيح البخاري، حيث قال رحمه الله في الكلام على حديث أبي هريرة «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم» في الجزء الثاني عشر صفحة مائة وأربعة وعشرون من تحقيق المسند «وهذا الحديث مما لعب فيه بعض معاصرينا ممن علم وأخطأ، وممن علم وعمد إلى عداء السنة، وممن جهل وتجرأ، فمنهم من حمل على أبي هريرة وطعن في روايته وحفظه، بل منهم من تجرأ على الطعن في صدقه فيما يروي حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة إن لم يزعم أنها لا أصل لها، بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين الذين أرادوا بنقدهم أن بعض أسانيدها خارجة عن الدرجة العليا من الصحة التي التزامها الشيخان لم يريدوا أنها أحاديث ضعيفة، ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه، حديث الذباب - لم يكن مما استدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري بل هو عندهم جميعاً مما جاء على شرطه في أعلى درجات الصحة ... ». إلى أن قال: «والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث لما وقر في نفوسهم ¬

(¬1) «الرد القويم على المجرم الأثيم» للشيخ حمود التويجري ص (1، 2) - مكتبة دار العليان الحديثة.

من أنه ينافي المكتشفات الحديثة من المكروبات ونحوها، وعصمهم إيمانهم على أن يجرؤا على المقام الأسمى فاستضعفوا أبا هريرة، والحق أيضاً أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب، ولكنهم لا يصرحون ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة أن يقدموها على كل شيء، وأن يؤلوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي إذا ما خالف ما يسمونه «الحقائق العلمية» وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه، افتراءً على الله وحباً في التجديد، بل إن منهم لمن يؤمن ببعض خرافات الأوربيين وينكر حقائق الإسلام أو يتأولها، فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح، وينكر وجود الملائكة والجن بالتأويل العصري الحديث، ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى القديسين والقديسات ثم ينكر معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها، ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين يخرجونها عن معنى الإعجاز كله وهكذا وهكذا .. ». إلى أن قال: «وهذا مما أخطأ فيه كثير من الناس ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا رحمه الله على علمه بالسنة وفقهه، لم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى، وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيهما، ولكنه كان متأثراً أشد التأثر بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئاً، بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدماً وأثبت رأياً لولا الأثر الباقي في دخيلةِ نفسه، والله يغفر لنا وله». (¬1) ¬

(¬1) تحقيق مسند الإمام أحمد «12/ 124).

هذا هو الأثر الفكري لآراء رشيد رضا حول الأحاديث الصحيحة الواردة في الصحيحين ورده بها لا لعلةٍ في أسانيدها كما قلنا من قبل بل لأنها لم تتفق مع منهجه العقلي الذي يسير عليه، ففتح باباً على صحيحي البخاري ومسلم فقام من بعده العديد ممن أعجب بآرائه وأقواله بترديدها والزيادة عليها بلا عقل ولا فهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المبحث الثالث تشكيك المسلمين في عقائدهم

المبحث الثالث تشكيك المسلمين في عقائدهم ولعل من أبرز الآثار الفكرية التي خلفتها آراء السيد محمد رشيد رضا حول الأحاديث الواردة في أشراط الساعة الكبرى أيضا هو تشكيك المسلمين في عقيدتهم التي تلقوها من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإثارة مجموعة من التساؤلات والاستشكالات والتعارضات التي يصعب على كثير منهم الإجابة عليها، فيقع في الحيرة والشك من أمره بسبب عدم قدرته على الإجابة عليها والتوفيق فيما بينها. حيث كان الشيخ محمد رشيد رضا يلبس على عامة المسلمين ويوقعهم بالحيرة بخلطه بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة؛ لإظهار التناقض والتعارض فيما بينها دون تنبيه على الضعيف والموضوع منها. ولو أنه أكتفى بذكر الأحاديث الصحيحة لكل شرط من أشراط الساعة الكبرى لما كان هناك أي تعارض أو تناقض فيما بينها. ولكنه عند ما جمع بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة في قالب واحد، ظهر هذا التعارض والتناقض وهذه نتيجة حتمية لمنهجه الذي يتبعه. فكان بأسلوبه ومنهجه هذا بالجمع بين الصحيح والضعيف مع ذكره

لأوجه التناقض فيما بينها وتأييده له فإنه أوقع الكثير في الشك والحيرة. حيث أنكر الكثير من الكتاب والمفكرين ومن عامة الناس أشراط الساعة الكبرى وعدوها من الأكاذيب ومن الإسرائيليات، مستدلين بآراء وأقوال رشيد رضا، وهذا بلا شك أثر فكري خطير على الفرد وعلى المجتمع، فالإيمان بأشراط الساعة جزء من الإيمان بالغيب الذي لا يتم إيمان المسلم إلا بالإيمان به، وهو كذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان وعقيدة من عقائد المسلمين الأساسية. فالواجب على المؤمن إذا ثبت لديه صحة الحديث برواية الثقات ووصل إلينا بطريق صحيح أن يؤمن به ويصدقه، فهذا هو مذهب علماء سلفنا الصالح انطلاقاً من أمر الله تعالى للمؤمنين بقوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. (¬1) وقوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}. (¬2) أما أن يرد الحديث الصحيح بدعوى أنه لم يوافق العقل أو لعدم فهمه أو لغيرها من الأعذار الأخرى فهذا بلا شك منهجٌ منحرف ضال لا دليل عليه، وهو منهجٌ فاسد معلوم الفساد لكل من في قلبه حب وتوقير واحترام وإجلال للسنة النبوية المطهرة الشريفة. ورحم الله الشافعي عندما قال: «متى ما رويتٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً ¬

(¬1) الأحزاب 36. (¬2) آل عمران 32.

صحيحاً فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب» (¬1)، فكيف به لو أتى ورأى كيف يتلاعب أصحاب المدرسة العقلية الحديثة بالأحاديث النبوية وبردها دون بينه أو برهان. ¬

(¬1) مختصر الصواعق (2/ 350).

المبحث الرابع إحياء تراث المعتزلة

المبحث الرابع إحياء تراث المعتزلة من الآثار الفكرية الناتجة عن رد رشيد رضا للأحاديث الواردة في أشراط الساعة الكبرى هو أحياء تراث المعتزلة، القائم على تقديم العقل والبراهين والحجج العقلية على النقل، ورد النصوص النبوية باستنتاجات واستشكالات واعتراضات عقلية. والمتأمل لمنهج رشيد رضا في التعامل مع النصوص النبوية، القائم على رد جملة من الأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة المتواترة الثابتة بأصح كتب الحديث، وبأصح الأسانيد، والتي شهد بصحتها كبار الحفاظ والمحدثين، لا شيء إلا لأنها لا توافق العقل أو تخالف منهجه العقلي، يجزم أن منهجه في التعامل مع النصوص النبوية هو منهج المدرسة العقلية القديمة «المعتزلة». وذلك أنهم كانوا يردون كل حديث يرون أنه يصطدم مع العقل أو أن العقل لا يقبله، مع حرصهم على تحكيم العقل وتقديمه على النص الشرعي في الاعتبار والاستدلال في أصول العقيدة ونصوصها دون اعتبار للوحي ولا تسليم للنص المعصوم ولا احترام لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الصحيحة. ويقول أستاذه محمد عبده مدافعاً عن منهج المعتزلة: «اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه، على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ

بما دل عليه العقل»! ! (¬1) وهذا بلا شك مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في تعظيم النصوص الشرعية وتقديمها على العقل إن كان هناك تعارض كما يدعون، والتي في الحقيقة أنه يستحيل أن يكون هناك تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح، كما بينت ذلك في الفصل التمهيدي في مبحث العقل والنقل. ¬

(¬1) الإسلام والنصرانية صـ 59.

المبحث الخامس إيجاد نوع من الجرأة على الثوابت الإسلامية

المبحث الخامس إيجاد نوع من الجرأة على الثوابت الإسلامية ومن الآثار الفكرية السيئة لآراء رشيد رضا العقدية في أشراط الساعة الكبرى، ورده للأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة الواردة فيها، هو إيجاد نوع من الجرأة غير المنضطة لدى الكثير ممن جاء بعده من الكتاب والمفكرين وأصحاب الأهواء في الطعن، والتشكيك في الثوابت الإسلامية القائمة على الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وردها، بدعوى البحث العلمي وتصفية وتنقية العقيدة الإسلامية والسنة النبوية مما علق بها من الخرافات والأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات، والتي هي في الحقيقة ليست كذلك إنما هي مجموعة من الاستشكالات والتساؤلات التي يقصد من ورائها إثارة الشبهات وتشكيك المسلمين في دينهم وسنة نبيهم، وذلك بجعل الأصول والثوابت الإسلامية عبارة عن آراء وأقوال قابله للصواب والخطأ، وقابلة للبحث والدراسة، حتى يتهيأ لهم في المستقبل إمكانية إنكارها وردها والتشكيك في صحتها وصحة مصادرها، وهكذا حتى تصبح العقائد والأصول والمسلمات التي لدى المسلمين هي عبارة عن آراء يمكن ردها وعدم تصديقها بل حتى وتكذيبها، وهكذا حتى تنتقض عرى الإسلام عروةً عروة، كل ذلك بدعوى البحث العلمي! ! ولقد رأينا وسمعنا ممن ينتسبون للإسلام والذين تربوا في أحضان

المستشرقين من بني جلدتنا من أنكر حد الردة، وسمعنا ورأينا من ينكر حجاب المرأة، بل إنا سمعنا ورأينا من يشكك بأن اليهود والنصارى ليسوا بكفار بل هم مؤمنون، وسوف يحاسبون على أعمالهم يوم القيامة ومن ثم يدخلهم الله الجنة حالهم حال الموحدين من أهل الإسلام كل ذلك بدعوى البحث العلمي وبدعوى تصفية وتنقية الإسلام مما علق به من الآراء والأفكار الخاطئة، وهكذا يهدم الدين، وتهدم العقيدة ويهدم التوحيد، ويهدم الولاء والبراء، بل وتهدم الشريعة من أساسها وتنقض وتحرف وتبدل، ويطعن ويشكك في السنة النبوية، وفي الصحيحين، وفي رواة الحديث، وحملة الدين، ويتهم المتمسكون بالنقل من القرآن والسنة بالجمود والتخلف والرجعية، كل ذلك يكون بدعوى البحث العلمي.

المبحث السادس خدمة أغراض المستشرقين

المبحث السادس خدمة أغراض المستشرقين ومن الآثار الفكرية لآراء رشيد رضا العقدية في أشراط الساعة الكبرى وردها بدعوى التعارض والتناقض فيما بينها وبدعوى مخالفتها للسنن الكونية والإنسانية ومخالفتها للعقل وغيرها من الدعاوي الأخرى. هو خدمة أغراض المستشرقين والحاقدين على الإسلام عموماً والسنة النبوية خصوصاً، حيث وجد هؤلاء المستشرقون والحاقدون على الإسلام وأهله بغيتهم في آراء وأقوال المدرسة العقلية عموماً وآراء محمد رشيد رضا خصوصاً. فقاموا بالطعن في العقيدة الإسلامية وفي السنة النبوية وزعموا أن فيها الكثير من التناقض والتعارض فيما بينها، وأن فيها الكثير مما لا يوافق العقل عليه ويمجه. مسندين آراءهم بأقوال رجالات المدرسة العقلية الحديثة في التشكيك في الكثير من العقائد والسنن النبوية، ويكفي في الدلالة على ما ذهبت إليه هو النظر إلى ثناء المستشرقين على منهج المدرسة العقلية الحديثة وعلى رجالها، فهذا «جب» يقول عنهم «لسوء الحظ ظل قسم كبير من المسلمين المحافظين ولا سيما في الهند لا يخضعون لهذه الحركات الإصلاحية المهدئة، وينظرون إلى الحركة التي تزعمتها مدرسة عليكره بالهند ومدرسة محمد عبده بمصر نظرة كلها ريبة وسوء ظن لا تقل عن ريبتهم في الثقافة

الأوروبية نفسها» (¬1) ثم وضح هذا المستشرق الإنجليزي «جب» دور المدرسة العقلية بقوله «إن في كل البلاد الإسلامية - باستثناء شبه جزيرة العرب وأفغانستان وبعض أجزاء من أواسط إفريقيا - حركات معينة تختلف قوة واتساعا ترمي إلى تأويل العقائد الإسلامية وتنقيحها» ثم قال «وقد اتجهت مدرسة محمد عبده بكل فروعها وشعبها نحو تحقيق هذا الهدف»، ثم ذكر «إن الأب (بانيرث) المبشر يرى أن حركة الإصلاح الإسلامي - على النحو الذي تسير فيه الآن يجب أن تقابل من المسيحية الغربية بالتشجيع». (¬2) ولعله يكفي هنا أن نتقل عن «جب» رأيه في تلاميذ محمد عبده حيث يقول «إن تلامذته هم من أولئك الذي تعلموا على الطريقة الأوروبية وذلك من ناحيتين: أولاهما إن ما كتبه الشيخ كان بمثابة درع واقية للمصلحين الاجتماعيين والسياسيين، فإن عظمة اسمه قد ساهمت في نشر أخبار لم تكن تنشر من قبل، ثم إنه قد أقام جسرا من فوق الهوة السحيقة بين التعليم التقليدي والتعليم العقلي المستورد من أوربا، الأمر الذي مهد للطالب المسلم أن يدرس في الجامعات الأوروبية دون خشية من مخالفة معتقده، وهكذا انفرجت مصر المسلمة بعد كبت، فقد ساهم الشيخ محمد عبده أكثر من أي شخص آخر في خلق اتجاه أدبي جديد في إطار الروح الإسلامية». (¬3) أما الجاسوس البريطاني الفريد سكاون بلنت فيصف دعوتهم بأنها ¬

(¬1) إلى أين يتجه الإسلام: للمستشرق «جب» عن مجلة المجتمع العدد 364 في 9 رمضان 97 هـ، صـ 29. (¬2) المرجع السابق: صـ 63، عن الفكر الإسلامي المعاصر: غازي التوبة صـ 61 - 62. (¬3) الاتجاهات الحديثة في الإسلام: جب صـ 70.

«الإصلاح الديني الحر» ويصفهم بأنهم «زعماء الإصلاح في الأزهر» ويصف مدرستهم بأنها «تلك المدرسة الواسعة التقية». (¬1) وقال عن الأفغاني: «ومن أغرب ما يروى أن الفضل في نشر هذا الإصلاح الديني الحر بين العلماء في القاهرة لا يعود إلى عربي أو مصري أو عثماني ولكن إلى رجل عبقري غريب يدعي السيد جمال الدين الأفغاني». (¬2) وقال عن محمد عبده: «إنه رجل من أحسن وأحكم الرجال العظام، ويجب أن لا يتوهم أحد أني إذ أستخدم هذه الألفاظ ألقي القول على عواهنه، أو أبالغ مثقال ذرة، ولكني أقولها معتمدا على معرفتي بأخلاقه في ظروف مختلفة، وأحوال صعبة، فقد عرفته في أول الأمر معلما دينيا ثم قائدا لحركة الإصلاح الاجتماعي ... وأخيراً حين سودته مواهبه العقلية ونصرته من جديد». (¬3) وتحدث عن هدف الأفغاني فقال: «كان همه أن يطلق العقول من الأغلال التي قيدتها طوال الأجيال الماضية» وأن هذا «يماثل ما حدث من إحياء المسيحية بأوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر». (¬4) وهذا جولد زيهر يبين قصد مدرسة المنار بأنه: «تحقيق قدرة الإسلام على الحياة بين تيارات العصر الحديث عن طريق إصلاح الأحوال المغلولة ¬

(¬1) التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر: الفرد سكاون بلنت، صـ 76. (¬2) المرجع السابق: صـ 77. (¬3) المرجع السابق: صـ 80. (¬4) المرجع السابق: صـ 78.

بقيود المذاهب الجامدة» (¬1) واعتبر السيد جمال الدين الأفغاني المحرك الأول لهذا الاتجاه. (¬2) ¬

(¬1) مذاهب التفسير الإسلامي: جولد زيهر، صـ 347 - 348. (¬2) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، فهد الرومي بتعرف صـ 805 - 808.

الخاتمة

الخاتمة وتشمل على أهم نتائج البحث، وهي: 1 - إن المقصود بأشراط الساعة هي العلامات والإمارات التي تسبق قيام الساعة. 2 - إن النصوص الشرعية من القرآن والسنة دلت دلاله قطعية على أن الساعة واقعة لا محالة. 3 - إن النصوص الشرعية من القرآن والسنة دلت دلاله قطعية على أن قيام الساعة قريب، وعلى أننا في آخر أيام الدنيا، إلا أنه لم يثبت حديث صحيح في تحديد عمر الدنيا. 4 - إن النصوص الشرعية من القرآن والسنة دلت على أن ليوم القيامة علامات وأشراطاً تدل على قرب وقوعها. 5 - إن علامات وأشراط الساعة تنقسم إلى قسمين، وهي علامات صغرى وهي التي تكون قبل قيام الساعة بأزمنة طويلة، والتي ظهر الكثير منها وعلامات كبرى وهي التي تكون قرب قيام الساعة، والتي لم يظهر منها إلى الآن شيء. 6 - إن ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار - سواء كانت متواترة أو آحاد، يجب الإيمان بها وقبولها ولا يجوز ردها، فالعقائد تثبت بالخبر الصحيح ولو كان آحادً.

7 - إن ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار، وجب الإيمان بها وقبولها ولا يجوز ردها باستشكالات وتساؤلات عقلية لا قيمة لها أمام النص الصحيح. 8 - إن تقديم العقل على النقل من أقوال الفلاسفة ومن نحا نحوهم من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام، وتابعهم على ذلك أصحاب المدرسة العقلية الحديثة المتمثلة بمحمد رشيد رضا ومن جاء بعده من رواد مدرسة المنار. 9 - يعتبر الشيخ محمد رشيد رضا من أصحاب المدرسة العقلية الحديثة بل هو أحد رموزها والتي هي امتداد للمدرسة العقلية القديمة «المعتزلة». 10 - إن للشيخ محمد رشيد رضا العديد من الآراء العقدية التي يكفي بالحكم على من قال ببعضها أنه إلى فكر الاعتزال أقرب منه للسلفية. 11 - إن الأحاديث الواردة في خروج المسيح الدجال في آخر الزمان أحاديث صحيحة صريحة متواترة أغلبها في الصحيحين وما ذكره رشيد رضا من استشكالات وتساؤلات حول هذه الأحاديث لا يصمد أمام هذه الآثار النبوية. ولا ترقى إلى ردها. 12 - إن الأحاديث الواردة في ظهور المهدي في آخر الزمان أحاديث صحيحة صريحة متواترة، وما ذكره رشيد رضا من استشكالا وتساؤلات حول هذه الأحاديث لا يصمد أمام هذه الآثار النبوية، ولا ترقى إلى ردها. 13 - إن الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، أحاديث صحيحة صريحة متواترة أغلبها في الصحيحين، وما

ذكره رشيد رضا من استشكالا وتساؤلات حول هذه الأحاديث لا يصمد أمام هذه الآثار النبوية، ولا ترقي إلى ردها. 14 - إن الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، أحاديث صحيحة صريحة متواترة أغلبها في الصحيحين، وما ذكره رشيد رضا من استشكالات وتساؤلات حول هذه الأحاديث لا يصمد أمام هذه الآثار النبوية ولا ترقى إلى ردها. 15 - إن باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت أغلق ولم يقبل من عاص أو كافر عمل. 16 - إن آراء محمد رشيد رضا العقائدية في أشراط الساعة الكبرى، لها آثار فكرية سيئة، فقد فتحت باباً للطعن في السنة النبوية وفي الصحيحين، وتشكيك المسلمين في عقائدهم، وإحياء تراث المعتزلة، وإيجاد الجرأة على الثوابت الإسلامية وخدمة أغراض المستشرقين. ولله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

فهرس المصادر والمراجع مرتبة على الحروف الهجائية

فهرس المصادر والمراجع مرتبة على الحروف الهجائية 1 - القرآن الكريم 2 - ((إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة))، للشيخ محمود بن عبد الله التويجري طبع مطابع الرياض، الطبعة الأولى، 1394 هـ. 3 - ((أشراط الساعة))، يوسف الوابل، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، الإصدار الثاني، 1431 هـ. 4 - ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن))، للعلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1415 هـ - 1995 م. 5 - ((أضواء على السنة المحمدية)) لمحمود أبو ريه، طبعة دار المعارف، مصر، الطبعة الرابعة. 6 - ((اعتقاد أهل السنة))، للإمام هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي، دار ايلاف الدولية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007 م. 7 - ((الاتجاه العقدي في تفسير المنار))، للدكتور محمد علي الزغول، رسالة ماجستير لم تطبع. 8 - ((الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة))، للسيد محمد صديق حسن القنوجي، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1399 هـ. 9 - ((الإرشاد إلى سبيل الاعتقاد))، للشيخ صالح الفوزان دار ابن الجوزي - الطبعة الثانية عشر، 1428 هـ. 10 - ((الإسلام عقيدة وشريعة))، للشيخ محمد شلتوت، طبع دار الشروق، بيروت.

11 - ((الإشاعة لأشراط الساعة))، لمحمد بن عبد الرسول البرزنجي، طبع دار الكتب العلمية، بيروت. 12 - ((الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها)) السيد صالح أبو بكر، شركة مطابع محرم الصناعية، 1974 م. 13 - ((الأعلام/ قاموس تراجم))، لخير الدين الزركلي، طبع دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1979 م. 14 - ((الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده))، للدكتور محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1980 م. 15 - ((الأم))، للعلامة محمد بن إدريس الشافعي الناشر دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1393 هـ. 16 - ((الأنوار الكاشفة بما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة))، للعلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، طبعة عالم الكتب 1403 هـ - 1983 م. 17 - ((الإيمان))، لأبي عبيدة القاسم بن سلام، تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ. 18 - ((الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير))، للشيخ أحمد شاكر، طبع دار الكتب العلمية، بيروت. 19 - ((البحر المحيط في التفسير)) للعلامة محمد بن يوسف الأندلسي، طبعة، دار الفكر، بيروت، تحقيق صدقي محمد جميل، 1420 هـ. 20 - ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة))، للحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

21 - ((الترغيب والترهيب))، للحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، تصحيح مصطفى محمد عماره، إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1388 هـ. 22 - ((التصريح بما تواتر في نزول المسيح))، للشيخ محمد أنور شاه الكشميري الهندي، تريب تلميذه الشيخ محمد سفيع تحقيق وتعليق الشيخ عبد الفتاح أبو عزه، مطبعة الأصيل، حلب، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، 1385 هـ. 23 - ((التفسير القيم لابن القيم))، جمع وترتيب محمد أديس الندوي، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 هـ. 24 - ((التفسير والمفسرون))، للدكتور محمد حسين الذهبي، طبعة مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الرابعة، 1409 هـ - 1989 م. 25 - ((الجامع لأحكام القرآن))، للعلامة محمد بن أحمد القرطبي، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، الطبعة الثانية، 1384 هـ - 1964 م. 26 - ((الحاوي للفتاوي))، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1397 هـ. 27 - ((الحديث والمحدثون)) لمحمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، الطبعة الأولى، 1378 هـ - 1958 م. 28 - ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور))، للعلامة جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، طبعة مركز هجر للبحوث، مصر 1424 هـ - 2003 م. 29 - ((الدرة فيما يجب اعتقاده))، للعلامة علي بن أحمد بن حزم، دراسة وتحقيق، عبد الحق التركماني، دار ابن حزم للطباعة والنشر، بيروت.

30 - ((الربا والمعاملات في الإسلام))، السيد محمد رشيد رضا دار النشر للجامعات، طبعة مكتبة الوفاء، الطبعة الأولى 2009 م. 31 - ((الرد القويم على المجرم الأثيم))، الشيخ محمود التويجري، مكتبة دار العليان الحديثة، بريده، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م. 32 - ((الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي))، للشيخ عبد المحسن البدر العباد، مطابع الرشيد، الطبعة الأولى، 1402 هـ. 33 - ((الرسالة))، للإمام محمد بن إدريس الشافعي تحقيق وشرح أحمد شاكر، مطابع المختار الإسلامي، دار السلام، الناشر مكتبة التراث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1399 هـ. 34 - ((السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة))، شكيب أرسلان، مطبعة ابن زيدون - دمشق - الطبعة الأولى، 1365 هـ - 1937 م. 35 - ((السيف الحاد في الرد على من أخذ بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد))، سعيد بن مبروك بن حمود القنوبي، مطابع النهضة، عُمان، الطبعة الثالثة، 1418 هـ. 36 - ((الشفا بتعريف أحوال المصطفى))، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي الأندلسي، تحقيق أمين قرة علي وزملائه - طبع الوكالة العامة للنشر والتوزيع، مؤسسة علوم القرآن ومكتبة دمشق. 37 - ((الصحافة الإسلامية في القرن التاسع عشر))، سامي عبد العزيز العومي، دار الوفاء، المنصورة، مصر، 1992 م. 38 - ((العبر وديوان المبتدأ والخبر/ مقدمة ابن خلدون))، للمؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1967 م. 39 - ((العقيدة في الله))، للدكتور عمر سليمان الأشقر، طبع دار النفائس - الأردن - عمان - الطبعة الخامسة عشر.

40 - ((الفتاوى))، للشيخ محمود شلتوت، طبع دار الشروق، الطبعة الثامنة، بيروت، 1395 هـ. 41 - ((الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني))، للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي، دار الحديث، القاهرة. 42 - ((الفرق بين الفرق))، للعلامة عبد القادر بن طاهر البغدادي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة. 43 - ((الكفاية في علم الرواية))، للعلامة أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي، تحقيق أبو عبد الله السورقي، إبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية، المدينة المنورة. 44 - ((المجموع شرح المهذب))، للإمام محيي الدين ابن شرف النووي، طبعة الفكر، بيروت. 45 - ((المحلي))، للعلامة على بن أحمد بن حزم، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. 46 - ((المستدرك على الصحيحين))، للعلامة محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق، مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م. 47 - ((المسند))، للإمام أحمد بن حنبل، شرح وتحقيق: الشيخ أحمد محمد شاكر، أتمه د. الحسيني عبد المجيد هاشم، دار المعارف بمصر، سنة 1365 - 1375 هـ. 48 - ((المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام وقتله إياه))، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتبة الإسلامية - عمان الأردن. 49 - ((المعجم الوجيز))، لمجمع اللغة العربية.

50 - ((المغني))، للإمام عبد الله بن أحمد ابن قدامه المقدسي، طبعة دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1405 هـ. 51 - ((المفسرون مدارسهم ومناهجهم))، للدكتور فضل حسن عباس، طبعة دار النفائس - عمان - الأردن - 2007 م. 52 - ((المنار المنيف في الصحيح والضعيف))، للحافظ محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، طبع مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1390 هـ. 53 - ((المنار والأزهر))، السيد محمد رشيد رضا، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الأولى - 1353 هـ - 1934 م. 54 - ((الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة))، للندوة العالمية للشباب الإسلامي، إشراف ومراجعة، الدكتور مانع الجهني، نشر دار الندوة العالمية، الطبعة الخامسة، 1424 هـ - 2003 م. 55 - ((النشر في القراءات العشر))، ابن الجزري، طبع مكتبة القاهرة، مصر، تحقيق محمد سالم محيسن. 56 - ((النهاية في غريب الحديث والأثر))، للعلامة مجد الدين المبارك بن الأثير الجزري، تحقيق طاهر الزواي ومحمود الطحناجي، دار الفكر الطبعة الثانية، 1399 هـ. 57 - ((النهاية/ الفتن والملاحم))، للحافظ إسماعيل بن كثير، تحقيق: د. طه زيني، دار النصر للطباعة، الناشر، دار الكتب الحديث، مصر، الطبعة الأولى. 58 - ((الوحي المحمدي))، السيد محمد رشيد رضا، طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة التاسعة، 1399 هـ- 1979 م. 59 - ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية))، لشيخ الإسلام أحمد

بن عبد الحليم بن تيمية، تعليق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، دار القاسم، الرياض، الطبعة الثانية، 1421 هـ. 60 - ((تاريخ الأستاذ الإمام))، السيد محمد رشيد رضا، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الأولى، 1350 هـ، 1931 م. 61 - ((تاريخ دمشق))، للعلامة ابن عساكر، طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى، 1418 هـ. 62 - ((تعارض العقل والنقل))، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية تحقيق الدكتور، محمد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية، الرياض 1391 هـ. 63 - ((تفسير القرآن الحكيم/ تفسير المنار))، للشيخ محمد رشيد رضا دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، بالأوفست. 64 - ((تفسير القرآن العظيم))، للحافظ أبي الغداء إسماعيل بن كثير، تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا وعبد العزيز غنيم ومحمد أحمد عاشور، دار الشعب، القاهرة. 65 - ((تفسير جزء عم))، للشيخ محمد عبده، طبعة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، الطبعة الثانية، مطبعة مجلة المنار بمصر، 1329 هـ. 66 - ((تقريب التهذيب))، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395 هـ. 67 - ((تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة))، للشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1399 هـ. 68 - ((تيسير مصطلح الحديث))، للدكتور محمود الطحان، مكتبة الهداية - العراق - أربيل.

69 - ((جامع الأصول في أحاديث الرسول))، المجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - مطبعة الملاح ومكتبة البيان. 70 - ((جامع البيان عن تأويل القرآن))، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمود شاكر، تخريج أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م. 71 - ((جامع الترمذي/ مع شرحه تحفة الأحوذي))، للإمام أبي عيسى الترمذي، تصحيح عبد الوهاب عبداللطيف، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1399 هـ. 72 - ((جامع الرسائل))، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق، د. محمد رشاد سالم، دار العطاء، الرياض، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م. 73 - ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح))، للعلامة محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت. 74 - ((حجية الآحاد في العقيدة ورد شبهات المخالفين))، محمد عبد الله الوهيبي، دار المسلم، الرياض. 75 - ((حجية خبر الآحاد في العقيدة))، منيرة فراج على العقلا رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود 1419 هـ. 76 - ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء))، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، بيروت، 1405 هـ. 77 - ((خبر الآحاد وحجيته في أثبات العقائد))، عبد الله ناصر السرحاني، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، 1425 هـ. 78 - ((دراسات في الحديث النبوي))، محمد مصطفى الأعطمي، طبعة شركة الطباعة العربية السعودية المحدودة، الرياض، الطبعة الثالثة، 1401 هـ - 1981 م.

79 - ((دفاع عن السنة))، لمحمد بن محمد أبو شهبة، طبعة مكتبة السنة، مصر، 1409 هـ. 80 - ((رجال من التاريخ))، الشيخ علي طنطاوي، دار المنار، جده السعودية، الطبعة الثامنة، 1413 هـ. 81 - ((ردود أهل العلم على الطاعنين بحديث السحر، وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية))، للشيخ مقبل الوادعي، طبعة دار الآثار - صنعاء، الطبعة الثانية، 2006 م. 82 - ((رسالة التوحيد))، للشيخ محمد عبده، تصحيح وتعليق محمد رشيد رضا، طبع دار المنار، مصر، الطبعة الحادية عشر، 1365 هـ. 83 - ((رشيد رضا الإمام المجاهد))، إبراهيم العدوي، طبعة الدار المصرية للتأليف، القاهرة. 84 - ((رشيد رضا، الصحفي، المفسر، الشاعر))، أحمد الشرباصي، من مطبوعات البحوث الإسلامية - القاهرة، 1977 م. 85 - ((سلسلة الأحاديث الصحيحة))، للشيخ ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1399 هـ. 86 - ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة))، للشيخ ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ. 87 - ((سنن أبي داود/ مع شرحه عون المعبود))، للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن عثمان، دار الفكر، الناشر المكتبة السلفية، الطبعة الثالثة، 1399 هـ. 88 - ((سير أعلام النبلاء))، للإمام محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1390 هـ.

89 - ((شرح السنة))، للإمام محمد بن الحسين البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة الأولى، 1390 هـ. 90 - ((شرح العقيدة الطحاوية))، للعلامة على بن علي بن أبي العز الحنفي، حققها جماعة من العلماء وخرج أحاديثها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1391 هـ. 91 - ((شرح العقيدة الواسطية))، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الطبعة الرابعة، 1427 هـ. 92 - ((شرح النووي على صحيح مسلم))، للعلامة يحيى بن شرف النووي، دار أحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ. 93 - ((الجامع الصحيح))، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، دار السلام، الرياض، الطبعة الثالثة، 1421 هـ. 94 - ((صحيح الجامع الصغير وزيادته))، تحقيق: الشيخ، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1388 هـ. 95 - ((صحيح سنن الترمذي))، للشيخ ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت. 96 - ((صحيح مسلم))، للإمام مسلم بن الحجاج، النيسابوري، دار السلام، الرياض، الطبعة الثالثة، 1421 هـ. 97 - ((طبقات الحنابلة))، محمد بن محمد أبي يعلى، طبعة، دار المعرفة، بيروت، تحقيق محمد حامد الفقي. 98 - ((عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام))، للشيخ عبد الله بن محمد الصديق الغماري، مطبعة المختار، الناشر مكتبة القاهرة.

99 - ((علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة))، الدكتور. محمد يسري، دار طيبة، الطبعة الأولى، 2006 م. 100 - ((فتح الباري، شرح صحيح البخاري))، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز نشر إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض. 101 - ((فتح القدير/ تفسير الشوكاني))، للعلامة محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر، الناشر محفوظ علي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1393 هـ. 102 - ((فقه السنة))، للشيخ سيد سابق - طبعة مكتبة الرشد - الرياض - 2001 م. 103 - ((في ظلال القرآن))، للشهيد سيد قطب إبراهيم، دار الشروق، القاهرة. 104 - ((فيض القدير شرح الجامع الصغير))، للعلامة محمد عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1391 هـ. 105 - ((قاضي القضاة عبد الجبار الهمداني))، الدكتور، عبد الكريم عثمان، الدار العربية للطباعة والنشر، بيروت. 106 - ((قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث))، للعلامة محمد جمال الدين القاسمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ. 107 - ((لسان العرب))، للعلامة أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور دار الفكر، نشر دار صادر، بيروت. 108 - ((لوامع الأنوار البهية ومواضع الأسرار الأثرية))، للعلامة محمد بن أحمد السفاريني، تعليق: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، والشيخ سليمان بن سحمان، منشورات مؤسسة الخافقين، دمشق، الطبعة الثانية 1402 هـ.

109 - ((مجلة الجامعة الإسلامية))، العدد الخامس والأربعون سنة، 1400 هـ. 110 - ((مجلة المنار))، نسخة الكترونية من المكتبة الشاملة الإصدار الثالث. 111 - ((مجمع الزوائد ومنبع الفوائد))، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب، بيروت، الطبعة الثانية، 1967 م. 112 - ((مجموع الفتاوى))، لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، مطابع الدار العربية، بيروت، تصوير الطبعة الأولى، 1398 هـ. 113 - ((محمد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية))، دار عمان الأردن، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م. 114 - ((مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة))، للحافظ محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، اختصره الشيخ محمد بن الموصلي، الناشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. 115 - ((مختصر صحيح مسلم))، للحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، الطبعة الثالثة، 1397 هـ. 116 - ((مختصر منهاج السنة))، اختصره الشيخ عبد الله الغنيمان، طبعة دار الأرقم، الطبعة الثانية، 1412 هـ - 1992 م. 117 - ((معالم التزيل/ تفسير البغوي))، للعلامة الحسيني بن مسعود البغوي، طبعة دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1417 هـ - 1997 م. 118 - ((معجم مقاييسي اللغة))، للعلامة أحمد بن فارس بن زكريا، طبعة مصطفى الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية، تحقيق: عبد السلام هارون، 1389 هـ - 1969 م.

119 - ((مقالات الإسلاميين))، للعلامة علي بن إسماعيل الأشعري أبو الحسن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، تحقيق هلموت ريتر. 120 - ((مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث))، للحافظ عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح، دار الكتب العلمية، بيروت 1398 هـ. 121 - ((منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد))، عثمان علي حسن، طبعة مكتبة الرشد، الطبعة الأولى الرياض، 1412 هـ - 1992 م. 122 - ((منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير))، فهد بن عبد الرحمن الرومي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 123 - ((منهج رشيد رضا في العقيدة))، تامر محمد متولى، دار ماجد عسيري، الطبعة الأولى، 1425 هـ- 2004 م. 124 - ((موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف، دراسة تطبيقية على تفسير المنار))، شفيق بن عبد الله شقير، طبعة المكتب الإسلامي. 125 - ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر))، للشيخ جعفر الحسيني الإدريسي الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400 هـ. 126 - ((هدى الساري، مقدمة فتح الباري))، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تصحيح الشيخ محب الدين الخطيب نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء، الرياض. 127 - ((وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة))، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، دار العلم، بنها، مصر. 128 - دراسة حديث ((نضر الله امرءاً سمع مقالتي))، رواية ودراية، للشيخ عبد المحسن العباد، مطابع الرشيد، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1401 هـ.

§1/1