آراء ابن الجوزي التربوية

ليلى عطار

تقديم الأستاذ الدكتور مقداد يالجن

تقديم الأستاذ الدكتور مقداد يالجن إن هذا الكتاب كان رسالة الدكتوراه في الأصل وقد أشرفت عليها وعايشتها من بدايتها إلى نهايتها قرابة خمس سنوات، وبعد تعديلات وتصحيحات أصبح كتابًا متميزًا من عدة نواح: أولها: أنه يتصف بكل مواصفات البحث العلمي. وثانيها: أنه يتناول كل جوانب آراء ابن الجوزي التربوية. وثالثها: أنه يعقد مقارنة بين شخصية ابن الجوزي مع بعض شخصيات قرنائه وبين آرائه التربوية وآراء تربوية لأحد المعاصرين في المجال نفسه للتعرف على آثار الزمان والعصر على بناء شخصية الإنسان وعلى نهج تفكيره وآرائه. ورابعها: أنه لا يكتفي بوضع آراء ابن الجوزي التربوية على بساط البحث، بل يعقد دراسة لوجوه الاستفادة من تلك الآراء ومن منهجه وطريقة اجتهاداته في حياتنا المعاصرة. كما يتناول تقويم آرائه دون مجاملة. ومع كتاب متميز نجد أنفسنا مع كاتبة وباحثة متميزة فقد وجدتها تمتلك قدرات علمية وأهداف عالية وطموحة ومواصفات بحثية مثل الصبر والجلد والإخلاص والكتابة عن قناعة والشعور بالمسؤولية واستهداف خدمة الدين والأمة. وهي وإن كانت في بداية الطريق، فإن هذه المواصفات إذا بقيت معها سوف تدفعها إلى التقدم والتفوق وإلى أعمال أخرى إن شاء الله. وبالله التوفيق أولًا وأخيرًا، وبه نستعين وعليه نتوكل.

ملخص الرسالة

ملخّص الرسالة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المربين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. وبعد: أنجبت الأُمةُ الإسلامية -خلال تاريخها الطويل- الكثيرَ من العلماء الأفذاذ الذين كان لهم دور كبير في استخلاص العديد من الأسس والمبادئ التي تقوم عليها التربية الإسلامية من خلال دراستهم تعاليم القرآن الكريم وسُنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن خلال تطبيقهم مناهج الفكر الإسلامي في التربية. ومن هؤلاء العلماء الإمام جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي المتوفى سنة 597 هـ (سبع وتسعين وخمس مائة من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم)، والذي صنف أكثر من أربعمئة مؤلف ما بين مطبوع ومخطوط. وقد دفعني إلى إيثار الكتابة حول آراء هذه الشخصية التربوية جملة من الأمور: أولا: أن تلك الآراء في معظمها نابعة من الوحيين العظيمين كتاب الله الكريم، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الشريفة. ولا تخفى حاجة عصرنا الراهن إلى مثل هذا النوع من الآراء التربوية لمواجهة تيار التغريب وطمس الشخصية الإسلامية. ثانيًا: أن هذه الآراء التربوية متناثرة في ثنايا مؤلفات هذه الشخصية، مما يجعل الاستفادة منها -والحال هذه- ضئيلة. ثالثًا: خلو الساحة من الكتابة والتأليف حول هذه الأفكار التربوية

بشكل بحثٍ علمي، يلم شتاتها ويسلط الأضواء عليها، ويجلي للأنظار أصالتها، ومن ثم يعرضُها مرتبة منسقة على نهج تربوي، مع تحليلها، وتقويمها، ومقارنتها ببعض الاتجاهات التربوية المعاصرة. رابعًا: رجاء أن تسهم هذه الدراسة في تأصيل الفكر التربوي، الموجود اليوم عند علماء المسلمين، وأن تسهم مع جهودهم في محاولة امتصاص موجات الاعجاب والانبهار والتبعية للفكر التربوي الغربي ونظرياته المعاصرة -التي طغت على عقول الكثير من أبناء هذا العصر- مفكرين وعاميين. وقد تكونت هذه الرسالة من سبعة أبواب وخاتمة، وبلغ عدد فصولها عشرين فصلًا، وفيما يلي عرض موجز لمحتوى هذه الأبواب والفصول (¬1): الباب الأول: مدخل عام للبحث ويتكون هذا الباب من فصلين هما: • الفصل الأول: خطة البحث وتشمل: أولًا: المقدمة تحدثت فيها الباحثة عن أهمية البحث بصفة خاصة وأهمية الاستفادة من التراث التربوي الإسلامي الذي خلفه علماء المسلمين بصفة عامة ومدى الحاجة إلى هذا التراث في تأصيل الفكر التربوي حاليًا في البلاد الإسلامية. كما تحدثت عن الأسباب التي دفعتها إلى اختيار هذا الموضوع. ثانيًا: تحديد المشكلة تتلخص مشكلة البحث فى الإجابة على التساؤلات الآتية: 1 - ما مدى توافر فكر تربوي متكامل في ثنايا مؤلفات ابن الجوزي؟ ¬

_ (¬1) قد يظن القارئ أن هناك تكرارًا بين ملخص الرسالة والباب الأول من البحث، وهذا تكرار طبيعي اقتضته طبيعة البحث الذي يوجز الملخص لما في الرسالة.

2 - ما مدى موافقة آراء ابن الجوزي ومبادئه التربوية القرآن والسنة باعتبارهما المصدرين الأساسيين للتربية الإسلامية؟ وما مدى مراعاته القواعد الأصولية التشريعية في اجتهاده التربوي؟ 3 - ما مدى اتفاق آراء ابن الجوزي التربوية واختلافها مع بعض الاتجاهات التربوية المعاصرة؟ 4 - ما مدى الاستفادة من تراث ابن الجوزي التربوي في خدمة نظامنا التربوي وفي تأصيل التربية بشكل عام. ثالثًا: أهداف البحث وتتلخص فيما ياتي: 1 - الكشف عن الفكر التربوي لابن الجوزي واستخراج المبادئ والأساليب والأسس التربوية لديه وتحليل آرائه. 2 - إبراز طريقة اجتهاداته التربوية في ضوء المبادئ الإسلامية وفي ضوء مقتضيات عصره. 3 - مقارنة بعض آرائه ببعض الآراء التربوية المعاصرة. 4 - تقويم آرائه في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية. 5 - استخلاص توجيهات تربوية وبيان مدى الاستفادة منها في واقعنا التعليمي والتربوي واقتراح تطبيق ما يمكن تطبيقه منها. رابعًا: تحديد أهمية البحث وتبرز أهمية البحث في النقاط الآتية: 1 - إن هذه الدراسة محاولة لاستخراج الآراء التربوية الإسلامية لابن الجوزي، والتي تشكل في معظمها بعض أبعاد النظرية التربوية الإسلامية التي نحن بحاجة إليها في تأصيل التربية. 2 - الاستفادة من الآراء التربوية لابن الجوزي في مجال تربيتنا وتعليمنا الحالي، وإبرازها في ثوب جديد معاصر يتلاءم مع الحياة الحاضرة مما يخدم الأهداف التربوية. 3 - إبراز إسهام ابن الجوزي في مجال التربية، والاسترشاد به في توجيه تربيتنا وتعليمنا المعاصرين.

4 - الإسهام في تحقيق أهداف الدراسات العليا بقسم التربية بالكلية؛ فمن هذه الأهداف الكشف عن التراث التربوي الإسلامي. 5 - الاستجابة لتوصيات الندوات والمؤتمرات في التربية الإسلامية، بشأن دراسة آراء أعلام المربين المسلمين وإسهاماتهم، لتأصيل التربية والاستفادة منها. 6 - التعريف برجل من رجال الفكر التربوي من أبناء السلف الصالح، وبيان جهوده في مجال التربية والتعليم. 7 - الكشف عما سبق به ابن الجوزي الفكر التربوي الحديث في بعض القضايا. خامسًا: حدود البحث اقتصرت هذه الدراسة على بعض مؤلفات ابن الجوزي التي لها صلة بالتربية مباشرة، مثل كتاب اللطائف والطب الروحاني، وكتاب لفتة الكبد إلى نصيحة الولد، وكتاب صيد الخاطر .. إلى غير ذلك. يضاف إلى ذلك مؤلفاته الأخرى التي تحمل بين ثناياها بعض آرائه التربوية. سادسًا: منهج الدراسة تعتمد هذه الدراسة على خمسة مناهج هي: أولًا المنهج التاريخي: القائم على جمع المعلومات والوثائق عن التراث من خلال الدراسة التاريخية لعصر ابن الجوزي وحياته وبيئته. ثانيًا: المنهج الوصفي: القائم على جمع المعلومات (آراء ابن الجوزي) ثم تصنيفها وتبويبها وتحليلها. ثالثًا: المنهج التقويمي: والذي يتم فيه تقويم آراء ابن الجوزي التربوية في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية والقواعد الأصولية والفقهية. رابعًا: المنهج المقارن: وفيه يتم مقارنة آراء ابن الجوزي التربوية ببعض الآراء المعاصرة بحيث تستطيع الباحثة إصدار أحكام خاصة في ضوء نتائج هذه المقارنة بما يخدم هدف البحث، وإبراز بعض خصائص

التفكير المعاصر وخصائص تفكير ابن الجوزي. خامسًا: المنهج الاستنباطي: وفيه يتم استنباط واستخراج مباديء واستفادات تربوية بعد دراسة النصوص التي قالها ابن الجوزي. سابعًا: الخطوات الاجرائية تمت كتابة أبواب هذا البحث وفصوله من خلال الخطوات الإجرائية. ثامنًا: مصطلحات البحث المصطلحات التي تم تحديد معناها هي: 1 - التربية. 2 - الفكر. 3 - الأصالة. 4 - المبدأ. 5 - الرأي. 6 - التحليل. 7 - التقويم. • الفصل الثاني: الدراسات السابقة. وقد تناولت الباحثة في هذا الفصل الدراسات السابقة الآتية: 1 - دراسة الباحثة (آمنة محمد بن نُصَير). 2 - دراسة الباحثة (حليمة علي مصطفى أبو رزق). 3 - دراسة الدكتور (حسن بن إبراهيم عبد العال). 4 - دراسة الدكتور (عبد الرحمن بن صالح عبد الله). 5 - دراسات أُخرى ليست لها صلة مباشرة بالموضوع، وذكرت حتى يكون القارئ على علم بها. الباب الثاني: ابن الجوزي: عصره وحياته وآثاره ويتكون هذا الباب من أربعة فصول هي: • الفصل الأول: وفيه بيان لطبيعة العصر الذي عاش فيه ابن الجوزي من الناحية العلمية والتربوية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية

والاقتصادية. • الفصل الثاني: وفيه ترجمة لحياة ابن الجوزي من حيث اسمه ونسبه وتاريخ ولادته ونشأته الأُسَرية. • الفصل الثالث: وفيه تفصيل لحياته العلمية ومؤلفاته المتعددة. • الفصل الرابع: وفيه توضيح لمدى تأثر ابن الجوزي بشيوخ عصره أو غيرهم، ومدى تأثيره في غيره، ومكانته العلمية والتربوية وأقوال العلماء فيه. وهذا الباب يكشف عن الجوانب المتعددة التي أثرت في شخصية ابن الجوزي وفكره التربوي. الباب الثالث: آراء ابن الجوزي في أساسيات التربية ويتكون هذا الباب من فصلين هما: • الفصل الأول: رأي ابن الجوزي في الطبيعة البشرية وأساليب تهذيبها وتوجيهها وعلاجها. وفيه ذكرت الباحثة رأي ابن الجوزي في الطبيعة البشرية من حيث تكوينها الذي يدل على وجود الخالق -عز وجل-، وطبيعة خلق الإنسان في الجانبين المادي والروحي، وطبيعة العقل والدماغ وصلتهما بالجسم، ثم ذكرت الباحثة جوانب النفس البشرية وخصائصها من حيث الهوى والدوافع والانفعالات والعواطف وكيفية توجيه هذه الخصائص، ثم ذكرت أسباب الانغماس في الشهوات، وطرق توجيه النفس البشرية وتهذيبها. ثم لخصت أهم الآراء التربوية المستخلصة من هذا الفصل. • الفصل الثاني: رأي ابن الجوزي في مراحل نمو الإنسان. وفيه تعرضت الباحثة لرأي ابن الجوزي في تقسيم مراحل النمو في ضوء علم النفس، ثم رأيه في مراحل النمو الإنساني من الطفولة المبكرة إلى الهرم، ثم لخَّصَت أهم الآراء التربوية التي تمخضت عنها الدراسة. الباب الرابع: رأي ابن الجوزي في تربية جوانب شخصية المسلم ويتكون هذا الباب من الفصول الآتية:

• الفصل الأول: التربية الصحية وفيه ذكرت الباحثة رأي ابن الجوزي في دوافع الطعام والجنس والتداوي من الأمراض، وفي دافع النظافة باعتبارها وسيلة للوقاية من الأمراض ثم بيّنت أهم الآراء التربوية المستخلصة من هذه التربية في نظر ابن الجوزي. • الفصل الثاني: التربية العقلية وفيه ذكرت الباحثة مفهوم العقل في اللغة والقرآن الكريم والسنة النبوية، ومفهوم العقل عند ابن الجوزي ودرجاته وتعريفاتها. كذلك بينت أنواع القدرات العقلية الفطرية والمكتسبة وعلاقة هذه القدرات بالصفات الجسمية والسلوكية. ورأي أبن الجوزي في العلم والتعليم من حيث فضله ومفهومه والهدف منه، وسمات العلم النافع. والمقومات الأساسية للعالم والمتعلم، وطريقة تعلم أنواع العلوم، والعوامل المساعدة على التعليم الجيد، والأسباب التي تؤدي إلى النسيان وطرق مقاومته، ثم لخصت الباحثة اْهم الآراء التربوية في هذه التربية. • الفصل الثالث: التربية الاعتقادية وفيه وضحت الباحثة معنى العقيدة والإيمان وأهم طرق ووسائل التربية الاعتقادية في نظر ابن الجوزي من حيث الابتعاد عن التلقين الصوري للمبادئ الإسلامية، والتركيز على جوانب العقيدة المؤثرة، واستخدام الأدلة الفطرية للإقناع، وتكوين عاطفة إيمانية قوية دافعة للسلوك، والتبصير بأساليب الإلحاد والملحدين كما ذكرت أهم الآراء التربوية المستخلصة من هذه التربية. • الفصل الرابع: التربية الروحية وفيه ذكرت الباحثة ماهية الروح وصفاتها عند ابن الجوزي وأساليب التربية الروحية ووسائلها التي حددها في أساليب عدة متمثلة في تبصير الناشئ بالآيات الدالة على وجود الله تعالى وقدرته العظيمة في الكون والنفس مع التفكر في ظاهرة الموت وما بعده، بالإضافة إلى تكوين روح الطاعة والإخلاص لله وحده، وممارسة العبادات المفروضة رغبًا ورهبًا وأدائها بالروح التربوية، بالإضافة إلى ذكر أهم الآراء التربوية

المستخلصة من هذه التربية. • الفصل الخامس: التربية الأخلاقية وفيه ذكرت الباحثة معنى الخلق في اللغة وفي رأي ابن الجوزي، وطبيعته الفطرية والاكتسابية، وبعض الأخلاقيات السلبية التي ذكرها ابن الجوزي وعلاجها. وأهم الآراء التربوية المستخلصة من هذه التربية. • الفصل السادس: التربية الإرادية وفيه ذكرت الباحثة مفهوم الإرادة وطبيعتها بصفة عامة، ثم شروط التربية الإرادية عند ابن الجوزي من حيث مراعاة طاقة الطفل عند تدريبه، وتكليفه ما يعقله، وتنشئته على الفضائل والآداب الصالحة. ثم ذكرت الباحثة أساليب التربية الإرادية في نظر ابن الجوزي من حيث ممارسة أنواع التدريب الإرادي للسلوك الفطري، والسلوك الخاص بالبذل والعطاء والتحمل والصبر مع ذكر الوسائل المُعِينَة على الصبر، ووسائل وقاية الإرادة من ضعفها قبل ارتكاب المعاصي والعلاج بعد الوقوع فيها، والوسائل النفسية الإيحائية لتقوية الإرادة. وأهم الآراء المستخلصة من هذه التربية. الباب الخامس: تقويم آراء ابن الجوزي ومقارنتها بغيرها من الآراء المعاصرة واللاحقة ويتكون هذا الباب من فصلين هما: • الفصل الأول: تقويم آراء ابن الجوزي في ضوء القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، وفي ضوء القواعد الأصولية ونواحٍ أُخرى. وفيه عرضت الباحثةُ آراء ابن الجوزي التربوية التي وثقها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقواعد الأصولية وبعلم الكلام والمنطق وبالقصص والشعر وبالتجارب والخبرات الذاتية. ثم ذكرت الباحثة الآراء التربوية لابن الجوزي المخالفة للمنهج التربوي الإسلامي. • الفصل الثاني: مقارنة وموازنة آراء ابن الجوزي في ضوء بعض آراء معاصريه وفي ضوء الآراء التربوية الحديثة المعاصرة. وفي هذا الفصل قارنت الباحثة جوانب الحياة الثقافية والتعليمية والتربوية في عصر ابن الجوزي عند المسلمين وعند الأوروبيين، ثم قارنت آراء ابن الجوزي بآراء

معاصريه من المسلمين في الفترة الزمنية نفسها التي عاشها أمثال: أبي بكر ابن العربي، وعبد الكريم بن محمد السمعاني، وبرهان الدين الزرنوجي، وابن طفيل، وابن رشد. ثم قارنت بعض آراء ابن الجوزي ببعض الآراء التربوية الحديثة، وأخيرًا قارنت بعض آراء ابن الجوزي بآراء د. عمر محمد الشيباني أحد المربين المسلمين المعاصرين في وقتنا الحالي. الباب السادس: أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها ويتكون هذا الباب من فصلين هما: • الفصل الأول: أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها. وفيه أجملت الباحثة أهم الآراء التربوية في الطبيعة البشرية، وفي تربية الطفل في ضوء مراحل النمو، وفي جوانب التربية الإسلامية ووجوه الاستفادة منها. • الفصل الثاني: طريقة اجتهاداته التربوية ووجوه الاستفادة منها. وفيه وضحت الباحثة طريقة اجتهاداته التربوية من خلال شروط الاجتهاد وضوابطه التي تتمثل في العلم بالقرآن من حيث ناسخه ومنسوخه، والعلم بالسنة النبوية واللغة العربية. مع معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف، ومعرفة القياس ومقاصد التشريع، مع ما يتميز به المجتهد من صحة الفهم وحسن التقدير وصحة النية وسلامة الاعتقاد. ثم ذكرت الباحثةُ وجوه الاستفادة من طريقة اجتهادات ابن الجوزي التربوية في الوقت الحالي، وكيفية استفادة الباحث التربوي الإسلامي منها. الباب السابع: نتائج البحث ومقترحاته ويتكون هذا الباب من فصلين هما: • الفصل الأول: نتائج البحث. ويمكن حصر نتائج البحث في النقاط الآتية: 1 - الكشف عن الفكر التربوي لابن الجوزي واستخراج المبادئ

والتوجيهات والأساليب التربوية لديه. 2 - تقويم آراء ابن الجوزي التربوية في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية والقواعد الأصولية وبيان مدى أصالة هذه الآراء وثباتها لأنها مستمدة من المنهج التربوي الإسلامي. 3 - أسبقية ابن الجوزي لعلماء التربية وعلم النفس الحديث في بعض آرائه التربوية والنفسية. 4 - إمكانية الاستفادة من التوجيهات والمبادئ التربوية لابن الجوزي في تعليمنا وتربيتنا المعاصرين. 5 - إمكانية الاستفادة من طريقة اجتهاداته التربوية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن ضوابط القواعد الأصولية، ومن استغلاله القصص والشعر والتجارب والخبرات الذاتية في تعليمنا وتربيتنا المعاصرة. 6 - توضيح مدى تحليله العواطف والانفعالات الايجابية والسلبية. وتقديم معالجات لبعض الحالات النفسية المَرَضِية معالجة إسلامية فذة. 7 - من جوانب سمات اهتمامات ابن الجوزي التربوية، الاهتمام بآداب العالم والمتعلم، وغياب مثل هذا الاهتمام في العصر الحديث، إذ نرى ظاهرة سوء أدب المتعلمين مع المعلمين، ومع الآباء والكبار. 8 - هناك العديد من وجوه الاستفاد من آراء ابن الجوزي في مجال تربيتنا الإسلامية المعاصرة. ذكرتها الباحثة بالتفصيل في موضعها. • الفصل الثاني: المقترحات. ويمكن حصر المقترحات في النقاط الآتية: 1 - تشكيل لجنة علمية تهتم بجمع التراث وتحقيقه ونشره، ثم يتفرع منها لجان تهتم بجمع الآراء التربوية لعلماء المسلمين ودراستها ثم تصنيفها في مجالات متعددة مثل "أهداف التربية الإسلامية"، أو "تربية الأطفال"، ثم التوفيق بين الآراء وإخراجها في صورة مبادئ تربوية مناسبة للتلاميذ في جميع المراحل التعليمية.

2 - الاهتمام بالفكر التربوي لابن الجوزي ولغيره من العلماء المسلمين، إذ يمثل ذلك الفكرُ محاولة جادة للاستفادة من المنهج التربوي الإسلامي بمصدريه الكتاب الكريم والسنة النبوية. 3 - أوصي القائمين على المناهج التعليمية في المملكة، باختيار الآراء التربوية المناسبة لكل مرحلة من المراحل التعليمية وإدراجها ضمن المقررات الدراسية. 4 - توجيه الفكر التربوي الإسلامي المعاصر إلى الاستفادة من طريقة ابن الجوزي عند عرضه الآراء التربوية، من خلال فهمه الصحيح للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقواعد الأصولية. 5 - دراسة التراث التربوي الإسلامي وتصنيفه حسب العصور الإسلامية أو الموضوعات المختلفة. 6 - إنشاء مكتبة تربوية إسلامية تراثية عن طريق جمع كل هذه الرسائل والبحوث التربوية التراثية. 7 - طبع الرسائل التربوية التراثية بعد إجراء التعديلات الضرورية عليها. 8 - دراسة خصائص التربية التراثية ومميزاتها، ومعرفة المناهج العلمية المستخدمة عند كتابتها. 9 - دراسة تطور التفكير التربوي الإسلامي عبر العصور السابقة من خلال دراسة ملامح كل عصر من تلك العصور، وأهم المؤثرات الموجهة للتربية. 10 - دراسة خصائص الفكر التربوي لدى العلماء المسلمين السابقين، ومقارنتها بالواقع الحالي للمتعلمين. 11 - عقد بعض المؤتمرات والندوات التربوية التي تركز على طرق إحياء التراث التربوي الإسلامي للعلماء المسلمين، وإبراز أنماط دراستها دراسة مكتبية فنية، بحيث يستفيد منها الباحثون وتساعد على سرعة إنجاز بحوثهم، وتعمل أدِلة لتلك البحوث وفهرسة تحليلية لها. 12 - دراسة عوامل اندثار مثل هذه الدراسة، وبقائها في طي

النسيان في واقعنا التربوي، ثم دراسة وضع التربية الغربية المنفذة في الأنظمة التعليمية والتربوية في البلاد الإسلامية، وأثرها في تشكيل الشخصية المسلمة. 13 - العمل على كشف المنهج التربوي لدى علماء المسلمين وبخاصة في عصور ازدهار العلم والحضارة الإسلامية التي سبق فيها المسلمون غيرهم في العلوم والصناعات الاقتصادية.

الباب الأول مدخل عام للبحث

الباب الأول مدخل عام للبحث • الفصل الأول: خطة البحث • الفصل الثاني: الدراسات السابقة

الفصل الأول خطة البحث

• الفصل الأول خطة البحث أولًا: مقدمة البحث ثانيًا: تحديد المشكلة ثالثًا: أهداف البحث رابعًا: تحديد أهمية البحث خامسًا: حدود البحث سادسًا: منهج البحث سابعًا: الخطوات الاجرائية للبحث ثامنًا: مصطلحات البحث

أولا: مقدمة البحث

• الفصل الأول خطة البحث أولًا: مقدمة البحث الحمدُ لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، يليق بعظمته تعالى، والصلاة والسلام على نبينا محمد النبي العربي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. وبعد، فقد ثبت للأمة الإسلامية -خلال تاريخها الطويل- أنها تحتاج دائمًا وأبدًا إلى الرجوع إلى قرآنها المجيد وسُنة نبيها الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -، باعتبارهما المنبع الصافي. . . والمنهل العذب والنور الذي تسترشد به في تسيير أمور حياتها كلها وخصوصًا تملك الأمور التي تتصل بتربيتها وتعليمها وتزكيتها النفس البشرية، وتكوين شخصية الإنسان الصالح المستخلَف بما يتوافق وفطرته البشرية، والمعرفة الصحيحة بالإنسان مستمدة من كتاب خالقها، لأنه خالقه وموجده ومكونه، وهو سبحانه أعلم بما يصلحه ويهبه القوة والقدرة لعمارة الأرض وفق منهجه وشرعه، ليكون الكون كله قانتًا له جل جلاله، فتتحقق العبودية المطلقة لله تعالى. وبعد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، كان لعدد من العلماء المسلمين، دور كبير في استخلاص العديد من الأسس والمبادئ التي تقوم عليها التربية الإِسلامية من خلال دراستهم تعاليم القرآن الكريم وسُنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن خلال تطبيقهم مناهج الفكر الإسلامي في التربية. وقد تمكن هؤلاء العلماء من تسجيل هذه الآراء في كتاباتهم وترجموها في سلوكياتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، فكانت أعمالهم خير برهان على أصالة التربية الإسلامية وتكاملها، لهذا فنحن بحاجة إلى دراسة التراث التربوي لأولئك العلماء، للاستفادة من تراثهم ولتأصيل

التربية التي نحن أحوج ما نكون إليها في وقتنا الحاضر لأنها خير وسيلة لتسير الأمةُ على نهجها، ولإنقاذ أبنائها من ضياع الشخصية، ومن الانحرافات التي نشاهدها في الشباب، لهذا "إذا جاز لأُمة أن تتعثر في وضع أسس تربوية تنشئ عليها أبناءها، أو تضطرب في البحث عن أهداف تربوية تحمي أجيالها من الزلل، فإنه لا يغتفر لأمُتنا الإِسلامية أن تتجرع غصص الحيرة في هذا السبيل. لأن أمتن الأُسس التربوية، وأرفع أهداف التربية والتعليم موجودة بين أيدينا متمثلة بعقيدة هذه الأُمة، وقواعد هذا الدين وتوجيهاته وتعليماته التي أنعم الله بها علينا" (¬1). ومن أولئك العلماء الأفذاذ الإمام جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي البغدادي المتوفى سنة 597 هـ؛ فهو قد تبخر في العلوم وكتب في معظم فنون عصره، ناظرًا الى العلم -كغيره من علماء المسلمين- كوحدة ثقافية معرفية مترابطة دون فصل أو تجزئة وذلك من خلال فهمه الإسلام الذي يقيم "التخصص في دائرة الشمول والتكامل فلا يجعله منفصلًا انفصالًا يذهب به إلى الاستعلاء أو التفرد حتى لا يفقد المسلمُ روحَ الوحدة ولا يفقد الفكرُ الإِسلامي طابعَ الترابط الجامع بين القيم والعناصر" (¬2). ومن خلال مؤلفاته التي تبلغ 350 مؤلفًا (¬3) حسب بعض الدراسات وأكثر من 400 مؤلف حسب دراسات أُخرى (¬4)، وذلك ما بين مطبوع ومخطوط، تجد الباحثة أن آراءه ومبادئه التربوية متناثرة في ثنايا مؤلفاته المختلفة التي حَوَت الكثير من الآراء التربوية منها على سبيل المثال: ¬

_ (¬1) التميمي، عز الدين وسمرين، بدر، إسماعيل. نظرات فى التربية الإسلامية. عمان، دار البشير، الطبعة الأولى، 1405 هـ-1985 م، ص 61. (¬2) الجندي، أنور. التربية وبناء الأجيال ضوء الإسلام بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى , 1975 م, ص 147. (¬3) بوياجلار، نور الدين بن شكري. فهرس مؤلفات أبي الفرج ابن الجوزي. المخطوطة بمكتبات تركيا. مجلة كلية أصول الدين. الرياض، 1402 هـ- 1403 هـ، ص 316. (¬4) العلوجي، عبد الحميد. مؤلفات ابن الجوزي. بغداد، شركة دار الجمهورية للنشر والطبع، 1385 هـ- 1965 م، ص 5.

رأيه في تربية الأطفال من جميع الجوانب الخلقية والعقلية والجسمية والتعليمية المتمثل في قوله: "واعلم أن الرياضة للنفس تكون بالتلطف والتنقل من حال إلى حال، ولا ينبغي أن يؤخذ أولًا بالعنف ولكن بالتلطف ثم يمزج الرغبة بالرهبة ويعين على الرياضة صحبة الأخيار، والبعد عن الأشرار، ودراسة القرآن والأخبار، وإجالة الفكر في الجنة والنار، ومطالعة سِيَر الحكماء والزهاد" (¬1). كما كان له رأي في تهذيب الغرائز والدوافع الفطرية، فهو يقول في هذا المجال مثلا: "إن جميع ما وُضِع في الآدمي إنما وضع لمصلحته، إما لاجتلاب نفع كشهوة المطعم، أو لدفع ضرر كالغضب، فإذا زادت شهوة المطعم صارت شرها فآذت، وإذا زاد الغضب أخرج إلى الفساد" (¬2). كما كانت له آراؤه في الجوانب الروحية والعقلية والجسمية. ولم ينضب معينُ ابن الجوزي، فكانت له آراؤه في الناحية التعليمية من حيث العلم وهدفه وفضيلته كقوله: "فأقرب الخلق من الله العلماء، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به" (¬3). كما وضح أهم العلوم التي ينبغي أن يبدأ بها الإنسان "أعلم أنه لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في كل علم إلى منتهاه، غير أن العمر قصير، والعلم كثير" (¬4)، "وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلة تابع" (¬5)، إلى غير ذلك من الآراء. وبعد هذا العرض الموجز لبعض آراء ابن الجوزي التربوية، فإن ¬

_ (¬1) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. اللطائف والطب الروحاني. (تحقيق): عطا، عبد القادر، أحمد، القاهرة، مكتبة القاهرة، دون تاريخ، ص 132. (¬2) المرجع السابق، ص 92. (¬3) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. صيد الخاطر. بيروت، المكتبة العلمية ودار الباز للطباعة والنشر، دون تاريخ، ص 157. (¬4) المرجع السابق، ص 429. (¬5) المرجع السابق، ص 178.

ثانيا: تحديد المشكلة

إحساسي بالحاجة إلى استخراجها وجمعها من ثنايا مؤلفات ابن الجوزي الكثيرة، ورؤيتي القصور في دراستها، ثم محاولة إبرازها منظمة ومرتبة ومنسقة على نهج تربوي، ثم تحليلها وتقويمها ومقارنتها ببعض الاتجاهات التربوية المعاصرة مع بيان وجوه الاستفادة من نهجه التربوي في تربيتنا المعاصرة. . . . كل ذلك دفعني إلى اختيار هذا الموضوع. ولذا فإن هذه الدراسة خطوة على طريق البناء التربوي الإسلامي المنشود لإرساء قواعده وأسسه وأهدافه وأغراضه وأساليبه من منطلق الفهم العميق للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ثم من خلال مؤلفات ابن الجوزي وما خطته يداه .. وأملته تجربته من مبادئ وآراء وأساليب، علّها تفيدنا في تربيتنا وتعليمنا المعاصر .. وتساهم في تأصيل الفكر التربوي الموجود اليوم عند عامة المسلمين، وتخفف من انبهارهم وتبعيتهم للفكر الغربي ونظرياته المعاصرة. ثانيًا: تحديد المشكلة لما بدأ المسلمون استعارة المناهج والنظم التربوية من الشرق والغرب، غلب على تلك النظم التعليمية "طابع الاستيراد والتقليد، الذي جعلها لا تتلاءم مع متطلبات المجتمع أو البيئة، كما أنها قد لا تُعنى برغبات الطلاب ومواهبهم الخاصة، فهي لذلك لا تحل مشكلات البلاد الناهضة، بل هي بدورها قد تولد مشكلات عديدة جديدة للمجتمع الذي استوردها. . . ." (¬1) لذلك فإن ترجمة بعض الكتب ونقلها وتقليدها بكل ما تحويه من عقائد ومبادئ وقيم تتعارض مع عقيدة وقيم أمتنا العربية الإسلامية نتج منه "أنه وُجدت في العالم الإسلامي الشخصية المتناقضة في الفكر والسلوك، حتى أصبح الجيل المسلم ركامًا من التناقضات، ونهبًا للعديد من الأفكار، وأصبح غارقًا في محيط النظريات والآراء، وأضحى لا لون له ولا ميزة" (¬2)، وبذلك لا يمثل المسلمون ¬

_ (¬1) الجمالي، محمد فاضل. نحو تربية مؤمنة. تونس، الشركة التونسية للتوزيع، الطبعة الأولى، 1977 م، ص 33. (¬2) مرجع سابق، التميمي، عز الدين وسمرين، بدر، إسماعيل. نظرات فى التربية الإسلامية. ص 5.

اليوم حقيقة الإسلام وروحه وقيمه وفكره وحضارته، "وزاد الأمر تعقيدا أنه في غمرة المحاولات للحاق بالركب تم نقل هذه الكتابات بخيرها وشرها، وبما تحمله في طياتها من خلفية إلحادية منكرة لا تؤمن بغير المادة، مما أدى إلى إثارة الكثير من البلبلات الفكرية في العالم الإِسلامي في وقت فُتن الناس فيه بمنجزات العلوم والتقنية، وحوصرت معاهد التربية الإسلامية حتى خُنقت وفُرضت على الأمة نظم تعليمية علمانية في جوهرها وفلسفتها ومحتواها ومناهجها وأهدافها وإن نطقت الأُمّة بالشهادتين، وأدت من العبادات ما استطاعت أن تؤديه" (¬1). ومن هنا كان لابد من الرجوع إلى كتب التراث واستخراج درره القيمة .. وكنوزه النفيسة، وهو الرجوع بالتربية والتعليم إلى أصالة الأمة الإسلامية وعزتها .. وإلى توحيد الفكر التربوي الإسلامى للأُمة العربية والإسلامية كلها، بالاعتماد على الكتاب والسنة اللذَين يتميزان بالأصالة والثبات والصدق والواقعية والشمول والتكامل وتصوير النفس البشرية كما خلقها الله تعالى، حتى نصل في النهاية إلى تكوين الشخصية المؤمنة المجاهدة التي تستطيع مواجهة صعوبات ومتطلبات الحياة، مهتدية بمبادئ تتفق مع عقيدة هذه الأُمة ومنهجها. ومن خلال هذا التصور لمشكلة البحث، تبرز لنا تساؤلات عدة تدور حول موضوع الدراسة، وهي التساؤلات الآتية: 1 - ما مدى توافر فكر تربوي متكامل في ثنايا مؤلفات ابن الجوزي؟ 2 - ما مدى موافقة آراء ابن الجوزي ومبادئه التربوية للقرآن والسنة باعتبارهما المصدرين الأساسيين للتربية الإِسلامية؟ وما مدى مراعاته القواعد الأصولية التشريعية؟ 3 - ما مدى اتفاق واختلاف آراء ابن الجوزي التربوية مع بعض الاتجاهات التربوية المعاصرة؟ ¬

_ (¬1) النجار، زغلول، راغب. أزمة التعليم المعاصر. الكويت، مكتبة الفلاح، الطبعة الأولي، 1400 هـ -1980 م، ص 165.

ثالثا: أهداف البحث

وما أهمية دور تلك المبادئ والآراء في بناء الشخصية الإِسلامية وفي خدمة نظامنا التربوي الحالي في المملكة بوجه خاص، وفي تأصيل الفكر التربوي في العالم الإِسلامي بوجه عام؟ ثالثا: أهداف البحث ستركز هذه الدراسة على الأهداف الآتية: 1 - الكشف عن الفكر التربوي الإسلامي لابن الجوزي واستخراج المبادئ والأساليب والأسس التربوية لديه وتحليل آرائه. 2 - إبراز طريقة اجتهاداته التربوية في ضوء المبادئ الإِسلامية وفي ضوء مقتضيات عصره. 3 - مقارنة بعض آرائه ببعض الآراء التربوية المعاصرة. 4 - تقويم آرائه في ضوء القرآن والسنة النبوية الشريفة. 5 - استخلاص توجيهات تربوية وبيان مدى الاستفادة منها في واقعنا التعليمي والتربوي واقتراح تطبيق ما يمكن تطبيقه منها. رابعًا: تحديد أهمية البحث تبرز أهمية هذه الدراسة في النقاط الآتية: 1 - إن هذه الدراسة محاولة لاستخراج الآراء التربوية الإسلامية من مؤلفات أحد أعلام المسلمين "ابن الجوزي"؛ لأن مؤلفاته لم تحظ بالدراسة التربوية الكافية، كما سنتبين ذلك من خلال عرضنا الدراسات السابقة على الرغم من أن آراءه التربوية في مؤلفاته تشكل بعض أبعاد النظرية التربوية الإِسلامية التي نحن بحاجة إليها في تأصيل التربية. 2 - الاستفادة من الآراء والمبادئ التربوية لابن الجوزي في مجال تربيتنا وتعليمنا الحالي، وإبرازها في ثوب جديد معاصر يتلاءم مع الحياة الحاضرة بما يخدم الأهداف التربوية. 3 - إبراز إسهام ابن الجوزي في مجال التربية والاسترشاد به في توجيه تربيتنا وتعليمنا المعاصر.

خامسا: حدود البحث

4 - الإسهام في تحقيق أهداف الدراسات العليا بقسم التربية بالكلية؛ فإن من هذه الأهداف الكشف عن التراث التربوي الإسلامي" (¬1). 5 - الاستجابة لتوصيات الندوات والمؤتمرات في التربية الإسلامية، بشان دراسة آراء وإسهامات أعلام المربين المسلمين، لتأصيلَ التربية والاستفادة منها (¬2). فمن هذه التوصيات، توصية المؤتمر العالمي الخامس للتربية الإسلامية المنعقد بالقاهرة، وجاء فيه: "يوصي المؤتمر بضرورة الاهتمامَ بجهود وإسهامات العلماء المسلمين في كل جوانب المعرفة الإنسانية قديمًا وحديثًا، لبث الثقة في نفوس التلاميذ بأصالة وعمق الفكر الإسلامي، والانتفاع بهذه الجهود الخيرة في المناهج والمقررات الدراسية وحماية المسلمين من المذاهب الفكرية الهدامة" (¬3)، ومؤتمر التربية الإِسلامية في عمان المنعقد في المدة من 2 - 5 محرم 1411 هـ. ومن قبل مؤتمر مكة المنعقد سنة 1397 هـ. 6 - التعريف برجال الفكر التربوي الإِسلامي في العالم -ومنهم ابن الجوزي- بما لدى المسلمين من رجال تربويين ومن أفكار تربوية. 7 - الكشف عما سبق ابن الجوزي به الفكر التربوي الحديث فى بعض القضايا. خامسًا: حدود البحث إن هذه الدراسة تركز أولًا على مؤلفات ابن الجوزي التي لها صلة بالتربية مباشرة مثل: 1 - اللطائف والطب الروحاني. 2 - لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ¬

_ (¬1) دليل قسم التربية بكلية العلوم الاجتماعية، ص 16، رقم الهدف 4. (¬2) مثل مؤتمر مكة ولبنان وإسلام أباد، ومؤتمر القاهرة، ومؤتمر عمان. (¬3) المؤتمر العالمي الخامس للتربية الإسلامية بالقاهرة من 8 - 13 رجب 1407 هـ. مجلة التضامن الإسلامي. تصدرها وزارة الحج والأوقاف بمكة المكرمة, السنة الثانية والأربعون, الجزء التاسع, رمضان 1407 هـ - مايو 1987 م.

سادسا: منهج البحث

3 - صيد الخاطر. 4 - الأذكياء. 5 - أخبار الحمقى والمغفلين. 6 - تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر. 7 - تلبيس إبليس. 8 - الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ثانيًا: دارسة كل المؤلفات الأُخرى التي يمكن الحصول عليها، وتحمل بين ثناياها بعض آرائه التربوية، لتكون الدراسة شاملة -قدر المستطاع- لآرائه التربوية. سادسًا: منهج البحث إن طبيعة هذه الدراسة هي التي تحدد نوع المنهج المستخدم في سردها وتحليلها وتصنيفها وتبويبها وتقويمها ومقارنتها، ولهذا استخدمت الباحثة حسب طبيعة الموضوع ومتطلبات البحث. الأول: المنهج التاريخي: لأن الموضوع يرتبط بالماضي ويعتمد على جمع المعلومات والوثائق عن الرجل وعن التراث من أجل الدراسة التاريخية لعصر ابن الجوزي وحياته وبيئته ومؤلفاته، ثم من أجل الوصول إلى آرائه التربوية. الثاني: المنهج الوصفي ويعتمد على "الدراسة العلمية لظروف المجتمع وحاجاته بقصد تقويم فعلي واقعي للإصلاح" (¬1) في المرحلة التي عاشها ابن الجوزي، وستستخدم الباحثة هذا المنهج باعتبار أن البحث يتناول بعض الدراسات المعاصرة في واقعنا التعليمي، وفيه ستقوم الباحثة بجمع المعلومات (آراء ابن الجوزي التربوية) ثم تصنيفها وتبويبها وتحليلها. ¬

_ (¬1) عمر، محمد، زيان. البحث العلمى مناهجه وتقنياته. القاهرة، 1974 م، ص 118 "بتصرف".

سابعا: الخطوات الإجرائية

ومع استخدام هذين المنهجين التاريخي والوصفي، لابد من استخدام الجانب التحليلي الذي يعتمد على تصنيف الآراء التربوية تحت مسماها الطبيعي بطريقة واضحة لا غموض فيها، ثم استخلاص النتائج. الثالث: المنهج التقويمي: وفي هذا المنهج يتم تقويم آراء ابن الجوزي التربوية في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية لأنهما المعياران الأساسيان لإِسلامية التفكير في المجالات المختلفة. الرابع: المنهج المقارن: وفيه تقارن الباحثة آراء ابن الجوزي ببعض الآراء المعاصرة، بحيث تستطيع إصدار أحكام خاصة في ضوء نتائج هذه المقارنة بما يخدم هدف البحث، وإبراز خصائص التفكير المعاصر أو تفكير ابن الجوزي. الخامس: المنهج الاستنباطي: يعرف بأنه الطريقة التي يقوم فيها الباحث ببذل أقصى جهدٍ عقلي ونفسي عند دراسة النصوص بهدف استخراج مبادئ تربوية مدعمة بالأدلة الواضحة من المصدرين الأساسيين في غالب الأمر، وفيه ستقوم الباحثة باستنباط واستخراج المبادئ التربوية وأهم وجوه الاستفادة من آراء ابن الجوزي بعد الدراسة التحليلية لهذه الآراء. ومن خلال هذه المناهج العلمية المستخدمة في هذه الدراسة يمكن الكشف عن الإطار النظري العام للآراء التربوية لابن الجوزي، وتصنيفها بطريقة يمكن تعميمها وتطبيقها والاستفادة منها في واقعنا التعليمي والتربوي المعاصر. سابعًا: الخطوات الإجرائية تمت كتابة أبواب وفصول هذا البحث بناء على الخطوات الآتية: الخطوة الأولى: بالنسبة لاستخلاص الآراء التربوية تمت كالآتي: 1 - قراءة كتب ابن الجوزي -التي تستطيع الباحثة الوصول إليها- ثم التركيز على الكتب المحتوية على أفكاره التربوية بالدرجة الأولى. 2 - استخراج الأفكار والمفاهيم التربوية من ثنايا مؤلفاته.

3 - تصنيف هذه الأفكار المستخرجة في مجموعات حسب فصول الخطة المقترحة. 4 - ترتيب أفكار كل مجموعة على حدة حسب تسلسلها المنطقي. 5 - عرض هذه الأفكار وتحليلها تربويًا بطريقة متسلسلة ومترابطة ومتكاملة لتصبح في النهاية كلا موحدا بحيث تعطي فكرة واضحة عن آراء ابن الجوزي التربوية وسيكون التحليل مدعما وموثقًا بالكتابات التربوية المختلفة. الخطوة الثانية: أما دراسة الآراء التربوية وتقويمها في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فقد تمت خطة السير فيها على النحو الآتي: 1 - البحث عن آرائه التربوية فيما إذا كان يدعمها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية أو لا يدعمها. 2 - البحث عن الأحاديث التي يستخدمها فيما إذا كانت الأحاديث صحيحة أو موضوعة وهل يخرَّج الأحاديث ويبين مرجعها من كتب السنة أو لا؟ ولهذا ترجع الباحثة إلى كتب السنة بشأن الأحاديث التي استشهد بها، لتعرف حكم أهل الحديث فيما إذا كانت صحيحة أو ضعيفة في متنها أو سندها. 3 - البحث عن مدى اعتماده على القواعد الأصولية والفقهية في اجتهاده في ضوء القرآن والسنة، ومدى تقيده بضوابط الاجتهاد وقواعده للوصول إلى آرائه التربوية. الخطوة الثالثة: أما مقارنة آرائه ببعض الآراء التربوية المعاصرة: فإنه بعد تقويم آراء ابن الجوزي التربوية في ضوء القرآن والسنة، وفي ضوء قواعد الاجتهاد على النحو السابق قامت الباحثة بالآتي: 1 - أعتمد على الآراء التربوية المتفقة مع الكتاب والسنّة والقواعد الأصولية، وأوضح الآراء المخالفة للكتاب والسنّة أو التي لا تتمشى مع قواعد الاجتهاد الأصولي. 2 - أختار من آرائه الآراء التي يمكن أن تطبق في حياتنا المعاصرة.

ثامنا: مصطلحات البحث

3 - أقرأ بعض كتب التربية المعاصرة والمترجمة، ثم اختار في ضوء هذه القراءة بعض الآراء المعاصرة والمنتشرة المقابلة لآراء ابن الجوزي في الموضوع نفسه. 4 - أقوم بالمقارنة بينها سواء كانت متفقة أو مخالفة ثم أقوم بتحليلها في ضوء ذلك. 5 - وفي النهاية أصل إلى أهم أوجه الاتفاق والاختلاف بين آراء ابن الجوزي واتجاهات التربية المعاصرة، ثم أوضح ما أضافه ابن الجوزي من آراء تربوية وما سبق غيره وأهمية هذه الآراء في حياتنا. ثامنا: مصطلحات البحث توجد في هذه الدراسة بعض المصطلحات التي لابد من تحديد معناها وهي الآتية: 1 - التربية معنى التربية من المعاني المعروفة لغويًا واصطلاحيًا، ولها تعريفات كثيرة في الفكر التربوي الإسلامي والغربي، لذلك سأذكر تعريفًا واحدًا من تعريفات المسلمين وواحدًا من تعريفات الغربيين وثالثا من الفكر الإِسلامي المعاصر ثم أذكر التعريف الذي يناسب موضوع هذه الرسالة. 1 - تعريف أحد المسلمين للتربية تعريف القاضي البيضاوي: "التربية هي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا" (¬1). وقد علق د. مقداد يالجن على هذا التعريف قائلًا: "يلاحظ على هذا التعريف أنه أعم من شموله على الإِنسان حيث إنه يشمل الإنسان ¬

_ (¬1) البيضاوي، عبد الله بن عمر، ناصر الدين، أبو سعيد، الشيرازي. أنوار التنزيل وأسرار التأويل. بيروت، دار الجيل، دون تاريخ، الجزء الأول، ص 3 نقل بتصرف.

والحيوان والزراعة حتى بناء أي شيء. كما نلاحظ أنه غير مصبوغ بالصبغة الإِسلامية" (¬1). 2 - تعريف أحد الغربيين للتربية عرف سبنسر التربية بأنها هي: "التي تعد للحياة الكاملة، وتركز في محتوياتها على الخبرات وأنشطة الحياة ذات القيمة الواضحة في الإِعداد للحياة الكاملة" (¬2). الملاحظ على هذا التعريف أن سبنسر ربط التربية بالحياة، وجعل الوظيفة الأساسية للتربية هي الإعداد للحياة الكاملة، وهذا المفهوم غير وافٍ في الفكر الإِسلامي لأنه اقتصر على الحياة الدنيا وأهمل الحياة الآخرة. 3 - تعريف التربية الإسلامية عرف د. صبحي طه رشيد إبراهيم التربية الإسلامية بأنها: "تنمية جميع جوانب الشخصية الإسلامية الفكرية والعاطفية والجسدية والاجتماعية، وتنظيم سلوكها على أساس من مبادئ الإِسلام وتعاليمه، بغرض تحقيق أهداف الإِسلام في شتى مجالات الحياة" (¬3). والملاحظ على هذا التعريف أنه أغفل بعض جوانب الشخصية الإسلامية المتكاملة مثل الجانب الاعتقادي والروحي والأخلاقي والإرادي والإبداعي، ولم يؤكد على استمرارية التربية الإسلامية في جميع مراحل النمَو الإنساني، كذلك قصر تحقيق أهداف الإسلام في شتى مجالات الحياة الدنيا ولم يربطها بالحياة الآخرة، ولم يحدد الأساليب والطرق التربوية الإِسلامية التي ينبغي مراعاتها عند الإِعداد. لذلك رأت الباحثة ¬

_ (¬1) يالجن، د. مقداد. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. بيروت، مؤسسة دار الريحاني للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م، ص 22. (¬2) الشيباني، د. عمر، محمد، التومي. تطور النظريات والأفكار التربوية. ليبيا، تونس، الدار العربية للكتاب، 1397 هـ - 1977 م، ص 290. (¬3) إبراهيم، صبحي، طه، رشيد. التربية الإسلامية وأساليب تدريسها. عمان، دار الأرقم للكتب، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م، ص 9.

أن تعريف د. مقداد يالجن أنسب التعريفات التي تتناسب مع موضوع هذه الرسالة، ولاسيما أنه يتميز بخصائص أغفلها تعريف د. صبحي، والتعريف يقول: إن التربية الإسلامية هي: "علم إعداد الإنسان المسلم لحياتي الدنيا والآخرة إعدادًا كاملا من الناحية الصحية والعقلية والعلمية والاعتقادية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والإرادية والإبداعية في جميع مراحل نموه في ضوء المبادئ والقيم الإِسلامية وفي ضوء أساليب ووسائل وطرق التربية التي بينها الإِسلام" (¬1). أما الألفاظ التي استخدمها ابن الجوزي في أقواله فهي كلمة "الرياضة" بمعنى التربية كما في قوله في مواضع عدة نذكر منها على سبيل المثال: "إن الرياضة لا تصلح إلا في نجيب" (¬2) وقوله: "الرياضة للنفس تكون بالتلطف والتنقل من حال إلى حال" (¬3). أما اللفظ الثاني والثالث فقد جاءا بمعنى "التأديب" و"التربية" كما في قوله: "ما ينفع تأديب الولد إذا لم يسبق اختيار الخالق لذلك الولد، فإنه سبحانه إذا أراد شخصًا رباه من طفولته وهداه إلى الصواب" (¬4). 2 - الفكر معنى الفكر لغة: "إعمال العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها، ويطلق بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية" (¬5). ¬

_ (¬1) يالجن، د. مقداد. منابع مشكلات الأمة الإسلامية والعالم المعاصر ودور التربية الإسلامية وقيمها فى معالجتها. الرياض، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م، ص 71. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. اللطائف والطب الروحاني (تحقيق) عطا، عبد القادر، أحمد، ص 131. (¬3) المرجع السابق، ص 132. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. صيد الخاطر. ص 252. (¬5) صليبا، جميل. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية. بيروت، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، دار الكتاب المصري، 1979 م، الجزء الثاني، ص 154.

الفكر التربوي عند ابن الجوزي هو مجموعة الآراء التي تتعلق بنظام التربية من جميع جوانبه وما يتعلق بها من الوسائل والأساليب لبناء المسلم المتكامل، من خلال مؤلفاته المختلفة. 3 - الأصالة معناه اللغوي هو: "امتياز الشيء أو الشخص على غيره بصفات جديدة صادرة عنه، فمعنى الأصالة في الإنسان إبداعه، وفي الرأي جودته، وفي الأسلوب ابتكاره، وفي النسب عراقته، والأصالة بهذا المعنى ضد السخف والإسفاف والابتذال وهي أن يأتي المرء بشيء جديد مبتكر لم يسبقه إليه غيره، فإذا قلد غيره أو أتى بشيء مبتذل أو سخيف لم يكن أصيلًا" (¬1) وهذا ينطبق على الإِسلام لأنه تشريع إلهي لم يُسبَق إليه. وعلى هذا فمعنى تأصيل التربية: "توجيه الدراسات التربوية توجيهًا تربويًا إسلاميًا وذلك بإيجاد منهج فكري تربوي يقوم على الأسس الإسلامية وعلى نحو يحقق أهداف التربية الإِسلامية وغايتها" (¬2). 4 - المبدأ عرف البعض كلمة المبدأ بأنها عبارة "عن فكرة عامة شاملة، تنبثق عنها أفكار فرعية، أو تنظم على ضوئها عمليات تربوية مثل مبدأ رعاية اليتيم، أو مبدأ فرضية التعليم والتعلم وبعض هذه المبادئ يمكن استنباطه من أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأساليب القرآن الكريم في التعامل مع النفس ¬

_ (¬1) صليبا، جميل. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية. بيروت، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، دار الكتاب المصري، 1978 م، الجزء الأول، ص 96. (¬2) يالجن، د. مقداد. "مرئياتي ومقترحاتي حول تأصيل العلوم الاجتماعية". بحث مقدم لندوة التأصيل الإسلامى للعلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية بالرياض، يومي الثلاثاء والأربعاء 5 - 6/ 6/ 1407 هـ، ص 13.

الإنسانية والمجتمع، كمبدأ "التربية الذاتية" ومبدأ "مراعاة الفروق الفردية" (¬1). ويمكن تعريفه بأنه، القاعدة العامة التي تبنى عليها آراء وأفكار تربوية جزئية وهي تستخلص من المصادر التشريعية الإسلامية مثل القرآن الكريم والسُّنة واجتهادات العلماء وتجاربهم في ضوئهما. 5 - الرأي يعرفه البعض بأنه: "الاعتقاد المحتمل، لا الاعتقاد اليقيني وهو وسط بين الشك واليقين" (¬2)، وقد يكون الاعتقاد الجازم حول قضية من القضايا، أو صدق الحكم أو الفكر السديد في مسألة من المسائل العلمية. معنى آراء ابن الجوزي: هو ما يعتقده من أفكار، يحتمل أن تكون صحيحة أو خاطئة في نظر الآخرين على وفق ما بنى عليه تلك الأفكار، سواء كانت مستخرجة من الكتاب والسنّة أو من أحاديث نبوية قد تكون أحاديث صحيحة أو ضعيفة أو موضوعة، أو من اجتهاداته الشخصية. 6 - التحليل وهو "عكس التركيب. وهو إرجاع الكل إلى أجزائه" (¬3) وقيل: "التحليل هو عزل أجزاء الشيء بعضها عن بعض" (¬4). كذلك يقصد بالتحليل "تجزئة الكل إلى أجزائه التي يتألف منها، بسيطة كانت أو مركبة، ودراسة كل جزء منها دراسة خاصة به، لمعرفة صفاته وخصائصه، ووظائفه، ثم النظر في وجه ترابط الأجزاء بعضها ¬

_ (¬1) نحلاوي، عبد الرحمن. التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة. بيروت، المكتب الإسلامي، الرياض، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م، ص 55. (¬2) مرجع سابق، صليبا، جميل. المعجم بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية. الجزء الأول، ص 604. (¬3) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 254. (¬4) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 255.

ببعض، وأداء كل جزء منها وظيفته الخاصة به، بحسب موضعه من الكل، حتى اجتمع منها الكل فأدى وظيفته الكبرى القائمة على تعاون الأجزاء" (¬1). وعلى هذا فمعنى التحليل في هذه الدراسة هو الكشف عن أجزاء المعرفة بطريقة متعمقة وشاملة وبعيدة عن التعقيد والغموض من جميع أطراف الفكرة الواحدة. 7 - التقويم معنى التقويم كما وضحه د. محمد مصطفى زيدان هو: "العملية التي يتم بها إصدار حكم على مدى تحقيق العملية التربوية لأهدافها الموضوعة لها" (¬2). وسيستخدم هذا الجانب التقويمي في إصدار حكم على آراء ابن الجوزي التربوية في ضوء القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة والقواعد الأصولية والفقهية، وضوابط الاجتهاد في الشريعة الإسلامية لمعرفة مدى مواءمتها روح الإِسلام. ¬

_ (¬1) الميداني، عبد الرحمن، حسن، حبنكة. ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة. دمشق، بيروت، دار القلم، الطبعة الأولى، 1395 هـ - 1975 م، ص 139. (¬2) زيدان، د. محمد، مصطفى. المصطلحات النفسية والتربوية. جدة، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م، ص 166.

الفصل الثاني الدراسات السابقة

• الفصل الثاني الدراسات السابقة أولًا: دراسة الباحثة آمنة محمد نصير ثانيًا: دراسة الباحثة حليمة علي مصطفى أبو رزق ثالثًا: دراسة الدكتور حسن إبراهيم عبد العال رابعًا: دراسة الدكتور عبد الرحمن صالح عبد الله خامسًا: دراسات أخرى ليست لها صلة مباشرة بالموضوع

• الفصل الثاني الدراسات السابقة لقد قامت الباحثة بعمل استقراء مبدئي لبحوث بعض جامعات المملكة العربية السعودية مثل جامعة أم القرى بمكة المكرمة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والمركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا بالرياض، ومركز تبويب المعلومات في جامعة البترول والمعادن بالظهران، وحاولت الباحثة أيضا بقدر الإمكان خارج المملكة، وقد استطاعت الباحثة -بتوفيق من الله تعالى- أن تقف على الموضوعات التي عالجت تراث ابن الجوزي بفروعه المختلفة. وكانت نتيجة هذا البحث الوصول إلى العديد من الدراسات التي لها صلة مباشرة بالمجال التربوي، وإلى دراسات أخرى ليست لها صلة مباشرة بالتربية، ولكنها تتعلق بالمجالات الإسلامية المتخصصة التي كتب فيها ابن الجوزي مثل العقيدة، وعلوم القرآن ومصطلح الحديث، والتفسير والتاريخ والوعظ .. إلى غير ذلك. وستركز الباحثة في عرضها الدراسات السابقة على الدراسات التي لها صلة مباشرة بالمجال التربوي وهو موضوع البحث، وهذا ما أكده الدكتور صالح العساف بقوله: "فالذي يُراجع هو الدراسات العلمية وحدها التي لها علاقة مباشرة بمشكلة البحث ككل أو بجانب من جوانبها. وهذه تشمل: الرسائل العلمية: المنشورة وغير المنشورة؛ والبحوث العلمية: المنشورة وغير المنشورة. سواء أكان النشر في دورية علمية أم بصورة كتاب مطبوع. أما عدا ذلك من كتب تناولت النظرية، أو تقارير، أو صحف ومجلات، أو

أولا: دراسة الباحثة آمنة محمد نصير

أشرطة ومحاضرات، أو خطابات رسمية ومحاضر اجتماعات .. الخ. فيستفيد منها الباحث في توضيحه لأهمية البحث وإطاره النظري، ولكنها ليست دراسات سابقة، إلا إذا كانت فعلًا عبارة عن دراسة علمية ألقيت بمحاضرة عامة، أو سجلت على شريط فتعد حينئذ دراسة سابقة ولكن لا يرجع لها الباحث إلا اضطرارًا كان يتعذر عليه أن يرجع إلى الدراسة مكتوبة" (¬1). ثم تعرض الباحثة بإيجاز الدراسات التي ليست لها صلة مباشرة بالموضوع، ليكون القارئ على علم بها. ستركز الباحثة في عرضها الدراسات السابقة على الرسائل العلمية المنشورة وغير المنشورة وعلى الكتب، وهي كالآتي: أولًا: دراسة الباحثة آمنة محمد نُصير، وعنوانها: أبو الفرج ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية. وهي رسالة دكتوراه في تخصص العقيدة، نشرتها دار الشروق بالقاهرة في طبعتها الأولى عام 1407 هـ - 1987 م. تتضمن الرسالة ثلاثة أبواب، مقسمة إلى فصول ومنها إلى مباحث، تناولت الباحثة في الباب الأول ترجمة ابن الجوزي من حيث نسبه ومولده ونشأته ودراسة عصره من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وأثر ذلك في شخصيته وآرائه الكلامية والأخلاقية. كذلك تحدثت الباحثة عن شيوخ ابن الجوزي وثقافته ومصادرها. وتعرضت لفقه ابن الجوزي وشخصيته الفقهية ومكانته بين الفقهاء ونماذج لفتاويه، كما ذكرت تلاميذه ومؤلفاته. أما في الباب الثاني فعرضت الباحثة آراء ابن الجوزي الكلامية من حيث مبدأ علم الكلام والظروف التي صاحبت نشأته وتطوره خلال العصور، ونشأة الفرق الكلامية وأساس اختلافها، وأشهر هذه الفرق ولاسيما فرقة الجبرية والقدرية. كذلك تناولت الباحثة علم الكلام من حيث الوجود والوحدانية، والتأويل والصفات والقول، بخلق القرآن، ¬

_ (¬1) العساف، د. صالح، بن حمد. المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية. الرياض، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م، ص 67.

ومن حيث الإيمان (طبيعته - وموضوعه) والقضاء والقدر. كذلك ناقشت الباحثة رأي ابن الجوزي في العقل وماهيته وحدوده، ووصلت إلى حاجة البشرية إلى الرسل للسير في الطريق الشرعي، ومن الرسل يتم التقليد المحمود على حسب تفاوت المستويات العقلية المختلفة، والتي صنفتها إلى تقليد العامة وتقليد الخاصة. وقد ناقشت الباحثة في الباب الثالث مفهوم التصوف وتطوره كما يراه ابن الجوزي، وموقفه من الزهد والتصوف والفرق بينهما، ثم موقفه من الإمام الغزالي، ونقده لكتاب إحياء علوم الدين، كما وضحت الباحثة التصوف المشروع كما يراه ابن الجوزي من خلال الالتزام بمنهج الإسلام الصحيح. وتحدثت عن معنى الخُلُق عند ابن الجوزي، وأنواع النفس البشرية وما فيها من فضائل ورذائل وكيفية علاجها، كما تعرضت لبعض آرائه التربوية في تنشئة الأطفال، وسياسة النساء. أهم النتائج التي أسفر عنها البحث 1 - أثبتت الباحثة ان ابن ناصر هو شيخ ابن الجوزي الأول وليس خاله، وأن أبا القاسم ابن الجوزي ولد قبل عام 570 هـ بكثير، وأن المقتول عام 656 هـ. هو يوسف ابن الجوزي سفير الخليفة المعتصم. 2 - أثبتت الباحثة أن كتابه لفتة الكبد قد كتب قبل عام 580 هـ. وأن مخطوط الجليس الصالح والأنيس الناصح لسبطه أبي المظفر وليس لابن الجوزي. وأن كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي وليس له. 3 - أثبتت الباحثة أن علوم القرآن والسنة تزود صاحبها بالقدرة على تقويم كل الثقافات ومناقشة مختلف الآراء وهذا ما تميزت به ثقافة ابن الجوزي. 4 - أثبتت الباحثة أن النظرة الفلسفية إلى الكون والحياة يتسع لها كتاب الله بل يدعو إليها، وقد حصل ابن الجوزي من خلالها أدلته على وجود الله. 5 - أثبتت الباحثة أن ما حصله ابن الجوزي هو ذات ما حصله الفيلسوف ابن رشد الذي يعاصره في الزمان مع اختلاف المكان، فبان

بذلك مدى ما يصنعه التأثير القرآني من وحدة الفكر بين المؤمنين به مع تباعد الأقطار. 6 - رأت الباحثة أن الفاصل دقيق بين المشروع والمحظور في علم الكلام حتى لدى أفذاذ العلماء وهو مما أوقع ابن الجوزي في الخوض في التأويل وذهابه فيه إلى المدى الذي أثار ندمه من بعد فوصفه بأنه مقام خطير. 7 - أثبتت الباحثة أن العقل يتسع لجميع قضايا الإيمان إذا خلا من التقليد والغرور، والعقل يدل على وجود الله، وعلى وجوب بعثة الرسل، وأنه لابد أن يكونوا من البشر. 8 - استخلصت الباحثة رأي ابن الجوزي في مشكلة القضاء والقدر، وأنه يذهب إلى أن الله خالق العباد وأفعالهم ومجازيهم عليها ولا ظلم في ذلك؛ إذ ليس لمخلوق على الخالق حق يعد سلبه ظلمًا، فالله مالك يتصرف في ملكه ولا يُتصور نسبة الظلم إليه، وأن الحكمة في ذلك تخفى على العقول فعليها بالتسليم. 9 - بينت الباحثة موقف ابن الجوزي بين العقل والتقليد وتقريره أن العقل له وجوده وماهيته ووظائفه وأنه محدود بقدرة يتعين عليه استعمالها وعدم تجاوزها. 10 - بينت الباحثة موقف ابن الجوزي من التصوف ونقده الصوفية والإمام الغزالي. 11 - بينت الباحثة موقف ابن الجوزي من الأخلاق وأن أساسها الشرع والعقل. 12 - منهج ابن الجوزي في اجتناب الهوى هو الاعتدال في كل شيء. 13 - منهج ابن الجوزي التربوي يدل على فهم واسع منه. أوجه الاتفاق: والذي يبدو من خلال هذا العرض الموجز لموضوعات البحث ونتائجه، أنه رغم تركيزه على الآراء الكلامية والأخلاقية لابن الجوزي،

ثانيا: دراسة الباحثة حليمة علي مصطفى أبو رزق

وهي من الموضوعات التي تتعلق بالعقيدة، والأخلاق، فإنه تعرض لبعض الآراء التربوية والأخلاقية التي بُحثت في هذه الدراسة ولاسيما تربية الأطفال، وهذا يدل على وحدة الفكر الإسلامي وترابطه مهما كانت دقة التخصص الذي يبحث فيه. أوجه الاختلاف: والذي يميز موضوع هذه الدراسة أنها في مجال التربية الإسلامية الشاملة لجميع الجوانب المهمة في تربية الإنسان من خلال آراء ابن الجوزي، ولم تقتصر على الجانب الأخلاقي أو تربية الأطفال كما في بحث د. آمنة محمد نصير. ثانيًا: دراسة الباحثة حليمة علي مصطفى أبو رزق، وعنوانها: التربية العقلية عند ابن الجوزي وهي رسالة ماجستير في تخصص التربية الإسلامية، غير منشورة، مقدمة لجامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1407 هـ. يتضمن البحث ستة فصول، وقد بدأته الباحثة بخطة الدراسة من حيث المقدمة وأهمية الموضوع وسبب اختياره، وتحديد الموضوع وأهدافه ومنهج البحث فيه والدراسات السابقة عليه. وقد اشتمل الفصل الأول على التعريف بابن الجوزي من حيث مولده ونشأته ومجالسه العلمية وشيوخه وطبيعة العصر الذي عاش فيه من النواحي السياسية والاجتماعية والعلمية، والتعريف بكتابيه الأذكياء وأخبار الحمقى والمغفلين اللذين ركز فيهما على العقل وما يتعلق به. ثم بينت الباحثة طريقته في معالجة موضوعات الكتابين من حيث استشهاده بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والشعر والأدب الرمزي والأحداث التاريخية، ثم قوَّمت منهجه في الكتابين. أما الفصل الثاني فقد ناقشت فيه معنى العقل في اللغة، والاصطلاح، والقرآن الكريم والسنة المطهرة، ثم أهم خصائص التربية العقلية المستمدة من الكتاب والسنَّة مثل: الإقرار بوحدانية الله تعالى، والتوازن والوسطية والتفكر في الكون وفي النفس الإنسانية.

وقد خصت الباحثة الفصل الثالث بالعقل عند ابن الجوزي من حيث تعريفه، وثمرات العقل، ودرجاته المرتفعة والمنخفضة، وصفات السلوك الذكي والسلوك الأحمق، وهل الذكاء وكذا الحمق فطري أو مكتسب؟ ثم مقارنة آراء ابن الجوزي بآراء بعض العلماء القدامى والمحدثين كالمحاسبي وابن حبان وجون ديوي، وأخيرًا تقويم مفهوم العقل عند ابن الجوزي في ضوء نظريات العلم الحديث. أما الفصل الرابع فقد ذكرت فيه الباحثة أهداف التربية العقلية عند ابن الجوزي، وتتمثل في تنمية الإيمان بالله تعالى والعمل بموجبه، وتنمية القيم الإسلامية وإدراك الظواهر الاجتماعية والبعد عن الأسباب التي تؤدي إلى الغفلة مثل النسيان وقلة العلم، وعدم مصاحبة الحمقى والمغفلين، والحسد. وقد اشتمل الفصل الخامس على نهج ابن الجوزي في تربية العقل باستخدام الترويح عن النفس، والتربية بالقصة والحادثة، والتربية من خلال مراعاة الفروق الفردية، والتربية بالقدوة الحسنة، والتربية بالثواب والعقاب. كذلك بينت الباحثة محتوى المنهاج الذي يصلح لتربية العقل عند ابن الجوزي وهو يشتمل على حفظ القرآن الكريم وتفسيره، وتعلم الأحاديث النبوية والفقه، وتعلم الحساب والخط والآداب والسيرة النبوية. وقد أسفر البحث عن نتائج عدة منها: 1 - أن ابن الجوزي يهدف من تربية العقل الوصول به إلى الإيمان بالله تعالى. 2 - أن العقل يختلف عن الذكاء، فالعاقل هو الذي يعقل عن الله سبحانه وتعالى أوامره ونواهيه والذكي قد يستعمل ذكاءه في إصلاح نفسه وعقله أو في انحرافه. 3 - أن ابن الجوزي استخدم أساليب عدة في تربية العقل منها: التربية بالقصة، والحادثة، والقدوة، والثواب والعقاب. 4 - تعلم العلوم الدينية من أهم العلوم اللازمة لتربية العقل عند ابن الجوزي، حتى يستطيع أن يقوم بالعبادات التي فرضها الله عليه على خير وجه.

5 - تقسيم ابن الجوزي العقل إلى درجات، والربط بين هذه الدرجات ومقدرة الفرد على التعلم تؤدي إلى مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، وهذه نعمة من الله تعالى على البشر حتى تستمر الحياة، ويكمل الناس بعضهم بعضًا. 6 - أن ابن الجوزي قسم العقل إلى غريزي ومكتسب. 7 - أن العقيدة في الإسلام ثابتة والأخلاق الإسلامية ناتجة من هذه العقيدة وهي أيضًا ثابتة. توصيات الباحثة: 1 - توصي المسؤولين عن وضع المناهج الدراسية بالاهتمام بمحتوى المادة العلمية وربطها بالعقيدة الإسلامية مع مراعاة التوازن بين جميع جوانب الإنسان، والاهتمام بالممارسات العملية وتنمية الاتجاهات الايجابية نحو الدين الإسلامي. 2 - أهمية أن يكون المعلم قدوة صالحة لطلابه. 3 - الاهتمام بتقويم النظريات الغربية التي تدرس وذلك وفق المعايير الإسلامية. 4 - اهتمام التربية بتنمية ذكاء المتعلمين في جميع المراحل التعليمية وفي مختلف فروع المعرفة. 5 - الاهتمام بتنويع طرق التدريس التي تساعد على تنمية ذكاء المتعلم. أوجه الاتفاق: الذي يبدو من خلال هذا العرض الموجز لموضوعات البحث ونتائجه وتوصياته، أنها تركز على تربية الجانب العقلي من خلال كتابين هما كتاب الأذكياء وكتاب أخبار الحمقى والمغفلين، أما هذه الدراسة فهي تشمل معظم الآراء التربوية لابن الجوزي بما فيها الجانب العقلي. أوجه الاختلاف: إن هذه الدراسة تشمل معظم الآراء التربوية لابن الجوزي من معظم مؤلفاته، مع الاهتمام بالجانب التقويمي لآراء ابن الجوزي في

ثالثا: دراسة الدكتور حسن إبراهيم عبد العال

ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية والقواعد الأصولية وشروط الاجتهاد، ثم مقارنة بعض هذه الآراء ببعض الآراء والاتجاهات التربوية المعاصرة لابن الجوزي واتجاهات العصر الحاضر، وأخيرًا استخلاص أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها في تعليمنا وتربيتنا المعاصرة لتأصيل التربية إسلاميًا، وطريقة اجتهادات ابن الجوزي التربوية في ضوء شروط الاجتهاد وضوابطه، ومعرفة كيفية الاستفادة منها في إعداد التربوي الإسلامي المعاصر. ثالثًا: دراسة الدكتور حسن إبراهيم عبد العال، وعنوانها: الفكر التربوي عند الإمام أبي الفرج ابن الجوزي. وهو بحث نشره مكتب التربية العربي لدول الخليج في سلسلة "من أعلام التربية العربية الإسلامية" المجلد الثالث عام 1409 هـ - 1988 م، ص 97 - 137. وقد تضمنت هذه الدراسة نبذة موجزة عن حياة ابن الجوزي من حيث نسبه ومولده، ودراسته وشيوخه، وعن حياته، واعظًا ومحدثًا ومؤرخًا، وقد ذكر مؤلفاته وصفاته وشمائله، وأخيرًا محنته ووفاته. وقد ركزت هذه الدراسة على الطبيعة الإنسانية في فكر ابن الجوزي من حيث مكانة الإنسان في الكون وتفضيله على كثير من المخلوقات، ومن حيث كونه مخلوقًا مكلفًا. كذلك تناولت الدراسة مكونات الطبيعة الإنسانية عند ابن الجوزي على أنها كل متكامل من حيث الجسم والعقل والنفس، فذكر في الجسم أهمية إشباع دافع الجوع والعطش، والحاجة إلى الراحة والنوم، وإشباع الدافع الجنسي، وحتى تتم العناية بالجسم لابد من تناول الغذاء المناسب، ومراعاة النظافة والتزام قواعد الصحة العامة. ثم ناقش موضوع العقل من حيث شرفه وفضله ومعانيه عند ابن الجوزي الذي حدد لها معان عدة منها: العقل الغريزي، والعقل الضروري، والعقل بمعنى العلوم المستفاده من التجارب، والعقل المستفاد. ثم ذكر د. حسن عبد العال حدود العقل عند ابن الجوزي. وأخيرًا ذكر معنى النفس وصلتها بالبدن وماهية النفس وطبيعتها الموجودة وخلودها، ولم يحدد الباحث نتائج أو توصيات في هذه الدراسة الموجزة.

رابعا: دراسة الدكتور عبد الرحمن صالح عبد الله

أوجه الاتفاق: الآراء التربوية في الطبيعة الإنسانية في نظر ابن الجوزي، والتي تعرض لها د. حسن عبد العال في هذه الدراسة، هي -تقريبًا- الآراء نفسها التي بُحثت في هذه الرسالة، يضاف إلى ذلك أن هذه الدراسة شملت معظم الآراء التربوية لابن الجوزي ولم تقصرها على الطبيعة الإنسانية فقط. أوجه الاختلاف: تتضح أوجه الاختلاف من خلال العرض الموجز لطبيعة النفس الإنسانية، لأن دراسة د. حسن عبارة عن بحث قصير، أما هذه الدراسة فقد ركزت على الكثير من الموضوعات التربوية. كما أن دراسة د. حسن لم تتناول موضوع تقويم آراء ابن الجوزي التربوي كما ذكرتُ ذلك في الدراسة الثانية. رابعًا: دراسة الدكتور عبد الرحمن صالح عبد الله، وعنوانها: ابن الجوزي وتربية العقل، وهو مؤلف نشرته شركة مكة للطباعة والنشر في مكة المكرمة، صدرت طبعته الأولى عام 1406 هـ - 1986 م. وهذه الدراسة تهدف إلى التعريف بالتربية العقلية عند ابن الجوزي، وقد بدأها بذكر نبذة عن حياة ابن الجوزي وبعض الملامح العامة عن عصره، ثم ذكر أهمية العقل في الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، وتعريفًا موجزًا لكتاب الأذكياء، وكتاب أخبار الحمقى والمغفلين ومنها استخرج مفهوم العقل والذكاء والحمق عند ابن الجوزي، ثم ماهية العلاقة بين العقل والذكاء في نظره، وأخيرًا تقويم آراء ابن الجوزي. أوجه الاتفاق: إن هذا المؤلف يركز على إبراز الجانب العقلي عند ابن الجوزي من خلال كتاب الأذكياء، وكتاب أخبار الحمقى والمغفلين فقط. أوجه الاختلاف: هي أوجه الاختلاف نفسها الواردة في الحديث عن الدراسة الثانية، رغم أن الباحث قام بتقويم آراء ابن الجوزي بطريقة موجزة جدًا

خامسا: دراسات أخرى ليست لها صلة مباشرة بالموضوع

وليست مدعمة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقواعد الأصولية كما فعلت هذه الدراسة. خامسًا: دراسات أخرى ليست لها صلة مباشرة بالموضوع وهذه الدراسات ذكرت للعلم بها وهي الآتية: 1 - دراسة الباحث أحمد عطية الزهراني، وعنوانها: ابن الجوزي بين التأويل والتفويض وهي رسالة ماجستير في تخصص العقيدة، غير منشورة، مقدمة لجامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1396 هـ. 2 - دراسة الباحث أحمد عبد الله العماري الزهراني، وعنوانها إعلام العالم بعد رسوخه بحقائق ناسخ الحديث ومنسوخه، وهي رسالة ماجستير، مقدمة إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1398 هـ. 3 - دراسة الباحث عبد القادر منصور منصور، وعنوانها: تذكرة الأريب بما في القرآن من الغريب لأبي الفرج بن الجوزي. وهي رسالة ماجستير في التفسير مقدمة إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1399 - 1400 هـ. 4 - دراسة الباحثة ناجية عبد الله إبراهيم، وعنوانها: المصباح المستضيء لابن الجوزي وهي رسالة ماجستير، مقدمة إلى جامعة بغداد، كلية الآداب. 5 - دراسة الباحث عبد الرحيم بن أحمد الطحان، وعنوانها: منهج ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير. وهي رسالة دكتوراه في التفسير وعلومه، مقدمة إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1401 هـ - 1981 م. 6 - دراسة الباحث عوض السميري، وعنوانها: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. وهي رسالة دكتوراه في التاريخ، مقدمة إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، كلية العلوم الاجتماعية عام 1406 هـ. 7 - دراسة الباحث علي جميل مهنّا، وعنوانها: ابن الجوزي ومقاماته الأدبية. وهي رسالة دكتوراه، مقدمة إلى جامعة الأزهر - كلية اللغة العربية عام 1976 م.

8 - دراسة الباحث سوارتز ميرلن لوري، وعنوانها: دراسة عن حياة وأعمال ابن الجوزي كواعظ. وهي رسالة دكتوراه، مقدمة من جامعة هارفارد عام 1967 م. باللغة الانكليزية. 9 - دراسة الباحث جبور جبرائيل، وعنوانها: كتاب عن فضائل القدس للشيخ الإمام جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي يرحمه الله. وهي رسالة دكتوراه، مقدمة من جامعة برنستون عام 1947 م. باللغة الانكليزية. 10 - دراسة الدكتور نور الدين بوياجلار، وعنوانها: أبو الفرج ابن الجوزي ومنهجه في الحديث. وهي رسالة دكتوراه، مقدمة إلى كلية الإلهيات - قسم الحديث بجامعة أنقرة عام 1978 م.

الباب الثاني ابن الجوزي عصره وحياته وآثاره

الباب الثاني ابن الجوزي عصره وحياته وآثاره • الفصل الأول: عصر ابن الجوزي من الناحية العلمية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية • الفصل الثاني: اسمه ونسبه وولادته ونشأته • الفصل الثالث: حياته العلمية ومؤلفاته • الفصل الرابع: تأثره وتأثيره ومكانته العلمية والتربوية

الفصل الأول عصر ابن الجوزي من الناحية العلمية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية

• الفصل الأول عصر ابن الجوزي من الناحية العلمية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية أولًا: عصر ابن الجوزي من الناحية العلمية ثانيًا: عصر ابن الجوزي من الناحية السياسية ثالثًا: عصر ابن الجوزي من الناحية الأخلاقية رابعًا: عصر ابن الجوزي من الناحية الاجتماعية خامسًا: عصر ابن الجوزي من الناحية الاقتصادية

أولا: عصر ابن الجوزي من الناحية العلمية

• الفصل الأول عصر ابن الجوزي من الناحية العلمية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية أولًا: عصر ابن الجوزي من الناحية العلمية تميزت الفترة التي عاشها ابن الجوزي من سنة 510 هـ - 597 هـ، بوجود اتجاهين متضادين -نتيجة للظروف السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية- وهذان الاتجاهان يتمثلان فيما يأتي: 1 - "اتجاه إلى كبت الفكر وطمس المعرفة والضيق بكل رأي مبناه العلم والحقيقة. 2 - واتجاه نقيض له يفتح الطريق أمام الثقافات على اختلافها ويعطي كل ذي رأي فرصة إظهار رأيه والدفاع عنه" (¬1). ويؤيد الاتجاه الأول ما ظهر من بعض الخلفاء وما حدّث عنه ابن الجوزي من منع الناس من قراءة الحديث (¬2)، ومن اضطهاد الفقهاء وضربهم ونفيهم من الدار (¬3)، ومن منع الوعاظ من الوعظ والإرشاد (¬4). ¬

_ (¬1) نُصير، آمنة، محمد أبو الفرج، ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية. القاهرة، دار الشروق، الطبعة الأولى 1407 هـ - 1987 م، ص 30 (¬2) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن، بن علي. المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم. حيدرآباد، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، 1358 هـ، الجزء العاشر، ص 192. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم. الجزء العاشر، ص 199. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 259.

أما الذي يؤيد الاتجاه الثاني فهو ما ظهر من اهتمام الخلفاء بالعلم والعلماء، ومنهم المستنجد بالله (¬1) الذي كان صاحب نظم بديع، ونثر بليغ، ومعرفة بعمل آلات الفلك والاسطرلاب (¬2)، وكذلك الخليفة المستضيء بأمر الله (¬3) الذي كان يحضر مجالس ابن الجوزي الوعظية من وراء الستر، والذي أهدى إليه ابن الجوزي كتابه النصر على مصر (¬4)، والخليفة المقتفي لأمر الله (¬5) الذي "كان في أول أمره متشاغلًا بالدين ونسخ العلوم وقراءة القرآن" (¬6). وتميز بعض وزراء ذلك العهد بالعلم والتأليف مثل الوزير "أبي المظفر بن هبيرة الذي قرأ بالقراءات، وسمع الحديث الكثير، وكانت له معرفة حسنة بالنحو واللغة والعروض والفقه، وصنف في تلك العلوم، ¬

_ (¬1) المستنجد بالله، أبو المظفر يوسف بن المقتفي، خامس الخلفاء الذين عاصرهم ابن الجوزي. ولد سنة (518 هـ). خطب له أبوه بولاية العهد سنة (547 هـ). وبويع له يوم موت أبيه سنة (555 هـ). وكانت مدة خلافته من (555 هـ - 566 هـ) وكان موصوفًا بالعدل والرفق، وكان شديدًا على المفسدين. مات في 8 ربيع الآخر سنة (566 هـ). انظر السيوطي، الحافظ جلال الدين. تاريخ الخلفاء. بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دون تاريخ، ص 407 - 408. (¬2) المرجع السابق، ص 408. (¬3) المستضيء بأمر الله، الحسن أبو محمد بن المستنجد بالله. ولد سنة (536 هـ). وكانت مدة خلافته من (566 هـ- 575 هـ) بويع له بالخلافة يوم موت أبيه. وكان دائم البذل للمال. ذا حلم وأناة ورأفة. وفي خلافته انقضت دولة بني عبيد، وخطب له بمصر، وضربت السكة باسمه، وصنف ابن الجوزي كتابًا له سماه النصر على مصر توفي في سنة 575 هـ، انظر مرجع سابق، السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 409 - 412. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 237. (¬5) المقتفي لأمر الله، أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله. ولد في الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة (489 هـ). وبويع له بالخلافة عند خلع ابن أخيه وعمره أربعون سنة، قال الذهبي: كان المقتفي من سروات الخلفاء، عالمًا، أديبًا، شجاعًا، حليمًا، لا يجري في دولته أمر -وإن صغر- إلا بتوقيعه. وفي أيامه عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق له منازع. توفي في سنة (555 هـ). أنظر مرجع سابق، السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 405 - 406. (¬6) المرجع السابق، ص 406.

وكان متشددًا في اتباع السنة وسير السلف" (¬1) وله مؤلفات قيمة منها كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح في مجلدات عدة، وكتاب في النحو سماه المقتصد وكتاب العبادات الخمس على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- (¬2). كما كانت تلك الفترة غنية بالمكتبات الخاصة والعامة، وقد ساعدت على انتشار العلم، وقد ذكر ابن الجوزي "ثمان وثلاثين مكتبة" (¬3) في كتابه المنتظم، وهي تشمل المكتبات العامة والخاصة والملحقة بالمدارس والمؤسسات الاجتماعية في بغداد. وقد بلغ عدد الكتب في المدرسة النظامية "نحو ستة آلاف مجلد" (¬4). وهذا يدل على ثراء المكتبات بالمؤلفات العلمية. كذلك قامت الجوامع الإسلامية بمهمة العلم والتعليم، ومن أهمها جامع المنصور (¬5) وجامع القصر (¬6) وجامع نيسابور (¬7) وجامع الترمذي (¬8). يضاف إلى ذلك انتشار المدارس التعليمية على المذاهب الأربعة، من هذه المدارس المدرسة النظامية (¬9)، التي بناها الوزير السلجوقي نظام ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 214. (¬2) ابن رجب، زين الدين، أبي الفرج، عبد الرحمن بن شهاب الدين، أحمد، البغدادي. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، 1372 هـ - 1952 م المجلد الأول ص 252. (¬3) الحكيم، حسن، عيسى، علي. كتاب المنتظم لابن الجوزي. بيروت، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1405 هـ -1985 م، ص 166. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. صيد الخاطر. ص 440. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 284. (¬6) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 287 - 288. (¬7) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 80. (¬8) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 154. (¬9) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 5.

الملك، "والمدرسة التي بناها صاحب المخزن بباب العامة" (¬1) "المدرسة التي بناها ابن الأبري بباب الأزج" (¬2) والمدرسة التتشية على شاطئ دجلة بباب الأزج" (¬3)، و"مدرسة ابن الجوزي بدرب دينار" (¬4) إلي غير ذلك من المدارس. وقد تميزت تلك الفترة بوجود عدد كبير من العلماء الذين عُرفوا بتبحرهم في العلوم المختلفة، وبكثرة مؤلفاتهم القيمة، منهم على سبيل المثال: أبو حامد الغزالي، حجة الإسلام وأبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي (¬5)، وأحمد بن محمد الدينوري صاحب كتاب التحقيق في مسائل التعليق (¬6) وموهوب بن أحمد الجواليقي (¬7) الذي صنف كتاب أدب الكاتب وكتاب المعرب وتتمة درة الغواص للحريري. وقد تميزت هذه الفترة بكثرة الاتجاهات الفكرية، التي كانت نتيجة طبيعية للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية المتقلبة، وما ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 89. (¬2) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 116. (¬3) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 226. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 250. (¬5) هو شيخ الحنابلة ببغداد وصاحب (الفنون) وغيرها من التصانيف المفيدة، ولد سنة (431 هـ)، وتوفي سنة (513 هـ). انظر: ابن كثير، أبو الفداء الحافظ. البداية والنهاية. بيروت، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1977 م، الجزء الثاني عشر، ص 184. ومرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 142. (¬6) أحمد بن محمد أبو بكر بن أبي الفتح الدينوري الحنبلي، سمع الحديث وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، وأفتى ودرس وناظر، توفي في سنة (532 هـ). انظر: ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 213. وابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 190. وابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم الجزء العاشر، ص 73 .. (¬7) موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر، أبو منصور الجواليقي، شيخ اللغة في زمانه، باشر مشيخة اللغة بالنظامية بعد شيخه أبي زكريا التبريزي، ولد سنة (465 هـ) وتوفي سنة (540 هـ). انظرت ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 220. وابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 204. وابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 118.

سببته تلك الاتجاهات للمجتمع العباسي من فوضى أو بلبلة أو تناقض. ومن أبرز هذه الاتجاهات، الاتجاه المذهبي المتمثل في التعصب للمذهب الحنبلي، الذي وجد دعمًا وتشجيعًا من بعض خلفاء الدولة العباسية مثل المستضيء بأمر الله (¬1). ومن الكثير من العلماء منهم ابن الجوزي الذي كان معتدلا في تمسكه بهذا المذهب، كذلك ذكر ابن الجوزي ظهور "أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون بالمذاهب" (¬2)، ومن هؤلاء فرقة الشيعة التي قال عنها "وظهر في هذه الأيام من الروافض أمر عظيم من ذكر الصحابة وسبهم وكانوا في الكرخ إذا رأوا مكحول العين ضربوه" (¬3)، ثم تجدد الخلاف بين السنة والشيعة بعد موت محمود بن زنكي (¬4). كما كانت فرقة الباطنية من الفرق التي هددت السلطة وعامة الناس بما كانت ترتكبه من قتل وسرقة وغيرها من أعمال الرعب (¬5). ولم يخل المجتمع العباسي "من شرّ اليهود وما سببوه من فتن واضطرابات وفوضى بين الناس" (¬6). ونتيجة لشيوع الفرق والمذاهب المختلفة، وازدياد الترف الحضاري، وُجدت فرقة المتصوفة التي نقدها ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 283 - 284. (¬2) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 194. (¬3) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 217. (¬4) هو محمود بن زنكي بن آفسنقر السلطان الملك العادل نور الدين، صاحب بلاد الشام، ولد سنة (511 هـ). وتوفي في سنة (569 هـ). كان مجاهدًا في بلاد الفرنج، آمرا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، محبًا للعلماء والفقراء والصالحين، مبغضًا للظلم. . . الخ. وكانت ولايته ثمان وعشرين سنة وأشهرًا. انظر: ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 286. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 273 - 274. (¬6) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 275.

ثانيا: عصر ابن الجوزي من الناحية السياسية

ثانيًا: عصر ابن الجوزي من الناحية السياسية عايش ابن الجوزي فترة طويلة من الخلافة العباسية تمتد من سنة 510 هـ إلى سنة 597 هـ ابتداء من خلافة المستظهر بالله حتى بداية خلافة الناصر لدين الله أحمد. فقد عاصر فترة حكم كل من المستظهر بالله (470 - 512 هـ) (¬1) والمسترشد بالله أبي منصور (485 هـ- 529 م) (¬2)، والراشد بالله أبي جعفر (502 هـ- 532 هـ) (¬3). والمقتفي لأمر الله (489 هـ- 555 هـ) والمستنجد بالله المظفر (518 هـ - 566 هـ) والمستضئ بأمر الله (536 هـ- 575 هـ) والناصر لدين الله أحمد (553 هـ-622 هـ) (¬4). ¬

_ (¬1) المستظهر بالله، هو أبو العباس أحمد بن عبد الله المقتدي، كانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد وكان راغبًا في البر والخير، مسارعًا إلى ذلك، لا يرد سائلًا، وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيدًا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شعر حسن. ولد سنة 470 هـ. توفي في سنة 512 هـ. انظر: ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 182. (¬2) هو أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله، ولد سنة (485 هـ)، وبويع له بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الآخر سنة (512 هـ). وكان ذا هيبة شديدة، ضبط أمور الخلافة، وهو آخر خليفة رؤي خطيبًا، قُتل وعمره خمس وأربعون سنة وثلاثة أشهر وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يومًا. انظر السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 397 - 398. ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 208. (¬3) هو أبو جعفر منصور بن المسترشد، ولد سنة (485 هـ). وبويع له بالخلافة في سنة (529 هـ). وقد حدث بينه وبين السلطان مسعود خلاف أدى إلى خلعه من الخلافة. وكانت مدة خلافته أحد عشر شهرًا وإحدى عشر يومًا. وتوفي في سنة (532 هـ). انظر، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 209. (¬4) هو أبو العباس بن المستضيء بأمر الله. ولد سنة (553 هـ). وقال الذهبي: ولم يل الخلافة أحد أطول مدة منه، فإنه أقام فيها سبعة وأربعين سنة، ولم تزل مدة حياته في عز وجلالة وقمع الأعداء واستظهار على الملوك. وكان شديد الاهتمام بمصالح الملك، لا يخفى عليه شيء من أحوال رعيته كبارهم وصغارهم. توفي سنة (622 هـ) انظر، السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 413.

ومع تعدد الخلفاء .. تنوعت الأحداث السياسية ما بين قوة وضعف، وعدالة وظلم، واضطراب واستقرار، فمن عهد المستظهر بالله "الذي كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب، وفيها أخذت الروم بلنسية ثم جاءت الفرنج فأخذوا نيقية حتى وصلوا إلى كفرطاب واستباحوا تلك النواحي (¬1). ولم يكتفوا بذلك حتى استولوا على "بيت المقدس وقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألف مسلم" (¬2)، كما أخذوا مدينة طرابلس بعد حصار طويل، "وكان قد عظم بلاء المسلمين بالفرنج وتيقنوا استيلاءهم على أكثر الشام، فطلب المسلمون الهدنة فامتنعت الفرنج وصالحوهم بألوف الدنانير الكثيرة، فهادنوهم ثم غدروا" (¬3)، ثم بعد ذلك استقرت الخلافة للمسترشد الذي كانت "أيامه مكدرة بكثرة التشويش والمخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك" (¬4)، كما زادت الحروب الشديدة بين سلاطين السلاجقة، إلى أن "سارت الفرنج إلى مدينة حلب ففتحوها عنوة وملكوها وقتلوا من أهلها خلقا، فسار إليهم صاحب ماردين إيلغازي بن أرتق في جيش كثيف فهزمهم ولحقهم إلى جبل قد تحصنوا به، فقتل منهم هنالك مقتلة عظيمة ولم يفلت منهم إلا اليسير" (¬5). وكان مذهب الباطنية منتشرًا في عهد هذين الخليفتين، حتى إن وفاة المسترشد كانت بسبب خلاف بينه وبين السلطان السلجوقي مسعود الذي "دس له عشرة من الباطنية قتلوه" (¬6)، ثم تولى بعده الخليفة الراشد بالله الذي خُلع بعد سنة من توليه الحكم بعد وفاة أبيه المسترشد وذلك "لما عاد السلطان مسعود إلى بغداد خرج الراشد إلى الموصل، فأحضروا القضاة والأعيان والعلماء وكتبوا محضرًا فيه شهادة طائفة بما جرى من الراشد من الظلم وأخذ الأموال وسفك الدماء وشرب الخمر، واستفتوا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 393. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء التاسع، ص 108. (¬3) مرجع سابق، السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 396. (¬4) المرجع السابق، ص 398. (¬5) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 184. (¬6) المرجع السابق، الجزء الثاني عشر، ص 208.

الفقهاء فيمن فعل ذلك: هل تصح إمامته؟ وهل إذا ثبت فسقه يجوز لسلطان الوقت أن يخلعه ويستبدل خيرا منه؟ فأفتوا بجواز خلعه، وحكم بخلعه أبو طاهر بن الكرخي قاضي البلد، وبايعوا عمه محمد بن المستظهر ولُقب المقتفي لأمر الله" (¬1). "وقد تمكن الخليفة المقتفي من الحكم، وزادت حرمته، وعلت كلمته، وكان ذلك مبدأ صلاح الدولة العباسية، وفي أيامه عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبق له منازع" (¬2)، كما كتب "المقتفي عهدًا لنور الدين زنكي وولاه مصر وأمره بالمسير إليها، وكان مشغولًا بحرب الفرنج، وهو لا يفتر عن الجهاد، وكان قد ملك دمشق في صفر من هذا العام -سنة تسع وأربعين- وملك قلاع وحصون عدة بالسيف والأمان من بلاد الروم، وعظمت ممالكه وبَعُد صيته، فبعث إليه المقتفي تقليدًا وأمره بالمسير إلى مصر ولقبه "بالملك العادل" وعظم سلطان المقتفي، واشتدت شوكته، واستظهر على المخالفين، وأجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره، ولم يزل أمره في تزايد وعلو إلى أن مات سنة 555 هـ" (¬3)، ثم بويع لابنه المستنجد بالله "في يوم موت أبيه، وكان موصوفًا بالعدل والرفق، أطلق من المكوس شيئًا كثيرًا بحيث لم يترك بالعراق مكسًا، وكان شديدًا على المفسدين" (¬4) وفي عهده زادت الحروب بين المسلمين والفرنج واستطاع نور الدين زنكي إخراجهم من مصر (¬5) وغيرها من الدول، "ويقال إن المستنجد توفي مريضًا" (¬6)، ثم خلفه ابنه المستضيء الذي بدأ عهده "برفع المكوس وردّ المظالم وإشاعة العدل والكرم، كما أذن للوعاظ بعد أن كانوا منعوا مدة، وفرق مالًا عظيمًا على الهاشميين والعلويين والعلماء والأربطة" (¬7). "وفي خلافته انقضت ¬

_ (¬1) مرجع سابق، السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 402. (¬2) المرجع السابق، ص 404 - 406. (¬3) المرجع السابق، ص 405. (¬4) المرجع السابق، ص 408. (¬5) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 249 - 261. (¬6) المرجع السابق، الجزء الثاني عشر، ص 262. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 233.

دولة بني عُبيد" (¬1) واستمر الأيوبيون في قمع انتشار الفرنجة في الدولة الإسلامية. ويعتبر الناصر لدين الله الذي تولى الحكم بعد أبيه المستضيء، آخر الخلفاء الذين عاصرهم ابن الجوزي، وكانت "مدة حياته في عز وجلالة، وقمع الأعداء، واستظهار على الملوك، ولم يجد ضيمًا، ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه، ولا مخالف إلا دفعه، وكان شديد الاهتمام بمصالح الملك، ولا يخفى عليه شيء من أحوال رعيته كبارهم وصغارهم، وكان قد ملأ القلوب هيبة وخيفة، فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد، فأحيا بهيبته الخلافة، وكانت (الخلافة) قد ماتت بموت المعتصم، ثم ماتت بموته" (¬2). ومجمل القول أن القرن السادس الهجري كان صورة صادقة عن ضعف الدولة العباسية من حيث زوال هيبة الخلافة وتعدد الخلفاء وتناحرهم وتفشي الفرق الباطنية ووقوع المقدسات الإسلامية في يد الصليبيين ثم تحررها على يد صلاح الدين الأيوبي. موقف ابن الجوزي من تلك الأحداث السياسية: عاصر ابن الجوزي تلك الأحداث السياسية بقوتها وضعفها .. حروبها وسلمها .. فما موقفه منها؟ ومن خلال استعراضنا أهم الأحداث السياسية التي عاصرها ابن الجوزي في مدة حياته، لم يتضح لنا موقفه تمامًا فيما سبق عرضه، ولكن من خلال كتابه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم نلاحظ الآتي: 1 - علاقة ابن الجوزي بهؤلاء الخلفاء كانت طيبة وعلى الأخص بالمستضيء الذي أهدى إليه ابن الجوزي كتابيه المصباح المضيء في دولة المستضيء وكتاب النصر على مصر. 2 - كان له دور في محاربة البدع، إما عن طريق الكتابة أو مجالس ¬

_ (¬1) مرجع سابق، السيوطي. تاريخ الخلفاء. ص 410. (¬2) المرجع السابق، ص 413 - 415.

ثالثا: عصر ابن الجوزي من الناحية الأخلاقية

الوعظ وفي ذلك يقول "وكان الرفض في هذه الأيام قد كثر فكتب صاحب المخزن إلى أمير المؤمنين المستضيء إن لم تقو يدي ابن الجوزي لم تطق على دفع البدع، فكتب أمير المؤمنين بتقوية يدي" (¬1). 3 - اكتفى ابن الجوزي بسرد الأحداث السياسية كما هي دون نقد أو تمحيص أو حتى محاولة بيان النواحي الطيبة أو السيئة في المجتمع، ما عدا نقده للمتصوفين. كما أنه لم يتفاعل مع أحداث عصره بالفرح أو الحزن من دخول الصليبيين أو خروجهم من الدولة الإسلامية بل سرد الأحداث سردًا عاديًا، وهذه النقطة أثارت استغراب الدكتور الصباغ الذي تساءل قائلًا: "لماذا لم يطرق ابن الجوزي موضوع الحرب الصليبية؟ علمًا أن مدة حياة ابن الجوزي كانت في أيام الحروب الصليبية، فكنت أنتظر من هذا الرجل أن يعالج هذا الخطب الجلل في موضوعاته الوعظية، ومؤلفاته العديدة، غير أنني لم أجد أنه وفى هذا الموضوع حقه .. بل لم يطرقه ولو طرقًا خفيًا. ولا أدعي أن الرجل لم يتكلم في الجهاد ولا أنه لم يبين ضلال النصارى وعداوتهم للإسلام .. لكن الذي أريد أن أقرره أن من يتصل بالناس كثيرًا عن طريق الوعظ يجب أن يلمس أثر الواقع المؤلم الذي يحياه الناس في كلامه ونصحه، وهذا الذي لم أحس به وأنا أقرأ في كتبه وآثاره من زمن بعيد، وربما كانت هناك أوضاع سياسية معينة تمنع من الكلام، لكن الأثر كان يظهر على الرغم من المنع، لو أن هذا الواقع والألم منه سيطر على المتكلم سيطرة تامة -نقول هذا- ونحن نمر اليوم في وضع مشابه وتغيب سحائب الألم وزفرات الحسرة في كتابة كثير من الكتاب المعاصرين" (¬2). ثالثًا: عصر ابن الجوزي من الناحية الأخلاقية نتيجة تعدد الخلفاء، وكثرة الحروب، والفتن والاضطرابات، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 259. (¬2) ابن الجوزي، الإمام أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي. كتاب القصّاص والمذكرين. (تحقيق) الصباغ، د. محمد، لطفي، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، عام 1403 هـ - 1983 م، ص 44 - 45.

اختلفت الظواهر الأخلاقية في المجتمع، ما بين الأمن والاستقرار النسبي عند بعض الخلفاء، وانتشار الفساد بأنواعه من ظلم ورشوة وخمر وسلب ونهب عند بعضهم الآخر. والمظاهر الأخلاقية الموجودة في المجتمع، كانت نتيجة أسباب عدة منها: الاضطراب السياسي والحروب بين السلاطين، وما يترتب عليه من فوضى وفساد كما حدث عندما "قدم السلطان مسعود (¬1) في ربيع الآخر من سنة (538 هـ)، فنزل أصحابه في دور الناس وتضاعف فساد العيارين (¬2) بدخوله، وكثرت الكبسات والاستقفاء نهارًا ونقل الناس رحالهم إلى دار الخلافة وباب المراتب، وكان اللصوص يمشون بثياب التجار في النهار فلا يعرفهم الإنسان حتى يأخذوه" (¬3). كذلك احتفال سلاطين السلاجقة بأفراحهم، كان عاملًا من عوامل انتشار الفساد كما حدث في زواج السلطان مسعود من ابنة دبيس، عندما أمر وزيره "بأن تعلق بغداد سبعة أيام .. فظهر بالتعاليق فساد عظيم، بضرب الطبول والزمور والحكايات وشرب الخمر ظاهرًا" (¬4)، وكما حدث في الاحتفال بقدوم المولود، "عندما ولدت ابنة دبيس للسلطان مسعود ولدًا ذكرًا فعلقت بغداد، وأخذ الناس في اللعب سبعة ¬

_ (¬1) هو مسعود السلطان بن محمد بن ملك شاه، صاحب العراق وغيرها، جرت له أحوال عجيبة وآل الأمر إليه إلى أن خرج المسترشد بالله إلى محاربته، فأسر المسترشد، ورأى مسعود من التمكين ما لم يره أبناء جنسه، وتوفي في سنة (547 هـ). انظر، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 151. (¬2) معنى كلمة العيارين: هي فئة وجدت في بغداد نتيجة للتباين الطبقي والاقتصادي بين فئات المجتمع فقامت بعمليات نهب وقتل الناس. وقد قال فيهم ابن الجوزي: "وكان للعيارون عيون على الناس من النساء والرجال يطوفون الحانات والرحبة والصيارف والجوهريين، فإذا عاينوا من قد باع شيئًا تبعوه وأخذوا ما معه". انظر، الحكيم، حسن، عيسى، علي. كتاب المنتظم لابن الجوزي. ص 121. وابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 106. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 105 - 106. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 72.

رابعا: عصر ابن الجوزي من الناحية الاجتماعية

أيام ثم ظهر المفسدون، وأخذت أموال الناس (¬1). ولم يقف الأمر عند السلاطين بل تعداه إلى القضاة الذين كانوا يأخذون الرشوة، ومنهم "ابن المرخم الذي كان قاضيًا وكان بئس الحاكم يأخذ الرشا" (¬2)، كما زاد القتل بين الناس فقد "جيء بصبي صغير مقتولًا ومعه صبي آخر فأقر أنه قتله بمنجل كان معه بسبب حلقة أخذها من أذنه فاخذت منه الحلقة وقتل" (¬3). حتى النساء ساهمن في نشر الفساد، فقد أقدمت "أربع نسوة في الأسواق على بقر السقائين مسودات الوجوه لأنهن شربن المسكر في الشط مع الرجال" (¬4). وهكذا انتشرت الفوضى والتسيب الخلقي نتيجة أمور كثيرة سبق ذكرها، وزادت حدتها مع "عودة الجبايات على الناس. بعنف وشدة وظلم" (¬5) بالإضافة إلى شدة وطأة عسكر السلطان الذين كانوا يستغلون الاضطرابات السياسية والحروب والفتن في "السلب والنهب والقتل" (¬6). رابعًا: عصر ابن الجوزي من الناحية الاجتماعية عايش ابن الجوزي ظواهر طبيعية متعددة أثرت في الأوضاع الاجتماعية، من هذه الظواهر الطبيعية أنه حصلت "زلزلة عظيمة" (¬7) و"هبت ريح شديدة قصفت النخل والشجر" (¬8) ولم يأت مطر إلا قطرات لا تبل الأرض وأشرفت المواشي على العطب من قلة العشب وظهر بالناس علة انتفاخ الحلق، فمات به خلق كثير وغارت المياه من الأنهار ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 103. (¬2) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 194. معنى كلمة الرشا: الرشوة. (¬3) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 208. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 69. معنى السقائين: هم الرجال الذين يحملون الماء إلى البيوت. (¬5) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 69. (¬6) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 124 - 132. (¬7) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 138. (¬8) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 221.

والآبار" (¬1)، ونتيجة هذه الظواهر الطبيعية "وقع الغلاء والقحط" (¬2) و"مات الناس جوعًا حتى أكلوا الكلاب" (¬3)، بينما بالغ السلاطين والوزراء في الترف والبذخ إلى حد الإسراف والمجاهرة بالمنكرات كما حدث عندما "ولدت ابنة قاروت من السلطان مسعود ولدًا ذكرًا فعلقت بغداد وظهرت المنكرات" (¬4). فاحتج بعضهم مثل الزاهد ابن الكواز على ذلك قائلا "إن أزلتم هذا وإلا بتنا في الجوامع وشكونا إلى الله تعالى فحطوا التعاليق فمات الولد" (¬5). كذلك كانت لهم مظاهر اجتماعية مختلفة في احتفالات الزواج والولادة والختان وفي الاحتفال بالخليفة الجديد. وقد جرت العادة عند تنصيب الخليفة "نثر الدنانير" (¬6) وإقامة الولائم "عند الختان" (¬7) وغلق الأسواق "عند الموت" (¬8). ومما سبق نرى أن الظواهر الطبيعية وما نتج منها من المجاعة والأمراض وإسراف الطبقات المترفة في المجتمع، وما نتج عنه من الفوضى والفساد، بالإضافة إلى تقديس العادات والتقاليد الموجودة في المجتمع، كل ذلك أدى إلى عدم استقرار الوضع الأمني والاقتصادي في البلاد، كما أدى إلى وجود الطبقية (¬9) بين الأفراد، فالطبقات الخاصة وقوامها الخلفاء والأمراء والقادة والوزراء، والطبقات العامة تضم العلماء والصنّاع والكسبة والتجار والمفسدين في المجتمع كفئة العيارين، الذين كثر فسادهم "ففتكوا وقتلوا ودخلوا إلى دكاكين البزازين يطالبونهم بالذهب ويتهددونهم بالقتل" (¬10)، كذلك ساعدت هذه الأوضاع ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 120. (¬2) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 134. (¬3) المرجع السابق، الجزء السادس، ص 331. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 84. (¬5) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 85. (¬6) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 51. (¬7) المرجع السابق، الجزء التاسع، ص 245. (¬8) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 6. (¬9) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 341. (¬10) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 58.

خامسا: عصر ابن الجوزي من الناحية الاقتصادية

الاجتماعية المختلفة على وجود فرقة المتصوفة التي اتسمت بالعزلة والانغلاق كرد فعل للترف والفساد الحضاري، كما استغلت هذه الأوضاع فرقة الباطنية التي قتلت وسفكت الدماء. خامسًا: عصر ابن الجوزي من الناحية الاقتصادية صحب الظواهر الطبيعية الحادثة في المجتمع ارتفاع وانخفاض في أسعار المواد الغذائية، مما أثر على المستوى الاقتصادي للأفراد، فأدى إلى وجود الطبقية في المجتمع، والذي أدى بدوره إلى وجود فئة العيارين والشطار الذين أعلنوا سخطهم على تركز الثروة الهائلة في يد فئة معينة، فاستغلوا هذه الأوضاع وقاموا بالسلب والنهب والقتل (¬1) طمعًا في الثراء السريع. كما كانت الضرائب تشكل جانبًا من موارد الدولة الرئيسية، فقد كانت تفرض (¬2) أو تخفف أو تلغى (¬3) وفقًا لاتجاه كل خليفة والظروف المحيطة به، فمثلًا الخليفة المقتفي لأمر الله كان محتجًا على فرض الضرائب وأخذِ أموال الناس من غير وجه، وقد عبر عن رأيه ذلك للسلطان مسعود عندما تولى الحكم "وما بقي إلا أن نخرج من الدار ونسلّمها" (¬4)، والبعض الآخر كان متشددًا في فرض الضرائب لدرجة أنه يجعل أشخاصًا يطوفون "بالألواح التي نقش عليها ترك المكس" (¬5) في الأسواق وضربت بين يديها الدبابات والبوقات" (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 58 - 59 - 68. (¬2) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 200. (¬3) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 193 - 194. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 66. (¬5) معنى كلمة المكس: "الجباية. والمَكسُ: "دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية. والماكِس: العَشَّار. ويقال للعَشَّار: صاحب مكس. المكس: الضريبة التي يأخذها الماكِسُ وأصله الجباية". ابن منظور، أبو الفضل، جمال الدين، محمد بن مكرم. لسان العرب. بيروت، دار صادر، دار الفكر، دون تاريخ، المجلد السادس، ص 220. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 120.

ونتيجة تذبذب الأسعار بين ارتفاع وانخفاض، وتفاوت الطبقات الاجتماعية ومستواها الاقتصادي، والضرائب وويلاتها، أدى ذلك إلى انتشار الفوضى الخلقية بشتى صورها، والظلم وما لحقه من طغيان واستبداد، والفقر وما نتج منه من سلب ونهب وقتل لتأمين الضروريات. وهكذا فإن جميع الأوضاع السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية المتغيرة أدت إلى ضعف الدولة العباسية وتمزق وحدتها الإسلامية، وتشتت أفرادها وذهاب هيبتها وتكالب القوى الصليبية عليها.

الفصل الثاني اسمه ونسبه وولادته ونشأته الأولى

• الفصل الثاني اسمه ونسبه وولادته ونشأته الأُولى أولًا: اسمه ونسبه وولادته ثانيًا: نشأته الأولى

أولا: اسمه ونسبه وولادته

أولًا: اسمه ونسبه وولادته " جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي" (¬1). ولادته: ولد ابن الجوزي في "درب حبيب" (¬2) ببغداد. وقد اختلفت رواية المؤرخين في تحديد وقت ولادته فمنهم من قال "ولد تقريبًا سنة (508 هـ) أو (510 هـ) " (¬3) وقيل سنة تسع. "ووجد بخطه: لا أحقق مولدي، غير أنه مات والدي في سنة أربع عشرة، وقالت الوالدة: كان لك من العمر ¬

_ (¬1) الذهبي. تذكرة الحفاظ. بيروت، دار إحياء التراث العربي، دون تاريخ، الجزء الرابع، ص 1342. (¬2) الأتابكي، جمال الدين، أبو المحاسن، يوسف بن تغري بردي. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة. طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب مع استدراكات وفهارس جامعة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، دون تاريخ، الجزء السادس عشر، ص 175. (¬3) الداودي، الحافظ، شمس الدين، محمد بن علي بن أحمد. طبقات المفسرين (تحقيق) عمر، علي، محمد، بمركز تحقيق التراث بدار الكتب، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1392 هـ- 1972 م، الجزء الأول، ص 270.

ثانيا: نشأته الأولى

نحو ثلاث سنين. فعلى هذا يكون مولده سنة إحدى عشر أو اثنتي عشرة" (¬1)، إلا أن أغلب المؤرخين رجحوا ولادته في "سنة (510 هـ) " (¬2). كما اختلف في سبب نسبته الجوزي فقيل "عرف جدهم بالجوزي بجوزة (¬3) كانت في داره بواسط لم يكن بواسط جوزة سواها" (¬4)، "وقال المنذري: هو نسبة إلى موضع يقال له فرضة الجوز، وذكر الشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش: أنه منسوب إلى محلة بالبصرة تسمى محلة الجوز" (¬5). ثانيًا: نشأته الأُولى نشأ ابن الجوزي يتيمًا، فقد "مات أبوه وعمره ثلاث سنين" (¬6) وأمه لم تلتفت (¬7) إلى تربيته وتوجيهه، وإنما قامت بذلك عمته التي أرسلته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ (¬8) ليتلقى جميع العلوم منه ومن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن رجب. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 400. (¬2) البغدادي، إسماعيل باشا. هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين. بيروت، دار العلوم الحديثة، 1981 م، المجلد الأول، ص 520. (¬3) معنى كلمة جوزة: "جَوْزُةُ: وسطه. وجوز كل شيء: وسطه، والجوزة: ضرب من العنب ليس بكبير، ولكنه يصغر جدًا إذا أينع. والجوز: الذي يؤكل، فارسي معرب واحدته جوزة والجمع جوزات". مرجع سابق، ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، محمد بن مكرّم. لسان العرب. المجلد الخامس، ص 329 - 330. (¬4) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1342. (¬5) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 400. (¬6) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 28. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 236. (¬8) محمد بن ناصر بن محمد بن علي الحافظ، أبو الفضل البغدادي ولد سنة (467 هـ)، وسمع الكثير، وتفرد بمشايخ، وكان حافظًا ضابطًا مكثرًا من السُنة كثير الذكر، سريع الدمعة، وقد تخرج به جماعة منهم أبو الفرج، ابن الجوزي، وسمع بقراءته مسند أحمد وغيره من الكتب الكبار، وكان يثني عليه كثيرًا، توفي في سنة (550 هـ). انظر، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 233.

غيره من الشيوخ. وعلى الرغم من أنه كان يتيمًا مبكرًا، إلا أنه عاش مرفهًا، فقد قال عن نفسه "وقد ربيت فى نعيمها وغذيت بلبانها، ولطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة" (¬1)، وهذا الترف ناتج من أن أباه كان "موسرًا وخلف ألوفًا من المال" (¬2) جعلته كما ذكر "لا يذل في طلب العلم قط ولا يخرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ، ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئا قط " (¬3). والغالب على تنشئة ابن الجوزي التدين ذلك أنه كان "صبيًا ديِّنًا مجموعًا على نفسه لا يخالط أحدًا ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان" (¬4) كما ذكر عن نفسه قائلًا "فما أذكر أني لعبت في طريق الصبيان قط ولا ضحكت ضحكًا عاليًا" (¬5). وكانت اهتماماته الأولية مركزة على طلب العلم، كما عبر عن ذلك بقوله "وكان الصبيان ينزلون إلى دجلة ويتفرجون على الجسر وأنا في زمن الصغر آخذ جزءًا وأقعد حجزة من الناس إلى جانب الرقة فأتشاغل بالعلم" (¬6)، وقد ظهرت علامات النبوغ وحبه للعلم في وقت مبكر، فقد "رُزق عقلًا وافرًا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ" (¬7) يضاف إلى ذلك أن الله تعالى "حبب إليه العلم من زمن طفولته فتشاغل به" (¬8)، وتلقى العلم على عدد كبير من المشايخ، ذكر منهم قائلًا "وسمعت من أبي بكر الدينوري (¬9) الفقه وعلى أبي منصور الجواليقي (¬10) اللغة وتتبعت ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 39. (¬2) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها، دون طبعة وتاريخ، ص 54. (¬3) المرجع السابق، ص 55. (¬4) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 29. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 46. (¬6) المرجع السابق، ص 46. (¬7) المرجع السابق، ص 46. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 37 بتصرف. (¬9) سبق ترجمته في الباب الثاني، الفصل الأول، ص 56. (¬10) سبق ترجمته في الباب الثاني، الفصل الأول، ص 56.

مشايخ الحديث وانقطعت مجالس أبي علي ابن الراذاني (¬1)، وقد تلقى العلم في حلقات المسجد فكان يقول "ولقد وفق لي شيخنا أبو الفضل بن ناصر -رحمه الله-، وكان يحملني إلى الشيوخ فأسمعني المسند وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يراد مني، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت فناولني ثبتها ولازمته إلى أن توفي -رحمه الله-، فنلت منه معرفة الحديث والنقل" (¬2). وقد حفظ القرآن وقرأه على جماعة من القراء بالروايات وسمع بنفسه الكثير وعني بالطلب في جميع الفنون وألف فيها" (¬3)، وقد أمضى ابن الجوزي عهد صباه وشبابه في طلب العلم، ولقي في سبيل الحصول عليه الكثير من المصاعب والشدائد، التي جعلته يحس بحلاوة الطلب ومتعة العلم، فكان يخرج إلى نهر عيسى ومعه أرغفة يابسة لا يقدر على أكلها إلا بالماء، فهو يقول "فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم" (¬4) وقد أمضى فترة شبابه في الوعظ الذي تمرس فيه من صغره "وقد فاق فيه الأقران" (¬5)، ثم حصلت له ¬

_ (¬1) هو الحسن بن محمد بن الحسين الراذاني الأواني، ثم البغدادي، الفقيه الواعظ أبو علي الزاهد، ابن الزاهد أبي عبد الله. ولد أبو علي بأوانا، وسمع ببغداد من أبي الحسين ابن الطيوري، ومن بيان وابن شهاب وابن خشيش، ومن الحافظ بن ناصر ولازمه إلى أن مات وتفقه على أبي سعد المخرمي، ووعظ. ولما توفى ابن الزاغوني أخذ حلقته بجامع المنصور في النظر والوعظ، وطلبها ابن الجوزي فلم يعطها لصغر سنه، وقد توفى سنة (546 هـ) انظر، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. ص 220. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 46. (¬3) الحنبلي، أبو الفلاح، عبد الحي بن العماد. شذرات الذهب فى أخبار من ذهب. بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، دون طبعة وتاريخ، الجزء الثالث، ص 329. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 235. (¬5) المكي، أبو محمد، عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان، اليافعي، اليمني. مرآة الجنان وعبرة اليقظان معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان. بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثانية، 1390 هـ - 1970 م، الجزء الثالث، ص 489.

في شبابه من "الحظوة في الوعظ ما لم يحصل لأحد قط وحضر مجالسه ملوك ووزراء بل وخلفاء من وراء الستر، ويقال في بعض المجالس حضره مائة ألف" (¬1)، وقد أكسبته تنشئته الاجتماعية والعلمية الكثير من الصفات الخلقية، فقد كان "لطيف الصوت، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات، لذيذ المفاكهة، وكان يراعي حفظ صحته وتلطيف مزاجه وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدة، يعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات، لباسه الأبيض الناعم المطيب" (¬2). وقد نالت ابن الجوزي محنة في أواخر عمره، ملخصها: "أن الوزير ابن يونس الحنبلي (¬3) كان في ولايته قد عقد مجلسًا للركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي. وأحرقت كتبه، وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأي الأوائل شيئًا كثيرًا، وذلك بمحضر من ابن الجوزي وغيره من العلماء، وانتزع الوزير منه مدرسة جده، وسلَّمها إلى ابن الجوزي. فلما ولي الوزارة ابن القصاب -وكان رافضيًا- سعى في القبض على ابن يونس، وتتبع أصحابه فقال له الركن: أين أنت عن ابن الجوزي فإنه ناصبي، ومن أولاد أبي بكر، فهو من أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدي، وأحرقت كتبي بمشورته؟ فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر، وكان الناصر له ميل إلى الشيعة ولم يكن له ميل إلى الشيخ أبي الفرج، بل قد قيل: إنه كان يقصد أذاه، وقيل: إن الشيخ ربما كان يعرِّض في مجالسه بذم الناصر فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء إلى دار الشيخ وشتمه، وأغلظ عليه وختم على كتبه ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1344. (¬2) مرجع سابق، الحنبلي. شذرات الذهب فى أخبار من ذهب. الجزء الثالث، ص 329 - 330. (¬3) الوزير ابن يونس الحنبلي: "هو عبد الله بن يونس بن أحمد بن عبيد الله بن هبة الله البغدادي الأزجي، الفقيه الفرضي الأصولي المتكلم الوزير، وزير الخليفة الناصر جلال الدين أبو المظفر بن منصور بن أبي المعالي. كان والده وكيلًا لأم الخليفة الناصر، وكان ذا صدقات وإفضال على العلماء، سمع من ابن الحصين، وأبي منصور القزاز، وحدث، وحج في آخر عمره، وعاد ولزم بيته ونابه ولده هذا، وتوفي في محرم سنة 581 هـ". مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 392.

وداره، وشتت عياله" (¬1) "ثم أخذه -الركن- في سفينة إلى واسط فحبس بها في بيت، فبقي يغسل ثوبه ويطبخ، ودام على ذلك خمس سنين ما دخل فيها حمامًا. ثم كان السبب في خلاص الشيخ أن ابنه يوسف نشأ واشتغل وعمل في الوعظ وتوصل، فشفعت أم الخليفة في الشيخ فأطلق" (¬2). وكان له من الأولاد عشرة، "خمسة ذكور وخمس إناث، فمات من الإناث اثنتان ومن الذكور أربعة، فلم يبق من الذكور سوى ولده أبي القاسم" (¬3). "وكانت جنازته مشهودة، شيعه الخلائق يوم الجمعة ثالث عشر شهر رمضان إلى مقبرة باب حرب سنة (597 هـ) " (¬4). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. المجلد الأول، ص 425 - 426. (¬2) مرجع سابق، الداودي. طبقات المفسرين. الجزء الأول، ص 274. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 41. (¬4) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1347.

الفصل الثالث حياته العلمية ومؤلفاته

• الفصل الثالث حياته العلمية ومؤلفاته أولًا: حياته العلمية ثانيًا: مؤلفاته

أولا:- حياته العلمية

أولًا: حياته العلمية تميزت طفولة ابن الجوزي بجده واجتهاده في تحصيل العلم مع ما وهبه الله تعالى من حب للعلم، وما توافر له من أسبابه، كما ذكرها ابن الجوزي "وهيأ لي أسباب العلم وبعث إليَّ الكتب من حيث لا أحتسب. ورزقني الفهم وسرعة الحفظ والخط وجودة التصنيف" (¬1)، عرف عن ابن الجوزي فضل الله عليه بتحبيبه العلم منذ صغره فنمَّى هذه النعمة وصقلها بالقراءة والاطلاع، فقال عن نفسه: "ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع" (¬2)، ولم يقف عند حد القراءة والاطلاع بل تعداه إلى التأليف فكان "لا يضع من زمانه شيئًا يكتب في اليوم -أربع كراريس- (¬3) ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدًا إلى ستين وله في كل علم مشاركة" (¬4). وكان ابن الجوزي حريصًا على وقته، لا يضيعه فيما لا يفيد، ومن شدة حرصه يقول: "فصرت أدافع اللقاء (زيارات الناس له) جهدي، فإذا غُلِبتُ قصرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغًا. فجعلت من المستعد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلي نصيحة الولد .. ص 47. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 441. (¬3) مرجع سابق، الداودي. طبقات المفسرين. الجزء الأول، ص 280. (¬4) مرجع سابق، الحنبلي. شذرات الذهب في أخبار من ذهب. الجزء الثالث، ص 330.

للقائهم قطع الكاغد (الورق) وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي" (¬1). قال ابن الجوزي عن نفسه: "ثم لم يحبب إليّ فن واحد منه بل فنونه كلها" (¬2) ومن هذا الحب، انطلق ابن الجوزي يكتب في جميع ميادين المعرفة؛ فقد فاق أقرانه في الوعظ وتفرد فيه حتى أطلق عليه واعظ الآفاق، وتميزت مجالسه الوعظية بكثرة عدد حاضريه، "فكان يحزر جمع مجلسي على الدوام بعشرة آلاف وخمسة عشر ألفًا" (¬3)، وجمعت في مجالسه كل الطبقات الاجتماعية من "الخليفة والوزير وصاحب المخزن وكبار العلماء" (¬4)، وكان أسلوبه مؤثرا فإذا وعظ "اختلس القلوب، وتشققت النفوس دون الجيوب" (¬5)، ومن شدة تأثيره "أسلم على يده -كما ذكر- نحو من مائتين من أهل الذمة وتاب في مجالسه أكثر مائة ألف، وقد قطع أكثر من عشرين ألف سالف (¬6) مما يتعاناه الجهال" (¬7). -أعتقد- أن ابن الجوزي بما أوتي من فصاحة وبلاغة وعذوبة بالإضافة إلى "حلاوة ترصيعه، ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيها يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة" (¬8)، و"استشهاده بالأحاديث الموضوعة في كتبه ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 228. (¬2) المرجع السابق، ص 37. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 194. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 284. (¬5) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 413. (¬6) معنى سالف: الشعر الذي يتدلى من الرأس من جانب العنق إلى جانب الكتف. إن قطع السالف إشارة من المؤلف إلى توبة من كان يعتني بإطالة سالفه كمظهر من مظاهر الخنوثة التي كانت فاشية في زمانه، كالظاهرة التي نراها الآن. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 47. (¬8) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 28.

الوعظية" (¬1)، أعطاه القدرة على التأثير في قلوب سامعيه، هذا التأثير -الذي أعتقِده- تأثيرًا وقتيًا لا يلبث أن يزول بانتهاء مجالسه، وهذا الاعتقاد جاء نتيجة المبالغة في ذكر عدد المتأثرين به دون أن يكون له أثر مباشر في إصلاح المجتمع العباسي مما فيه من الفساد والفوضى والفتن، ويبدو أنه لم يقدم مشروعات إصلاحية. أما في الحديث، فقد اعتُبر من الحفاظ، وقال عن نفسه مادحًا "ولا يكاد يذكر لي حديث إلا ويمكنني أن أقول إنه صحيح أو حسن أو محال" (¬2) -يقصد بالمحال الضعيف- وله مؤلفات كثيرة في هذا المجال، "بلغت (42) كتابًا" (¬3)، منها على سبيل المثال: كتاب الموضوعات في ثلاثة أجزاء، وكتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية وهو "مجلدان"، إلا أنه يستدل أحيانًا ببعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد ذكر الإمام السيوطي نقلًا من "خط السيد أحمد بن أبي المجد قال: صنف ابن الجوزي كتاب الموضوعات فأصاب في ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل والعقل، وما لم يصب فيه، إطلاقه الوضع على أحاديث بكلام بعض الناس في أحد رواتها كقوله فلان ضعيف أو ليس بالقوي أو لين، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا حجة بأنه موضوع سوى كلام ذلك الرجل في رواية، وهذا عدوان ومجازفة، وقال شيخ الإسلام: غالب ما في كتاب ابن الجوزي موضوع" (¬4). (المقصود كتاب الموضوعات). ¬

_ (¬1) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد. مشيخة ابن الجوزي (تحقيق) محفوظ، محمد، أثينا، بيروت، دار الغرب الإِسلامي، الطبعة الثانية، 1400 هـ- 1980 م، ص 20. (¬2) مرجع سابق، الحنبلي. شذرات الذهب فى أخبار من ذهب. الجزء الثالث، ص 329 - 330. (¬3) مرجع سابق، العلوجي، عبد الحميد. مؤلفات ابن الجوزي. ص 223 - 224 - 225. (¬4) السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (حققه وراجع أصوله) عبد اللطيف، عبد الوهاب، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، 1409 هـ - 1989 م، الجزء الأول، ص 278 - 279.

كما انتقده ابن رجب في ذيله على الطبقات فقال: "وكان ابن عقيل بارعًا في الكلام، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار، فلهذا يضطرب في هذا الباب، وتتلون فيه آراؤه وابن الجوزي تابع له في هذا التلون" (¬1)، وقد رد الذهبي نقلًا عن الموفق عبد اللطيف أسباب ذلك إلى كثرة مصنفاته دون مراجعتها فقال: "وكان كثير الغلط فيما يصنفه فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره" (¬2). بمعنى لا يراجعه. أما في التفسير فقد مدح نفسه قائلًا: "ما عرفت أن واعظًا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن فالحمد لله المنعم" (¬3)، وكان يعتبر في "التفسير من الأعيان" (¬4)، وقد بلغت تصانيفه "في القرآن وعلومه سبعة وعشرين كتابًا" (¬5) ومن أشهرها كتاب زاد المسير في علم التفسير في تسعة مجلدات. أما في التاريخ فكان من المتوسعين، وأبرز كتبه كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، كما كان له الكثير من كتب التراجم وأخبار المشاهير. كذلك كان لابن الجوزي علم بالأدب واللغة، ويتميز بالفصاحة والبلاغة وله "ملكة قوية في السجع الوعظي" (¬6)، ظهرت في كتاباته ومجالسه الوعظية، "وله من النظم والنثر شيء كثير جدًّا. وله كتاب سماه لقط الجمان في كان وكان (¬7)، كما كان له الكثير من الأبيات الشعرية" (¬8)، وله كتاب المختار من الأشعار في عشرة مجلدات، وقد بلغ عدد كتبه في مجال الشعر واللغة (16) مؤلفًا" (¬9). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن رجب. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 414. (¬2) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1347. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 251. (¬4) مرجع سابق، الذهبي، تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1346. (¬5) مرجع سابق، العلوجي، عبد الحميد. مؤلفات ابن الجوزي. ص 222 - 223. (¬6) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1347. (¬7) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 29. (¬8) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر" من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. بيروت، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م، ص 61، 62، 63. (¬9) مرجع سابق، العلوجي، عبد الحميد. مؤلفات ابن الجوزي. ص 234 - 235.

ثانيا: مؤلفاته

ومن العلوم التي كتب فيها ابن الجوزي الطب، فقد كتب "عشرة مؤلفات فيه" (¬1). أما بقية التخصصات العلمية الأُخرى كالفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وغيرها فلم يكتب فيها. ومِع هذه الثروة العلمية الهائلة من مؤلفات ابن الجوزي، فإن له تراثا علميًا ضائعًا بلغ " (233) " (¬2)، ويكفي ابن الجوزي ما قاله الإمام الحافظ الذهبي "ما علمت أحدًا من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل" (¬3). ثانيًا: مؤلفاته لقد كان لنبوغ ابن الجوزي المبكر، وحبه للعلم وجِدِّه ومثابرته على التحصيل، أثر كبير في غزارة إنتاجه وتنوع مؤلفاته، فقد كتب في معظم علوم عصره كما أشرنا، "وله اليد الطولى والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها وحصر أفرادها" (¬4). وقد اتفق المؤرخون على أنه كثير الكتابة والتأليف في جميع العلوم، إلا أنهم اختلفوا في عدد مصنفاته اختلافا كبيرًا، فهذا ابن خلكان يقول: "فكتبه أكثر من أن تعدّ، وكتب بخطه كثيرًا، والناس يغالون في ذلك حتى قالوا إنه جمعت الكراريس التي كتبها، وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة، فكان ما خص كل يوم تسع كراريس، وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل" (¬5). "وقال سبطه (¬6) سمعت جدي يقول على المنبر: كتبت بأصبعي (2000) مجلدًا .. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 233 - 234. (¬2) المرجع السابق، ص 212 - 221. (¬3) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1344. (¬4) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 29. (¬5) مرجع سابق، الأتابكي، ابن تغري بردي. النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة. ص 175. (¬6) هو أبو المظفر يوسف بن قزأوغلي، الحنفي، البغدادي ثم الدمشقي، سبط ابن الجوزي، أمه رابعة بنت الشيخ جمال الدين، أبي الفرج ابن الجوزي الواعظ، وقد كان حسن الصورة، طيب الصوت، حسن الوعظ، كثير الفضائل والمصنفات،

إلى أن قال (سبطه): ومجموع تصانيفه (250) كتابًا" (¬1). "وقال الإمام أبو العباس بن تيمية في أجوبته المصرية: كان الشيخ أبو الفرج مفتيًا كثير التصنيف والتأليف .. وله مصنفات في أمور كثيرة، حتى عددتها فرأيتها أكثر من (1000) مصنف" (¬2). وقد ذكر ابن الجوزي في مواضع عدة عدد مصنفاته قائلًا: "قد صنفت (100) كتاب، فمنها التفسير الكبير عشرون مجلدًا، والتاريخ عشرون مجلدًا، وتهذيب المسند عشرون مجلدًا، وباقي الكتب بين كبار وصغار يكون خمس مجلدات، ومجلدين وثلاثة وأربعة وأقل وأ كثر" (¬3). وسئل عن عدد تصانيفه فقال: زيادة على (340) مصنفًا منها ما هو عشرون مجلدًا وأقل" (¬4). بالإضافة إلى ما بيع من مصنفات على يد ابنه أبي القاسم علي الذي كان "عاقًا لوالده إلبًا عليه في زمن المحنة وغيرها، وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن" (¬5). ومع هذا الاختلاف في عدد مصنفاته، فقد ذكر الدكتور نور الدين بن شكري بوياجلار "أن ما ألفه ابن الجوزي يقرب من (350) مؤلفًا في فنون مختلفة" (¬6). ¬

_ = وله مرآة الزمان في عشرين مجلدًا من أحسن التواريخ، نظم فيه المنتظم لجده وزاد عليه وذيل إلى زمانه. توفي في سنة (654 هـ) انظر ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 194. (¬1) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1344. (¬2) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 415. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 58. (¬4) مرجع سابق، الحنبلي. شذرات الذهب في أخبار من ذهب. الجزء الثالث، ص 330 - 331. (¬5) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 30. (¬6) بويا جلار، نور الدين بن شكري. فهرس مؤلفات أبي الفرج بن الجوزي المخطوطة بمكتبات تركيا. مقالة في مجلة كلية أصول الدين بالرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية، العدد الرابع، العام الجامعي 1402 - 1403 هـ، ص 316.

أما الكاتب عبد الحميد العلوجي فقد أكد أن عدد مؤلفات ابن الجوزي "أكثر من (400) كتاب استقر منها مخطوطًا أكثر من (139) كتابا في خزائن الكتب الشرقية والغربية المنتشرة في أوروبا وأميركا والاتحاد السوفياتي والوطن العربي وإيران والهند وتركيا. وضاع أكثر من (233) كتابًا وهو العدد الذي وصلت إلينا عناوينه. وطبع منها (30) كتابًا في القاهرة وحيدر أباد ودمشق وليبزك بألمانيا والقسطنطينية (استنبول) وليدن بهولندا وبومبي (في الهند) وبيروت وبغداد" (¬1). على الرغم من الاختلاف في عدد مصنفاته، إلا أنه يتضح لنا أن ابن الجوزي موسوعة علمية جليلة، ترك بصماته في معظم علوم عصره. وتميزت مؤلفات ابن الجوزي بكثرتها، وتعدد معارفها، مع تفاوت قيمتها العلمية، فقد كانت عليه بعض المآخذ، فقال ابن رجب في ذيله على طبقات الحنابلة: "كثرة أغلاطه في تصانيفه، وعذره في هذا واضح، وهو أنه كان مكثرًا من التصانيف، فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره، وربما كتب في الوقت الواحد في تصانيف عديدة. ولولا ذلك لم تجتمع له هذه المصنفات الكثيرة. ومع هذا فكان تصنيفه في فنون من العلوم بمنزلة الاختصار من كتب تلك العلوم، فينقل من التصانيف من غير أن يكون متقنًا لذلك العلم من جهة الشيوخ والبحث، ولهذا نقل عنه أنه قال: أنا مرتب ولست مصنفًا" (¬2). وقال الشيخ موفق الدين المقدسي: "كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب قبول. وكان يدرس الفقه ويصنف فيه. وكان حافظًا للحديث. وصنف فيه، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة ولا طريقته فيها" (¬3). كما ذكر زلاته محقق كتاب القُصاص والمذكِّرين، الدكتور محمد بن لطفي الصباغ الذي نقده قائلًا: لأكان لابن الجوزي مواقف يبدو أنها متعارضة .. ويبدو هو من خلالها مزدوج الموقف، فهو عندما ينتقد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العلوجي، عبد الحميد. مؤلفات ابن الجوزي. ص 5. (¬2) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 414. (¬3) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 415.

المتصوفة والمتساهلين في الحديث يكون إنسانًا على منهج سليم، يدعو إلى الحق الذي يراه بجرأة وحرارة كما يظهر ذلك جليًا في تلبيس إبليس أو في مقدمة صفة الصفوة أو كتاب الموضوعات. ولكنه في مواضع من مؤلفاته تراه من أشدّ الناس تساهلًا في إيراد الأحاديث الضعيفة التالفة كما نطالع ذلك في كتابه المدهش أو ذم الهوى، وتراه في مواضع أُخرى يأتي بالقصص الباطلة والخرافات المردودة ويورد ما يقوله المتصوفة ويحكونه في مجالسهم مع أنه انتقدهم وعاب عليهم فكرهم وسلوكهم وذكرهم بما يستحقون ووجه إليهم اللوم اللاذع" (¬1). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب القُصاص والمذكرين. (تحقيق) الصباغ، د. محمد، لطفي، ص 41 - 42.

الفصل الرابع تأثره وتأثيره ومكانته العلمية والتربوية

• الفصل الرابع تأثره وتأثيره ومكانته العلمية والتربوية أولًا: تأثر ابن الجوزي ثانيًا: تأثير ابن الجوزي ثالثًا: مكانته العلمية رابعًا: مكانته التربوية

أولا: تأثر ابن الجوزي

أولًا: تأثر ابن الجوزي تأثر ابن الجوزي بالشيوخ الذين تلقى عنهم مختلف العلوم، ولاسيما العامل بعلمه منهم، فقال: "أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه" (¬1)، لذلك كان لا يهتم بكثرة عدد المشايخ، بل يهتم بدرجة إتقانهم وتمكنهم من العلم، وقد عبر عن رأيه ذلك قائلًا: "حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر وأسمعني العوالي، وقد أثبتَ سماعاتي كلها بخطه، وأخذ لي إجازات منهم، فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم وأوثر من أرباب النقل أفهمهم، فكانت همتي تجويد العُدَد لا تكثير العدد" (¬2)، وعلى الرغم من ذلك، فإن ابن الجوزي أخذ عن "ستة وثمانين شيخًا وثلاث شيخات من النساء" (¬3)، إلا أنه تأثر بشخصية اثنين من العلماء منهم الشيخ عبد الوهاب الأنماطي (¬4)، الذي قال فيه ابن الجوزي: "إنه كان على قانون ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 143. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. مشيخة ابن الجوزي. (تحقيق) محفوظ، محمد، ص 53. (¬3) المرجع السابق، ص 197 - 201. (¬4) هو عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي، الحافظ أبو البركات، محدِّث بغداد، ولد في رجب سنة (462 هـ)، وذكره ابن السمعاني، فقال: حافظ ثقة، واسع الرواية، جمع الفوائد وخرَّج التخاريج، لعله ما بقى جزء مروي إلا وقد قرأه، وحصل نسخته، ونسخ الكتب الكبار مثل الطبقات لابن سعد، وتاريخ الخطيب وكان متفرغًا للتحديث: إما أن يقرأ عليه أو ينسخ شيئًا، وتوفي في سنة (538 هـ). انظر ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 202.

السلف لم تُسمع في مجلسه غيبة ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه فكان -وأنا صغير السن حينئذ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل" (¬1). أما الشخصية الثانية فهو الشيخ أبو منصور الجواليقي (¬2)، الذي قال بشأنه ابن الجوزي: "فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنًا محققًا. وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن. وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما" (¬3). كما تأثر ابن الجوزي بالإمام الغزالي، على الرغم من أنه توفي سنة 505 هـ قبل ولادته بخمس سنوات تقريبًا. وتأثر ابن الجوزي بالغزالي جاء نتيجة قراءته واطلاعه على مؤلفاته التي قال عنها: "وصنف الكتب الحسان في الأصول والفروع التي انفرد بحسن وضعها وترتيبها وتحقيق الكلام فيها حتى إنه صنف في حياة أستاذه الجويني (¬4)، فنظر الجويني في كتابه المسمى بـ المنخول فقال له: دفنتني وأنا حي هلا صبرت حتى ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 143. (¬2) سبق ترجمته في الباب الثاني، الفصل الأول، ص 56. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 143. (¬4) هو عبد الملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، أبو المعالي الجويني، وجوين من قرى نيسابور، الملقب بإمام الحرمين، لمجاورته بمكة أربع سنين، كان مولده في سنة (419 هـ)، سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني، ودرَّس بعده في حلقته، وتفقه على القاضي حسين، ودخل بغداد وتفقه بها، وروى الحديث وخرج إلى مكة فجاور فيها أربع سنين، ثم عاد إلى نيسابور فسلم إليه التدريس والخطابة والوعظ، وصنف نهاية المطلب فى دراية المذهب. والبرهان في أصول الفقه، وغير ذلك في علوم شتى. توفي في الخامس والعشرين من ربيع الأول من سنة (478 هـ). انظر ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثاني عشر، ص 128.

أموت؟ وأراد أن كتابك قد غطى على كتابي" (¬1). وقد سار ابن الجوزي في تأليف بعض كتبه على نهج الإمام الغزالي، مثال: رسالته لابنه لفتة الكبد إلى نصيحة الولد، ورسالة الغزالي أيها الولد، وكما في كتابه تلبيس إبليس الذي قال عنه الغزالي: "ولعلنا إن أمهل الزمان صنفنا فيه كتابًا على الخصوص نسميه تلبيس إبليس، فإنه قد انتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لاسيما في المذاهب والاعتقادات حتى لم يبق من الخيرات إلا رسمها، كل ذلك إذعانًا لتلبيسات الشيطان ومكايده" (¬2)، على الرغم من أن ابن الجوزي لم يشر إلي ذلك. ولم يكتف ابن الجوزي بالسير على النهج نفسه في التأليف بل كان يقتبس بعض الآراء بعباراتها الحرفية دون إسنادها إلى الإمام الغزالي، كما حصل عند بيان رأيه في الروح: "إن الروح في ذاته جوهر لا يتجزأ ولا يموت، وقدره جوهر لا قيمة له، وإنما آلات البدن خادم له تعين على السفر، له في زجاجة القلب نار كالسراج، الحياة ضوؤها والدم دهنها، والحركة نورها، والشهوة حرارتها، والغضب دخانها، وقد اتخذ من مقدم الدماغ حارسًا، ومن وسطه وزيرًا، ومن مؤخره حافظًا، وجعل العقل أستاذًا، والحس تلميذًا، وفرق الأعضاء في خدمته رجالًا وركبانًا" (¬3). ولبيان مدى التشابه في اقتباس الفكرة والألفاظ، نعرض كلام الغزالي، فهو يقول: "والروح الحيواني جسم لطيف، كأنه سراج مشتعل، والحياة هي السراج، والدم دهنه، والحس والحركة نوره، والشهوة حرارته، والغضب دخانه، والقوة الطالبة للغذاء الساكنة في الكبد خادمه وحارسه ووكيله. وهذا الروح يوجد عند جميع الحيوانات. لأنه مشترك ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتطم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء التاسع، ص 168 - 169. (¬2) الغزالي، الإمام أبو حامد، محمد بن محمد. إحيا علوم الدين. بيروت، دار الفكر، 1406 هـ - 1986 م، الجزء الثالث، ص 33. (¬3) ابن الجوزي. كتاب اللطف فى الوعظ. بيروت، دار الكتب العلمية، 1405 هـ - 1984 م، ص 81 - 82.

ثانيا: تأثير ابن الجوزي

بين البهائم وسائر الحيوانات والإنسان" (¬1). تأثر ابن الجوزي بالغزالي واضح إلا أنه نقد طريقته في التصوف عندما ترجمه في المنتظم مع ذكر فضائله (¬2) ونقده كذلك في كتابه تلبيس إبليس قائلًا: "وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه وقال: "إن المراد بالكواكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله -عز وجل- ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية" (¬3). كذلك نقده ابن الجوزي في موضوعات عدة منها العزلة، السياحة والتجرد عن الأموال، محاربة النفس، الغناء والتشبب بالجمال، والتوكل وترك الأسباب، وقد ردَّ عليها بما يتفق مع الكتاب والسنة. ولا يسعنا في هذا المجال أن نوضح ذلك بالتفصيل ومن أراد التفصيل والزيادة يمكنه الرجوع إلى رسالة الدكتوراه للباحثة آمنة محمد نُصير، بعنوان: أبو الفرج ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية (¬4). ثانيًا: تأثير ابن الجوزي أما تأثيره فكان من خلال مؤلفاته العلمية الكثيرة في شتى العلوم والمعارف الإنسانية، التي ساهم بها -فقد أثرت في عصره وإلى يومنا هذا- في ثراء الحركة العلمية. كما وقد كان له تأثير من خلال مواعظه "التي حصل له فيها القبول والاحترام. حُكي أن مجلسه حزر بـ (000، 100) ¬

_ (¬1) الغزالي. منهاج العارفين. ص 101، نقلًا من كتاب عبد العال، د. حسن، إبراهيم. مقدمة فى فلسفة التربية الإسلامية. الرياض، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، 1405 هـ -1985 م، ص 234. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتطم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء التاسع، ص 169. (¬3) ابن الجوزي، للحافظ الإمام، جمال الدين، أبي الفرج، عبد الرحمن. تلبيس إبليس. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1368 هـ، ص 166. (¬4) مرجع سابق، نصير، د. آمنة، محمد. أبو الفرج، ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية. ص 235 - 245.

وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مراتٍ من وراء الستر" (¬1). وظهر تأثيره في ما تركه من بصمات واضحة على غيره من العلماء المسلمين. ويعتبر ابن قيم الجوزية (¬2) من العلماء المتأثرين به في السير على النهج نفسه عند كتابة المؤلفات، فكتاب ابن قيم روضة المحبين ونزهة المشتاقين يقابله كتاب ابن الجوزي ذم الهوى، وكتاب ابن قيم إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان يقابله كتاب ابن الجوزي تلبيس إبليس. كذلك ظهر تأثر ابن قيم الجوزية واضحًا في اقتباسه لبعض الأفكار بألفاظها مثال: ذلك أن ابن الجوزي قال: "الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل قد خُلق في الإنسان لضرورة بقائه فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل، وإلى المشرب ما شرب، وإلى المنكح ما نكح، وكذلك كل ما يشهيه، فالهوى مستجلب له ما يفيد. . . الخ" (¬3). وبمثل هذا القول تحدث به ابن قيم الجوزية في الموضوع نفسه إذ قال: "الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحث لما يريده. . . الخ" (¬4). قال ابن الجوزي أيضًا: "وقد عرفت ثمرة العقل وفائدته، فإنه هو الذي دل على الإله وأمر بطاعته وامتثال أمره، وأثبت معجزات الرسل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، المكي. مرآة الجنان وعبرة اليقظان فى معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان. الجزء الثالث، ص 489. (¬2) هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية، ولد سنة (691 هـ). تفقه في المذهب، وبرع وأفتى، وكان عارفًا بالتفسير، وبأصول الدين والحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وبعلم الكلام والنحو وغير ذلك. وكان عالمًا بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف. وله مصنفات كثيرة في العلم. توفي في سنة (751 هـ). انظر ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الثاني، ص 447 - 448. (¬3) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. ذم الهوى (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، (راجعه) الغزالي، محمد، الطبعة الأولى، 1381 هـ - 1962 م، ص 12. (¬4) ابن قيم الجوزية. روضة المحبين ونزهة المشتاقين. مكة المكرمة، الباز، عباس، أحمد، دون تاريخ، ص 469.

وأمر بطاعتهم، وتلمح العواقب فاعتبرها فراقبها وعمل بمقتضى مصالحها، وقاوم الهوى فرد غَربَه، وأدرك الأمور الغامضة، ودبر على استخدام المخلوقات فاستخدمها، وحث على الفضائل ونهى عن الرذائل، وشد أسر الحزم، وقوى أزر العزم، واستجلب ما يزين، ونفى ما يشين، فإذا تُرك وسلطانه، أسر فضول الهوى، فحصرها في حبس المنع" (¬1). وفي هذا المعنى قال ابن قيم الجوزية: "وهذا ثمرة العقل الذي به عُرف الله -سبحانه وتعالى- وأسماؤه وصفات كماله ونعوت جلاله، وبه آمن المؤمنون بكتبه ورسله ولقائه وملائكته، وبه عُرفت آيات ربوبيته وأدلة وحدانيته ومعجزات رسله، وبه امتثُلتِ أوامره واجتنبت نواهيه، وهو الذي تلمح العواقب فراقبها، وعمل بمقتضى مصالحها، وقاوم الهوى فرد جيشه مغلولًا، وساعد الصبر حتى ظفر به بعد أن كان بسهامه مقتولًا، وحث على الفضائل، ونهى عن الرذائل، وفتق المعاني وأدرك الغوامض، وشد أزر العزم فاستوى على سوقه، وقوّى أزر الحزم حتى حظي من الله بتوفيقه، فاستجلب ما يزين، ونفى ما يشين، فإذا نزل وسلطانُه أسر جنود الهوى فحصرها في حبس (من ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه). ." (¬2). كما سار ابن قيم الجوزية على نهج ابن الجوزي -تقريبًا- في عرض الموضوعات، فمثلًا في كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين، بدأه بذكر فضل العقل وأهميته في ضبط الشهوات، ثم تكلم على الحب، وأحكام النظر والمحبة والعشق وذم الهوى، وهي الموضوعات نفسها التي عالجها ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى، وكثير منه مقتبس باللفظ والمعنى منه. مثال: أورد ابن قيم الجوزية التعريفات نفسها الخاصة بالعشق، والتي ذكرها ابن الجوزي وهي كالآتي: قال ابن الجوزي: "قال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة بغير فكرة. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، (راجعه) الغزالي، محمد، ص 10. (¬2) مرجع سابق، ابن قيم الجوزية. روضة المحبين ونزهة المشتاقين. ص 7.

ثالثا: مكانته العلمية

وسئل يوذجانس عن العشق، فقال: سوء اختيار صادف نفسًا فارغة. وقال أرسطاطاليس: العشق هو عمى الحس عن إدراك عيوب المحبوب. وقال فيثاغورس: العشق طمع يتولد في القلب، ويترك وينمى، ثم يتربى ويجتمع إليه موادّ من الحرص، فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الطمع، والفكر في الأماني، والحرص على الطلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغمَّ المقلق. . . الخ" (¬1). وقال ابن قيم الجوزية: "وقال بعض الفلاسفة: العشق طمع يتولد في القلب ويتحرك وينمى، ثم يتربى ويجتمع إليه مواد من الحرص، وكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج والتمادي في الطمع والحرص على الطلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغم والقلق، .. وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة. وقال أرسطاطاليس: العشق عمى الحس عن إدراك عيوب المحبوب. ." (¬2). وهناك الكثير من العبارات المستقاة من كتابات ابن الجوزي في مؤلفات ابن قيم الجوزية ولا يسعنا المقام لذكرها جميعًا. كما ظهر تأثير ابن الجوزي في كتابات المحدثين وبحوثهم، التي تتناول علمه من جميع الجوانب، وتترجم إلى رسائل ماجستير ودكتوراه للاستفادة منه. ثالثًا: مكانته العلمية يتمتع ابن الجوزي بمكانة علمية مرموقة، اكتسبها من كثرة كتاباته في مختلف العلوم والمعارف وإجادته معظمها. وسأورد بعضًا من أقوال العلماء فيه: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، (راجعه) الغزالي، محمد، ص 289. (¬2) مرجع سابق، ابن قيم الجوزية. روضة المحبين ونزهة المشتاقين. ص 137.

قال عنه ابن رجب صاحب الذيل على طبقات الحنابلة: إنه "الحافظ المفسر، الفقيه الواعظ، الأديب، شيخ وقته، وإمام عصره" (¬1). وقال أيضا: "قرأت بخط الإمام ناصح الدين بن الحنبلي الواعظ في حق الشيخ أبي الفرج اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع في غيره. وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والحسان" (¬2). وقال صاحب شذرات الذهب: "الواعظ المتفنن صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم من التفسير والحديث والفقه والزهد والوعظ والأخبار والتاريخ والطب وغير ذلك" (¬3). وقال الذهبي عنه: "ما علمت أحدًا من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل" (¬4). وقال الموفق عبد اللطيف: "وكان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف، وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية" (¬5). "وذكره ابن البزوري في تاريخه، وأطنب في وصفه، وقال: أصبح في مذهبه إمامًا يشار إليه، ويعقد الخنصر في وقته عليه، ودرس بعدة مدارس، وبنى لنفسه مدرسة بدرب دينار ووقف عليها كتبه. وبرع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء عصره، وعلا على فضلاء دهره، وله التصانيف العديدة. ولم يترك فنًا من الفنون إلا وله فيه مصنف. كان أوحد زمانه، وما أظن الزمان يسمح بمثله" (¬6). وقال ابن النجار: "من تأمل ما جمعه بان له حفظه وإتقانه، ومقداره في العلم. وكان -رحمه الله- مع هذه الفضائل والعلوم الواسعة ذا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول. ص 399. (¬2) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 411. (¬3) مرجع سابق، الحنبلي. شذرات الذهب فى أخبار من ذهب. الجزء الرابع، ص 329. (¬4) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1344. (¬5) مرجع سابق، الداودي. طبقات المفسرين. الجزء الأول، ص 280. (¬6) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 413.

أوراد وتألُّه، وله نصيب من الأذواق الصحيحة، وحظ من شرب حلاوة المناجاة. وقد أشار هو إلى ذلك، ولا ريب أن كلامه في الوعظ والمعارف ليس بكلام ناقل أجنبي مجرد عن الذوق بل كلام مشارك فيه" (¬1). وقال الداودي صاحب طبقات المفسرين: "الإمام العلامة، حافظ العراق، وواعظ الآفاق، صاحب التصانيف المشهورة في أنواع العلوم" (¬2). وقد مدحه مدحًا طويلًا الرحالة ابن جبير فقال: "شاهدنا مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي. . . . فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا (¬3) كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدرر، فأما نظمه فرضي الطباع (¬4) مهياري (¬5) الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويُعطل المثل بقس وسجان" (¬6). ومع هذا التقدير لمكانة ابن الجوزي العلمية، فإن هناك بعض المآخذ عليه، وهي كما ذكر ابن رجب أنه "نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم ميله إلى التأويل في بعض كلامه واشتد نكيرهم عليه في ذلك. ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف وهو وإن كان مطلعًا على الأحاديث والآثار فلم يكن يحل شبهة المتكلمين وبيان ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 413. (¬2) مرجع سابق، الداودي. طبقات المفسرين. الجزء الأول، ص 270. (¬3) الفرا: ماخوذ من المثل القائل: كل الصيد في جوف الفرا، والفرا الحمار الوحشي، يريد أن الخطيب وحيد في علمه. (¬4) رضي الطباع: شبيه في طبعه بالشريف الرضي الشاعر المشهور. (¬5) مهياري: شبيه بمهيار الديلمي الشاعر أيضًا. (¬6) ابن جبير. رحلة ابن جبير. بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، 1404 هـ - 1984 م، ص 196 - 197.

رابعا: مكانته التربوية

فسادها، وكان معظمًا لأبي الوفاء بن عقيل يتابعه في أكثر ما يجد في كلامه وإن كان قد ردَّ عليه في بعض المسائل، وكان ابن عقيل بارعًا في الكلام ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار، فلهذا يضطرب في هذا الباب وتتلون فيه آراؤه، وأبو الفرج تابع له في هذا التلون" (¬1). كما "كان أستاذًا فريدًا في الوعظ وغيره، وقد كان فيه بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في كلامه وفي نثره ونظمه، فمن ذلك قوله: ما زلتُ أدركُ ما غلا بل ما علا ... وأكابدُ النهجَ العسيرَ الأطولا تجرى بي الآمالُ في حلباتِه ... جريَ السعيدِ مدى ما أملا أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي ... أعيا سوايَ توصلًا وتغلغلا لو كانَ هذا العلمُ شخصًا ناطقًا ... وسألتهُ هل زارَ مثليَ؟ قال: لا" (¬2) ويكفي ابن الجوزي ما قاله ابن كثير فيه: "ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخًا وما أحقه بقول الشاعر: ما زلتَ تدأبُ في التاريخ مجتهدًا ... حتى رأيتكَ في التاريخِ مكتوبًا (¬3) رابعًا: مكانته التربوية يعتبر ابن الجوزي كغيره من علمائنا المسلمين، الذين ما زال تراثهم التربوي بحاجة إلى بحث ودراسة وإعادة صياغة بطريقة تربوية سليمة. وقد كان لبعض الأساتذة المتخصصين في مجال التربية رأيهم في تراث ابن الجوزي التربوي، فهذا د. حسن عبد العال يقول: "كان له -رحمه الله- مشاركات في مختلف العلوم والفنون، فلم يعدم الفكر التربوي مشاركته، فضمَّن مؤلفاته نظرات ثاقبة في تقويم الطباع ورياضة الولدان وتأديب الإنسان وسياسته، غير أن نظراته التربوية المتناثرة في مؤلفاته، التي تربو على (300) مصنف بين مخطوط ومطبوع، لم تجد طريقها حتى الآن إلى أيدي الناس، فما زال تراثه التربوي كتراث الكثيرين غيره من أعلام ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن رجب. الذيل على طبقات الحنابلة. الجزء الأول، ص 414. (¬2) مرجع سابق، ابن كثير. البداية والنهاية. الجزء الثالث عشر، ص 29. (¬3) المرجع السابق، الجزء الثالث عشر، ص 28.

المسلمين ينتظر من ينفض عنه غبار السنين، ليكشف عن صفحات مشرقه من إسهامات علماء الإسلام الأفذاذ الذين أطلعوا العالم -ردحًا من الزمن- على معالم نظام تربوي متكامل البنيان راسخ الأصول، وأرسوا باجتهاداتهم أصول التربية الصحيحة ومبادئها. لقد جاءت اجتهادات ابن الجوزي التربوية لتبرز إلى جانب اجتهادات أقرانه من رجالات الفكر الإسلامي، معالم صورة رائعة لنتاج الثقافة الإسلامية في مجال التربية" (¬1). كذلك عبر د. عبد الرحمن صالح عبد الله عن رأيه في ابن الجوزي بقوله: "من خلال قراءة آراء ابن الجوزي نصل إلى نتيجة واضحة وهي أنه دعا إلى العديد من المبادئ التي لم يتنبه إليها علماء النفس إلا حديثًا، ومن أهم هذه الآراء ارتباط الذكاء بالجانب الأدائي. ثم إن تأكيد ابن الجوزي على الربط بين العقل وبين بعض السمات الانفعالية واهتمامه بالجانب الترويحي وإشاراته المتكررة إلى الجانب الإيماني يُظهر بجلاء أنه نظر إلى العقل نظرة متكاملة، إذ لا فصل بين العقل وبين الجوانب الأخرى في الشخصية الإنسانية. ومع أن سبق ابن الجوزي وغيره من العلماء المسلمين واضح جلي إلا أن المربين وعلماء النفس كثيرًا ما يتجاهلون هذه الحقائق ويقفزون عند معالجة موضوعاتهم من الفكر اليوناني والروماني إلى عصر النهضة فالعصر الحديث" (¬2). وقال فيه الباحث محمد أحمد خلف الله بعد أن بين "أَن العلماء الأوروبيين لم يتعرضوا لبحث ظاهرة الذكاء إلا في القرن التاسع عشر" (¬3): "أليس مما يطمئن له قلب الباحث العربي الحديث أن يجد من بين شيوخ الإسلام من اتجه إلى مثل هذا النوع من البحث والتأليف منذ ¬

_ (¬1) عبد العال، د. حسن، إبراهيم. (من ملامح الفكر التربوي عند الإمام أبي الفرج بن الجوزي). مجلة رسالة الخليج العربي. الرياض مكتب التربية العربي لدول الخليج، السنة الرابعة 1404 هـ -1984 م، العدد الثالث عشر، ص 22. (¬2) عبد الله، د. عبد الرحمن، صالح. ابن الجوزي وتربية العقل. مكة المكرمة، شركة مكة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1406 هـ -1986 م، ص 49 - 50. (¬3) خلف الله، محمد، أحمد. "الذكاء عند ابن الجوزي". مجلة دراسات تربوية. الفاهرة، رابطة التربية الحديثة، 13 ميدان التحرير، طبعة يونيه 1987 م، المجلد الثاني، الجزء السابع، ص 29.

أكثر من ثمانية قرون؟ إلا أنه لو عثر على مثل هذا الكتاب بين المؤلفات الأوروبية القديمة لجعل له الباحثون مكانا ظاهرًا في تاريخ علم النفس، ولاعتبروه من المراجع (¬1) التي لابد من دراستها لكل متخصص في هذا الفرع" (¬2). كذلك للدكتورة آمنة محمد نُصَير رأي في ابن الجوزي عبرت عنه قائلة: وحيثما تأملنا كلام ابن الجوزي في تربية الصغار وهو الموضوع الذي أولاه عناية ملحوظة نراه بلغة عصره أخصائيًا نفسيًا ومربيًا عظيمًا وناصحًا أمينًا" (¬3). هذا ولصاحب كتاب الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية، رأي في ابن الجوزي من الناحية التربوية، عبر عنه قائلًا: "وابن الجوزي صاحب رسالة لفتة الكبد إلى نصيحة الولد وهي من الدرر الغوالي شبيهة برسالة أيها الولد كتبها لقرة عينه ووحيده الباقي له من خمسة ذكور، فهي فى أسلوبها وقوة إشراقها. . . تعتبر رسالة جيدة من كنوز تراثنا التربوي" (¬4). ومن هنا يتضح لنا أن ابن الجوزي، بدأ فعلًا يحتل مكانًا علميًا وتربويًا بارزًا بين علماء المسلمين، بسبب اهتمام الباحثين بآرائه التربوية ومحاولة استخراجها وتصنيفها وتحليلها وبلورتها في وحدة تربوية متكاملة. وهذه الدراسة -بإذن الله تعالى- ستكون ضمن المحاولات التي ستبرز منزلة ابن الجوزي التربوية، وقد سبقتها دراسة الباحثة حليمة أبو رزق عن التربية العقلية عند ابن الجوزي وقد عُرضت الدراسات السابقة، وقد أثبتت ريادته في مجال التربية العقلية وَسَبقه علماء الغرب. ¬

_ (¬1) القصود به كتاب الأذكياء لابن الجوزي. (¬2) مرجع سابق، خلف الله، محمد، أحمد. "الذكاء عند ابن الجوزي". مجلة دراسات تربوية. المجلد الثاني، الجزء السابع، ص 30. (¬3) مرجع سابق، نصير، د. آمنة، محمد. أبو الفرج ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية. ص 272. (¬4) بغدادي. عبد الله، عبد المجيد. الانطلاقة التعليمية في المملكة، أصولها، جذورها، أولوياتها. جدة، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1406 هـ- 1985 م، الجزء الثاني، ص 623.

الباب الثالث آراء ابن الجوزي في أساسيات التربية

الباب الثالث آراء ابن الجوزي في أساسيات التربية • الفصل الأول: رأي ابن الجوزي في الطبيعة البشرية وأساليب تهذيبها وتوجيهها وعلاجها • الفصل الثاني: رأي ابن الجوزي في مراحل نمو الإنسان

الفصل الأول رأي ابن الجوزي في الطبيعة البشرية وأساليب تهذيبها وتوجيهها وعلاجها

• الفصل الأول رأي ابن الجوزي في الطبيعة البشرية وأساليب تهذيبها وتوجيهها وعلاجها أولًا: طبيعة الإنسان تدل على وجود الخالق في نظر ابن الجوزي ثانيًا: طبيعة خلق الإنسان في نظر ابن الجوزي ثالثًا: جوانب النفس البشرية وأساليب تزكيتها وتوجيهها رابعًا: خصائص النفس البشرية خامسًا: أسباب الانغماس في الشهوات سادسًا: طرق توجيه النفس البشرية وتهذيبها سابعًا: الآراء التربوية المستخلصة من آراء ابن الجوزي في هذا الموضوع

• الفصل الأول رأي ابن الجوزي في الطبيعة البشرية وأساليب تهذيبها وتوجيهها وعلاجها ستقوم الباحثة في البابين الثالث والرابع بعرض آراء ابن الجوزي التربوية كما هي موثقة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي استشهد بها، دون تخريجها أو بيان درجة صحة الحديث، لأن الباحثة ستؤجل ذلك إلى الباب الخامس حتى تتمكن من تحليل الآراء التربوية تحليلًا علميًّا مناسبًا يخدم الهدف من البحث. اختلفت نظرة الفلاسفة والمفكرين بشأن ماهية الطبيعة البشرية اختلافًا كبيرًا، فمنهم من رأى أن "الطبيعة الإنسانية واحدة في جميع الأزمنة والعصور، وأن الإنسان هو الإنسان حيثما وجد، وهناك أيضًا من نادى بأن الطبيعة الإنسانية تختلف باختلاف الأفراد أنفسهم وباختلاف استعداداتهم وقدراتهم" (¬1). وهناك فريق آخر أكد أن طبيعة الإِنسان ثنائية في أصلها، أي تتكون من العناصر الروحية، والعناصر المادية (¬2) ومنهم من أنكر وجود الروح واهتم بالجسم البشري ورأى أنه مادة تعمل كالآلة. وهناك من اعتبر الطبيعة الإنسانية شريرة في أصلها، وآخرون اعتبروها "خيرة يحيلها المجتمع إلى شر إذا مسّتها يد البشر" (¬3). ¬

_ (¬1) النجيحي، د. محمد، لبيب. فلسفة التربية. (مترجم)، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 1967 م، ص 121. (¬2) الجيار، سيد، إبراهيم. دراسات فى تاريخ الفكر التربوي. القاهرة، مكتبة غريب، دون طبعة تاريخ ص 160. (¬3) مرجع سابق، النجيحي د. محمد، لبيب. فلسفة التربية. ص 121.

ومن العلماء "من أرجع التأثير في الطبيعة الإنسانية إلى عامل الوراثة وحدها، وإلى الميراث الفطري الحيوي (البيولوجي) فقط، وتغاضى عن أثر البيئة في تشكيل هذه الطبيعة. وكانت النظرية الغرضية التي وضعها (ويليام مكدوجل) تؤكد الدور الفعال للوراثة في تحديد السلوك، وتُرجع هذا السلوك إلى مجموعة الغرائز التي يولد الإنسان مزودا بها. ومنهم من أرجع كل التأثير في الطبيعة الإنسانية إلى البيئة وتغاضى عن أثر الوراثة إلى حد كبير، ورأى أن الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء، وليست هناك استعدادات موروثة، إن هي إلا عادات يكتسبها الفرد في أثناء حياته" (¬1). وهناك الكثير من التصورات الخاصة بالطبيعة البشرية -كما نعرضها فيما بعد- والتي أثبتت قصور الفلاسفة والمفكرين في وضع تصور صحيح عن طبيعتها كما خلقها الله تعالى، وفي هذا يقول اليكسس كاريل موضحا هذا القصور: "وبتعلمنا سر تركيب المادة وخواصها استطعنا الظفر بالسيادة تقريبًا على كل شيء موجود على ظهر البسيطة فيما عدا أنفسنا"، ثم أضاف قائلا "على الرغم من أننا نملك كنزًا من الملاحظات التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا .. إننا لا نفهم الإنسان ككل .. إننا نعرفه على أنه مكون من أجزاء مختلفة، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا .. فكل واحد منا مكون من موكب من الأشباح، تسير في وسطها حقيقة مجهولة. وواقع الأمر أن جهلنا مطبق. فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب" (¬2). ومن خلال هذه التصورات التي تتسم بالجهل والقصور البشري، تبرز لنا بوضوح نظرة الإسلام إلى الطبيعة البشرية بما فيها من شمول وتكامل واتزان، لأن الله تعالى هو الذي خلقها وهو أعلم بخصائصها ¬

_ (¬1) مرجع سابق، عبد العال، د. حسن، إبراهيم. مقدمة فى فلسفة التربية الإسلامية. ص 26. (¬2) كاريل، الكسيس. الإنسان ذلك المجهول. (ترجمة) فريد، شفيق، أسعد، بيروت، مكتبة المعارف، الطبعة الثالثة، 1980 م، ص 16 - 17.

أولا: طبيعة الإنسان تدل على وجود الخالق في نظر ابن الجوزي

ومكوناتها وطبيعتها {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1). وسنظهر وجهة النظر الإِسلامية من خلال آراء ابن الجوزي في هذا الموضوع. أولًا: طبيعة الإنسان تدل على وجود الخالق في نظر ابن الجوزي قبل أن نوضح خلق الإنسان، لابد من التعرض لخالق هذا الإنسان، ولا نُرجع خلق الإنسان إلى الصدفة أو الطبيعة أو غيرها كما فعَل أصحاب المذاهب المختلفة. بل نقول كما قال ابن الجوزي إن هذه الطبيعة "من أكبر الأدلة على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها، فقد دبرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع في المصنوع" (¬2). هذا وإيمان الإنسان بوجود الله تعالى مركوز في أصل خلقته وفطرته، لقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (¬3). ولبيان وجود الإيمان بالله تعالى في أصل فطرة الإنسان، فقد عرف الإمام الجرجاني الفطرة بقوله: "الجبلة المتهيئة لقبول الدين" (¬4)، وفسر الإمام القرطبي قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (¬5). بقوله: "وقالت طائفة من أهل الفقه والنظر: الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقه يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقةً مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفته. ¬

_ (¬1) سورة الملك، الآية 14. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. صيد الخاطر. ص 253. (¬3) سورة الأعراف، الآية 172. (¬4) الجرجاني، علي، محمد، علي. كتاب التعريفات. (حققه وقدم له ووضع فهارسه) الأبياري، إبراهيم، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، 1405 هـ- 1985 م، ص 215. (¬5) سورة الروم، الآية 30.

واحتجوا على أن الفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ لقول الله -عز وجل-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1) يعني خالقهن، وبقوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} (¬2) يعني خلقني، وبقوله: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} (¬3) يعني خلقهن. قالوا: فالفطرة الخلقة، والفاطر الخالق؛ وأنكروا أن يكون المولود يُفطر على كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار. قالوا: وإنما المولود على السلامة في الأغلب خلقةً وطبعًا وبنيةً ليس معها إيمان ولا كفر ولا إنكار ولا معرفة؛ ثم يعتقدون الكفر والإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا. واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء -يعني سالمة- هل تحسون فيها من جدعاء، يعني مقطوعة الأذن. فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق ليس فيها نقصان، ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها، فيقال: هذه بحائر وهذه سوائب. يقول: فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السائمة، فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم، وعصم الله أقلّهم" (¬4). وقد عبّر ابن الجوزي عن هذه الفطرة المتجهة نحو الله تعالى بداهةّ بقوله: "إن الله -عز وجل- وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل، فالنفوس تعلمها ضرورة وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها؛ فإنه وضع في النفس أن المصنوع لابدّ له من صانع" (¬5). إن أمر النشأة الأُولى غيب لم يطلع الله -عز وجل- البشر عليه؛ فإنه يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (¬6)، وابن الجوزي يقول في ذلك "ولا يُعرف مع هذا ماهيتها ولا كيفيتها ولا جوهرها ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية 1. (¬2) سورة يس، الآية 22. (¬3) سورة الأنبياء، الآية 56. (¬4) القرطبي، أبو عبد الله، محمد، الأنصاري. الجامع لأحكام القرآن. (تحقيق) البردوني، أحمد، عبد العليم، الطبعة الثانية، 1372 هـ-1952 م، الجزء الرابع عشر، ص 27. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج. صيد الخاطر. ص 249. (¬6) سورة الكهف، الآية 51.

ثانيا: طبيعة خلق الإنسان في نظر ابن الجوزي

ولا محلها. ولا يُفهم من أين جاءت، ولا يُدرَى أين تذهب ولا كيف تعلقت بهذا الجسد وهذا كله يوجب عليها أن لها مدبرًا وخالقًا وكفى بذلك دليلًا عليه" (¬1). ومع أن الله تعالى هو خالق البشر وموجدهم، فإنه لم يخلقهم عبثًا، بل خلق الإنسان لأمر عظيم يتجلى في عبادته المطلقة له، فهو "مطالب بمعرفة خالقه بالدليل، ولا يكفيه التقليد" (¬2) حتى يستشعر عظمة الله تعالى من خلال مخلوقاته في الكون والنفس ويعبده وهو أعلم بقَدْرِه وسلطانه وجلاله، فيدفعه ذلك لإقامة المطالب الشرعية التي أوجبها الله عليه، واجتناب المحارم (¬3)، ولن يقوم بعبوديته الكاملة لله تعالى إلا إذا وقر الإيمان في قلبه وأدرك عظم مسؤوليته وأنه محاسب أمام الله تعالى على أداء ما وكل إليه أو التفريط فيه. ثانيًا: طبيعة خلق الإِنسان في نظر ابن الجوزي اهتم المربون قديمًا وحديثًا بمعرفة الطبيعة الإنسانية باعتبارها موضوع التربية التي تهتم بصناعة الإنسان، وبقدر معرفَة الصانع أو جهله بموضوعها فإنه سوف ينجح أو يخفق فيها. وقد أدرك ابن الجوزي أهمية معرفة طبيعة خلق الإِنسان في التربية، ففصَّل في هذا الموضوع موضَّحًا أن الإنسان مخلوق متميز بكل صفات الكمال البشري المحدود، فسبحان الله الذي "أنشأ الأبدان من النطف، وحفظ فيها المهج (¬4)، ونوَّر العيون فأحسن في تركيبها الدعج (¬5)، وأنطق اللسان، فأبان سبل المراد ونهج، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. أبو الفرج، عبد الرحمن. صيد الخاطر. ص 253. (¬2) المرجع السابق، ص 302. (¬3) المرجع السابق، ص 303. (¬4) "المهجة: دم القلب، ولا بقاء للنفس بعدما تراق مهجتها. وقيل المهجة الدم"، مرجع سابق، ابن منظور، أبو الفضل، جمال الدين، محمد بن مكرم. لسان العرب. المجلد الثاني، ص 370. (¬5) "الدعج والدعجة: السواد، وقيل شدة السواد. وقيل الدعج شدة سواد سواد العين، وشدة بياض بياضها، وقيل: شدة سوادها مع سعتها". المرجع السابق، المجلد الثاني، ص 271.

وعلم الإِنسان البيان، فإذا خاصم فلج (¬1) " (¬2). وقد ذكر أن أصل خلقه من طين، مستندًا إلى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (¬3)، والمراد بالإنسان هاهنا آدم -عليه السلام-. والسلالة -على وزن- فعالة، وهي القليل مما يُسل، فاستل من كل الأرض. وقد روى أبو موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض" (¬4). أ- رأي ابن الجوزي في الجانب المادي وقد وضح ابن الجوزي خلق الإِنسان فقال: "خلقت الملائكة من نور لا ظلمة فيه، وخلقت الشياطين من ظلمة لا نور فيها، وركب البشر من الضدين، فظلام نفسه مقترن بنور عقله، بينهما حاجز لطيف، لا تعلمه إلا بالمجاهدة" (¬5). إن الكيان البشري ذو طبيعة مزدوجة، فهو قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله تعالى، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (¬6). "والتحليل المخبري يقول: "إنه لو أرجعنا الإنسان إلى عناصره الأولية، لوجدناه أشبه بمنجم صغير، يشترك تركيبه حوالي (22) عنصرًا، تتوزع بشكل رئيسي على: 1 - أُكسجين (o)، وهيدروجين (H)، على شكل ماء بنسبة 65 - ¬

_ (¬1) "الفلج: الظفر والفوز، وقد فلج الرجل على خصمه يفلج فلجًا. وفالج فلانًا ففلجه يفلجه: خاصمه فخصمه وغلبه. وأفلج الله حجته: أظهرها وقومها". المرجع السابق، المجلد الثاني، ص 347. (¬2) ابن الجوزي. أبو الفرج، عبد الرحمن. التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، بيروت، مؤسسة جمال، 1390 هـ - 1970 م، الجزء الثاني، ص 157. (¬3) سورة المؤمنون، الآية 12. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى الجزء الثاني، ص 158. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب اللطف في الوعظ. ص 21 - 32. (¬6) سورة ص، الآية 71 - 72.

70 % من وزن الجسم. 2 - كربون (C)، وهيدروجين (H) وتشكل أساس المركبات العضوية من سكريات ودسم، وبروتينات، وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر. 3 - مواد جافة يمكن تقسيمها إلى: أ- سبع مواد هي: الكلور (CL)، والكبريت (S)، والفوسفور (P)، والمغنزيوم (MG)، والكالسيوم (Ca)، والبوتاسيوم (K) والصوديوم (Na) , وهي تشكل 60 - 80 % من المواد الجافة. ب - سبع مواد أُخرى بنسبة أقل هي: الحديد (Fe)، والنحاس (Cu)، واليود (I)، والمغنيز (Mn)، والكوبالت (co)، والتوتياء (Zn)، والمولبيديوم (Mo). ج - ستة عناصر بشكل زهيد هي: الفلور (F)، والألمونيوم (AL)، والبور (B)، والسيلينيوم (Se)، والكادميوم (Cd)، والكروم (cr) " (¬1) . وقبضة الطين هذه تتمثل في مطالب الجسد وحاجاته الضرورية من أكل وشرب وجنس ولبس، وحب جميع متاع الدنيا وزينتها، وهذه التي نعبر عنها بالشهوات حسب التعبير القرآني لقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬2). أو حسب مسمى علم النفس "الدوافع الفطرية الإِنسانية". وقد تطرق علم النفس إلى نوعين من الدوافع هي: "الدوافع الإنسانية المادية الشهوية، والروحية السامية. وكذلك الدوافع الفطرية التي يولد الإنسان مزودًا بها من قبل الله سبحانه وتعالى في شكل إمكانيات واستعداداتٍ تؤهّله لممارسة دوره ووظيفته المكلف القيام بها من ¬

_ (¬1) دياب، د. عبد الحميد وقرقوز، د. أحمد. مع الطب في القرآن الكريم. دمشق، مؤسسة علوم القرآن، الطبعة الأولى، 1400 هـ -1980 م، ص 72 - 73. (¬2) سورة آل عمران، الآية 14.

قِبَل الخالق سبحانه وتعالى" (¬1). وهذه الشهوات أو الدوافع هي التي أشار إليها ابن الجوزي في قوله "وخُلقت الشياطين من ظلمة لا نور فيها وركب البشر من الضدين" وهذه الظلمة مقصود بها قبضة الطين المقتضية لشهوات الإِنسان ودوافعه. ب: رأي ابن الجوزي في الجانب الروحي والجانب الثاني المكوَّن لطبيعة الإنسان، هي النفخة من روح الله تعالى، وهذه النفخة من روح الله تعالى "تتمثل في الجانب الروحي للإنسان. تتمثل في الوعي والإدراك والإرادة. تتمثل في كل القيم والمعنويات التي يمارسها الإنسان" (¬2). وهذه النفخة من روح الله .. هي إشراقة النور الرباني الذي تميزت به الملائكة والتي عبر عنها ابن الجوزي بقوله: "خلقت الملائكة من نور لا ظلمة فيه". فعلى ذلك نجد أن ابن الجوزي يقرر الحقيقة القرآنية حين رأى أن البشر مركب من الضدين .. الطين والروح، لأنه بطبيعته المزدوجة يجمع بين "درجات تختلف بين الشدة واللطف، بين اللهفة والتمهل، بين الغلظة والرقة، بين العتامة والصفاء. أدناها شبيه بالحيوان، وأعلاها صاف رائق جميل. درجات تبدأ عند الطرف الحيواني من الإنسان، فتغلب عليها حركة الجسد الفائر المتلمظة، وتنتهي عند الطرف الملائكي من الإِنسان، فتغلب عليها رقة الروح ونورانية الشعاع" (¬3). ثم وضح ابن الجوزي أن الكائن الإنساني مترابط الأجزاء يعمل عمل الوحدة المتكاملة وبطريقة متداخلة ومتشابكة؛ فلكل عضو من أعضائه دوره الخاص، ووظيفته المكلف أداءها، فالروح في نظر ابن الجوزي "جوهر لا يتجزأ ولا يموت، وقدره جوهر لا قيمة له، وإنما آلات البدن خادم له تعين على السفر، له في زجاجة القلب نار ¬

_ (¬1) السمالوطي، د. نبيل، محمد، توفيق. الإسلام وقضايا علم النفس الحديث. جدة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م، ص 86. (¬2) قطب، محمد. دراسات في النفس الإنسانية. بيروت، القاهرة، جدة، دار الشروق، 1394 هـ - 1974 م، ص 44. (¬3) المرجع السابق، ص 49.

كالسراج، الحياة ضوؤها، والدم دهنها، والحركة نورها، والشهوة حرارتها، والغضب دخانها" (¬1)، وهو بذلك يعتبر الروح العنصر الأساسي للكائن البشري، وله ارتباط وثيق بجميع جوانب النفس البشرية، فهو مركز الكيان البشري، والمهيمن الأكبر على حياة الإنسان. وقد بَّين الإمام الغزالي للروح معنيين: أحدهما: "أنه جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت، فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به، والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان، والروح مثالها السراج، وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه" (¬2). وثانيهما: فهو "اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله:، {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (¬3)، وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته" (¬4)، والمقصود من وصف ابن الجوزي، "إن الروح في ذاته جوهر لا يتجزأ، له في زجاجة القلب نار كالسراج .. الخ العبارة"، ووصفه الغزالي بأنه جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن" ليس إلا الأوكسجين، الذي يتحد مع خضاب الدم (الهيموجلوبين) الموجود في كريات الدم الحمراء وذلك في أثناء دورة الدم في الرئة .. فينفذ إليها الأوكسجين بواسطة الانتشار من الأسناخ (الحويصلات) الهوائية الموجودة في الرئة، عابرًا الحواجز الرقيقة من جدار الحويصلة الهوائية والشعيرات الدموية المنتشرة حول الحويصلة. ثم ينتقل بواسطة الأوردة الرئوية إلى الأذين الأيسر ومنه إلى البطين الأيسر، ومنه إلى ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب اللطف في الوعظ. ص 81. (¬2) مرجع سابق، الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. الجزء الثالث , ص 4 - 5. (¬3) سورة الإسراء، الآية 85. (¬4) مرجع السابق، الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. الجزء الثالث , ص 4 - 5.

العروق الضوارب إلى سائر البدن بواسطة الشريان الأبهر (الأورطَى) فينتشر بواسطتها إلى كل خلية في جسم الإنسان ويدخل إلى كل خلية حيث توجد الميتوكوندريا (المقدرة أو المصورة الحية) وهناك يقوم الأوكسجين بوظيفته في إحراق السكر والدهون في عمليات كيميائية بالغة التعقيد. وكما يقوم الأوكسجين بإشعال البنزين في موتور السيارة فيعطيها قوة الدفع والحركة، فكذلك يفعل الأوكسجين في الجسم حيث يحرق السكر والدهن ويحولهما إلى طاقة وثاني أوكسيد كربون وماء .. وهي عملية الاحتراق نفسها التي تحدث في البنزين وفي قطعة الفحم وفي قطعة الخشب" (¬1). ج - رأي ابن الجوزي في طبيعة العقل والدماغ وصلتهما بالجسم وبعد بيان رأي ابن الجوزي في الروح، نبين رأيه في العقل الذي قال فيه: "وقد اتخذ من مقدم الدماغ حارسًا، ومن وسطه وزيرًا، ومن مؤخره حافظًا، وجعل العقل أستاذًا، والحس تلميذًا، وفرق الأعضاء في خدمته رجالًا وركبانًا" (¬2). وقبل أن نحلل ما قاله، لابد من بيان أن كلمة الدماغ أصح وأشمل من كلمة المخ، لأن لفظ المخ "يطلق في الطب على جزء من الدماغ، وأما لفظ الدماغ فيطلق على المخ والمخيخ وجذع الدماغ" (¬3). وقد قسم ابن الجوزي الدماغ إلى ثلاثة أقسام: مقدّم الدماغ ووسطه ومؤخره. وهذا ما أثبته الطب الحديث، وجعله ثلاثة أجزاء رئيسية وهي: 1 - الدماغ المقَدّمي: ويشمل فَصي المخ وبكل فص مراكز هامة، عديدة إذ يكونا مهد الفطنة والذكاء والعبقرية في الإِنسان الذي يمتاز بوساطة المخ المقدمي على باقي المخلوقات، إذ يحكم ويملك ويسيطر، علاوة على وجود مراكز تتحكم في السيطرة على عضلات الجسم الإِرادية ¬

_ (¬1) البار، د. محمد، علي. موت القلب أو موت الدماغ. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1406 هـ- 1986 م, ص 54 - 55. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب اللطف في الوعظ. ص 82. (¬3) مرجع سابق، البار، د. محمد، علي. موت القلب أو موت الدماغ. ص 109.

وأُخرى في السيطرة على الإحساسات المتباينة المختلفة وثالثة للحواس وضبط النفس، ولكل مركز أو حاسة جزء خاص به. 2 - الدماغ المتوسط: وأهميته تأتي من أنه مسؤول عن اليقظة والوعي. 3 - الدماغ المؤخر: ويتكون من: أ- قنطرة فارول وهي تربط النخاع الستطيل بالمخ المتوسط والمخيخ. ب - النخاع المستطيل وهو: حلقة الاتصال بين النخاع الشوكي والدماغ، وبه مراكز الحياة الأساسية التي تتحكم في التنفس والدورة الدموية والقلب. جـ - المخيخ: ويتصل بالدماغ المتوسط وبالنخاع المستطيل وقنطرة فارول، وينحصر عمله في السيطرة على العضلات، ويحفظ قوة اتزان الجسم وينظم حركة العضلات الإرادية" (¬1). وإذا أصيب الدماغ المؤخري بأي إصابات، فإنه يسبب إغماء طويلًا أو فقدانًا للوعي. لذلك يقول ابن الجوزي: "وجعل العقل أستاذًا والحسّ تلميذًا"، إنها مجرد عبارة أدبية، تنقصها الدقة العلمية، لأن العقل ليس مهيمنًا على تصرفات الإنسان وسلوكه، وكذلك الحواس لها وظائف لا يسيطر عليها العقل البشري، بل هي مستقلة عنه كما يظهِر ذلك في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (¬2). وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم المؤمنين الذين استخدموا حواسّهم في طريقها الصحيح: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬3). لولا العقل المفكر لَمَا دمعت العيون بمجرد معرفة الحق. أما الذين عطلوا حواسهم عن وظائفها الحقيقية فقد قال الله تعالى فيهم: {وَلَقَدْ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 124 - 127. (¬2) سورة المؤمنون، الآية 78. (¬3) سورة المائدة، الآية 83.

مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (¬1). وهكذا نجد أن الجسم الإنساني وما فيه من أعضاء وحواس لها وظائف متباينة ومتداخلة، لتمكن الفرد من القيام بواجب الاستخلاف في الأرض. وقد أثبت النص السابق قدرة ابن الجوزي وسَعة اطلاعه وثقافته في ترابط خلق الإِنسان الذي يعمل عمل وحدة متكاملة بما أثبت أكثره الطب الحديث من معلومات علمية قيمة، وقد صاغ ابن الجوزي تلك المعارف في أسلوب أدبي لطيف. د - رأي ابن الجوزي في وظائف العقل البشري وصفاته يرى ابن الجوزي أن الكائن البشري يتميز عن الحيوان بالعقل لأنه مناط التكليف، ويقرر أنه أجل الأشياء التي وهبها الله للإنسان وبه معرفة الإله وبه تضبط المصالح وتلحظ العواقب وتدرك الغوامض وتجمع الفضائل (¬2). وهذه تعتبر من وظائف العقل البشري الأساسية. ثنم وضَّح ابن الجوزي أربعة جوانب يتميز بها الإنسان عن الحيوان بصفات العقل فقال: "العقل ويطلق بالاشتراك على أَربعة معان أحدها الوصف الذي يفارق به الإنسان البهائم وهو الذي به استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية وهو الذي أراده من قال: هو غريزة وكأنه نور يقذف في القلب يستعدّ به لإدراك الأشياء، والثاني ما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، والثالث علوم تستفاد من التجارب تسمى عقلًا. والرابع أن منتهى قوته الغريزية إلى أن تقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة، والناس يتفاوتون في هذه الأحوال إلا في القسم الثاني الذي هو العلم الضروري" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، الآية 26. (¬2) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي. الأذكياء. دمشق، مكتبة الإحسان للطباعة والنشر والتوزيع، دون طبعة تاريخ، ص 1. (¬3) المرجع السابق، ص 5.

الجانب الأول من خلال تحليلنا للنص السابق، سنوضح أهم المميزات التي يتصف بها الإنسان، وهي موجودة فيه من أصل خلقه، ففي قوله في وصف العقل: "الوصف الذي يفارق به الإنسان البهائم وهو الذي به استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده من قال: هو غريزة وكأنه نور يقذف في القلب يستعدّ به لإدراك الأشياء". والمقصود هنا تميز الإنسان بالعقل البشري المميز والمدرك فنرى أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم "من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدًّا لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات، وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها" (¬1)، وبغير هذا الاستعداد الإدراكي الفطري الموجود ما كان في مقدور الإنسان أن يتعلم ويدرك، وهو استعداد عام في جميع الكائنات البشرية، وهذا الاستعداد هو نفسه الذي ميز الإنسان عن الملائكة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (¬2). ويعتبر العقل "قوة مدركة فطرية في الإنسان، وأنه يستعمل لثلاثة معان الأول: الإدراك، والثاني: العمل بمقتضى الإدراك وهو العقل العملي أو الحكمة. والثالث: التعقل القلبي" (¬3). الجانب الثاني مما يتميز به الإنسان عن الحيوان هو الإدراك البَدَهي الذي عبر عنه ابن الجوزي بقوله: "ما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات ¬

_ (¬1) العمادي، أبو السعود، محمد بن محمد. تفسير أبي السعود. بيروت، دار إحياء التراث العربي، دون طبعة تاريخ، الجزء الأول , ص 84. (¬2) سورة البقرة، الآيات 31 - 33. (¬3) مرجع سابق، يالجن، د. مقداد .. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 88.

واستحالة المستحيلات"، وقد فضل هذا المعنى بقوله أيضًا: "إن الله -عز وجل- وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها. فإنه وضع في النفس أن المصنوع لابد له من صانع، وأن المبنى لابد له من بانٍ، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة" (¬1). ويؤكد على هذا المعنى د. مقداد يالجن بقوله: "ولهذا نجد الإِسلام يركز على مثل هذه الاستدلالات في تثبيت العقيدة لأنه جاء للناس كافة وليس لمجموعة من المتخصصين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). ومن ثم كان لابد من أن يعتمد في الاستدلال على مبادئ مناسبة للناس كافة وهذا ما فعله، فاستخدم مثلًا: دلالة الصنعة على الصانع لإثبات وجود الله إذ ليس من الضروري أن نرى الصانع لإثبات الصنعة، لكن وجود الصنعة تجعلنا نعترف بالضرورة بوجود الصانع، بل نضطر إلى ذلك اضطرارًا، ولهذا دعا الله سبحانه الناس إلى التأمل في آيات الله في الكون وفي الأرض وفي السماء وفي أنفسهم لما في تلك المخلوقات من دلالة الصنعة التي تدل على وجود صانعها. . . ." (¬3). وقد اعتمد المنهج الإِسلامي على "الأدلة البديهية القائمة على التفكير الفطري لأنها تتلاءم مع معظم المستويات من التفكير، ولأن هذه الاستدلالات البديهية لا تثير الشك وتؤدي إلى اليقين" (¬4). الجانب الثالث ويتمثل في قدرة الإنسان على تعلم العلوم والتعمق فيها. وقد وصف ابن الجوزي العقل بأنه: "علوم تستفاد من التجارب تسمى ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 249. (¬2) سورة سبأ، الآية 28. (¬3) مرجع سابق، يالجن، د. مقداد. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 158 - 159. (¬4) المرجع السابق، ص 158.

عقلًا". وقد ناقشها الدكتور حسن عبد العال في ضوء بعض كتابات التربويين المسلمين فقال: "وردت في القرآن الكريم الألفاظ التي تدل على النشاط العقلي بصفة عامة، مثل التفكر والتدبُّر والعلم والنظر، والتبصُّر والتذكر. مئات المرات. وفي الحقيقة لا يعرف العلم كائنًا موجودًا بذاته يسمى عقلًا يمكن إجراء التجارب عليه أو ملاحظته (¬1) " "ولا يقول بأن هناك شيئًا خاصًّا موجودًا تصدر عنه الأعمال التي نسميها في الإنسان أعمالًا عقلية، بل إنه لا يكلف نفسه مؤنة البحث عن هذه الأشياء. والنظر هل هي موجودة أو لا؛ لأن البحث لا يفيده شيئًا، إنما يعترف بوجود أعمال خاصة لها خصائصها ومميزاتها وقوانينها، وليست بأعمال مادية بل هي معنوية تصحبها أو تتبعها أعمال أو آثار جثمانية، فمجموع هذه الأعمال المعنوية يسمى عقلًا" (¬2). الجانب الرابع يبين ابن الجوزي في الصفة الرابعة "أن منتهى قوته الغريزية أن تقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة"، فهنا يوضح أن من أعلى وظائف العقل البشري الذي يفترق به الإنسان عن الحيوان، أن يضبط ويوجه دوافع الإِنسان الفطرية -التي يشترك فيها مع الحيوان- نحو غايات سامية، بدون كبت بغيض أو إطلاق يدمر كيان الإنسان، فيتعامل مع المنهج التربوي الإسلامي الذي في ضوئه يتربى الإنسان على أن يأخذ الكائن البشري بواقعه الذي هو عليه. يعرف حدود طاقاته ويعرف مطالبه وضروراته، ويقدر هذه وتلك: كما في قول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬3). وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)، ويعرف ضعفه إزاء المغريات {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، عبد العال، د. حسن. مقدمة في فلسفة التربية الإسلامية. ص 115. (¬2) عبدا القادر، حامد والأبراشي، محمد، عطية وآخرون. في علم النفس. القاهرة، دار المعرفة للطبع والنشر، طبعة عام 1351 هـ - 1932 الجزء الأول، ص 49. (¬3) سورة البقرة، الآية 286. (¬4) سورة التغابن، الآية 16.

ثالثا: جوانب النفس البشرية وأساليب تزكيتها وتوجيهها

وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (¬1). وضعفه إزاء التكاليف: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬2). يعرف كل ذلك فيساير فطرته في واقعها، ولا يفرض عليه من التكاليف ما ينوء به كاهله ويعجز عن أدائه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3). ويجعل التكليف الملزم في حدود الطاقة الممكنة ولكنه مع ذلك لا يتركه لفطرته الضعيفة دون تقويم، فتظل تهبط وتتراجع عن موقفها إلى موقف دون" (¬4). وبهذه الطريقة يستطيع العقل البشري ضبط الشهوات الداعية إلى اللذة العاجلة .. والمتعة الوقتية .. إلى ارتقاء بالنفس البشرية .. وإعلاء دوافعها .. حتى تصل إلى عبودية مطلقة الله تعالى. بالإضافة إلى تلك القدرات والاستعدادات التي رُكبت في الإنسان لمساعدته على عمارة الأرض، فقد زُوّد "بقدرة يصنع بها ما يقيه الأَذى من القطن والصوف، لم يجعَل على جلده ما يقيه خلقة، بخلاف الحيوان البهيم، فإنه لما لم يكن له قدرة على صُنع ما يغطي جلده عوضه بالريش والشعر والوبر" (¬5). وذلك تأكيدًا لقول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬6). وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى قد زود الإنسان بقدرات وقوى واستعدادات مختلفة، لتساعده في تكيفه مع البيئة التي يعيش فيها، كما أعطاه القدرة على تسخير ما في الكون لعمارة الأرض بما يرضي الله سبحانه وتعالى. ثالثًا: جوانب النفس البشرية وأساليب تزكيتها وتوجيهها لقد حدد ابن الجوزي جوانب النفس البشرية بأنواع ثلاثة هي: ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية 14. (¬2) سورة النساء، الآية 28. (¬3) سورة الحج، الآية 78. (¬4) قطب، محمد. التربية الإسلامية. دار الشروق، الطبعة الثانية، دون تاريخ، الجزء الأول، ص 36. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 452. (¬6) سورة الأعراف، الآية 26.

أ - قوة ناطقة. ب - قوة شهوانية. جـ - قوة غضبية. وقبل مناقشة رأي ابن الجوزي في هذه الجوانب بأنواعها الثلاثة، لابد من الإشارة إلى تأثر ابن الجوزي برأي أفلاطون في تقسيم هذه الجوانب إلى أنواعها الثلاثة بالمسميات نفسها الناطقة والشهوانية والغضبية. والاختلاف الذي يميز ابن الجوزي عن أفلاطون -رغم تأثره- هو أنه ربط هذه الأنواع عند شرحها بطبيعة النفس البشرية حسب التصور الإسلامي. ولمناقشة هذه القوى الثلاثة فقد قال ابن الجوزي في القوة الناطقة: "فينبغي لمن شرفه الله تعالى بحب العلم أن يعتني بتكميل النفس الناطقة التي فضله الله تعالى بها على سائر الحيوانات، وشارك بها الملائكة، فيجعلها هي المسلَّطة على القوتين الأخريين، أعني الشهوانية والغضبية، لتكون منزلتها في البدن بمنزلة الراكب للفرس، فإن الفارس ينبغي أن يكون هو المسلَّط على الفرس لاستعلائه، فيمضي بها أين يشاء ويقفها إذا شاء. فكذلك ينبغي أن تكون القوة الناطقة هي المستعلية على باقي القوى تستعملها كما تحب وتكفُّها حين تحب، ومن كان كذلك استحقّ أن يسمى إنسانًا حقيقة، قال أفلاطون: الإِنسان بالحقيقة من كانت نفسه الناطقة أقوى الأنفس" (¬1). يتضح لنا من رأي ابن الجوزي أن أعلى مراتب النفس البشرية هي القوة الناطقة، التي تتميز بالعقل والحكمة والتمييز بين الخير والشر، والضبط والتوجيه لدوافع الإنسان ورغباته، كما أنها تتميز بالقدرة على التعلم عن الملائكة والحيوانات. وهذه القوة المستعلية على شهواتها ورغباتها، استطاعت أن توجه سلوك الإِنسان إلى الخير والصلاح بسبب خوفها وخشيتها من الله تعالى، فاستحقت صفة الإنسانية التي تميزها عن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. اللطائف والطب الروحاني. (تحقيق) عطا، عبد القادر، أحمد، ص 131.

المخلوقات الأُخرى. أما القوة الشهوانية فهي التي قال ابن الجوزي بشأنها إن: "الشهوانية إذا أفرطت خرج الإنسان إلى طبع البهيمية، ومن سيَّب هواه في مرعاه، وجعل حبله على غَاربه فقد خرج عن مركزه فصار أخسَّ من البهائم، لأن تلك تمضي بطباعها، وهذا قد خالف طبعه" (¬1). ومن المعروف أن الإنسان قد جُبل على حب الشهوات والمتع الدنيوية بكل أنواعها لقَول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (¬2). والإِنسان يشترك مع الحيوان في هذه الدوافع والحاجات ولكنه يفترق عنه في وجود ضوابط إرادية تُعلي من شأن هذه الدوافع. ولكن متى غلبت على الإنسان شهواته .. واندفع في إشباعها بسرف وإفراط .. فإنه يصل إلى مرتَبة الحيوان الذي تحركه الدوافع فقط، بل ربما صار أضل من الحيوان لأنه مزود بالعقل والضوابط التي تهذب دوافعه وشهواته .. ولكنه تجاهلها واستعبدته الشهوات وألصقته بالأرض، فاستحق صفة الحيوانية. أما الجانب الثالث من النفس وهو القوة الغضبية -كما بينها ابن الجوزي- فهي التي إذا أفرط فيها "خرج الإنسان إلى أخلاق السباع والضواري، فينبغي أن يروض نفسه بمخالفة الشهوانية، ويكسر الغضبية، ويتبع القوة الناطقة، حتى يتشبه بالملائكة، ويتحرز من عبودية الشهوة والغضب" (¬3). إن القوة الغضبية التي زود الله تعالى بها الإنسان هي لحمايته من الأخطار، وتوجيهها نحو الخير، "فيتحول الغضب من الغضب من أجل ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 131. (¬2) سورة آل عمران، الآية 14. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. (تحقيق) عطا، عبد القادر، أحمد، ص 131.

رابعا: خصائص النفس البشرية

الذات إلى الغضب للحق أو الغضب في الله، والنزوع للقتال دفاعًا عن النفس فقط إلى النزوع للدفاع عن الحق وانتشار كلمة الله وسيادة الإِسلام" (¬1). وتتحول الشهوة من الانغماس في المال والجنس والجاه والسلطان إلى السيطرة والاستبداد والظلم إلى الخير والتعمير والبناء، وهكذا تتحول جميع الانفعالات إلى صلاح الإنسان إذا أحسن توجيهها، وأما إذا أفرط فيها خرج من إنسانيته إلى وحشية الحيوانات، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه ويدربها على ضبط انفعالاتها بما فيه استقراره وأمنه وأمانه. وبما يساعده على أداء مهمة الخلافة الأرضية بما يرضي الله تعالى وعلى حسب المنهج الإِسلامي الحكيم. رابعًا: خصائص النفس البشرية إن طبيعة النفس البشرية -كما سبق ذكرها- طبيعة مزدوجة تجمع بين المادة والروح، ومن خلال امتزاج هذين العنصرين نتجت لدينا دوافع وصفات إنسانية متعددة ومتباينة ومتداخلة، لها وظائفها المختلفة في ربط الكائن البشري بالحياة وعمارة الأرض لتحقيق العبودية لله تعالى. وقد كان لابن الجوزي رأيه في الطبيعة البشرية كما خلقها الله تعالى، فقال: "جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة، ثم هي من داخل، وذكر الآخرة أمر خارج عن الطبع، ثم هي غيب، وربما ظنّ من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في القرآن. وليس كذلك لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا، كالماء الجاري يطلب الهبوط وإنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلّف" (¬2). وتأمُّل قول ابن الجوزي يدلّ على أن الطبيعة البشرية تمتلك طاقات ضخمة وهبها الله تعالى للإنسان، إلا أن هذه الطاقات لم تحفظه من نقطة ضعف أصيلة في تكوينه النفسي وهي حب الشهوات والميل إليها، وهذا الميل والحب للمتع الدنيوية قوي يطلب الهبوط بالإِنسان، فهو يحتاج إلى ¬

_ (¬1) مرجع سابق، السمالوطي، د. نبيل، محمد، توفيق. الإسلام وقضايا علم النفس الحديث. ص 96. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 12.

جهد، ومجاهدة للإعلاء من هذه الشهوات وتهذيبها حسب المنهج التربوي الإِسلامي، وهنا كما يقول الأستاذ محمد قطب: "تتجلى رحمة الله بعباده .. إنه لا يريدهم على المستحيل. وهو يعلم أن الطلاقة الدائمة الكاملة بالنسبة للبشر مستحيل. فقبضة الطين لها ثقله. ودفعة الشهوة لها قوه. وثقلة المادة لها ضغط" (¬1). ومن ثم يقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2) ويقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬3). أ- الهوى من حيث حقيقته وعلاجه (¬4) من خصائص النفس البشرية الهوى، ويتفرع منه جميع الشهوات الإِنسانية على اختلافها وتعددها وتنوعها. ويطلق الهوى على مجموع الشهوات البشرية في النفس الإنسانية من حب الدنيا وزينتها وحب المال والجاه والسلطان .. والولد .. وشهوة النكاح .. وعمومًا كل حظوظ الدنيا. أما معناه اللغوي كما ورد في لسان العرب: "الهوى، العشق، يكون في مداخل الخير والشر. قال اللغويون: الهَوىَ محبةُ الإنسانِ الشيء وغَلَبَهُ على قلبهِ، قال الله -عز وجل-: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (¬5)، معناه نهاها عن شهواتها وما تدعو إليه من معاصي الله -عز وجل-" (¬6). وقد عرفه ابن الجوزي بقوله: "الهوى ميل الطبع لما يلائمه" (¬7). وقد عرفه الجرجاني بقوله: "الهوى ميلان النفس إلى ما تستلذه من ¬

_ (¬1) مرجع سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول، ص 49. (¬2) سورة التغابن، الآية 16. (¬3) سورة البقرة، الآية 286. (¬4) سيناقش البحث هذا الموضوع باختصار مفيد، لأن التفصيل فيه سيقود إلى دراسة كتاب ابن الجوزي ذم الهوى. وهو يشمل خمسين بابًا، عالج فيه كل ما يتعلق بالهوى من جميع جوانبه السلبية والإيجابية. (¬5) سورة النازعات، الآية 40. (¬6) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الخامس عشر، ص 372. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 94.

الشهوات من غير داعية الشرع" (¬1). وعرَّفه ابن قيم الجوزية بقوله: "ميل النفس إلى الشيء. وفعله: هَوِيَ يَهْوَى هوىً، مثل عَمِي يَعمَى عَمّى. وأما هَوَى يَهوِيَ بالفتح فهو السقوط، ومصدره الهُوِيُّ بالضم. ويقال الهوىَ أيضًا على نفس المحبوب، واستشهد بقول الشاعر: إن التي زعمت فؤادك ملّها ... خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْت هوىً لها ويقال: هذا هوى فلانٍ وفلانة هواه، أي مهويته ومحبوبته، وأكثر ما يستعمل في الحب المذموم ثم استشهد بقول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬2) ثم يضيف. . . . قائلًا إنما سمي هوىّ لأنه يهوي بصاحبه. وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالًا مقيدًا" (¬3). ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" (¬4). وقد قصر البعض كلمة الهوى على الحب، وآخرون ومنهم ابن الجوزي أطلقوه على عموم ذم الهوى والشهوات، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ولما كان الغالب من موافق الهوى أنه لا يقف منه على حد المنتفع، أطلق ذم الهوى والشهوات، لعموم غلبة الضرر، لأنه يبعد أن يفهم المقصود من وضع الهوى في النفس، وإذا فهم تعذر وجود العمل به وندر" (¬5). وعلى ذلك فقد وضح ابن الجوزي حقيقة الهوى بقوله: "مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة، ويحث على نيل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الجرجاني. كتاب التعريفات. ص 320. (¬2) سورة النازعات، الآيتان 40 - 41. (¬3) مرجع سابق، ابن قيم الجوزية، شمس الدين، محمد بن أبي بكر. روضة المحبين ونزهة المشتاقين. ص 22 - 23. (¬4) البغدادي، الحنبلي، زين الدين، أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن أحمد بن رجب. جامع العلوم والحكم. مؤسسة الكتب الثقافية، دون طبعة وتاريخ، الحديث الحادي والأربعون، ص 338. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، ص 12.

الشهوات عاجلًا، وإن كانت سببًا للألم والأذى في العاجل، ومنع لذّاتٍ في الآجل" (¬1). والسبب فيما ذكر ابن الجوزي من حقيقة الهوى التي تدعو إلى الانسياق وراء الشهوات دون تفكرٍ أو ترو في عواقبه، أن الهوى يعتبر "قيدًا للعقل وعائقًا في سبيل انطلاقه وتحرره. ذلك أنه يجعل صاحبه يتأثر بعواطفه ورغباته في نظرته للأمور فيراها من زاويته الخاصة، فلا تصبح الحقيقة المجردة بغيته ومطلبه، ويجعله يصدر أحكامه على شتى الموضوعات تبعًا لحبه للشيء أو بغضه له، ويجعله يدرك الأشياء من منظور مصلحته الشخصية واعتباراته الذاتية" (¬2). وعلى هذا يمكن اعتبار الهوى هو "جماع الميول الفطرية التي تتجه بالإنسان إلى متاع الحياة الدنيا، فإذا طاوعه واتبع دواعيه أوقعه في أسر اللذات الأرضية المحسوسة حتى يصبح كل همه في أن يأكل ويتمتع كشأن البهائم، وحتى يذبل عنصره الروحي، ويَنْبَتُّ الحبل بينه وبين عالم الغيب. ولا يزال الهوى بصاحبه حتى يبطل سرّ كرامته على سائر الأشياء ويعطل تعلقاته العلوية من فرط شغله بالشهوة السفلية، بل حتى يغشى بصيرته جميعًا فلا يرى إلا ما تحت قدميه، ولا يعنى إلا بالقريب العاجل، لا ينظر في حياته لمآلاتها البعيدة، ولا يقدم شيئًا لآجلته" (¬3). لذلك كان لابد من مجاهدة النفس ومخالفة الهوى، والاعتدال في إشباع الحاجات والدوافع الفطرية حتى يسير الإنسان منضبطًا في حياته دون تعثر أو انحراف، وفي ذلك يقول ابن الجَوزي: "فلا يذم هذا المقدار إذا كان المطلوب مباحًا، وإنما يذم الإفراط فيه، فمن أطلق ذم الهوى فلأن الغالب فيه ما لا يحل أو يتأول المباح بإفراطه" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 12 - 13. (¬2) مرجع سابق، عبد العال، د. حسن. مقدمة فلسفة التربية الإسلامية. ص 188 - 189. (¬3) الترابي، حسن. الإيمان. أثره في حياة الإنسان. الكويت، دار القلم، الطبعة الأولى، 1394 هـ- 1974 م، ص 54. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 94.

وقد وضع الله تعالى شهوة النكاح في الإِنسان لحكمة بليغة، ألا وهي استمرار تناسل وتكاثر الجنس البشري، لاستمرار الحياة الدنيوية حسب تقدير الله تعالى لها، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وهذا الميل قد خُلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل، وإلى المشرب ما شَرب، وإلى المنكح ما نكح، وكذلك كل ما يشتهيه، فالهوى مستجلب له ما يفيد، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذي، فلا يصلح ذم الهوى على الإطلاق، وإنما يذم المفرط من ذلك، وهو ما يزيد على جلب المصالح ودفع المضارّ" (¬1). ولما كان الغالب على النفس البشرية الهوى واتباع الشهوات، فلابد من تحكيم العقل في ضبط وتوجيه الشهوات .. ومخالفة الهوى وجعل العقل واعظًا وحائلًا دون ارتكاب المعاصي .. التي تمنح الإنسان لذةً موقتة .. ومتعةً عاجلة .. يعقبهما ألمُ وحسرةً وندمُ آجل، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالبًا، وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى حاكم العقل، فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة، ويأمره عند وقوع الشبهة باستعمال الأحوط في كفّ الهوى، إلى أن يتيقن السلامة من الشر في العاقبة" (¬2). وما من مفرط في اتباع الهوى دون تفكير وتدبر فيما يصيبه من عاجل اللذة والسعادة، وآجل العاقبة والشقاء، إلا ظلم نفسه ظلمًا عظيمًا، وخرج من دائرة الإِنسانية إلى الحيوانية المحضة، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ولو زال رين الهوى عن بصر بصيرته، لرأى أنه قد شقي من حيث قدَّر السعادة، واغتَّم من حيث ظن الفرح، وألم من حيث أراد اللذة. فهو كالحيوان المخدوع بحَبِّ الفخ، لا هو نال مَا خُدع به، ولا أطاق التخلص مما وقع فيه" (¬3). وحتى يجد المفرط في اتباع الهوى، خلاصه من أسر ذله وهواه، فعليه بالعلاج التربوي الذي رآه ابن الجوزي في قوله: "فعليه بالعزم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، ص 12. (¬2) المرجع السابق، ص 13. (¬3) المرجع السابق، ص 13 - 14.

القوي في هجران ما يؤذي، والتدرج في ترك ما لا يؤمَن أذاه" (¬1). وقد جعل ابن الجوزي علاج الهوى على مرحلتين: الأولى: العزم الصادق في ترك ما يؤذي، ومجاهدة النفس في مخالفة الهوى. الثانية: التدرج في الإقلاع. وقد أكّد هذا المعنى الذي اشتقه ابن الجوزي من المنهج التربوي الإِسلامي، د. مقداد يالجن الذي نوه بأهمية استخدام "التدريب المتدرج على كل مبدأ من المبادئ الأخلاقية، سواء كان ذلك عند التحلي بالفضائل أو التخلي عن الرذائل: التدرج في تكوين كل فضيلة والتدرج أيضًا في ترك كل رذيلة" (¬2). وتبرز ضرورة استخدام هذا المبدأ في حال المدمن؛ فإنه لا يمكن لمدمن الشهوات أن يتركها دفعة واحدة .. وإنما لابد من التدرج في مجاهدة النفس وتطويعها بالصبر والعزم والإرادة القوية على التقليل من الشهوات، وفي أثناء هذه المجاهدة والمصابرة، لابد من تذكّر أمور سبعة أوجزها ابن الجوزي للمساعدة على علاج الهوى وهو يتم فيما يأتي: الأول: "التفكر في أن الإِنسان لم يخُلق للهوى، وإنما هُيئ للنظر في العواقب والعمل للآجل، ويدل على هذا أن البهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح ما لا يناله الإِنسان، مع عيش هنّي خالٍ عن فكرٍ وهمّ. ولهذا تساق إلى منحرها وهي منهمكة على شهواتها، لفقدان العلم بالعواقب. والآدمي لا ينال ما تناله لقوة الفكر الشاغل والهم الواغل، وضعف الآلة المستعملة. فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس حظ الآدمي الشريفَ منه، وزيد حظُّ البهائم. وفي توفير حظ الآدمي من العقل وبخس حظه من الهوى ما يكفي في فضل هذا وذم ذلك" (¬3). وفي عبارته هذه يؤكد ابن الجوزي أهمية إدراك الإنسان لوظيفته ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 14. (¬2) يالجن، د. مقداد. التربية الأخلاقية الإِسلامية. القاهرة، مكتبة الخانجي، الطبعة الأولى، 1397 هـ - 1977 م، ص 432. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، مصطفى، ص 14.

الأساسية في الكون .. وأنه لم يخلق عبثًا أو لإشباع الشهوات، لقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (¬1). وإذا أدرك الإِنسان غاية وجوده، وسار في الأرض بمقتضى تميزه بالعقل الضابط، والمنهج القرآني الحكيم، استطاع أن يخالف هواه ويطوعه في مرضاة الله تعالى. ثم ذكر ابن الجوزي في علاجه الثاني والثالث المعنى نفسه فقال: والثاني: أن يفكر في عواقب الهوى. فكم قد أفات من فضيلة، وكم قد أوقع في رذيلة، وكم من مطعم قد أوقع في مرض، وكم من زلة أوجبت انكسار جاهٍ وقبح ذكرٍ مع إثم! والثالث: "أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من هواه، ثم يتصور الأذى الحاصل عقيب اللذة" (¬2). في هاتين العبارتين، يوجه ابن الجوزي إلى أهمية العقل وتدبره في إدراك عواقب ونتائج الهوى، لأنه لو تفكر الإِنسان فيما سيجنيه من لذته الحاضرة .. ومتعته العاجلة، من أسىً في نفسه، وألمٍ في قلبه، وحسرةٍ في وجدانه، وذلةٍ وانكسار عند خلقه، لما أقدم على فعله، واستعلى على هواه وطلب أجر الآخرة. ثم ذكر في علاجيه الرابع والخامس أهمية التفكر في عواقب الهوى على الآخرين، وقياسه على نفسه ليدرك سوء نتائجه، فقال: والرابع: أن يتصور ذلك في حق غيره، ثم يتلمح عاقبته بفكره، فإنه سيرى ما يعلم به عيبه إذا وقف في ذلك المقام. والخامس: أن يتفكر فيما يطلبه من اللذات، فإنه سيخبره العقل أنه ليس بشيء وإنما عين الهوى عمياء" (¬3) وقد استشهد ابن الجوزي بما جاء في الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه -:"إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآيتان 56 - 57. (¬2) مرجع السابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، مصطفى، ص 14. (¬3) المرجع السابق، ص 14. (¬4) المرجع السابق، ص 15.

في هذين العلاجين، يلفت ابن الجوزي نظر الإِنسان إلى أنه حتى يدرك مغبة اتباع الهوى وما يتبعه من أذى، فعليه أن يرى المفرطين في اتباع الشهوات ليدرك ما أصابهم من جراء ذلك، فيكون له رادعًا وعاصمًا من الوقوع في زلات الهوى. وحتى يدرك تمامًا أن عين الهوى عمياء عن كشف العيوب والمخاطر والذنوب. السادس: ثم يبين ابن الجوزي في علاجه السادس وهو مخالفة الهوى والتفكر في عواقب اتباعه، حتى تكون دافعًا وحافزًا لمجاهدة النفس، فقال في ذلك: "أن يتدبر عز الغلبة وذل القهر، فإنه ما من أحد غلب هواه إلا أحس بقوة عز، وما من أحد غلبه هواه إلا وجد في نفسه ذل القهر". السابع: وهو العلاج الأخير، أن يتفكر في فائدة المخالفة للهوى، من اكتساب الذكر الجميل في الدنيا، وسلامة النفس والعرض، والأجر في الآخرة. ثم يعكس، فيتفكر لو وافق هواه في حصول عكس ذلك على الأبد، وليفرض لهاتين الحالتين حالتي آدم ويوسف -عليهما السلام-. في لقمة هذا وصبر هذا! أين لذة آدم التي قضاها، من هَمَّة يوسف التي ما أمضاها؟ " (¬1). وبعد أن بيَّن ابن الجوزي فوائد مخالفة الهوى من الذكر الجميل في الدنيا والآخرة، وجهنا للاعتبار والاتعاظ من قصة آدم -عليه السلام- في اتباعه هوى نفسه، بأكله من الشجرة المنهي عنها، وخروجه من الجنة وحرمانه من نعيمها، فناله ذل المسلم المتبع شهواته لولا رحمة الله تعالى به في توبته الصادقة المطهرة له من ذنوبه. ومن قصة يوسف -عليه السلام- ومخالفته لهوى نفسه في اتباع أمر امرأة العزيز، وتفضيله السجن في طاعة الله تعالى، على الحرية في معصية الله تعالى، فنال عز المؤمن القوي المستعلي على شهواته. وقد أورد ابن الجوزي هذين المثالين ليكونا عبرة وعظة وذكرى لمن غلبت عليه شهوته .. أو غفل ونسي في زحمة مطامعه الدنيوية، فيقوم من تعثره وانحرافه بنفسٍ قويةٍ مجاهدةٍ. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 15.

ب- الدوافع وتوجيهها: حقيقة الدوافع: يطلق على الدافع ألفاظ عدة منها الميل والفطرة والحاجة، وله تعريفات عدة منها: إنه "حالة داخلية تهيئ الفرد أو تنزع به إلى سلوك معين، ظاهرًا كان أم باطنًا التماسًا لأهداف معينة" (¬1). أو هو "كل ما يدفع الإِنسان إلى القيام بسلوك معين أو تغير معين في داخل الكائن الحي أو سلوكه إزاء مواقف معينة، سواء كان هذا الدافع نابعًا من داخل الكائن الحي أم من بيئته، فهو بهذا المعنى يشمل كل الدوافع مثل الحاجات والحوافز والرغبات والميول" (¬2). وقد صنفت الدوافع بوجه عام إلى زمرتين: إحداهما: الدوافع الفطرية التي يولد الفرد مزودًا بها مثل دافع الأكل والشرب والنكاح. والثانية: الدوافع المكتسبة التي يكتسبها الإنسان من بيئته الاجتماعية المحيطة به. مثل الدافع إلى التعليم والتعلم، ومثل الميل إلى التعامل مع فئة من الناس. وقد بيَّن ابن الجوزي أن الدوافع وضعت في النفس البشرية لعمارة الكون، ولقيام الإنسان بمهمة الاستخلاف، فدافع الأكل والشرب لاستمرار بقاء الإنسان، ودافع النكاح لاستمرار بقاء الجنس البشري، والدوافع الأُخرى من دفاعية وهجومية وتعلّمية لمساعدته على إقامة شرع الله تعالي. وقد أباح الله تعالى للإنسان كلّ طيبات الأرض في حدود ما شرع له، لقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ ¬

_ (¬1) العثمان، عبد الكريم. الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص. القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية، 1401 هـ - 1981 م، ص 181. (¬2) القاضي، د. يوسف يالجن، د. مقداد. علم النفس التربوي في الإسلام الرياض، دار المريخ، طبعة عام 1401 هـ -1981 م، ص 31.

يَعْلَمُونَ} (¬1). وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "إن جميع ما وضع في الآدمي إنما وضع لمصلحته، إما لاجتلاب نفع كشهوة المطعم أو لدفع ضر كالغضب" (¬2). ولما كانت هذه الدوافع "ناشئة أساسًا من التكوين المادي، وهي تدفع الإِنسان إلى الالتصاق بالحياة المادية الأرضية والانهماك في الأمور الحسية، فقد جاءت آيات كثيرة تصف طبيعة الإِنسان من هذه الناحية وانهماكه في الحياة المادية، وإخلاده إليها" (¬3) وقد استشهد المؤلفان بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (¬5). وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائدًا في المقدار حتى إنها إذا مالت، مالت بالقلب والعقل والذهن، فلا يكاد المرء ينتفع بشيء من النصح" (¬6)، ويقر ابن الجوزي بأهمية الدوافع في حياة الإنسان ولكن يرى تحقيقها بطريقة معتدلة ومتوازنة ومتكاملة، حتى يسير الإنسان مشبعا لدوافعه منضبطًا، مستغلًا لكل طاقاته لتكون أداة تعمير لا تدمير للكيان البشري وتكون الدوافع عونًا له في عمارتها بما يرضي الله تعالى. أما عندما تطغى شهوات الإنسان عليه كشهوة المال أو النكاح أو الجاه أو السلطان فيكون الأمر كما قال في ذلك محمد قطب: "فذلك اختلال في باطن نفسه، لا يسعده في الحقيقة وإن بدا له في أول الأمر أنه مستمتع وراض وسعيد. إنما هو في الواقع شقوة دائمة، لأنه قلق على ما عنده وراغب في المزيد، ثم هو اختلال في واقع الحياة، فكل شهوة زائدة عن الحد لا تجرف صاحبها وحده، وإنما تصيب غيره من الناس في الطريق. تصيبهم بعدوان يقع عليهم لا محالة من هذه الشهوة التي تجاوز الحدود" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية 32. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 92. (¬3) مرجع سابق، القاضي، د. يوسف ويالجن، د. مقداد. علم النفس التربوي في الإسلام. ص 33 - 34. (¬4) سورة محمد، الآية 12. (¬5) سورة الأعراف، الآية 176. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 57. (¬7) مرجع سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول. ص 32.

أنواع الدوافع بالتفصيل: لذلك فقد حدد ابن الجوزي أنواعًا مختلفة من الدوافع، ويعدَّ منها الشهوات التي تنتج عن الشره (¬1)، كالشره في الطعام والشراب والجماع وجمع المال، وفيما يلتذ به من الأبنية المنقوشة، والخيل المسومة والملابس الفاخرة وغير ذلك من متاع الدنيا. أ - رأي ابن الجوزي في دافع الطعام وتوجيهه: وقد عالج ابن الجوزي هذه الشهوات بطريقة تبين مضارها وفوائدها وحكمتها، وقد بدأها ببيان ضرر الشره في الطعام، فقال: "إنَّ العاقل يحب أن يأكل ليبقى، والجاهل يؤثر أن يبقى ليأكل، وربَّ لقمةٍ منعت لقماتٍ وكانت سبب الهلاك، وإنما المقصود هنا زجر النفس الشرهة لتكفَّ الكف عما يؤذيها" (¬2). إن شهوة الطعام كغيرها من الشهوات (الدوافع الفطرية)، التي وضعت في الإِنسان ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة إلى غاية سامية وهي العبودية المطلقة لله تعالى، فالمسلم العاقل هو الذي يجعل الطعام وسيلة حيوية لحفظ حياته، وقوة جسمه، فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، كما أن "الجسد الهزيل المريض لا يأخذ نصيبه الحق من المتاع، فوق أنه لا يوصل شحنة الحياة إلى النفس توصيلًا صحيحًا تقوم عن طريقه بمهمتها المفروضة عليها، وفوق أن جهاد الحياة -والحياة كلها جهاد- في حاجة إلى جسم وثيق متين البنيان" (¬3). ومن هنا ندرك أن المنهج التربوي الإِسلامي، قد وضع موجهات وضوابط لشهوة الطعام فلم يجعله هدفًا لذاته "والجاهل يؤثر أن يبقى ليأكل" وإنما جعله وسيلة لغاية سامية، كما أنه قيدها بالحلال لقوله ¬

_ (¬1) معنى الشره اللغوي: "الشره: أسوأ الحرص، وهو غلبة الحرص، شره شرهًا فهو شره وشرهان. ورجل شره: شرهان النفس حريص". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثالث عشر، ص 506. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 99. (¬3) مرجع سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول، ص 128.

تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬1). وأن يكون في حدود الاعتدال لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (¬2) ولا يستأثر بها لنفسه بل يكون للفقراء والمساكين والمحتاجين منها نصيب، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬3). وإذا راعى الإنسان هذه الضوابط الشرعية، فإنه لن يصل إلى الشره المذموم، الذي يؤدي إلى هلاك النفس الإِنسانية. ب - رأي ابن الجوزي في دافع النكاح وتوجيهه: فيقول معبرًا عن هذا الدافع: "إنه كلما كثر استعماله امتنعت أوعية المنيّ من الدر فانجذب إليها غذاء ليس بنضيج، واستلبت قوى الأصول وهي الدماغ والقلب والكبد، فتبرد الحرارة الغريزية، ويسرع لذلك الهلاك" (¬4). يعتبر الجماع -في نظر ابن الجوزي- من الدوافع الفطرية في النفس البشرية، ولابد من إشباعها بطريقة صحيحة تتفق مع المنهج التربوي الإِسلامي، لتحقق الغاية من وجود هذا الدافع وفي عبارة ابن الجوزي، نجده يحذر من الإكثار من الجماع لضرره البالغ على النفس البشرية، ولبعده عن المقصد الأساسي منه، والتحول إلى تشبه بالحيوان. أما الضرر الحاصل من كثرة الجماع، فيؤيده ما قاله الشيخ ابن سينا بقوله: "والجماع المتكلف وغير المشتهى مضرته النقصان في جوهر الروح الحيواني، وتضعيف القلب، والخفقان، وظلمة الحواس، وسقوط القوة والتهيؤ لجميع أمراض العصب لبارد المزاج، والدق لحار المزاج" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية 114. (¬2) سورة الأعراف، الآية 31. (¬3) سورة الحج، الآية 28. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 99. (¬5) ابن سينا، أبو علي الحسين بن عبد الله. دفع المضارّ الكلية عن الأبدان الإنسانية. بيروت، دار إحياء العلوم، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م، ص 126.

ولدفع هذه الأضرار عن النفس البشرية لابد من الاعتدال في تصريف الطاقات الكامنة فيها، وسيتم ذلك إذا أدرك الإنسان الحكمة الإِلهية من وجود هذا الدافع وكيفية إشباعه، فجعلها علاقة روحية وجسدية في وقت واحد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -وإن لم يستشهد بهذا الحديث ابن الجوزي-: "وفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةْ. قالوا: يا رسولَ الله! أَيَأتي أَحَدُنَا شَهوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجر؟ قَالَ: أَرَأيْتُم لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامَ أكَانَ عَلَيهِ فِيهَا وِزر؟ فَكَذلِكَ إِذَا وَضَعَها فِي الحلالِ كَانَ لَهُ أَجرُ" (¬1) ثمَ إذا أدرك المقاصد الأصلية له، والتي تتمثل في نظر ابن قيم الجوزية في أمور ثلاثة وهي: أولها: "حفظ النسل ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم. الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن. الثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة -وهذه وحدها- هي الفائدة التي في الجنة: إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الإِنزال" (¬2). وهذا ما قرره ابن الجوزي أيضًا في قوله: "ثم إن صورة الوطء تنبو عنها النفوس الشريفة، إلا أن يُدفع شر محتقن أو يطلب ولد. فأما أن يصير عادة يكون بالتمتع بنفس الفعل، فتلك مزاحمة البهائم" (¬3). ثم قال ابن الجوزي في الاستمتاع: "فإن طلب التزوج للأولاد فهو الغاية في التعبد، وإن أراد التلذذ فمباح يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى من إعفاف نفسه والمرأة .. إلى غير ذلك" (¬4). ¬

_ (¬1) النيسابوري، أبو الحسن، مسلم بن الحجاج، القشيري. صحيح مسلم (تحقيق) عبد الباقي، محمد، فؤاد، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 1972 م، الجزء الثاني، ص 697 - 698، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم 1006. (¬2) ابن قيم الجوزية، شمس الدين، أبي عبد الله. الطب النبوي. (تحقيق) قلعجي، عبد المعطي، القاهرة، دار التراث، 1398 هـ - 1978 م، ص 306. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 99. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 26.

جـ - رأي ابن الجوزي في دفع جمع المال وتوجيهه: وبعد معالجة الشره في الجماع وضرره على الإنسان، تعرض ابن الجوزي للشره في جمع المال، الذي اعتبره "من الجنون البارد إذا زاد على قدر الحاجة، لأن المال لا يراد لنفسه وإنما يراد لغيره، ولا ينكر على من جمع ما لا غنى للنفس عنه، فاستغنى به عن الناس، وأغنى أولاده، وبذل بعضه للمحتاجين" (¬1). وعند تحليلنا لما ذكره ابن الجوزي، فإننا نرى أنه لا ينكر على الإنسان جمعه المال لأن من طبيعة النفس البشرية حب المال والحرص على جمعه، لقول الله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (¬2)، لأن جمع المال في الحس الإسلامي، يعتبر وسيلة لمرضاة الله تعالى في الدنيا والآخرة، عن طريق كسبه بالحلال، ثم إنفاقه في وجوهه المشروعة، لأن المال -كما ذكر ابن الجوزي- لا يراد لنفسه وإنما يراد لغيره. ولا باس إذا كان جمع المال لطلب الاستغناء به عن الناس من السؤال، وصيانة الأبناء من التذلل إلى الآخرين، ولاسيما أن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن السؤال فقال: "لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره، فيتصدق به ويستغني به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلًا، أعطاه أو منعه ذلك. فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى. وأبدأ بمن تعول" (¬3). وقصة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - عندما عاد سعد بن أبي وقاص بمكة فبكى. فقال له: "ما يبكيك؟ فقال: قد خشيت أن أموتَ بالأرضِ التي هاجرتُ منها. كما مات سعدُ بن خولةَ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اشفِ سعدًا. اللهم اشفِ سعدًا" ثلاثَ مرات. قال: يا رسول الله: إن لي مالًا كثيرًا. وانما يرثُني ابنتي. أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: فبالثلثين؟ قال: لا. قال: فالنصفُ؟ قال: لا. قال: فالثلثُ؟ قال: الثلثُ، والثلثُ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 99. (¬2) سورة الفجر، الآيتان 19 - 20. (¬3) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني, ص 721، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، الحديث رقم 1042.

كثيرٌ، إن صدقتَك من مالِك صدقة. وإن نفقتَك على عيالِك صدقةٌ وإن ما تأكلُ امرأتك من مالِك صدقةٌ. وإنك أن تدع أهلَك بخيرِ (أو قال بعيش) خيرٌ من أن تدعُهم يتكفَّفُون الناسَ" (¬1). وهذا ما أقرته الشريعة الإسلامية عندما أباحت "للفرد أن يأخذ من مال الله ما يكفي حاجته" وحاجة أهله الذين تلزمه نفقتهم كالزوجة والأولاد والأبوين، وله أن يأخذ بعض مال الله لينفقه في حفظ بقية المال، وفي استغلاله واستثماره، وله أن يفعل ذلك كله في حدود الاعتدال دون سرف أو تقتير" (¬2). وأن لا يصرف كل همه وجلَّ وقته في جمع المال، لأن صرف الاهتمام في جمع المال يشغل الإنسان عن طاعة الله سبحانه وتعالى وعمارة الأرض لغاية عليا، فيخسر المَرء الدين والنفس والوقت في معصية الله لذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬3). توجيه الدوافع في نظر ابن الجوزي: حذر ابن الجوزي من مغبة جمع المال في معصية الله، وأكد بعض التوجيهات في هذا المجال فقال في ذلك: "ينبغي للعاقل بعد حصول المقدار المتوسط من ذلك أن لا يضيع الزمان الشريف، وألا يخاطر بالروح في الأسفار وركوب البحار" (¬4). كما اعتبر جمع المال من الأمراض التي تصيب النفس البشرية، التي ينبغي معالجتها ببيان المعنى الحقيقي للمال ووظيفته في حياة الإنسان فقال: "ينبغي أن يُداوى بتلمح المقصود من المال" (¬5)، ولم يوضح ذلك من خلال الآيات القرآنية الكريمة التي وردت ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 1253، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، الحديث رقم 1628. (¬2) عودة، عبد القادر. المال والحكم في الإسلام. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة، 1984 م، ص 57. (¬3) سورة المنافقون، الآية 9. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 100. (¬5) المرجع السابق، ص 100.

في هذا الشأن ولكن الباحثة وضحته لمعرفة القارئ به، فينبغي أن يدرك الإنسان ان المال مال الله لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬1). وأنه مستخلف فيه للإنفاق في الوجوه المشروعة لقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (¬2)، وأهم هذه الوجوه هي كما وردت في قول الله تعالى: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬3) وقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (¬4) إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الكريمة التي توضح وجوه الإنفاق المشروعة. وإذا أدرك الإنسان هذه المعاني الأصيلة فإنه يسلم من داء الشح والبخل وإهلاك النفس والوَقت، ويكسب حياته في الدنيا والآخرة. وهذا ما قصده ابن الجوزي في قوله: "وهذا المرض ينبغي أن يداوى بتلمح المقصود من المال، والموازنة بين حصوله وبين المخاطرة بأنفس نفيس وهي النفس والوقت، فمن شاور عقله فهم المراد، ومن غلبه مرض الحرص هلك في بيداء الشره، ولا وارث له إلا المطية والرحل" (¬5). ثم بيَّن أيضًا أن النفس البشرية بين بخل وتبذير، وكلاهما شر على الإنسان، فالبخل كما عرفه ابن الجوزي هو إنما يقع "على مانع الحق الواجب، قال ابن عمر من أدى الزكاة فليس ببخيل، ثم يقال لمن منع ما لا يضره ولا يكاد يؤثر فيه مما ينتفع به الناس بخيل" (¬6) لقول الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬7). والبخل صفة مذمومة في النفس البشرية، لأنها تحرم صاحبها من ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية 33. (¬2) سورة الحديد، الآية 7. (¬3) سورة البقرة، الآية 215. (¬4) سورة التوبة، الآية 60. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 100. (¬6) المرجع السابق، ص 102. (¬7) سورة آل عمران، الآية 180.

المتاع الدنيوي المباح، وتضر دينه بمنع الزكاة والإنفاق في سبيل الله، وتبعده عن حب الناس له. أما إذا اقتصد الإنسان دون إسراف وبخل، وادّخر من بعض ماله للظروف الطارئة والمفاجئة في المستقبل، حتى لا يضطر إلى سؤال الغير، فهذا لا يسمى بخلًا، بل يعتبر من باب الحيطة والحذر المطلوب والمباح للإِنسان فعله، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "إن مجرّد الإمساك للمال لا يسمى بخلا، لأن الإنسان قد يمسك فاضل المال لحاجته، ولحوادث دهره، ولأجل عياله وأقاربه، وهذا كله من باب الحزم، فلا يذم" (¬1). علاج البخل في نظر ابن الجوزي: قد وصف ابن الجوزي علاجًا لمرض البخل، وهذا العلاج التربوي لا يخرج عن الإطار الإسلامي المستمد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وإن لم يستشهد بها ابن الجوزي في علاجه، وسوف تجمل الباحثة هذا العلاج في نقاط ثم تفصل فيه مستشهدة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية المناسبة -في حدود ما اطلعت عليه- ويتمثل العلاج في النقاط الآتية: 1 - : قال ابن الجوزي: "علاج البخل أن يتفكر، فيرى أن فقراء بني آدم إخوانه، وقد أوثر عليهم وأحوِجوا إليه، فليجعل شكر المنعم مواساة الإخوان" (¬2). ومن هنا لابد أن يعلم الإنسان البخيل أن أخوته للناس جميعًا أخوة إيمان وإسلام لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬3). ولهذه الأخوة الإسلامية حقوق وواجبات كثيرة منها ما يتمثل في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمُ أخو المسلمِ، لا يظلمُه ولا يُسْلِمُه. من كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجتِه، ومن فرجَ عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربةَ من كُرَب يومِ القيامةِ، ومن ستَر مسلمًا سترة الله يوم القيامة" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 102. (¬2) المرجع السابق، ص 103. (¬3) سورة الحجرات، الآية 10. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 1996، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، الحديث رقم 2580.

2 - قال ابن الجوزي: "ولينظر في شرف الكرم، وليعلم أنه يسترقُّ الأحرار إذا أسدى إليهم معروفًا، وينهب عرضه الأشرار إذا بخل" (¬1). وهنا يرى ابن الجوزي أن على الإنسان البخيل أن يدرك أن للكرم والسخاء فضائل متعددة منها أنه يسترقِّ الأحرار إذا أسدى إليهم معروفًا ويكون قريبًا منهم، حتى أنه يتحول بغضهم حبًا، كما حدث مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما حكى ابن شهاب قال: "غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة الفتح، فتح مكة. ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المسلمين. فاقتتلوا بحنين. فنصر الله دينه والمسلمين. وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم. ثم مائة. ثم مائة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب؛ أن صفوان قال: والله! لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي. فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي" (¬2). 3 - قال ابن الجوزي في هذا العلاج: "وليتيقن أنه سيترك ما في يديه ذميمًا، فليخرج منه قبل أن يخرج عنه" (¬3). وهذا معناه أن الإنسان البخيل إذا علم مصير ماله الذي جمعه، وأنه سيكون لغيره من الناس بعده، فإنه لا شك سينفقه في سبيل الله، قبل أن يبدده ورثته، وذلك مصداق لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يقول العبد مالي. مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس" (¬4). 4 - وهذا العلاج الترهيبي لم يذكره ابن الجوزي، وهو أنه إذا تدبر ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 103. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 1806. كتاب الفضائل، باب ما سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط فقال: لا. وكثرة عطائه، حديث رقم 59 - (2313). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 103. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2273، كتاب الزهد والرقائق، حديث رقم 2959.

عقاب الله تبارك وتعالى لمن يمنع ماله من إنفاقه في سبيله، فإنه سيتعظ وينفق بسخاء، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). أما التبذير فهو ضد البخل والمبذَّر هو من فرق وبدّد ماله في غير موضعه، وهو يؤدي إلى الفقر والإفلاس، وإلى خراب النفس والمال والوقت، ويؤدي إلى الكفر بنعم الله تعالى، لذلك قال فيه ابن الجوزي: "التبذير مما يأمر به الهوى وينهى عنه العقل" (¬2)، ولذلك وردت الآيات القرآنية محذرة منه، فذكر ابن الجوزي قول الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (¬3). العلاج: ولعلاج مرض التبذير رأى ابن الجوزي أن على المرء النظر والتدبر في عاقبة الإسراف وما يجره من فقر وحاجة ومذلة عند سؤال الناس، فقال: "النظر في العواقب، والحذر مما يجوز كونه من الحاجة إلى الناس والفقر فذلك يكف كفَّ التبذير" (¬4). وحتى يكون الإنسان معتدلا في كسبه وإنفاقه، بعيدًا عن البخل والإسراف، حدد ابنَ الجوزي مقدار اكتسابه بطريقة تكفل تأمين حاجاته الضرورية اليومية، وما يمكن أن يحدث من ظروف مفاجئة في مستقبل أيامه، حتى لا يحتاج إلى الناس وبذل عند السؤال، وهذا ما اعتبره ابن الجوزي من كمال العقل وبعد النظر في تدبير المعيشة. قال: "وينبغي للعاقل أن يكتسب أكثر مما يحتاج إليه، ويقتني ما يعلم أنه لو حدثت به حادثة كان في المقتنى عوض عما ذهب، ولو عرض له مانع من الاكتساب قام المقتنى بحاجته بقية عمره، ولو جاءه أولاد أو احتاج إلى ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان 34 - 35. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 103. (¬3) سورة الإسراء، الآيتان 26 - 27. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 103.

فضل زوجة أو خادم، أو احتاج ولده إلى مثل ذلك كان في كسبه ما يكفيه، وفي الجملة ينبغي أن تكون النفقة أقل من الكسب، ليقتني من الفضل ما يكون مُعدا لحادثة لا تؤمن، وهذا ما يأمر به العقل الناظر في العواقب، ولا يبالي به الهوى الناظر إلى الحالة الحاضرة" (¬1)، ولذلك مدح الله تعالى الملتزمين بالمنهج المالي القويم في الإنفاق، فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬2) وقد استشهد ابن الجوزي بما جاء عن أبي الدرداء مرفوعا "من فقهِ الرجلِ بعدُ النظرِ في معيشتهِ" وقد رُوي موقوفا (¬3). د - رأي ابن الجوزي في دافع حب التمتع بالأبنية والخيل المسومة والملابس الفاخرة: كذلك من الشهوات التي تميل إليها النفس البشرية، حب التمتع بالأبنية المزخرفة الجميلة والخيل المسوّمة والسيارات الفارهة. والملابس الفاخرة، وهذا شيء طبيعي لأن "حب الحياة والأمل فيها جزء من فطرة الإنسان، ولولا ذلك ما عُمِرت الأرض، ولا ترعرعت شجرة الحياة، فلم يكن مما ينافي الحكمة أن يزين للناس حب الشهوات، ولكن الخطر كل الخطر أن يستغرق الناس في حب الدنيا وطول الأمل فيها، وأن تكون هذه الحياة القصيرة أكبر همهم ومبلغ علمهم ومنتهى آمالهم" (¬4)، وهنا يكون الشره المنهى عنه والذي خرج عن الهدف الأساسي من عمارة الأرض، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وقد يقع الشره في فنون ما يلتذ به من الأبنية المنقوشة، والخيل المسومة، والملابس الفاخرة وغير ذلك، وهذا مرض أصله موافقة الهوى" (¬5). ولعلاج حب الدنيا وزينتها، المتمكن في النفس البشرية، استخدم ابن الجوزي أسلوب ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 104. (¬2) سورة الفرقان، الآية 67. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 104. (¬4) القرضاوي، د. يوسف. الإيمان والحياة. القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الخامسة، 1397 هـ - 1977 م، ص 200. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 100.

الترهيب ليكون أدعى للكف عن السلوكيات السيئة، فنبه المتهالك عليها "أن الحساب على كسب الحلال شديد عسير، والتبذير ممنوع منه، وأن الله تعالى لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء، وأن كل شيء يؤجر المؤمن عليه إلا البناء، فالعاقل من نظر في مقدار إقامته، وتلمح بيت نقلته، فحينئذ يقنع من الثياب بما يواريه ومن البنيان ما يؤويه" (¬1). إن ابن الجوزي لا ينكر على الإنسان استمتاعه بالطيبات التي أباحها الله تعالى، مصداقًا لقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬2)، ولكن يوجه نظر الإنسان إلى ضرورة التفكر والتدبر في التنعم بالمباحات، حتى لا تخرجه إلى دائرة الحرام، فعليه أن يدرك أن الله تعالى سيحاسبه يوم القيامة حسابا دقيقا على كسبه الحلال، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزولُ قدما عبد يوم القيامةِ حتى يُسألَ عن عمرهِ فيم أفناهُ، وعن علمِه فيم فعل وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيم أنفقَه، وعن جسمِه فيمَ أبلاهُ" (¬3) فإذا كان الحساب عسيرًا على المال الحلال .. فكيف يكون على المال الحرام؟!! كذلك إذا أدرك الإنسان أن الحكمة من إباحة الملابس الجميلة، هي إشباع فطرة الإنسان المحبة للزينة واللبس ولستر العورة، والظهور بمظهر يليق وكرامة الإنسان، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلوا وتَصَدَّقُوا والبَسُوا في غَيْرِ إِسراف ولا مَخِيلَة" (¬4). أما إذا تحول هذا الميل إلى فخر ومباهاة وشهرة، فقد خرج عن حدوده المباحة، وأصبح وزرًا على صاحبه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينظرُ الله يومَ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 100. (¬2) سورة الأعراف، الآية 32. (¬3) مرجع سابق، الترمذي، أبو عيسى، محمد بن عيسى، بن سورة. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. (تحقيق) عوض، إبراهيم، عطوة، الجزء الرابع، ص 612، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في القيامة، حديث رقم 2417. (¬4) النسائي، أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب، بن علي، بن بحر. سنن النسائي. بيروت، دار الكتاب العربي، دون طبعة وتاريخ، الجلد الثالث، الجزء الخامس، ص 79، كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة.

القيامةِ إلى من جرَ إزارَه بطرًا" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخلُ الجنةَ من كانَ في قلبهِ مثقالُ ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجلَ يحبُ أن يكونَ ثوبهُ حسنًا ونعلُه حسنةً. قال: إن الله جميلٌ يحبُ الجمالَ. الكبرُ بطرُ الحقِ وغمطَ الناسَ" (¬2). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُ شيء يؤجرُ المؤمنُ عليه إلا البناءَ"، فهي إشارة حكيمة للإنسان باجتناب المبالغة في تشييد المباني الفاخرة بقصد المباهاة والمفاخرة، والمقبول اهتمام معقول يسد حاجة الإنسان في مسكن مناسب، وذلك حتى لا يتعلق بالدنيا وزينتها، ويميل إلى حب الإقامة فيها، فيصرفه هذا عن القيام بعبادة الله تعالى، ولتوضيح مدى صحة العبارة السابقة فقد ورد في ذم البناء مطلقًا حديث خباب رفعه قال: "يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب" أو قال "البناء" أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدًا عن أنس بلفظ "إلا البناء فلا خير فيه" والطبراني من حديث جابر رفعه "إذا أراد الله بعبد شرا خَضَّر له في اللَّبنِ والطين حتى يبني" ومعنى "خضَّر" بمعجمتين حسَّن، وزنا ومعنى. وله شاهد في "الأوسط" من حديث أبي بشر الأنصاري بلفظ "إذا أراد الله بعبد سوءا أَنفق ماله في البنيان" وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك، وصححه الترمذي وابن حبان، وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر، وقد أخرج أبو داود أيضًا من حديث أنس رفعه "أما أن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا" أي إلا ما لابد منه (¬3). ¬

_ (¬1) العسقلاني، أحمد، بن علي، بن حجر. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. (رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه) عبد الباقي، محمد، فؤاد، وقام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه الخطيب، محب الدين، بيروت، دار المعرفة، دون طبعة وتاريخ، الجزء العاشر، ص 257، كلتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء، حديث رقم 5788. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 93، كلتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، حديث رقم 147 - (91). (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الحادي عشر، ص 92 - 93، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في البناء، شرح حديث رقم 6303.

وقد ضرب ابن الجوزي مثالين لذلك فقال: في الحديث أن نوحًا -عليه السلام- لبث في بيت شعر ألف سنة إلا خمسين عامًا. وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما وضع لبنة على لبنة (¬1) وهذا القول الأخير مخالف لما ورد من بنائه - صلى الله عليه وسلم - بيوت نسائه إلى جانبيه -مسجد قباء- بيوت الحجر باللبن، وسقفها بالجذوع والجريد، بعد بنائه المسجد (¬2). ثم نصح ابن الجوزي بطريقة غير مباشرة إلى أهمية أن يدرك الإنسان العاقل، أن الدنيا مطية المؤمن للدار الآخرة، وأن الحياة قصيرة .. والعمر زائل، وأنه مهما قصرت حياته أو طالت .. فلابد من الرحيل إلي دار الإقامة، فإذا فهم الإِنسان حقيقة الدنيا والغاية من وجوده، ووظيفته منها، فإنه حينئذ يقنع من الثياب بما يواريه، ومن البنيان بما يؤويه ووعى حديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح منكم آمنًا في سربه, معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا" (¬3). توجيه الدافع: وحتى يؤتي علاج ابن الجوزي ثمرته في النفس البشرية، فإنه وجَّه إلى أهمية النظر في العلم والتأمل في سير العلماء والعقلاء (¬4)، وهذان العلاجان مفيدان في الشفاء من مرض الشره، فعن طريق العلم الإسلامي الذي يوضح المقاصد الحقيقية للشريعة الإِسلامية وما فيها من أحكام ومعاملات وآداب، يدرك المرء الحكمة من المتاع الدنيوي المباح، والطريقة الصحيحة لإشباعه من دون إسراف أو تقتير. ويثبت هذا العلم في النفس البشرية الاقتداء بسلوك العلماء العاملين المخلصين الملتزمين ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 100. (¬2) ابن عبد الوهاب، محمد. مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (تحقيق) الفقي، محمد حامد، المملكة العربية السعودية: نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، دون طبعة، 1375 هـ - 1956 م، ص 99 - 100. (¬3) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذى. الجزء الرابع، ص 574، كتاب الزهد، باب في التوكل على الله، حديث رقم 2344. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 101.

بتطبيق منهج الإِسلام، لأن النفس الإنسانية جُبلت على حب اتباع الصالحين والتأسي بسلوكهم وخلقهم، ويؤكد ذلك الأستاذ النحلاوي بقوله: "إن حاجة الناس إلى القدوة نابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع هي التقليد، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل والضعيف والمرؤوس إلى محاكاة سلوك الرجل والقوي والرئيس" (¬1). فيكون ذلك أسرع في التخلص من أمراض النفوس. هـ - رأي ابن الجوزي في حب الرئاسة في الدنيا وطريقة توجيهه: كذلك من الشهوات التي تميل إليها النفس البشرية، حب الرئاسة في الدنيا دون التفكر في عواقبها، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "إن النفس تحب الرفعة والعلو على جنسها، فتؤثر الإمارة والولاية لمكان الأمر والنهي، وهذا وإن كان مطلوبًا إلا أن فيه مخاطراتٍ أقلُها العزل بعد الولاية، وأعظمها الجور في الحكومة، وأوسطها تضييع الزمان إذا لم تَصُحَّ للوالي نية" (¬2). وهنا يتعرض ابن الجوزي لشهوة السلطان التي تتملك النفس البشرية وما يصحبها من حب الرفعة والعلو على غيرها من الناس، وهذا الأمر وإن كان محببًا ومطلوبًا -في نظر ابن الجوزي- إلا إنه يحذر من عواقبه في الدنيا والآخرة، فأقل المخاطر التي تحيط به هو العزل من السلطة إذا لم ينفذ ما يطلب منه سواء كان حقًا أم باطلًا، وكون الإِنسان شاعرًا بأنه مهدَّد في منصبه، فهذا يجعله قلقًا متوترًا حريصًا على تنفيذ ما يُطلب منه وإن كان فيه مخالفة واضحة لشرع أو عرفٍ صحيح، حتى يحافظ على منصبه. وهذا الحرص يؤدي به إلى الظلم وانتهاك الحرمات والتعدي على حقوق غيره من الناس، يضاف إلى ذلك إضاعة عمر الإنسان فيما قد يضره ولا يفيده. هنا نجد ابن الجوزي يذم الرئاسة، ولكن الأمر ليس على إطلاقه، لأن الحاكم إذا كان عادلًا فهو يكون من الذين يظلُّهم الله يوم القيامة ¬

_ (¬1) النحلاوي، عبد الرحمن. أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع. دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م، ص 231. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 101.

بظله. ثم يبادر ابن الجوزي ببيان علاج شهوة السلطان، التي تبدو في خيال طالبها وراغبها، أنها عظيمة القيمة، بعيدة المنال فإذا وصل إليها هانت عليه وتاقت نفسه إلى غيرها .. وهكذا في إلحاح دائم .. وإصرار دائب للوصول إلى أعلى المناصب، دون تحسب للعقاب الآجل والعاجل .. فيمضي عمره في لذة تزول .. وحسرة تدوم .. وذنب مكتوب، فمن هنا يتبين أن على الإِنسان أن يتمهل ويتفكر في العواقب حتى يسلم دينه ونفسه، ويشتري بحياته الدنيا نعيم الآخرة في مقابل نعيم السلطة في الدنيا وعقابها في الآخرة. وفي هذا يقول ابن الجوزي: "وينبغي لمن أحب الولاية أن يعلم أنه إنما يتخايلها عظيمة ما لم ينلها، فإذا نالها هانت عنده، وسما إلى غيرها، فاللذة تزول، والأوزار تبقى، والمخاطرة بالنفس والدين، فالتفكر في هذه الأشياء علاج" (¬1). وقد أورد ابن الجوزي بعضًا من أحاديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - للتحذير من الفتنة بالسلطة وذلك بالورع والتقوى لمن تسلمها، فقال في ذلك: بسنده عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من رجلٍ يلي أمرَ عشرةٍ فما فوق ذلك إلا أتى الله -عز وجل- يومَ القيامةِ مغلولةٌ يده إلى عنقِه، فكه برُه، أو أوبقَه إثمُه، أولُها ملامةٌ، وأوسطَها ندامةٌ، وآخرُها خزيٌ يومَ القيامةِ" (¬2). ثم قال وعن أبي هريرة مرفوعًا: "ويلٌ للأمراءِ، ويلٌ للعرفاءِ، ويلٌ للأمناءِ ليتمنَينَّ أقوامٌ يومَ القيامةِ أن ذوائبَهم كانت معلقةً بالثريا يتذبذبون بين السماءِ والأرضِ ولم يكونوا عملوا على شيء" (¬3). "وفي أفراد مسلم (¬4) من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضربَ بيدِه على منكِبي. ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيفٌ. وإنها أمانةٌ وإنها يومَ القيامةِ، خزيٌ وندامةٌ. إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها" (¬5). وعلى الرغم من وجود أحاديث نبوية ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 101. (¬2) المرجع السابق، ص 101. (¬3) المرجع السابق، ص 101. (¬4) المرجع السابق، ص 101 - 102. (¬5) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1457، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، حديث رقم (16 - 1825) ورقم (17 - 1826).

شريفة عن فضيلة وأجر من أدى حق أمانة السلطة، إلا أن ابن الجوزي لم يذكرها هنا؛ منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المقسِطين عند الله على منابرَ من نورٍ. عن يمينِ الرحمن -عزّ وجلّ-، وكلتا يديهِ يمينٌ، الذين يعدلون في حكمِهم وأهليهم وما وَلُوا" (¬1). وهناك عدد من الأحاديث النبوية التي تحث الحاكم على العدل، ولا شك في أننا بحاجة دائمة إلى الإمام العادل لتولي السلطة، والذمُّ المتكرر لا يزيل الحاجة، لذلك فنحن بحاجة إلى التربية الإِسلامية لتربية القيادات الصالحة، لأننا لا نعاني إلا بسبب غياب هذه القيادات الإِسلامية الرشيدة والحكيمة. جـ - الانفعالات وعلاجها: قبل أن أتعرض لموضوع الانفعالات عند ابن الجوزي، لابد من توضيح أمرٍ في عرض هذا الموضوع؛ والملاحظ أنه لم يتبع منهجية محددة واضحة في حديثه، فقد تكلم عن الانفعالات بصفة عامة دون تحديد مسماها "الانفعالات" وعند معالجته لموضوع الانفعالات، عالج كل انفعال على حدة، ولكن دون إعطاء تعريف دقيق لمعنى الانفعال خلافًا لما فعل الإمام الغزالي (¬2)، وقد وثق معظم كلامه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الحكماء والعلماء إن وجد، وأيده بقصص من سير الصحابة والسلف الصالح إن لزم الأمر، ثم أنهى موضوعه بالعلاج المناسب، الذي غالبًا ما يكون موافقا لرأي الإِسلام التربوي والنفسي. وبناء على ذلك ستقوم الباحثة بتعريف معنى الانفعال العام ثم أهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 1458، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، حديث رقم (18 - 1827). (¬2) تعريف الحقد عند ابن الجوزي: "الحقد بقاء أثر القبيح من المحقود في النفس. ولعمري إن العقل يقضي ببقاء أثر القبيح كما يقضي ببقاء أثر الجميل". مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 108. تعريف الحقد عند الإمام الغزالي: "اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقدًا، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى". مرجع سابق، الغزالي. إحياء علوم الدين. الجزء الثالث، ص 192.

الانفعالات التي ذكرها ابن الجوزي وتعريفها في ضوء أقوال العلماء من المسلمين وغيرهم من المحدثين، ثم تحليل هذا الانفعال كما ورد في الكتابات. النفسية والتربوية مدعمة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. حقيقة الانفعال: وقبل أن نحلل كل انفعال على حده، سنعرَّف معنى الانفعال، فبعض العلماء يعرّف الانفعال بأنه: "ضرب من السلوك الخارجي، من المحال أن يخطئه الملاحظ لما ينجم عن الانفعال من تغيرات في ملامح الوجه والحركات والتعبيرات اللغوية. فالانفعال حالة بارزة تسهل ملاحظتها لأنها تعقب حالة من الهدوء والاتزان والسكون، وتكون فيها ملامح الوجه منسجمة والحركات عادية والتفكير هادئًا. وهذا يعني أن الانفعال يخل بميزان التوافق للفرد. وقد عرَّفه بعضهم بأنه تغير مفاجئ يشمل الفرد كله نفسًا وجسمًا، وعلى ذلك فإن الانفعال يؤثر في الإنسان كله، فيؤثر في سلوكه الخارجي كما يؤثر أيضًا في تكويناته العضوية الداخلية" (¬1). أنواع الانفعال وعلاجها: وقد عالج ابن الجوزي انفعالات عدة منها: انفعال الحسد والحقد والغضب والحزن والهم والغم والخوف والحذر من الموت، والفرح. 1 - حقيقة انفعال الحسد: وسنبدأ تحليلنا التربوي بذكر انفعال الحسد، الذي عرَّفه ابن الجوزي بقوله: "الحسد تمنّي زوال نعمة المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها. وسبب ذلك حب الميزة على الجنس، وكراهة المساواة. فإذا حصلت للغير نعمة تميّز بها، تألّم هذا الإنسان لتلك الميزة أو بمساواته له فيها، فلا يزيل ذلك الألم إلا زوال تلك النعمة عن المحسود، وهذا أمر ¬

_ (¬1) محمد، محمد، محمود. علم النفس المعاصر في ضوء الإسلام. دار الشروق، ص 168.

لا يكاد أحد ينفك منه في باطنه، ولا يأثم الإنسان بوجود ذلك بل يأثم بالتمني لزوال النعمة عن أخيه المسلم" (¬1). ومن خلال تحليل الباحثة لانفعال الحسد الذي ستوثقه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية المناسبة، والتي لم يستشهد بها ابن الجوزي، ومن أقوال ابن الجوزي في الحسد يتضح لنا أن انفعال الحسد انفعال نفسي داخلي موجود عند كل الناس، ولكنه متفاوت من شخص إلى آخر حسب إيمانه بالقدر وحكمة الله -عز وجل- في توزيع النعم والأرزاق على الناس بأقدار متفاوتة، قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2)، كما يظهر لنا أن الحسد قد يكون ناتجًا من قلة حب الخير للناس جميعا، لذلك لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لغيره ما يحب لنفسه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبَ لأخيهِ ما يحبُ لنفسه" (¬3)، فإذا فهم المسلم الحكمة الإلهية من ذلك، عاش راضيًا هانئًا سعيدًا بما وهبه الله من نعم سواء كثرت أو قلت، أما إذا لم يرض بحاله، وتذمر من حياته، وتفكر في نعم الله على غيره، وقلتها أو عدمها لديه، فإن هذا الإحساس سيصيبه بالألم الدفين، والقلق الدائم، والحزن الملازم والضيق والهمّ والغم، والتفكير العقيم في كيفية زوال نعم المحسود، فلا يهنأ له بال ولا يقر له قرار، ولا يذوق طعم الرضا والاطمئنان، هذه هي الأعراض الملازمة لداء الحسد وقد ذكرها ابن الجوزي بقوله: "الحسد يوجب طول السهر، وقلة الغذاء، ورداءة اللون، وفساد المزاج، ودوام الكمد" (¬4). وبسبب حب الحاسد للدنيا ومتعها، فإن الحسد لا يتم إلا في الأمور الدنيوية، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "لا يقع الحسد إلا في أمور الدنيا، فإنك لا ترى أحدًا يحسد قوَّام الليل ولا صوَّام النهار، ولا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 105. (¬2) سورة النساء، الآية 54. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 57، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم 13. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 105.

العلماء على العلم، بل على الصيت والذكر" (¬1). ويتولد من داء الحسد، الكثير من آفات القلوب المدمرة للنفس البشرية، مثل العداوة والبغضاء والحقد والغضب والكبر والتعجب والخوت من فوت المقاصد الدنيوية المحبوبة وحب الرياسة وخبث النفس وبخلها. معالجة الحسد: وحتى لا يتمكن هذا المرض الخبيث في النفس البشرية، لابد من علاجه حتى لا يضر دينه ودنياه، فأما ضرر الدين فيكمن في سخطه على قضاء الله وقدره وكراهيته لما رزق غيره من نعم مختلفة، وقد جسَّد ابن الجوزي داء الحسد ووصف دواءه وهو يقول: "أن يعلم الإِنسان أولًا أن الأقدار السابقة لابد أن تجري، وأن الاحتيال في صرف المقدور غير ممكن، وأن القسَّام حكيم، ثم هو مالك، يعطي ويحرم، فهو الذي خلق الطَّرف السابق (¬2) والكودن (¬3). وكأن الحاسد مضاد لإرادة المعطي سبحانه" (¬4). فإذا أدرك الحاسد ذلك سلم دينه وإيمانه بالقدر خيره وشره وسلم من سخط الله تعالى. أما ضرر الدنيا فيكمن في ألم الحاسد وما ينتابه من غمّ وهمّ وضيق دائم على ما أنعم الله به على غيره -وهو في مكانه- فحسده لم يُزل النعم ولم يحصل هو عليها، فما جنى إلا حرمانًا من متع الدنيا قليلها وكثيرها, وعلاج هذا يبيّنه ابن الجوزي بقوله: "ينبغي للحاسد أن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 105. (¬2) معنى الطَّرْف السابق: والطِّرْف، بالكسر من الخيل: الكريم العتيق، وقيل هو: الطويل القوائم والعنق المطرف الأذنين". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد التاسع، ص 214. (¬3) معنى الكودن: "والكودن والكودني: البرذون الهجين، وقيل: هو البغل. ويقال للبرذون الثقيل: كودن، تشبيهًا بالبغل". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثالث عشر، ص 356. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 105.

ينظر في حال المحسود، فإن كان إنما نال الدنيا فقط، فهذا ينبغي أن يُرحم، لا أن يحسد، لأن الذي ناله في الغالب عليه، لا له، وهل فضول الدنيا إلا هموم. . . وبيان هذا، أن كثيرَ المال شديدُ الخوف عليه، وكثيرَ الجواري شديدُ الحذر عليهن، قوي الاهتمام بهنّ، أو لهن، والوالي خائف من العزل. ثم ليعلم أن النعم كثيرة الأكدار، ثم هي قليلة اللبث، والمصائب تردفها، فإن صاحب النعمة ينتظر زوالها، أو زواله عنها، ثم ليوقِن أن ما يحسد عليه المحسود ليس هو عند المحسود كما هو عند الحاسد، فإن الناس يظنون في أرباب المناصب أنهم في غاية اللذة، ولا يدرون أن الإِنسان يسمو إلى أمر فإذا ناله برد عنده وصار عادة له، فهو يسمو إلى ما هو أعلى منه. وهذا الحاسد يرى الأمر بعين الجدة والغبطة. وليعلم الحاسد أنه لو عاقبه المحسود لما ناله بأشدّ من الأذى الذي هو فيه، فإن لم ينتفع بشيءٍ من هذا العلاج فليسع في التسبب إلى مثل ما نال المحسود" (¬1). فإذا تفكر الحاسد في علاج ابن الجوزي، وفهم حقيقة الدنيا ومتعها، وأنها لا تستحق منه أن يحسد غيره، لعاش مرتاحًا مطمئنًا، سليم القلب، خالي الفكر، راضي النفس، فحصل بذلك على سعادة الدارين. 2 - وعلى الحاسد أن يستبدل الغبطة بالحسد وهي أن لا يحب زوال النعمة ولا يكره وجودها ودوامها، بل يتمنى لنفسه مثلها، وقد استشهد ابن الجوزي بقول الرسول - صلي الله عليه وسلم -: "لا حسد (¬2) إلّا في اثنتين رجل آتاه الله ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 106. (¬2) معنى الحسد هنا: "وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة وأطلق الحسد عليها مجازًا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه (فليتنافس المتنافسون) وإن كان في المعصية فهو مذموم، ومنه "ولا تنافسوا" وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم -أو أفضل- من الغبطة في هذين الأمرين. مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 167، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، حديث رقم 73.

-عز وجل- القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه في الحق آناء الليل والنهار" (¬1). 3 - وعلى الحاسد أن يدرب نفسه الخبيثة على الرضا بقدر الله تعالى والقناعة بما رزقه حتى يطهر قلبه وتصفو نفسه، وإذا لم يستطع فعليه بكتمان حسده حتى يبرأ تمامًا من مرض الحسد، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فلتكن مجاهدته إمساك لسانه عن ثلبه (¬2)، وحبس ما في قلبه" (¬3)، لأن ذلك أحفظ لنفسه من التردّي والوقوع في مهاوي المعصية والشرور. 2 - حقيقة انفعال الحقد ومعالجته: يعتبر انفعال الحقد من الانفعالات المركبة من الغضب والغيظ، ومعنى الحقد في اللغة: "إمساك العداوة في القلب والتربُّص لفرصتها. والحقد: الضغن" (¬4). وهذا المعنى موافق لتعريف الإِمام الغزالي الذي قال فيه: "إن الغضب إذا لزم كظْمُه لعجزٍ عن التشفّيَ في الحال ورجع إلى الباطن واحتقن فيه صار حقدًا، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى. . .، فالحقد ثمرة الغضب" (¬5). وفي المعنى نفسه قال ابن الجوزي في تعريف الحقد: "الحقد بقاء أثر القبيح من المحقود في النفس. ولعمري إن العقل يقضي ببقاء أثر القبيح كما يقضي ببقاء أثر الجميل" (¬6). ويشير ابن الجوزي في تعريفه إلى أن الحقد ثمرة ونتيجة المعاملة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 108. (¬2) معنى ثلبه: "ثلب: ثلبه يثلبه ثلبًا: لامه وعابه وصرح بالعيب وقال فيه وتنقَّصه. الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان"، مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الأول، ص 241. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 107. (¬4) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثالث، ص 154. (¬5) مرجع سابق، الغزالي. إحياء علوم الدين. الجزء الثالث، ص 192. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 108.

السيئة التي تترك أثرًا في النفس البشرية يتحوّل مع الأيام إلى حقدٍ وبغضٍ وعداوةٍ؛ لأنه كما يتأثر الإنسان بالمعروف والإحسان ويبقى أثرهما الطيّب فكذلك تأثره بالفعل السيّئ. معالجة الحقد: يصف ابن الجوزي هنا معالجات عدة للحقد، نذكرها باختصار فيما يأتي: 1 - قال ابن الجوزي: "وعلاج ذلك أن يكون بالعفو والصفح" (¬1)، بمعنى أن على الإِنسان أن يجتهد طاقته في إزالة ما علق في القلب بالعفو والصفح والتسامح والتجاوز عن السيئات, والتماس العذر للغير، قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬2). 2 - وإذا وجد الإنسان أن هناك آثارًا من الحقد في قلبه لم تمح بعد فعليه أن يدرك كما قال ابن الجوزي: "أن الذي سُلط عليه لأذاه إنما هو بذنب منه، أو لتكفير خطأ، أو لرفع درجة، أو لاختباره في صبره (¬3). 3 - أن يستقبل إيذاء الآخرين له بأنه قضاء وقدر، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "وثَمَّ علاجٌ أدقّ من هذا وهو أن يرى الأشياء من المقدَّر" (¬4). وإذا تدبَّر الإنسان في كلام ابن الجوزي وجد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يؤيد قوله وإن لم يستشهد بها، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬5). وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذي ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله بها من خطاياه" (¬6). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمر المؤمن. إن أمره كله ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 109. (¬2) سورة فصلت، الآية 34. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 109. (¬4) المرجع السابق، ص 109. (¬5) سورة الروم، الآية 41. (¬6) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر،

خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر. فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له" (¬1) وأخيرًا إذا آمن إيمانًا صادقًا بأن أمر الله قدر مقدر، وأنه إذا أراد أمرًا قال له كن فيكون، فإنه لا شك سيصل إلى درجة الرضا والتسليم بالمكتوب، فتصفو نفسه، ويطهر قلبه من كل حقدٍ وعداوةٍ وأذىً فيعيش قرير العين، هادئ البال، محبًا ومحبوبًا من الجميع. 3 - حقيقة انفعال الغضب ومعالجته: لقد أودع الله تعالى في الإنسان انفعال الغضب، ليدفع عن نفسه الأذى، ويحمي حياته من الأخطار المحيطة به، أما إذا زاد عن حده الطبيعي فإنه يجلب الضرر، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "إن الغضب إنما ركب في طبع الآدمي ليحثه على دفع الأذى عنه والانتقام من المؤذي له، وإنما المذموم إفراطه، فإنه حينئذ يزيل التماسك، ويخرج عن الاعتدال، فيحمل على تجاوز الصواب، وربما كانت مكانته في الغضبان أكثر من مكانته في المغضوب عليه" (¬2). وحتى نتعرف على ماهية الغضب وأنواعه المحمود منها والمذموم، لابد من معرفة حقيقته التي عبر عنها ابن الجوزي بقوله: "والغضب حرارة تنتشر عند وجود ما يُغضب، فيغلي عندها دم الذات طالبًا للانتقام، وربما أَثَّر الحمى" (¬3). وهكذا نجد أن حقيقة الغضب ما هي إلا حرارة تتولد من أثر الأذى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم" (¬4). فيدفع ¬

_ = ص 103. كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض. وقول الله تعالي {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} حديث رقم 5640. (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2295، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، حديث رقم 64 - 2999. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 109. (¬3) المرجع السابق، ص 109. (¬4) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 484، كتاب الفتن، باب ما جاء ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، حديث رقم 2191.

هذا الغضب إلى حرارة تنتشر في جميع جسم الإنسان فيرد بهذا الغضب، إما الأذى أو التشفي، فتبرد هذه الحرارة بعد ذلك. وتصحب هذه الغضبة حركات وانفعالات في وجه الغاضب، فيحمر الوجه والعين والبشرة من حرارة الغضب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه، واننفاخ أوداجه، فمن أحس بشيءٍ من ذلك فليلصق بالأرض" (¬1). معالجة الغضب: ولتهدئة ثورة الغضبان، قرر ابن الجوزي بعض الإجراءات العلاجية التي اشتقها من أحاديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، سنذكرها فيما يلي: 1 - الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: لابد من قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -الذي استشهد به ابن الجوزي- عندما رأى رجلين يستبّان، أحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إني لست بمجنون" (¬2). 2 - تغيير الحركة: على الغضبان تغيير حاله، فإن كان قائمًا قعد وإن كان جالسًا وقف، أو اضطجع أو خرج من المكان كله، قال ابن الجوزي: "أن يتثبت الغضبان ويغير حاله، فإن كان ناطقًا سكت، وإن كان قائمًا قعد، وإن كان قاعدًا اضطجع ليسكن تلك الفورة، وإن خرج في الحال عن المكان، وبعد عن المغضوب عليه كان أصلح" (¬3). وهذا مصداقُ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي استشهد به ابن الجوزي - "إذا غضبَ أحدُكم وهو قائمٌ فليجلسْ، فإن ذهبَ عنه الغضبُ والا فليضطجعْ" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق نفسه، الجزء والصفحة والكتاب والباب ورقم الحديث، المذكورات. (¬2) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 518، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، حديث رقم 6115. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 109. (¬4) الأزدي، أبو داود، سليمان بن الأشعث, السجستاني. سنن أبي داود. (إعداد وتعليق) الدعاس، عزت، عبيد، والسيد، عادل، الجزء الخامس، ص 141، كتاب الأدب، باب ما يقال عند الغضب، حديث رقم 4782.

3 - كظم الغيظ لأنه فضيلة: على الغاضب أن يتفكر في فضيلة كظم الغيظ وكسر حدة الغضب، يقول ابن الجوزي: "ثم يتفكر في فضل كظم الغيظ، فقد مدح الله سبحانه القوم" (¬1). فقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (¬2) وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -وإن لم يستشهد به ابن الجوزي- "من كَظَمَ غَيْظًا وهو قادرُ على أن ينفذُه دعاه الله يومَ القيامةِ على رؤوسِ الخلائقِ حتى يخيرهُ من أي الحورِ شاءَ" (¬3). 4 - ذكر قصة الناس الكثيري الغضب وعاقبة غضبهم: لقد أورد ابن الجوزي بعض القصص للعظة والعبرة لمن أفرط في غضبه، فقال: "ومتى لم يسكن الغضبان عند شدة فورته لم يؤمن أن تبدر منه نكاية يندم عليها إما في نفسه أو في المغضوب عليه، فكم ممن غضب فقتل وجرح اْو كسر عضو ولده ثم بقي الدهر نادمًا على ما فعل. ومنهم من ينكأ في نفسه، فإن رجلًا غضب مرةً فصاح فنفث الدم في الحال وأدى به الأمر إلى الهلاك، فمات، ولَكَم رجل رجلًا فانكسرت أصابع اللاكم ولم يستضرّ الملكوم" (¬4). وهذه القصص التي أوردها ابن الجوزي، لها مغزى تربوي جليل، يتضح في أخذ العظة والعبرة من الآخرين في سلوكهم الغاضب، وما نتج منه من ضررٍ ظاهرٍ يحسه القارئ أو المستمع، فيتجنبه، والقصص أسلوب تربوي غير مباشر. 5 - أن يتصور الإِنسان حاله أو منظره في حالة الغضب ويقيس ذلك بحال سكونه: وقد قال ابن الجوزي في ذلك: "أن يتصور الغضبان حاله عند الغضب، ثم يتصور حاله عند السكون، فحينئذ يعلم أن حالة الغضب حالة جنون وخروج عن مقتضى العقل. ومتى لم ينثن عزم الغضبان عن ضرب المغضوب عليه فاستقر وغير ذلك ووعد نفسه بالفعل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 109. (¬2) سورة آل عمران، الآية 134. (¬3) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الخامس، ص 137، كتاب الأدب، باب من كظم غيظًا، حديث رقم 4777. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 110 - 111.

بشرط التثبت، فإنه إذا حصل التثبت رأى قبح ما عزم عليه فترك" (¬1). ومن علاج ابن الجوزي يتضح لنا أنه عندما وجهه إلى ضرورة النظر والتدبر في حالته عند الغضب والهدوء، فإنه لاشك سيلمس الفرق بينهما، فالغضب كما سبق أن ذكرنا حرارة تبعث على الحركة الطائشة التي لا تدرك ولا تميز في لحظة انفعالها بين الخطأ والصواب، فيتصرف الفرد بطريقة عشوائية تختلف عن لحظة هدوئه وسكونه، فإذا تفكر وتمعن الإنسان في حالته، فهو لا شك يثير في نفس الإنسانِ الخجل من تصرفاته .. فيحاول أن يهذب انفعال الغضب قدر الإمكان، ويتجنب ما يثيره، حتى لا يبدو في صورة مشينة في نظره ونظر الآخرين. 6 - الاقتداء بالسلف الصالح في مجاهدتهم لنفوسهم وتهذيبها: فقد حث ابن الجوزي الغاضب على الاقتداء بالسلف الصالح في مجاهدتهم لنفوسهم وتطويعها لخلق الحلم والعفو وكظم الغيظ، ولاسيما أن النفس البشرية تميل إلى الاقتداء بالصالحين، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وقد كان السلف إذا غضبوا غفروا وصفحوا طلبًا لفضيلة العفو وكظم الغيظ. ومنهم من يرى السبب في إغضابه ذنوب نفسه، ومنهم من يرى أنه مختبر" (¬2). وبهذه المعاني العظيمة، جاهد السلف الصالح نفوسهم وتحرروا من الثأر لأنفسهم طلبًا لمرضاة الله تعالى، ولكسب فضيلة الحلم والعفو، وحتى تسمو نفوسهم أرجعوا غضبهم إلى ذنوبهم ومعاصيهم، أو إلى ابتلاء الله لهم في إيمانهم حتى يعلم الصادق منهم. 7 - ألا يعاقب الإِنسان من آذاه إلا بعد سكون غضبه: لقد أورد ابن الجوزي تحذيرًا تربويًا، لضبط النفس البشرية عند الغضب، وما ينتج منه من ظلم وبغي وعدوان على الآخرين، فقال: ولا ينبغي للغضبان على الشخص أن يعاقبه في حال غضبه، وإن كان مستحقًا للعقوبة، بل يمهل حتى يسكن الغضب، لتكون العقوبة بمقدار ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 111. (¬2) المرجع السابق، ص 111.

الإساءة، لا بمقدار الغضب" (¬1). وقد قام الكثير من الأوائل بترجمة هذا القول إلى عمل، وبلغوا القمة في العدل عند الغضب، فقد أُتي عمر بن عبد العزيز برجل كان واجدًا عليه، فقال: لولا أني غضبان لضربتك، ثم خلى سبيله" (¬2). وذلك حتى لا يدفعهم الغضب إلى ظلم الناس وإضاعة حقوقهم. وكل ما سبق ذكره من الغضب المذموم الذي عالجه الإِسلام، وبالغ في التحذير منه لما يجره من عواقب وخيمةٍ، أما الغضب المحمود -فلم يذكره ابن الجوزي- وهو الغضب الذي يحبذه الإِسلام، ويدعو إليه، وطبقه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - فيما روته السيدة عائشةَ -رضي الله عنها- أنها قالت: "ما خُيِّر رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه. وما انتقم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله" (¬3). وهكذا فإن الإِنسان المسلم مطالب بالغضب لله حين تنتهك حرمة من حرماته، أو يُعتدى على شعيرة من شعائر دينه، أو يُعطل حكمٌ من أحكامه، أو يستهزأ بآياته وحدوده، حتى يكون غضبه محمودًا لله وحده ولا يكون لنفسه. 4 - حقيقة انفعال الحزن ومعالجته: إن انفعال الحزن كغيره من الانفعالات، التي تجلب خيرًا أو تدفع ضرًّا، إذا كانت معتدلة دون إفراط، والحزن ضد الفرح والسرور. وقد عرَّف ابن مسكويه الحزن بقوله: "ألم نفساني يعرض لفقد ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 111. (¬2) المرجع السابق، ص 111. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 524 - 525، كتاب الأدب، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "يسروا ولا تعسروا". حديث رقم 6126.

محبوب أو فوت مطلوب، وسببه الحرص على القنيات الجسمانية، والشره إلى الشهوات البدنية، والحسرة على ما يفقده أو يفوته منها" (¬1). وقد عرفه ابن قيم الجوزية: "بأنه انخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة لتأسف عن فائت أو توجّع لممتنع" (¬2). والحزن من الأمور الطبيعية التي تصيب الإنسان في حياته اليومية، والإنسان منهي عن الحزن الشديد، الذي يقعده عن العمل وأداء الطاعات، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬3)، وهذا الحزن يضعف القلب ويوهن الإرادة والعزيمة، لذلك استعاذ منه رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ إني أعوذُ بك من الهمِّ والحزَنِ، والعَجْزِ والكَسلِ، والبخل والجبن وضَلَع الدينِ وغَلَبَةِ الرجالِ" (¬4). ومن دواعي الفرح لأهل الجنة أن الله -عز وجل- أذهَب عنهم الحزن، فلذلك يدعون قائلين: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (¬5). وقد اعتبره ابن قيم الجوزية مرضًا من أمراض القلب "التي تمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما" (¬6). أما الحزن المحمود فهو الذي يحرك الهمة للعمل الصالح، ويوقظ القلب الغافل، وهذا الذي قال فيه ابن الجوزي: "إن العاقل لا يخلو من ¬

_ (¬1) ابن مسكويه، أبو علي، أحمد بن محمد بن يعقوب، الرازي. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق. (قدم له) تميم، حسن، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، "منقحة"، دون تاريخ، ص 180 - 181. (¬2) ابن قيم، الجوزية، الدمشقي، أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعيد، الزرعي. طريق الهجرتين وباب السعادتين. بيروت، دار الكتاب العربي، دون طبعة وتاريخ، ص 358. (¬3) سورة المجادلة، الآية 10. (¬4) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع، ص 554، كتاب الأطعمة، باب الحيس، حديث رقم 5425. (¬5) سورة فاطر، الآية 34. (¬6) مرجع سابق، ابن قيم الجوزية. طريق الهجرتين وباب السعادتين. ص 360.

الحزن، لأنه يتفكر في سالف ذنوبه فيحزن على تفريطه، وفيما قال العلماء والصالحون فيحزن لفوته" (¬1). وقد أيده في ذلك ابن قيم الجوزية فقال: "يحمد في الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره في خدمة ربه وعبوديته، وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته. وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه" (¬2). والإنسان المؤمن إذا عاش حزينًا على ما فاته من ثواب، نادمًا على تقصيره، حذرًا مما قد يرتكبه من آثام ومعاصي في مستقبل أيامه، تيقّظ قلبه، وتنبّهت جوارحه، ونشطت همته للمداومة والمثابرة على الطاعات والعمل الصالح. وهذا يعتبر في حد ذاته قيمة تربوية كبير لتعديل السلوك وضبط الشهوات والدوافع. وقد أورد ابن الجوزي بعض أقوال العلماء في الحزن، ليؤكد أهميته بما يزيد من إيمان المسلم، ويحفزه للعمل الصالح، فذكر قائلًا: "إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن خرب" (¬3) وذكر أيضًا قوله: "بقدر ما تحزن للدنيا، كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك، وإذ قد تبين أن الحزن لا يزال ملازمًا لقلوب المتقين، فينبغي أن يتقي إفراطه، لأن الحزن إنما يكون على الفائت" (¬4) والحزن الذي يقصده ابن الجوزي، هو الذي يجعل المرء قريبًا من الله تعالى، بعيدا عن الذنوب والمعاصي وعن التفكير الدائم في متاع الدنيا وما فاته منها، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فإن كان المحزون عليه لا يمكن استدراكه لم ينفع الحزن وإن كان دينًا فينبغي أن يقاومه برجاء الفضل والرحمة لتعديل الحال، فأما إذا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 118. (¬2) مرجع سابق، ابن قيم الجوزية. طريق الهجرتين وباب السعادتين. ص 360. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 118. (¬4) المرجع السابق، ص 118.

كان الحزن لأجل الدنيا وما فات منها فذلك الحزن المبين، فليدفعه العاقل عن نفسه" (¬1). معالجة الحزن: والحزن في هذه الحالات، لابد له من علاجٍ تربوي حازمٍ، لينال المرء الأجر والمثوبة من الله تعالى ومن أقوى طرق علاجه التي ذكرها ابن الجوزي في قوله: "أن يعلم أنه لا يرد فائتًا وإنما يضم إلى المصيبة، مصيبة فتصير اثنتين، والمصيبة ينبغى أن تخفف عن القلب وتُدفَع، فإذا استعمل الحزن والجزع زادت ثقلًا" (¬2). ويؤكد ابن الجوزي في علاجه أهمية إيمان واقتناع الإنسان بأنه لا يستطيع رد الفائت، وأن كل شيء بتقدير العزيز الحكيم، وإنما على الإنسان أن يؤمن بالسنن الإلهية ويصبر ويحتسب الأجر من الله تعالي: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬3). فإذا تدبر الإنسان ذلك عاش مرتاحًا، أما إذا استسلم للحزن والجزع، فإن ذلك سيقعده عن أداء العبادات والعمل الصالح، ويفوّت على نفسه أجرًا عظيمًا، ويرتكب إثمًا خطيرًا. 5 - حقيقة انفعال الغم والهم ومعالجته: انفعال الغم والهم من الأعراض النفسية التي تصيب الإنسان، بسبب ما تمر به من أحداث ومشكلات ومصاعب في حياته اليومية، ولا يجد لها حلولًا مرضية له. وأورد معنى الغم كما ورد في لسان العرب، "الغم: واحد الغموم. والغم والغمة: الكرب، الأخيرة عن اللحياني، قال العجاج: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 118. (¬2) المرجع السابق، ص 118. (¬3) سورة البقرة، الآيات 155 - 157.

بل لو شهدت الناسَ إذ تُكموا (¬1) ... بغُمَّةٍ، لو لم تفرَّجُ غموا أما معنى الهم فهو: "الحزنُ، وجمعُه همومٌ، وهمَّه الأمر هَّمًا ومهمةً وأهمَّه فاهتمَّ واهتمَّ به. وقال ابن السكيت: الهمَّ من الحزنِ، والهمُ مصدر، همَّ الشحم يهمه إذا أذابه. والهمُ: مصدر هممتُ بالشيءِ همًّا (¬2). ولابن الجوزي رأي في الهم والغم فهو يقول: "الغم يكون للماضي، والهم للمستقبل، فمن اغتمَّ لما مضى من ذنوبه نفعه غمه على تفريطه، لأنه يثاب عليه، ومن اهتم بعمل خير نفعته همته، فأما إذا اغتم لمفقود من الدنيا فالمفقود لا يرجع، والغمَّ يؤذي، فكأنه أضاف إلى الأذى أذى" (¬3). ومن قول ابن الجوزي، يتضح لنا أنه حتى الغم والهم لابد أن يكونا معتدلين في الإنسان، ويكونا لله، وليس لحظ من حظوظ الدنيا، حتى يؤجر على ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يصيبُ المسلمَ من نصبٍ ولا وصب ولا هم، ولا حزن، ولا أذيٍ، ولا غمٍ، حتى الشوكةُ يشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بها من خطاياه" (¬4). وقد عبر عن ذلك ابن قيم الجوزية بقوله: "والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماضٍ أحدث الحزن، وإن كان من مستقيل أحدث الهمَّ، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغمَّ" (¬5). علاج الغم والهم: لقد حاول ابن الجوزي معالجة الغم والهم في ضوء التفكير الإسلامي بالمعالجات الآتية: ¬

_ (¬1) تكموا: أي غُطُّوا بالغم. (¬2) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثاني عشر، ص 441، ص 619 - 621. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 119. (¬4) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 103، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، حديث رقم 5640. (¬5) ابن قيم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله. الفوائد. بيروت، دار العلوم الحديثة، دون طبعة وتاريخ، ص 28 - 29.

1 - اجتناب كثرة التعلق بالدنيا ومتاعها: إن كثرة التعلق بالدنيا ومتاعها يجلب الغم والهم في نفس الإنسان، لذلك عليه بالتخفف من علائق الدنيا وعدم التكالب على متاعها وإنما يأخذ منها بقدر حاجته دون إفراطٍ أو تفريطٍ، وفي حدود المباح. . . وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وينبغي للحازم أن يحترز مما يجلب الغمّ، وجالبه فقد المحبوب، فمن كثرت محبوباته كثر غمه، ومن قللها قلَّ غمه" (¬1)، وبما أن الإنسان جُبلَ على حب الدنيا والاستمتاع بما فيها من طيبات، فكلما "طال إلفه لما يحبه واستمتاعه به تمكن من قلبه، فإذا فقده أحس من مر التألم في لحظة فقده بما يزيد على لذات دهره المتقدم، وهذا لأن المحبوب ملائم للنفس كالصحة، فلا تجد النفس لذتها إلا عند وجودها، وفقدها مناف لها، ولذلك تألم بالفقد ما لا تفرح بالموجود لأنها ترى وجود المحبوب كالحق الواجب لها" (¬2). 2 - العمل بالإيمان بالقدر: لابد من ترويض النفس البشرية وتعويدها على الصبر على المباحات، وتقليل المفرحات، وقد وضع ابن الجوزي علاجًا لإزالة الغم والهم الحاصل من فقد المحبوبات للنفس البشرية، فقال: "ينبغي للعاقل تقليل الألفة، فإن اضطر إلى جوالب الغم، فأثمرت الغم، فعلاجه في الأول الإيمان بالقدر وأنه لابد مما قُضي" (¬3)، قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬4)، وأنه تعالى جلت قدرته حكم: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (¬5). 3 - معرفة حقيقة الدنيا والهدف من وجوده فيها: إذا آمن الإنسان بالقدر واستيقنته نفسه، فعليه أن يعلم حقيقة الدنيا حتى تهون عليه فإنها "موضوعة على الكدر، فالبناء إلى النقض، والجمع ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 119. (¬2) المرجع السابق، ص 119. (¬3) المرجع السابق، ص 120. (¬4) سورة الطلاق، الآية 3. (¬5) سورة الفرقان، الآية 2.

إلى التفرق، ومن رام بقاء ما لا ينبغي، كان كمن رام وجود ما لا يوجد، فلا ينبغي أن يطلب من الدنيا ما لم توضع عليه، كما قال الشاعر: طُبِعَت عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُها ... صَفْوًا من الإِيذاءِ والأكدارِ" (¬1) فإذا أدرك حقيقة الدنيا والهدف من وجودنا، خفف من تعلقه بها، فذهب همه وغمه. 4 - تصور حوادث الزمان بصورةٍ مبالغ فيها: ومن العلاج أيضًا لقطع دابر الغم والهم أن يبالغ في تصور حوادث الزمان حتى إذا نزلت هانت عليه، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ثم يتصور ما نزل به مضاعفًا، فيهون عليه حينئذ ما هو فيه، ومن عادة الحمّال الحازم أن يترك فوق حمله شيئًا ثقيلًا، ثم يمشي خطواتٍ، ثم يرمي به فيخفُّ الأمر عنه، ثم ليرتقبْ زمن العافية هجوم البلاء، وليتخيل كما يتصور نزوله نازلًا. فإذا نزل بعض ذلك، كان ربحًا مثل أن يتصور أن يؤخذ ماله كله، فإذا أخذ البعض عد الباقي غنيمةً، ويتصور أن يعمى، فإذا رمد سهل الأمر، وكذلك جميع المضرات" (¬2). فإذا تدرج المرء في الأخذ بهذا العلاج، خفت حدة الغم والهم على حظوظ الدنيا. 5 - معالجة المزاج السوداوي: بيَّن ابن الجوزي أن الحزن والغمّ والهمّ قد يحدث من غلبة المزاج السوداوي، وهو الذي يميز صاحبه بأنه "شخص ضعيف ونحيل القوام، يتميز سلوكه بالانطواء والكآبة والتشاؤم وبطء التفكير وصعوبة التعامل مع الآخرين" (¬3)، وعلاجه كما يرى ابن الجوزي: "بما يزيل السوداء ¬

_ (¬1) المرجع السابق. اللطائف والطب الروحاني. ص 120. (¬2) المرجع السابق، ص 120. (¬3) مرجع سابق، محمد، محمد، محمود. علم النفس المعاصر في ضوء الإسلام. ص 369.

بالمفرحات" (¬1)، والمقصود بالمفرحات، كل ما يجلب الفرح والسرور، والهدوء والاطمئنان في نفس المكتئب حتى يعيش مسرورًا متفائلًا مقبلًا على الحياة. 6 - النهي عن الإفراط في الغم أو السرور: وقد حذَّر ابن الجوزي من الإفراط في الغم أو السرور، بسبب ضررهما على النفس البشرية فقال: "والغم يجمد الدم، والسرور يلهب الدم حتى تعلو حرارته الغريزية، وهما جميعًا يضرّان، وربما قتلا إن لم يعجل تفتيرهما" (¬2). لذلك استعاذ رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - من الغمِّ والهمِّ، ونهى عن كثرة الضحك، وكان أكثر ضحكه - صلى الله عليه وسلم - تبسمًا, كذلك أمر الله تعالى بالاعتدال في الهم والسرور لقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬3). 6 - حقيقة انفعال الفرح وعلاجه يشعر الإنسان بانفعال الفرح أو السرور، إذا حصل على ما يحب من مالٍ أو جاهٍ أو نفوذٍ أو علمٍ أو إيمانٍ أو تقوى. وعلى ذلك فالفرح أمر نسبي يتوقف على هدف الإنسان في الحياة، فإذا كان يحب المال فإنه يفرح بعد جمعه، وإن كان يحب الجاه والسلطان وفاز به، كان هذا سببًا لفرحه وسروره، وإن كان يحب أن يكون مؤمنًا تقيًّا، فإنه يجد السعادة والسرور في تمسكه بدينه ومرضاة ربه .. وهكذا. حقيقة الفرح: ولمزيد من الدقة نذكر أن الفرح في اللغة: "نقيض الحزن، وقال ثعلب: هو أن يجد في قلبه خفةً" (¬4). والفرح قد يكون مذمومًا وقد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 121. (¬2) المرجع السابق، ص 121. (¬3) سورة الحديد، الآيتان 22 - 23. (¬4) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثاني، ص 541.

يكون ممدوحًا، فأما المذموم حسب المعنى اللغوي، ما جاء معناه: الفرح: "البطر. وقوله تعالى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (¬1)، قال الزجَّاج: معناه، والله أعلم: لا تفرح بكثرة المال في الدنيا لأن الذي يفرح بالمال يصرفه في غير أمر الآخرة، وقيل: لا تفرح لا تأشر، والمعنيان متقاربان لأنه إذا سُرَّ ربما أشر" (¬2)، وقد قال الله تعالى في الفرح بمتاع الدنيا: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (¬3). أما الفرع المحمود في المعنى اللغوي، فهو كما جاء "في حديث التوبة: للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدهِ. الفرح ههنا وفي أمثاله كناية عن الرضا وسرعة القبول وحسن الجزاء لتعذر إطلاق ظاهر الفرح على الله تعالى" (¬4). وقد وردت الآيات القرآنية الكريمة لتؤكد حسن هذا الفرح المحمود كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬5). وقوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (¬6). والفرح كغيره من الانفعالات التي إذا قلت أو زادت ضرت الإنسان، لذلك ينبغي الاعتدال فيها، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "إذا اشتدَّ الفرح التهب الدم، وذلك يضرّ، وربما قتل إن لم يعدل" (¬7)، ولاسيما إذا كان الباعث على الفرح متعة من متاع الدنيا، فإذا فقدها تملكه الحزن وانتابه اليأس، وقد صوره القرآن الكريم بقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} (¬8). ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية 76. (¬2) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثاني، ص 541. (¬3) سورة الرعد، الآية 26. (¬4) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثاني، ص 541. (¬5) سورة يونس، الآيتان 57 - 58. (¬6) سورة الإنسان، الآية 11. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 125. (¬8) سورة هود، الآيتان 9 - 10.

ولا يكون الفرِح إلا من فضل الله ورحمته، لقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). علاج الفرح الضار: يمكن تلخيص أهم معالجات ابن الجوزي للفرح الضارّ في الأمور الآتية: 1 - أسلوب التدرج عند الأخذ بأسباب الفرح: بيَّن ابن الجوزي أنه لابد من التدرج في الأخذ بأسباب الفرح حتى لا يتأذَّى الإنسان، لأن المبدأ الإسلامي مبني على ذلك، وعلى اجتناب الإفراط أو التفريط في جميع أمورنا ومنها الانفعالات، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وينبغي للإنسان إذا رأى أسباب الفرح أن يدرج نفسه إليه، فإن يوسف -عليه السلام- لما التقى بأخيه سأله هل لك من أبٍ؟ ولم يزل يلاطفه لئلا يفجأه بالسبب المفرِح، والفرح ينبغي أن يكون بمقدار ليعدل الحزن، فإذا ما أفرط فإنه دليل على الغفلة القوية، إذ لا وجه للفرح عند العاقل، فإنما يفرح بالطبع لما يُفرِحُ، ثم يذكر مصيره وخوف مآله، فينمحي ذلك الفرح، ومتى قويت غفلة الفرح حملت إلى الأشر والبطر، ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (¬2). يعني: الأشرين الذين خرجوا بالفرح إلى البطر" (¬3). 2 - التفكر في الذنوب ومصير الإنسان يخفف من الفرح الضارّ: وحتى لا يصل الإنسان بفرحه إلى مرحلة البطش والتجبر، عليه أن يضبط انفعاله ويتفكر فيها مضى من ذنوبه ومعاصيه، وما سيواجهه من مصاعب وشدائد، فيكون ذلك سببًا في حزنه بدلًا من فرحه الشديد الذي قد يطغيه، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وعلاج شدة الفرح بالفكر فيما قد سلف من الذنوب، وفيما سيأتيه من الشدائد" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية 58. (¬2) سورة القصص، الآية 76. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 125 - 126. (¬4) المرجع السابق، ص 126.

7 - انفعال الخوف والحذر من الموت وعلاجه إن الخوف من الانفعالات التي تبعد الإنسان عن المخاطر إذا كانت معتدلةً، وتضره إذا زادت على حدها الطبيعي، وتؤدي به إلى التخاذل والإحباط. حقيقة الخوف: وقد عرَّف الإمام الغزالي الخوف بأنه: "عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروهٍ في الاستقبال" (¬1). وقد بيَّن ابن مسكويه أن الخوف "يعرض من توقع مكروه وانتظار محذور، والتوقع والانتظار إنما يكونان للحوادث في الزمان المستقبل" (¬2). وقد عرَّفه ابن الجوزي بقوله: "الخوف والحذر إنما هما للمستقبل، والحازم من أعد للخوف عدته قبل وقوعه، ونفي فضول الخوف مما لابد منه، إذ لا ينفعه خوفه منه" (¬3). علاج الخوف: والخوف أمر فطري من طبيعة النفس البشرية، تعددت أنواعه، واختلفت طرق معالجته. فهناك خوف من أمور الدنيا .. مثل الخوف من الفقر أو الموت أو المستقبل. أو الخوف من أذى الناس والمرض والمجهول، والخوف الآخر هو الخوف من الله تعالى، ويكون ذلك بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. أ - علاج الخوف على الرزق وقد عالجت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كل مخاوف البشر الزائفة، لأنه لا فائدة منها، ولا تغير شيئًا من واقع الإنسان، وإنما هي تبديد للطاقة وتدمير للكيان وضياع للنفوس من دون نتيجة. فجاءت الآيات لتحوّل الخوف على الرزق إلى إيمان يقيني بالرازق: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الغزالي. إحياء علوم الدين. الجزء الرابع، ص 163. (¬2) مرجع سابق، ابن مسكويه. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق. ص 173. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 121.

الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1)، وتطلع إلى ما عنده من رزقٍ كريم: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} (¬2)، مع سعي دائب وتوكل على الله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬3) وقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬4). وهذا العلاج لم يذكره ابن الجوزي. ب - علاج الخوف من الموت: ثم حررته من الخوف من الموت، وأنه بيد الله وحده جلت قدرته: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} (¬5)، وأنه حق على كل إنسان {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬6)، في اليوم الذي حدده الله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (¬7)، وأن الحذر لا يمنع القدر: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (¬8)، فإذا أدرك الإنسان هذه الحقائق وتدبرها، فإن خوفه من الموت سيتحول إلى عمل دائم لمرضاة الله تعالى، واستعدادٍ مستمر للتزود بما ينفعه بعد موته. وبعد هذا العرض السريع للخوف .. يمكن توضيح وجهة نظر ابن الجوزي في معالجة الخوف في الأمور الآتية: 1 - عدم تذكر الموت باستمرار يقول ابن الجوزي: "فأما الخوف من الموت والفكر فيه، فإنه لا سبيل إلى دفعه عن النفس، وإنما يخفف الأمر العلم بأنه لابد منه، فلا يفيد الحذر إلا زيادةً على المحذور وكلما تصورت شدته كانت كل تصويرة موتًا، فليصرف الإنسان فكره عن تصور الموت ليكون ميتًا مرةً ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية 58. (¬2) سورة العنكبوت، الآية 17. (¬3) سورة الملك، الآية 15. (¬4) سورة الذاريات، الآية 22. (¬5) سورة ق، الآية 43. (¬6) سورة آل عمران، الآية 185. (¬7) سورة المنافقون، الآية 11. (¬8) سورة النساء، الآية 78.

واحدة لا مرات. ويكون صرف الفكر ربحًا، وليعلم أن الله تعالى قادر على تهوينه إذا شاء، وليوقن بأن ما بعده أخوف منه، لأن الموت قنطرة إلى منزل إقامة، وإنما ينبغى للإنسان أن يكثر من ذكر الموت ليعمل له، لا لنفس تصويره وتمثيله" (¬1). 2 - الثبات والصبر عند نزول الموت وما يجب على الإنسان فعله: فإذا تدبر في حقيقة الموت وأهمية العمل له، ثم نزل به الموت، فعليه بالثبات والصبر والسداد، لأنها "ساعة تحتاج إلى معاناةٍ صعبةٍ، لأن صورتها ألم محض، وفراق المحبوبات، ثم ينضم إلى ذلك هول السكرات، والخوف من المآل، ويأتي الشيطان فيسخط العبد على ربه ويقول: انظر في أي شيء ألقاك، وما الذي قضى عليك به، وكيف يؤلمك، وها أنت تفارق ولدك وأهلك وتُلقَى بين أطباق الثرى، فربما أسخطه على ربه وكرّه قضاء الله تعالى إليه، وأنطقه بكلامٍ يتضمن نوع اعتراض، وربما حسَّن إليه الجور في الوصية، وأن يزوي لبعض الورثة، إلى غير ذلك من المحن، فتتعيَّن حينئذ الحاجة إلى معالجة إبليس ومعالجة النفس" (¬2). وهنا يلفت ابن الجوزي النظر إلى أهمية الخوف ساعة نزول الموت ساعة الاحتضار، والاستعداد لمواجهته بمعالجة النفس البشرية ومحاربة الشيطان وكيده، فينبغي معالجة النفس البشرية قبل الموت وذلك بتحري مرضاة الله تعالى في جميع أقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة، واتباع شرعه وتطبيقه سنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليضع في حسبانه -كما ذكر ابن الجوزي-: "أن من حفظ الله في صحته حفظ الله في مرضه، ومن راقب الله في خطراته حرسه الله عند حركات جوارحه" (¬3)، وقد استشهد ابن الجوزي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "احفظ اللهَ تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" (¬4). ثم ذكر ابن الجوزي كيفية علاج النفس عند الاحتضار فقال: "فينبغي أن تشجع النفس وتقول لها: إنما هي ساعة ثم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 121 - 122. (¬2) المرجع السابق، ص 122. (¬3) المرجع السابق، ص 123. (¬4) المرجع السابق، ص 123.

أرجو كمال الراحة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة -رضي الله عنها-: لا كرب على أبيك بعد اليوم، ودعى أبو بكر بن عباس عند الموت إلى الرجاء، فقال كيف لا أرجوه وقد صمت له ثمانين رمضان. وقال المعتمر بن سليمان: قال لي أبي: يا بني اقرأ عليّ أحاديث الرخص لعلي ألقى الله وأنا حسن الظن به. فينبغي للمؤمن أن يرمي صوت الخوف ويحدو الناقة. . . ." (¬1). وهنا يحث ابن الجوزي على تغليب الرجاء على الخوف في هذا الموقف العصيب ساعة الاحتضار، وقد استشهد بقول الفضيل بن عياض: "الخوف أفضل من الرجاء، فإذا أنزل الموت فالرجاء أفضل" (¬2). 3 - تحسين الأعمال الصالحة: ثم ليتأكد أن أعمال الإنسان الصالحة تنقذه في شدته مصداقًا لقصة يونس -عليه السلام- في قول الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬3)، وأن أعمال الإنسان السيئة تكون وزرًا عليه كما في قصة فرعون: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (¬4). 4 - الإكثار من الاستعاذة من الشيطان: وعلى المرء عند معالجته للنفس البشرية في ساعة الاحتضار، أن يكثر من الاستعاذة من الشيطان، لأن الشيطان في تلك الساعة يقول لأعوانه: "إن فاتكم فلان الآن لم تقدروا عليه أبدًا" (¬5) وصيغة الاستعاذة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت" (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 123. (¬2) المرجع السابق، ص 124. (¬3) سورة الصافات، الآيتان 143 - 144. (¬4) سورة يونس، الآية 91. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 123. (¬6) مرجع سابق، الأزدي أبو داود, سليمان بن الأشعث. سنن أبي داود. (تحقيق) عبد الحميد، محمد، محيي الدين، الجزء الثاني، ص 92، كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة، حديث رقم 1552.

5 - إحسان الظن بالله تعالى كذلك على المرء في لحظة موته أن يحسن الظن بالله تعالى حتى لا يغويه الشيطان، وقد استشهد ابن الجوزي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: "لا يَموتنَّ أحدُكم إلا وهو يحسن بالله الظن" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله -عز وجل- أنا عند ظنِ عبدي بي" (¬2). جـ - علاج الخوف من المستقبل حرر الله تعالى الإنسان من الخوف من المستقبل، لأن المستقبل غيب لا يعلمه إلا الله -عز وجل-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬3)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬4). كما حررِه من الخوف من أذي الناس لقول الله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬5). وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬6)، وهذا العلاج لم يذكره ابن الجوزي ولكن ذكرته الباحثة لتوفي الموضوع حقه. د - علاج الخوف من المرض: كذلك حرره من الخوف من نزول المرض به، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ولا ينبغي للعاقل أن يشتد خوفه من نزول المرض، فإنه نازل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2205، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، حديث رقم (81 - 2877). (¬2) المرجع السابق، الجزء الرابع، ص 2061، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث رقم (2 - 2675). (¬3) سورة الأنعام، الآية 59. (¬4) سورة الحجرات، الآية 18. (¬5) سورة الأعراف، الآية 188. (¬6) سورة التوبة، الآية 51.

لابدّ، وخوف ما لابدّ أن يأتي زيادة أذى" (¬1)، وإنما على الإنسان أن يعلم، أن نزول المرض يكفّر الذنوب، لأن رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "دخلَ على أمِّ السائبِ أو على أم المسيَّب فقال: مالك؟ يا أم السائب أو المسيب تزفزفين؟ قالت: الحمى لا باركَ اللهُ فيها. فقال: لا تسبى الحمى. فإنها تذهبُ خطايا بني آدم كما يُذهبُ الكيرُ خبثَ الحديدِ" (¬2). وقوله - صلي الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يصيبهُ أذى من مرضٍ فما سواه إلا حطَّ اللهُ به سيئاتهِ كما تحُطُّ الشجرَة ورقَها" (¬3). ولا يقتصر الأجر على المريض بل يتعداه إلى زائر المريض لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عادَ مريضًا لم يزل في خرفةِ الجنةِ [وفي رواية حتى يرجع]. قيل: يا رسول الله وما خُرفةُ الجنةِ؟ قال: جناها" (¬4). وهكذا حرر المنهج التربوي الإسلامي الإنسان من كل المخاوف البشرية، لأنها مستمدة من قوى بشرية ضعيفة لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا، يطلقها لتواجه الحياة وهي قوية عزيزة، مؤمنة مطمئنة إلى قدر الله. ثم ليوجهها نحو الخوف الحقيقي من مالك كل شيء، وبيده الأمر كله، فعلى ذلك، ينبغي أن يكون الخوف من الله ومما يخوف به الله. قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬5). وقد اعتبر الإمام الغزالي الخوف من الله من الخوف المحمود، لأنه "سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى" (¬6). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 121. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري، أبو الحسين، مسلم بن الحجاج. صحيح مسلم. (تحقيق) عبد الباقي، محمد، فؤاد، الجزء الرابع، ص 1993، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها، حديث رقم 4575. (¬3) المرجع السابق، ص 1991، حديث رقم 2571. (¬4) المرجع السابق، الجزء الرابع، ص 1989، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، حديث رقم 42. (¬5) سورة آل عمران، الآية 175. (¬6) مرجع سابق، الغزالي. إحياء علوم الدين. الجزء الرابع، ص 165.

وعمومًا فإن الخوف المطلوب هو الذي يربِّي النَّفس البشرية على كف الجوارح عن المعاصي والآثام، وتقييدها بالطاعات، وهذا الخوف هو الذى يجعل الإنسان مجاهدًا لنفسه ضابطًا لشهواته، متحكمًا في دوافعهِ بطريقة ترضي الله تعالى، فينال ثوابه الجزيل، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬1). وحتى يتمكن الإنسان من مجاهدة نفسه، وضبط دوافعه، وكف جوارحه من خلال خوفه من الله تعالى، فقد حدد الفقيه السمرقندي سبعة أمور لعلاج الخوف إلا من الله -عز وجل-، تتلخص في الآتي: الأول: "يتبيَّن في لسانه، فيمتنع لسانه من الكذب والغيبة وكلام الفضول، ويجعل لسانه مشغولًا بذكر الله وتلاوة القرآن ومذاكرة العلم. والثاني: أن يخاف في أمر بطنه، فلا يدخل بطنه إلا طيبًا حلالًا، ويأكل من الحلال مقدار حاجته. والثالث: أن يخاف في أمر بصره، فلا ينظر إلى الحرام، ولا إلى الدنيا بعين الرغبة وإنما يكون نظره على وجه العبرة. والرابع: أن يخاف في أمر يده، فلا يمد يده إلى الحرام وإنما يمد يده إلى ما فيه طاعة الله -عز وجل-. والخامس: أن يخاف في أمر قدميه فلا يمشي في معصية الله. والسادس: أن يخاف في أمر قلبه، فيخرج منه العداوة والبغضاء وحسد الإخوان، ويدخل فيه النصيحة والشفقة للمسلمين. والسابع: أن يكون خائفًا في أمر طاعته فيجعل طاعته خالصةً لوجه الله، ويخاف الرياء والنفاق، فإذا فعل ذلك فهو من الذين قال الله فيهم (¬2): {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النازعات، الآيتان 40 - 41. (¬2) السمرقندي، نصر بن محمد بن إبراهيم. تنبيه الغافلين. (تحقيق) الوكيل، عبد العزيز، محمد، جدة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، 1407 هـ -1986 م، الجزء الثاني، ص 420 - 421. (¬3) سورة الزخرف، الآية 35.

د - العواطف: حقيقتها: لقد وردت تعريفات عدة حول ماهيّة العاطفة، سنذكر بعضًا منها، فقد عزفها بعض الدارسين: "بأنها تنظيم مركب من انفعالاتٍ عدة ركزت حول موضوع معين، وصوحبت بنوع من الخبرات السَّارة أو المؤلمة. وعرّفها بعض الدارسين: "بأنها استعداد مكتسب ناتج من تنظيم النواحي الانفعالية والنزوعية نحو موضوعٍ معين" (¬1). أما ابن الجوزي فلم يعرف العاطفة ولم يوضح أنواعها كالكره والنفور أو الرهبة والخوف، ولكنه اقتصر على بيان عاطفة العشق وما يتعلق بها، بحيث أفرد لها كتابًا مستقلًا أسماه "ذم الهوى" جمع فيه بين الحب وأخباره الحقيقية والنادرة، دفعته غيرة المؤمن إلى بيان الحق والضلال في هذا الموضوع. وسنناقش هذا الموضوع بإيجاز مفيد تقتضيه طبيعة البحث، بدلًا من تفصيل يحتاج إلى بحث مستقل. 1 - حقيقة العشق لقد عرف الأوائل والإسلاميون والمحدثون معنى العشق بعدة تعريفات. وسأورد أولًا معناه اللغوي: فقد جاء في لسان العرب: "العشقُ: فرطُ الحب، وقيل: هو عجبُ المحبُ بالمحبوبِ يكون في عفافِ الحب ودعارتهِ؛ عَشِقَه يعشَقُه وعشقًا وتعشقه، وقيل: التعشقُ تكلَّفُ العشَقِ، وقيل: العِشقُ الاسم والعشَقَ المصدر" (¬2). وقد أورد ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى، ماهية العشق وحقيقته عند الأوائل، فذكر تعريف أفلاطون وهو: "العشق حركة النفس الفارغة بغير فكرة". وقال فيثاغورس: "العشق طمع يتولد في القلب، ويتحرك ¬

_ (¬1) مرجع سابق، محمد، محمد، محمود. علم النفس المعاصر في ضوء الإسلام. ص 191 - 192. (¬2) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد العاشر، ص 251.

وينمى، ثم يتربى ويجتمع إليه مواد من الحرص، فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج، والتمادي في الطمع، والفكر في الأماني، والحرص على الطلب، حتى يؤديه ذلك إلى الغم والقلق". وقد عرَّفه الأصمعي بقوله: "إذا تقادحت الأخلاق المتشاكلة وتمازجت الأرواح المتشابهة، ألهبت لمع نور ساطع، يستضيء به العقل وتهتز لإشراقه طباع الحياة، ويتصور من ذلك النور خلق خاص بالنفس متصل بجوهريتها، يسمى العشق". أما ابن الجوزي فقد عرفه بقوله: "إن العشق شدة ميل النفس إلى صورة تلائم طبعها، فإذا قوى فكرُها فيها تصورت حصولها وتمنت ذلك، فيتجدد من شدة الفكر مرض" (¬1). 2 - أسباب العشق: وقد استخلص ابن الجوزي من مجموع هذه التعاريف وغيرها، أسباب العشق فقال: "سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها، فتستحسنه وتميل إليه، وأكثر أسباب المصادفة النظر، ولا يكون ذلك باللمح بل بالتثبت في النظر ومعاودته، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس ورامت القرب منه، ثم تمنت الاستمتاع به، فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضرًا، وشغلها كله به، فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى، وكلما قويت الشهوة البدنية قوي الفكر في ذلك" (¬2). 3 - علاج العشق: لقد اعتبر ابن الجوزي العشق مرضًا من الأمراض القلبية، التي تأتي من مداومة النظر، ومن شباب الإنسان وشهوته، وهو بذلك يخالف من رد أسباب العشق إلى السمع وذكر محاسن المحبوب. وفي ذلك يقول: "من احتمى عن التخليط بغضّ البصر وكفّ النظر سلم من هذا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 289 - 290، 292 - 293. (¬2) المرجع السابق، ص 296.

المرض .. ومجرد النظر إلى المستحسن لا يكاد يوجب العشق، وإنما يزداد به تحصيله ويعينه قوة الطمع، فيساعده الشباب والشهوة" (¬1). وتتلخص معالجات ابن الجوزي للعشق في الأمور الآتية: 1 - غضّ البصر: وحتى يقي المرء نفسه من هذا المرض فعليه بغضّ البصر، مصداقًا لقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (¬2). 2 - استشعار خوف الله واحتساب أجره: على المرء أن يقدم خوف الله تعالى بين يديه، ويحتسب أجر الخائف، كما ورد في حديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "سبعةٌ يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلُّه -ذكر منهم- ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله" (¬3). وهذا ما أكده ابن الجوزي في قوله: "فمن أراد العلاج فليبادر به قبل أن يستحكم المرض وذلك بقطع السبب والصبر في ذلك على المضض، فإن اليأس أعظم دواءٍ، وأقوى معينٍ على ذلك خوف الله تعالى" (¬4). 3 - زجر النفس وتذكر عيوب المحبوب: ومن العلاج أيضًا قال ابن الجوزي: "زجر النفس الأبية عن مواقف الذلّ وتذكر عيوب المحبوب الباطنة، كما قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكرْ مثالبَها (معايبها) " (¬5). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 97. (¬2) سورة النور، الآيتان 30 - 31. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح البارى بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث، ص 293، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، حديث رقم 1423. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 97. (¬5) المرجع السابق، ص 97.

4 - الاستعفاف بالنكاح: يحث ابن الجوزي العاشق على المسارعة إلى إعفاف نفسه بأحد العلاجين، أولهما أن يتزوج المحب من يحبُّها متى كان هذا مقدورًا عليه ومباحًا، وقد أشار إلى ذلك بقوله "ومتى كان المحبوب مقدورًا عليه مباحًا كان الجمع بينهما أعظم الدواء" (¬1)، وذلك مصداق لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -وإن لم يستشهد به ابن الجوزي- " لمْ يُرَ للمُتحابَّينِ مثلُ النِّكاح" (¬2). والعلاج الثاني: إعفاف نفسه بالزوجة الصالحة، وفي ذلك يقول: "وإلا فالنكاح في الجملة يخفف المرض" (¬3). 5 - أمور مساعدة للعلاج: إذا أخذ المرء نفسه بالأمور السابقة، ولم يتخلص من داء العشق أو يخفف منه، فإن ابن الجوزي يرشده إلى أمورٍ أخرى مساعدةٍ للتخلص من مرض العشق، وهي كما قال: "واستجداد الزوجات واستحداث الجواري وطول السفر والتفكر في خيانة المحبوب وتجنّيه، والنظر في كتب الزهد، وذكر الموت وعيادة المرضى وزيارة القبور، ثم يتفكر في وجود غرضه وانقضائه، وسآمته مع الزمان، وتغير الخلق، وليتصفح العِبَر في نفسه وغيره، فلعل غيره يأخذ بيده فينتاشه (¬4) من هذه الهوة ويجتذبه من هذه الورطة" (¬5). وقد ذكر ابن الجوزي طائفة وأنواعًا من العلاج ولم يكتف بعلاج واحد, فالإنسان إذا عزم على اختيار ما يناسبه منها، فإنه لا شك سيتخلص من جميع أمراضه النفسية والقلبية التي تشغله عن طاعة الله ومرضاته. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 97. (¬2) الألباني، محمد، ناصر الدين. صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). بيروت، المكتب الإِسلامي، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م، المجلد الثاني، ص 923، حديث رقم 5200. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 97. (¬4) معنى فينتاشه: أي ينقذه. (¬5) المرجع السابق، ص 97.

خامسا: أسباب الانغماس في الشهوات

خامسًا: أسباب الانغماس في الشهوات إن الانغماس في الشهوات، يشتت فكر الإِنسان، ويبدد طاقاته، ويقتل ملكاته، وقد أوجز ابن الجوزي أسباب الانغماس في الشهوات في أمرين: أولهما: "أن تطاع النفس في طلب كل شيءٍ تشتهيه وذلك لا يوقف على حدٍ فيه، فيذهب الدين والدنيا ولا يُنال كل المراد. مثل أن تكون الهمة في المستحسنات أو في جمع المال أو في طلب الرياسة وما يشبه هذه الأشياء" (¬1). من المعروف أن النفس البشرية جُبلت على حب الشهوات، وقد جاء المنهج التربوي الإسلامي لتهذيب هذه الشهوات والإعلاء منها، بطريقةٍ معتدلةٍ متوازنةٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ وفي حدود ما أباحه الله تعالى، ولكن انحراف الإنسان عن تطبيق المنهج الصحيح في إشباع الشهوات، والإفراط والطاعة في إشباع هذه الشهوات دون قيودٍ وحدود، يضر الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2). لذلك لابد من ضبط الدوافع والشهوات بالضوابط الشرعية الملائمة لفطرة الإِنسان، مع الاعتدال في إشباع المباحات، والتقليل من كماليات الدنيا. أما الأمر الثاني: فهو "مخالطة الناس خصوصًا العوام، والمشي في الأسواق، فإن الطبع يتقاضى بالشهوات، وينسى الرحيل عن الدنيا، ويحب الكسل عن الطاعة والبطالة والغفلة والراحة. فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم أو بالعبادة، ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة وتضيع الساعات في غير شيء" (¬3). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 395. (¬2) سورة المنافقون، الآية 9. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 395.

سادسا: طرق توجيه النفس البشرية وتهذيبها

والمقصود من هذ العبارة مجالسة الصالحين والابتعاد عن مجالس الدنيا وأهلها، وذلك لتأثير الصحبة الصالحة والصحبة الشريرة في النفس، وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا فقال: "مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة. ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة" (¬1). لذلك فإن مصاحبة الإِنسان لإِنسانٍ آخر تنحصر اهتماماته في متاع الدنيا، واللهو واللعب وقضاء الوقت فيما لا يفيد، تشغل النفس البشرية بالمعاصي والذنوب التي تجرها هذه الأمور، لأنها لم تقيد بالقيود والضوابط الشرعية الصحيحة، لذلك نهى القرآن الكريم عن مصاحبة قرناء السوء، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬2)، ورغَّب في صحبة الأخيار ومجالستهم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬3)، وذلك لأن في مصاحبتهم أثرًا واضحًا في تهذيب الأخلاق، وسلامة القلب، ونقاء السريرة، وطلب العلوم ونشرها بين الناس. إن السببين اللذين ذكرهما ابن الجوزي: وهما: طاعة النفس لإشباعها بما تشتهيه، ومصاحبة أهل الدنيا وما تجلبه من معاصي عليهم، يؤكدان أهمية تدريب النفس البشرية وتربيتها على الاعتدال في إشباع الشهوات، وضبطها بالضوابط الإِسلامية الصحيحة، مع أهمية وجود القدوة أو الصحبة الصالحة للفرد لتساعده وتعينه على مجاهدة نفسه، والأخذ بيده بالرفق والمودة والمحبة، لتصحيح مسار شهواته، وجعل دوافعه وسائل مقويةً على طاعة الله تعالى ورضاه. سادسًا: طرق توجيه النفس البشرية وتهذيبها إن طبيعة النفس البشرية هي طبيعة مزدوجة فيها الكثير من ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع، ص 660، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، حديث رقم 5534. (¬2) سورة الكهف، الآية 28. (¬3) سورة الكهف، الآية 28.

الشهوات والدوافع والعواطف المتباينة، وقد قال فيها ابن الجوزي: "رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائدًا في المقدار حتى إنها إذا مالت مالت بالقلب والعقل والذهن" (¬1). ومن هنا وجب معرفة ما يصلحها ويهذبها بطريقة تتناسب مع وظيفة الإِنسان الأساسية في الحياة وهي عمارة الأرض بحيث لا تطمس الشهواتَ قلبه وعقله عن إدراك الغاية من وجوده في الحياة .. وهي العبودية المطلقة لله تعالى بجميع مستوياتها، وفي الوقت نفسه يستمتع الإِنسان بطيبات الحياة الدنيا ما دامت في دائرة المباح وضمن الحدود والضوابط الشرعية، مبتغيًا من وراء ذلك الأجر من الله -عز وجل-. وقد وضح ابن الجوزي طرق توجيه النفس البشرية وتهذيبها في ثلاث موجهات أساسية هي: الأول: مراعاة الطبائع والميول البشرية المختلفة. الثاني: إشباع الحاجات الأساسية باعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ، ومجانبة إغراء الشيطان وتضليلاته في ذلك. الثالث: قيادة النفس البشرية بعقليةٍ مؤمنة حكيمةٍ. الأول: مراعاة الطبائع والميول البشرية المختلفة: لقد وضح ابن الجوزي أن هناك فروقًا فرديةً بين الناس واختلافاتٍ جوهريةً في إشباع الشهوات وفي ذلك يقول: "الطباع لا تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو" (¬2). لذلك لابد من مراعاة هذا الاختلاف عند تهذيب النفس البشرية بما يناسبها حسب قدراتها واستعداداتها هي، وليس وفقًا لقدرات غيرها من البشر، حتى لا يؤدي ذلك إلى هلاك النفس، وتبديد طاقاتها، وتدمير كيانها. ومراعاةً لهذه الاختلافات في الطبيعة الإنسانية التي خلقها الله ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 57. (¬2) المرجع السابق، ص 96.

تعالى، فقد جعل لها ضابطًا من الشرع فيه الرخصة (¬1) والعزيمة (¬2) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يحبُ أن تؤتى رخصُه، كما يكرهُ أن تؤتى معصيتُه" (¬3). وما خُيِّر رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا كما أنه جعل من العلم والمعرف بحقائق وأحكام الشريعة الإسلامية خير مرشد ومقوَّم للنفس البشرية، لأن الجهل بالشريعة ومقاصدها، يدفع المرء إلى سوء الفهم والتطبيق فيعتقد أن تهذيب النفس في تعذيبها وإذلالها بمنعها من حاجاتها الفطرية الأساسية الضرورية لبقاء الإِنسان، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "غير أن لنا ضابطًا هو الشرع، فيه الرخصة وفيه العزيمة، فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط. وربُ رخصةٍ كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها. ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى، فتَنْبَتُ القلوب من خوفه، وتنحل الأجسام للحذر منه، فوجب التلطف بالأجسام حفظًا لقوة الراحلة. ولأن آلة العلم والحفظ. القلب والفكر، فإذا رُفِّهت الآلة جاد العمل، وهذا أمر لا يُعلم إلا بالعلم. فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا. وظنّوا أن المراد إتعاب الأبدان، وإنضاء الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومةٍ، كما قال القائل: "روحوا القلوب تعيِ الذكر" (¬4). لذلك ينبغي الأخذ بالرخصة والعزيمة معًا. الثاني: إشباع الحاجات الأساسية باعتدالٍ دون إفراطٍ أو تفريطٍ، ¬

_ (¬1) معنى الرخصة: "في اللغة: اليسر والسهولة، وفي الشريعة: اسم لما شرع متعلقًا بالعوارض أي ما استبيح بعذرٍ مع قيام الدليل المحرم، وقيل: هي ما بُني أعذار العباد عليه". مرجع سابق، الجرجاني. كتاب التعريفات (حققه وقدم له ووضع فهارسه) الأبياري، إبراهيم، ص 147. (¬2) معنى العزيمة: "في اللغة: عبارة عن الإرادة المؤكدة، قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي يكن له قصد مؤكد في الفعل بما أُمر به، وفي الشريعة: اسم لما هو أصل المشروعات، غير متعلق بالعوارض". المرجع السابق، ص 194. (¬3) ابن حنبل، أحمد. المسند وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. بيروت، المكتب الإِسلامي، الطبعة الخامسة، 1405 هـ - 1985 م، الجزء الثاني، ص 108. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 96.

ومجانبة إغراء الشيطان وتضليلاته في ذلك: لقد ناقش ابن الجوزي تهذيب النفس البشرية من جانبين قد يخفى على الإِنسان المسلم، أنهما سبب هلاكه، بسبب جهله وسوء فهمه للمعنى الحقيقي من مجاهدة النفس التي تهدف إلى إشباع حاجات الإِنسان الفطرية، بطريقةٍ معتدلةٍ تساعده في أداء مهمة الخلافة الأرضية، ذلك "أنه لا يكبت رغائبها فيقتل حيويتها، ويبدد طاقتها، ويشتت كيانها. فلا تعمل، ولا تنتج ولا تصلح لعمارة الأرض وترقية الحياة. وفي الوقت ذاته لا يطلق رغائبها بلا ضوابط، لأن ذلك يبدّد طاقتها من جانب آخر، ويبدّدها في نشاط الحيوان وعلى مستوى الحيوان" (¬1). وهذان الجانبان وضحهما ابن الجوزي في قوله: "تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقًا من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين: أحدهما: أنه ربَّ مانع لها شهوةً أعطاها بالمنع أوفى منها. مثل أن يمنعها مباحًا فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح. وأخفى من ذلك أن يرى -بمنعه إياها ما منع- أنه قد فُضِّل عن سواه ممن لم يمنعها ذلك، وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهمٍ يخلّصها" (¬2). وهنا يبين ابن الجوزي أن الفهم الخاطئ لمعنى الزهد ثم لطبيعة النفس البشرية المفطورة على حب الشهوات، قد يؤدي إلى هلاكها، وذلك بمنعها من المتع الدنيوية المباحة، فتستسلم النفس لذلك المنع وهي مكرهة. . . لأن الشيطان يزين للإنسان الباطل، فقد "خُلق الشيطانُ محرضًا له على الإسرافِ في اجتلابهِ واجتنابهِ" (¬3)، حيث صوره على أنه شيء ممدوح من قبل الآخرين وأنه بذلك وصل إلى مرتبةٍ أفضل من غيره، فتصير النفس متأذيةً من هذا المنع الذي حرمها مباحًا وهذا يعتبر ¬

_ (¬1) مرجع سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول، ص 145. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 67. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 23.

مدخلًا من مداخل الشيطان التي يفسد بها على الإِنسان دينه، ويمنع النفس من التمتع بالمباح الذي يقويها على العبادة بمفهومها المطلق. "فحرم فئة على أنفسهم بعض ما أحلّ الله، ظنًّا منهم أن ذلك قربة إلى الله، وكان القائد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسمع هذه التصورات الغريبة عن روح الإسلام، فكان يسدّ ذلك المدخل الشيطاني ويعدل الاعوجاج" (¬1) فهذه قصة ثلاثة رهط جاؤوا "إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحنُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفَر الله له ما تقدّمَ من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا أصلي الليلَ أبدًا، وقال الآخر: أنا أصَومُ الدهرَ ولا أفطرُ، وقال الآخرُ: أنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوجُ أبدًا فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنتم الذين قلتُم كذا وكذا: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأفطرُ وأصلي وأرقدُ وأتزوجُ النساءَ، فمن رغبَ عن سنتي فليس مني" (¬2)، ولنا في رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قدوة حسنة في التمتع بطيبات الدنيا دون إفراطٍ أو تفريطٍ. والوجه الثاني: قال فيه ابن الجوزي: "أننا قد كُلّفنا حفظَها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها، فلابد من إعطائها ما يقيمها وأكثر ذلك أو كلِّه مما تشتهيه. ونحن كالوكلاء في حفظها. لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر" (¬3). وقد أوضح ابن الجوزي أن البعض قد يفهم خطأ أن نفسه ملكه، وهو يعاملها كما يزين له الشيطان، وليس حسب طبيعتها البشرية التي خلقها الله عليها. لذلك لابد من تصحيح هذا الفهم الخاطئ، وهو أن الله تعالى قد جعل نفس الإِنسان وديعةً وأمانةً لديه، وأنه مكلّفَ حفظهَا وصيانتَها ووقايتَها بما يكفَل لها السير الصحيح في الحياة الدنيا، وبما يساعدها على أداء مهمة الخلافة في الأرض، وإذا وضح هذا المفهوم في ¬

_ (¬1) البلالي، عبد الحميد. البيان في مداخل الشيطان. بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1400 - 1980 م، ص 95. (¬2) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع، ص 104، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، حديث رقم 5063. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 67.

الأذهان، استطاع المرء أن يعطيها حاجاتها الفطرية الضرورية دون نقصٍ أو حرمانٍ بغيضٍ. ثم بين ضرر الإفراط أو التفريط في معاملة النفس البشرية بقوله: "ربَّ شدَّ أوجب استرخاء وربَّ مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها" (¬1)، وإنما المطلوب في رياضتها إعطاؤها ما تحتاجه باعتدالٍ واتزانٍ ودون تقتير أو إسرافٍ. الثالث: قيادة النفس البشرية بعقليةٍ مؤمنةٍ حكيمةٍ: لقد ذكر ابن الجوزي نتائج معاملة النفس البشرية بإفراط أو تفريطٍ، وما تركته من آثارٍ سيئةٍ، فقال: "فإن أقوامًا أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا. وإن أقوامًا بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها وأثّرَ ظلمهم لها في تعبداتهم، فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها. ومنهم من أفردها في خلوةٍ أثمرت الوحشة من الناس وآلت إلى ترك فرضٍ أو فضل من عيادة مريضٍ أو بر والدة" (¬2). لذلك لابد أن نعاملها كما نعامل المريض، الذي يتجرع الدواء بما فيه من مرارةٍ من أجل الصحة والعافية، فيقول في ذلك: "وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، ويذوِّب في المرارة قليلًا من الحلاوة، ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب" (¬3). ثم شبه الإِنسان المؤمن الحكيم الخبير بكيفية معاملة النفس البشرية، كالفارس الذي يروض حصانًا شرسًا، وبيده مقوده يحركه كيف يشاء، ثم قال "فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها ولا يهمل مقودها، بل يرخي لها في وقت والطِّولَ بيده، فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها" (¬4). وهو أيضًا في قيادها "كالملِك إذا مازح بعض جنده، فإنه لا ينبسط إليه الغلام، فإن انبسط ذكر هيبة المملكة. فكذلك المحقق يعطيها حظها ويستوفي منها ما ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 67. (¬2) المرجع السابق، ص 141. (¬3) المرجع السابق، ص 67. (¬4) المرجع السابق، ص 67.

عليها" (¬1). فإذا انقادت النفس البشرية، وسهل سلوكها على الطريقة الصحيحة، فقد نجح في تهذيبها، فإن مالت عن الحق والصواب ورغبت في الشهوات، فعليه بمبدأ التدرج، وذلك بأن يردَّها ردًّا جميلًا باللطف واللين، فإن أبت إلا الاستزادة من الشهوات فعليه بالحزم معها حتى يكبح جماحها. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فإذا رآها قد مالت ردها باللطف، فإن واتتْ وآبت، وإلا فبالعنف" (¬2). ثم شبه النفس البشرية بالزوجة العاصية لزوجها، التي استخدم القرآن الكريم معها أساليب عدة لتقويمها وردها عن عصيانها ونشوزها، بالوعظ والنصيحة أولًا ثم بالهجر في الفراش ثانيًا، فإن لم تستقم فبالضرب غير المبرح لقول الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (¬3). وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ويحبسها في مقام المداراة كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة، فهي تُدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم، فبالضرب" (¬4). وقد اعتبر ابن الجوزي الإرادة القوية، والعزيمة الصادقة أفضل مقوَّم ومهذب للنفس البشرية، لأنها تأخذها بالعمل الإيجابي البناء وبالعزيمة الجَادة في الإصلاح. وفي ذلك يقول: "وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم. هذه مجاهدة من حيث العمل" (¬5). ومع هذه الإرادة القوية والعزيمة الصادقة لابد من وجود ضابطٍ حكيمٍ، وموجهٍ قديرٍ، يضبط ويوجه ويكبح جماح النفس الأمارة بالسوء، وليس أفضل من عقلٍ رشيدٍ، وفكرٍ مستقيمٍ، يقوم بهذا الدور القيادي في تهذيب النفس البشرية، وضبط الإنفعالات. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وأعطي الإنسان العقل كالمؤدب يأمره بالعدل فيما يجتَلب ويُجتَنب" (¬6)، "فمن قوي ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 141. (¬2) المرجع السابق، ص 67. (¬3) سورة النساء: الآية 34. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 67. (¬5) المرجع السابق، ص 67. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 23.

سابعا: الآراء التربوية المستخلصة من هذا الفصل

عقله على طبعه وحكم عليه يسلم، ومن غلب طبعه، فيا سرعة هلكته" (¬1). ومما سبق في هذا الفصل .. نجد أن ابن الجوزي، قد أعطى للقارئ تصورًا معقولًا لطبيعة النفس البشرية، لا يتسم بالعمق ولا بالسطحية، مقتبس طبيعتها وخصائصها وصفاتها من الآيات القرآنية والسُّنّة النبوية الشريفة. وهذا واضح من دقة الألفاظ والتعبيرات التي استخدمها في كتابته، معبرًا عن آرائه التربوية. كما أن آراء ابن الجوزي التربوية في هذا المجال، تدل بما لا يدع مجالًا للشك، على عمق ثقافته الإسلامية، وخبرته في معاملة النفس البشرية، وقدرته على توظيف معارفه الإسلامية في خدمة الفكر التربوي الإسلامي. سابعًا: الآراء التربوية المستخلصة من هذا الفصل يتعلق هذا الفصل بآراء ابن الجوزي التربوية في طبيعة النفس البشرية، ومعالجة أمراضها وتوجيه دوافعها، توجيهًا تربويًا مناسبًا، ومن خلال تحليل هذه الآراء، نستخلص هذه الآراء التربوية: 1 - ضرورة معرفة المربي بطبيعة النفس البشرية وخباياها وما فيها من دوافع وميولٍ وانفعالاتٍ وعواطف، حتى يستطيع توجيهها بطريقةٍ صحيحةٍ وعن علمٍ ومعرفةٍ. 2 - أهمية إيضاح الغاية من وجود الإِنسان للتلميذ نفسه، حتى يسهل عليه تحديد أهدافه في الحياة، مستمدًا ذلك من أهداف الإِسلام الكبرى. 3 - الاعتراف بحاجات الجسم والروح والعقل، وضرورة إشباعها بطريقة معتدلةٍ ومتوازنةٍ في ضوء القيم الإِسلامية، بحيث تساعد الإِنسان على تحقيق العبودية لله -عز وجل-، وتحقيق خلافة الإِنسان على وجه الأرض. 4 - الاعتراف بانفعالات الإِنسان وعواطفه وضرورة معرفة الطرق ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 63.

الصحيحة لتهذيبها ومجاهدتها والتسامي بها، حتى يمكن بناء شخصية المسلم. 5 - معرفة الحكمة من وجود الدوافع والانفعالات والعواطف في النفس البشرية، وذلك لجلب الخير ودفع الأذى. 6 - أهمية معرفة الطرق والأساليب المناسبة، لتدريب النفس البشرية على الاعتدال في إشباع الحاجات الفطرية، وتهذيبها بالضوابط الإِسلامية. 7 - مراعاة اختلاف الميول والقدرات بين الناس في حبهم للشهوات، وتفاوتهم في مجاهدتهم وضبطهم لهذه الشهوات. 8 - الأخذ بمبدأ التدرج عند مجاهدة النفس البشرية. 9 - للعقل دور كبير في ضبط الأهواء والشهوات والانفعالات والعواطف، ولاسيما إذا أدرك مقاصد الشريعة الإسلامية، ووُجه توجيهًا سليمًا. 10 - تعميم هذه الحقائق ليعرفها كل من يريد أن يربي نفسه تربيةً ذاتيةً مستمرةً، ومن يريد أن يربي غيره أيضًا. 11 - ضرورة معرفة الإِنسان طرق مقاومة إغراءات وأساليب تضليل الشيطان.

الفصل الثاني رأي ابن الجوزي في مراحل نمو الإنسان

• الفصل الثاني رأي ابن الجوزي في مراحل نموّ الإِنسان أولًا: رأي ابن الجوزي في تقسيم مراحل النمو في ضوء علم النفس ثانيًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الطفولة المبكرة. ثالثًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة البلوغ والشباب. رابعًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الكهولة. خامسًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الشيخوخة. سادسًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الهرم. سابعًا: الآراء التربوية المستخلصة من هذا الفصل.

أولا: رأي ابن الجوزي في تقسيم مراحل النمو في ضوء علم النفس

• الفصل الثاني رأي ابن الجوزي في مراحل نموّ الإنسان أولًا: رأي ابن الجوزي في تقسيم مراحل النمو في ضوء علم النفس ناقشنا في الفصل الأول من هذا الباب، رأي ابن الجوزي في الطبيعة البشرية من جوانب عدة، وفي هذا الفصل سنتابع رأيه في مراحل النمو الإنساني، ثم نقوم بتحليلها وتقويمها من حيث المنظور التربوي الإِسلامي، ومن حيث ما أثبته العلم الحديث وذلك حسب ما تقتضيه الدراسة. وقد قسم ابن الجوزي مراحل النمو الإنساني إلى ست مراحل هي: المرحلة الأولى: تبدأ من حدوث الحمل وتنتهي بالولادة. وهذه المرحلة لم يذكرها ابن الجوزي بصراحةٍ، ولكنه تعرض لذكرها في مواضع مختلفةٍ من مؤلفاته، ستذكر في حينها. أما المراحل الخمس الباقية، فقد أسماها بالمواسم، وهي كما أوردها ابن الجوزي: "الموسم الأول: من وقت الولادة إلى زمن البلوغ. والموسم الثاني: من زمن البلوغ إلى خمسٍ وثلاثين سنةٍ وهي زمن الشباب. والموسم الثالث: من ذلك الزمن إلى تمام الخمسين سنة، وذلك زمن الكهولة، وقد يقال كهل لما قبل ذلك.

والموسم الرابع: من بعد الخمسين إلى تمام السبعين، وذلك زمن الشيخوخة. والموسم الخامس: ما بعد السبعين إلى تمام العمر وهو زمن الهرم" (¬1). وهذا التقسيم الذي وضعه ابن الجوزي لمراحل النمو الإنساني، يتفق إلى حدٍ كبيرٍ مع معظم تقسيمات المربين المسلمين وغيرهم من الغربيين، لذلك سأورد التقسيمات الأساسية لمراحل النمو، بناءً على تقسيم ابن الجوزي، وما يقابله في علم النفس التكويني الحديث أو يختلف عنه. أولًا: المرحلة الأُولى: تبدأ من حدوث الحمل وتنتهي بالولادة. اتفق في هذا التحديد ابن الجوزي مع علم النفس التكويني (¬2). ثانيا: المرحلة الثانية: وتمثل الموسم الأول عند ابن الجوزي وزمنها: من وقت الولادة إلى زمن البلوغ، ويتضمن مرحلة الطفولة، ويقسم علم نفس النمو هذه المرحلة إلى: 1 - مرحلة الطفولة المبكرة وتتضمن: أ - مرحلة المهد: من الولادة إلى أسبوعين ومرحلة الرضاع: من الولادة إلى نهاية السنة الثانية. ب - مرحلة الحضانة: من السنة الثانية إلى نهاية العام الخامس أو السادس. 2 - مرحلة الطفولة المتوسطة: من 6 - 9 سنوات، الثلاث سنوات الأولى من المرحلة الابتدائية. 3 - مرحلة الطفولة المتأخرة: من 9 - 12 سنة، الثلاث سنوات ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 57 - 58. (¬2) زهران، د. حامد، عبد السلام. علم نفس النمو. القاهرة، عالم الكتب، الطبعة الرابعة، 1977 م، ص 99.

الأخرى من المرحلة الابتدائية. ثالثًا: المرحلة الثالثة: وتمثل الموسم الثاني عند ابن الجوزي، ووقتها من زمن البلوغ إلى خمس وثلاثين سنة، وهو زمن الشباب، ويُفهم من هذا أنه قسم هذه المرحلة إلى قسمين: المرحلة الأُولى: مرحلة البلوغ. المرحلة الثانية: مرحلة الشباب. ويقسم علم نفس النمو (¬1) هذه المرحلة إلى: أ - مرحلة المراهقة المبكرة من 12 - 13 - 14 (المرحلة الإعدادية). ب - مرحلة المراهقة الوسطى من 15 - 16 - 17 (المرحلة الثانوية). جـ - مرحلة المراهقة الأخيرة من 18 - 19 - 20 - 21 (المرحلة الجامعية). وقد أضاف ابن الجوزي إلى هذه المرحلة، مرحلة الشباب من 21 - 35 سنة وإن كانت مرحلة الشباب في علم النفس من 21 - 40 سنة، وهي مرحلة مستقلة عن مرحلة المراهقة. رابعًا: المرحلة الرابعة: وتمثل الموسم الثالث عند ابن الجوزي، ووقتها كما قال: "من ذلك الزمن إلى تمام الخمسين سنة، وذلك زمن الكهولة". أي من 35 - 50 سنة. وتقسيم هذه المرحلة حسب علم نفس النمو (¬2) من 40 - 60 سنة، وتمثل مرحلة الكهولة، وهذا التقسيم يختلف عن تقسيم ابن الجوزي. خامسًا: المرحلة الخامسة: وتمثل الموسم الرابع عند ابن الجوزي، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 62. (¬2) السيد، د. فؤاد، البهي. الأسس النفسية للنمو. الطبعة الرابعة، 1975 م، دون ناشر ص 335.

ووقتها من بعد الخمسين إلى تمام السبعين وذلك زمن الشيخوخة. وتقسيم هذه المرحلة حسب علم نفس النمو (¬1) من 60 إلى الموت، وتمثل مرحلة الشيخوخة. وفي هذه المرحلة يختلف تقسيم ابن الجوزي عن علم نفس النمو. سادسًا: المرحلة السادسة: وتمثل الموسم الخامس عند ابن الجوزي، ووقتها من بعد السبعين إلى تمام العمر وهو زمن الهرم. وهذه المرحلة تقع في علم نفس النمو ضمن مرحلة الشيخوخة المتأخرة، وتمتد من 75 سنة إلى نهاية العمر" (¬2). وهكذا نجد أن هناك اختلافًا من وجهة نظر ابن الجوزي عن علم نفس النمو وذلك في بعض المراحل، ولاسيما في مرحلة الشباب والشيخوخة والهرم. وسنناقش مراحل النمو كما حددها ابن الجوزي في ضوء المنهج التربوي الإسلامي وهي كما يأتي: أ - رأي ابن الجوزي في مرحلة ما قبل الولادة: وهذه المرحلة هي التي لم يذكرها ابن الجوزي تصريحًا في رسالته تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر ولكنه تعرض لذكرها في بعض مؤلفاته، ومن المعروف أن هناك عوامل تؤثر في نمو الطفل الجسمي والنفسي والخلقي وهو في بطن أمه، وهذه العوامل قد تكون إيجابية وقد تكون سلبيةً، منها على سبيل المثال: الاهتمام بجميع النواحي النفسية والصحية والعلاقات الاجتماعية بالأم حتى لا ينعكس شيء من المؤثرات الضارة على الجنين، وهذه المؤثرات التربوية والنفسية لم يذكرها ابن الجوزي، لأنه كتب عن التربية بعمومياتها ولم يكتبها بدقة كما حددها بعض علماء التربية المسلمين أمثال الغزالي وابن قيم الجوزية .. الخ. لذلك سنعرض الآراء التي ذكرها. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 335. (¬2) المرجع السابق، ص 335.

وقد قسم ابن الجوزي هذه المرحلة إلى مرحلتين: 1 - مرحلة اختيار الزوجة الصالحة. 2 - مرحلة تكوين الجنين. وسنناقش كلَّ مرحلةٍ في ضوء آراء ابن الجوزي. 1 - مرحلة اختيار الزوجة الصالحة: لأهمية وخطورة دور المرأة المسلمة في تربية الأجيال، فقد ألف ابن الجوزي كتابًا أسماه أحكام النساء، وذكر فيه ما يتعلق بالأحكام الخاصة بالمرأة من عقائد وعباداتٍ ومعاملاتٍ وآداب، وسيرة وقد دفعته الرغبة في بيان العلم الصحيح الخاص بالنساء، لحاجتهن لذلك، فقال: "رأيت النساء أحوج إلى التنبيه من هذه الرفدة من الرجال، لبعدهن عن العلم، وغلبة الهوى عليهن بالطبع، فإن الصَّبِيَّة في الغالب تنشأ في مخدعها لا تلقن القرآن ولا تعرف الطهارة من الحيض، ولا تعلم أيضًا أركان الصلاة، ولا تحُدَّث قبل التزويج بحقوق الزوج. . . الخ" (¬1). ونتيجةً لجهل الآباء والأمهات بالحقوق والواجبات والأحكام الشرعية، فقد أثر ذلك في تربيتهم لأبنائهم، فقال ابن الجوزي في ذلك: "ورأيت أحد العوام يشغل ولده حين ينشأ بالمعاش، ولا يعلّمه واجبات العبادة ولوازم المعاملات، فيتقلب الولد في طلب الدنيا، ولا يعلم أخبار الآخرة، ولا يعرف فرضًا من الفرائض، ولا يردّ لجامَه عن الهوى ألفُ رائض، فإن أفلح وحضر مجلسًا من مجالس القُصَّاص، فربما سمع منهم أحاديث الرخص الباطلة، فخرج مصرًّا على الذنوب، ويقول: ربي كريم .. الخ" (¬2). وحتى ينشأ الأبناء في بيئةٍ أسريةٍ صالحةٍ، عارفةٍ بالأحكام، ملمةٍ بالأركان، مدركةٍ للواجبات الإِسلامية، كان لابد من الاختيار السليم ¬

_ (¬1) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. أحكام النساء. بيروت، دار الكب العلمية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م، ص 4. (¬2) المرجع السابق، ص 3.

للزوجة الصالحة الواعية المتفهمة لأمور دينها من جميع الجوانب، حتى تستطيع أن تربي أبناءها على علمٍ وهدى وبصيرة. وقد أكد ابن الجوزي أهمية اختيار الزوجة على أساس الدين، مستشهدًا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من السعادة وثلاث من الشقاوة، فمن السعادة المرأة تراها تعجبك وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك والدابة تكون وطية فتلحقك بأصحابك والدار تكون واسعة كثيرة المرافق ومن الشقاوة المرأة تراها فتسوءك وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك والدابة تكون قطوفًا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركبها لم تلحقك بأصحابك والدار تكون ضيقة قليلة المرافق" (¬2). كذلك أكد أثر عاملي الفطرة والوراثة في تربية الطفل وتأديبه، فبين أن كل إنسان يولد على فطرته السليمة التي خلقه الله تعالى عليها، ما يطرأ عليها بعد ذلك ناتج من عوامل البيئة والوراثة، فقال: "الأصل في الأمزجة الصحة، والعلل طارئة، وكل مولود يولد على الفطرة" (¬3). وقد اشتق هذا المعنى من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة. فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، كما تُنْتَجُ البهيمة بهيمةً جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء" (¬4). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري، أبو الحسين، مسلم. صحيح مسلم. (تحقيق) عبد الباقي، محمد، فؤاد، الجزء الثاني، ص 1086، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين، حديث رقم 1466. (¬2) النيسابوري، أبو عبد الله، الحاكم. المستدرك على الصحيحين. وبذيله. التلخيص. للحافظ الذهبي (إشراف) المرعشلي، د. يوسف، عبد الرحمن، بيروت: دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1406 هـ-1986 م، الجزء الثاني، ص 162، كتاب النكاح، باب ثلاث من السعادة وثلاث من الشقاوة. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 131. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2047، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يرلد عل الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، حديث رقم 2658. معنى "كما تنتج البهيمة بهيمة: كما تلد البهيمة

وقد رأى ابن الجوزي أن التربية لن تثمر ما لم يكن الطبع والاستعداد موجودين في الطفل، فقال: "والله ما ينفع تأديب الولد إذا لم يسبق اختيار الخالق لذلك الولد" (¬1). كذلك بيَّن أن الخصائص الوراثية الجيدة، تساعد في عملية التربية وإكساب الطفل القيم والأخلاقيات بأقل جهدٍ وبسهولةٍ ويسر، فيقول في ذلك: "وأقل الرياضة فيه يؤثر، كما ينفع المسنُّ الفولاذ ولا ينفع الحديد" (¬2). أما إذا كانت الصفات الوراثية ضعيفةً، فإن التربية لا تستطيع أن توجد أو تغير من هذه الصفات، فإن مهمة التربية مساعدة كل فرد حسب نموه وخصائصه المختلفة التي يتصف بها على الوصول إلى أفضل مستوى يمكن أن يصله من خلال ما هو كائن. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "إن الرياضة [بمعنى التربية] لا تصلح إلا في نجيب، والكودن (¬3) لا تنفعه الرياضة، والسبع وإن ربِّي صغيرًا لا يترك الافتراس إذا كبر" (¬4) وقوله يدل على أن التربية -مهما حاولت- بكل أساليبها وطرقها، أن تجعل من السبع حيوانًا أليفًا، فإنها لا تستطيع أن تغير أصل طبيعته من كونه حيوانًا مفترسًا، لأنه بعد عملية التربية في صغره يعود إلى أصله في الافتراس إذا كبر. وهذا الرأي يحتاج إلى تفصيل لأن فكرته غير سليمة تربويًّا. كذلك رغَّب ابن الجوزي في اختيار المرأة البكر، فقال: "فأصلح ¬

_ = بهيمة جمعاء، أي مجتمعة الأعضاء، سليمة من نقص. لا توجد فيها جدعاء، وهي مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء. ومعناه أن البهيمة تلد بهيمة كاملة الأعضاء لا نقص فيها. وإنما يحدث فيها الجدع والنقص عند ولادتها". المرجع نفسه. (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 252. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 138. (¬3) الكودن: "قيل البغل، البرذون. والكودني من الفيلة أيضًا. الجوهري: الكودن البرذون يُوصف ويشبه به البليد" مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثالث عشر، ص 356. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 131.

الأمور أن يتزوج الرجل البكر التي لم تعرف سواه" (¬1)، وهذا موافق لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يستشهد به هنا ابن الجوزي. عندما سأل جابرَ بنَ عبد الله عمن تزوجَ: أبكرًا أم ثيبًا؟ فأجابه: ثيبًا فقال - صلى الله عليه وسلم -: فهلا جاريةً تلاعبُها وتلاعبُك" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سألتِ السيدهُ عائشةُ -رضي الله عنها-: يا رسولَ الله لو نزلتَ واديًا وفيه شجرةٌ قد أُكلَ منها، ووجدت شجرًا لم يؤكَل منها، في أيِّها كنت تُرتعُ بعيرَك؟ قال: في التي لم يُرتعْ مِنها. يعني أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوجْ بكرًا غيرَها (¬3). كذلك على المرأة أن تختار الزوج الصالح -وهذه لم يذكرها ابن الجوزي- ولكن ذُكرت هنا لتكملة الاختيار الصحيح من الطرفين على أن يكون المعيار الصلاح والخلق لا المال والجاه لقول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاءكم من ترضون دينَه وخلقَه فأَنكِحوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرضِ وفساد" (¬5). فإذا تم الاختيار على أساس صحيح من جميع النواحي الدينية، والاجتماعية، والخلقية والعقلية، والنفسية، تم الزواج على حسب الشريعة الإِسلامية الغراء، ومنها نصل إلى المرحلة الثانية. 2 - مرحلة تكوين الجنين: وتبدأ هذه المرحلة من حدوث الحمل، وتنتهي بالولادة. وقد ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 135. (¬2) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع، ص 121، كتاب النكاح، باب تزويج الثيبات، حديث رقم 5079. (¬3) المرجع السابق، الجزء التاسع، ص 120، كتاب النكاح، باب نكاح الأبكار، حديث رقم 5077. (¬4) سورة النور، الآية 32. (¬5) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو. سنن الترمذي. الجزء الثالث، ص 386، كتاب النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه، حديث رقم 1085.

وصف ابن الجوزي مراحل خلق الإنسان في بطن أمه، وصفًا علميًّا في مجمله، مستندًا إلى الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وإن كان يفتقد الدقة العلمية في بعض ألفاظه ومعلوماته. وهذا شيء يعذر فيه لأن كثيرًا من الحقائق العلمية في هذا المجال لم تكتشف في عصره، وإن كان تدبر القرآن الكريم وفهمه العميق من قبل ابن الجوزي -وغيره من العلماء المسلمين- قد صحح معلوماتهم وأوصلهم إلى معلومات علمية في مجملها، تتفق مع ما وصل إليه العلم الحديث من خلال مشاهداته الدقيقة المستمرة المتتابعة بواسطة الأجهزة المكبرة ذات القدرة العالية جدًا على التكبير. والآن سنقوم بعرض مراحل نمو الجنين، من خلال آراء ابن الجوزي مقارنة بالكتابات العلمية في هذا المجال. قال ابن الجوزي: "أول الأحوال الحادثة في المني أن يكون له زبد، ثم يوجد النفخ مندفعًا إلى وسط الرطوبة، إعدادًا لمكان القلب، ثم تتميز الأعضاء، ويتنحى بعضها عن مماسة بعض، ويحيط بالجنين ثلاثة أغشيةٍ: غشاء تنسج فيه العروق، وغشاء ينصب فيه بول الجنين، وغشاء يجمع الرطوبة التي ترشح من الجنين" (¬1). ولتحليل هذا الرأي في ضوء علم الأجنة، من خلال قول ابن الجوزي: "أول الأحوال الحادثة في المني أن يكون له زبد ثم يوجد النفخ مندفعًا إلى وسط الرطوبة، إعدادًا لمكان القلب، ثم تتميز الأعضاء ويتنحى بعضها عن مماسة بعض". يغلب على عبارة ابن الجوزي البعد عن الدقة العلمية في لفظة يوجد النفخ، لأن المني يكون له زبد أو رغوة، ويكون مندفعًا ليس له نفخ، وفي ذلك يقول د. محمد البار: "فالحيوان المنوي صغير الحجم يشبه القذيفة الصاروخية، وله رأس مصفح مدبب، وله ذيل طويل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، الجزء الثاني، ص 159.

يساعده على السباحة في بحر المني .. وهو سريع الحركة، قوي الشكيمة، شديد البأس، وهو ينطلق عبر المفاوز والمخاطر غير هياب ولا وجل، حتى يصل إلى بغيته ومقصده أو يموت" (¬1). فإذا وصل إلى بغيته ومقصده وهو الوصول إلى بويضة المرأة والاتحاد معها، وبذلك يتم التلقيح "تنقسم البويضة الملقحة إلى خليتين، والخليتان إلى أربع، وهكذا حتى تصبح مثل التوتة في خلال (72) ساعة منذ بداية التلقيح وتسمى مرحلة الانقسام هذه مرحلة الانشقاق فإذا وصلت إلى مرحلة التوتة، كبرت الكرة قليلًا وصار ما بداخلها مجوفًا وبه سائل رقيق، وعندئذ تعرف باسم الكرة الجرثومية" (¬2). أما قول ابن الجوزي: "ويحيط بالجنين ثلاثة أغشيةٍ: غشاء تُنسج فيه العروق، وغشاء ينصب فيه بول الجنين، وغشاء مجمع الرطوبة التي ترشح من الجنين". فقد أكد ذلك علم الأجنة الحديث، فقال في ذلك د. محمد البار: "وإذا دققنا النظر في الأغشية المحيطة بالجنين وجدناها ثلاثة: 1 - غشاء السلي أو الأمنيون: ويحيط بالجنين مباشرة. 2 - غشاء الكوريون. (الغشاء المشيمي). 3 - غشاء الساقط" (¬3). وقد بين ابن الجوزي وظيفة كل غشاء وفائدته للجنين، فقال: "غشاء تنسج فيه العروق"، ويوافقه حسب علم الأجنة من حيث الوظيفة غشاء الكوريون (الغشاء المشيمي)، وهذا الغشاء يحيط بالجنين، "ويتوسط بين غشاء الساقط من الخارج والغشاء الأمنيوسي من الداخل، ويتركب هذا الغشاء من ورقتين هما: ¬

_ (¬1) البار، د. محمد، علي. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1400 هـ -1980 م، ص 80. (¬2) البار، د. محمد، علي. الوجيز في علم الأجنة القرآني. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م، ص 34. (¬3) مرجع سابق، البار. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ص 203.

1 - خارجية: وبها زغابات وخملات كثيرة تنتقل بواسطتها الأغذية والأوكسجين من الأم إلى الجنين كما ينتقل غاز ثاني أكسيد الكربون والبولينا من الجنين إلى دم الأم. 2 - داخلية: تغطي كيس المح أو الصفار وتشمل فيما تشمل مبدأ ظهور الأوعية الجنينية الخارجية" (¬1). ولا تقتصر وظيفة هذا الغشاء على امتصاص الغذاء من البرك الدموية المحيطة بالجنين، بل "تنتقل المضادات للأجسام الغريبة من الأم إلى الجنين، لتكون للجنين جهاز مناعته، وفي الوقت نفسه تمنع عنه انتقال السموم والميكروبات" (¬2). أما بالنسبة للغشاءين الثاني والثالث، اللذين ذكرهما ابن الجوزي، فلم يكن دقيقًا في تحديد وظيفة كل منهما، وذكر الوظائف نفسها، وإن كان أكثر تحديدًا ودقة في قوله: "وغشاء ينصب فيه بول الجنين"، وهذا ما أثبته علم الأجنة في غشاء السلي أو الأمنيون الذي يحيط بالجنين مباشرةً فينصب فيه بول الجنين، الذي يتغذى منه، لأن من فوائد السائل الأمنيوني أنه "يحتوي على مواد زلالية وسكرية وأملاح غير عضوية، يمتصها الجنين مما يساعد على تغذيته ونموه" (¬3). ومع بداية التلقيح وحدوث الحمل، يمر الإنسان بأطوار ومراحل متعددةٍ: 1 - مرحلة النطفة. 2 - مرحلة العلقة. 3 - مرحلة المضغة. 4 - مرحلة العظام. 5 - مرحلة اللحم الذي يكسو العظام. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 205. (¬2) المرجع السابق، ص 206. (¬3) المرجع السابق، ص 204.

6 - مرحلة الخلق الآخر ويتضمن التصوير، والتسوية، ونفخ الروح. وهذه المراحل مستمدة من قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1). وقد فسر ابن الجوزي هذه الآيات الخاصة بمراحل نمو الإنسان بقوله: معنى "قوله تعالى: ثم جعلناه: يعني: ابن آدم. نطفة في قرار: وهو الرحم. مكين: أي: حريز، قد هُيئ لاستقراره فيه" (¬2). ثم جاء تفسيره لمراحل التخليق على الوجه الآتي: 1 - النطفة قال ابن الجوزي في تفسيرها: "فأما النطفة فهي المني" (¬3). وقد وردت في القرآن الكريم بأسماء عدة منها: الماء المهين، والماء الدافق، والمني. وقد وضح معناها د. محمد علي البار بقوله: "ويطلق لفظ المني على الإفرازات التناسلية للرجل، والتي تفرزها الخصية والبروستات والحويصلة المنوية .. والمني مكون من شقين: الأول: هو الحيوانات المنوية التي تتكون في القنوات المنوية في الخصية، وهي ذاتها المسماة بالنطفة. والثاني: هو السائل المنوي الذي يحمل هذه الحيوانات ويغذيها والتي تسبح فيه حتى تصل إلى الرحم" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيات 12 - 14. (¬2) ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. دمشق، بيروت، المكتب الإِسلامي، للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1384 هـ -1964 م، الجزء الخامس، ص 462. (¬3) المرجع السابق، الجزء الخامس، ص 406. (¬4) مرجع سابق، البار. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ص 48.

2 - العلقة قال الله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} (¬1) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} (¬2). والعلقة في علم الأجنة الحديث هي: "المرحلة التي تعلق فيها الكرة الجرثومية بجدار الرحم، وتنتهي بظهور الكتل البدنية، إذ تدلف حينئذ إلى مرحلة المضغة" (¬3). وقد فسر ابن الجوزي معناها بقوله: "والعلقة: دم عبيط. جامد. وقيل: سميت علقة لرطوبتها وتعلقها بما تمر به، فإذا جفت فليست علقة" (¬4). ولتوضيح رأي ابن الجوزي في معنى العلقة وأنها دم عبيط، فقد وافقه المفسرون القدامى على المعنى نفسه، أما الأطباء المحدثون فقد خالفوه، لأن العلقة ليست دمًا جامدًا، بل هي "المرحلة التي تعلق فيها النطفة الأمشاج (التوتة) بجدار الرحم وتنشب فيه" (¬5). أما قوله: "وسميت علقة لرطوبتها وتعلقها بما تمر به .. "فقد اتفق معه جميع العلماء والأطباء على أن: "لفظ العلقة يطلق أساسًا على كل ما ينشب ويعلق .. وكذلك تفعل العلقة إذ تنشب وتعلق في جدار الرحم وتنغرز فيه. ." (¬6). وكذلك قال د. دياب ود. قرقوز: "وتعلق الكتلة الخلوية علوقًا وليس التصاقًا، بواسطة تلك الاستطالات التي غرستها في مخاطية الرحم" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية 14. (¬2) سورة غافر، الآية 67. (¬3) مرجع سابق، البار. الوجيز فى علم الأجنة القرآني. ص 29. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الخامس، ص 406. (¬5) مرجع سابق، البار. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ص 106. (¬6) المرجع السابق، ص 107. (¬7) مرجع سابق، د. دياب، عبد الحميد وقرقوز، د. أحمد. مع الطب في القرآن الكريم. ص 81.

وسبب تفسير ابن الجوزي العلقة بالدم الجامد، لأن "حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد على ربع مليمتر" (¬1) لا تكاد ترى بالعين المجردة، وإمكانيات علمائنا في ذلك الوقت لا تسمح برؤيتها بالمجهر لذلك بعدوا عن الصواب في وصفها. 3 - المضغة بين معناها د. محمد علي البار بقوله: "هي مرحلة في علم الأجنة يشبه الجنين فيها في مظهره لقمة ممضوغة، ولكأنما تظهر فيه آثار الأسنان مغروزة" (¬2) وقد فسر ابن الجوزي معناها بقوله: "والمغضة: لحمة صغيرة. قال ابن قتيبة: وسميت بذلك، لأنها بقدر ما يمضغ" (¬3). وقد جاء في علم الأجنة، أن هذه المرحلة تعتبر بداية التكوين العضوي، الذي تتميز فيه الأعضاء على شكل كتل بدنية صغيرة، ولاسيما في منطقة الرأس والجذع، وبداية الفقرات والأطراف "وعندما تظهر الكتل البدنية، يبدو الجنين فعلًا مضغة صغيرةً، ويشبه شيئًا ممضوغًا عليه آثار الأسنان" (¬4). 4 - العظام: 5 - اللحم: لم يفسر ابن الجوزي مرحلة العظام واللحم كما فعل في المراحل الثلاث السابقة التي طرأت على الجنين، وربما لم يوضح هاتين المرحلتين بسبب تداخلهما، ولأنه كما ثبت من خلال الأبحاث العلمية "أن العظام تبدأ في الظهور في الوقت الذي لا زال الوصف الغالب على الجنين هو المضغة، وتظهر العضلات والعظام لا زالت لم تكتمل بعد، ويظهر الجلد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، البار. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ص 107. (¬2) مرجع سابق، البار. الوجيز في علم الأجنة القرآني. ص 39. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الخامس , ص 406. (¬4) عز الدين، توفيق، محمد. دليل الأنفس بين القرآن الكريم والعلم الحديث. القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1407 هـ -1986 م، ص 133.

ولم يكتمل نمو العضلات" (¬1). بالإضافة إلى أن "الكتب الطبية لا تميز مرحلة المضغة والعظام واللحم، وتكتفي بتصنيف يعتمد على الأسابيع والأيام، ويقسم النمو الجنيني إلى مرحلتين: مرحلة الجنين، ومرحلة الحميل، ولكننا عندما نتابع في ضوء علم الأجنة الترتيب الذي تحصل به التغيرات خلال الأسبوع الرابع، نجد اتفاقًا مع الترتيب القرآني" (¬2). ومعلومات ابن الجوزي في علم الأجنة -كما سبق أن ذكرنا- تستند إلى فهمه لتفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ولم تخضع معلوماته للتجربة العلمية التي وضحت بعض التفصيلات الدقيقة جدًا من خلال مشاهداتها المتعددة. وهذا لا يعني أن القرآن لم يذكرها، بل ذكرها، وإنما حدود تفسيرهم للآية القرآنية، يقف على المعنى الظاهري لها، ولا تظهر التفصيلات الدقيقة إلا من خلال المشاهدات المعملية المتكررة، التي تؤكد ما جاء في الآية من إعجاز علمي سابق، قد يذهب بالمفسر إلى الخطأ غير المقصود. وهذا البروفسور جيليت الذي لم يقرأ قول الله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (¬3)، ولكنه من خلال تجاربه العلمية أكد ما جاء فيها فقال: "إنه فى الشهر الثالث تبدأ الأظافر، ونقط تكوين العظام ثم تكسى العظام باللحم" (¬4). وقد وضح د. محمد علي البار هذه المرحلة بقوله: "ففي مرحلة العلقة يظهر الحبل الظهري وهو المحور الهيكلي، ويعرف بالعضو سابق العمود الفقري؛ إذ إنه يسبق ظهور العمود الفقري ويمر بثلاثة أطوار: أولها: حبل متصل وسط النسيج الغضروفي. وثانيها: يتخذ شكل المسبحة. والدور الثالث: الضمور والاختفاء. فالمرحلة الأُولى تعرف بالمرحلة الغشائية (النسيج سابق العظام)، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 136. (¬2) المرجع السابق، ص 135. (¬3) سورة المؤمنون، الآية 14. (¬4) مرجع سابق , البار. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. ص 136.

وتظهر في الأسبوع الخامس والسادس الرحمي، ثم تليها المرحلة الغضروفية، وتبدأ في أواخر الأسبوع السادس، ثم تظهر في الأسبوع السابع الرحمي (بداية المضغة) مراكز تمعظم في جسم الفقرات الغضروفية، وفي الأسبوع الثامن تظهر مراكز تمعظم في أقواس الفقرات، وتبدأ الأضلاع عندئذ في الظهور، ثم تتكون العضلات حول العظام وتكسوها باللحم كما ذكرته الآية الكريمة" (¬1). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرَّ بالنطفةِ ثنتان وأربعون ليلةً، بعثَ الله إليها ملكًا. فصورها وخلقَ سمعَها وبصرَها وجلدَها ولحمَها وعظامَها" (¬2). وهكذا تثبت الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف مرحلة العظام واللحم. 6 - مرحلة "خلق آخر": ويتضمن التصوير والتسوية ونفخ الروح: من المعلوم أنه في هذه المرحلة تتم المراحل النهائية من نمو الجنين بصفةٍ عامةٍ على المستوى الجسمي، فتتميز الأعضاء مثل بصمات الجنين وأظافره، كما يستقر عمل القلب، وينمو الجهاز العصبي، كذلك تتضح خصائص الأنوثة أو الذكورة (¬3). وقد قال ابن الجوزي بشأن هذه المرحلة -في تفسير قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (¬4)، "وفي محل هذا الإنشاء قولان أحدهما: أنه في بطن الأم. ثم في صفة الإنشاء قولان أحدهما: أنه نفخ الروح فيه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية، والشعبي، ومجاهد وعكرمة والضحاك وآخرين. والثاني: أنه جعله ذكرًا أو أنثى. قاله الحسن. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 148. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي، في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله، وشقاوته وسعادته، ص 2037، حديث رقم 2645. (¬3) خلاصة القراءة من: مرجع سابق، عز الدين. دليل الأنفس بين القرآن الكريم والعلم الحديث. ص 153. (¬4) سورة المؤمنون، الآية 14.

والقول الثاني: أنه بعد خروجه من بطن أمه" (¬1). ففي معنى "خلقًا آخر" أي خلقًا متميزًا عن الخلائق من الصورة الظاهرة والبناء الروحي والعقلي، نجد قيمة تربوية من حيث إنه رد على نظرية التطور. ويتضح لنا من تفسير ابن الجوزي أنه قسم هذه المرحلة مرحلتين: 1 - أثناء وجوده في بطن أمه، ولها جانبان: أ - الجانب الأول: نفخ الروح. ب - الجانب الثاني: جعله ذكرًا أو أنثى. وهذا الجانب -وهو مرحلة الخلق الآخر الذي يتضمن التصوير والتسوية ونفخ الروح- هو الذي يبرز الصورة المتميزة لخلق الإنسان والقدرات المميزة له عن باقي المخلوقات، تلك الصورة التي خلقه الله عليها ليكون عبدًا مستخلفًا لله -عز وجل-، يقوم بواجب العبودية له كما أمره، وهذا الجانب لم يتعرض له ابن الجوزي، رغم أهميته التربوية، عند إعداد الإنسان لمهمة الاستخلاف. 2 - بعد خروجه من بطن أمه. سنناقش هذه المرحلة في الفصول القادمة. وقد أكد الباحث توفيق محمد عز الدين هذين الجانبين "أثناء وجوده في بطن أمه" فقال: "والتغيرات الجديدة التي تحصل في هذه المرحلة، لها جانبان: الجانب الأول: يراقبه العلم التجريبي بوسائله، وهو التميز الذي يظهر به الجنين، وقد اكتسب صفاته الإنسانية، وظهرت ذكورته أو أنوثته، وبدأ يتحرك. الجانب الثاني: جاء به الوحي، وهو نفخ الروح فيه" (¬2). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الخامس، ص 462 - 463. (¬2) مرجع سابق , عز الدين. دليل الأنفس بين القرآن الكريم والعلم الحديث. ص 153.

وقد استشهد ابن الجوزي بحديثين للرسول - صلى الله عليه وسلم - قال فيهما: "إذا مرَّ بالنطفةِ ثنتان وأربعون ليلةً، بعث الله إليها ملكًا. فصَورها وخلقَ سمعَها وبصرَها وجلدَها ولحَمها وعظامَها. ثم قال: يا رب! أذكرٌ أم أنثى. فيقضي ربُك ما شاء. ويكتبُ الملك. ثم يقول: يا رب! أجلُه فيقول ربُك ما شاء. ويكتبُ الملكُ. ثم يقول: يا رب! رزقُه. فيقضي ربُك ما شاء. ويكتبُ الملك، ثم يخرجُ الملكُ بالصحيفةِ في يدهِ. فلا يزيدُ على ما أُمر ولا ينقص" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في نفخ الروح: "إن أحدَكم يجمع خلقُه في بطنِ أمه أربعين يومًا نطفةً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكونُ في ذلك مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسل الملكُ فينفخُ فيه الروحَ. ويؤمرُ بأربع كلماتِ: بكتب رزقهِ، وأجلهِ، وعملهِ، وشقي أو سعيدُ. فوالذي لا إلهَ غيرهُ إن أحَدكَم ليعملُ بعمل أهل الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب. فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار. حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع. فيسبق عليه الكتاب فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ فيدخلَها" (¬2). وقد ناقش د. شرف القضاة مسألة نفخ الروح في الجنين مستدلًا بالحديثين نفسهما اللذين استشهد بهما ابن الجوزي وبغيرهما من خلال: 1 - ترجيح أحاديث الروح ومحاولة التوفيق بينها ثم ربطها بالطب فقال: "لاحظ العلماء وجود تعارض بين حديث ابن مسعود كما رواه البخاري وغيره (الحديث الثاني الذي استشهد به ابن الجوزي)، وبين الحديث ذاته كما رواه مسلم، وروايات حديث حذيفة وحديث جابر. (الحديث الأول الذي استشهد به ابن الجوزي هو حديث حذيفة). فظاهر الحديث الثاني يبين أن نفخ الروح وكتابة قدر الإنسان يكون بعد الأربعين الثالثة، أي في بداية الشهر الخامس، في حين أن الأحاديث ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2037، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي، في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله، وشقاوته وسعادته، حديث رقم 2645. (¬2) المرجع السابق، الجزء الرابع، ص 2036، كتاب القدر، الباب نفسه، حديث رقم 2643.

الأُخرى كلها تبين أن ذلك يكون بعد الأربعين الأُولى، أي في حوالى منتصف الشهر الثاني تقريبًا، وهذا ما يسميه علماء الحديث (مختلف الحديث). ويقرر علماء الحديث في مثل هذه الحالة أنه لابد من محاولة التوفيق بين الأحاديث المختلفة أولًا ثم الترجيح، فإن لم يمكن ذلك لجأنا إلى الترجيح بين هذه الأحاديث، فيؤخذ الراجح ويترك المرجوح" (¬1). وبعد مناقشة ما ورد من أقوال العلماء في ذلك ثم ربطها بالطب الحديث، نجد حقائق تؤكد الآتي: 1 - "أن مرحلة النطفة والعلقة والمضغة والعظام والعضلات كلها تكون في الأربعين الأولى، أو بعدها بأيام قليلة. 2 - كما أنه لا شك علميًا بأن الجنين يتحرك حركات إرادية في الشهر الثالث، بل في نهاية الشهر الثاني. ولعل ما سبق يرجح القول بأن نفخ الروح يتم بعد بدء مرحلة اللحم (العضلات) وهو رأي كثير من المفسرين، لا بعد مرحلة المضغة وقبل مرحلة العظام واللحم، كما يذكر آخرون، لأن مرحلة المضغة هي الأسبوع الرابع، وهذه الفترة لا روح في الجنين فيها باتفاق، أما مرحلة العضلات فهي في الأربعينات وهذا يوافق روايات حذيفة وجابر وإحدى روايتي ابن مسعود" (¬2). أما تحديد يوم نفخ الروح بشكل دقيق فلم يثبت، أما من حيث الأحاديث النبوية، فقد وفق د. شرف القضاة بين الأحاديث ووصل إلى أن "الروح تنفخ في الجنين بعد الليلة الثانية والأربعين من استقرار النطفة في الرحم، لا من لحظة التلقيح للبويضة، أي من بداية مرحلة العلقة لا من بداية مرحلة النطفة، لأن النطفة لا تستقر إلا في اليوم السابع تقريبًا عندما تتعلق بجدار الرحم، وعلى هذا فيكون نفخ الروح بعد الليلة ¬

_ (¬1) القضاة، د. شرف. متى تنفخ الروح في الجنين. الأردن، دار الفرقان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م، ص 35. (¬2) المرجع السابق، ص 61 - 62.

ثانيا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الطفولة المبكرة

التاسعة والأربعين أي في بداية الأسبوع الثامن، وهذا الرأي الذي أراه راجحًا، لأنه وفق بين الروايات ولا يهمل شيئًا منها" (¬1). ولمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى الكتب المذكورة في الهامش (¬2). وبعد تحديد نوع الجنين من قبل الله تعالى -جلَّ جلاله- ونفخ الروح فيه، يكون قد استكمل مكوناته وصفاته الإنسانية، ويستمر في النمو حتى يأذن الله تعالى بخروجه إلى الدنيا. والذي يبدو -مما سبق- أن ابن الجوزي -في حدود ما أطلعت عليه- ركز على مراحل تكوين الجنين، وأغفل التوجيهات والإرشادات التربوية الإسلامية للمرأة الحامل، من جميع جوانبها النفسية والصحية والخلقية والاجتماعية، حتى تنجب ذرية صالحة سليمة قوية، تستطيع القيام بعمارة الأرض، لأن هذه الأمور تؤثر تأثيرًا كبيرًا في نمو الجنين وهو في بطن أمه. ثانيًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الطفولة المبكرة قال ابن الجوزي: "الموسم الأول: من وقت الولادة إلى زمن البلوغ" (¬3). ويقابل هذا الموسم في علم نفس النمو مرحلة الطفولة، وهي مقسمة كالتالي: 1 - مرحلة المهد: من الميلاد حتى أسبوعين. مرحلة الرضاعة: من أسبوعين إلى عامين. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 72 - 73. (¬2) 1 - العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الحادي عشر، كتاب القدر، ص 477. 2 - ابن رجب، زين الدين. جامع العلوم والحكمة. 3 - النسيمي. الطب النبوي. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي، جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 57 - 58.

2 - مرحلة الطفولة المبكرة: من (2 - 6 سنوات) (مرحلة ما قبل المدرسة + الحضانة). 3 - مرحلة الطفولة الوسطى (6 - 9 سنوات) المرحلة الابتدائية: الصفوف الثلاثة الأُولى. 4 - مرحلة الطفولة المتأخرة (9 - 12 سنة) المرحلة الابتدائية: الصفوف الثلاثة الأخيرة" (¬1). يتضح من تقسيم ابن الجوزي للمراحل (المواسم)، أنه توزيع عام يتفق مع التقسيم الحديث، ولكنه ليس بتقسيم مفصَّل مثل التقسيم الحديث، الذي يعتبر أكثر تفصيلًا في جزئياته. وقد اهتم ابن الجوزي بمرحلة الطفولة اهتمامًا كبيرًا من جميع الجوانب العقلية والخلقية والاجتماعية والسلوكية، وسنوضح هذا الاهتمام في الآتي: أ- أهمية مرحلة الطفولة في نظر ابن الجوزي: تعتبر مرحلة الطفولة المبكرة من المراحل الأساسية في بناء وتشكيل شخصية الطفل الخلقية، والنفسية، والعقلية، والاجتماعية، وعليها تعتمد المراحل القادمة، وذلك لأن الطفل في هذه المرحلة يقبل كل ما يقال له من دون مناقشة أو جدال، لأن الأطفال يرون أن كل ما يقوله الكبار صحيح وصادق حتى لو كذب عليهم الكبار، لذلك تستغل هذه المرحلة في تلقين الاْطفال أكبر قدر ممكن من مبادئ العقيدة والقيم والآداب والسلوكيات الصالحة. أما بعد ذلك من المراحل، فالأطفال الكبار يحتاجون إلى مناقشتهم وإقناعهم بما يُلقى عليهم، لذلك تحتاج التربية إلى جهد أكبر ووقت أطول، من هنا قال ابن الجوزي: "أقوم التقويم ما كان في الصغر، فأما إذا تُرِك الولد، وطبعَه فنشأ عليه ومرن، كان رده صعبًا" (¬2). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، زهران. علم نفس النمو. ص 99. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133.

وهذا ما يؤكده العلماء اليوم، يقول د. محمد محمود محمد: "وتعتمد العادات في تكونها على الأساليب التربوية التي تتبع مع الطفل في نشأته الأُولى، حيث يسهل تكوين العادات لمرونة الجهاز العصبي طبقًا للمثل القائل بأن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر" (¬1). لذلك أوصى ابن الجوزي المربين ألا يهملوا تأديب الطفل وتربيته في الصغر، حتى لو شكا ثقل التأديب عليه، فاستشهد بقول الشاعر: "لا تسهُ عن أدب الصغير ... ولو شكا ألَم التعب" (¬2) وتتميز هذه المرحلة باستعداد الطفل لتقبل كل ما يلقى إليه من قيم وسلوكيات وآداب ومعارف، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فإن قلبه فارغ يقبل ما يلقى إليه" (¬3)، وقد حدد العمر الزمني المناسب للتعلم بخمس سنين، فقال: "وإذا جاوز الصبي خمس سنين بان فهمه وحسن اختياره لنفسه" (¬4). وليس معنى هذا أن الطفل بعد هذه المرحلة لا يستطيع التعلم، بل يستطيع ولكن بدرجةٍ أصعب ووقت أطول وجهد أكثر، "لأن الكبار لا يسلكون سلوكًا معينًا بناءً على المحاكاة والتقليد غالبًا. إنما يسلكون هذا السلوك ويطبقون المبادئ الخلقية بناء على الاقتناع النظري والعقلي" (¬5). وبما أن هذه المرحلة، مرحلة المرونة والقابلية للتعلم، فيجب على المربين أن يدركوا تمامًا خصائص هذه المرحلة من جميع جوانبها النفسية والعقلية والاجتماعية، وما يتميز به كل طفل عن الآخر، من حيث استعداداته وقدراته وميوله ورغباته، حتى يستطيع المربي أن يوجهه بطريقة سليمة، توظف قدراته وطاقاته في الاتجاه الصحيح. وفي ذلك يقول ابن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، محمد. علم النفس المعاصر في ضوء الإسلام. مرجع سابق، ص 270. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 58. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58. (¬5) يالجن، د. مقداد. بناء البيت السعيد فى ضوء الإسلام. الرياض، دار المريخ، طبعة 1408 هـ -1987 م، ص 164.

الجوزي: إعلم أن الطبيب ينظر إلى سن المعالج، ومكانه، وزمانه، ثم يصف، فكذلك ينبغي أن تكون رياضة كل شخص على قدر حاله" (¬1). وهذا الرأي المبني على معرفة الفروق الفردية ومراعاتها من الآراء الحكيمة والصائبة لابن الجوزي في المجال التعليمي والتربوي. كما أكد ابن الجوزي ضرورة معرفة المربي بخصائص نمو الطفل، وذلك لأن "إهمال معرفة استعدادات الطفل المختلفة كثيرًا ما يؤدي، إلى عدم تكيفه لعملية التعلم، أو إلى الإضرار بصحته الجسمية والنفسية" (¬2). وقد أكد ابن الجوزي أهمية التنشئة الاجتماعية للطفل في هذه المرحلة. وما يتبعها من خلق وسلوك قويم يهذب النفس، فقال: "ثم المواظبة على الرياضة أصل عظيم في حق الصبيان، فإن ذلك يفيدهم أن يصير الخير عادة" (¬3). وهذا مصداق لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الخير عادة والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" (¬4). ثم وضح ابن الجوزي أن تدريب الطفل على النظافة والطهارة، وعلى ممارسة الآداب والفضائل، لابد أن يتم قبل سن الخامسة، حتى تتمكن هذه الآداب والقيم في نفسه منذ نعومة أظفاره، وتصبح جزءًا من شخصيته، وفي هذا يقول: "فينبغي أن يعوِّده النظافة والطهارة منذ الصغر، ويثقفه بالآداب، فإذا بلغ خمس سنين أخذه بحفظ العلم" (¬5). كذلك رأى ابن الجوزي، أنه لابد من المحافظة على شخصية الطفل من التميع أو الذوبان، فرأى أن تتميز شخصية الولد عن البنت في ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133. (¬2) الغريب، د. رمزية. التعلم. القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة السادسة، 1978 م، ص 42. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133. (¬4) ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني. سنن ابن ماجه. (حققه ووضع فهارسه بالكمبيوتر) الأعظمي، محمد، مصطفى، الرياض، شركة الطباعة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1404 هـ-1984 م، الجزء الأول، ص 43، المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث رقم 209. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م، ص 17.

اللباس، حتى يشب على الرجولة ويكره الميوعة، فقال: "وليلبسه الثياب البيض، فإن طلب (الولد) الملون، قال له: تلك ملابس النساء والمخانيث" (¬1) وقد استقى ابن الجوزي رأيه في لون لباس الطفل من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الأثمد يجلو البصر، وينبت الشعر" (¬2). إن الطفل بحاجة إلى تعلم واكتساب الكثير من الآداب والأخلاقيات، التي يستطيع أن يتعامل بها مع غيره من الأفراد , بعضها متعلق بكيانه النفسي والجسمي لإكسابه القدرة والتحمل لمواجهة مصاعب الحياة، وبعضها الآخر لتهذيب سلوكه والارتقاء بخلقه. فأما ما يتعلق بكيانه النفسي والجسمي، فقال فيه ابن الجوزي: "ويمنع من كثرة الأكل والنوم، ويعوّد الخشونة في المطعم والمفرش، فإنه أصح لبدنه، ويعالج بالرياضات الجسمانية كالمشي" (¬3). وذلك حتى يضمن ابن الجوزي للطفل حياةً معيشية، متعددة الأنماط ما بين رغد العيش، وشظف الحياة وقسوتها، فيستطيع الطفل مواجهة الصعوبات التي تعترضه في حاضر أيامه ومستقبله، والتغلب عليها بما عُود عليه. أما ما يتعلق بتهذيب خلق الطفل، فقد رأى ابن الجوزي: "أن يحبب إليه الحياء والسخاء" (¬4) لأنهما من الصفات الخلقية التي يحبها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، لما تضمنه من الخير الكثير. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحياءُ خيرٌ كلُه" (¬5)، كما يحذر الأطفال من الأخلاق السيئة، وعلى رأسها الكذب، الذي يؤدي بصاحبه "إلى ارتكاب المعاصي، قال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -:"إن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬2) الأزدي، أبو داود، سليمان بن الأشعث , السجستاني. سنن أبي داود. (تحقيق) عبد الحميد، محمد، محيي الدين، القاهرة، دار إحياء السنة النبوية، دون طبعة وتاريخ، الجزء الرابع، ص 8، كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، حديث رقم 3878. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬4) المرجع السابق، ص 134. (¬5) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 64، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان، حديث رقم 61.

الصدقَ يهدي إلى البرِ، وإن البِر بهدي إلى الجنة، وإن الرجلَ ليصدقُ حتى يكون صديقًا. وإن الكذبَ يهدي إلى الفجورِ، وإن الفجورَ يهدي إلى النارِ، وإن الرجلَ ليكذبُ حتى يكتبَ عند الله كذابًا" (¬1). كما أوصى ابن الجوزي أن يحث الأطفال على بر الوالدين، لما لهما من الفضل عليهم. ولحديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءه رجل وسأله: من أحقُ بحسنِ صحابتي؟ قال: أمُك. قال: ثم من؟ قال: أمُك. قال: ثم من؟ قال أمُك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك" (¬2). وفي هذا يقول ابن الجوزي: "وليُحذر الصبي من الكذب غاية التحذير، ومن المخالطة للصبيان المعوجين. وليوصه بزيادة البر للوالدَين" (¬3). كذلك أوصى ابن الجوزي أن يؤدَّب الطفل بالآداب الاجتماعية، التي تهذب سلوكه فقال: "يؤدب بالنهي عن استدبار الناس، والامتخاط بينهم والتثاؤب" (¬4). إلى غير ذلك من الآداب الاجتماعية والمعايير السلوكية، التي تُغرس في نفس الطفل فتكون كما قال ابن الجوزي: "فإذا ترعرع كان الأدب شعاره من غير تعلم والحياء لباسه من غير ترهيب" (¬5). ب- وسائط التربية عند ابن الجوزي: حتى يجد الطفل البيئة التربوية والاجتماعية الصالحة، التي تغرس فيه القيم والسلوكيات الفاضلة، وتقيه من السلوكيات السيئة، وتوجهه ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 507، كتاب الأدب باب قول الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، حديث رقم 6094. (¬2) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 401، كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحسن الصحبة، حديث رقم 5971. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 244. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬5) المرجع السابق، ص 138.

بطريقةٍ صحيحةٍ لابد من وجود عدد من المؤسسات أو الوسائط التي تقوم بهذا الدور الهام في حياة الطفل. ومن خلال آراء ابن الجوزي التربوية -لاحظت الباحثة- أن ابن الجوزي ركز على الدور التربوي للأسرة والصحبة، وأهمل دور المؤسسات التربوية الأُخرى كالمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام .. وغيرها، في هذه المرحلة وفي المراحل الأُخرى. لذلك ستذكر الباحثة آراء ابن الجوزي التربوية في البيئة الأسرية التي قصرها على الوالدين والصحبة، وأغفل تأثير الإخوة والأقارب في غرس القيم والآداب في نفس الطفل. 1 - الأسرة: أدرك ابن الجوزي الدور التربوي والتوجيهى للآباء، وأثره في تشكيل شخصية الطفل، والحفاظ على فطرته السليمة من المؤثرات الخارجية فيه. فقال: "إن هذا الموسم يتعلق معظمه بالوالدين فهما يربيان ولدهما ويعلمانه ويحملانه على مصالحه، فلا ينبغى أن يفترا عن تأديبه وتعليمه، فإن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر" (¬1). وقد استمد ابن الجوزي قوله من حديث رسولنا - صلى الله عليه وسلم -وإن لم يستشهد به- حيث قال: "أَلا كلُكم راع، وكُلكم مسؤول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناسِ راع، وهو مسؤول عن رعيتهِ. والرجلُ راع على أهلِ بيته وهو مسؤول عنهم. والمرأةُ راعية على بيتِ بعلِها وولدِه، وهي مسؤولة عنهم. والعبدُ راع على مالِ سيدهِ، وهو مسؤول عنه. ألا فكلكم راعِ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيتِه" (¬2). وقد اعتبر ابن الجوزي اهتمام الوالد بتربية ولده أمانة يُسأل عنها يوم القيامة، فقال: "وليعلم الوالد أن الولد أمانة في عنقه" (¬3). وقد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1459، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم، حديث رقم 1829. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134.

اشتق هذا المعنى أيضًا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، أَحفِظَ ذلك أم ضيعه؟ حتى يُسأل الرجل عن أهلَ بيته" (¬1)، وقد حدد ابن الجوزي دور الأب في ثلاثة أمور هي: التربية والتعليم، وتحمل المسؤولية، وذلك في قوله: "يربيان ولدهما ويعلمانه ويحملانه على مصالحه" (¬2). وقد استقى ابن الجوزي دور الأب مما قررته الشريعة الإسلامية، وإن لم يصرح بذلك، وذكرها الشيخ محمد أبو زهرة بقوله: "يولد الطفل فتثبت عليه ثلاث ولايات: 1 - ولاية التربية الأُولى: وهي في الفترة التي لا يستطيع أن يقوم فيها بحاجاته بنفسه وهي الحضانة. 2 - والولاية الثانية: ولاية الحفظ والصيانة والتعليم. وهي الولاية على النفس. 3 - والولاية الثالثة: تدبير شؤون ماله إذا كان له مال. وهذه تسمى الولاية على المال" (¬3). كما نبه ابن الجوزي الوالد عند معاملته لابنه أن يجمع بين الحزم والحنان، حتى يجني ثمرة التهذيب والتوجيه والإصلاح، فقال: "ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد، لأنه يتسلط عليك، ويضيع مالك، ويبالغ في الإدلال، ويمتنع عن التعلم والتأدب" (¬4). وذلك لأن الإفراط في الدلال وإظهار مشاعر الحب للطفل "يؤدي إلى تكوين الغرور والثقة الزائدة بالنفس والعصيان وعدم احترام السلطة عند الأطفال، فإذا ما ظهرت هذه الميول ظهورًا فعليًا في سلوك الأطفال، فإنها تؤدي إلى سوء التكيف الشخصي والاجتماعي، ويصبح الطفل نتيجة لهذا في حالة من التوتر الانفعالي تتميز بعدم الأمان والكفاية" (¬5) , لذلك ينبغي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 208، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الإمام، حديث رقم 1705. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58. (¬3) أبو زهرة، محمد. تنظيم الإسلام للمجتمع. القاهرة، دار الفكر العرب، 1385 هـ - 1965 م، ص 99. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 345. (¬5) فراج، عثمان، لبيب. أضواء على الشخصية والصحة العقلية. القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، 1970 م، ص 134 - 135.

الاعتدال في هذه الأمور. ولا يقتصر دور الأب على الرعاية والتوجيه، بل لابدَّ من المتابعة المستمرة، وبذل أقصى جهد في الاهتمام، مع استخدام جميع الوسائل التربوية والتهذيبية المناسبة لغرس القيم والآداب، واقتلاع الصفات السيئة إذا انحرف، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فمن رزق ولدًا فليجتهد معه، والتوفيق من وراء ذلك" (¬1). 2 - الوسط الاجتماعي وأهمية الصحبة: من المعروف أن الطفل مخلوق اجتماعي، يميل بفطرته إلى صحبة من في سنه، ومن خلال هذا الاجتماع والاحتكاك المباشر بهم، يؤثر ويتأثر ويتعلم العادات الاجتماعية، والآداب السلوكية واللغة وطريقة التفكير .. وكل ما له علاقة بتعامله مع الآخرين. وفي هذا يقول ابن الجوزي: "وينبغي أن يعلم أن الطبع لص، فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم" (¬2). وقد أدرك ابن الجوزي ما للصحبة من التأثير السلبي، أو الإيجابي في الآخرين، فحذر بقوله: "فيجنبه قرناء السوء من الصغر، ولا يعوده إياهم" (¬3) وقوله: "وليُحَذر من مصاحبته للجهال والسفهاء، فإن الطبع لص" (¬4). حتى لا يتأثر بهم، فتفسد أخلاقه. وقد حث ابن الجوزي على مصاحبة ذوي الدين والخلق، حتى يقتدي بهم في سلوكهم وخلقهم وعلمهم، فيصبح من أصحاب الهمم العالية، والنفوس الأبية، والأخلاق الفاضلة، فقال: "وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء" (¬5) وقال في ذلك: "وليكن جلساؤك الكتب ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 17. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 119. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 244. (¬5) المرجع السابق، ص 244.

وانظر فى سير السلف، وتلمح سير الكاملين في العلم والعمل ولا تقنع بالدون" (¬1). وقد بنى ابن الجوزي آراءه في الصحبة على قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (¬2). وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "مثلُ الجليسِ الصالح والسوءِ كحامل المسكِ، ونافخ الكير، فحاملُ المسكِ إما أن يحذيكَ، وإمَا أن تبتاعَ منه، وإما أن تجدَ منه ريَحًا طيبة. ونافخُ الكير إما أن يحرقَ ثيابكَ، وإما أن تجدَ ريحًا خبيثة" (¬3). وهكذا لا تخرج آراء ابن الجوزي عن المنهج التربوي الإسلامي، ولكنها لا تشمل جميع الجوانب التربوية والنفسية والصحيةَ والخلقية والاجتماعية. جـ - أساليب التربية الإسلامية في نظر ابن الجوزي: لم يفت ابن الجوزي أن يذكر عددًا من الأساليب التهذيبية، والتقويمية، التي يحتاجها المربي لتعديل السلوك أو اقتلاعه أو غرسه، لأنه أدرك أن الأساليب التربوية المتنوعة "هي أداتنا الوحيدة لتحقيق ما نؤمن به من الأهداف، لذلك ينبغي العناية الكاملة بها، والتدقيق في بحثها واختيارها، إذ الوسيلة الفاسدة تضيع الهدف الصالح وتحيد عن الطريق" (¬4). وحتى تؤدي هذه الأساليب دورها في غرس القيم الصالحة، واقتلاع السلوكيات الفاسدة، لابد أن تتناسب وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها، وقبل أن يبين ابن الجوزي الأساليب التربوية، بين طبيعة النفس البشرية كما خلقها الله تعالى، وأهمية اختيار الوسيلة المناسبة لتقويم هذه الطبيعة، فقال: "إن الطباع لمَّا خُلقت مائلة إلى حب ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 53. (¬2) سورة الفرقان، الآيات 27 - 29. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع، ص 660، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، حديث رقم 5534. (¬4) مرجع سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول، ص 12.

الشهوات المردية والبطالة المؤذية افتقرت إلى مقوم، ومثقف ومحذر يرد، فهي في ضرب المثل كالماء يجري بطبعه، فإذا رد بسكر (¬1) وقف عن جريانه، ثم أخذ يعمل في فتح طريق. فكما ينبغي أن يتعاهد ذلك السكر بالإحكام، فكذلك ينبغي أن تتعاهد الطباع بالزواجر ولا ينبغي أن يطول أمد التعاهد، فإن عمل الماء في باطن السكر دائم وإن خفي. وكذلك الطباع في ميلها إلى ما يؤذيها، ولهذا بُعث الأنبياء بالترغيب والترهيب، وأُنزلت عليهم الكتب للتثقيف والتأديب، فما زالوا مبشرين ومنذرين. ثم خلفهم العلماء. وقد كان العلماء كلهم يذكرون بفتاويهم وعلمهم" (¬2). وقد اقتضت حكمة الله تعالى المعالجة، لطبيعة النفس البشرية، أن تتعدد الأساليب التربوية في القرآن الكريم والسنة النبوية وتتنوع، حتى يتربَّى الإنسان من خلالها، ويعدِّل سلوكه، ويرتقي بنفسه، لأن "كل لون من هذه الألوان ينفذ إلى النفس من أحد منافذها، ويلعب على بعض أوتارها حتى يغادر الإنسان في النهاية، ولم يبق منفذ واحد لم ينفذ إليه، ولا وتر واحد لم يوقع عليه، ولا جانب ولا اتجاه" (¬3). وأهم الأساليب التربوية التي ذكرها ابن الجوزي هي: أسلوب القدوة، أسلوب الكتابة والتأليف (الأسلوب المباشر)، أسلوب القصة، أسلوب الوعظ، أسلوب الترويح عن النفس، أسلوب ملء وقت الفراغ، وأسلوب الثواب والعقاب. وسأركز على الأساليب التربوية المتعلقة بتربية الأطفال، لارتباطها بموضوع هذا الفصل. ¬

_ (¬1) معنى سكر: "وسكر النهر يسكره سكرًا: سد فاه. وكل شق سدَّ، فقد سُكِر، والسكر ما سدَّ به. والسكر: سد الشق ومنفجرِ الماء، والسكر: اسم ذلك السداد الذي يجعل سدًا للشق ونحوه". ومعنى الماء الساكر: الساكن الذي لا يجري، وقد سكر سكورًا. وسَكَرَ البحرُ: رَكَدَ". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الرابع، ص 375. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب القُصاص والمذكرين. (تحقيق) الصباغ، د. محمد، لطفي، ص 173 - 174. (¬3) مرجع سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول، ص 221.

1 - أسلوب التربية بالقدوة: يعتبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة الحقيقية للمسلمين، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬1). وقال ابن الجوزي: "وأنفع العلوم النظر فى سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه" (¬2) واقتبس هنا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬3). وبما أن النفوس البشرية جُبلت على حب الصالحين والاقتداء بهم، فقد بين ابن الجوزي التأثير الفعلي للقدوة في النفس، فقال: "لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم. وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه" (¬4). وقوله أيضًا: "الاستدلال بالفعل أقوى من الاستدلال بالقول، فإن الطبيب إذا أمر بالحمية ثم خَلط لم يُلتفَت إلى قوله" (¬5). وقد كان رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - قدوة أصحابه فقد كانوا "يرونه -وهو بشر منهم- تتمثل فيه هذه الصفات كلها وهذه الطاقات فيصدقون هذه المبادئ الحية، لأنهم يرونها رأي العين ولا يقرأونها في كتاب! ويرونها في بشر، فتتحرك لها نفوسهم وتهفو لها مشاعرهم. ويحاولونَ أن يقبسوا قبسات من الرسول .. كل بقدر ما يطيق أن يقبس، وكل بقدر ما يحتمل كيانه الصعود. لا ييأسون ولا ينصرفون .. ولا يدعونه حلمًا مترفًا لذيذًا يطوف بالأفهام .. لأنهم يرونه واقعًا يتحرك في واقع الأرض. ويرونه سلوكًا عمليًا لا أماني في الخيال" (¬6). كذلك وضح ابن الجوزي أهمية القدوة في حياة المسلم، ودورها في المحافظة على سلوكه القويم أمام الآخرين، حتى يحصل التأثير ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية 21. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 66. (¬3) سورة الأنعام، الآية 90. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 134. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، الجزء الثاني، ص 204. (¬6) مرجح سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول، ص 225.

المطلوب، وفي ذلك يقول: "وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة وخطوة، فإنك مسؤول عن ذلك، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السامعون، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل الماء عن الحجر" (¬1). 2 - أسلوب الثواب والعقاب: كان لابن الجوزي اهتمام بأسلوب الثواب والعقاب عند تعلم الطفل السلوكيات المرغوبة، وحتى يأتي هذا الأسلوب التربوي بالهدف منه في غرس القيم وتعديل السلوك، بطريقةٍ إيجابيةٍ مثمرة، نصح ابن الجوزي المربي الذي اعتبره كالطبيب، أن يكون عالمًا بطبيعة الطفل من كل الجوانب، والأسلوب المناسب الذي يصلحه، فقال: "وأعلم أن الطبيب ينظر إلى سن المعالج ومكانه وزمانه، ثم يصف، فكذلك ينبغي أن تكون رياضة كل شخص على قدر حاله" (¬2)، لأن الأطفال -كما سيوضح الفكرة الأستاذ محمد قطب- يتفاوتون في الأسلوب الذي يصلحهم، "فمنهم من تكفيه الإشارة البعيدة فيرتجف قلبه ويهتز وجدانه، ويعدل عما هو مقدم عليه من انحراف، ومنهم من لا يردعه إلا الغضب الجاهر الصريح. ومنهم من يكفيه التهديد بعذاب مؤجل التنفيذ. ومنهم من لابد من تقريب العصا منه حتى يراها على مقربة منه. ومنهم بعد ذلك فريق لابد أن يحس لذع العقوبة على جسمه لكي يستقيم" (¬3). لذلك لابد من المعرفة الدقيقة لطبيعة نفسية الطفل، حتى يسهل استخدام الأسلوب المناسب معه عند ثوابه أو عقابه. وقد حثَّ ابن الجوزي على البدء بأسلوب الثواب، فقال: "وينبغي أن يتلطف بالصبي، قال رجل لسفيان الثوري: نضرب أولادنا على الصلاة؟ قال: بشرهم" (¬4). وذلك لأن أسلوب الثواب أقوى وأبقى أثرًا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 59. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133. (¬3) مرجع سابق، قطب، محمد. منهج التربية الإسلامية. الجزء الأول، ص 236. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133.

في نفس الطفل، لتشجيعه على السلوك المرغوب، من العقاب الذي يسبب للطفل الألم والإحباط. ثم ينوع المربي بين الثواب والعقاب للطفل حسب حالته والموقف الذي يمر به، وما بين الأطفال من فروق فردية، قال ابن الجوزي في ذلك: "إن الرياضة للنفس تكون بالتلطف والتنقل من حال إلى حالٍ، ولا ينبغي أن يؤخذ أولًا بالعنف، ولكن بالتلطف ثم يمزج الرغبة بالرهبة" (¬1). ثم يحدد ابن الجوزي الخطوات المتبعة لتقويم سلوك الطفل، فيوصي أولًا: إذا أخطأ الطفل ثم اجتهد في إخفاء خطئه عن الناس خوفًا من العقاب أو حياء من الخطأ، فعلى المربي أن يتغافل عن إساءته، ولا يظهر معرفته لذلك؛ لأن الطفل أدرك من خوفه وحيائه الخطأ الذي وقع فيه، فهذا خير مهذب له وواقٍ من تكرار الخطأ، قال ابن الجوزي في ذلك: "فإن أساء تغافل عن إساءته، ولا يهتك مؤدبه ما بينه وبينه من الستر ولا يوبخ إلا سرًا" (¬2). فإذا عاد الطفل مرةً أخرى لارتكاب الخطأ نفسه، فعلى المربي أن يوبخه ويلومه سرًا، حتى لا يشعر بامتهان كرامته أمام الآخرين. فإذا أقلع عن الخطأ فقد نفعته الموعظة، وإن لم تنفعه وعاد إلى إساءته، وتمكنت فيه الخصال القبيحة، فيصعب التخلص منها، شدد في عقابه حتى يتركها، فإن لم يجدِ معه هذا الأسلوب المعنوي، يلجأ المربي إلى آخر العلاج، وهو الضرب الذي يؤدي إلى صلاحه. قال ابن الجوزي: "فإذا علقت به عادة خبيثة بُولغ في ردعه عنها قبل أن تتمكن. ولا بأس بضربه إذا لم ينفع اللطف" (¬3). والضرب الذي ينصح به ابن الجوزي هو من النوع الذي لا يشوه ولا يجرح ولا يؤذي الطفل إيذاءً شديدًا في بدنه أو عقله، وقد دلل ابن الجوزي على دور الضرب المؤدي للصلاح وتعديل السلوك بقول لقمان لابنه: "يا بني ضرب الوالد للولد مثل السماد للزرع" (¬4). ولكنه لم يحدد مواصفات الضرب وأنواعه. كما أوصى ابن الجوزي بمعاملة الأطفال المتميزين ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 132. (¬2) المرجع السابق، ص 134. (¬3) المرجع السابق، ص 134. (¬4) المرجع السابق، ص 134.

بحدة الطبع، باللطف والرفق والمعاملة الطيبة، لأن ذلك أجدى في تقويم سلوكهم ووقايتهم من اللجوء إلى العناد والإصرار على الخطأ فقال: "وإذا رآه عَرِمًا (¬1) في صغره فليتلطف به" (¬2). وهذا المبدأ التربوي اشتقه ابن الجوزي من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد رواه ابن عباس -واستشهد به ابن الجوزي: "عَرامة الصبي في صغره زيادة في عقله في كبره" (¬3). مما سبق نجد أن ابن الجوزي، ذكر وسائل وأساليب تربوية عدة لتهذيب سلوك الطفل، وتقويم اعوجاجه بصفة عامةٍ، دون تحديد لما يناسب كل مرحلة من مراحل النمو الإنساني، لأنه كما ذكر د. مقداد يالجن: "تختلف أساليب التربية والتعليم ووسائله بحسب مراحل النمو، فمثلًا الأساليب المناسبة لمرحلة الطفولة، والوسائل المستعملة لعملية التعليم، غير الأساليب والوسائل التي ينبغي أن تستعمل في مرحلة المراهقة، إذ إنها ينبغي أن تكون حسية بقدر الإمكان في المرحلة الأولى، وأن تكون عقلية إدراكيةً في المرحلة الثانية، وقد يقتضي الأمر الجمع بين الوسيلتين في بعض الموضوعات التعليمية" (¬4). لذلك لابد من تحديد الوسيلة المناسبة للمرحلة العمرية، التي تتناسب مع خصائص نموها. وربما لم يحدد ابن الجوزي الأسلوب التربوي المناسب لكل مرحلة، لأنه لم يكتب في جوانب التربية كتاباتٍ متخصصة كما يكتب المتخصصون في هذا العصر. ¬

_ (¬1) معنى عرمًا: "والعرام: الشدة والقوة والشراسة. وعَرَمَنا الصبيُّ وعَرَمَ علينا وعرم يعرِم ويعرُم عَرامة وعرامًا: أشر. وقيل: مرِح وبطِر، وقيل: فسد". ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثاني عشر، ص 395. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬3) مرجع سابق، الهندي، علي، المتقي. منتخب كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال هامش مسند الإمام أحمد بن حنبل. (وضع فهارسه) محمد، ناصر الدين، الألباني، الجزء الأول، ص 239. تخريج هذا الحديث في الباب الخامس، الفصل الأول من البحث وهو حديث ضعيف. (¬4) مرجع سابق، يالجن. بناء البيت السعيد فى ضوء الإسلام. ص 139 - 140.

د- التوجيه التعليمي للأطفال عند ابن الجوزي: تناول ابن الجوزي التوجيه التعليمي عند الأطفال بشيء من التفصيل، بينما أغفله في مرحلة البلوغ والشباب. وقد حدد سن الخامسة من عمر الطفل بداية التعليم المنظم المقصود، فقال: "فأما تدبير العلم فينبغي أن يحُمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث" (¬1). بينما خالفه علماء التربية وعلم النفس المحدثون وحددوا بداية مرحلة التعليم من "سن 6 - 9 سنوات" (¬2). أما في تاريخنا التعليمي السابق فقد ذكر د. الأهواني مجمل آرائهم فقال: "لم يكن هناك سن معينة يبدأ عندها الطفل في تلقي العلم، وإنما كان الأمر متروكًا لتقدير آباء الصبيان، فإذا وجدوا أن الطفل بدأ في التمييز والإدراك، دفعوا به إلى الكتاب. عن أبي بكر بن العربي قال: "وللقوم في التعليم سيرة بديعة وهو أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب". ونحن نرجح أن هذه السن لم تكن محدودة، بل كانت تشمل مرحلة بين الخامسة والسابعة، تبعًا لاختلاف نضج الصبيان وتقدمهم في الفهم والتمييز" (¬3). ومن هنا نرى أن ابن الجوزي كان يسير على نهج العلماء المسلمين نفسه في تحديد سن الدراسة. كذلك بين ابن الجوزي أن وقت الصغر -دون تحديد السن- أفضل سنوات عمر الإنسان لحفظ العلم، فقال في ذلك: "وللحفظ أوقات من العمر، فأفضلها الصبا (¬4) وما يقاربه من ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 244. (¬2) أ - مرجع سابق، زهران. علم نفس النمو. ص 206. ب - صالح، د. أحمد، زكي. علم النفس التربوي. القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة عشر، ص 139. جـ - مرجع سابق، الغريب، د. رمزية. التعلم. ص 511. (¬3) الأهواني، د. أحمد، فؤاد. التربية في الإسلام. القاهرة، دار المعارف، دون طبعة وتاريخ، ص 59. (¬4) معنى الصبا: "والصبوة: جمع الصبي، والصبية لغة، والمصدر الصبا: يقال رأيته في صباهِ أي في صغره. وقال غيره: رأيتهُ في صبائهِ أي في صغرهِ". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الرابع عشر، ص 450.

أوقات الزمان" (¬1). ويستمر إلى خمس عشرة سنة، فقال في ذلك: "ليحصِّل له وليه المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة" (¬2). ورأي ابن الجوزي في الحفظ يؤكد ما أثبته علم النفس من أن ذاكرة الطفل في هذه السن، تنمو بصورةٍ مستمرةٍ وسريعةٍ -إذا استمر في ممارسة الحفظ-، وتتميز بالوعي والإدراك لاستيعاب المعلومات وحفظها إلى سن خمس عشرة سنة بدرجة أكبر، وهذا لا يعني أن قدرة الطفل على الحفظ تتوقف بعد هذه السن، ولكنها تقل عما كانت بسبب الانشغال بالأمور المعيشية والحياتية للإنسان. وقد أكد د. فؤاد البهي ذلك بقوله: "ويستمر النمو بالتذكر المباشر حتى يبلغ ذروته في السنة الخامسة عشرة لميلاد الفرد، ثم يضعف وينحدر في سرعته وقوته ومداه" (¬3). إذا توقفت القدرة الحافظة عن ممارسة الحفظ، وكذلك القدرات الأُخرى، لذا ينبغي الاهتمام بالطفل في هذه السن واستغلال قدرته على الحفظ، في حفظ القرآن الكريم. وبما أن الطفل في هذه السن مهيأ عقليًا للتعلم، فقد وضع له ابن الجوزي بعض التوجيهات التعليمية التي تتناسب وقدراته واستعداداته ونموه العقلي. كما حدد بعض المبادئ التربوية. التي ينبغي أن يراعيها المعلم قبل تعليمه الأطفال، وتلك المبادئ هي: 1 - أن يكون المعلم عالمًا بخصائص نمو الأطفال واستعدادتهم وقدراتهم، وكيفية توجيه كل طفل على حسب نمو هذه الخصائص لديه. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "إن الطبيب ينظر إلى سن المعالج ومكانه وزمانه، ثم يصف، فكذلك ينبغي أن تكون رياضة كل شخص على قدر حاله" (¬4). 2 - أن يبدأ في تعليمه العلوم الأساسية، ثم العلوم الأقل أهمية، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 177. (¬2) المرجع السابق، ص 244. (¬3) مرجع سابق، السيد. الأسس النفسية للنمو. ص 273. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133.

حتى لا ينتهي عمره، وهو لم يحصل العلوم الضرورية، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وإن كان كل العلوم حسنًا، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل" (¬1). 3 - أن لا ينتقل من علم إلى آخر، حتى يتقن ما قبله ويستوثق من فهمه، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وأن لا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله " (¬2). 4 - أن يقرن العلم بالعمل. لأنهما السبيل إلى معرفة الله تعالى، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل، فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية المقصودة" (¬3). 5 - أن لا يقتصر على علم واحد، بل يأخذ من كل علم ما يحتاج إليه بقدر يساعده على السير في الحياة الدنيا، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "إنه لما علم أن العمر لا يسع الكل، أخذ ما يحتاج إليه من الكل زادًا لمسيره" (¬4) وقوله أيضًا: "ينبغي لكل ذي علم أن يلمَّ بباقي العلوم، فيطالع منها طرفًا، إذ لكل علم بعلم تعلق" (¬5). وهذا يدلنا على رأي ابن الجوزي في اتصال وارتباط العلوم بعضها ببعض دون تجزئة أو فصل. 6 - مراعاة الفروق الفردية بين الأفراد، لقول ابن الجوزي: "ما أكثر تفاوت الناس في الفهوم، حتى العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير في الأصول والفروع" (¬6). وقوله بشأن الحفظ: "والناس يتفاوتون في ذلك؛ فمنهم من يثبت ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 178. (¬2) المرجع السابق، ص 178. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 43. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 139. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 439. (¬6) المرجع السابق، ص 475.

معه المحفوظ مع قلة التكرار. ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ، ليثبت معه المحفوظ" (¬1). وقد استشهد ابن الجوزي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تعاهدوا القرآنَ فإنه أشد تفصيًا من صدورِ الرجالِ من النعَمِ من عقلِها" (¬2). وقوله أيضًا: "لا ينبغي أن يُكلمَ كل قوم إلا بما يفهمون" (¬3). وقد استشهد بقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "حدثوا الناسَ بما يعقلون. أتحبون أن يُكذبَ اللهُ ورسولُه" (¬4). وهذه القاعدة التي قررها ابن الجوزي يشهد لها حديث آخر نذكره وإن لم يستشهد به ابن الجوزي، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزلَ الناسَ منازلَهم" (¬5). وعن عبد الله بن مسعود قال: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغهُ عقولُهم، إلا كان لبعضهم فتنة" (¬6). وقد قسم ابن الجوزي المنهج التعليمي إلى مرحلة ما قبل الدراسة النظامية أو الإلزامية، ومرحلة ما بعد هذه المرحلة. 1 - المنهج التعليمي في مرحلة ما قبل الدراسة النظامية: لم يحدد ابن الجوزي السن الملزمة لدراسة هذا المنهج، ولكنه ركز فيه على غرس العقيدة الإسلامية الصحيحة من خلال التأمل في خلق ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 21. (¬2) المرجع السابق، ص 21. (¬3) ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. أخبار الحمقى والمغفلين. بيروت، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الخامسة، 1403 هـ -1973 م، ص 125. (¬4) المرجع السابق، ص 125. وقد ورد لفظ الحديث في. فتح البارى بشرح صحيح البخاري. "حدثوا الناس بما يعرفرن، أتحبون أن يكذب الله ورسوله". الجزء الأول , ص 225، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، حديث 49. (¬5) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 6، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع. (¬6) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 11، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.

السماوات والأرض، ومعرفة الخالق تبارك وتعالى. قال ابن الجوزي: "وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة، خصوصًا في جسد نفسه، علم أنه لابد للصنعة من صانع، وللمبني من بانٍ" (¬1). وقد استدل على ذلك من الآيات القرآنية، التي تدعو إلى النظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (¬2). ثم بعد معرفة الخالق من خلال مخلوقاته، يُوجه لمعرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والكتاب المنزل عليه. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ثم يتأمل دليل صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إليه وأكبر الدلائل القرآن، الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله، فإذا ثبت عنده وجود الخالق جل وعلا، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجب تسليم عنانه إلى الشرع، فمتى لم يفعل ذلك دل على خلل في اعتقاده" (¬3). في هذه النقطة ينصح ابن الجوزي بلفت نظر الطفل إلى إعجاز القرآن الكريم، ولكنه لم يوضح السن المناسبة، والطريقة الصحيحة التي يتم من خلالها توصيل الشعور بهذا الإعجاز القرآني إليه، بحيث يدركه الطفل، وتتحرك مشاعره نحو الله تعالى لتقديره وتقديسه والإيمان به، وأعتقد أن هذه النقطة ممكن تأجيلها إلى مرحلة لاحقة حتى تكبر مدارك الطفل ويستوعب هذا الإعجاز بوعي وفهم واقتناع. فإذا تأكد المربي من فهم الطفل لهذين الأمرين، واستوثق من يقينه بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكتابه الكريم، فعليه أن يعلمه الفرائض والواجبات التي يحتاجها في حياته اليومية، وقد قال في ذلك ابن الجوزي: "ثم يجب عليه أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة والزكاة -إن كان له مال- والحج ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 44. (¬2) سورة الغاشية، الآية 17 - 20. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 44.

وغير ذلك من الواجبات. فإذا عرف قدر الواجب قام به" (¬1) ثم إذا عرف الطفل هذه الأمور بوعي وفهم وتدبير، انتقل إلى المرحلة الثانية وهي: 2 - المنهج التعليمي الإلزامي لم يحدد ابن الجوزي السن المناسبة لبداية تعليم هذا المنهج، ولكنه ذكر أن أول ما ينبغي تعليمه للطفل هو حفظ القرآن الكريم، ولا يقصد ابن الجوزي أن يحفظ القرآن كله، لأنه يدرك تمامًا أن قدرات الطفل لا تسمح بذلك، وإنما يتم حفظه على أجزاء. وقد قال في ذلك: "وأول ما ينبغى أن يكلف حفظ القرآن متقنًا، فإنه يثبت ويختلط باللحم والدم" (¬2). وقد حث ابن الجوزي على حفظ القرآن الكريم، لأن الطفل لديه القدرة على الحفظ الذي يثبت في ذاكرته، ومع حفظ القرآن الكريم، لابد من فهم معانيه وتفسير آياته بما يتناسب مع نمو الطفل ودرجة إدراكه واستيعابه هذه المعاني. ومن خلال الحفظ والتفسير، يرسخ في عقله وقلبه، ويختلط باللحم والدم، الذي يدعو للتطبيق الواعي. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم لمعانيه أرفع الفهوم، لأن شرف العلم بشرف المعلوم" (¬3). وقول ابن الجوزي: "فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا، لا يخفي عليه بذلك شيء، وإن صح له قراءة القراءات السبعة وأشياء من النحو وكتب اللغة وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك" (¬4). وقد وضح ابن الجوزي أيضًا أن حفظ الطفل للقرآن، لابد أن يصاحبه فهم لحقيقته كما أرادها الله تعالى، فقال: "المراد حفظ القرآن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 44. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 244. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الأول، ص 3. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 169.

وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به ثم الإقبال على ما يصلح النفس ويطهر أخلاقها، ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع" (¬1). ونلاحظ من قول ابن الجوزي، أنه دلنا على الطريقة الصحيحة لدراسة القرآن الكريم وما ينتج من حفظه، من تقويم ألفاظ الطفل للغة العربية، ثم فهم معانيه من خلال تفسير آياته، وبعد الفهم الواعي للاْحكام، يتم التطبيق والعمل به، بما يطهر النفس البشرية ويهذبها ويقوم سلوكها، ويرقي خلقها، من خلال أسلوب القرآن الذي يجمع بين الوعد والوعيد، والقصص والأمثال. فتسري روح القرآن في نفس الطفل وقلبه، فتغمره بنورها في أفكاره ومداركه وحواسه، فيتشبع الطفل به، ويتخلق بأخلاقه ويسمو بآدابه. وبعد أن يتقن الطفل الكريم حفظًا وفهمًا وعملًا، ينظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن الجوزي: "أنفع العلوم النظر قي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه" (¬2). وذلك حتى يقتدي الطفل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في سلوكه وخلقه وعلمه، وفى كل ما يتعلق بحياته العامة والخاصة، لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬3). وقد حذر ابن الجوزي من عادات أصحاب الحديث لأنهم "يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث، فيذهب العمر، وما حصلوا فهم شيء. فإذا بلغوا سنًا طلبوا جواز فتوى، أو قراءة جزء من القرآن، فعادوا القهقهري، لأنهم يحفظون بعد كبر السن فلا يحصل مقصودهم" (¬4). وهناك نوعيات أخرى من أصحاب الحديث ذكرهم ابن الجوزي بقوله: "فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه ولعله لا يفهم جواب حادثة، ولعل عنده للحديث مائة طريق. ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها، لا من صحة حديثها، ولا من فهم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 112. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 66. (¬3) سورة الأحزاب، الآية 21. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 244.

معناها، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي، وعندي له نسخة والكتاب الفلاني والفلاني، فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه، وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم .. ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله، فإذا أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط" (¬1). وحتى لا يضيع عمر الطفل ووقته وجهده في علم لا يفيده في دنياه وآخرته، بين ابن الجوزي ما ينبغي دراسته في مجال علوم الحديث والسنة لمن فارق سن الطفولة، فقال: ". . . وابتدا بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب، ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغنَى عنه كنسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقاربه وأزواجه وما جرى له" (¬2). ثم يدرس قواعد اللغة العربية، حتى يستطيع أن يفهم معاني القرآن الكريم وتفسيره، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وألفاظه. فيرى ابن الجوزي أن يدرس "مقدمة من النحو يعرف بها اللحن" (¬3)، و"يعرف بها غريب القرآن والحديث، وما يفضل عن ذلك ليس بمذموم غير أن غيره أهم منه" (¬4) وقوله: "ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب، وهو أمر لازم، وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه" (¬5). ثم يرى ابن الجوزي أن يدرس الفقه، لأنه كما يقول "عمدة العلوم" (¬6)، "وأصل العلوم" (¬7). وقال أيضًا بشأن الفقه "وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم" (¬8). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 167 - 168. (¬2) المرجع السابق، ص 169 - 170. (¬3) المرجع السابق، ص 244. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 23. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 126. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 23. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 45. (¬8) مرجع سابق , ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 169.

والفقه في الاصطلاح الشرعي: "هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية المستفادة من أدلتها التفصيلية" (¬1). كذلك يرى ابن الجوزي أن "أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه، علم أنه أفضل العلوم" (¬2). وثمرة الفقه التي يقصدها ابن الجوزي هي حصيلة أو مجموع الأحكام الشرعية التي يحتاجها المسلم في حياته العامة والخاصة بعد أن جعل أصله الفهم الصحيح لعلم العقيدة. لقول ابن الجوزي: "وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل. . . ." (¬3). ثم بين ابن الجوزي طريقة دراسة الفقه فقال: "ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم" (¬4). وحتى يكون الفقيه متمكنًا من علمه، يجب أن تكون لديه القدرة على الفهم الدقيق ثم الاستنباط، ثم الترجيح، ولابد أن يتزود من بعض العلوم بالقدر الذي يحتاجه ويساعده في التمكن من علمه، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "للفقيه أن يطالع من كل فن طرفًا، من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقيه يحتاج إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهمًا" (¬5) فعبارة ابن الجوزي "جميع العلوم" تدل على جميع العلوم الموجودة في عصره والتي يحتاجها الفقيه في التمكن من علمه. وحتى يحصل المتعلم على فائدة العلم، ومتعة النفس، التي تدفعه للعمل بما تعلم، لابد من الإلمام بالرقائق، والاقتداء بالصالحين في سلوكهم، حتى يمزج العلم المجرد المقتصر على الأحكام، بالرقائق، ¬

_ (¬1) خلاف، عبد الوهاب. علم أصول الفقه. الكويت، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة العاشرة، 1392 هـ- 1972 م، ص 11. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 162. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفنة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 44. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 169. (¬5) المرجع السابق، ص 438.

والأحاديث التي تخاطب العاطفة والوجدان، فتنفعل بها النفس البشرية، وتحفزها للعمل بها، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج معناها بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين. لأنهم تناولوا مقصود النقل وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها .. ولا يصلح العمل مع قلة العلم" (¬1). كما حبذ ابن الجوزي تعليم الطفل الشعر العفيف، الذي يُنبت في قلبه العفة والطهر، والشعر الذي يحث على مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال، ومعالي الأمور، حتى ينشأ الطفل كريم النفس، قويم الخلق، عالي الهمة. ويجُنب شعر الغزل حتى لا يفسد الطفل، ويكون همه إشباع الشهوات، والجري وراء الملذات. وقال في ذلك: "وليجننه أشعار الغزل، لأنها بذور الفساد، ولا يمنع من أشعار السخاء والشجاعة ليمجد وينجد" (¬2). ونلاحظ أن المنهج التعليمي الذي وضعه ابن الجوزي، يركز على العلوم الإسلامية، وينتقد بشدة من يقضي عمره في تعلم العلوم التي لا تفيد، لأنه يرى أن يبدأ بالأهم من العلوم ثم المهم، وقال في ذلك: "وإن كان كل العلوم حسنًا، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل" (¬3) وذلك لأنه -كما يقول أيضًا: "قد علم قصر العمر وكثرة العلم" (¬4). لذلك ينبغي أن يركز على العلوم التي تهدف إلى مرضاة الله تعالى، وقال في ذلك: "ثم ينظر في مقصود العلوم، وهو المعاملة لله سبحانه والمعرفة به والحب له" (¬5). وهنا لنا وقفة في تركيز ابن الجوزي على تعليم العلوم الإسلامية واعتبارها الوحيدة المؤدية لمرضاة الله تعالى، مع أن جميع العلوم الأُخرى غير الدينية كالفيزياء والهندسة وغيرها تؤدي إلى مرضاة الله تعالى إذا نوى الإنسان ذلك. وبسبب هذا الفهم الخاطئ تعثرت الأُمة الإِسلامية ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 216. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 178. (¬4) المرجع السابق، ص 169. (¬5) المرجع السابق، ص 310.

واعتمدت اعتمادًا كاملًا على الدول الغربية في معطيات الحضارة الحديثة. وأصبحت عاجزةً عن مواكبة هذه التقنية الحديثة بسبب جهل أبنائها وحصر تعليمهم في العلوم الشرعية فقط وتنفيرهم من العلوم الدنيوية الأُخرى. والعلوم التي انتقدها ابن الجوزي هي: علم النجوم، (علم الفضاء الآن)، الكيمياء، علم الكلام. وقد اعتبر ابن الجوزي علم الفلك من العلوم التي ينبغي تعلمها بالقدر الذي يساعد لمعرفة الأوقات فقط، وقد قال في ذلك: "وما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم، وإنما ينبغي أن يعرف عن ذلك اليسير والمنازل لعلم الأوقات" (¬1). كذلك انتقد بشدة علم الكيمياء بقوله: "وأبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيمياء، فإنه هذيان فارغ. وإذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاسًا لم يتصور قلب النحاس ذهبًا. فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في جمع النقود. هذا إذا صحَّ له مراده" (¬2). أما علم الكلام فقد نهى عن الخوض فيه، لما يترتب عليه من إفساد العقيدة الصحيحة للإنسان وقال فيه: "ما نهى السلف عن الخوض في الكلام إلا لأمر عظيم، وهو أن الإنسان يريد أن ينظر ما لا يقوى عليه بصره، فربما تحير فخرج إلى الحجب، لأنا إذا نظرنا في ذات الخالق حار العقل وبهت الحس، فهو لا يعرف شيئًا لا بداية له، إنه لا يعلم إلا الجسم والجوهر والعرض، فإثبات ما يخرج عن ذاك لا يفهمه" (¬3). ولابد من وقفة متأنية لمناقشة رأي ابن الجوزي في علم النجوم، وعلم الكيمياء، وعلم الكلام. فرأيه في علم النجوم يعتبر إلى حد ما صحيح، لأنه حريص على سلامة عقيدة المسلم، من الجهل والخرافة، لاسيما أنه في التنجيم "يحاول المشتغلون به ربط تحركات الكواكب بما يحدث للإنسان من أحداث سعيدة أو غير سعيدة ومحاولة استشارة النجوم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 310. (¬2) المرجع السابق، ص 310 - 311. (¬3) المرجع السابق، ص 266.

والوصول إلى التنبؤ بالغيب" (¬1). فخوفًا على عقيدة المسلم، حدد له ابن الجوزي تعلمه بقدر الحاجة إليه، وإن كان علم النجوم في عصر ابن الجوزي يعني التنجيم، فإنه في عصرنا يعني علم الفضاء وهو من العلوم المهمة التي نبغ فيها الغربيون. أما رأيه في علم الكيمياء -فأعتقد- أنه جَانَبَ الحق والصواب، فعلم الكيمياء يبحث في المعادن بأنواعها، والصناعات المختلفة ومن أهم جوانبه صناعة الأدوية، والمواد العضوية على اختلافها، وجميع هذه المواد خلقها الله تعالى لفائدة الإنسان، وسخر له ما فيها لسد حاجاته، وتيسير أمر معاشه، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬2). بالإضافة إلى أنها من دلائل الإيمان بوجود الله تعالى. ومن هنا نجد أن نقد ابن الجوزي الشديد لتعلم هذا العلم في غير موضعه. يعتبر ابن الجوزي من المتعصبين للمذهب الحنبلي، لذلك فرأيه في علم الكلام الفلسفي مطابق لرأي الإمام أحمد بن حنبل الذي قال: "علماء الكلام زنادقة" (¬3). وهناك فرق بين علم الكلام الفلسفي، وعلم التوحيد في إطار القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وعلم التوحيد هو العلم الذي يبحث في أدلة إثبات وجود الله تعالى ذاتًا وصفات دون تأويل أو تحريف، وهذا منهج أهل السنة والجماعة. وهو (أي علم التوحيد) من العلوم الواجب معرفتها والاشتغال بها. لذلك فرأي أبن الجوزي في علم الكلام إذا خالف منهج أهل السنة والجماعة صحيح لا غبار عليه، حفاظًا على عقيدة المسلم. ¬

_ (¬1) الدفاع، د. علي، عبد الله. العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية. ببروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1403 هـ -1983 م، ص 348، نقلًا من كتاب. عصر الإسلام الذهبي. للمؤلف علي محمد رضا. (¬2) سورة الحديد، الآية 25. (¬3) لبن، علي. الغزو الفكري في المناهج الدراسية. المنصورة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الأولى , 1407 هـ - 1987 م، ص 46.

هـ - الفروق الفردية بين الأطفال عند ابن الجوزي: معنى الفروق الفردية: "هي تلك الصفات التي يتميز بها كل إنسان عن غيره من الأفراد، سواء أكانت تلك الصفة جسمية أو عقلية أم مزاجية. أم سلوكية نفسية أو اجتماعية" (¬1). وسنذكر أهم الفروق الفردية التي تعرض لها ابن الجوزي. 1 - الفروق الفردية في قدرة الأطفال على التعلم: يرى ابن الجوزي أن الأطفال يتفاوتون في قدرتهم على التعلم، فالطفل الذكي النبيه يتعلم بسهولة، والطفل الأقل ذكاء يتعلم بصعوبة، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "وأمارة فلاح الصبي وفساده تبين من طفولته، فالنجيب (¬2) منهم ينتبه بالتعلم، والذي ليس بنجيب لا ينفعه التعلم، كما لا يصير الهجين (¬3) بالرياضة نجيبًا" (¬4). والقدرة على التعلم استعداد فطري وراثي، يساعد على التعلم الجيد، إذا وجد العناية والرعاية الكافية، وإذا أهمل تعرضت نجابته للضياع، والتربية لا تستطيع إيجاد شيء من العدم، ولكنها تساعد على نمو ما هو موجود فعلًا، مثل الهجين لا يتحول بالتربية إلى أصيل كريم. وقد عرف بعضهم "أمثال كولفن " الذكاء: بأنه "استعداد الفرد وقدرته على التعلم" (¬5). وقد أكد ابن الجوزي هذا المفهوم، ووضح أن الأطفال يتفاوتون في مقدار ذكائهم من خلال قدرتهم على التعلم، متفقًا بذلك مع "كولفن" في تعريفه، فقال ابن الجوزي: "يتفاوت الصبيان بعد ذلك، ¬

_ (¬1) الهاشمي، د. عبد الحميد، محمد. الفروق الفردية. بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م، ص 7. (¬2) النجيب: "من الرجال الكريم الحسيب، ابن الأثير، النجيب: الفاضل من كل حيوان". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الأول، ص 748. (¬3) الهجين: هو "العرب ابن الأَمَة لأنه معيب، قال الأزهري: الهجين من الخيل الذي ولدته برذونة من حصان عربي". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثالث عشر، ص 431. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133. (¬5) مرجع سابق، الهاشمي، د. عبد الحميد. الفروق الفردية. ص 124.

منهم من يحتاج إلى محرض وهم الأكثر، ومنهم من تنبهه بأيسر تنبيه، ومنهم من يتعب معه الرائض وجبلته لا تقبل الرياضة" (¬1). كذلك بين ابن الجوزي أن هناك تفاوتًا واضحًا في أنواع النشاط العقلي للأطفال والقدرات الطائفية التي تظهر بينهم أثناء التعلم. فمن الأطفال من لديه القدرة العددية في إجراء العمليات الحسابية، ومنهم من لديه القدرة على الخط والكتابة ولكنه لا يحسن الحساب، ومنهم من لديه القدرة على الحفظ الجيد ولكن ليس لديه القدرة على الكتابة. ومنهم من لا يجيد شيئًا. وفيهم قال ابن الجوزي: "فمن الصبيان بليد الذهن يطول مكثه في المكتب ويخرج وما فهم شيئًا" (¬2) وهذا الصنف من الأطفال شبهه ابن الجوزي بالذي: "لا يعلم وجوده، ولا نال المراد من كونه" (¬3) وقوله أيضًا: "ومن الصبيان من علق بشيء من الخط، لكنه ضعيف الاستخراج، رديء الكتابة، فخرج ولم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته" (¬4) وقوله: "ومنهم من جود الخط ولم يتعلم الحساب، وأتقن الآداب حفظًا" (¬5). 2 - الفروق الفردية بين الأطفال في السلوك: إن السلوك القويم عند الطفل يتأثر بدرجة ذكائه وفهمه وإدراكه للأمور، وهذا ما يؤكده ابن الجوزي بقوله: "ومتى اعتدل المزاج وتكامل العقل، أوجب ذلك يقظة الصبي من حال صغره، فتراه يطلب معالي الأمور" (¬6). كذلك يرى ابن الجوزي أن كمال عقل الطفل يحثه على اكتساب فضائل الآداب، ومعالي الأمور، فقال: "وتُخلق له همة عالية، وشرف ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 17. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 305. (¬3) المرجع السابق، ص 305. (¬4) المرجع السابق، ص 306. (¬5) المرجع السابق، ص 306. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 16.

ثالثا: رأي ابن الجوزي في مرحلة البلوغ والشباب

نفس، فتحمله على طلب المعالي، وتمنعه ركوب الدنايا، فتراه يحب أن يكون رئيس الصبيان، فإذا ترعرع كان الأدب شعاره من غير تعلم، والحياء لباسه من غير ترهيب" (¬1). وكما يتأثر سلوك الطفل بدرجة ذكائه، فإنه يتأثر بقلة ذكائه وصعوبة تعلمه، وسوء تقديره السلوك الصالح، ويصور ابن الجوزي هذا النوع من الأطفال بقوله: "ومن الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه، وعدم تعلمه، أذى الصبيان، فهو يؤذيهم. ويسرق مطاعمهم، ويستغيثون من يده، فلا هو صلح، ولا فهم ولا كف عن الشر" (¬2). وهذا نتيجة قصور فهمه عن إدراك نفعه، فإنه سلك سلوكًا سيئًا. ثم بين ابن الجوزي الطريقة التي يستدل بها على علو همة الطفل من ضعفها. فقال: "ويتبين فهم الصبي وعلو همته وتقصيرها باختياراته لنفسه، فإن الصبيان تجتمع للعب، فيقول عالي الهمة من يكون معي، ويقول قاصر الهمة من أكون معه، ومتى علت همة الصبي آثر العلم" (¬3). وهذا يبين أن ذكاء الطفل دفعه إلى سلوك طريق أصحاب الهمم الكبيرة، والآمال العريضة. ثالثًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة البلوغ والشباب سبق أن ذكرنا أن ابن الجوزي قال عن هذه المرحلة: "الموسم الثاني: من زمن البلوغ إلى خمس وثلاثين سنة وهو زمن الشباب" (¬4). ووضحنا ما يقابلها في علم النفس التكويني وما اختلف عنها -في تقدير ابن الجوزي- من دمج مرحلة البلوغ والشباب في مرحلة واحدةٍ، وهي في علم النفس الآن تمثل مرحلتين: المراهقة من 12 - 21 سنة، ثم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 138. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 306. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب. التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 59. (¬4) المرجع السابق، ص 5.

مرحلة الشباب من 21 - 35 سنة. ولم يحدد ابن الجوزي سن البلوغ، وقد حدده علم النفس من سن 12 - 21 سنة (¬1). وقد قرر علماء الشريعة ثبوت البلوغ في حق الغلام والجارية بأحد ثلاثة أشياء -وهي كما وردت في المغني: "أولها خروج المني من قبله وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد فكيفما خرج في يقظةٍ أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك حصل به البلوغ لا نعلم في ذلك اختلافًا لقول الله تعالى {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (¬2) - وقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} (¬3) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُفعَ القلمُ عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم". الثاني: الإنبات وهو أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة الذي استحق أخذه بالموسَى. الثالث: السن والبلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة، وبهذا قال الأوزاعي: والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال داود لا حدَّ للبلوغ من السن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفع القلمُ عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلمَ" وقد قال ابن عمر: عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنَ أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال، وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني" (¬4). وبناءً على أقوال العلماء، فقد قرر د. مقداد يالجن: "أن بداية هذه المرحلة بالسن العاشرة بصفة مبدئيةٍ، ونهايتها بالثامنة عشرة بصفة نهائيةٍ، والتكاليف في نظر الإسلام محددة بالبلوغ، والبلوغ محدد بالاحتلام، وبه يصبح الإِنسان مسؤولًا عن تصرفاته، ويدخل تحت طائلة القانون" (¬5). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، زهران. علم نفس النمو. ص 62. (¬2) سورة النور، الآية 59. (¬3) سورة النور، الآية 58. (¬4) ابن قُدَامة، موفق الدين، وابن قدامة، شمس الدين. المغني ويليه الشرح الكبير. بيروت، دار الكتاب العرب للنشر والتوزيع، طبعة عام 1403 هـ- 1983 م، الجزء الرابع، ص 514. بتصرف. (¬5) مرجع سابق، القاضي ويالجن. علم النفس التربوي في الإسلام. ص 115.

وقد أكد ابن الجوزي هذا المعنى فقال: "وليعلم البالغ أنه من يوم بلوغه قد وجبت عليه معرفة الله تعالى بالدليل والتقليد، ويكفيه من الدليل رؤية نفسه، وترتيب أعضائه، فيعلم أنه لابد لهذا الترتيب من مرتب، ولابد لهذا البناء من بانٍ، وليعلم أنه قد نزل ملكان يصحبانه طول عمره، يكتبان عمله، ويعرضانه على الله" (¬1). وتعتبر هذه المرحلة من "أهم مراحل التربية الإيجابية، وهي أخطر مرحله لانحراف الشباب وانزلاقهم عن سواء السبيل لنمو الدافع الجنسي، كما أنها أهم مرحلة لبث الوعي الأخلاقي" (¬2). قال فيها ابن الجوزي: "وهذا هو الموسم الأعظم الذي يقع فيه جهاد النفس والهوى وغلبة الشيطان، وبصيانة هذا الموسم يحصل القرب من الله، وبالتفريط فيه يقع الخسران العظيم، وبالصبر فيه على الزلل، يُثنَى على الصابر كما أثنى الله -عز وجل- على يوسف" (¬3). وبعد أن بين ابن الجوزي طبيعة هذه المرحلة وأهمية صيانة النفس البشرية، يوضح الخطوات المتبعة للإعلاء من هذه الحاجة الفطرية: 1 - غرس مراقبة الله تعالى في البالغ نفسه، حتى يكون له حماية داخلية ووجدانية من نفسه، تعصمه من الوقوع في الخطأ بقوله: "وليعلم أنه قد نزل ملكان يصحبانه طول عمره ويكتبان عمله ويعرضانه على الله" (¬4). 2 - تسهيل طريق الزواج للبالغ، فقال ابن الجوزي: "فإذا بلغ الصبي فينبغي لأبيه أن يزوجه، فقد جاء في الحديث: من بلغَ له ولد أمكنَه أن يزوجَه فلم يفعل، فأحدثَ الولدُ إثمًا، كان الإثمُ بينهما" (¬5)، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب. التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 59. (¬2) مرجع سابق، القاضي، ويالجن. علم النفس التربوي في الإسلام. ص 115 - 116. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي."تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 59. (¬4) المرجع السابق، ص 59. (¬5) المرجع السابق، ص 59.

والعجب كيف ينسى الأب ما جرى له عند البلوغ، وإن كان وقع في زلة فليقس حال ولده" (¬1). 3 - فإن لم يستطع الزواج فعليه بغض البصر لأنه أحفظ للنفس من الوقوع في الزلل، وغض البصر مطلوب قبل الزواج وبعده، وقد استشهد ابن الجوزي بآية قرآنية وقول في ذلك فقال: "ويغض طرفه، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (¬2)، وقيل: "النظرُ إلى المرأةِ سهم مسموم من سهام إبليسَ من تركهُ ابتغاءَ مرضاةِ الله، أعطاهُ الله إيمانًا في قلبهِ يجدُ حلاوتَه" (¬3). 4 - ثم نصح البالغ إذا كف بصره، أن يكتفي بالمرأة الواحدة، فقال ابن الجوزي: "ومن استعمل الغض منكم فليكتف بالمرأة الواحدة، ولا يرخص لنفسه في كثرة الاستمتاع بالنساء، فإنه يشتت القلب ويضعف القوي وليس له منتهى" (¬4). 5 - وعلى البالغ أن يكثر من الصيام، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -لم يستشهد به ابن الجوزي-: "يا معشرَ الشباب من استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوج. فإنه أغضُ للبصرِ، وأحصنُ للفرَجِ. ومن لم يستطع فعليهِ بالصومِ فإنه له وجاء" (¬5). وقال ابن الجوزي في ذلك: "وليكثر الصيام من سيعجز" (¬6). 6 - منع اختلاط البالغ بالنساء، فقال في ذلك ابن الجوزي: "من باب المخاطر ترك الولد البالغ بين الجواري، ومعلوم أن قوة الشهوة وجهل الصبا ينسيان مقدار الحرمة والتحريم، فهذه أصول ينبغي أن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 59. (¬2) سورة النور، الآية 30. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 60. (¬4) المرجع السابق، ص 60. (¬5) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، ص 1018 - 1019، حديث رقم 1400. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 60.

يداوى بدوائها ولا تهمل فإنها تجر أمورًا صعبة" (¬1). هذه أهم الأمور التي ينبغي الأخذ بها عند تربية وخلقيًا لمنعه من الوقوع في الزلل والخطأ. كذلك ينبغي معاملة البالغ معاملةَ طيبة، مبنية على التقدير والاحترام لرأيه، ومناقشته ومحاولة إقناعه بكل ما يدور في ذهنه، مع مراعاة اجتناب ضربه أو إساءة معاملته حتى لا يتمرد أو ينحرف، لأنه في سن حرجة، يغلب عليها التهور والطيش، وقد قال فيها ابن الجوزي: "ولا ينبغي أن يُضرب بعد بلوغه، ولا أن يساء إليه، لأنه حينئذ يتمنى فقد الوالد ليستبد برأي نفسه، ومن بلغ ست عشرة سنة ولم يصلح، فبعيد صلاحه، إلا أن الرفق متعين بالكل" (¬2). ثم بين ابن الجوزي أن من مظاهر هذه المرحلة، أن يتزوج البالغ ثم يرزق الأطفال، فيسعى في الأرض لتأمين قوت عياله، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فإذا بلغ ليعلم أنه زمان المجاهدة للهوى، وتعلم العلم، فإذا رزق الأولاد فهو زمان الكسب للمعاملة" (¬3). ونلاحظ مما سبق أن ابن الجوزي ركز في هذه المرحلة على التربية الجنسية للبالغ، وسكت هنا عن الاهتمام بالنواحي الأُخرى، ربما لأنها الجانب البارز في هذه المرحلة، فأعطاها الاهتمام اللازم بها، والذي يبدو لي، أن التربية كانت تركز -في ذلك الوقت- على تأهيل البالغ ليكون مسؤولًا عن الأسرة، مع أن الاهتمام بالجوانب الأُخرى من التربية وسيلة للرقي به، والتسامي على الأهواء والشهوات، ومن الوسائل التربوية المباشرة التي استخدمها ابن الجوزي في ذلك، أسلوب الكتابة والتأليف، فوجه رسالة أبوية لابنه محمد المكنى بأبي القاسم في كتابه لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. وابن الجوزي إن كان اتخذ تأليفها وسيلة لتربية ولده، فهو في الوقت نفسه عرض لنا أمورًا تربوية كثيرة، بل منهجًا تربويًا متميزًا جديرًا بأن يدرس بعناية ويُكشف للناس فينتفع به المربون وينتفع به ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 137. (¬2) المرجع السابق، ص 134. (¬3) ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 265.

الناشئون أيضًا، فالنفع للفريقين جميعًا. وقد ظهر حرص ابن الجوزي في نقل حصيلة علمه وخبرته وتجاربه إلى ولده، ليحدد له الطريق الصحيح في العلم والعمل به، ويحذره من مغبة السقوط في الخطأ والزلل، ولاسيما عندما ظهر عليه بعض التهاون والتكاسل، فاستدركه بهذه الرسالة. فقال فيها: "ثم رأيت منه نوع توانٍ عن الجدّ في طلب العلم، فكتبت له هذه الرسالة، أحثه بها، وأحرضه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدله على الالتجاء إلى الموفق -سبحانه وتعالى" (¬1). وقد ضمن ابن الجوزي رسالته الأبوية، الكثير من التوجيهات التربوية، التي تتعلق بالعقل وتدبره في إدراك الغاية من وجود الإنسان، وما عليه من فرائض وواجباب، وأهم العلوم التي ينبغي أن يتعلمها وأوقاتها وأخلاقياتها وأهميتها في حياته، والحرص على الوقت في أداء الأعمال الصالحة، مع الاستعداد للآخرة، بالإضافة إلى توجيهه إلى بعض الرقائق كالزهد والإخلاص والسعي للكمال في كل شيء، مع العلم والعمل به. (ولا يسعنا المجال هنا لذكر آرائه التربوية بالتفصيل، فإنه سيرد بعضها في أبواب وفصولٍ أُخرى، حسب مناسبتها للموضوع). ولم يكتفِ ابن الجوزي بكتابة هذه الرسالة التربوية، بل حث على أهمية التأليف ودوره في توجيه المتعلمين فقال: "رأيت من الرأي القويم، أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة. لأني أشافه في عمري عددًا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقًا لا تحصى ما خُلقوا بعدُ. ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم" (¬2). وليس معنى هذا أن جميع الناس مدعوون للكتابة والتأليف، بل من تتوافر فيه صفات خاصة، حتى يفيد بعلمه الناس؛ وفي هذا يقول ابن الجوزي: "فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف؛ فإنه ليس كل من صنفَ، صنف، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يطلع الله -عز وجل- عليها ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 42. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 228.

رابعا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الكهولة

من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أُهمل، هذا هو التصنيف المفيد" (¬1). وهو بعبارته هذه يدعو العلماء والمؤلفين، أن يدركوا الهدف من التأليف، ودوره في توجيه المتعلمين. رابعًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الكهولة سمى ابن الجوزي المرحلة الثالثة بموسم الكهولة، وقال فيها: "من ذلك الزمان إلى تمام الخمسين سنة وذلك زمن الكهولة، وقد يقال كهل لما قبل ذلك" (¬2). أي من 35 - 50 سنة. أما علم النفس فيختلف مع ابن الجوزي، فتبدأ مرحلة الكهولة من الـ 40 وتنتهي بالـ 60 سنة، وتسمى "مرحلة وسط العمر" (¬3). وقد حددها د. الهاشمي من 26 - 50 سنة، وأسماها مرحلة أواسط العمر" (¬4). وقد ركز ابن الجوزي في هذه المرحلة على جانبين اثنين: الجانب الأول: ميل الإنسان لشهواته وضرورة ضبط النفس عن الهوى والشهوة، قال "وهذا الزمان فيه بقية من الشباب، وللنفس فيه ميل إلى الشهوة وفيه جهاد حسن، وإن كانت طاقات الشيب تزعج، وترغب في جهاد اللهو، وليكتف الكهل بنور الشيب الذي أضاء له سبيل الرحيل، وليعامل بالبقية المائلة إلى الهوى يربح ولكن لا كربح الشاب" (¬5). الجانب الثاني: زمن العلم والحفظ والتأليف، فقال عن ذلك: "فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى الأربعين، ثم يبتدئ بعد ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 228 - 229. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي."تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر" ص 58. (¬3) مرجع سابق، السيد، فؤاد، البهي. الأسس النفسية للنمو. ص 335. (¬4) الهاشمي، د. عبد الحميد، محمد. علم النفس التكويني. القاهرة، مكتبة الخانجي، الطبعة الثالثة، 1976 م، ص 259. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب. التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 61.

خامسا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الشيخوخة

الأربعين بالتصانيف والتعليم. هذا إذا كان قد بلغ ما يريد من الجمع والحفظ وأعين على تحصيل المطالب" (¬1). وقد أثبتت الدراسات النفسية "أن ذروة الإنتاج العقلي في نواحي النشاط المختلفة تظهر في المرحلة الزمنية التي تمتد من 20 سنة إلى 40 سنة" (¬2). إلى ما بعدها، وهذا ما نلاحظه من إنتاج كبار المفكرين الذين نبغوا في أعمال عظيمة قبل سن الأربعين وبعده؛ لأن موهبة التأليف ليس لها زمن محدد. وإن كان ابن الجوزي قد نبه على استغلال هذه الفترة الزمنية من العمر في العلم والكتابة والحفظ والتأليف لأنها سن النضج والوعي. خامسًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الشيخوخة قال ابن الجوزي عن هذه المرحلة: "والموسم الرابع: من بعد الخمسين إلى تمام السبعين وذلك زمن الشيخوخة" (¬3). ورد في لسان العرب معنى الشيخ: "هو الذي استبانت فيه السن وظهرَ عليه الشيبُ، وقيل هو شيخ من خمسينِ إلى آخره، وقيل: هو من الخمسين إلى الثمانين" (¬4). وبذلك يكون ابن الجوزي قد اتفق مع المعنى اللغوي، واختلف مع علم النفس الذي حدد الشيخوخة من "60 - إلى نهاية العمر" (¬5). وحددها د. الهاشمي من سن 66 - إلى نهاية العمر" (¬6). وقد ركز ابن الجوزي في هذه المرحلة أيضًا على جانبين: الجانب الأول: ضعف الشهوة في هذه المرحلة وغلبة بعض الأهواء ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 229. (¬2) مرجع سابق، السيد، د. فؤاد، البهي. الأسس النفسية للنمو. ص 390. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58. (¬4) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثالث، ص 31. (¬5) مرجع سابق، السيد، د. فؤاد، البهي. الأسس النفسية للنمو. ص 335. (¬6) مرجع سابق، الهاشمي. علم النفس التكويني. ص 307.

على الإنسان, مثل الرياسة والجاه والتي تظهر في سلوكه بسبب ضعف إيمانه وجهله بعواقب تصرفاته. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "وقد يكون في أول الشيخوخة بقية هوى فيثاب الشيخ على قدر صبره، فكلما قوي الكبر ضعفت الشهوة، (الشهوة الجنسية أما شهوة العلم والجاه والرياسة قد تقوى) فلا تراد للمذنب، وإذا تعمد الشيخ شهوة، فكأنه مراغم؛ إذ الشهوة الطالبة قد خرست، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبغضُ الخلقِ إلى الله شيخ زان". ومنهم من كأنه يقصد الرغمة، فيلبس الشيخ خاتم ذهب. والويل لمن لم ينهه شيبه عن عيبه؛ ما ذاك إلا لخلل في إبمانه، وقَد يقول الشيخ: علمي يدفع عني أو لم يعلم أن علمه حجة عليه" (¬1). وهنا تنبيه من ابن الجوزي للشيخ أن يحترم سنه ولا يتصرف تصرفات تقلل من وقاره. الجانب الثاني: الناحية العلمية، وفيها يوضح ابن الجوزي قدرات الشيخ العقلية التي ينبغي استغلالها في التصنيف والتعليم ويوصيه بالاستزادة من العمل الصالح الذي ينفعه في آخرته، فيقول في ذلك: "فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة. ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين، ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم، ويسمع الحديث والعلم ويعلل التصانيف (¬2) إلى أن يقع مهم إلى رأس السبعين، فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل. فيوفر نفسه على نفسه إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه، فذلك أشرف العُدَد للآخرة، ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله، والمبالغة في استدراك ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي."تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 63. (¬2) أي يرجع عليها بالتصحيح والتنقيح وبيان الأدلة والعلل، ومنه سمى مجد الدين الموصلي كتابه الذي بين فيه أدلة أحكام المختار. وشرحه فيه "الاختبار لتعليل المختار". ابن الجوزي. صيد الخاطر. (راجعه ووضع مقدمته وعلق عليه) الطنطاوي، على، و (حققه ووضع فهارسه وعناوين فصوله) الطنطاوي، ناجي، الطبعة الثانية، دمشق، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ - 1978 م، ص 208.

سادسا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الهرم

زلاته، فإن اختُطف في خلال ما ذكرنا فنية المؤمن خير من عمله. وإن بلغ إلى هذه المنازل فقد بينا ما يصلح لكل منزل" (¬1). والذي يبدو من رأي ابن الجوزي أنه وجه الإنسان إلى كيفية اغتنام العمر في طلب العلم والاشتغال بالتأليف، لاسيما إذا فاته في أول العمر. فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل. وهذا لا يعني ترك التزود والاستعداد للرحيل قبل هذه السن، لأن المؤمن يتهيأ للرحيل في كل وقت، لأنه لا يعلم متى يحين أجله، ولكن زيادة الاستعداد في هذه السن أوجب. سادسًا: رأي ابن الجوزي في مرحلة الهرم قال ابن الجوزي عن هذه المرحلة: "والموسم الخامس: ما بعد السبعين إلى تمام العمر وهو زمن الهرم" (¬2). وعلم النفس يقسم هذه المرحلة إلى: 1 - الشيخوخة المبكرة: وهي تمتد من 60 سنة إلى 75 سنة. 2 - الهرم: وهو يمتد من 75 سنة إلى نهاية العمر (¬3). وقد ركز ابن الجوزي في هذه المرحلة من عمر الإنسان، على تذكيره بأنها نهاية المطاف، لذلك لابد من اغتنام الثواني والساعات في الدعاء والاستغفار، والاستزادة من العمل الصالح، واستثمار ما بقي من عمره في الصدقة الجارية، ليصله أجرها بعد انقطاع عمله. قال عن هذه المرحلة: "ولم يبق زمنَ الهرم إلا تذكر ما مضى، فقد أدرك ما فات والاستغفار والدعاء وعمل ما يمكن من الخير اغتنامًا للساعات والتأهب للرحيل" (¬4). وقال أيضًا: "فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلَّها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة زاده، وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 229. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58. (¬3) مرجع سابق. السيد، د. فؤاد، البهي. الأسس النفسية للنمو. ص 335. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 64.

سابعا: الآراء التربوية المستخلصة من هذا الفصل

وليدقق في محاسبة النفس، وفي بذل العلم أو مخالطة الخلق؛ فإن قرب الاستعراض للجيش، يوجب عليه الحذر من العارض. وليبالغ في إبقاء أثره قبل الرحيل، مثل بثّ علمه، وإنفاق كتبه، وشيءٍ من ماله" (1). في سبيل الله خالصًا لوجهه الكريم. سابعًا: الآراء التربوية المستخلصة من هذا الفصل هذا الفصل يتعلق بآراء ابن الجوزي التربوية بشأن مراحل النمو الإنساني، وهذه أهم الآراء التربوية المستخلصة منه: 1 - ضرورة إلمام المربي بخصائص نمو الإنسان وعمره الزمني وظروف بيئته ومكانه، حتى يسهل توجيهه بما يناسبه من حيث هو فرد له كيانه الخاص الذي يميزه عن غيره. 2 - ضرورة الاهتمام بمرحلة الطفولة المبكرة لأنها الأساس البنائي للتعلّم وغرس القيم. 3 - مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال في قدراتهم على التعلم والحفظ والسلوك. 4 - ضرورة إلمام المربي بأساليب التربية الإِسلامية، والموقف المناسب لاستخدامها حتى تؤدي الهدف منها. 5 - وجوب الاهتمام بالعلوم المختلفة حسب درجة أهميتها. 6 - وجوب اقتران التعليم بالعمل. 7 - وجوب رعاية الناشئ وحفظه من عوامل الفساد والانحراف.

الباب الرابع رأي ابن الجوزي في تربية جوانب شخصية المسلم

الباب الرابع رأي ابن الجوزي في تربية جوانب شخصية المسلم • الفصل الأول: التربية الصحية • الفصل الثاني: التربية العقلية • الفصل الثالث: التربية الاعتقادية • الفصل الرابع: التربية الروحية • الفصل الخامس: التربية الأخلاقية • الفصل السادس: التربية الإرادية

الباب الرابع رأي ابن الجوزي في تربية جوانب شخصية المسلم من خصائص التربية الإِسلامية، أنها تربية شاملة متكاملة متوازنة، تعنى بجميع جوانب الكيان الإنساني، كما أنها تتفق مع فطرة الإِنسان، وتتعامل معه بواقعية، تجمع بين المطالب الجسدية والروحية، العقلية والنفسية، الخلقية والاجتماعية، وفي دراستنا لهذا الفصل تناولت الباحثة كل جانبٍ من جوانب النفس البشرية، كلًا على حدة حسب مقتضى الدراسة النظرية، والكيان الإنساني كيانٍ حيويٍ مترابطٍ، متداخل العمليات والأدوار والوظائف، لا يمكن فصله أو تجزئته. وهذه الجوانب سنبرزها من خلال آراء ابن الجوزي، المستقاة من المنهج التربوي الإِسلامي، ولم يقيد ابن الجوزي هذه الجوانب بمرحلة عمرية من مراحل النمو الإنساني، بل عرضها بصفةٍ عامةٍ، كذلك لم يحدد هذه الجوانب تحت مسماها المناسب، ولكن قامت الباحثة بتصنيفها ووضعها في الجانب الخاص بها. وقامت الباحثة ببيان أهم الجوانب التي تناولها ابن الجوزي من خلال آرائه التربوية.

الفصل الأول التربية الصحية

• الفصل الأول التربية الصحية أولًا: رأي ابن الجوزي في دافع الطعام ثانيًا: رأي ابن الجوزي في دافع الجنس ثالثًا: رأي ابن الجوزي في دافع التداوي رابعًا: رأي ابن الجوزي فى دافع النظافة باعتبارها وسيلة للوقاية من الأمراض

• الفصل الأول التربية الصحية سبق أن تكلمنا على هذا الجانب من ناحية الدوافع، وذلك في الفصل الأول من الباب الثالث. وفي هذا الفصل سنبين تربية الإسلام لهذه الدوافع، من خلال منهجه الذي تعامل به مع الكائن البشري بواقعيةٍ، معترفًا بكل طاقاته الحيوية، ودوافعه الفطرية، مرغبًا في إشباعها والاستمتاع بها ما دامت في الحدود الشرعية المباحة، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1). وهو بذلك لم يكبتها ولم يطلقها من دون ضوابط، ولكنه هذبها بما يحقق العبودية لله تعالى، وتعمير الكون، وصلاح الإنسان. وهذا الاهتمام بالتربية الجسمية، يعين الفرد المسلم على طاعة الله تعالى فيما فرضه الله عليه من حقوقٍ وواجباتٍ وأحكام وآدابٍ، لأنه كما ورد في حديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنُ القويُ خَيرٌ وأحبُ إلى اللهِ تعالى من المؤمنِ الضعيفِ. وفي كلٍ خيرٌ" (¬2). والقوة هنا تشمل قوة الجسم والعقل، والعقيدة والروح، والنفس والإرادة، والعزيمة والخلق. والقوى الجسمية لها صلة وثيقة بغيرها من ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية 32. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري. صحيح مسلم. (تحقيق) عبد الباقي، محمد، فؤاد، الجزء الرابع، ص 2052، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، حديث رقم 2664.

أولا: رأي ابن الجوزي في دافع الطعام

حيث تأثيرها وتأثرها بها. وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة للبدن، فحينئذٍ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوى الذهن" (¬1). وقوله محاورًا نفسه في أسلوب رائع: "ولا تتعرضي لمصالح البدن، بل وفريها عليه، وناوليه إياها على قانون الصواب لا على مقتضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين" (¬2). التربية الجسمية تشمل الاستجابة السوية للدافع إلى الطعام والشراب والجنس، كما تعنى بالاستشفاء من المرض والنظافة والرياضة، وتكوين البصيرة بالأمور الصحية، والتنشئة عليها، وتكوين الحصانة ضد الأمراض، وهذه الأمور اعترف بها المنهج التربوي الإِسلامي كطاقات حيوية في الكيان البشري. وعمل على تهذيبها وتوجيهها وإعلائها، وجعلها وسيلة متعةٍ وتعبد معًا، للوصول بها إلى الغاية الكبرى، وهي تساعد على تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى عن طريق أنواع العبادات، وخدمة عباد الله، والرقي بالأمة والذود عن حماها خالصًا لوجهه تعالى. أولًا: رأي ابن الجوزي في دافع الطعام يرى ابن الجوزي أن الله تعالى أوجد شهوة الطعام في الإنسان لحكمةٍ جليلةٍ، وغايةٍ نبيلةٍ وهي عبادته جل جلاله كما أمر، وفي ذلك يقول: "وأما المطعم فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله -عز وجل-، وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله" (¬3). وقد بيَّن ابن الجوزي أهمية العناية بالجسم الإنساني، حتى يستطيع أن يقوم بالعبودية المطلقة لله تعالى، فقال: "البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل" (¬4). وهذه العناية تتمثل في إشباع حاجة الإنسان للطعام باعتدالٍ دون إسرافٍ أو تقتير قال الله تعالى: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 82. (¬2) المرجع السابق، ص 83. (¬3) المرجع السابق، ص 27. (¬4) المرجع السابق، ص 82.

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬1). وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "ثم ينبغي له أن يرفق ببدنه الذي هو راحلته، ولا ينقص من قوتها فتنقص قوته. ولست آمرًا بالشبع الذي يوجب الجشاء (¬2)، إنما آمر بالتوسط، فإن قُوى الآدمى كعين جاريةٍ كم فيها من منفعةٍ لصاحبها ولغيره" (¬3). وقوله: "فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم والمشرب مقدار الحاجة والمصلحة، ليقع الالتذاذ بالعافية. ومن البلية طلب الالتذاذ بالمطعم، وإن كان غير صالح، والشره في تناوله" (¬4). وقد استقى ابن الجوزي من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي استشهد به: "ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، حَسْب ابن آدم أُكُلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (¬5)، أما عن أهمية الاعتدال في الأكل فقال: "وإنما يكره الأكل فوق الشبع" (¬6). وقال في التقلل من الأكل: "فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل ثم الفرائض ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خيرٍ قد كان يفعله" (¬7). ثم بيَّن ابن الجوزي بعض أضرار الشبع فقال: "فأما التوسع في المطاعم، فإنه سبب النوم، والشبع يعمي القلب، ويرهل البدن ويضعفه [يقصد به ضعف الصحة رغم السمنة] فافهم ما أشرت إليه، فالطريق هي الوسطى" (¬8) أما ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: الآية 31. (¬2) معنى كلمة الجشاء: "وجشأ فلان عن الطعام: إذا أُتخم فكرِه الطعامَ. والتجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء. وجشأت المعدة وتجشأت: تنفست". مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الأول، ص 48 - 49. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 160. (¬4) المرجع السابق، ص 452. (¬5) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو سنن الترمذي. (تحقيق) عوض، إبراهيم، عطوة. الجزء الرابع، ص 590، كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل حديث رقم 2380. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 27. (¬7) المرجع السابق، ص 31. (¬8) المرجع السابق، ص 446.

أضرار قلة الطعام فقال فيها: "لقد عرفت أن أقوامًا دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوى الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس، ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من إمداد اللطف به، وإذا به من سوء الهضم، وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة" (¬1). وهذا ما أقره الطب الحديث فقال: "أن يكون -الطعام- كافيًا أي بالكمية اللازمة لاحتياج الجسم وما يبذله من طاقةٍ، فلا إقلال للحد الذي يسبب الهزال والضعف، ولا إكثار إلى الحد الزائد الذي يسبب السمنة "البدانة" وما يصاحبها من مشكلاتٍ" (¬2). ثم بيَّن ابن الجوزي حدود تقليل الطعام والحكمة منه فقال: "فإن تقلل من الطعام فبعقلٍ، وحدّ التقلل ترك فضول المطعم، وما يخاف شره من شبهةٍ أو شهوةٍ يحذر تعودها. وأما زيادة التقلل مع القدرة فليس لعقلٍ ولا شرعٍ، إلا أن يكون الفقر عمّ، فيتقلل ضرورةً" (¬3) ثم تابع قوله مبينًا منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام في هذا الشأن، فقال: "ومن تأمل حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وجدهم يأخذون بمقدارٍ ولا يتركون حظوظ النفس التي تصلحها" (¬4). ثم بيَّن ابن الجوزي ضابطًا آخر من ضوابط تناول الطعام والشراب، أن يكون حلالًا، دون ربا أو سرقةٍ أو غشٍ أو خداعٍ، فقال: "وتحقق الحلال في المطعم" (¬5) وقوله: "فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم وأخذ ما يصلع بمقدار" (¬6). وقد استقى ابن الجوزي رأيه هذا من قول الله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 82. (¬2) نصر، د. عبد اللطيف، أحمد. غذاؤك في الصحة والمرض. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دون تاريخ، ص 101. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 431. (¬4) المرجع السابق، ص 431. (¬5) المرجع السابق، ص 83. (¬6) المرجع السابق، ص 160.

أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (¬1) كما ينبغي أن لا يكون الطعام هدفًا لذاته، ولا يكون الأكل للالتذاذ به، كأن الغاية من وجود الإنسان الأكل فقط. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فالجاهل يطلبها لذاتها أو لنفسِ لذَّاتها" (¬2). ويقول: "ولا تظننَّ أني آمر بإشباع الشهوات، ولا بالإكثار من الملذوذ، وإنما آمر بتناول ما يحفظ النفس، وأنهى عما يؤذي البدن" (¬3). وبعد أن وضّحنا رأي ابن الجوزي في التربية الجسمية، نذكر أنه يحذرنا من اتباع المتزهدين الذين فهموا عكس المقصود من تناول الطعام، كما حددته الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وقلدوا الرجال وأهملوا اتباع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال فيهم: "ولا يهولنَّك ما تسمعه من الأحاديث، التي تحثُّ على الجوع، فإن المراد بها إما الحث على الصوم، وإما النهي عن مقاومة الشبع. فأما تنقيص المطعم على الدوام، فمؤثر في القُوى، فلا يجوز. ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يودّ أن يأكله كل يوم" (¬4). ثم خاطبهم بقوله: "لا تحتجنَّ عليَّ بأسماء الرجال، فتقول: قال بشر، وقال إبراهيم بن أدهم، فإن من احتج بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضوان الله عليهم- أقوى حجَّة. على أن لأفعال أولئك وجوهًا نحملها عليها بحسن الظن" (¬5). ثم يرد ابن الجوزي أسباب ذلك إلى جهلهم مقاصد الشريعة الإِسلامية، فقال: "قلة العلم أوجبت هذا التفريط، الذي قصد به الخير وهو شر" (¬6). ثم يتناول ابن الجوزي كالطبيب الخبير بطبيعة النفس البشرية التي خلقها الله تعالى، ويبين أن هناك فروقًا بين الأفراد في إشباع هذه الحاجة الفطرية، فقال: "وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة، ولقد حمل أقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضًا قطعتهم عن ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية 88. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 131. (¬3) المرجع السابق، ص 446. (¬4) المرجع السابق، ص 31. (¬5) المرجع السابق، ص 31. (¬6) المرجع السابق، ص 33.

خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها" (¬1). كما يلفت نظرنا إلى مبدأ تربويِّ ونفسيِّ مهمِّ، وهو أن كل فرد كيان مستقل عن غيره، لا ينبغي مقارنته بغيره في قدراته وطاقاته ودوافعه، فقال: "ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره، فيضعف هو عنه، فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه" (¬2). كذلك ينبه ابن الجوزي إلى إشارةٍ تربويةٍ جليلةٍ، يبين فيها أن الحكمة من تناول الطعام والشراب، لا تعتمد على تطبيق مبدأ الخشونة أو مبدأ التنعم، وإنما من أيهما تحصل له المصلحة عند إشباع حاجة الطعام والشراب، والتي بهما توصلانه إلى مرضاة الله تعالى، فقال: "فربَّ متنعم لا يريد التنعم، وإنما يقصد المصلحة. وليس كل بدنٍ يقوى علىَ الخشونة، خصوصًا من قد لاقى الكدَّ وأجهده الفكر، أو أمضَّه الفقر، فإنه إن لم يرفق بنفسه، ترك واجبًا عليه من الرفق بها" (¬3)، وقد استشهد ابن الجوزي بقول رابعة العدوية لتأكيد رأيه، فذكر ما قالته: "إن كان صلاح قلبك في الفالوذج (¬4) فكُلْه" (¬5). ثم عرض ابن الجوزي قصص بعض النماذج البشرية، ممن وجدت الزهد في الاستمتاع بالطيبات التي أباحها الله تعالى، وقدوتهم في ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثم قص تجربته في هذا المجال فقال: "فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه. وقد عرفت هذا من نفسي، فإني ربيت في ترفٍ، فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى، أثر معي مرضًا قطعني عن كثير من التعبد. حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن، فتناولت يومًا ما لا يصلح فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها. فقلت: إن لقمة تؤثر في قراءة خمسة أجزاء بكل حرفٍ عشر حسنات، إن تناولها لطاعة عظيمة" (¬6). وقد انتهت به تجربته إلى هذا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 83. (¬2) المرجع السابق، ص 34. (¬3) المرجع السابق، ص 34. (¬4) الفالوذج: حلوى تعمل من الدقيق والماء والعسل. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 34. (¬6) المرجع السابق، ص 446.

ثانيا: رأي ابن الجوزي في دافع الجنس

الرأي، الذي عبر عنه قائلًا: "وإن مطعمًا يؤذي البدن فيفوته فعل خير ينبغي أن يهجر .. ثم أضاف .. فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه كما ينقّي الغازي شعير الدابة. ولا تظنن أني آمر بأكل (بإشباع) الشهوات، ولا بالإكثار من الملذوذ، إنما آمر بتناول ما يحفظ النفس، وأنهى عما يؤذي البدن" (¬1). إن الهدف من عرض تجربة ابن الجوزي التربوية في مجال التربية الجسمية، هو الوقوف على المعنى الحقيقي لتربية هذا الجانب دون إسرافٍ أو تعطيلٍ لطاقات البدن عن دورها الفعلي في الحياة. وهو بعرضه لهذه الآراء، إنما يدل على فهمه العميق، ونظرته الصائبة لإشباع هذه الحاجة الفطرية الأساسية باعتدالٍ، وهي معتمدة على الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة. ثانيًا: رأي ابن الجوزي في دافع الجنس لقد أودع الله تعالى في فطرة الإنسان الدافع الجنسي وجعله وسيلة حيوية لاستمرار النوع البشري، ولتحقيق هذا الهدف كما يرضاه الله أمر الإسلام بالزواج؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشبابِ من استطاع منكم الباءة فليتزوجْ، فإنه أغضُ للبصرِ وأحصنُ للفرجِ. ومن لم يستطع فعليه بالصوم. فإنه له وجاءٌ". (¬3) وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "ولولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد، ففات النسل، وآذى المحتقن" (¬4). وهذا الدافع وُضع في الإنسان كالباعث المستحث لإنجاب الولد، ولم يوضع للذة والمتعة فقط، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "فمن علم أن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 446. (¬2) سورة النساء: الآية 1. (¬3) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني، ص 1018، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة, واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، حديث رقم 1 - (1400). (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 124.

هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا، ولم تخلق لنفس الالتذاذ، وإنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها، إذ لو المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات البهيمية أوفى حظًّا من الآدمي منها" (¬1). وقوله في الغاية من النكاح: "فإن طلب التزوج للأولاد، فهو الغاية في التعبد، وإن أراد التلذذ فمباح يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى من إعفاف نفسه والمرأة .. إلى غير ذلك" (¬2). لقد اعترف المنهج التربوي الإسلامي بهذه الطاقة الحيوية، وعمل على تهذيبها وإعلائها عن طريق الزواج الشرعي الحلال، الذي جعل له مقاصد، وقد حددها ابن الجوزي في وجهين هما: "أحدهما: إبقاء الجنس وهو معظم المقصود. والثاني: دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها" (¬3). لذلك لابد من فهم هذه المقاصد الشرعية وتحقيقها، واجتناب مخالفتها والحذر من حصرها في الاستمتاع فقط، وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "ومن أقبح الأمور الانهماك في النكاح طلبًا لصورة اللذة، ناسيًا ما يجني ذلك من انحلال القوة، ويزيد في الحرام بالعقوبة" (¬4). وقد وضع ابن الجوزي بعض الضوابط لتصريف هذه الطاقة الحيوية والمحافظة عليها، منها الاعتدال دون شرهٍ، فقال: "إن مال إلى شهوات النكاح وأكثر منها، قل التذاذه وفنيت حرارته وكانت سببًا في عدم مطلوبه منها. ومن استعمل ذلك بمقدار ما يجيزه العقل ويحتمله كان التذاذه أكثر، لبعد ما بين الجماعين، وأمكنه التردد لبقاء الحرارة" (¬5). ثم يبيّن ابن الجوزي أضرار الشره في الجماع، فيقول: "كلما كثر استعماله امتنعت أوعية المني من الدر، فانجذب إليها غذاء ليس بنضيج، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 124. (¬2) المرجع السابق، ص 26. (¬3) المرجع السابق، ص 124. (¬4) المرجع السابق، ص 453. (¬5) المرجع السابق، ص 450.

ثالثا: رأي ابن الجوزي في التداوي

واستلبت قوى الأصول وهي الدماغ والقلب والكبد، فتبرد الحرارة الغريزية، ويسرع لذلك الهلاك، ثم إن صورة الوطء تنبو عنها النفوس الشريفة، إلا أن يدفع به شر محتقن، أو يُطلب الولد، فأما أن يصير عادةً، ويكون بالتمتع بنفس الفعل، فتلك مزاحمة البهائم" (¬1). ثم ينصح ابن الجوزي الشاب بالمحافظة على هذه الطاقة، فيقول: "ينبغي للصبي إذا بلغ أن يحذر كثرة الجماع ليبقى جوهره، فيفيده ذلك في الكبر، لأنه من الجائز كبره، والاستعداد للجائز حزم، فكيف للغالب؟ كما ينبغي أن يستعد للشتاء قبل هجومه. ومتى أنفق الحاصل وقت القدرة تأذى بالفقر إليه وقت الفاقة" (¬2). كما ينصحه بالزواج من واحدةٍ، وإلا نكح غيرها فقال: "وإن قدر على الاقتصار، فإن الاقتصار على الواحدة أولى، فإن كانت على الغرض قنع، وإن لم تكن استبدل، ونكاح المرأة المحبوبة يستفرغ الماء المجتمع، فيوجب نجابة الولد وتمامه وقضاء الوطر بكماله" (¬3). ثالثًا: رأي ابن الجوزي في التداوي كما يحتاج الإنسان للمحافظة على بدنه بكل ما فيه من جوارح وحواسٍ، إلى غذاءٍ متكاملٍ، وإلى العناية بالوقاية، فإنه يحتاج إذا أصابه مرض إلى العلاج. ولابد للإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتعلق بالأوهام، وإلا كان هذا تواكلًا. وقد حث المنهج التربوي الإسلامي على التداوي في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لكل داء دواءٌ. فإذا أصيبَ دواءُ الداءِ برأَ بإذنِ الله -عز وجل-" (¬4). وكان لهذا المنهج النبوي فضل على ابن الجوزي ولابن الجوزي فضل تأكيده ونشره، فقال: "فإذا جعل الشرع الأمور منوطةً ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 99. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 348. (¬3) المرجع السابق، ص 50. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 1729، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، حديث رقم 69 - (2204).

رابعا: رأي ابن الجوزي في النظافة باعتبارها وسيلة للوقاية من الأمراض

بالأسباب. كان إعراضي عن الأسباب دفعًا للحكمة. ولهذا أرى التداوي مندوبًا إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي [يقصد الإمام أحمد بن حنبل] (¬1) إلى أن ترك التداوي أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا، فإن الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنزل اللهُ داءً إلا وأنزلَ له دواءً فتداووا". ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجبًا أو ندبًا. ولم يسبقه حظر، فيقال: هو أمر إباحة" (¬2). رابعًا: رأي ابن الجوزي في النظافة باعتبارها وسيلةً للوقاية من الأمراض اهتم المنهج التربوي الإسلامي بالنظافة بصفةٍ عامةٍ، والنظافة الشخصية بصفةٍ خاصةٍ، لأنها تعتبر جزءًا من الشخصية الإسلامية، ولها دور مهم في سلامتها من الأمراض، ولهذا عدها الإسلام من الإيمان، فقال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "الطهورُ شطرُ الإيمانِ" (¬3). وقد أثبت الطب الحديث أن للنظافة فوائد صحيةً تتمثل في: 1 - "الوقاية من انتقال كثير من الأمراض المعدية التي تنتقل بتلوث الأيدي، والتي أهمها ما يسمى بأمراض القذارة. 2 - تنشيط الدورة الدموية العامة وتجديد حيوية الجسم بتنبيه الأعصاب وتدليك الأعضاء. 3 - تخليص الأجزاء المكشوفة من البدن من الأوساخ التي تتعلق بها باستمرارٍ، ومن ثم تحفظ وظائف الجلد من أن تتعطل" (¬4). لذا ذكر ابن الجوزي الأضرار الدينية والدنيوية الناتجة من إهمال النظافة فقال: "تلمحت على خلقٍ كثيرٍ من الناس إهمال أبدانهم، فمنهم ¬

_ (¬1) مخالفة ابن الجوزي للإمام أحمد بن حنبل في هذه المسألة من أجل اعتماده على الدليل، تدل عل منهجه العلمي واستقلاله الفكري. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 87. (¬3) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 203، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، حديث رقم 1 - (223). (¬4) مرجع سابق، دياب، وقرقوز. مع الطب في القرآن الكريم. ص 121 - 122.

من لا ينظف فمه بالخلال بعد الأكل، ومنهم من لا ينقي يديه في غسلهما من الزهم، ومنهم من لا يكاد يستاك، وفيهم من لا يكتحل، وفيهم من لا يراعي الإبط إلى غير ذلك، فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدين والدنيا" (¬1). ثم فصّل ابن الجوزي الأضرار الدينية التي تصيب الإنسان من جراء إهمال النظافة، مستدلًا على أقواله من أحاديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يستشهد بها، فقال: "إما الدين فإنه قد أمر المؤمن بالتنظف والاغتسال للجمعة لأجل اجتماعه بالناس، ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم، وأمر الشرع بتنقية البراجم، وقص الأظفار والسواك، والاستحداد وغير ذلك من الآداب" (¬2). وهذه بعض أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، التي اشتق منها ابن الجوزي أقواله. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الاغتسال بصفة عامة: "حقٌ للهِ على كل مسلمٍ، أن بغتسلَ في كل سبعةِ أيامٍ، يغسلُ رأسَه وجسدَه" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الاغتسال يوم الجمعة للمحتَلم وغيره: "غسلُ يوم الجمعةِ على كلِ محتلم. وسواك ويمسُ من الطيب ما قدرَ عليه" (¬4) وقولَه - صلى الله عليه وسلم -: "من جاءَ منكَم الجمعةَ فليغتسل" (¬5). كذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في آكل الثوم: "من أكلَ من هذه البقلة، الثوم (وقال مرة: من أكلَ البصلَ والثومَ والكراثَ) فلا يقربنَّ مسجدَنا. فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (¬6). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في سنن الفطرة: عشر من الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاءُ اللحيةِ، والسواكُ، واستنشاقُ الماءِ، وقصُ الأظفارِ، وغسلُ البراجم، ونتفُ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 89. (¬2) المرجع السابق، ص 89. (¬3) النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني, ص 582، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك بوم الجمعة، حديث رقم 9 - (849). (¬4) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 581، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، حديث رقم 7 - (846). (¬5) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 579، كتاب الجمعة, حديث رقم 2. (¬6) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 395، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها، حديث رقم 74.

الإبطِ، وحلقُ العانةِ، وانتقاصُ الماءِ. قال زكريا: قال: مصعبٌ: ونسيتُ العاشرةَ. إلا أن تكون المضمضةَ" (¬1). ولا يقتصر أثر إهمال النظافة الشخصية على الصحة، بل يتعداها إلى العبادة، وقد قال فيها ابن الجوزي: "فإذا أهمل ذلك ترك مسنونَ الشرع، وربما تعدى ذلك إلى فساد العبادة، مثل أن يهمل أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل" (¬2). وقد فصّل ابن الجوزي في بيان بعض أنواع الطهارة، ووثقها بأحاديث نبويةٍ شريفةٍ، وقسمها ثلاثة أنواع هي: الطهارة من نجسٍ، والطهارة من حدث، وسنن الفطرة، ثم ذكر الوضوء. وذلك لأنها مفتاح الدخول للصلاة، ولغيرها من العبادات. قامت الباحثة بجمع ما ذكره ابن الجوزي وعرضه في هذا المجال ثم مناقشته من الوجهة التربوية وذلك في النقاط الآتية: 1 - تطهير البدن من النجاسة النجاسة: "هي القذارة التي يجب على المسلم أن يتنزه عنها، ويغسل ما أصابه منها" (¬3). وقد اقتصر ابن الجوزي على نجاسة البول فقط. ولم يذكر أنواع النجاسة الأخرى مثل: الدم والميتة والخنزير وقيء الآدمي ورجيعه وبوله، والودي، والمذي، والمني .. الخ. وقد استشهد ابن الجوزي بعددٍ من الأحاديث، نستشهد بحديث واحدٍ منها لرسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - عندما مر بقبرين فقال: أما إنهما ليعذبان. وما يعذبان في كبيرٍ. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمةِ. وأما الآخرُ فكان لا يستترُ من بوله". وفى رواية أخرى أنه قال: "وكان الآخر لا يستنزه عند البول أو من البول" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 223، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، حديث رقم 56 - (261). (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 89. (¬3) سابق، السيد. فقه السنة. بيروت، دار الكتاب العربي، المجلد الأول، ص 23. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 240 - 241، كتاب الإيمان، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، حديث رقم (111 - 292).

2 - تطهير البدن من الحدث: وفيه قال الجوزي: "وأما طهارة الأحداث ففي التفريط فيها وعيد شديد" (¬1) ويقصد به ابن الجوزي الطهارة من الحدثيين الأكبر والأصغر. والحدث الأكبر هو: الجنابة والحيض والنفاس. . . . الخ. وهذا الحدث يوجب الغسل، وقد استشهد ابن الجوزي بحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من تركَ موضعَ شعرةٍ من جنابةٍ لم يغسلْها فُعل به كذا وكذا من النار" (¬2). أما الحدث الأصغر: فهو الذي عبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إذا وجدَ أحدكُم في بطنِه شيئًا فأشكلَ عليه. أخرجَ منه شيء أم لا. فلا يخرجنَّ من المسجدِ حتى يسمعَ صوتا أو يجد ريحًا" (¬3). وقد استشهد ابن الجوزي في الطهارة من الأحداث بحديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول فيه: "ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرةٍ سافرناها، فأدركنا ونحن نتوضأ فجعلنا نمسحُ على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوتِه، مرتين أو ثلاثًا: "ويلٌ للأعقابِ من النارِ" (¬4). وعند رجوع الباحثة إلى شرح هذا الحديث في صحيح مسلم (¬5)، والتأكد من علاقته بالطهارة من الأحداث والاستشهاد به، اتضح أنه ليست هناك علاقة بينهما، فموضوع طهارة الأحداث يختلف عن موضوع ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، الجزء الثاني، ص 217. (¬2) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. (تحقيق) عبد الحميد، محمد، محيي الدين، الجزء الأول، ص 65، كتاب الطهارة، باب الغسل من الجنابة، حديث رقم 249. (¬3) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 276، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، حديث رقم (98 - 361). (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 217. (¬5) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 213 - 214، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، حديث رقم 27.

الحديث وهو وجوب غسل الرجلين بكمالهما وهو يتعلق بإسباغ الوضوء. 3 - تطهير البدن من الفضلات: وبيَّن ابن الجوزي المقصود من الفضلات بقوله: "أما الفضلات فنوعان: أوساخ تعتري البراجم والأسنان. والثاني: الأجزاء، فقصّ الشارب ونتف الإبط وحَلْق العانة وتقليم الأظافر" (¬1). تقليم الأظفار والطهارة من الفضلات التي ذكرها ابن الجوزي، تعرف في الفقه الإسلامي بسنن الفطرة أو خصال الفطرة، وقد وردت في حديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "عشرٌ من الفطرةِ: قصُ الشاربِ، وإعفاءُ اللحيةِ، والسواكُ" (¬2)، إلى آخر الحديث .. الذي سبق ذكره. وقد استشهد ابن الجوزي في الأوساخ التي تعتري البراجم والأسنان بالحديث الآتي: فقال: "قال مجاهد: أبطأ الملَكُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أتاهُ، فقال: لعلَّي أبطأتُ؟ قال: قد فعلتَ. قال: ومالي لا أفعلُ وأنتم لا تتسوكون ولا تقصون أظفارَكم، ولا تنقّون براجِمَكم! " (¬3) ثم بيَّن ابن الجوزي معنى البراجم فقال: "البراجم: الفصوص التي في فصول ظهور الأصابع، تبدو إذا جمعت وتغمض إذا بسطت. والرواجب: ما بين البراجم، بين كل رجمتين راجبة" (¬4). وقد استشهد ابن الجوزي بحديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الحث على السواك: "لولا أن أشقَّ على أمتي أو ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 218 - 219. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 223، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، حديث رقم (56 - 261). (¬3) مرجع سابق، ابن حنبل، الإمام أحمد. المسند. الجزء الأول، ص 243، وقد ورد الحديث بهذا اللفظ: عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له يا رسول الله: لقد أبطأ عنك جبريل -عليه السلام-. فقال: "ولم لا يبطئ عني وأنتم حولي لا تستنون ولا تقلمون أظفاركم ولا تقصُّون شواربكم ولا تنقون رواجبكم". (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 218.

على الناس، لأمرتُهم بالسواكِ عند كلِ صلاةٍ" (¬1). وعن حذيفة قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ ليتهجدَ، يشوصَ فاهُ بالسواكِ" (¬2). 4 - إسباغ الوضوء: ذكر ابن الجوزي موضوع الوضوء في الطهارة فقال: "وقد مُدح إسباغ الوضوء" (¬3) وذلك حتى يستشعر المسلم في أثناء الوضوء -وهو المدخل للصلاة- المعاني الإيمانية له، فلا يكون مجرد تنظيف محسوس للأوساخ الظاهرة، وإنما هو أيضًا تطهير للذنوب والآثام التي ارتكبتها الجوارح فتتهيأ النفس البشرية، وهي تستحضر هذه المعاني أثناء الوضوء، للتقرب من الله تعالى في طهارة كاملةٍ، باطنة وظاهرة. وقد استشهد ابن الجوزي بأحاديث متعددةٍ للرسول - صلى الله عليه وسلم - في فضل الوضوء، نأخذ منها الآتي: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من أتمَ الوضوءَ كما أمره اللهُ تعالى، فالصلواتُ المكتوباتُ كفارةٌ لما بينهن" (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضأ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ، فغسلَ وجهَه، خرجَ منْ وجهِه كلُ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينيهِ مع الماءِ أو مع آخرِ قطرِ الماءِ، فإذا غسلَ يديه خرجَ من يديه كل خطيئةٍ، كان بطشتْها يداهُ مع الماءِ، أو مع آخرِ قطرِ الماء، فإذا غسلَ رجليه خرجت كلُ خطيئةٍ مشتها رجلاهُ مع الماءِ، أو مع آخرِ قطرِ الماءِ حتى يخرجَ نقيًا من الذنوب" (¬5). لقد اكتفى ابن الجوزي في هذا الكتاب بذكر بعض أنواع الطهارة ووثقها بأحاديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحدد ابن الجوزي الفوائد التي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 220، كتاب الطهارة، باب السواك، حديث رقم (42 - 252). (¬2) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 220، كتاب الطهارة، باب السواك، حديث رقم (46 - 255). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 217. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 208، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، حديث رقم 11. (¬5) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 215، كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء حديث رقم (32 - 244).

تجنى من أثر الطهارة بمفهومها الشامل على الشخص نفسه. وما لها من أثرٍ تربويٍ في النفس البشرية، "فعمليات الطهارة وما فيها من نشاطٍ وحركاتٍ وأفعالٍ عضلية تقوي الجسم وتنشطه وترفع من مقاومته للأمراض المختلفة، كما أنها تساهم في الوقاية من الأمراض التي سببها الخمول والكسل وكثرة الجلوس، وهي التي تسمى "أمراض المدنية الحديثة"، وعلى رأسها السمنة -البدانة- ومرض السكر الكهلي، وتصلب الشرايين وارتفاع الضغط الشرياني، وما يسببه من خثرات دمويةٍ، وصمامات شريانية تضرب القلب أو الدماغ أو سواهما" (¬1). هذه الفوائد التربوية وغيرها، إذا تفكر فيها الإنسان بقلبٍ خاشعٍ، وعقلٍ واعٍ، كان ذلك كافيًا، لأن تتهيأ نفسه للدخول في الصلاة، وهي منطلقة إلى آفاق نورانيةٍ رحبةٍ، لتتم الصلة القوية بالله تعالى، وتُؤتي الصلاة ثمارها المباركة للنفس والروح والبدن. إن ابن الجوزي أغفل هذه النواحي التربوية، والثمرات الإيمانية للطهارة بمفهومها الشامل، وعرض هذه المعلومات الفقهية كأي فقيه إسلامي تهمه الأحكام الشرعية فقط، دون الاهتمام بالآثار التربوية والنفسية، ولكن مع ذلك يمكن أن نستخلص من هذه الأحكام الفقهية نفسها، المبادئ التربوية المتعلقة بالصحة العامة للإنسان. وأخيرًا. . . من خلال عرضنا لآراء ابن الجوزي في التربية الجسمية والصحية، فإنه يكشف لنا عن فهمه الدقيق لمقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة وهي: "حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال" (¬2)، وقدرته على ربط هذه المقاصد بطبيعة النفس البشرية، لتربي الجانب الجسمي في الإنسان، ثم استخدام ابن الجوزي الأسلوب القصصي، المعتمد على التجربة الذاتية. كقصة رفاهيته -وما لها من أثرٍ فعالٍ في تغيير السلوكيات الصحيحة، واستبدالها بالسلوكيات الخاطئة، ¬

_ (¬1) علوان، د. فارس. وفي الصلاة صحة ووقاية. جدة، دار المجتمع للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م، ص 159. (¬2) مرجع سابق، خلاف، عبد الوهاب. علم أصول الفقه. ص 199.

إلا إنه -في حدود ما أطلعت عليه- أغفل في معالجته التربية الصحية الأمور الآتية: 1 - أنه تناول التربية الصحية بصفةٍ عامةٍ، ولم يعالجها على أساس مراحل النمو الإنساني وما تتطلبه من توجيهات مناسبةٍ لكل مرحلةٍ، وما يناسبها من أساليب تربوية حكيمة. 2 - وقد عالج موضوع التربية الصحية معالجةً عامةً، ولم يعالجها تحت عناوين تربوية مثل "التربية الصحية"، بل تكلم عن ضوابط الأكل والشرب والجنس الصحية، وأهمية النظافة في الدين بصفةٍ عامةٍ، ولم يذكر آثارها التربوية والنفسية في شخصية الإنسان المسلم. وبهذا يظهر أن أهم الآراء التربوية المستخلصة من هذه التربية في نظر ابن الجوزي هي: 1 - وجوب إشباع الحاجات الفطرية، لإعانة البدن على طاعة الله -عز وجل-. 2 - وجوب مراعاة الفروق الفردية عند إشباع هذه الحاجات الفطرية، واجتناب التسوية بين جميع الأفراد في ذلك، حتى لا يؤثر فيهم ذلك تأثيرًا سيئًا. 3 - وجوب تناول ما يحفظ الذات، والابتعاد عما يؤذي البدن. 4 - وجوب الاهتمام بالتداوي والنظافة الشخصية وأن للنظافة أثرها في قوة الإنسان وإيمانه. 5 - وجوب تنشئة الأطفال على المبادئ الصحية. 6 - تكوين الوعي بأهمية السلوكيات الصحية. 7 - تعويد الأطفال على الاعتدال في الأكل مع بيان أضرار الإفراط والتفريط فيه. 8 - تعويد الأطفال على خصال النظافة المادية والمعنوية في الإسلام لأنها الأساس في المحافظة على صحة البدن والروح وسلامتهما من الأمراض.

الفصل الثاني التربية العقلية

• الفصل الثاني التربية العقلية أولًا: مفهوم العقل في اللغة والقرآن الكريم والسنة النبوية وتعريفه ودرجاته عند ابن الجوزي ثانيًا: تعريفات درجات العقل عند ابن الجوزي ثالثًا: أنواع القدرات العقلية عند ابن الجوزي رابعًا: القدرات العقلية وعلاقتها بالصفات الجسمية والسلوكية عند ابن الجوزي خامسًا: العلم والتعليم عند ابن الجوزي

أولا: مفهوم العقل في اللغة والقرآن الكريم والسنة النبوية وتعريفه ودرجاته عند ابن الجوزي

• الفصل الثاني التربية العقلية سنتناول في هذا المبحث الجانب الثاني من الجوانب الحيوية في الكائن الإنساني وهو الذي به تميز الإنسان عن جميع المخلوقات التي خلقها الله تعالى، ونعني به العقل. وقبل عرض آراء ابن الجوزي في هذا الجانب، سنعرِّف بإيجاز معنى العقل في اللغة، ثم في القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة، وأخيرًا رأي ابن الجوزي في التربية العقلية والعلمية من جميع جوانبها، وذلك حتى نستطيع معرفة أين يقع رأي ابن الجوزي بالتحديد بالنسبة لآراء الآخرين. أولًا: مفهوم العقل في اللغة والقرآن الكريم والسنَّة النبوية وتعريفه ودرجاته عند ابن الجوزي أ - معنى العقل في اللغة: ورد معنى العقل في اللغة بمعانٍ عدة، سنختار منها ما يناسب هذا البحث، فقد جاء في لسان العرب بهذه المعاني: "العقل: الحجرُ والنهي ضد الحمقِ، والجمعُ عقولٌ. وعَقَلَ، فهو عاقلُ وعقولٌ من قوم عقلاء. والعقل: التثبتُ في الأمورِ. والعقلُ: القلبُ، والقلبُ العقلُ، وسمي العقلُ عقلًا: لأنه يعقلُ صاحبَه عن التورطِ في المهالِك أي يحبسهُ. وقيل: العقلُ هو التمييزُ الذي به يتميزُ الإنسانُ من سائرِ الحيوانِ" (¬1). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. الجزء الحادي عشر، ص 458 - 459.

ب - مفهوم العقل في القرآن الكريم: لقد أعلى القرآن الكريم من شأن العقل الإنساني، ولكنه لم يوضح ماهيته ومكوناته، بل إنه بيَّن وظائفه وهي التفكر والتدبر والتأمل، والقدرة على التعلم، والإدراك، والتذكر والتخيل .. إلى غير ذلك من العمليات العقلية. وقد وردت الآيات القرآنية التي فيها "مادة عقل"، "بصيغة فعل المضارع على سبيل الاستفهام" أفلا تعقلون "أو الترجي" لعلكم تعقلون "أو التقرير" لقوم يعقلون "أو النفي" لا يعقلون (¬1). كما أن هناك مرادفاتٍ للعقل في القرآن مثل: "أولي الألباب" و"أولي النهى". . . الخ. والآيات التي وردت بهذه الصيغ لطرح مختلف القضايا والأحكام التي يحتاجها الإنسان في حياته، ويطالب فيها بتحكيم العقل للوصول إلى الحكمة من تشريعها، حتى لا تغلب عليه الشهوة أو الهوى أو الشيطان. قال الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬2). والآيات القرآنية التي ورد فيها لفظ العقل أو لفظٍ بمعناه، كثيرة لا مجال لذكرها حتى لا يطول البحث. جـ - مفهوم العقل في السنة النبوية المطهرة وردت أحاديث نبوية في العقل وفضله، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفعَ القلمُ عن ثلاثةٍ: عن النائمِ حتى يستيقظ، وعن الصبيِ حتى يشبَ، وعن المعتوهِ حتى يعقلَ" (¬3). ¬

_ (¬1) الجوزو، محمد، علي. مفهوم العقل والقلب في القرآن والسُّنَة. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 1980 م، ص 55. (¬2) سورة الأنعام، الآية 151. (¬3) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 32، كتاب الحدود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، حديث رقم 1423.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشرَ النساءِ تصدقن فإني أُريتكن أكثرَ أهلِ النارِ. فقلن: وبم يا رسولَ اللهِ؟ قال: تكثرنَ اللعنَ وتكفرنَ العشيرَ، ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهبَ للبّ الرجلِ الحازمِ من إحداكن قلن: وما نقصان ديننا وعَقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثلَ نصف شهادةِ الرجلِ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصمْ؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصانِ دينها" (¬1). وعلى الرغم من صحة هذه الأحاديث النبوية الشريفة، إلا أن ابن الجوزي نفى صحة الأحاديث المتعلقة بالعقل بقوله: "المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل العقل كثير إلا أنه بعيد الثبوت" (¬2). وقد ذكر في كتابيه ذم الهوى والأذكياء الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي استشهد بها في فضل العقل، وهذه الأحاديث سأذكرها في باب التقويم من هذا البحث. د - مفهوم العقل عند ابن الجوزي: بيَّن ابن الجوزي أن هناك اختلافًا بين العلماء في تحديد ماهية العقل، فقال: "اختلف الناس في ماهية العقل اختلافًا كثيرًا" (¬3). وقد حدده ابن الجوزي في معانٍ عدة مجملةٍ في قوله: "العقل يُطْلَق بالاشتراك على أربعة معانٍ أولها الوصف الذي يفارق به الإنسان البهائم وهو الذي به استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده من قال هو غريزة وكأنه نور يُقذف في القلب يُستعدُّ به لإدراك الأشياء. والثاني: ما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. والثالث: علوم تستفاد من التجارب تسمى عقلًا. والرابع: أن منتهى قوّته الغريزية إلى أن تقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة" (¬4). وقوله أيضًا في العقل: "فإن أجل الأشياء موهبة العقل فإنه ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 405، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، حديث رقم 304 .. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 7. (¬3) المرجع السابق، ص 5. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 5.

آلة في تحصيل معرفة الإله، وبه تضبط المصالح، وتلحظ العواقب، وتدرك الغوامض، وتجمع الفضائل" (¬1). وهذا تفصيل لهذه المعاني: المعنى الأول: الاستعداد الفطري للإدراك، وقال فيه ابن الجوزي: "الوصف الذي يفارق به الإنسان البهائم، وهو الذي به استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده من قال هو غريزة وكأنه نور يُقذف في القلب يستعدّ به لإدراك الأشياء" (¬2). ويقصد به أن العقل هو الذي تميز به الإنسان عن الحيوان، وهو الاستعداد الفطري الذي يمكِّن الفرد من إدراك ما يحيط به من كل شيء. المعنى الثاني: القدرة على التمييز، وقال فيه: "ما وُضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات" (¬3). والمقصود به العلم الذي وضعه الله تعالى في النفس البشرية للتمييز والإدراك. المعنى الثالث: العلوم المستفادة من التجارب، وقال فيه: "علوم تستفاد من التجارب تسمى عقلًا" (¬4). وقد صحح د. حسن عبد العال هذا المعنى الذي أورده ابن الجوزي بقوله: "وردت في القرآن الكريم الألفاظ التي تدل على النشاط العقلي بصفة عامة مثل التفكر والتدبر والعلوم والنظر والتبصّر والتذكر مئات المرات. وفي الحقيقة لا يعرف العلم كائنًا موجودًا بذاته يسمى عقلًا يمكن إجراء التجارب عليه أو ملاحظته" (¬5)، لأن هناك فرقًا بين القدرة على التعلم وبين العلوم. المعنى الرابع: الغريزة التي تقمع الشهوة. وقال فيه: "منتهى قوته الغريزية إلى أن تقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة" (¬6). ويقصد بها ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 1. (¬2) المرجع السابق، ص 5. (¬3) المرجع السابق، ص 5. (¬4) المرجع السابق، ص 5. (¬5) مرجع سابق، عبد العال، د. حسن، إبراهيم. مقدمة في فلسفة التربية الإِسلامية. ص 115. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. الأذكياء. ص 5.

قدرة العقل الفطرية، التي تميزت بالإدراك والوعي لعواقب الأمور، الضابطة لشهوات الإنسان ودوافعه من الانجراف في تيار اللذة الوقتية العاجلة. المعنى الخامس: الوسيلة لمعرفة الله تعالى، وقال فيه: هو "الآلة في تحصيل معرفة الإله، وبه تضبط المصالح، وتلحظ العواقب، وتدرك الغوامض، وتجمع الفضائل" (¬1). بمعنى أن العقل هو الأداة والوسيلة لمعرفة الله -عز وجل-، ثم اتباع شرعه، واجتناب نهيه. ويمكن جمع المعاني التي تدل على العقل في نظر ابن الجوزي في تعريفٍ موجزٍ يدل عليه، وهو أن العقل: هو القوة والطاقة الفطرية التي تميز الإنسان عن الحيوان، في معرفته لله تعالى وما يترتب على هذه المعرفة من الإلمام بالأحكام والتكاليف الشرعية، وإدراك العواقب المترتبة على عدم تحكيم شرع الله وتنفيذه. كما أن العقل الواعي المدرك المميز، يستطيع أن يتعلم ويكتسب السلوكيات الفاضلة، ويضبط دوافع الإنسان وشهواته من الزلل. هـ - درجات العقل عند ابن الجوزي: لقد كرّم الله تعالى الإنسان بالعقل البشري، الذي يعتبر وسيلة إرسالٍ واستقبالٍ لكل ما يدور في حياته، وما يحيط به في الكون. والناس يختلفون في قدراتهم العقلية، كل حسب ما أعطاه الله تعالى، وقد قال ابن الجوزي في ذلك: "الناس يتفاوتون في العقل وجوهره ومقدار ما أُعطُوا منه" (¬2) وقوله أيضًا: "العقلاء يتفاوتون في موهبة العقل ويتباينون في تحصيل ما يَثقَفه من التجارب والعلم" (¬3). ونظرًا إلى وجود هذه الفروق الفردية بين الناس، فقد رأى ابن الجوزي ضرورة مراعاتها في التعليم فقال: "من المخاطرات العظيمة تحديث العوامّ بما لا تحتمله قلوبهم أو بما قد رسخ في نفوسهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 1. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 25. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 1.

ثانيا: تعريفات درجات العقل عند ابن الجوزي

ضده" (¬1)، وقوله أيضًا: "وقد تكلم قوم من النحويين بالإعراب مع العوامّ، فكان ذلك من جنس التغفيل، وإن كان صوابًا، لأنه لا ينبغي أن يُكلّم كل قوم إلا بما يفهمون" (¬2). وقد حدد ابن الجوزي درجات العقل المرتفعة على الوجه الآتي: الفطنة، ثم الذكاء، ثم الفهم، ثم الذهن. ودرجات العقل المنخفضة على الوجه الآتي: الحمق، ثم التغفيل، ثم البله، ثم الجنون. ولم يكتف ابن الجوزي بتحديد هذه الدرجات المرتفعة والمنخفضة بل عرَّفها وبيَّن الفروق بينها، ولكنه لم يبيِّنها بالأرقام العددية كما يبينها علماء النفس اليوم، وسأقوم بتوضيح ذلك. ثانيًا: تعريفات درجات العقل عند ابن الجوزي 1 - الفطنة: لم يعرَّف ابن الجوزي الفطنة، ولكنه سرد قصصًا تدل عليها. واعتبر الأنبياء من الأفراد المتميزين بقوة الفطنة الفطرية، فقال: "معلوم أن فطن الأنبياء فوق الفطن" (¬3)، وقد قصّ قصص الأنبياء التي تدل على فطنتهم، ولا مجال لعرضها حتى لا يطول البحث، ويمكن الرجوع إليها في كتابه الأذكياء. 2 - الذكاء: وقد عرَّفه ابن الجوزي بقوله: "الذكاء جودة حدسٍ من هذه القوة تقع فى زمانٍ قصيرٍ غير ممهلٍ، فيعلم الذكي معنى القول عند سماعه" (¬4). ثم وضح معناها اللغوي بقوله: "قال الزجَّاج: الذكاءُ في اللغة تمامُ الشيءِ ومنه الذكاءُ في السنِ، وهو تمام السن ومنه الذكاءُ في الفهمِ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 419. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 125. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 10. (¬4) المرجع السابق، ص 6.

وهو أن يكون فهمًا تامًّا سريعَ القبولِ، وذكيت النارَ أي أتممتُ إشعالها. وعن أبي بكر بن الأنباري قال قولهم: "فلانٌ ذكيٌ معناه كاملُ الفطنة تامُها من قولِ العرب: قد ذكتِ النارُ تذكو إذا تمَ وقودُها، ويقال: أذكيتُها إذا أتممتُ وقودَها، ويقال: مسكٌ ذكيٌ إذا كان تامَّ الطيب، كاملَ نفاذِ الريحِ" (¬1). إذا الذكاءُ فطنةٌ وهو أعلى درجة من الفطنة. 3 - الفهم: لقد عرَّف ابن الجوزي الفهم: بأنه "جودة تتهيأ لهذه القوة" (¬2). وقد عرّفها الإمام الجرجاني بقوله: تصوّر المعنى من لفظ المخاطب" (¬3). 4 - الذهن: وقد عرَّف ابن الجوزي الذهن بأنه: "قوة النفس المهيأة المستعدة لاكتساب الآراء" (¬4). ووافقه في رأيه الإمام الجرجاني الذي عرف الذهن بقوله: "قوة للنفس تشمل الحواسّ الظاهرة والباطنة معدة لاكتساب العلوم، وهو الاستعداد التام لإدراك العلوم والمعارف بالفكر" (¬5). لقد اكتفت الباحثة برأي ابن الجوزي في درجات العقل المرتفعة، لأنها وجدت أقوال العلماء الغربيين تدعم وتؤكد ما يقوله، وهذا مجاله في باب المقارنة، لذلك لم أذكره هنا. كذلك عرَّف ابن الجوزي درجات العقل المنخفضة على الوجه الآتي: 1 - الحمق: وقد عرَّفه ابن الجوزي بقوله: "الحمق فساد في العقل أو في الذهن" (¬6). والمعنى اللغوي هو: "الحمقُ: ضد العقل. الجوهري: الحُمْقُ والحَمقُ قلةُ العقلِ. والأحمقُ مأخوذٌ من انحماقِ السوقِ إذا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 6. (¬2) المرجع السابق، ص 6. (¬3) مرجع سابق، الجرجاني. كتاب التعريفات. ص 217. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 6. (¬5) مرجع سابق، الجرجاني. كتاب التعريفات. ص 143. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 25.

كسدت فكأنه فسدَ عقلُه حتى كسدَ" (¬1). وتعريف ابن الجوزي مناسب للمعنى اللغوي. 2 - التغفيل: وقد عرفه ابن الجوزي بقوله: "هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود" (¬2). أما المعنى اللغوي للتغفيل فهو: "التغفيل: أم يكفيك صاحبُك وأنت غافلٌ لا تعنى بشيء. والتغفلُ: خَتْلٌ في عقلِه. والمغفَّلُ: الذي لا فطنَة له. والغفولُ من الإبل: البلهاءُ التي لا تمتنعُ من فصيل يرضعها ولا تبالي مَن حلبَها. والغفلُ: المقيدُ الذي أُغفلَ فلا يرجى خيرُه ولا يُخشى شرهُ" (¬3). وقد عرف بعض علماء النفس المغفل بالأبله: وهو الذي لا يستطيع أن يكسب رزقه، ولكنه يستطيع أن يحافظ على حياته بمشقةٍ" (¬4). 3 - الجنون: وقد عرَّفه الجوزي بقوله: "عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعًا" (¬5). وقد عرَّفه الإمام الجرجاني بقوله: "هو اختلالُ العقلِ بحيث يمنعُ جريانَ الأفعالِ والأقوالِ على نهجِ العقلِ إلا نادرًا" (¬6). واعتبره علم النفس "مرضًا عقليا يصيب الفرد فينحدر بمستواه انحدارًا شديدًا" (¬7) أما الحمقُ والتغفيلُ فإنهما يدلان على ضعف العقل، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد العاشر، ص 67 - 68. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 22. (¬3) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الحادي عشر. ص 498. (¬4) السيد، د. فؤاد، البهي. الذكاء. القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الرابعة 1976 م، ص 423. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 22 .. (¬6) مرجع سابق، الجرجاني. كتاب التعريفات. ص 107. (¬7) مرجع سابق، السيد، فؤاد، البهي. الذكاء. ص 422.

ثالثا: أنواع القدرات العقلية

وهو نقص في الذكاء يجعل الفرد قاصرًا عن إدراك وتمييز أمورٍ كثيرةٍ. الفروق بين درجات العقل عند ابن الجوزي كما أن الناس يختلفون في صفاتهم البدنية، "فتختلف أطوالهم وأوزانهم وألوان بشرتهم يختلفون أيضًا في الذكاء والقدرات العقلية الأولية، والفروق الفردية في أية صفة من الصفات العقلية هي في جوهرها فروق في الدرجة أو المستوى وليست فروقًا من النوع. فالفرق بين الغباء والعبقرية فرق في المستوى (الدرجة) وليس فرقًا في نوع الذكاء" (¬1). وقد أدرك ابن الجوزي هذه الحقيقة، فوضع فروقًا لحدود العمليات العقلية التي يقوم بها العقل وذلك للتمييز بين درجاتها، فقال: حدّ الفهم: العلم بمعنى القول عند سماعه، وقال بعضهم: حد الذكاء: سرعة الفهم وحدته، والبلادة جموده" (¬2). ومعنى قول ابن الجوزي، أنه اعتبر الفهم من العمليات العقلية المتفرعة من الذكاء، وحدوده الفهم بمجرد السماع، أما الذكاء فدرجته أعلى من الفهم، لأنه يدل على سرعة الفهم وحدته، أما البلادة فهي ضعف الفهم وبطؤه في استيعاب المراد. وقد ميز ابن الجوزي بين حدود الأحمق والمجنون فقال: "الأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد، ورويته في الطريق الواصل إلى الغرض غير صحيحةٍ، والمجنون أصل اختياره فاسد، فهو يختار ما لا يُختار" (¬3). ثالثًا: أنواع القدرات العقلية 1 - القدرات العقلية الفطرية. 2 - القدرات العقلية المكتسبة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 24. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 6. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 22.

1 - القدرات العقلية الفطرية: أثبتت الدراسات النفسية أن "الذكاء فطري يولد مع الإنسان، وتتفتح أنماطه وتنضج آثاره كلما تقدمت به السن حتى البلوغ والرشد، حيث يقف ليفسح المجال أمام الخبرة أو التجربة، التي تبقى طيلة الحياة. لتقوم بدورها في كسب المهارات والمعارف" (¬1). وقد وضح ابن الجوزي أن القدرات العقلية المرتفعة والمنخفضة فطرية في الفرد، فقال إن العقل "غريزة، وكأنه نور يقذف فى القلب يستعد به لإدراك الأشياء" (¬2). كذلك بين أن الحمق والغفلة -ممكن- أن تكون فطرية أو مكتسبة فقال: "الحمق فساد في العقل أو الذهن، وما كان موضوعًا في أصل الجوهر فهو غريزة لا ينفعها التأديب، وإنما ينتفع بالرياضة والتأديب من أصلُ جوهره سليمُ، فتدفع الرياضة العوارض المفسدة" (¬3). وقال في الغفلة الفطرية: "إذا كانت الغفلة مجبولةً في الطباع، فإنها لا تكاد تقبل التغيير" (¬4). ومن هذين القولين يتبيَّن لنا أن ابن الجوزي يرى أن الحمق وكذلك الغفلة قد يكون فطرةً في الفرد، فلا ينفعه حينئذ التربية والتهذيب، أما من أصل فطرته سليم، واكتسب الحمق من العوامل البيئية المحيطة به، فإنه يسهل علاجه من هذا الداء عن طريق التربية والتعليم والتوجيه المناسب. 2 - القدرات العقلية المكتسبة: إذا كانت القدرات العقلية الفطرية هي التي يولد الفرد بها، وتنمو وتزيد حسب البيئة الثقافية، والتعليم المناسب، والتوجيه السديد، فإن تلك القدرات تزداد وتنمو بالتعلم والتجربة، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "العقل ينمو بالتعلم والتحصيل والدربة والمران، كالجارحة التي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الهاشمي. الفروق الفردية. ص 115. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 5. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 25. (¬4) المرجع السابق، ص 16.

رابعا: القدرات العقلية وعلاقتها بالصفات الجسمية والسلوكية

تكتسب المهارة من دوام العمل" (¬1). كذلك من الأمور التي تنمِّي العقل شغله -كما قال ابن الجوزي- "بالتفكر، والنظر في عواقب الأحوال، والاستدلال بالشاهد على الغائب" (¬2). وكما ذكرنا -من خلال رأي ابن الجوزي- أن الحمق والغفلة مكتسبة إذا لم تكن من أصل فطرة المرء، فهذه يمكن علاجها عن طريق التربية والتعليم والتوجيه، فقال ابن الجوزي: إن ذكر المغفلين يحث المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة، إذا كان ذلك داخلًا تحت الكسب وعامله فيه بالرياضة" (¬3). وقوله أيضًا: "وإنما ينتفع بالرياضة والتأديب من أصل جوهره سليم، فتدفع الرياضة العوارض المفسدة" (¬4). رابعًا: القدرات العقلية وعلاقتها بالصفات الجسمية والسلوكية يرى ابن الجوزي أن للأذكياء والحمقى صفات يستدل بها عليهم، وقد قسمها قسمين: 1 - القسم الأول: من حيث الصورة. 2 - القسم الثاني: من حيث الخصال والأفعال. 1 - القسم الأول: من حيث الصورة: ويقصد بها الصفات التي يتصف بها كل من الأحمق والذكي، وقد استشهد ابن الجوزي بأقوال الحكماء، الذين ربطوا بين شكل الإنسان والحمق، فقال: "إذا كان الرأس صغيرًا رديء الشكل دل على رداءةٍ في هيئة الدماغ. . . وحسن الصوت دليل على الحمق وقلة الفطنة، واللحم الكثير الصلب دليل على غلظ الحِس والفهم، والغباوة والجهل في الطوال أكثر. ومن العلامات التي لا تخطئ طول اللحية، فإن صاحبها لا يخلو من الحمق" (¬5). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 419. (¬2) المرجع السابق، ص 419. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 16. (¬4) المرجع السابق، ص 25. (¬5) المرجع السابق، ص 28 - 29.

أما الصفات الجسمية التي يستدل بها على الأذكياء، فقد استشهد بشأنها بأقوال الحكماء قائلا: "الخلق المعتدل والبنية المتناسبة دليل على قوة العقل وجودة الفطنة، وإذا غلظت الرقبة دلت على قوة الدماغ، ووفوره، ومن كانت عينه تتحرك بسرعةٍ وحدةٍ فهو مكّار محتال لص، وأحمد العيون الشُّهل، وإذا لم تكن الشهلاء شديدة البريق، ولا يظهر عليها صفرة ولا حمرة دلت على طبعٍ جيدٍ، وإذا كانت العين صغيرةً غائرةً فصاحبها مكار حسود، ومن كان نحيف الوجه فهو فهيم بالأمور، واللطف في النِّحاف والقصار أظهر، والمعتدلون في الطول صالحو الحال" (¬1). إن استشهاد ابن الجوزي بهذه الصفات، يؤكد على أن هناك علاقةً بين الذكاء والصفات الجسمية في رأيه، وهذا مخالف لما أثبتته الدراسات النفسية التجريبية، التي حاول فيها الباحثون "بحث قضية ذكاء الإنسان وقياسه، فحاول البعض الربط بين الذكاء وتضاريس الجمجمة أو اتساع الجبهة، وحاول البعض الآخر قياسه عن طريق قياس بعض السمات الشخصية، مثل درجة الحساسية للألم، والقدرة على التمييز الحسي، ثم ما لبث العلماء أن كشفوا عن خطأ هذه الاعتبارات" (¬2). كذلك "دلت نتائج الأبحاث التجريبية الإحصائية التي أجراها جولتون على فراسة الجمجمة وبيرسون على مقاييس فراسة الوجه، وجورنج على التشوهات الخلقية بين المجرمين على خطأ هذه الوسيلة وفشلها في قياس الذكاء والمواهب العقلية الأخرى" (¬3). وقبل أن تؤكد هذه الأبحاث والدراسات النفسية ذلك، فإنه لم ترد آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، تبين أن هناك علاقةً وارتباطًا وثيقين بين القدرات العقلية والصفات الجسمية. 2 - القسم الثاني: من حيث الخصال والأفعال: وقد ذكر فيها ابن الجوزي الصفات السلوكية والخلقية، التي يستدل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 8. (¬2) مرجع سابق، السمالوطي. الإسلام وقضايا علم النفس الحديث. ص 168. (¬3) مرجع سابق، السيد، فؤاد، البهي. الذكاء. ص 108.

خامسا: العلم والتعليم عند ابن الجوزي

بها على الأحمق فقال: "ترك نظره في العواقب، وثقته بمن لا يعرفه ولا يخبره، ومنها أنه لا مودة له، ومنها العجب وكثرة الكلام" (¬1)، كذلك من "علامات الأحمق خلوّه عن العلم أصلًا، فإن العقل لابد أن يحرك إلى اكتساب شيءٍ من العلم وإن قلَّ، فإذا علا السن ولم يحصِّل شيئًا من العلم دلّ على الحمق" (¬2). أما العلامات التي يستدل بها على عقل العاقل من خلال تصرفاته وأفعاله وأحواله فقال ابن الجوزي بشأنها "يستدل على عقل العاقل بسكونه وسكوته وخفض بصره، وحركاته في أماكنها اللائقة بها، ومراقبته للعواقب، فلا تستفزّه شهوة عاجلة عقباها ضرر، وتراه ينظر في القضاء فيخير الأعلى والأحمد عاقبة من مطعم ومشرب وملبس وقولٍ وفعلٍ، ويترك ما يخُاف ضرره، ويستعد لما يجوز وقوعه" (¬3). وتأكيدًا لرأي ابن الجوزي، نقول قد وافقه د. عبد الرحمن صالح بقوله: "إن الأقوال والأفعال الصادرة عن المرء معايير صادقة للحكم على مدى رجحان عقله؛ فالذي يدرك العوامل الماثلة في الموقف والنتائج المترتبة عليها، ويتصرف وفقًا لذلك إنسان عاقل بخلاف من يغتر بظواهر الأمور ولا يتريث عند اختيار الحلّ المناسب للمشكلة الراهنة" (¬4). خامسًا: العلم والتعليم عند ابن الجوزي إن ابن الجوزي كغيره من العلماء المسلمين الذين أشادوا بالعلم والتعليم والعلماء، وذلك من خلال فهمه العميق للمنهج التربوي والتعليمي في الإسلام. وفي هذه السطور، سنعرض لبعض آرائه في هذا المجال. أ - فضل العلم والعلماء: إن للعلم والعلماء في الإسلام منزلةً عظيمةً، لا تُدانيها، منزلته في غيره من الأديان. وقد وردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 32. (¬2) المرجع السابق، ص 33. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 9. (¬4) مرجع سابق، صالح، عبد الرحمن. ابن الجوزي وتربية العقل. ص 33.

تظهر هذه المكانة، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فضلُ العلم أحبُ إليَّ من فضلِ العبادةِ، وخيرُ دينِكم الورعُ" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم - في فضل العلماء: "فضلُ العَالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وملائكته، وأهلَ السمواتِ والأرضين، حتى النملةَ في جحرِها، وحتى الحوتِ، ليصلّونَ على معلّمِ الناسِ الخيرَ" (¬3). وقد استقى ابن الجوزي آراءه في فضل العلم والعلماء من هذا المنهج التربوي الإسلامي، وبيَّن أن "غاية اللذات العقلية العلم" (¬4)، وأنه "لا خصيصة أشرف من العلم، بزيادته صار آدم مسجودًا له وبنقصانه صارت الملائكة ساجدةً" (¬5) وقال أيضًا: "قد ثبت بالدليل شرف العلم وفضله" (¬6). أما فضل العلماء فقد قال فيه: "من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد، فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل، ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق، وباقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع .. فأقرب الخلق من الله العلماء" (¬7). ثم بيَّن أن العلماء أنواع، فقال: "وأما العلماء فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نيةٍ خبيثة يقصد بالعلم المباهاة لا العمل، ويميل إلى الفسق ظنًا أن العلم يدفع عنه، وإنما هو حجة عليه" (¬8). ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، آية 11. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. المستدرك على الصحيحين وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي. (إشراف) المرعشلي، د. يوسف، عبد الرحمن، الجزء الأول، ص 93، كتاب العلم، باب فضل العلم أحب من فضل العبادة وخير الدين الورع. (¬3) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. الجزء الخامس، ص 50، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، حديث رقم 2685. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 175. (¬5) المرجع السابق، ص 157. (¬6) المرجع السابق، ص 309. (¬7) المرجع السابق، ص 157. (¬8) المرجع السابق، ص 342.

والنوع الثاني قال فيهم: "وأما المتوسطون والمشهورون، فأكثرهم يغشى السلاطين، ويسكت عن إنكار المنكر، وقليل من العلماء من تسلم له نيته ويحسن قصده" (¬1). والنوع الثالث من العلماء، من قصد وجه الله تعالى بعلمه، وقد قال فيه ابن الجوزي: "فمن أراد الله به خيرًا رزقه حسن القصد في طلب العلم، فهو يحصّله لينتفع به وينفع ولا يبالي بعملٍ مما يدله عليه العلم. فتراه يتجافى عن أرباب الدنيا، ويحذر مخالطة العوام ويقنع بالقليل خوفًا من المخاطرة في الدنيا في تحصيل الكثير، ويؤثر العزلة؛ فليس مذكِّرًا للآخرة مثلُها. وليس على العلم أضرّ من الدخول على السلاطين، فإنه يحسن للعالم الدنيا ويهون عليه المنكر" (¬2). والعزلة التي يحبذها ابن الجوزي، هي التي تجعل "علم العالم مؤنسه، وكتبه محدّثه، والنظر في سير السلف مقومه، والتفكر في حوادث الزمان السابق فرجته" (¬3). فإذا فهم العزلة بهذه الطريقة، فإنه -كما قال ابن الجوزي: "ترقّى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبث بأذيال محبته، فتضاعفت لذّاته، واشتغل بها عن الأكوان وما فيها، فخلا بحبيبه وعمل معه. بمقتضى علمه" (¬4). ب - مفهوم العلم والهدف منه في نظر ابن الجوزي: إن الهدف من العلم هو العمل به، ولا قيمة للعلم ما لم يترجم إلى سلوكٍ عملي، ويكون له أثر إيجابي في حياة الفرد والمجتمع. ولابن الجوزي في هذا المعنى أقوال عدة منها: "ليس العلم بمجرد صورته هو النافع، بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به" (¬5). وقوله: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 342. (¬2) المرجع السابق، ص 342. (¬3) المرجع السابق، ص 263. (¬4) المرجع السابق، ص 263. (¬5) المرجع السابق، ص 157.

"وإنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحلّ ويحرم، وليس كذلك العلم النافع. إنما فهم الأصول ومعرفة المعبود وعظمته وما يستحقه، والنظر في سير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، والتأدب بآدابهم، وفهم ما نقل عنهم، هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال" (¬1). وليؤيد ابن الجوزي رأيه في حقيقة العلم، واختلاف الناس في فهمه ومعناه، أورد أمثلةً لبعض العلماء الذين اشتغلوا بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده. فقال في المقرئين: "فالقارئ مشغول بالروايات، عاكف على الشواذّ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم، ولا زجر القرآن ووعده. وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم لَعَلِمَ أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ" (¬2). ثم عرض لنموذج ثانٍ من العلماء وهم المحدثون فقال فيهم: "والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجو بذلك السلامة، وربما ترخص في الخطايا ظنًا منه أن ما فعل في خدمة الشريعة يدفع عنه" (¬3). وأخيرًا عرض لنموذج الفقيه، فقال فيه: "والفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوى به على خصامه، أو المسائل التي يفتي بها الناس ما يرقع قدره، ويمحو ذنبه فربما هجم على الخطايا ظنًّا منه أن ذلك يدفع عنه. وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث، ولم يدرِ أنهما ينهيان عن الفواحش بزجرٍ ورفقٍ. وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه" (¬4). ونتيجة لهذا الفهم الخاطئ، فإنه يكسبهم الكبر والحماقة كما قال ابن الجوزي: "وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 313. (¬2) المرجع السابق، ص 436. (¬3) المرجع السابق، ص 436. (¬4) المرجع السابق، ص 436 - 437.

والحماقة" (¬1)، أما الفهم الصحيح لحقيقة العلم ومقصوده فإنه يزيد من إيمان الفرد لله تعالى، قال ابن الجوزي: "وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم" (¬2). وإذا تأملنا رأي ابن الجوزي، أدركنا أنه وصل إلى فهم حقيقة العلم، التي لم ندركها تمامًا في واقع تعليمنا المعاصر، الذي ركز على الكم لا الكيف، وعلى الشهادة العلمية، والدرجة الوظيفية، أكثر من اهتمامه بفهم العلم وحقيقته، والذي نلاحظه أن ابن الجوزي ركز على العلوم الشرعية واعتبرها من العلوم النافعة، وأهمل العلوم الكونية التي عن طريقها تتم عمارة الأرض بما يرضي الله تعالى ما عدا اهتمامه بعلم الطب وذكر فائدته بل ألف فيه، ونتيجة هذا الفهم الذي سار عليه معظم علماء السلف الأجلاء -رحمهم الله- ابتعد الناس عن تعلم هذه العلوم المفيدة، فتخلفت الأمة الإسلامية تخلفًا خطيرًا أدى إلى اعتمادها على الغرب، وعجزها عن مواكبة التقدم الحضاري. جـ - سمات العلم النافع في نظر ابن الجوزي: قبل أن نحدد سمات العلم النافع، لابد من معرفة المقصود بالعلم النافع، وهو "العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله المقتضي لخشيته ومهابته وإجلاله والخضوع له ومحبته ورجائه ودعائه والتوكل عليه ونحو ذلك، فهذا هو العلم النافع" (¬3). وهذا هو العلم الذي يُعرف بعلم القلب. ويرى ابن الجوزي أن العلم النافع هو الذي يؤدي إلى معرفة الله تعالى وأحكامه وتشريعاته في جميع جوانب الحياة، ومن خلال هذه المعرفة، يسعى الإنسان للتمسك بكل فضيلة حثَّ عليها الإسلام والابتعاد عن كل رذيلة نهى عنها. فقال: "ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة، لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 437. (¬2) المرجع السابق، ص 438. (¬3) مرجع سابق، البغدادي. زين الدين. جامع العلوم والحكم. ص 300.

إلا حصّلها" (¬1). وقال: "فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل، فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية المقصودة" (¬2). وقال أيضًا: "ثم ينظر في مقصود العلوم وهو المعاملة لله سبحانه والمعرفة به والحبُّ له" (¬3). ونتيجةً لهذا الفهم الصحيح للغاية من العلم، وهي معرفة الله تعالى بكل مقتضياتها وواجباتها، فقد ورد في بعض أقوال ابن الجوزي تحديد سمات وصفات العلم النافع .. وما ينتجه من ثمرات في نفس المسلم، أهمها: 1 - السمة الأولى: خشية الله تعالى: مدح الله تعالى العلماء الذين أدت معرفتهم الحقيقية لله تعالى، إلى خوفهم وخشيتهم منه جلّ جلاله فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬4). وهذه الثمرة وهي الخوف والخشية من الله تعالى هي من العلم النافع، وفي ذلك يقول ابن الجوزي عن نفسه: "وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدرى بالعلم، حتى أنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله -عز وجل-" (¬5) وقوله: "وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم" (¬6). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 160. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 43. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 310. (¬4) سورة الإسراء: الآيات 107 - 109. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 235. (¬6) المرجع السابق، ص 438.

2 - السمة الثانية: إصلاح السريرة ويقصد بها أن يكون هدف المتعلم من علمه ابتغاء وجه الله تعالى، ولا يتخذ العلم مغنمًا دنيويًّا، حتى يجد آثاره في نفس وسلوكه. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من طلبَ العلمَ ليجاريَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه، أدخلَه الله النار" (¬1)، لأن الله تعالى -كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - "لا يقبل إلا ما كان خالصًا وابتُغِيَ به وجههُ" (¬2). والذين صلحت سرائرهم، سلّموا عقولهم وقلوبهم له -عز وجل-، وأخلصوا لله، فسمت أرواحهم، وطهرت نفوسهم، ورقت قلوبهم، وفيهم يقول ابن الجوزي: "فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه" (¬3). 3 - السمة الثالثة: اكتساب الفضائل العلم النافع هو الذي يدفع بصاحبه للعمل الصالح، واكتساب الفضائل، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل" (¬4). وهذه طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: "فطريق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - العلم والعمل" (¬5). وقوله: "ومن تأمل حالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، رأى كاملًا من الخلق يعطي كل ذي حق حقه" (¬6). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. (تحقيق) عوض، إبراهيم، عطوة، الجزء الخامس، ص 32، كتاب العلم، باب ما جاء فيمن يطلب بعلمه الدنيا، حديث رقم 2654. (¬2) مرجع سابق، النسائي. سنن النسائي. المجلد الثالث، الجزء السادس، ص 25، كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 207. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 43. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 222. (¬6) المرجع السابق، ص 222.

د - المقومات الأساسية للعالم والمتعلم في نظر ابن الجوزي: حتى يتم العلم في جوٍ من الإيمان والأخلاق، وليأتي بثماره المرجوة لكلٍ من العالم والمتعلم حدّد ابن الجوزي مقوماتٍ متعددة لكل واحدٍ منهما, وهي: أولًا: المقومات الأساسية للعالم في نظر ابن الجوزي. لقد ورد الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤكد منزلة العلماء الرفيعة في الإسلام، لذلك على العالم أن يتحلى بالكثير من الصفات والآداب والأخلاقيات التي تتناسب مع شرف العلم الذي يبلغه، والمنزلة التي ينالها. وهذه أهم المقومات الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها: 1 - المقومات الروحية إن المنهج التربوي الإسلامي يحدد وجهة الإنسان المؤمن في كل حياته، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). والعالم لابد أن يخلص في علمه ونشر تعليمه لوجه الله تعالى، حتى ينال الأجر والثواب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من تعلمَ علمًا مما يبتغى به وجهُ الله، لا يتعلمهُ إلا ليصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرفَ الجنةِ يومَ القيامةِ" (¬2). وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي "هو [العالم] الذي يراعي حدود الله، وهي ما فرض عليه وأُلزم به، والذي يحسن القصد، ويكون عمله وقوله خالصًا لله تعالى، ولا يريد به الخلق ولا تعظيمهم له" (¬3). 2 - المقومات الشخصية: أ - اهتمام العالم بمظهره الخارجي: لقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المثل والقدوة في الاهتمام بالمظهر ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآيتان 162 - 163. (¬2) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الثالث، ص 323، كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى، حديث رقم 3664. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 420.

المناسب الذي يجمل بالفرد، ويحببه إلى الناس. وقد نصح ابن الجوزي العالم أن يهتم بمظهره ونظافته وزينته مقتديًا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال: "ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف مجيئه بريح الطيب فكان الغاية في النظافة والنزاهة" (¬1). ب - أن يكون العالم قدوةً: ينبغي للعالم أن يترفع عن الأعراض الدنيوية، ويجعل همه في تعلم العلم وتعليمه، وأن يجعل قدوته الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال ابن الجوزي في ذلك: "من آداب العالم: أن يترك فضول الدنيا ليتبعه الناس، فإن الاستدلال بالفعل أقوى من الاستدلال بالقول، فإن الطبيب إذا أمر بالحمية ثم خلّط لم يُلتفت إلى قوله" (¬2). وقوله: "ومن تأمل خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى كاملًا في العلم والعمل، فبه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق" (¬3). جـ - موقف العالم من جمع المال: بيَّن ابن الجوزي موقف العالم من جمع المال فقال: "ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضُمّ إلى العلم حِيز الكمال. وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لابد منه. وقل الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأولوا فيها، إلا أن غيرها كان أحسن لهم" (¬4) ثم بيَّن لهم الطريق إلى ذلك فقال: "ينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره ولا يفضل غيره عليه. وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم" (¬5). وقد بيَّن ابن الجوزي أمثلة من العلماء الذين ركنوا للدنيا فقال فيهم: "فالزهري مع عبد الملك، وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين، وابن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 159. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 204. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 90. (¬4) المرجع السابق، ص 161. (¬5) المرجع السابق، ص 160.

أبي الدنيا مؤدب المعتضد، وابن قتيبة صدَّر كتابه بمدح الوزير. وما زال خلف من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم. وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقًا من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا" (¬1). أما الصنف الثاني فقد قال فيهم: "فعلمنا أن كمال العز وبعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة. ولم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين. إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك. وإما من كان شديد الصبر قنوعًا بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي، وأحمد بن حنبل. ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه" (¬2). د - حسن استغلال الوقت: على العالم أن يكون حريصًا على وقته منتفعًا به، يقضي كل وقته بين العلم والعمل به ونشره بين الناس، إلا ما اقتضته ضرورة الأكل والشرب والنوم والراحة. وهذا ابن الجوزي يبين إلى أي مدى كان حرصه على الاستفادة من الوقت وحسن استغلاله، حتى في أثناء زيارة الناس له، فقال: "فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غُلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلًا يمضي الزمان فارغًا. فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد (الورق) وبَري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابدّ منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي" (¬3). وقد استند ابن الجوزي في حرصه على الوقت إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، (وإن لم يستشهد به): "لا تزولَ قدمًا عبدِ يومَ القيامةِ حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعلَ، وعن مالِه من أين اكتسبَه ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 161. (¬2) المرجع السابق، ص 162. (¬3) المرجع السابق، ص 228.

وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِه فيم أبلاهُ" (¬1). 3 - المقومات العلمية: أن يكون العالم عاملًا بعلمه لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬2). قال في ذلك ابن الجوزي: "إن تصفح العلم كل يومِ يزيد في علم العالم، ويكشف له ما كان خفي عنه، ويقوي إيمانه ومعرفته ويريه عيب كثير من مسالكه، خصوصًا إذا تصفح منهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة" (¬3)، وللعلم أثر عظيم في إصلاح النفس البشرية وتزكيتها والسمو بها، وقد قال في ذلك ابن الجوزي: "فعليك بالعلم. وانظر في سير السلف. . وإنما تشاغلوا بالقرآن والعلم فدلهم على إصلاح البواطن وتصفيتها" (¬4). 4 - المقومات التعليمية: على العالم أن لا يتردد في بذل العلم وتعليمه لمن شاء، حتى ينال الأجر والمثوبة من الله تعالى، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. "من دعا إلى هدى، كان له من الأجرِ مثلُ أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا. ومن دعا إلى ضلالةٍ، كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه، لا ينقُص ذلك من آثامِهم شيئًا" (¬5). وقد بيَّن ابن الجوزي أهمية ذلك بقوله: "وأما تعليم الطالبين وهداية المريدين، فإنه عبادة العالم، وإن من الخطأ الذي وقع فيه بعض العلماء إيثاره التنفل بالصلاة والصوم، عن تصنيف كتاب، أو تعليم علم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 612، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في القيامة، حديث رقم 2417. (¬2) سورة الصف الآيتان 2 - 3. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 97. (¬4) المرجع السابق، ص 344. (¬5) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2060، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى الهدى أو ضلالة، حديث رقم 16 - (2674).

ينفع، لأن ذلك بذر يكثر ريعه، ويمتد زمان نفعه" (¬1). 5 - المقومات الوعظية: إن للوعظ والإرشاد وتعليم الناس، آدابًا ينبغي مراعاتها في أثناء إعداد الدرس وإلقائه، وهذه الآداب أخذت من آداب القُصاص والمذكرين، وهي تقريبًا آداب العلماء نفسها. ويقضى ذلك بأن على المعلم تعليم المتعلمين آداب التعلم، وآداب المعاشرة الاجتماعية، والتأدب مع الأساتذة والإداريين: أ- اختيار الموضوع المناسب: ينبغي للعالم أن يختار الموضوع الذي يتناسب والحاضرين، ويبدأ بالأمور المهمة ثم الأقل أهميةَ، مع ربطها بواقعهم ومشكلاتهم الحياتية، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ قدر الملح في الطعام، ثمَّ يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق" (¬2). ب- ذكر الله تعالى: يستحب للعالم أن يبدى مجلسه بذكر الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: "ما اجتمعَ قومٌ فتفرقوا عن غيرِ ذكرِ الله، إلا كأنما تفرقوا عن جيفةِ حمارٍ، وكان ذلك المجلسُ عليهم حسرةً" (¬3). وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "فإذا فرغ القراء، حمد الواعظ الله -عَزَّ وَجَلَّ- وأثنى عليه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه" (¬4). وكان من عادة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدهم شيئًا من القرآن الكريم، قبل الموعظة، وقد استقى ابن الجوزي منهجه في الوعظ من ذلك، فقال: "أما كيفية وعظه فيعلم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانوا إذا أرادوا الموعظة أمروا رجلًا أن يقرأ عليهم سورة" (¬5). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 42. (¬2) المرجع السابق، ص 100. (¬3) مرجع سابق. ابن حنبل، أحمد. المسند. الجزء الثاني. ص 389. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب القصاص والمذكرين. ص 361. (¬5) المرجع السابق، ص 360.

جـ- الموازنة في الصوت: على العالم أن يتأسى بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، في أن يرفع صوته أو يخَفِضَه حسب الحاجة لذلك، وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "ولا بأس أن يرفع صوته ويظهر الجِد في تحذيره ووعظه" (¬1). وقد استشهد ابن الجوزي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عند خطبه وما ينتابه من رفع صوته أو احمرار عينيه، أو اشتداد غضبه، فقد ورد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب الناسَ احمرت عيناه ورفع صوتُه واشتد غضبُه وكأنه منذر جيشٍ يقول: صبَّحكم أو مسّاكم" (¬2). د- مراعاة الفروق الفردية: على العالم أن يراعي المستوى العقلى للسامعين، فيخاطبهم بما يفهمونه. لقول علي - رضي الله عنه -: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذبَ اللهُ ورسولهُ؟ " (¬3) وقول عبد الله بن مسعود: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغهُ عقولهم إلا كان لبعضهم فتنةً" (¬4) وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي: "من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده" (¬5). وقوله أيضًا: "لا ينبغي أن يُكلَّمَ كل قوم إلا بما يفهمون" (¬6). هـ - الاقتصاد في الموعظة: من الأساليب المتعلقة بالوعظ والإرشاد، أسلوب الاقتصاد في ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 363. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني، ص 592، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث رقم 43 - (867). (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 225، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، حديث رقم 49. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 11، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 419. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 125.

الموعظة وجعلها في أيام محددةٍ حتى لا تمل النفس البشرية، وقد اقتدى الصحابة الكرام بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. قال؛ أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملَّكم. وإني أتخولُكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولُنا بها، مخافةَ السآمةِ علينا" (¬1). ومن هذا المعنى اشتق ابن الجوزي قوله: "وليتقصر على مجلس واحد في الأسبوع، فإن رأى الهمم متشوقةً إلى الزيادة جعلها مجلسين ولا يزيد على هذا" (¬2). لأنه لو زاد على ذلك تستجيب النفس البشرية ثم لا تلبث أن تملّ فتنصرف عن هذه المجالس الوعظية. 6 - مقومات الإفتاء: من مقومات الإفتاء اجتناب الفتوى دون علم، فعلى العالم أن يتأكد من صحة معلوماته ودقتها قبل أن يفتي، وإذا لم يعرف الإجابة فعليه أن يقول: لا أدري حتى يتأكد من الإجابة لأن هذا أسلم من الوقوع في وزر الفتوى. وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي: "إذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف، فإن كثيرًا من العلماء يأنفون من قول لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس، لئلا يقال: جهلوا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا. وهذا نهاية الخذلان" (¬3)، ثم بيَّن ابن الجوزي حال كثيرٍ من العلماء فقال: "ثم يُقدم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها، وقد كان السلف يتدافعونها" (¬4). من هذه المقومات، نستطيع أن نستخلص آراءٍ تربوية عدة تخدم برنامج الإعداد العلمي والتربوي للمعلّم، وأهم هذه الآراء هي: 1 - إخلاص العلم والعمل به لوجه الله تعالى. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 163، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة، حديث رقم 70. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب القصاص والمذكرين. ص 369. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 206. (¬4) المرجع السابق، ص 469.

2 - الاهتمام بالمظهر الخارجي في اللباس ونظافته وبساطته لأن ذلك له أثر في شخصية العالم والمتعلم. 3 - أهمية القدوة في مجال العلم والتعليم. 4 - الاهتمام بالكسب للعالم مع طلب العلم ونشره بين الناس وذلك حتى لا يذل نفسه. 5 - أهمية استغلال الوقت فيما يفيد، والحرص على العلم والتعلم في كل وقت. 6 - أثر العلم في تهذيب السلوك، وتقويم الأخلاق. 7 - الاهتمام ببذل العلم وتعليمه لمن شاء. 8 - أهمية اختيار موضوع الدرس المناسب للحاضرين، حتى يحقق الاستفادة المطلوبة. 9 - ضرورة الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في الموعظة وأساليبها. 10 - ضرورة مراعاة الفروق الفردية بين الأفراد. 11 - ضرورة التأدب بآداب الفتوى وضوابطها الشرعية. ويمكن إضافة ضرورة التخلق بالأخلاق الإِسلامية للعالم، والتجمل بآدابه الاجتماعية، وهذه ذكرها ابن الجوزي في مواضع أخرى من تراثه. ثانيًا: المقومات الأساسية للمتعلم في نظر ابن الجوزي ينبغي للمتعلم أن يتحلى بالصفات الكريمة، والفضائل الكاملة، حتى يكون علمه مثمرًا، وهناك بعض الآداب الخاصة بالمتعلم في نظر ابن الجوزي، سأوردها على الوجه الآتى: 1 - المقومات الروحية وتتمثل في: الإخلاص لله تعالى في طلب العلم ينبغي للمتعلم أن يبتغي بعلمه وجه الله تعالى، ولا يجعله مغنمًا دنيويًا، لأن العلم النافع هو الطريق إلى

الجنة. وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي: "وينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال" (¬1). 2 - المقومات الشخصية: أ- الانتفاع بالوقت وتنظيمه يرى ابن الجوزي أهمية استغلال الوقت، واستثماره فيما يفيد طالب العلم، ويزيد من تحصيله. وقد وضع برنامجًا زمنيًا للمتعلم، حتى يستفيد من وقته، من بداية اليوم إلى نهايته، جامعًا بين العلم والعمل به. فقال: "فألزِم نفسك يا بني الانتباه عند طلوع الفجر، ولا تتحدث بحديث الدنيا، فقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- لا يتكلمون في ذلك الوقت بشيء من أمور الدنيا. فإذا أعدت درسك إلى وقت الضحى الأعلى، فصل الضحى ثماني ركعات، ثم تشاغل بمطالعة أو نسخ إلى وقت العصر، ثم عد إلى درسك من بعد العصر إلى وقت المغرب، وصل بعد المغرب ركعتين بجزئين، فإذا صليت العشاء، فعد إلى دروسك، ثم اضطجع على شقك الأيمن، فسبّح ثلاثًا وثلاثين، واحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبّر أربعا وثلاثين، وقل: "اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك". وإذا فتحت عينيك من النوم، فاعلم أن النفس قد أخذت حظها، فقم إلى الوضوء، وصل في ظلام الليل ما أمكن، واستفتح بركعتين خفيفتين، ثم بعدهما ركعتين بجزئين من القرآن. ثم تعود إلى درس العلم، فإن العلم أفضل من كل نافلة" (¬2). ب- تخصيص وقت للكسب: يرى ابن الجوزي أن انشغال طالب العلم بتحصيل العلم، ينبغي أن لا ينسيه كسب معيشته ورزق أهله، حتى لا يعرضهم للسؤال، فقال في ذلك: "فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس، فإنه يجمع لك دينك. . . فما رأينا في الأغلب منافقًا في التدين والتزهد والتخشع، ولا آفة طرأت على عالم إلا بحب الدنيا، وغالب ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 311. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 51 - 52 - 53.

ذلك الفقر. فإن كان له مال يكفيه، ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل الشره، خارج عن حيِّز العلماء" (¬1). ثم يبين له طريقة الاكتساب بقوله: "وينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءًا من زمانه مصروفًا إلى توفير الاكتساب والتجارة مستنيبًا فيها، غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتنع من الإسراف والتبذير" (¬2). ولنا وقفة في نصيحة ابن الجوزي لطالب العلم بالاكتساب؛ فإنه لم يوص الحُكام والأغنياء بتخصيص منح دراسية لطلاب العلم بدلًا من الاشتغال بالكسب الذي يكون على حساب طلب العلم وتقدم العلوم، لعله لم يوص ابن الجوزي الحكام والأغنياء بذلك حتى لا يعتمد عليهم طالب العلم في معيشته فيفتن بالدنيا وزينتها بحجة طلب العلم. جـ- مدافعة النكاح ولا يقصد من ذلك ابن الجوزي أن يهمل طالب العلم الزوجة والأولاد والرزق، بل يريد ألا تشغله هذه الأمور عن تحصيل العلم، ويصرف كل وقته فيها. فقال: "وأختار للمبتدئ في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن، فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهمّ. فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل لتتوافر القوة على إعادة العلم. ثم لينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير" (¬3). 3 - المقومات التعليمية: أ- المثابرة على طلب العلم بجدٍ: يحث ابن الجوزي طالب العلم على السعي الدائب للتحصيل المستمر بهمة عالية، وعزيمة قوية عن طريق الاطلاع المستمر في أمهات الكتب المفيدة، فقال في ذلك: "فسبيل طالب الكمال في طلب العلم، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 162. (¬2) المرجع السابق، ص 176. (¬3) المرجع السابق، ص 178.

الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات. فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم، وعلوّ هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرّك عزيمته للجِدّ، وما يخلو كتاب من فائدة" (¬1). ثم ينصح ابن الجوزي طلاب العلم قائلًا: "وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم. ." (¬2) ثم ضرب بنفسه مثلًا في سعة الاطلاع، فقال: "ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب" (¬3)، وكان حصيلة هذا الاطلاع الواسع من ابن الجوزي، ما عبر عنه بقوله: "فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع. فصرت أستزري ما الناس فيه، واحتقر همم الطلاب" (¬4). . ب- الإلمام من كل علم بطرف: يرى ابن الجوزي أن يأخذ طالب العلم من كل علم بطرف، فقال في ذلك: "الشاب المبتدئ في طلب العلم، ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفًا، ويجعل علم الفقه الأهم، ولا يقصر في معرفة النقل، فبه تبين سير الكاملين. وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو فقد شُحذت شفرة لسانه على أجود مسنِّ" (¬5). وبعد، فقد ركّز ابن الجوزي في آداب المتعلم على المقومات الروحية والشخصية والتعليمية، وأهمل المقومات الأخلاقية والاجتماعية. ويمكن أن نستخلص أهم الآراء التربوية التي تفيد طالب العلم وهي: 1 - وجوب قصد طالب العلم وجه الله -عَزَّ وَجَلَّ- من طلبه العلم. 2 - وجوب تنظيم الوقت للمتعلم وحسن استغلاله. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 440. (¬2) المرجع السابق، ص 440. (¬3) المرجع السابق، ص 441. (¬4) المرجع السابق، ص 441. (¬5) المرجع السابق، ص 176.

3 - وجوب تنظيم وقت المتعلم بين طلب العلم وكسب الرزق. 4 - وجوب المثابرة والجد في طلب العلم. 5 - ضرورة الأخذ بطرفٍ من كل علم، مع العلم أن ذلك لا يؤدي إلى التعمق والتخصص في العلم. ج- طريقة تعلم أنواع العلوم في نظر ابن الجوزي: سأجمل رأي ابن الجوزي في أنواع العلوم، لأنه سبق ذكرها في الفصل الثاني عند الحديث عن المنهج التعليمي للأطفال. وقد ركّز ابن الجوزي على العلوم الإسلامية المتعلقة بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، واللغة العربية، فقال فيها: "وقد علم قصر العمر وكثرة العلم، فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا لا يخفى عليه بذلك منه شيء، وإن صح له قراءة القراءات السبعة، وأشياء من النحو وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك. . . ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغنى عنه كنسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقاربه وأزواجه وما جرى له. ثم ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب والخلاف وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانه كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم" (¬1). د- رأي ابن الجوزي في طريقة الحفظ: إن "التعلم عملية معقدة، تدخل فيها عمليات عقلية مختلفة، هذه العمليات تختلف في تعقيدها تبعًا للمستوى النفسي الذي تحدث فيه عملية التعلم، ولا شك في أن الحفظ ضروري في أنماط التعلم الدنيا" (¬2). وهذا بالإضافة إلى العمليات العقلية الأُخرى مثل التذكر والتفكير والتعرف والاستدعاء. وابن الجوزي ركز فقط على الحفظ على ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 169. (¬2) مرجع سابق، صالح، د. أحمد، زكي. علم النفس التربوي. ص 508.

أنه عملية عقلية، وأهمل العمليات العقلية الأُخرى، وربما كان ذلك لعدم تحديد نظرته إلى التعلم على أنه مستقل، فإنه ذكر قدرة الحفظ من حيث هي قدرة من القدرات على حفظ المعلومات وتثبيتها في الذهن. والآراء التربوية التي ذكرها ابن الجوزي ليست شاملة، بل هي محددة في نقاط معينة. وأنا أقوم بتصنيفها حسب مقتضى الدراسة. هـ- مراعاة الفروق الفردية في القدرة على الحفظ: أثبت علم النفس التربوي أنه "توجد فروق فردية في مدى ما يحفظه الأفراد المختلفون، حسب الشروط المختلفة التي تحيط بكل منهم" (¬1)، وهذا ما أكده ابن الجوزي بقوله: "والناس يتفاوتون في ذلك: فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار. ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير، فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ، ليثبت معه المحفوظ" (¬2) وبناء على هذا التفاوت في القدرة على الحفظ، فقد حدد ابن الجوزي بعض الآراء التربوية العامة التي تساعد المتعلم على التعلم الجيد، والتحصيل المثمر. وهذه الآراء صنفت إلى نواح عدة هي: أ- العوامل المساعدة على التعلم الجيد: معرفة هذه العوامل، تساعد المتعلم على توفير الوقت والجهد في تعلم صحيح وسريع، وتحصيل مثمر فعَّال، بدلًا من التخبط والتشتت الذهني. وأهم هذه العوامل من خلال آراء ابن الجوزي هي: 1 - تحقيق الصحة العامة للمتعلم، عن طريق الاهتمام بنوعية الغذاء الجيد المتكامل، المحتوي كل ما يحتاجه الجسم البشري، حتى يقوى العقل، وينشط الذهن، ويسهل التحصيل، قال ابن الجوزي: "وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثرًا في الحفظ" (¬3). 2 - استغلال الأعمار الزمنية المناسبة للحفظ، حتى تثبت المعلومات في ذهن المتعلم، قال ابن الجوزي: "وللحفظ أوقات من العمر، فأفضلها ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 499. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 21. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 178.

الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان" (¬1) وقوله أيضًا: "ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة خصوصًا الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقرارًا لا يزول" (¬2). وقد وافقه في ذلك د. فؤاد البهي السيد وهو من علماء النفس المعاصرين بقوله: "يخضع الذكاء في اطراد نموه لسرعة النمو العقلي المعرفي لاعتماده على نمو العمليات العقلية المختلفة، ويخضع أيضًا للسرعة الكلية للنمو، فهو لذلك ينمو سريعًا في الطفولة وخاصة في سني المهد. ثم تبطؤ سرعته عند المراهقة، وتستقر على مستوى ثابت معين في الرشد، ويظل كذلك إلى بدء الشيخوخة فينحدر عن مستواه الذي ظل ثابتًا طوال الرشد" (¬3). 3 - تنظيم أوقات الحفظ، لما له من أثر كبير في التحصيل، وقد حدد ابن الجوزي الأوقات المناسبة للحفظ وهي: في الساعات الأُولى والأخيرة من اليوم، وفي منتصف الليل، قال: وقد مدح الحفظ في السحَر (الساعات الأخيرة من الليل) لموضع جمع الهمّ، وفي البكر (بعد الفجر)، وعند نصف الليل" (¬4). والسبب في تخصيص هذه الأوقات للحفظ ولاسيما وقت الفجر، كما وضحه د. يالجن فقال: "تكون الدنيا هادئة خالية من ضوضاء الحياة وثرثرتها ويكون الذهن صافيًا متفتحًا، ومستريحًا يقبل المعلومات بسهولة، وترسخ فيه بسرعة" (¬5). 4 - مراعاة الأحوال النفسية التي يكون فيها المتعلم، حتى يسهل تحصيله، ولا يعاق حفظه، بسبب انشغال البال، وقلق النفس. قال ابن الجوزي: "ومتى رأى نفسه مشغول القلب ترك التحفظ" (¬6). كذلك يبتعد عن بعض الأمور التي تشغله عن التركيز في أثناء الحفظ، مثل الشبع، والأماكن الخضراء، وشواطئ الأنهار، فقال في ذلك ابن الجوزي: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 177. (¬2) المرجع السابق، ص 262. (¬3) مرجع سابق، السيد، فؤاد، البهي. الأسس النفسية للنمو. ص 167. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 22. (¬5) يالجن، د. مقداد. توجيه المتعلم في ضوء التفكير التربوي الإسلامي. الرياض، دار المريخ، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م. ص 73. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 22.

"وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع، ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطئ نهر، لأن ذلك يلهي. والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل، والخلوة أصل، وجمع الهم أصل الأصول" (¬1) وقد أكد د. يالجن ضرر الشبع عند الحفظ، فقال ينبغي: "أن تكون المعدة قد خفت من ثقل الطعام وكثرته، فيشعر الإنسان عند ذلك بالخفة والنشاط في جسمه وعقله" (¬2). 5 - الاستفادة من طاقاته العقلية المختلفة في حفظ العلوم المهمة أولًا، ثم الأقل أهمية، وذلك حتى لا يبدد المتعلم هذه القدرات فيما لا يفيد. قال ابن الجوزي: "ثم لينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير. وإن أقوامًا يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسنًا، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل (¬3). 6 - عدم الانتقال من مادة إلى أُخرى، حتى يتقنها ويتأكد من ثبوتها في ذهن المتعلم، قال ابن الجوزي: "وأن لا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله" (¬4). 7 - تقسيم المادة العلمية إلى أجزاء مناسبة حسب قدرة المتعلم، وهذه تسمى بالتمرين الموزع، وقد "دلت التجارب على أن توزيع فترات التمرين أكثر فائدة من تركيزها في كثير من أنواع التعلم، وعلى الأخص في تعلم المهارات والخبرات التي لا ترتكن كثيرًا على عامل المعنى، وذلك لأن التمرين المتصل قد يؤدي إما إلى تعب المتعلم، وإما إلى ملله ونقص رغبته في التحصيل، وإما إلى حدوث ظاهرة الكفّ الرجعي، حيث تتداخل عناصر الخبرات المتعلَّمة بعضها في البعض الآخر، فيعرقل بعضها البعض" (¬5). وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "والصواب أن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 178. (¬2) مرجع سابق، يالجن. توجيه المتعلم في ضوء التفكير التربوي الإسلامي. ص 74. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 178. (¬4) المرجع السابق، ص 178. (¬5) مرجع سابق، الغريب، د. رمزية. التعلم. ص 528 - 529.

يأخذ قدر ما يطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل" (¬1)، وقوله: "ويحفظ قدر ما يمكن فإن القليل يثبت والكثير لا يحصل" (¬2)، وقوله أيضًا: "وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم" (¬3). 8 - التكرار من العوامل المساعدة على التعلم الجيد، وذلك لأنه يكسب "الأداء نوعًا من الثبوت والنمو والاستقرار عند الشخص المتعلم، فالممارسة تيسر نوعًا من الآلية، وبالتالي تساعد على أداء الأعمال بطريقة سريعة دقيقة صحيحة" (¬4). وقد بين ابن الجوزي أهمية التكرار وتفاوت الناس فيه. فقال: "الطريق في إحكامه [للمحفوظ]. كثرة الإعادة، والناس يتفاوتون في ذلك: فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. فينبغي للإنسان أن يعيد بعد الحفظ، ليثبت معه المحفوظ" (¬5). وقد استشهد ابن الجوزي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تعاهدوا القرآنَ فإنه أشدّ تفصيًا من صدورِ الرجالِ من النعمِ من عقلِها" (¬6). وقد بيَّن طريقة الحفظ فقال: "فينبغي أن يحكم الحفظ ويكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ" (¬7) وذلك لصعوبة التكرار على النفس البشرية، فقال: "ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار له" (¬8). وصعوبة هذا الأمر تتفاوت حسب المادة العلمية التي يحفظها الإنسان، وقد قال في ذلك: "خصوصًا تكرار ما ليس لها في تكراره وحفظه حظ، مثل مسائل الفقه، بخلاف الشعر والسجع، فإن لها لذة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 177. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 22. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 178. (¬4) مرجع سابق، صالح، د. أحمد، زكي. علم النفس التربوي. ص 459. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 21. (¬6) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع، ص 79، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، حديث رقم 5033. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 262. (¬8) المرجع السابق، ص 261.

في إعادته وإن كان صعبًا، لأنها تلتذ به مرة ومرتين" (¬1). ب - الأسباب التي تؤدي إلى النسيان في نظر ابن الجوزي: ذكر ابن الجوزي الأسباب التي تؤدي إلى النسيان في كتابه الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ، تحت عنوان "في الأدوية المعينة على الحفظ"، وهذا العنوان مخالف للذي ذكره من الأسباب. وقبل عرض آراء ابن الجوزي في هذا الموضوع، سنعرِّف معنى النسيان، وهو "عجز الإنسان عن استرجاع، أو تعرفٍ على ما قد اكتسبه في الماضي من معلومات أو أفكار أو ذكريات أو مهارات. إنه فقدان كلي أو جزئي لما سبق ذكره في الوقت الذي يحتاج إليه الفرد" (¬2). والنسيان نوعان: 1 - نسيان طبيعي. وهذا النسيان بحكم كون الإنسان إنسانًا. 2 - نسيان مرضي. ناتج من صدمة انفعاليةٍ أو مرضٍ أصابه في دماغه. ففقد الذاكرة. وللنسيان أسباب عديدة -لا داعي لذكرها- وقد حصرها ابن الجوزي في أربعة أسباب هي: 1 - أسباب مرضية ناتجة من أمراض الدماغ. 2 - أسباب غذائية ناتجة من التركيز على أكل أنواع معينة من الأطعمة. 3 - أسباب نفسية مثل الهمّ. 4 - أسباب أُخرى مثل قراءة ألواح القبور، والنظر في الماء الدائم والبول فيه، والنظر إلى المصلوب ونبذ القمل، والمشي بين جملين مقطورين، وأكل سؤر الفأر. وسأقوم بعرض رأي ابن الجوزي في أسباب النسيان ثم مناقشته، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 262. (¬2) الهاشمي، د. عبد الحميد، محمد. أصول علم النفس العام. جدة: دار الشروق. الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1986 م، ص 216.

لمعرفة مدى صحة أو خطأ ما عدّه من الأسباب: 1 - أسباب مرضية ناتجة من أمراض الدماغ، وقد قال فيها ابن الجوزي: "إن نسيان المحفوظ من أمراض الدماغ، وذلك يكون غالبًا من سوء مزاج بارد، رطب، يرطب الدماغ، وذلك يكون من كل ما يولد خلطًا بلغميًا وفيه تبخير، ويتولد كثيرًا من أكل البصل والتخم وكثرة أكل الفواكه. وسبب فساد الذكر البرد، فإن كان من رطوبة فصاحبه لا يحفظ ما يطبع فيه، وإن كان من يبوسة فإنه لا يحفظ الأمور الماضية دون الحادثة، وإن كان من يبس مع حركان مع اختلاط الذهن، وأكثر ما يعرض النسيان عن برد ورطوبة. وقد يكون عن يبس مفرط، يجفف الدماغ، ويجعله كالصخرة التي لا تقبل أن ينطبع فيها شيء" (¬1). وهذا السبب يخالف ما أثبته الطب الحديث من أن النسيان "ناتج من إصابة عضوية عصبية كضربة دماغية، أو صدمة انفعالية، أو كبت مزمن قوي، فهذه الحالات يحدث معها نسيان مفاجئ ويفقد صاحبها الذاكرة. وقد يكون النسيان تدريجيًا كما هو الحال مع بعض الأمراض العقلية كالذهان، أو نسيانًا فجائيًا، كمن صدمته سيارة برأسه وأغمي عليه. . . ." (¬2) أما ما ذكره ابن الجوزي من أمراض الدماغ، فهذا من الطب اليوناني القديم (¬3)، الذي فرض نفسه في عصر ابن الجوزي. أما الأطعمة التي تسبب النسيان، فقد ذكرها ابن الجوزي بقوله: "وأكل الكزبرة الرطبة والتفاح الحامض" (¬4). فأعتقد أن هذه الفواكه لا تسبب النسيان، وإن كانت بعض الأطعمة تنشط العقل وتزيل الإعياء. أما الأسباب الناتجة من الحالة النفسية كالهمّ، فإن لها تاثيرًا سيئًا في الشخص فإنها تمنعه من التركيز، وتكون سببًا في صعوبة الاسترجاع. "فالإنسان الذي يعاني من الصراع الداخلي والاكتئاب النفسي، والاضطراب العصبي يلاقي من الصعوبة في التحصيل أكثر من الإنسان ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 18. (¬2) مرجع سابق، الهاشمي. أصول علم النفس العام. ص 217. (¬3) أفادني بهذه المعلومة د. محمد علي البار. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ. ص 18.

المتزن الشخصية" (¬1). أما الأسباب الأُخرى فأعتقد أنها غير مقبولة منطقيًا، وهي من تأثير الخرافات (¬2). جـ - الطرق المتبعة في مقاومة النسيان: يعتبر النسيان من العوائق التي تعترض التحصيل، وتحول دون ثبات المعلومات في ذهن المتعلم وهناك العديد من المبادئ التي ذكرها ابن الجوزي لمقاومة النسيان وهي: استمرارية ودوام المذاكرة، حتى لا ينسى المتعلم العلم. قال ابن الجوزي: "إن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة" (¬3) وقال: "فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظٍ قد نُسي" (¬4). وهذه الاستمرارية، لابد أن يتوافر فيها الآتي: 1 - تنظيم أوقات الإعادة بطريقة لا ترهق المتعلم ولا تضرّه. قال ابن الجوزي: "ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلًا ونهارًا، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أيامًا ثم يفتر أو يمرض" (¬5). 2 - تحديد القدر الذي يحفظه، حتى لا يثقل على القلب، فلا يستوعب ما يحفظه. قال ابن الجوزي: "ومن الغلط تحميل القلب حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلًا، فكذلك القلوب. فليأخذ الإنسان على قدر قوته ودونها، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات" (¬6). 3 - مراعاة الحفظ في أوقات النشاط، حتى يستوعب العقل المعلومات ويتقبلها بسهولة، وترك الحفظ أثناء التعب الجسمي والنفسي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، يالجن. توجيه المتعلم في ضوء التفكير التربوي الإسلامي. ص 92. (¬2) سأبين مدى صحة هذه المعلومات في باب التقويم. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 177. (¬4) المرجع السابق، ص 177. (¬5) المرجع السابق، ص 177. (¬6) المرجع السابق، ص 177.

حتى لا ينساها، قال ابن الجوزي: "ومن لم يجد نشاطًا للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح" (¬1). 4 - إعطاء المتعلم مدة زمنيه للراحة بمعدل يوم أو يومين في الأسبوع، يساعد على تثبيت المعلومات في ذهن المتعلم، بالإضافة إلى أن "مثل هذه الراحة تعيد للأعصاب وللذاكرة النشاط، وتبعده عن الإرهاق والملل" (¬2). وقد قال ابن الجوزي في هذا المعنى: "وترفيه النفس من الإعادة يومًا في الأسبوع ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوةً كالبنيان يترك أيامًا حتى يستقر، ثم يبنى عليه" (¬3). وهذه الآراء المتعلقة بالتعلم واتباع الطرق الصحيحة للحفظ الجيد، تدل على علم وفهم ابن الجوزي لهذا العلم، رغم أنه -كما سبق أن ذكرنا- لم يكن لدى العلماء المسلمين القدماء، هذا التحديد الدقيق لمسمى العلوم التربوية والنفسية. وهذا يؤكد سبقه لعلماء النفس في معرفة هذه الآراء. ويمكن استخراج أهم الآراء التربوية التي ذكرها ابن الجوزي في هذا المجال وهي: 1 - مراعاة الفروق الفردية في القدرات العقلية فطريةً كانت أو مكتسبةً. 2 - وجوب الاهتمام بالمقومات الأساسية عند إعداد المعلم له الأثر الفعال في إعداد الرجال. 3 - توجيه المتعلم إلى طرق التعلم الجيد يساعد على المتقدم في التحصيل. 4 - وجوب إرشاد الطلاب إلى أساليب مقاومة النسيان في التعليم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 178. (¬2) مرجع سابق، يالجن. توجيه المتعلم في ضوء التفكير التربوي الإسلامي. ص 75. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 178.

الفصل الثالث التربية الاعتقادية

• الفصل الثالث التربية الاعتقادية طرق ووسائل التربية الاعتقادية في نظر ابن الجوزي: أولًا: الابتعاد عن التلقين الصوري للمبادئ الإسلامية ثانيًا: التركيز على جوانب العقيدة المؤثرة ثالثًا: استخدام الأدلة الفطرية للإقناع رابعًا: تكوين عاطفة إيمانية قوية دافعة للسلوك خامسًا: التبصير بأساليب الإلحاد والملحدين

• الفصل الثالث التربية الاعتقادية إن النفس البشرية فطرت للاعتقاد والإيمان بأي فكرة سواء كانت صحيحة أو خاطئة، لذلك سنعرف أولًا معنى العقيدة، وما يتبعها من إيمان وعمل، حتى نصل إلى تربية هذا الجانب العقائدي من خلال آراء ابن الجوزي في هذا المجال. تعرَّف العقيدة بصفة عامة بأنها مجموعة "الأفكار التي يؤمن بها الإنسان، ويصدر عنها في تصرفاته وسلوكه" (¬1). وقد عرَّفها الإمام حسن البنا بقوله: "هي الأمور التي يجب أن يصدق بها قلبك، وتطمئن إليها نفسك، وتكون يقينًا عندك، لا يمازجه ريب، ولا يخالطه شك" (¬2). "والأصل الجامع للعقيدة والشريعة معًا، والإطار العام الذي يضمهما هو الإيمان" (¬3) الراسخ بكل ما ورد في صريح القرآن الكريم وصحيح السُّنة، مما له علاقة بأقسام العقيدة الأربعة، من "الإلهيات والنبوات والروحانيات (كالملائكة والجن) والسمعيات" (¬4) كالإيمان باليوم الآخر. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النحلاوي، عبد الرحمن. أصول التربية الإسلامية وأساليبها. ص 69. (¬2) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا. بيروت، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، الطبعة الثالثة، 1403 هـ - 1983 م، ص 379. (¬3) بيصار، د. محمد. العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع. بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الرابعة، 1973 م، ص 98. (¬4) مرجع سابق. مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا. ص 382.

وقد عرَّف القاضي عياض -رحمه الله تعالى- الإيمان بقوله: "أصل الإيمان في اللغة التصديق وفي الشرع تصديق القلب واللسان" (¬1). لحديث أبي هريرة قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزًا يومًا للناس، فأتاه رجلٌ فقالَ: ما الإيمانُ؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكتِه، وبلقائهِ، ورسلهِ، وتؤمن بالبعث. قال: ما الإِسلام؟ قال: الإِسلامُ أن تعبدَ الله ولا تشركَ به، وتقيمَ الصلاةَ، وتؤديَ الزكاةَ المفروضةَ، وتصومَ رمضانَ. قال: ما الإحسانُ؟ قال: أن تعبدَ الله كأنك تراهُ، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراكَ. قال: متى الساعةُ؟ قال: ما المسؤولُ عنها بأعلَم من السائلِ. وسأخبركَ عن أشراطِها: إذا ولدت الأمَةُ ربَّها، وإذا تطاولَ رعاةُ الإبل البهم في البنيانِ. في خمس لا يعلمُهم إلا اللهُ. ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬2) الآية. ثمَّ أدبرَ، فقال: ردُوه. فلم يروا شيئًا. فقال: هذا جبريلُ جاءَ يعلمُ الناسَ دينَهم. قال أبو عبد الله: جعلَ ذلك كله من الإيمانِ" (¬3). والإيمان الحق هو الذي يشتمل على: 1 - العقيدة الثابتة التي لا يخالطها شك. 2 - العمل الذي يصدق العقيدة وهو ثمرتها (¬4). والعمل أنواع: عمل القلب، وعمل اللسان والجوارح، فإذا تمكَّن الإيمان من قلب الإنسان فقد صلحت جميع أعماله، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) النيسابوري. صحيح مسلم بشرح النووى. (تحقيق) أبو زينة، عبد الله، أحمد، القاهرة، مكتبة الشعب، المجلد الأول ص 209، كتاب الإيمان، عدد شعب الإيمان، شرح حديث رقم 53 - 54. (¬2) سورة لقمان، الآية 34. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. الباري بشرح صحيح البخاري. (رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه) عبد الباقي، محمد، فؤاد، و (قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه) الخطيب، محب الدين، الجزء الأول، ص 114، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة. وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له، حديث رقم 50. (¬4) الزنداني، عبد المجيد وآخرون. الإيمان. دمشق، دار القلم، الطبعة الرابعة، 1406 هـ - 1986 م، ص 15.

"ألا وإن في الجسدِ مضغة إذا صلحت صلحَ الجسدُ كلُه، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُه، ألا وهي القلبُ" (¬1). والإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات والتفكر في مخلوقات الله تعالى في الكون والحياة، وينقص بالمعاصي. لذلك لابد من تعميق الجانب الإيماني في الإنسان، باعتباره من أهم جوانب التربية وذلك "بوضع منظار إيماني في أعين المتعلمين بحيث يستطيعون رؤية أدلة الله في كل شيء يحللونه ويدرسونه في الآفاق العلمية" (¬2)، وفي كل المبادئ والقيم الإسلامية. حتى يستشعروا الإعجاز الرباني لله -عزّ وجلّ- في كل ما يحيط بهم. ويمكن أن نلخص ذلك كله في تعريف موجز للعقيدة والإيمان: فالعقيدة هي الإيمان بالله وبكل ما أنزل وشرع للعباد، وهذا الإيمان صادق لا يخالطه شك أو وهم، وحتى يتحقق الإيمان الجازم بالله لابد من العمل الجاد وفق المنهج القرآني والنبوي الشريف. وسأتناول في هذا الجانب العقائدي، أهم الطرق والوسائل التربوية، التي تعرض لها ابن الجوزي -من وجهة نظره- لتنمية وتعميق هذا الجانب. وقد جعلت كتاب جوانب التربية الإسلامية الأساسية للدكتور مقداد يالجن هو الأصل الذي اقتبست منه عناوين هذا المبحث لصعوبة الحصول على آراء ابن الجوزي بالمسمى نفسه في مجال التربية الاعتقادية. طرق التربية الاعتقادية في نظر ابن الجوزي ووسائلها إن الإنسان فُطر على الإيمان بوجود الله تعالى، لقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (¬3). وحتى نعمق هذا الإيمان في النفس البشرية، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 126، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه حديث رقم 52. (¬2) مرجع سابق، يالجن. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 147. (¬3) سورة الأعراف: الآية 172.

أولا: الابتعاد عن التلقين الصوري للمبادئ الإسلامية

بطريقةٍ صحيحةٍ، لابد من توجيهه بكافة الطرق والوسائل الإيجابية الفعّالة، "لأنه الأساس في الدين، وفي بناء الأمّة الإِسلامية، فبقدر ما تكون العقيدة قوية في الأُمة، تكون هذه الأمّة قوية متماسَكة ملتزمة بالسلوك الذي تقتضيه هذه العقيدة، إذ إن العقيدة هي القوة الدافعة إلى العمل والموجهة إلى أعمال وغايات سامية، وبقدر قوة العقيدة يندفع الأفراد والجماعات إلى الأعمال الإيجابية، فالعقيدة من هذه الناحية طاقة لا تنفد للأفراد والجماعات، وبقدر هذه الطاقة يتحمل الناس المسؤوليات، ويلتزمون بالأعمال" (¬1). وحتى يكون البناء الإيماني قويًا فعالًا مؤثرًا، لابد من اتخاذ الطرق والوسائل للتربية الاعتقادية وسنعرض آراء ابن الجوزي في ذلك. أولًا: الابتعاد عن التلقين الصوري للمبادئ الإِسلامية إن السبب الرئيسي في ضعف العقيدة الإِسلامية لدى الناشئة، وانعدام تأثيرها في سلوك وخلق المسلمين، ناتج من ضعف التلقي والتلقين لهذه العقيدة ومبادئها، فتفقد بذلك روحها وجوهرها المؤثر في النفوس، ويغلب عليها الطابع الآلي الجامد، فتتحول العبادات الحيوية إلى عادات تقليدية لا روح فيها. قال ابن الجوزي: "تأملت على أكثر الناس عباداتهم فإذا هي عادات" (¬2). قال أيضًا: "رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع، فهم يستوحشون من فعل الشيء لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع" (¬3). ومن أهم أسباب انتشار التلقين الصوري، الخالي من المعاني الحقيقية للعبادات والقيم الإِسلامية، هم الآباء الذين يلقنون أبناءهم تلك الشعائر من دون استشعار لما فيها من المعاني السامية، والحكم البليغة، وفي ذلك ينتقدهم ابن الجوزي بقوله: "ورأيت أحد العوام يشغل ولده حين ينشأ بالمعاش، ولا يعلّمه واجبات العبادات ولوازم المعاملات، فيتقلب الولد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، يالجن، د. مقداد. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 144. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 397. (¬3) المرجع السابق، ص 230.

ثانيا: التركيز على جوانب العقيدة المؤثرة

في طلب الدنيا، ولا يعلم أخبار الآخرة، ولا يعرف فرضًا من الفرائض" (¬1). ونتيجة هذا الفهم القاصر لظاهر المنهج الإسلامي كله، وانحصاره في عبادات تقليدية لا روح فيها، ولا خلق ولا سلوك، نشأت في الأُمّة الإِسلامية أجيال ضعيفة الإيمان، سطحية التفكير، تافهة الاهتمامات، تعيش حياتها في حيرة واضطراب وخواء. لذلك لابد من تغيير هذه الطريقة التقليدية العقيمة، التي تعطل طاقات الأفراد، وتسلبهم الاستمتاع بنعمة الإيمان، ويجب أن يستبدل بها طريقة عملية فعالة توقظ القلوب، وتحرك العقول، وتهذب السلوك، وهذا لن يتم إلا من أصحاب الهمم العالية الذين فهموا حقيقة الإيمان واستشعروا ما فيه من حيوية وعظمة وسمو. ثانيًا: التركيز على جوانب العقيدة المؤثرة إن اهتمام المنهج التربوي الإِسلامي بفهم العقيدة السليمة الدافعة للعمل الصالح، والسلوك القويم، هو الأساس لتربية هذا الجانب، لأنه يزيد الإيمان ويقويه ويدفع الناشئ إلى الفضائل. أما الاهتمام بالأمور الجدلية حول صفات الله تعالى، فمنهي عنها لأنها تثير الشكوك في النفوس وقد تؤدي إلى الكفر. وقد بيَّن ابن الجوزي طريقة التفكير في هذه الأمور العقائدية بقوله: "فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده، ثم يستدل على جواز بعثه رسله، ثم تُتلقى أوصافه من كتبه ورسله، ولا يزاد على ذلك. ولقد بحث خلق كثير عن صفاته بآرائهم فعاد وبال ذلك عليهم" (¬2). ثمَّ بيَّن ابن الجوزي الأسباب التي تدعو المرء إلى عدم الخوض في الأمور العقائدية وتأويلها. فقال: "إن الشرع قنع منا بالإيمان جملة، وبتعظيم الظواهر، ونهى عن الخوض فيما يثير غبار شبهة، ولا تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم. وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر، فكيف يجوز الخوض في صفات المقدّر؟ وما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما: إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد، أو ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. أحكام النساء. ص 3. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 76.

لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق" (¬1). لذلك فالمنهج التربوي الإِسلامي، يركز على الجوانب الحيوية المؤثرة في العقيدة، التي تجعل الناشئ يدرك حقيقة وجوده، وأهمية عمارة الأرض بما يرضي الله تعالى، مستخدمًا في ذلك طاقاته وقدراته، لاستغلال خيرات الكون، وتسخيرها لعبادة الله تعالى. أهم جوانب العقيدة المؤثرة هي: 1 - الجانب الأول: الإيمان بالله، لأنه الخالق والرازق والمالك والواهب والمحي والمميت. وهذا الإيمان يزيد بالتفكر في مخلوقات الله تعالى، والتدبر في آلائه. قال ابن الجوزي: "فرأيت من الجبال الهائلة، والطرق العجيبة. ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق -عَزَّ وَجَلَّ- في صدري" (¬2). 2 - الجانب الثاني: الإيمان بالحياة الآخرة. إذا آمن الإنسان بالحياة الآخرة، وأنها دار الإقامة الدائمة والخالدة. وأن الدنيا مزرعة رابحة للآخرة، إذا أحسن المرء استغلالها في الأعمال الصالحة، والطاعات الواجبة والنافلة. وربط حياته الآخرة يما يصيبه في الدنيا، فإنه لا شك سيكون في يقظةٍ دائمةٍ، ومحاسبيةٍ دقيقةٍ واستعدادٍ تام للقاء الله تعالى. وهذه المراقبة تضبط شهواته، وتقوم سلوكه، وتهذب خلقه، وتقلل من ارتباطه وتعلقه بالدنيا. قال ابن الجوزي في هذا المعنى: "همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمته شغله .. والمؤمن إذا رأى ظلمةً ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلمًا ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمته متعلقة بماثُمَّ، وذلك يشغله عن كل ماتَم" (¬3) والمؤمن في ذكر دائم، وشوق حائر، بين الجنة والنار. وهذه اليقظة هي التي تسدد طريقه، وتصحح اتجاهه وتصلح أعماله. قال ابن الجوزي: "وأعظم ما عنده أن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 184. (¬2) المرجع السابق، ص 154. (¬3) المرجع السابق، ص 399 - 400.

يتخايل دوام البقاء في الجنة، وأن بقاءه لا ينقطع ولا يزول، ولا يعتريه منغّص، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبًا في تلك اللذات الدائمة التي لا تفنى، يطيش فرحًا، ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم ومرض وابتلاء وفقد محبوب، وهجوم الموت ومعالجة غصصه .. ثم يتخايل المؤمن دخول النار والعقوبة فيتنغص عيشه، ويقوى قلقه، فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة، وفي صحراء الخوف أُخرى، فما يرى البنيان" (¬1). وهكذا ارتباط الحياة الدنيا بالآخرة من العوامل الإيجابية، التي تحي القلوب. 3 - الجانب الثالث: الإيمان الصادق بشمولية الأحكام التشريعية لجميع جوانب الحياة الدنيوية وأن الشريعة من عند الله تعالى، وهو المشرع الوحيد لكل ما أنزل في قرآنه الكريم وسنة نبيه الأمين - صلى الله عليه وسلم -. وأن ما أنزله وشرعه يتلاءم مع فطرة الناس التي خلقهم بها، وأن هذه التشريعات جاءت لتنظيم حياتهم، وتدبير مصالحهم بما يكفل لهم سعادة الدارين. قال ابن الجوزي: "ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلّم له في أفعاله، ويعلم أنه حكيم ومالك، وأنه لا يعبث" (¬2). ثم عليه أن يتدبر في الحكمة من خلقه وإيجاده. قال ابن الجوزي: "فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثًا، أفنكون نحن .. ونحن مواطن معرفته ومجال تكليفه قد وجدنا عبثًا؟ ومثل هذا الجهل إنما يصدر ممن ينظر في قضايا العقول التي يحكم بها على الظواهر مثل أن يرى مبنيًا (بناءً) ينقض. والعقل بمجرده لا يرى ذلك حكمة ولو كشفت له حكمة لعلم أنه صواب. كما كشف لموسى مراد الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام. ومعلوم أن ذبح الحيوان، وتقطيع الرغيف، ومضغ الطعام لا يظهر له فائدة على الإطلاق. فإذا علم أنه غذاء لبدن من هو أشرف بدنًا من المذبوح، حسن ذلك الفعل. واعجبًا!! أوَما تقضي العقول بوجوب طاعة الحكيم، الذي تعجز عن معرفة حِكَمِه مخلوقاته. فكيف تعارضه في أفعاله؟ " (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 400. (¬2) المرجع السابق، ص 465. (¬3) المرجع السابق، ص 402.

ثالثا: استخدام الأدلة الفطرية للإقناع

ثالثًا: استخدام الأدلة الفطرية للإقناع عندما فطر الله تعالى الإنسان على الإيمان بوجوده، زوده بالإدراك لمعرفة بعض الأمور التي تعتبر من البديهيات، يقول في هذا د. يالجن: "الاستدلال على وجود شيء غير مرئي بوجود دلائل مرئية أو حسية، ومثل أن إعادة إيجاد الشيء أسهل من إيجاده أول مرة، ودلالة الصنعة على الصانع، ودلالة الأثر على المؤثر، وإن الشيء لا يكون موجودًا وغير موجود في آن واحد، وإن المساويين لثالث متساويان. وغير ذلك من المبادئ الفطرية العقلية، التي يدّعي العقليون المثاليون أنها مبادئ يقينية تؤدي إلى حقائق يقينية" (¬1). وهذا الإدراك البديهي الفطري، أيدته الآيات القرآنية، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬2). وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬3). إلى غير ذلك من الآيات. وقد أورد ابن الجوزي أقوال عدة تؤيد فطرية الإيمان بوجود الله تعالى، ننتقي منها قوله: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورةً، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها، فإنه وضع في النفس أن المصنوع لابد له من صانع، وأن المبني لابد له من بانٍ، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالةٍ واحدةٍ. ومثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل" (¬4). وقوله: "من رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة، خصوصًا في جسد نفسه، علم أنه لابد للصنعة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، يالجن. جوانب الترببة الإِسلامية الأساسية. ص 158. (¬2) سورة العنكبوت، الآية 19. (¬3) سورة البقرة، الآية 164. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 249.

من صانع، وللمبني من بانٍ" (¬1). ثم بيَّن ابن الجوزي أن وجود الله تعالى يتأكد من خلال مخلوقاته، فقال في ذلك: "وأما المتعلق بالمعبود جلَ جلاله فقد منع الشرع من التفكير في ذات الله -عَزَّ وَجَلَّ- وصفاته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تفكرُوا في خلقِ اللهِ ولا تتفكروا في اللهِ، فإنكم لن تقدروا قدرَه". فلم يبق إلا النظر في الآثار التي تدل على المؤثر. وجميع الموجودات من آثار قدرته. وأعجب آثاره الآدمي، فإنك إذا تفكرت في نفسك كفى، وإذا نظرت في خلقك شفى. أليس قد فعل في قطرة من ماء ما لو انقضت الأعمار في شرح حكمته ما وفت" (¬2). وهذا القول مصداق لقول الله تعالى -على الرغم من أن ابن الجوزي لم يستشهد به فيما طالعته- عندما يدعونا الله للتفكر في طبيعة النفس البشرية، ثم في خلق الإنسان من ماء مهين. قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (¬3). وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (¬4). وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي: "من أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه، هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها، فقد دبرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع من المصنوع" (¬5)، وقوله في خلق الإنسان: "أنشأه من قطرةٍ، وبناه على أعجب فطرةٍ، ورزقه الفهم والذهن واليقظة والعلم. وبسط له المهاد، وأجرى له الماء والريح، وأنبت له الزرع، ورفع له من فوقه السماء، فأوقد له مصباح الشمس بالنهار، وجاء بالظلمة ليسكن، إلى غير ذلك، مما لا يخفى. وكله ينطق ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 44. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، الجزء الأول، ص 59. (¬3) سورة فصلت، الآية 53. (¬4) سورة الطارق، الآيات من 5 - 9. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 253.

بصوتٍ فصيحٍ يدل على خالقه" (¬1). كذلك دعا الله -سبحانه وتعالى- إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض. قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (¬2). وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (¬3). وقد بيَّن ابن الجوزي أن حقيقة النظر والتفكر في السموات والأرض، هو التدبر في قدرة الله تعالى، الذي يزيد من إيمان الإنسان ويقينه بالخالق -عَزَّ وَجَلَّ-. قال: "ليس المراد بالنظر إلى ما في السموات والأرض ملاحظته بالبصر، وإنما هو التفكر في قدرة الصانع" (¬4). ثم يستخدم ابن الجوزي أسلوب القرآن الكريم نفسه في الدعوة إلى التأمل والتفكر في مخلوقات الله تعالى، فيقول: "ارفع بصر فكرك إلى عجائب السموات، فتلمح الشمس في كل يوم في منزل، فإذا انخفضت برد الهواء وجاء الشتاء، وإذا ارتفعت قوي الحر، وإذا كانت بين المنزلتين اعتدل الزمان" (¬5). ثم دعاه للنظر في عجائب الأرض فقال: "ثم اخفض بصرك إلى الأرض ترى فجاجها مذللة للتسخير، فامشوا في مناكبها وتفكروا في شربها بعد جدبها بكأس القطر، وتلمح خروج النبات يرفل في ألوان الحلل على اختلاف الصور والطعوم والأراييح" (¬6). ثم دعاه للنظر والتفكر في قدرة الخالق -عَزَّ وَجَلَّ- عند نزول المطر فقال: "وانظر كيف نزل القطر إلى عِرق الشجر، ثم عاد ينجذب إلى فروعها ويجري في تجاويفها بعروق لا تفتقر إلى كلفة" (¬7). ثم دعاه للنظر في حكمة الله ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 368. (¬2) سورة الغاشية، الآيات 17 - 20. (¬3) سورة لقمان، الآية 20. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 57. (¬5) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 60. (¬6) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 60. (¬7) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 60.

رابعا: تكوين عاطفة إيمانية قوية دافعة للسلوك

وقدرته العظيمة في المعادن فقال: "ثم انظر إلى المعادن لحاجات البشر إلى المصالح، فمنها مودع كالرصاص والحديد، ومنها مصنوع بسبب غيره، كالأرض السبخة يجمع فيها ماء المطر فيصير ملحًا" (¬1). ثم يلفت نظره إلى خلق الحيوانات فيقول: "وانظر إلى انقسام الحيوانات ما بين طائرٍ وماشٍ وإلهامها ما يصلحها" (¬2). ثم يدعوه للنظر إلى اتساع ما بين السماء والأرض فقال: "وانظر إلى بُعدِ ما بين السماء والأرض، كيف ملأ ذلك الفراغ هواء لتستنشق منه الأرواح، وتسبح الطير في تياره إذا طارت" (¬3). ثم يدعوه أخيرًا إلى التأمل والتفكر في عجائب قدرة الله تعالى في مخلوقات البحر، فقال: "وانظر بفكرك إلى سعة البحر، وتسخير الفلك فيه، وما فيه من دابة" (¬4). رابعًا: تكوين عاطفة إيمانية قوية دافعة للسلوك سبق أن حددنا في الفصل الأول من الباب الثالث، معنى العاطفة، وفي هذا المبحث، سنوضح أهمية العواطف الإنسانية في تغيير السلوك وتوجيهه وضبطه. وفي ذلك يقول د. مصطفى فهمي: "إن للعواطف أهمية كبرى في توجيه السلوك، فهي في نظرنا عبارة عن وحدة الخلق" (¬5). وحتى تكون العواطف قوية إيجابية لتغيير السلوك وتوجيهه، لابد من عاطفتي الحب والخوف من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، باعتبارهما "من أكبر الدوافع والحوافز التي يمكن استخدامها في عمل الخيرات، وتنفيذ المأمورات وترك الشرور والمنهيات" (¬6). وقد استخدم المنهج التربوي الإِسلامي عاطفتي الحب والخوف من الله تعالى بتوازن واعتدال، فالهدف من حب الله طاعته واتباع شرعه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 60. (¬2) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 60. (¬3) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 60. (¬4) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 60. (¬5) فهمي، د. مصطفى. الصحة النفسية. القاهرة، مكتبة الخانجي، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1987 م، ص 349. (¬6) مرجع سابق، يالجن. جوانب التربية الإِسلامية الأساسية. ص 171.

قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬1). وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬2). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ من كن فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ، أن يكون اللهُ ورسولُه أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبُه إلا للهِ، وأن يكرَه أن يعودَ في الكفرِ كما يكرهُ أن يُقذفَ في النارِ" (¬3). والهدف من الخوف من الله تعالى اجتناب نواهيه، وترك معاصيه، وهذه العاطفة تحمي الإنسان من الوقوع في الرذيلة والمعاصي. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬4). وقد كان لابن الجوزي رأي في عاطفتي الحب والخوف من الله تعالى، لتأثيرهما الفعال في توجيه السلوك وضبطه بطاعة الله تعالى ومحبته والخوف منه. فقال في معنى محبة الله تعالى: "تأملتُ قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬5). فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقًا، وقالت: محبته طاعته، فتدبرتُ ذلك، فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحسّ. وبيان هذا: إن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية، ومحبة العلم والعمل ترى الصور المعنوية فتحبها" (¬6). ثمَّ بيَّن ابن الجوزي كيف تقع المحبة في نفوس الناس، فقال: "فإنا نرى خلقًا يحبون أبا بكر - رضي الله عنه -، وخلقًا يحبون عليًا بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقومًا يتعصبون لأحمد بن حنبل، وقومًا للأشعري، فيقتتلون ويبذلون النفوس في ذلك. وليسوا ممن رأى صور القوم، ولا صور القوم توجب المحبة. ولكن لمّا تصورت لهم المعاني فدلَّتهم على كمال القول في العلوم، وقع الحب لتلك الصور التي شوهدت بأعين البصائر" (¬7). ثم يتساءل ابن الجوزي ليصل إلى حقيقة ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية 31. (¬2) سورة النور، الآية 52. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 60، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، حديث رقم 16. (¬4) سورة النساء، الآية 14. (¬5) سورة المائدة، الآية 54. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 44. (¬7) المرجع السابق، ص 44.

المحبة لله تعالى: "فكيف بمن صنع تلك الصور المعنوية وابتدأها؟ " (¬1) ألا يستحق أن يكون الحب كله له. . . ويُقصدُ بكل عمل وجهه جل جلاله. فيردّ على سؤاله، بإجابة تعمق حب الله تعالى في النفوس، فقال: "وكيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي وعرفني ملذوذات علمي؟ فإن التذاذي بالعلم وإدراك العلوم أَولى من جميع اللذات الحسية، فهو الذي علمني وخلق لي إدراكًا وهداني إلى ما أدركته" (¬2). ثم يواصل ابن الجوزي في سرد نعم الله تعالى التي تثمر المحبة في القلوب. فيقول: "ثمَّ إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد، أراه فيه بإتقان ذلك الصنع، وحسن ذلك المصنوع. فكل محبوباتي منه، وعنه، وبه، الحسية والمعنوية، وتسهيل سبل الإدراك به، والمدركات منه، وألذ من كل لذةٍ عرفاني له، فلولا تعليمه ما عرفته. وكيف لا أحب من أنا بِهِ، وبقائي منه، وتدبيري بيده، ورجوعي إليه، وكل مستحسن محبوب هو صَنَعَه وحسَّنه وزيَّنه وعطف النفوس إليه. . . ." (¬3) ثم بيَّن ابن الجوزي مقامات المحبة، فقال: "وعلى قدر رؤية الصانع يقع الحب له. فإن قوي أوجب قلقًا وشوقًا. وإن مال بالعارف إلى مقام الهيبة أوجب خوفًا. وإن انحرف به إلى تلمح الكرم أوجب رجاءً قويًا" (¬4). وقد استقى ابن الجوزي هذه المقامات الثلاثة، التي تعتبر أساس السلوك والسير إلى الله، من قول الله تعالى (وهو لم يستشهد بهذه الآية هنا): {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (¬5). ثمَّ بين ابن الجوزي الطريقة التربوية السليمة لغرس محبة الله تعالى في القلوب، عن طريق التفكر في مخلوقات الله تعالى، وعجائب قدرته ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 44. (¬2) المرجع السابق، ص 44. (¬3) المرجع السابق، ص 45. (¬4) المرجع السابق، ص 45. (¬5) سورة الإسراء، الآيتان 56 - 57.

العظيمة، والاشتغال بالعلم والعمل لله وحده، وذلك بالإضافة إلى حفظ الحدود الشرعية، والتكاليف الإلهية التي أمر بها جل جلاله، مع دوام ذكره ودعائه واللجوء إليه في كل الأحوال. فهذه أقواله في ذلك: "كلما أوغلت المفهوم في معرفة الخالق، فشاهدت عظمته ولطفه ورفعته، تاهت في محبته فخرجت عن حد الثبوت" (¬1). وقوله: "ولينظر في سير الكاملين من السلف، وليتشاغل بالعلم فإنه الدليل. فحينئذ يحمله الأمر على الخلوة بربه، والاشتغال بحبه، فيكون ما ظهر منه ثمرة نضجةً لا فجّة" (¬2). وقال: "ينبغي أن يكون العمل كله لله ومعه ومن أجله. وقد كفاك كل مخلوق وجلب لك كل خير. وإياك أن تميل عنه بموافقة هوى وإرضاء مخلوق، فإنه يعكس عليك الحال ويفوتك المقصود، وفي الحديث: "من أرضى الناسَ بسخطِ اللهِ عاد حامدُه من الناسِ ذامًا". وأطيب العيش عيش من يعيش مع الخالق سبحانه" (¬3). ثمَّ يتابع ابن الجوزي في عرض الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى فيقول: "فإن قيل: كيف يعيش معه؟ قلت: بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ومراعاة حدوده، والرضى بقضائه، وحسن الأدب في الخلوة، وكثرة ذكره، وسلامة القلب من الاعتراض في أقداره. فإن احتجت سألته، فإن أعطى وإلا رضيت بالمنع، وعلمت أنه لم يمنع بخلًا، وإنما نظرًا لك. ولا تنقطع عن السؤال لأنك تتعبد به، ومتى دمت على ذلك رزقك محبتهُ وصدق التوكل عليه، فصارت المحبة تدلك على المقصود، وأثمرت لك محبته إياك، فتعيش عيشة الصدّيقين" (¬4). وابن الجوزي في آرائه لمحبة الله تعالى، يستخدم الأسلوب الاستفهامي، الذي يثير في النفس حب المعرفة للطرق والوسائل التربوية المفيدة لتعميق هذه المحبة الدافعة إلى الالتزام بكل ما أمر، والابتعاد عن كل ما نهى. وهذا الأسلوب فعّال في إثارة النفس، ومخاطبة الوجدان، وإقناع العقل بضرورة محبة الخالق جل جلاله. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 417. (¬2) المرجع السابق، ص 433. (¬3) المرجع السابق، ص 451. (¬4) المرجع السابق، ص 451.

خامسا: التبصير بأساليب الإلحاد والملحدين

ثم بيَّن ابن الجوزي رأيه في الخوف من الله تعالى، مؤكدًا أن معرفة الله تعالى، هي التي تولد الخوف منه في النفس البشرية. فقال في ذلك: "ما عرفه إلا من خاف منه، فأما المطمئن فليس من أهل المعرفة" (¬1) وقال: "ولو أنهم تأملوا عظمته وهيبته ما انبسطت كفُّ بمخالفته" (¬2). ثمَّ أرشد ابن الجوزي للطريقة التي تولّد هذا الخوف من الله تعالى فقال: "وليكن المتيقظ على انزعاج، محتقرًا للكثير من طاعاته، خائفًا على نفسه من تقلباته، ونفوذ الأقدار فيه" (¬3). ثمَّ ينصحه قائلًا: "وملاحظة أسباب الخوف أدنى إلى الأمن من ملاحظة أسباب الرَّجاء. فالخائف آخذٌ بالحزم، والراجي متعلق بحبل طمع، وقد يخلف الظن" (¬4). وقد استقى ابن الجوزي رأيه من قول الله تعالى (وإن لم يستشهِد بذلك فيما أطلعت عليه): {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬5). وقول الله تعالى فيمن دفعه خوفه إلى سلوك طريق المتقين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬6). خامسًا: التبصير بأساليب الإلحاد والملحدين مع اختلاف الحقبة الزمنية التي عاش فيها ابن الجوزي عن عصرنا الحاضر، إلا أن الإلحاد له جذور ممتدة من بداية الدعوة الإسلامية إلى يومنا هذا. لذلك لم يخلُ عصر ابن الجوزي من الملحدين الذين نشروا الأفكار المخالفة للإسلام، وحاولوا بشتى الطرق والأساليب التشكيك في الخالق جلّ جلاله وفي شرعه وأحكامه. وقد ناقش ابن الجوزي أفكارهم في كتابه تلبيس إبليس. ونقدها ودحضها بالحجة والعقل والمنطق. وسأكتفي بعرض أفكارهم ثم ردّ ابن الجوزي عليها، فقد كان رده مقنعًا بخطأ أفكارهم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 135. (¬2) المرجع السابق، ص 210. (¬3) المرجع السابق، ص 136. (¬4) المرجع السابق، ص 211. (¬5) سورة الأعراف، الآية 99. (¬6) سورة الأنبياء، الآية 90.

قال ابن الجوزي في فكرتهم عن وجود الخالق: "قد أوهم إبليس خلقًا كثيرًا أنه لا إله ولا صانع، وأن هذه الأشياء كانت بلا مكوّن" (¬1). ثم رد عليهم بقوله: "وهؤلاء لما لم يدركوا الصانع بالحسّ ولم يستعملوا في معرفته العقل جحدوه. وهل يشك ذو عقل في وجود صانع؟! فإن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان ثم عاد فرأى حائطًا مبنيًا علم أنه لابد له من بانٍ بناه، فهذا المهاد الموضوع، وهذا السقف المرفوع، وهذه الأبنية العجيبة والقوانين الجارية على وجه الحكمة، أما تدل على صانع، وما أحسن ما قاله أحد العرب: إن البعرة تدل على البعير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على اللطيف الخبير، ثم لو تأمل الإنسان نفسه لكفت دليلًا، ولشفت غليلًا، فإن في هذا الجسد من الحكم ما لا يسع ذكره في كتاب. . . ." (¬2). الشبهة الثانية فقد قال فيها ابن الجوزي: "لما رأى إبليس قلة موافقته على جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لابد للمصنوع من صانع حسّن لأقوام أن هذه المخلوقات فعل الطبيعة وقال ما من شيء يخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه. فدلّ على أنها الفاعلة" (¬3). ورد عليهم بقوله. "اجتماع الطبائع دليل على وجودها لا على فعلها، ثم قد ثبت أن الطبائع لا تفعل إلا باجتماعها وامتزاجها. وذلك يخالف طبيعتها، فدلّ على أنها مقهورة. وقد سلموا أنها ليست بحية ولا عالمة ولا قادرة ومعلوم أن الفعل المتسق المنتظم لا يكون إلا من عالم حكيم، فكيف يفعل من ليس عالمًا وليس قادرًا، فإن قالوا ولو كان الفاعل حكيمًا لم يقع في بنائه خلل. ولا وجدت هذه الحيوانات المضرة فعلم أنه الطبع. قلنا ينقلب هذا عليكم بما صدر منه من الأمور المنتظمة المحكمة التي لا يجوز أن يصدر مثلها عن طبع. فأما الخلل المشار إليه فيمكن أن يكون للابتلاء والردع والعقوبة، أو في طيه منافع لا نعلمها، ثم أين فعل الطبيعة من شمس تطلع في نيسان على أنواع من الحبوب فترطب الحصرم والخلالة، وتنشف البرة وتيبسها ولو فعلت طبعًا لأيبست الكل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 41. (¬2) المرجع السابق، ص 41 - 42. (¬3) المرجع السابق، ص 43.

أو رطبته، فلم يبق إلا أن الفاعل المختار استعملها بالمشيئة في يبس هذه للادخار، والنضج في هذه للتناول، والعجب أن الذي أوصل إليها اليبس في أكِنّة لا يلقى جرمها، والذي رطبها يلقى جرمها، ثم أنها تبيض ورد الخشخاش، وتحمّر الشقائق، وتحمّض الرمان، وتحلي العنب، والماء واحد" (¬1)، وقد أشار المولى إلى هذا بقوله {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} (¬2). وغير ذلك من الأقوال الملحدة التي رد عليها ابن الجوزي، وسيطول بنا هذا المبحث لو فصَّلنا في جميع الأقوال. والهدف من التبصير بأساليب الإلحاد والملحدين. أن نربي الأجيال الحاضرة على الإيمان العميق بالله تعالى وبأحكامه، ونحصّنه من التيارات الملحدة التي تحاول إخراجه من إسلامه، فيقف في وجهها بكل عقيدته وإيمانه وثقته بالله تعالى، فلا تؤثر فيه ولا تزعزع إيمانه باللهِ تعالى، بل تزيده قوة ورسوخًا وتمسّكًا بدينه. يمكن تلخيص أهمّ آراء ابن الجوزي في التربية الاعتقادية، في الآتي: 1 - ضرورة التربية الاعتقادية الصحيحة، حتى تؤتى ثمارها في الخُلق والسلوك والعبادة. 2 - الابتعاد عن التلقينات الصورية التقليدية الجامدة في مجال التربية الاعتقادية. 3 - استخدام الأساليب القرآنية الكريمة في التربية الاعتقادية. 4 - التركيز على الجوانب الإيجابية المؤثرة والدافعة إلى السلوكيات الصالحة. 5 - تنمية عاطفتي الحب والخوف من الله تعالى دائمًا. 6 - تكوين القناعة التامة بالعقيدة الإِسلامية بالأدلة والحجج العقلية والعلمية. 7 - تكوين حصانة اعتقادية ضد العقائد الباطلة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 43. (¬2) سورة الرعد، الآية 4.

الفصل الرابع التربية الروحية

• الفصل الرابع التربية الروحية أولًا: ماهية الروح عند ابن الجوزي ثانيًا: صفات الروح ثالثًا: أساليب التربية الروحية عند ابن الجوزي

أولا: ماهية الروح عند ابن الجوزي

• الفصل الرابع التربية الروحية سنتناول في هذا المبحث تربية الجانب الروحي، الذي يعتبر محركًا ومغذيًا لجميع الجوانب في الكيان الإنساني، وذلك من خلال آراء ابن الجوزي في هذا الجانب. أولًا: ماهية الروح عند ابن الجوزي إتبع ابن الجوزي طريقة السلف الصالح في أمر الروح، وهي عدم الخوض فيما لم يظهره الله تعالى، والاكتفاء بما ورد في الكتاب الكريم والسُّنة النبوية الشريفة دون تأويل أو تشبيهٍ أو تعطيل. وقد انتقد أولئك العلماء الذين يخوضون لمعرفة ماهية الروح، فقال: "رأيت كثيرًا من الخلق وعالمًا من العلماء، لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي أُمروا بعلم جُلها، ومن غير بحث عن حقائقها، كالروح مثلًا؛ فإن الله تعالى سترها بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (¬1)، فلم يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء، ولا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه، وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته" (¬2). وعلى الرغم من انتقاده لأولئك العلماء، فقد بيَّن ابن الجوزي ماهية الروح، وهي أنها شيء مبهم غامض، ليس له حدود. وهي لا ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية 85. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي (الطنطاويان). صيد الخاطر. ص 90 - 91.

ثانيا: صفات الروح

تُرى بالعين المجردة، وعلم حقيقتها عند الله تعالى، وهي تُعرفُ بآثارِها في سلوك الإنسان وتصرفاته، وقد قال في ذلك ابن الجوزي: "ولا يعرف مع هذا ماهيتها، ولا كيفيتها ولا جوهرها ولا محلّها. ولا يفهم من أين جاءت، ولا يدري أين تذهب، ولا كيف تعلقت بهذا الجسد" (¬1). وقال: "وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره لا بحقيقة ذاته" (¬2). ثانيًا: صفات الروح بيَّن ابن الجوزي صفات الروح فذكر أنها جوهر مخلوق، لا يتجزأ ولا يموت، وهو المحرك لجميع البدن وبمثابة الخادم للسيد، فقال: "إن الروح في ذاته جوهر لا يتجزأ ولا يموت، وقدره جوهر لا قيمة له (¬3)، وإنما آلات البدن خادم له تعين على السفر" (¬4). ثمَّ يوضح ابن الجوزي حقيقة موت الروح، وما قيل فيها من آراءٍ، فقال: "ثمَّ أشكل عليهم مصيرها بعد الموت، ومذهب أهل الحق أن لها وجودًا بعد موتها وأنها تنعمُ أو تعذب" (¬5). ثمَّ فصّل هذا القول بقوله: "وقد أخذ بعض الجهلة بظواهر أحاديث النعيم، فقال: إن الموتى يأكلون في القبور وينكحون. والصواب من ذلك أن النفس تخرج بعد الموت إلى نعيم أو عذاب، وأنها تجد ذلك إلى يوم القيامة. فإذا كانت القيامة، أعيدت إلى الجسد ليتكامل لها التنعم بالوسائط، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في حواصل طير خضر". دليل على أن النفوس لا تنال لذة إلا بواسطة" (¬6). ولتأكيد هذا المعنى فقد استشهد ابن الجوزي بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 253. (¬2) المرجع السابق، ص 76. (¬3) معناه: أي هو فوق كل قيمة. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب اللطف في الوعظ. ص 81. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 35. (¬6) المرجع السابق، ص 35.

ثالثا: أساليب التربية الروحية عند ابن الجوزي

"إن أرواحَ المؤمنين في حواصل طيرٍ خضرٍ تعلقُ في شجرِ الجنةِ" (¬1)، ولكن مع اختلاف في اللفظ بقوله: "وقد جاء في أحاديث الشهداء أنها في حواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة" (¬2). وقد أكد ابن قيم الجوزية مسألة موت الروح فقال: "والصواب أن يقال موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدمًا محضًا فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيمٍ أو في عذابٍ. . . . حتى يردها الله في جسدها" (¬3). ثالثًا: أساليب التربية الروحية عند ابن الجوزي بما أن الروح من أكبر الطاقات الحيوية والمهيمنة على جميع جوانب الشخصية الإنسانية، فإن ابن الجوزي قد حدّد بعض الأساليب التربوية لتعميق الروح الإيمانية بالله تعالى، والأسلوب الأول يتفرع منه طرق عدة هي: أ - تبصير الناشئ بالآيات الكونية الدالة على وجود الله تعالى وقدرته العظيمة. ب - تبصير الناشئ بالآيات العظيمة في الأنفس البشرية. جـ- التفكر في ظاهرة الموت وما بعده. ففيما يتعلق بفقرتي (أ) و (ب) فقد سبقت معالجتهما في التربية الاعتقادية، فلا داعي لذكرهما هنا منعا للتكرار وسأناقش فقط الفقرة (جـ) ويتم تحقيق هذه الطريقة بما يأتي: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن ماجه، أبو عبد الله، محمَّد بن القزويني. سنن ابن ماجه. (حققه ووضع فهارسه بالكمبيوتر) الأعظمي، محمَّد، مصطفى، الجزء الأول، ص 267، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حُضر، حديث رقم 1448. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 35. (¬3) ابن قيم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله. الروح. الرياض، دار الرشد للنشر والتوزيع، دون طبعة وتاريخ، ص 34.

جـ - تعميق التفكر في ظاهرة الموت وما بعده: يعتبر الموت من الأمور العقائدية في حياة المسلم، لذلك لابد من التدبر والتفكر في مصير المرء بعد حياة مليئة بالمصاعب والأعباء المعيشية، والالتزامات الأسرية، والمعاناة اليومية فلا ينسى في غمرة هذه الحياة، مصيره بعد الموت، وماذا أعدّ لدار البقاء والإقامة الدائمة. وابن الجوزي يلفت نظرنا إلى أنه من طبيعة الإنسان إذا مات له قريب أو عزيز، أن يحزن على فراقه، ولا يتفكر في العِظة من الموت، فقال: "ما زلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد، ولا أتخايل إلا بلى الأبدان في القبور فأحزن لذلك" (¬1). ولكن ينبغي أخذ العظة والعبرة من الموت، والتفكر فيما آل إليه حال الأحباب والأصحاب، قبل أن يفوت الأوان، فيدركه الموت، ويصبح عظةً لغيره، فقال في ذلك: "وأي موعظةٍ أبلغ من أن ترى ديار الأقران وأحوال الإخوان وقبور المحبوبين، فتعلم أنك بعد أيامٍ مثلهم، ثم لا يقع انتباه حتى ينتبه الغير بك. . . ." (¬2). ثم يبين ابن الجوزي حال المؤمن في تدبره للموت، فيقول: "والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلمًا رأى العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمّته متعلقة بماثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ماتمَّ" (¬3). ثم يصف حاله وهو يتفكر في نعيم الجنة الدائم، فيدفعه ذلك للصبر وتحمل المشاق، فقال في ذلك: "فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبًا في تلك اللذات الدائمة التي لا تفنى يطيش فرحًا، ويسهل عليه ما في الطريق إليها من ألم ومرض وابتلاء وفقد محبوب وهجوم الموت ومعالجة غصصه" (¬4). كذلك من صفات المؤمن. أنه إذا تذكر الموت، وما ارتكبه من ذنوب عظيمة، انتابه خوف وقلق من سوء المصير، قال ابن الجوزي: "ثم يتخايل المؤمن دخول النار والعقوبة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 272. (¬2) المرجع السابق، ص 323. (¬3) المرجع السابق، ص 399 - 400. (¬4) المرجع السابق، ص 400.

فيتنغص عيشه، ويقوى قلقه، فعنده بالحالين (¬1) شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة، وفي صحراء الخوف أخرى" (¬2). لذلك فالمطلوب من المرء أن يجعل تذكره للموت إيجابيًا، يدفعه لزيادة رصيده من الأعمال الصالحة، والحسنات الكثيرة، وقد قال في ذلك ابن الجوزي: "ولا ينبغي أن يقع جزع بذكر البلى، فإن ذلك شأن المركب، أما الراكب ففي الجنة أو في النار. وإنما ينبغي أن يقع الاهتمام الكلي بما يزيد في درجات الفضائل قبل نزول المعوّق عنها. فالسعيد من وُفق لاغتنام العافية، ثم يختار الأفضلَ فالأفضل في زمن الاغتنام. وليعلم أن زيادة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل هاهنا، والعمر قصير، والفضائل كثيرة. فليبالغ في البدار. ومتى تخايل دوام اللذة في الجنة من غير منغصٍ ولا قاطع، هان عليه كل بلاءٍ وشدةٍ" (¬3). ثم ينصح ابن الجوزي بمصاحبة الصالحين، والمكثرين من الفضائل، والمتشوقين للآخرة، لأنهم المؤثرون بتفكيرهم وسلوكهم في الآخرين، والبعد عن مخالطة محبي الدنيا وزينتها، فقال في ذلك: "فالنظر في سِيَر المجدين، فإنه يعود مستجلبًا للفكر منها شتى الفضائل والتوفيق من وراء ذلك. فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إلا العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض الفهم وعلل العقل" (¬4). د- تكوين روح الطاعة والإخلاص لله وحده إن إخلاص العبادات والعمل لله وحده، من الأساليب الفعالة في تزكية النفس البشرية وتطهيرها من الشرور والآثام، والسموّ بها عن الدنايا والرذائل، وتبرز أهمية هذا الأسلوب الفعال في الرقي الروحي للإنسان، في كونها صلة ربانية بين العبد وربه، وهذه الصلة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، فتضفي على الأعمال صفة العبودية لله وحده لا شريك له، وتنفي عن الإنسان النفاق والرياء وحبَّ السمعة. قال ¬

_ (¬1) أي حال وجود ما يذكره بالجنة، وحال ما يذكره بالنار. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 400. (¬3) المرجع السابق، ص 277. (¬4) المرجع السابق، ص 329.

الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمالُ بالنيةِ، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه" (¬1). فالنية الخالصة لله تعالى تحول العادات إلى طاعات وقربات لله تعالى، وتصبغها بالصبغة الإيمانية، والنية الحسنة لابد أن يصحبها عمل موافق للشرع، وإلا حَبط ولم يُقبَل، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ تعالى لا يقبل من العملِ إلا ما كانَ خالصًا، وابتُغي بهِ وجهُه" (¬2). وقد أكد ابن الجوزي أهمية النية، لأثرها في زيادة الإيمان، فقال: "ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير قائمةً، من غير فتور بما يعجز عنه البدن من العمل" (¬3). وقد استشهد ابن الجوزي بحديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "نيةُ المؤمنِ خيرٌ من عملهِ" (¬4). ثمَّ نصح ابن الجوزي ابنه قائلًا: "فلا تعظن إلا بنيةٍ، ولا تمشين إلا بنيةٍ، ولا تأكلن لقمة إلا بنيةٍ، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر" (¬5). وقال أيضًا مخاطبًا نفسه: "ولا تعملي عملًا إلا بعد تقديم النية" (¬6). ويقصد ابن الجوزي بأقواله في النية، أن على الإنسان أن يخلص نيته لله تعالى، متى يقبل عمله، ويصبح عبادة يؤجر عليها. "فالعبرة إذًا بحال القلب، وتصحيح القصد، وتطهيرُ النية من كل وصف مذموم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح البخاري. الجزء الحادي عشر، ص 572، كتاب الأيمان والنذور، باب النية في الإيمان. (¬2) مرجع سابق، النسائي، أبو عبد الرحمن. سنن النسائي. المجلد الثالث، الجزء السادس، ص 25، كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 20. (¬4) الأثري، عبد الرحمن، بن علي بن محمَّد بن عمر، الشيباني، الشافعي. كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. بيروت، دار الكتاب العربي، دون طبعة وتاريخ، ص 185. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 59. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 83.

يباعد عن الله تعالى، واجب على كل مسلم، لأن الاعتناء بإصلاح القلب مقدم على عمل الجوارح، وعمل القلب مُصحِّح للأعمال الشرعية، أما الأجسام والمظاهر فليس المعول عليها قطعًا" (¬1). وإذا كانت النية خالصة لله تعالى، ومصاحبة لجميع تصرفات المرء ومشاعره وأفكاره، حوَّلت حياته إلى عبادة دائمة لله تعالى، وهذا تحقيق لقول الله تعالى -وإن لم يستشهد به ابن الجوزي هنا-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). والنية الصادقة بهذا المفهوم، تصبح الصلة الدائمة بين العبد وربه، وعن طريق هذه الصلة تكون تربية الروح. هـ- ممارسة العبادات المفروضة رغبًا ورهبًا ومن الأساليب الحيوية في تربية الجانب الروحي في الإنسان أداءُ العبادات بمفهومها المقصور على الصلاة والصوم والزكاة والحج. ولا نقصد هنا مفهوم العبادة الشامل لكل جوانب الحياة. والعبادة من الأساليب الفعالة في تربية الروح وتزكيتها، وانطلاقها إلى عالم النور، وقد عرَّف شيخ الإِسلام ابن تيمية العبادة بقوله: إنها "اسم جامع لكل ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: فالصلاة والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادات لله" (¬3). ¬

_ (¬1) العلي، محمَّد، بن صفوك. تكاليف القلب السليم. الكويت، مكتبة الصحابة الإِسلامية، الطبعة الأولى، 1405 هـ- 1985 م، ص 47. (¬2) سورة الأنعام، الآية 162. (¬3) ابن تيمية، تقي الدين، أحمد. العبودية. الرياض، مكتبة المعارف، طبعة 1404 هـ - 1984 م، ص 4.

والعبادة سواء كانت الفعلية كالصلاة والصوم والزكاة والحج، أو القولية كالذكر أو الاستغفار والدعاء، لابد أن يصحبها استحضار واستشعار لمعانيها، من قلب خاشع، وعقل واع، حتى تتم الصلة الحقيقية بين العبد وربه، فترتقي الروح إلى مدارج عالية من التقوى والطمأنينة والسكينة والخشوع، فتؤتي في النفس أكلها، وتثمر في الخلق والسلوك. وقد انتقد ابن الجوزي عبادات الناس فقال: "تأملت على أكثر الناس عباداتهم، فإذا هي عادات. فأما أرباب اليقظة فعاداتهم عبادة حقيقية. فإن الغافل يقول سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان الله" (¬1). وسنفصل في هذا الجانب التعبدي الهام، ولكننا سنركز في دراستنا على الجانب التربوي للعبادات، وآثارها النفسية والسلوكية والخلقية في تزكية الروح، دون التركيز على الأحكام الفقهية المتعلقة بهذه العبادات من حيث فضلها وأركانها وواجباتها وشروطها وسننها ومبطلاتها ومكروهاتها. . . الخ. وإن كان لهذه الأحكام من جانبها الفقهي دور تربوي كبير في تنظيم حياة الناس، بطريقة تكسبهم العادات السلوكية الصالحة الاجتماعية والخلقية، التي مع استمرار الممارسة لها، تصبح جزءًا من شخصياتهم. وسنظهر الآثار التربوية للعبادات من خلال آراء ابن الجوزي التربوية، ثم نربطها بالمنهج التربوي الإسلامي. هذا وقد ناقشها ابن الجوزي من نقاط عدة هي: و- تطهير النفس وتزكيتها من الرذائل لابن الجوزي أقوال في الطهارة بمعناها الظاهري المتضمِّن للنظافة والوضوء والغسل، وبمعانيها الداخلية لإصلاح الباطن وتزكيته. وسنعرض لأهم آرائه ثم نناقشها في ضوء المنهج التربوي الإسلامي. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 397.

أنواع التطهير عند ابن الجوزي قال ابن الجوزي: "إن الطهارة على أربعة أضرب: الضرب الأول: تطهير البدن من نجس أو حدث أو فضلة من البدن. والضرب الثاني: تطهير الجوارح من الآثام. والضرب الثالث: تطهير القلب من الأخلاق المذمومة من الحرص والحقد والحسد والكبر وغير ذلك. والضرب الرابع: تطهير السر عما سوى الله -عَزَّ وَجَلَّ-. وهذه المرتبة العليا، ولم تحصل إلا لمن تجلت له أوصاف الحبيب فدخل في دائرة المحبة" (¬1)، النوع الأول: من تطهير البدن من نجس أو حدث أو فضلة من البدن هذا النوع من التطهير سبقت مناقشته في التربية الصحية، لارتباطه الوثيق بها، ومنعًا من التكرار لن نذكره هنا. النوع الثاني: تطهير الجوارح أو الأعضاء من الآثام قال ابن الجوزي في الضرب الثاني من الطهارة: "تطهير الجوارح من الآثام" (¬2). وقد استشهد بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬3). معنى الجوارح في اللغة: "وجوارح الإنسان: أعضاؤه، وعوامل جسده، كيديه ورجليه، واحدتها جارحة، لأنهن يجرحن الخير والشر، أي يكسبنه" (¬4). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني. ص 217 - 220. (¬2) المرجع السابق، ص 219. (¬3) سورة الإسراء، الآية 36. (¬4) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد الثاني، ص 423.

وبناء على المعنى اللغوي، فالمقصود من قول ابن الجوزي، هو كف أعضاء الإنسان من سمع وبصر ولسان، ويد ورجل عن ارتكاب المعاصي التي نهى عنها الإِسلام. وقد وردت بعض الأحاديث النبوية الشريفة، التي تحث على تنزيه هذه الجوارح من معصية الله تعالى، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "كُتبَ على ابن آدمَ نصيبُه من الزنى مدركٌ ذلك لا محالةَ. فالعينان زناهما النظرُ. والأذنان زناهما الاستماعُ. واللسانُ زناه الكلامُ. واليدُ زناها البطشُ. والرجلُ زناها الخُطا. والقلبُ يهوى ويتمنى. ويصدّقُ ذلك الفرجُ ويكذّبُه" (¬1). وقد ورد في شرح هذا الحديث في صحيح مسلم نفسه، أن المقصود بالزنى، الزنى المجازي وليس الحقيقي. إن للجوارح من سمع وبصر ولسان وشم ولمس وذوق ويدين ورجلين، أثرًا كبيرًا في اتباع الشهوات أو اجتنابها، فهي موصل جيد لرغبات الإنسان إلى القلب، وقد شبهها ابن الجوزي بالسواقي التي تحمل مع الماء كل شيءٍ، فقال: "إن الجوارح كالسواقي توصل إلى القلب الصافي والكدرِ، فمن كفها عن الشر جلت معدة القلب بما فيها من الأخلاط فأذابتها، وكفى بذلك حمية، فإذا جاء الدواء صادف محلًا قابلًا" (¬2). أما من ترك الجوارح دون ضبطٍ وكف وتهذيب عن المحرمات، فقد أوقعها في المعاصي والآثام؛ قال ابن الجوزي في ذلك: "ومن أطلقها في الذنوب أوصلت إلى القلب وسخ الخطايا وظلم المعاصي، فلو وضع الدواء كان بينه وبين القلب حجاب" (¬3). وحتى نحافظ على الجوارح عفيفة مبرأة من الذنوب، فقد نصح ابن الجوزي بالعزلة النافعة علاجًا لها، فقال: "فلا تكاد الجوارح تسلم من الخطايا إلا بالعزلة، فمن أمكنه فما أحسنه" (¬4)، فمن لم يستطع بالعزلة فعليه بمجاهدة النفس، وتدريب الجوارح على الالتزام بما أمر الله، واجتناب ما نهى، قال ابن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2047، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره، حديث رقم 21. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني. ص 219. (¬3) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 219. (¬4) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 219.

الجوزي في ذلك: "ومن لم يمكنه تحفظ في مخالطته للخلق تحفظ المجاهد في الحرب" (¬1). ولم يبين ابن الجوزي كيفية المحافظة على هذه الجوارح، ولكن فصّلها الإمام ابن قيم الجوزية بقوله: "إن العبودية منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح. وعلى كل منها عبودية تخصه. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح، وهي لكل واحد من القلب، واللسان، والجوارح" (¬2). وسأمثل لجارحة اللسان فقط، لتوضيح المراد من قول ابن قيم الجوزية، حتى لا يطول البحث في هذا الجزء، ولمن أراد الاستزادة يمكن الرجوع إلى كتاب مدارج السالكين. قال ابن قيم الجوزية: "وأما عبوديات اللسان الخمس. فواجبها: النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن .. ومن واجبه: رد السلام. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضالّ، وأداء الشهادة المتعينة، وصدق الحديث. وأما مستحَبُّهُ: فتلاوة القرآن، ودوام ذكر الله، والمذاكرة في العلم النافع، وتوابع ذلك. وأما محرمُهُ: فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله والدعاء إليها، وتحسينها وتقويتها، وكالقذف وسبّ المسلم، وأذاه بكل قول، والكذب، وشهادة الزور، والقول على الله بلا علم. وهو أشدها تحريمًا. ومكروهه: التكلّم بما تركُهُ خير من الكلام به، مع عدم العقوبة عليه. والمباح: فيما فيه منفعة له، ولا مضرة عليه في الآخرة" (¬3). وهكذا يمكن قياس بقية الجوارح بهذه العبوديات الخمس، للاستعانة بها في تدريب الجوارح على مرضاة الله تعالى. فإذا تم للإنسان التنظيف ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 219. (¬2) ابن قيم الجوزية. تهذيب مدارج السالكين. (هذبه) العربي، عبد المنعم، صالح، جدة، دار المطبوعات الحديثة، محرم 1402 هـ، ص 84. (¬3) المرجع السابق، ص 87.

البدني المحسوس، ثم تطهير الجوارح، فقد تم شطر الطهارة الكاملة التي يدعو إليها المنهج التربوي الإسلامي. النوع الثالث: تطهير القلب من الأخلاق المذمومة: قال فيه ابن الجوزي: "تطهير القلب من الأخلاق المذمومة، من الحرص والحقد والحسد والكبر وغير ذلك، ولا يمكن معالجته من أدوائه بدوائه حتى تقع الحمية التي وصفناها في كف الجوارح، ثم يعالج كل داءٍ بدوائه" (¬1). وهذا القول يدل على فهم ابن الجوزي الصحيح، للمنهج العبادي في الإسلام، وأهمية ارتباط العبادات بالأخلاق الفاضلة. وإن كلام ابن الجوزي هذا موافق لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، -وإن لم يستشهد به- عندما سأل أصحابه: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: إن المفلسَ من أمتي، من يأتي يومَ القيامةِ بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتمَ هذا، وقذف هذا، وسفكَ دَم هذا، وضربَ هذا. فيعطى هذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه. فإن فنيت حسناتُه، قبل أن يَقضي ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرحَ في النارِ" (¬2). إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية في هذا المعنى. وقد نقد ابن الجوزي، المتعبد الذي غفل عن المعنى الحقيقي للعبادات، وأثرها الإيجابي في تهذيب الأخلاق، وغرس الفضائل، فقال: "وكم من متعبد يبالغ في كثرة الصلاة والصوم ولا يعاني صلاح القلب، وقد يكون عنده الكبر والرياء والنفاق والجهل بالعلم ولا يحسّ بذلك" (¬3)، وهذا مصداق لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدع قولَ الزورِ والعملَ به، فليس للهِ حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابَه" (¬4). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 220. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 1997، كتاب البر والصلاة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (59 - 2581). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 220. (¬4) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الرابع، ص 116، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، حديث رقم 1903.

ثم بيَّن ابن الجوزي أن العلاج التربوي لهذا الفهم الخاطئ في فصل العبادات عن الأخلاق، إنّما يتم عن طريق تربية وتدريب المرء على أداء العبادات بطريقة صحيحة كما فرضها الله تعالى، بحيث يستشعر جميع المعاني الإيمانية والنفسية والخلقية والاجتماعية، التي يجنيها من وراء هذه العبادات، فتُنبت في نفسه الحب والتعظيم لله تعالى، والتواضع لعباده، وذلك بالإضافَة إلى ما يترتب عليهما من ثمار جليلة، لا يتذوقها إلا من شعر بحلاوة الوقوف بين يدي الله تعالى. فقال ابن الجوزي في ذلك: "وهذه آفات لا دواء لها إلا الرياضة بالعلم، ليقع التهذيب بإصلاح دائه، وإنما تنفع العبادة وتظهر آثارها وتبين لذاتها مع إصلاح أمراض القلب" (¬1). النوع الرابع: تطهير السر أو القلب عمَّا سوى الله: وقد قال فيه ابن الجوزي: "تطهير السرّ عمَّا سوى الله -عز وجل-. وهذه المرتبة لم تحصل إلا لمن تجلت له أوصاف الحبيب فدخل في دائرة المحبة" (¬2). والمرتبة التي قصدها ابن الجوزي، هي مرتبة الإحسان، التي اعتبرها ابن قيم الجوزية: "لبَّ الإيمان، وروحه وكماله. وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل. فجميعها منطوية فيها" (¬3). وقد قال فيها رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - "أن تعبدَ الله كأنك تراهُ، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراكَ" (¬4). وهذه المرتبة تصل بصاحبها إلى "كمال الحضور مع الله -عز وجل-. ومراقبته الجامعة لخشيته، ومحبته ومعرفته، والإنابه إليه، والإخلاص له، ولجميع مقامات الإيمان" (¬5). وهذه المرتبة العالية، تحتاج من الفرد، المجاهدة المستمرة، وإيثار ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 220. (¬2) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 220. (¬3) مرجع سابق، ابن قيم الجوزية. تهذيب مدارج السالكين. ص 481. (¬4) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 114، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإِسلام والإحسان، وعلم الساعة. وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له، حديث رقم 50. (¬5) مرجع سابق، ابن قيم الجوزية. تهذيب مدارج السالكين. ص 481.

محبة الله تعالى على كل شيء، حتى ترتقي النفس البشرية بروحها وسلوكها وشهواتها، عن رغبات الدنيا وزينتها، فيسير الإنسان منضبطًا، قويًا، طاهرًا، عفيفًا، نحو مرضاة الله تعالى، فتتكون الشخصية الإسلامية المؤمنة، كما أرادها المنهج التربوي الإسلامي. وهذا ما ينبَّه عليه علم التربية الإسلامية المعاصرة في الوقت الحالي. وعن طريق هذه الأنواع الأربعة من الطهارة بمفهومها الظاهري والباطني، نستطيع أن نبني ونربي الفرد المسلم على العبودية الخالصة لله تعالى. ز- أداء العبادات المفروضة وتأثيرها بالروح التربوية: بعد أن تكلمنا على الطهارة لبعض العبادات، سنناقش في هذا المبحث الجانب التعبدي المتمثل في الصلاة والصيام والزكاة والحج، باعتبارها شعائر مفروضة، أمر الله عباده بأدائها في أوقات محددة، وبصفات مخصوصة، وهذه العبادات لها جانبان فقهي وتربوي، وسنقتصر في دراستنا على الجانب التربوي التهذيبي للنفس البشرية. وهذه العبادات بتنوعها وتعددها السنوي والشهري والأسبوعي واليومي، تعتبر روافد أساسية دائمة ومتجددة للزاد الذي يغذي الروح، ويهذب السلوك، ويقوَّم الخلق، ويقوي البدن، ويسمو بالنفس عن شهوات الدنيا، ويعينها على تخطي العقبات، وتحمل الابتلاء، بقلوب مؤمنة، صابرة، قادرة على تحمُّل أعباء الدعوة إلى الله وتكاليفها. وسنقوم بعرض آراء ابن الجوزي التربوية في هذه العبادات، وما تتركه من آثار واضحة في شخصية المؤمن. وقد ركز ابن الجوزي على الجانب الفقهي للعبادات، وذكر بعض الآثار التربوية اليسيرة، ولكن يمكن استخلاص المبادئ التربوية المتعددة من خلال عرضه الفقهي، وسأذكر هذه المبادئ في نهاية هذا المبحث. 1 - الصلاة هي الصلة الدائمة والحية المتجددة، بين الله -عز وجل- وعبده. وهذه العبادة تحرر العبد من العبودية لغير الله، وتربطه بالله مباشرة دون

وسيط أو شفيع. ومن خلال الصلاة تتم تربية الإنسان من جميع الجوانب العقلية والصحية والروحية والنفسية والخلقية، فيكون العبد -في أثناء الصلاة- في حالة خضوع تامّ الله -عز وجل-، فيخشع بدنه وجوارحه من خلال القيام والركوع والسجود، ويتدبر عقله في آيات الله، وما فيها من أمر ونهي، فتهدأ روحه، ويسكن قلبه، ويطمئن وجدانه، وترضى نفسه، ويستقيم خلقه. قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (¬1). وفي معنى الصلاة التربوي، يقول ابن الجوزي: "إن الله -عز وجل- عظّم قدر الصلاة لأنها أوفى خدمة العبد، والمراد من العبد التعبد، وهي جامعة بين خضوع بدنه، ونطق لسانه، وحضور قلبه، وإن الله تعالى جعل عبادة ملائكته بين سجود وركوع وذكر، وذلك مجموع في الصلاة" (¬2). ثم بيَّن ابن الجوزي أن من شروط قبول الصلاة عند الله تعالى، أن تؤتي ثمارها من السكينة النفسية، والطمأنينة القلبية، استحضار معاني ما فيها، واستشعار رقابة الله وخشيته وحبه والشوق إليه، لأن المصلي إذا تدبّر في معاني الصلاة، فإنه لابد يذوق حلاوة طاعة الله تعالى، قال ابن الجوزي: "كان أرباب التفكر من السلف يشاهدون في كل شيء عبرة، فيذكرون بالأذان نداء العرض، وبطهارة البدن تطهير القلب، وبستر العورة طلب ستر القبائح من عيوب الباطن، وباستقبال القبلة صرف القلب إلى المقلّب، فمن لم تكن صلاته هكذا فقلبه غافل" (¬3). ثم عرض ابن الجوزي لنموذج من السلف الصالح عند أدائهم للصلاة بخضوع وخشوع، وتفكر من خلال فهمهم العميق للمغزى من الصلاة، وهو تعظيم الله -عز وجل- بكل جوارحهم، بعد قطع جميع علائق الدنيا من نفوسهم، فقال: "إن المقصود بالصلاة إنما هو تعظيم ¬

_ (¬1) سورة المعارج، الآيات 19 - 23. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 231. (¬3) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 235.

المعبود، وتعظيمه لا يكون إلا بحضور القلب في الخدمة، وقد كان في السلف من يتغير إذا حضرت الصلاة ويقول: أترون بين يدي مَنْ أريد أن أقف! وأنت تعلم أن من حضر قلبه في تعظيم سلطانه فحضر بين يديه من يعرف إلى جانبيه، امتلأ بهيبة المعظَّم، فإذا أردت استجلاب حضور قلبك الغائب ففرّغه من الشواغل مهما استطعت" (¬1)، وهكذا فإن الصلاة قوة روحية ونفسية، تعين الفرد على مواجهة متاعب الحياة ومصاعبها، ويجد المؤمن في ظلالها الهدوء النفسي، والسكينة والاطمئنان، وجميع هذه الأمور وغيرها تصقل شخصية المؤمن وتزيدها قوة وكمالا. 2 - الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُني الإِسلامُ على خمس: شهادةِ أن لا إلَه إلا اللهُ وأن محمدًا عبدهُ ورسولهُ. وإقامِ الصلاة. وإيتاءِ الزكاة. وحجَّ البيت. وصومِ رمضان" (¬2). والزكاة من العبادات المفروضة على كل مسلم، وهي مقيدة بحدود وشروط ثابتة في القرآن الكريم والسُّنّة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} (¬3). وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬4). والإنسان بفطرته يحب المال حبا كثيرًا، لقول الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (¬5). وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (¬6). والمنهج ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 235. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 45، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، حديث رقم 21. (¬3) سورة البقرة، الآية 110. (¬4) سورة التوبة، الآية 60. (¬5) سورة الفجر، الآية 20. (¬6) سورة العاديات، الآية 8.

التربوي الإسلامي اعترف بهذه الفطرة ليسمو بها عن البخل، ويوجهها للإنفاق الصحيح، وجعل المال وسيلة يستعين بها المرء على طاعة الله تعالى ومرضاته، وليست الغاية جمع المال وكنزه. وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "لا ينكر أن الطباع تحبّ المال، لأنه سبب بقاء الأبدان، لكنه يزيد حبه في بعض القلوب حتى يصير محبوبًا لذاته، لا للتوصل به إلى المقاصد. فترى البخيل يحمل على نفسه العجائب، ويمنعها اللذات وتصير لذاته في جمع المال. وهذه جبلّة في خلق كثير" (¬1). وعبادة الزكاة لها معان جليلة في تهذيب النفس البشرية وتطهيرها من الشحّ والبخل والأثرة والطغيان والاستبداد. وقد بيَّن ابن الجوزي بعض المعاني التي يمكن أن نستخلصها من هذه العبادة، فقال: "وينبغي للمتيقظ أن يفهم المراد من الزكاة، وذلك ثلاثة أشياء: أحدها: الابتلاء بِإخراج المحبوب. والثاني: التنزه عن صفة البخل المهلك. والثالث: شكر نعمة المال، فليتذكر إنعام الله عليه، إذ هو المعطي لا المعطَى" (¬2). وسنقوم بتحليل هذه المعاني، التي ذكرها ابن الجوزي تربويًا، فقال في المعنى الأول: "الابتلاء بإخراج المحبوب"، هنا لا يخالف ابن الجوزي الحقيقة القرآنية، من حب الإنسان العظيم للمال، وحرصه عليه. وأنه تجلت حكمة الله تعالى في جعل الزكاة فريضة إلزامية على كل فرد، حتى يربي النفس البشرية على البذل والعطاء، واجتناب كنز المال والحرص عليه. وقد اعتبر ابن الجوزي هذه الفريضة من الابتلاء والاختبار للإنسان، بسبب تمكَّن حب المال في قلبه، فصار إخراجه منها صعبًا، ويحتاج إلى مجاهدة ومصابرة، حتى تبذل عن طواعية ورضى. أما المعنى الثاني فقال فيه ابن الجوزي: "التنزه عن صفة البخل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 291 - 292. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى، الجزء الثاني، ص 250.

المهلك". وذلك لأن حب الإنسان للمال وحرصه الشديد عليه، قد يدفعه إلى سفك الدماء، أو انتهاك الأعراض، أو الوقوع في المحرّمات، ولا يقتصر بخله على ذلك، بل يتعداه إلى إهلاك نفسه، فيعرضها لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة، وتعريض أهله وعياله إلى التشرد أو السرقة أو النصب والاحتيال. أما المعنى الثالث فقال فيه ابن الجوزي: "شكر نعمة المال، فليتذكر إنعام الله عليه إذ هو المعطي لا المعطَى" (¬1). وهنا يقرر ابن الجوزي حقيقة مؤكدة، ينبغي للإِنسان أن يدركها، وهي أن الله -عز وجل- هو المالك الحقيقي لكل ما في الكون، وهو واهب المال وخالقه وميسر سبله للإنسان، قال الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬2) وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (¬3)، وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} (¬4). وبما أنَّه تعالى هو المالك والواهب لكل شيء بما فيه المال، فلابد من شكر الله تعالى على هذه النعم، والاعتراف بفضله ومنته عليه، وهذا الشكر لا يكون باللسان، ولكن يترجم من خلال تنفيذ أوامره تعالى، بالإنفاق من هذا المال في كل ما يرضي الله تعالى، ووفق ما قررته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية -نذكر بعضها وإن لم يستشهد بها ابن الجوزي في هذا الموضع- قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬5). ينبغي أن يكون إخراج الزكاة من المال الطيب الحلال، لأن الله -عز وجل- طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬6) في هذا المعنى قال ابن الجوزي: "إن الإنفاق يقع على الزكاة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 250. (¬2) سورة النور، الآية 33. (¬3) سورة الحديد، الآية 7. (¬4) سورة البقرة، الآية 254. (¬5) سورة البقرة، الآية 177. (¬6) سورة آل عمران، الآية 92.

المفروضة وعلى الصدقة النافلة، وعلى الإيثار والمواساة للإخوان، فمن أخرج لله -عز وجل- شيئًا، فليكن من أطيب ماله، وليوقن المضاعفة" (¬1). للزكاة أثر كبير في تهذيب النفس البشرية من الشح والبخل، لأن الإنسان "الذي يسدي الخير، ويصنع المعروف، ويبذل من ذات نفسه ويده، لينهض بإخوانه في الدين والإنسانية، وليقوم بحق الله عليه، يشعر بامتدادٍ في نفسه، وانشراح واتساع في صدره، ويحس بما يحس به من انتصر في معركةٍ، وهو فعلًا قد انتصر على ضعفه وأثرته وشيطان شحه وهواه. فهذا هو النمو النفسي والزكاة المعنوية" (¬2). ويكون المزكي عكس البخيل الذي يمنع حق الله تعالى، فإنه يكون قلقًا، خائفًا على ضياع المال أو فقده، حريصًا على إنفاقه في أضيق الحدود، فيحرم نفسه وأهله وعياله من طيبات الحياة الدنيا. فيسبب لهم التعس والشقاء. 3 - الصيام الركن التهذيبي الرابع من أركان الإسلام، قال الله تعالى في فرضيته: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3). وللصيام ميزة ينفرد بها عن غيره من العبادات، ذكرها ابن الجوزي قائلًا: "إن الصوم من أشرف العبادات، وله فضيلة ينفرد بها عن جميع التعبَّدات، وهي إضافته إلى الله -عز وجل-" (¬4) بقوله: "الصوم لي وأنا أجزي به" (¬5). وقد استشهد ابن الجوزي على فضيلة الصيام بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 256. (¬2) القرضاوي، د. يوسف. العبادة في الإسلام. بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادية عشرة. 1403 هـ - 1983 م، ص 259. (¬3) سورة البقرة، الآية 185. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 261. (¬5) مرجع سابق، العسقلاني. فتح البارى بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث عشر، ص 464، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}، حديث رقم 7492.

"إن في الجنة بابًا يقالُ له الريان، يدخلُ منه الصائمون يومَ القيامةِ، لا يدخلُ منه أحدُ غيرهُم، يقال: أين الصائمون، فيقومون، لا يدخلُ منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أُغْلقَ، فلم يدخلْ منه أحدٌ" (¬1). والصوم يختلف عن العبادات الأُخرى، بأنه كفُّ وامتناع عن الأكل والشرب ومباشرة النساء، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع نية التعبد، طوال الشهر. "وهذا الامتناع والترك، وإن بدا سلبيًّا في مظهره، فهو عمل إيجابي في حقيقته وروحه، إذا هو كفّ النفس عما تشتهيه بنية القربة إلى الله تعالى فهو بهذا عمل نفسي إرادي، له ثقله في ميزان الحق والقبول عند الله" (¬2). ولا يقتصر هذا الكف والامتناع عن الحاجات الفطرية للإنسان، بل يتعداه إلى كف الجوارح عن كل ما حرّم الله تعالى. لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الصيامُ جُنةٌ فلا يرفث ولا يجهلْ، وإن امرؤ قاتلَه أو شاتمَه، فليقلْ إني صائم" (¬3). وقد قال ابن الجوزي في هذا المعنى: "إن للصوم آدابًا منها: كف النظر واللسان عن الفضول، والإفطار على الحلال وتعجيله، وأن يفطر على تمر" (¬4). ولم يذكر ابن الجوزي -فيما اطلعت عليه من مؤلفاته- الآثار التربوية العظيمة من الصيام، مثل إخلاص العبادة لله، وتقوية الإرادة والصبر، وضبط النفس والحلم، وكظم الغيظ، والإحساس بالفقراء والمساكين والمحرومين، بالإضافة إلى الفوائد الصحية التي تقوِّي الجسم وتقيه من الأمراض. 4 - الحج الركن الخامس من أركان الإِسلام، وقد فرض الله تعالى الحج مرة واحدةّ في العمر، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الرابع، ص 111، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين، حديث رقم 1896. (¬2) مرجع سابق، القرضاوي. العبادة فى الإسلام. ص 271. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الرابع، ص 103، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، حديث رقم 1894. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 263.

إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬1). والحج رحلة إيمانية، جهادية، مقدسة، تقطعها الأقدام والقلوب والأرواح لمرضاة الله، ليكون ثوابها الجنة، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "والحجُ المبرورُ ليس لهُ جزاءٌ إلا الجنةُ" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حجَ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق رجعَ كما ولدتْه أمُه" (¬3). وقد اشتملت فريضة الحج على جميع الأمور التعبدية التي أوجبها الله تعالى على عباده، من صلاة، وصيام، وصدقة وذكر. كذلك الحج له أسرار وآثار روحية وتربوية واجتماعية وخلقية جمة، وابن الجوزي يبين بعض أسراره بقوله: "وينبغي لمن أراد الحج أن يفهم معنى الحج، فإنه يشار به إلى التجرد لله -عز وجل-، ومفارقة المحبوبات. وليتذكر بأهوال الطريق الأهوال بعد الموت وفي القيامة، وبالإحرام الكفن، وبالتلبية إجابة الداعي، وليُحضر قلبه تعظيم البيت، وليتذكر بالالتجاء إليه التجاء المذنب، وبالطواف الطواف حول دار السيد ليرضى، وبالسعي بين الصفا والمروة، التردد إلى فناء الدار، وبرمي الجمار، رمي العدوّ" (¬4). فإذا تدبر هذه المعاني، واستشعر ما فيها، فإنه يذوق حلاوة طاعة الله تعالى، ويقف على الحِكَم العظيمة فيه. وبعد: فأهم الآراء التربوية المستخلصة من هذا الجانب هي: أولًا: 1 - الاهتمام بغرس العقيدة الإِسلامية الصحيحة، وربطها بجميع جوانب النفس البشرية. 2 - أهمية التربية الروحية للباطن والظاهر عند تكوين الشخصية المؤمنة. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية 97. (¬2) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث، ص 597، كتاب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها، حديث رقم 1773. (¬3) المرجع السابق، الجزء الرابع، ص 20، كتاب المحصر، باب قول الله تعالى {فَلَا رَفَثَ} حديث رقم 1819. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 281.

3 - ارتباط التربية الروحية بالنواحى التعبدية والخلقية والاجتماعية والنفسية والجسمية. ثانيًا: الآثار التربوية المستخلصة لكل نوع من العبادات في نظر ابن الجوزي: 1 - الآثار التربوية للصلاة (1) تقوية الصلة بين الله -عز وجل- وعبده. (2) تذوق حلاوة الإيمان من خلال استحضار معاني الصلاة وتفريغ القلب من المشاغل. 2 - الآثار التربوية للزكاة (1) تزكية النفس البشرية من الشحّ والبخل. (2) تقوية إرادة البذل والعطاء. (3) إخلاص التجرد لله -عز وجل-. 3 - الآثار التربوية للصوم (1) تقوية إرادة الامتناع عن الشهوات. (2) زيادة الإيمان والتقوى لله تعالى. (3) تدريب النفس على الصبر. 4 - الآثار التربوية للحج (1) إخلاص التجرد الله -عز وجل-. (2) تدبر مناسك الحج وربطها بالمعاني الإيمانية المختلفة.

الفصل الخامس التربية الأخلاقية

• الفصل الخامس التربية الأخلاقية أولًا: مفهوم الخلق وطبيعته عند ابن الجوزي وغيره. ثانيًا: أساليب علاج بعض الأمراض الأخلاقية عند ابن الجوزي.

أولا: مفهوم الخلق وطبيعته عند ابن الجوزي وغيره

• الفصل الخامس التربية الأخلاقية اهتم المنهج التربوي الإسلامي بالجانب الخلقي، كغيره من الجوانب الأساسية في شخصية الإنسان المسلم. وقد ركّز ابن الجوزي على مفهوم الأخلاق في الإسلام، لَا على التربية الأخلاقية، لذلك ستقوم الباحثة بعرض آرائه كما هي ثم تستخلص منها الآراء التربوية المتعلقة بهذه الأمور الأخلاقية، وقد سبق في فصل تربية الطفل في ضوء مراحل النمو، أن وضحت الباحثة بعض النواحي الأخلاقية الخاصة بالطفل، لذلك لا داعي لذكرها تجنبا للتكرار. أولًا: مفهوم الخُلق وطبيعته عند ابن الجوزي وغيره أ - معنى الخُلق في اللغة: ورد معنى الخُلق في لسان العرب: "الخُلْقُ: بضم اللام وسكونها: هو الدينُ والطبعُ والسجيةُ، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة" (¬1). أما الإمام الجرجاني فقد عرَّفه بقوله: "الخلقُ: عبارةٌ عن هيئةٍ للنفسِ راسخة تصدرُ عنها الأفعالُ بسهولةٍ ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويةٍ، فإن كانت الهيئةُ بحيث تصدرُ عنها الأفعالُ الجميلة عقلًا وشرعا بسهولةٍ، سميت الهيئةُ: خلقًا حسنًا، وإن كان الصادرُ منها الأفعالُ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن منظور. لسان العرب. المجلد العاشر، ص 86.

القبيحةَ، سميتِ الهيئةُ خلقًا سيئًا" (¬1). وقد أورد ابن الجوزي في تفسير معنى الخلق في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2) ثلاثة أقوال: "أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: آداب القرآن، قاله الحسن. والثالث: الطبع الكريم. وحقيقته "الخُلُقُ": ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خُلُقًا، لأنه يصير كالخِلْقة في صاحبه. فأما ما طُبع عليه، فيسمى: "الخِيْم"، فيكون الخِيم: الطبع الغريزي، والخلق: الطبع المتكلف، هذا قول الماوردي" (¬3). وقد أورد ابن الجوزي معنى آخر للخلق، من خلال استشهاده بحديث السيدة عائشة -رضي الله عنها-، عندما سُئِلت عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقُه القرآن. "تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن" (¬4). ونستنبط من قول ابن الجوزي، أن مقياس الأخلاق الفاضلة اتباع ما أمره الله به، والتأدب بآدابه، لأن القرآن الكريم المصدر الأول الذي نستقي منه الخلق الفاضل. وقد ميز ابن الجوزي بين بعض الألفاظ التي تدخل على الخلق، ففرق بين الخَلق والخُلق، وبين الخُلق والطبع، وبين صورة البدن وصورة الباطن. فقال أولًا: في الفرق بين الخَلق والخُلق: "فصورة البدن تسمى خَلْقًا، وصورة الباطن تسمى خُلْقًا" (¬5). أما دليل كمال صورة البدن والباطن فهو كما عبر عنه بقوله: "ودليل كمال صورة البدن حسن الصمت (السمت)، واستعمال الأدب، ودليل صورة الباطن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الجرجاني. التعريفات. ص 136. (¬2) سورة القلم، الآية 4. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي زاد المسير في علم التفسير. الجزء الثامن، ص 328. (¬4) المرجع السابق، الجزء الثامن، ص 329. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 289.

حسن الطبائع والأخلاق" (¬1). أما الفرق بين الخلق والطبع فيتضح مما يأتي؛ فقد عرفنا الخُلُقَ، أما الطبعُ فهو: "ما يقع على الإِنسان بغير إرادةٍ، وقيل: الطبعُ، بالسكون: الجبلةُ التي خُلقَ الإنسان عليها" (¬2). وقد قال ابن الجوزي فيهما: "فَالَطبائع العفة والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشره. والأخلاق: الكرم، والإيثار، وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل" (¬3). ولم يفصل ابن الجوزي فيهما القول فيما درست من كتبه. ب - طبيعة الخلق من الناحية الفطرية والاكتسابية: من خلال المعنى اللغوي والتفسير البياني للخلق، نرى أن الخلق فطري ومكتسب، فبين ابن الجوزي أن بعض الأخلاق فطرية والأخرى مكتسبة، فقال في ذلك: "إذا كانت الهمة الدنية طبعًا لم ينجح فيها العلاج، فإن كانت مكتسبة بصحبة الأدنياء أو لغلبة الطبع والهوى فعلاجها قريب" (¬4). وفي هذا الرأي يبين أن الدناءة إذا كانت طبعًا وخلقًا فطريًا فصعب علاجه، أما إذا كانت مكتسبة بصحبة الأدنياء وغيره .. فممكن علاجها. ورأي ابن الجوزي في أن الدناءة خلق فطري يعارض قول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (¬5) فالدناءة ليست من طبيعة الإنسان التي خلقه الله بها. لذلك تعتبر من الأخلاق المكتسبة. قال ابن الجوزي في فطرية الخلق "فرأيت أن الأدب وحسن العشرة، يتبع لطافة البدن وصفاء الروح" (¬6). وقال أيضًا: "ولا تلتفت ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 289. وتحقيق الطنطاويان، ص 255. (¬2) مرجع سابق، الجرجاني. التعريفات. (تحقيق الأبياري، إبراهيم)، ص 182. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 289. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 129. (¬5) سورة التين، الآيتان 4 - 5. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 465.

ثانيا: أساليب علاج بعض الأمراض الخلقية عند ابن الجوزي

إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه، فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغ جاهلًا، فقيرًا" (¬1). أما الأخلاق الحسنة، فلا يكتسبها الإنسان، إلا ببذل الجهد في تطويع نفسه لسلوكها، والمجاهدة المستمرة لذلك، قال ابن الجوزي في هذا المعنى: "إن الفضائل لا تنال بالهوينا، وأن يسير التفريط يشين وجه المحاسن" (¬2). وقال: "نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب، وربما آل إلى الفقر" (¬3). وقال: "وكذلك الشجاعة، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس" (¬4). جـ - الأخلاق في نظر ابن الجوزي: لم يتوسع ابن الجوزي في موضوع الأخلاق الحسنة والسيئة، ولكنه ذكر من الأخلاق السيئة خلق الكذب فقط، ومن الأخلاق الباطنية المذمومة: الحسد، والغضب، والحقد، والكبر والعُجب، وهذه الأخلاقيات الباطنية المذمومة، عرضنا لها في الفصل الأول من الباب الثالث وعدَدناها من الانفعالات لذلك لن نكرر معالجتها في هذا المبحث. أما الخلق السيئ الذي ذكره ابن الجوزي وهو الكذب فقد عدّه من العوارض التي يدعو إليها الهوى وحب الدنيا، فقال: "هذا من العوارض التي يدعو إليها الهوى، وذلك أن الإنسان لمحبته الرياسة، يؤثر أن يكون مخبِرا مُعلِمًا؛ لعلمه بفضل المخبِر على المخبَر" (¬5). ثانيًا: أساليب علاج بعض الأمراض الخلقية عند ابن الجوزي اهتم ابن الجوزي بعلاج بعض الأمراض الخلقية التي ذكرها في باب الانفعالات مثل الحسد والحقد والغضب .. وغيرها، وقد عالج ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 433. (¬2) المرجع السابق، ص 444. (¬3) المرجع السابق، ص 269. (¬4) المرجع السابق، ص 269. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 104.

أيضًا خلق الكذب ووضع أمور عدة، لعلاج هذا المرض الخلقي والنفسي الخطير، وهي: 1 - أن يعلم الكاذب عقوبة الكذب الدنيوية والأخروية من الله تعالى. قال ابن الجوزي: "علاج هذا المرض أن يعلم عقوبة الله للكاذب" (¬1). 2 - أن يعلم الكاذب، أن استمرارية كذبه تخلع عنه الحياء والخجل. قال ابن الجوزي: "وأن يتيقن أنه مع استدامة الكذب، لابد أن يُطَّلع على حاله، فينقص نقصًا لا يُتلافى، فيذهب حياؤه وخجله" (¬2). 3 - احتقار الناس للكاذب وقلة ثقتهم به. قال ابن الجوزي: "واحتقار الناس له، وتكذيبهم إياه في الصدق، وقلة ثقتهم به على ما اكتذبه" (¬3). وقد استشهد ابن الجوزي بحديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "ما يزالُ الرجلُ يكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يكتبَ عند الله كذابًا" (¬4). وأهم الآراء التربوية المستخلصة من هذا الجانب من التربية وهو جانب التربية الخلقية: 1 - أهمية الأخلاق الإِسلامية في تربية النشئ عليها منذ نعومة أظافرهم. 2 - الأخلاق فطرية ومكتسبة، ولابد من تقويمها بما يوافق أدب القرآن الكريم. 3 - أهمية التدريب على الأخلاق الإِسلامية منذ الصغر حتى تصبح ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 104. (¬2) المرجع السابق، ص 104. (¬3) المرجع السابق، ص 104. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2013، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، حديث رقم 105.

جزءا من شخصية الفرد. بعد عرض رأي ابن الجوزي في التربية الخلقية، نلاحظ أنها دراسة يسيرة بالنسبة للدراسات التربوية الأخرى التي تكلم عنها بصفة شاملة، وقد أوجزها في نقاط محدودة لا تشمل جميع الجوانب للتربية الخلقية الإسلامية ووسائلها وطرقها وفلسفتها وغايتها، وذلك ربما لأن ابن الجوزي لم يقصد الكتابة التربوية في هذا الجانب لذلك لم يشبعها بالدراسة والبحث. وإنما عالج موضوع التربية الخلقية من خلال وعظه وإرشاده ومؤلفاته بصورة شاملة. ويمكن القول باختصار -حسب اطلاعي على بعض مؤلفاته- أنه لم يعالج موضوع التربية الخلقية بتفصيل وإسهاب كما ينبغي.

الفصل السادس التربية الإرادية

• الفصل السادس التربية الإرادية أولًا: مفهوم الإرادة وطبيعتها. ثانيًا: شروط التربية الإرادية عند ابن الجوزي. ثالثًا: وسائل التربية الإرادية في نظر ابن الجوزي. رابعًا: ممارسة أنواع التدريب الخاصة بالتحمّل والصبر. خامسًا: وسائل إنقاذ الإرادة من ضعفها. سادسًا: الوسائل النفسية الإيحائية لتقوية الإرادة.

أولا: مفهوم الإرادة وطبيعتها

• الفصل السادس التربية الإرادية قبل أن نعرض آراء ابن الجوزي في التربية الإرادية، لابدّ من تحديد معنى الإرادة اللغوي، وتعريفها. أولًا: مفهوم الإرادة وطبيعتها فلبيان المعنى اللغوي للإرادة نورد ما يأتي: "أراد الشيء: شاءه؛ قال ثعلب: الإرادةُ تكون عن محبّة وغير محبّة. وأرادَ الشيء: أحبهُ وعُني به. والاسم الرِّيدُ. والإرادةُ: المشيئةُ" (¬1). وقد وردت تعريفات عدة للإرادة، سأذكر بعضًا منها لتوضيح معناها، حتى يسهل ربطها بآراء ابن الجوزي التربوية في هذا الجانب. عرف الإمام الجرجاني الإرادة بأنها: "ميلٌ يعقبُ اعتقادَ النفع، وأورد تعريفًا آخر فقال: "الإرادة: مطالبةَ القلب غذاءَ الروح من طيب النفسِ. وقيل: الإرادةُ حب النفسِ عن مراداتِها، والإقبالُ علىَ أوامر اللهِ تعالى والرضى" (¬2). وقد عرفه د. محمد بيصار بقوله: "الإرادةُ ليست نزوعًا ما نحو شيء من الأشياءِ دون تفكيرِ أو شعورِ، وإنما هي نزوعٌ معينٌ قائمٌ على وجهةِ نظرِ، كثيرًا ما تكون مدعمةً بالحجةِ، فهو أولًا مسبوقٌ بالتأملِ والنظرِ. ثم هو ثانيًا متجهٌ إلى غايةٍ من الغايات" (¬3). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن منظور لسان العرب. المجلد الثالث، ص 188 - 191. (¬2) مرجع سابق، الجرجاني. التعريفات. ص 31. (¬3) مرجع سابق، محمد بيصار. العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع. ص 62.

ثانيا: شروط التربية الإرادية عند ابن الجوزي

ويقول الجنيد: "الإرادةُ أن يعتقدَ الإنسانُ الشيءَ، ثم يعزمَ عليه، ثم يريدُه، والإرادةُ بعد صدقِ النيةِ" (¬1). ومن هذه التعريفات يمكن القول: بأن الإرادة قوة باعثة ومحركة للسلوك، أو العمل الذي اقتنع به الشخص، أو الفكرة التي آمن بها. وابن الجوزي لم يعرّف الإرادة ولم يحدّد الطريقة المناسبة لتربية الإرادة مباشرة، ولكنه قدم إشارات عامة لهذه التربية، وسأحاول تصنيفها بطريقة تتناسب ومجالها في هذا الموضوع، وقد جعلت كتاب جوانب التربية الإسلامية الأساسية للدكتور مقداد يالجن هو الأصلَ الذي اقتبست منه عناوين هذا المبحث لصعوبة الحصول على آراء ابن الجوزي بمسمياته نفسها في مجال التربية الإرادية. ثانيًا: شروط التربية الإرادية عند ابن الجوزي قال د. مقداد يالجن: "تناول الإسلام موضوع الإرادة من حيث طبيعتها وروافدها وميادين تدريبها. وأما من حيث طبيعتها فإنها عبارة عن عزم وتصميم لفعل شيء أو تركه، وعلامة الإرادة هي النزوع المباشر إلى الفعل المراد أو إلى اتخاذ أسبابها" (¬2)، ثم استشهد د. مقداد بقول الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} (¬3). وعلى هذا فالإرادة لابدّ لها من باعث يدفعها لأداء العمل أو السلوك، وتظهر قيمة هذا الفعل من الإيمان بالله تعالى، وهي التي نعبر عنها بالنية. وقد عرف الفقهاء والعلماء النية بتعريفات عدة منها: 1 - تعريف الفقهاء: "لغة: القصد، وشرعا: قصد الشيء مقترنًا بفعله" (¬4). 2 - تعريف الإمام الغزالي: "إن النية والإرادة والقصد عبارات ¬

_ (¬1) مرجع سابق، يالجن. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 447. (¬2) المرجع السابق، ص 456. (¬3) سورة التوبة، الآية 46. (¬4) السدلان، د. صالح، بن غانم. النية وأثرها في الأحكام الشرعية. الرياض، مكتبة الخريجي، الطبعة الأولى، 1404 هـ -1984 م، الجزء الأول، ص 91.

متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفه للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل. العلم يقدمه لأنه: أصله وشرطه. والعمل يتبعه لأنه: ثمرته وفرعه، وذلك لأن كل عمل، أعني كل حركة وسكون اختياري، فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة؛ لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه فلابد وأن يعلم، ولا يعمل ما لم يرد فلابد من إرادة. ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقًا للغرض إما في الحال أو في المآل" (¬1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمالُ بالنيةِ، وإنما لامرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولهِ، فهجرتُه إلى اللهِ ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبُها أو امرأةٌ يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬2). وقد أدرك ابن الجوزي أهمية إخلاص النية لله تعالى في قبول العمل، فقال: "وليعلم المرائي أن الذي يقصده يفوته، وهو التفات القلوب إليه. فإنه متى لم يخلص حُرِم محبة القلوب ولم يلتفت إليه أحد، والمخلص محبوب؛ فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه لما فعل. وكم رأينا من يلبس الصوف، ويظهر النسك لا يُلتفت إليه، وآخر يلبس جيد الثياب ويبتسم، والقلوب تحبه" (¬3). كما بيَّن ابن الجوزي دور النية الخيرة في حثّ الإنسان على الالتزام بالأعمال الصالحة، فقال: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة. ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فتورٍ بما يعجز عنه البدن من العمل" (¬4). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الغزالي. إحياء علوم الدين. الجزء الرابع، ص 384 - 385. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1515 - 1516، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، حديث رقم 155 - (1907). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 387. (¬4) المرجع السابق، ص 20، وفي. صيد الخاطر. (تحقيق) الطنطاويان. ص 50 "بما لا يعجز عنه البدن من العمل".

ثم أنه بيَّن أهمية تدريب المرء على استحضار النية الخالصة لله تعالى في كل تصرفاته وحركاته وسكناته، فقال: "فلا تعظنَّ إلا بنيةٍ، ولا تمشين إلا بنيةٍ، ولا تأكلنَّ لقمةً إلا بنيةٍ، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر" (¬1). وإذا دُرب الفرد على استحضار النية الطيبة في جميع أعماله، فإننا نكون قد عمَّقنا الناحية الخيرية في الإنسان، ووجهناه الوجهة الإيمانية الصحيحة، بعد أخذ شروط التربية الإرادية في الاعتبار، وشروط التربية الإرادية نذكرها فيما يأتي: أ - مراعاة طاقة الطفل عند تدريبه: ينبغي "تجنب تكليف الطفل في ميادين التدريب فوق طاقته، لأن ذلك يؤثر في نموه الطبيعي العام، كما يكوَّن في نفسه عقدًا ضد المربين وضد القيم الإِسلامية" (¬2). يقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬3). وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "وما احتمل من العلم يأمرانه به، وينهيانه عن القبيح، ويحثانه على المكارم؛ فإنه موسم الزرع" (¬4). ب - الاهتمام بتكليف الطفل ما يعقله: فينبغي عدم تكليف الطفل في بداية نشأته بالأمور التكليفية التي لا يعقلها مثل الصلاة والصوم والحج، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ القلمُ عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبَّ، وعن المعتوهِ حتى يعقلَ" (¬5). لأن المنهج التربوي الإِسلامي، يهدف إلى تربية الإرادة العاقلة الواعية، لا الإرادة الغافلة. وقد نصح ابن الجوزي بتعليم الطفل الصلاة وتدريبه عليها، حسب ما قررته الشريعة الإِسلامية، فقال: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 59. (¬2) مرجع سابق، يالجن. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 459. (¬3) سورة البقرة، الآية 286. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58. (¬5) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 32، كتاب الحدود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، حديث رقم 1423.

ثالثا: وسائل التربية الإرادية في نظر ابن الجوزي

"فليعلمانه الطهارة والصلاة ويضربانه على تركهما إذا بلغ سبع سنين" (¬1). وقد اقتبس ذلك من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -وإن لم يستشهد به- "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬2). وقال: "يجب عليه أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة والزكاة -إن كان له مال- والحج وغير ذلك من الواجبات، فإذا عرف قدر الواجب قام به" (¬3). جـ - الاهتمام بتنشئة الطفل على الفضائل والآداب الصالحة: ينبغي أن يتم تدريب الطفل منذ بداية نشأته، على الفضائل والأخلاقيات والآداب الصالحة، حتى تصبح جزءا من سلوكه وشخصيته. وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "أقوم التقويم ما كان في الصغر، فأما إذا ترك الولد وطبعَه، فنشأ عليه ومرن، كان ردّه صعبًا، ثم المواظبة على الرياضة (¬4) أصل عظيم في حق الصبيان، فإن ذلك يفيدهم أن يصير الخير عادة" (¬5). ثالثًا: وسائل التربية الإرادية في نظر ابن الجوزي حتى تقوى إرادة الفرد، وتتصلب أمام ضعفه البشري، لابدّ من وسائل لتربية إرادته لمواجهة ما يعترضه بقوة وعزيمةٍ، وإيمان واقتناع. وقد اقتبست الباحثة عناوين هذه الوسائل من كتاب، جوانب التربية الإِسلامية الأساسية للدكتور مقداد يالجن، لأنه كما ذكرت سابقًا، أن ابن الجوزي كتب في التربية الإرادية بصفة عامة دون تحديد مسمّاها أو عناوينها، ولكن قامت الباحثة بتصنيف ما كتبه متناثرًا في مؤلفاته العديدة التي درستها. وأهم هذه الوسائل هي: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58. (¬2) مرجع سابق، الألباني، محمد، ناصر الدين. صحيح الجامع الصغير وزيادته. المجلد الثاني، ص 1021 - 1022، حديث رقم 5868. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 44. (¬4) معنى الرياضة هنا: التربية والتدريب والتوجيه الخلقي. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133.

أ - ممارسة أنواع التدريب الإرادي للسلوك الفطري: وذلك عن طريق إشباع الدوافع الفطرية كالأكل والشرب والجنس، وضبطها بالضوابط الشرعية، وتهذيب الانفعالات المختلفة مثل الغضب ودفع الإساءة بالإحسان، ومغالبة الهوى وضبط النفس وكظم الغيظ. وقد تكلم ابن الجوزي عن هذه الدوافع الفطرية والانفعالات، مبينًا طريقة إشباعها ثم ضبطها وإعلاءها، بطريقة تتفق وفطرة الإنسان. وقد سبق تحليل ذلك في الفصل الأول من الباب الثالث، لذلك لا داعي لذكرها هنا اجتنابًا للتكرار. ب - ممارسة أنواع التدريب الإرادي الخاصة بالبذل والعطاء: بعد تدريب النفس البشرية على ضبط شهواتها وإعلائها، لابدّ من تدريبها على البذل، بذل النفس والمال والجهد وكلَّ ما تملك، حتى تقوى إرادتها، ويسلس قياد النفس لصاحبها والتدريبُ على البذل وكذا العطاء المثمر يحتاجان إلى مضاعفة الجهد، وتحمل الآلام، وفي هذا يقول ابن الجوزي: "إن كل شيء نفيس خطيرٍ يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله" (¬1). وقد عدَّد ابن الجوزي بعض الأمور التي تحتاج إلى مجاهدةٍ ومصابرة، حتى تنالها النفس البشرية، فقال: "العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة" (¬2). وقال في المال: "ونحو هذا تحصيل المال، فإنه يحتاج إلى المخاطرات والأسفار والتعب الكثير" (¬3). وقال في الكرم: "وكذلك نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب، وربما آل إلى الفقر" (¬4). وقال في الشجاعة: "وكذلك الشجاعة، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس" (¬5). كذلك من أراد ثواب الآخرة، فإنه لابد أن يدرب نفسه على طاعة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 268. (¬2) المرجع السابق، ص 268. (¬3) المرجع السابق، ص 269. (¬4) المرجع السابق، ص 269. (¬5) المرجع السابق، ص 269.

رابعا: ممارسة أنواع التدريب الخاصة بالتحمل والصبر

الله تعالى ومرضاته باتباع شرعه، واجتناب ما نهى عنه ويصبر ويجاهد ويصابر في سبيل ذلك. قال ابن الجوزي: "ومن هذا الفن تحصيل الثواب في الآخرة. فإنه يزيد على قوة الاجتهاد والتعبد، أو على قدر وقع المبذول من المال فى النفس، أو على قدر الصبر على فقد المحبوب، ومنع النفس من الجزع" (¬1). كذلك الزهد يحتاج إلى مشقة، قال ابن الجوزي: "وكذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى" (¬2)، وقال في العفاف: "والعفاف لا يكون إلا بكفِّ كفِّ الشره. ولولا ما عانى يوسف -عليه السلام- ما قيل له أيها الصديق" (¬3). ثم يمدح ابن الجوزي الساعين في الرقيّ بنفوسهم، ويصف حالهم في أثناء المجاهدة .. قائلا: "والله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم، ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة. فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وهم لها سابقون. وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم؛ فهم يحتقرونها مع التمام ويعتذرون من التقصير. ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك، ومنهم من لا يرى ما عمل أصلًا، لأنه يرى نفسه وعمله لسيده" (¬4). ولهذا كان التدريب على البذل في مختلف النواحي النفسية والخلقية، يحتاج إلى صبر ومصابرة، حتى تتخلص النفس من ضعفها البشري، ويسلس قيادها للتفاني في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وإقامة الشرع الحنيف، كما ارتضاه الله تبارك وتعالى. رابعًا: ممارسة أنواع التدريب الخاصة بالتحمل والصبر يعتبر الصبر من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي للمرء تدريب نفسه عليها، فالصبر ضرورة دنيوية ودينية. وقد وعد الله تعالى الصابرين ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 269. (¬2) المرجع السابق، ص 269. (¬3) المرجع السابق، ص 269. (¬4) المرجع السابق، ص 269.

بالأجر العظيم في الدارين، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (¬1). وفي كتاب الله آيات كثيرة بشأن الصبر وفضله وجزاء الله عليه. وقد بيَّن ابن قيم الجوزية أقسام الصبر على اعتبار أنها متعلقة بأنواعه الثلاثة، فقال: "صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها. وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها" (¬2). وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي: "ورأيت الإنسان قد حمل التكليف أمورًا صعبة، ومن أثقل ما حمل مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب، وعلى ما تكره" (¬3) وقوله أيضًا: "ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضى به" (¬4). وتأتي مشقة الصبر على النفس البشرية من أنه يكون مخالفًا لما تحب وتهوى. قال ابن الجوزي: "وإنما صعب الصبر لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر" (¬5). لذلك يتطلب الصبر، الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن يكون موقنًا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمرِ المؤمنِ: إن أمرهُ كله خيرٌ. وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن. إن أصابته سراءُ شكرَ فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراءُ صبرَ، فكانَ خيرًا له" (¬6). حتى تنقاد النفس البشرية راضية مطمئنة في ضوء هذه المعرفة واليقين الإيماني بالله -عز وجل-. وفي ذلك يقول ابن ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية 75. (¬2) ابن قيم الجوزية. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين. بيروت، دار الآفاق الجديدة الطبعة، الرابعة، 1400 هـ - 1980 م، ص 32. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 98. (¬4) المرجع السابق، ص 91. (¬5) المرجع السابق، ص 91. (¬6) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2295، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، حديث رقم (64 - 2999).

الجوزي: "إن الرضى من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته رضيت بقضائه، وقد يجري في ضمن القضاء مرارات، يجد بعض طعمها الراضي. أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة. فإذا ترقّى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار حلاوة" (¬1). لذلك ينصح ابن الجوزي بالتدريب الواعي على الصبر وتحمّل المشاقّ، من خلال المعرفة العميقة بالله تعالى وقدره والحكمة منه، حتى تنبت المحبة في قلب الإنسان، فيجد حلاوة الايمان. فيقول في ذلك: "فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجدّ في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة" (¬2). وقد استشهد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي عن الله جل جلاله: "لا يزالُ العبدُ يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصِرُ به" (¬3). الوسائل المعينة على الصبر: هناك وسائل عدة ذكرها ابن الجوزي لتقوية الإرادة، ومساعدتها على الصبر، وهذه الوسائل هي: 1 - الوسيلة الأُولى تدبُّر القرآن الكريم وآيات الصبر فيه، والتبصر بأحاديث الصبر، المقوية للإرادة. وقد وضح ابن الجوزي هذه النقطة بالتفصيل، مدعّما إياها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فقال: "ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل" (¬4). وقد قسم النقل إلى: القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة. ثم قسم القرآن الكريم قسمين: القسم الأول: "بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي. فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 94. (¬2) المرجع السابق، ص 95. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الحادي عشر، ص 340 - 341، كتاب الرقائق، باب التواضع، حديث رقم 6502. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 92.

لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (¬1). {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} (¬2). والقسم الثاني: ابتلاء المؤمِن بما يلقى، كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (¬3). {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} (¬4). ثم قسم ابن الجوزي السُّنّة إلى قول وحال. فقال فيهما: "أما الحال: فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتقلبُ على رمالِ حصير تؤثرُ في جنبه، فبكى عمرُ - رضي الله عنه -. وقال: كسرى وقيصر في الحَريرِ والديباجِ، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "أفي شك أنت يا عمر؟ ألا ترضى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدنيا" (¬5). وأما القول (¬6): فكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ الدنيا تساوي عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربة ماء" (¬7). أما العقل فقد قال فيه ابن الجوزي: "وأما العقل: فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها أن يقول: قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة حكمة المقدِّر. فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللا" (¬8). ثم بيَّن ابن الجوزي أن على المرء أن يقنع نفسه قائلًا: "قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض نهار، ولا ينبغي للمستعمل في ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية 178. (¬2) سورة الزخرف، الآية 33. (¬3) سورة آل عمران، الآية 142. (¬4) سورة البقرة، الآية 214. (¬5) مرجع سابق، ابن ماجه، أبو عبد الله، محمد بن يزيد، القزويني. سنن الحافظ أبي عبد الله، محمد بن يزيد، القزويني ابن ماجه. (حققه ووضع فهارسه بالكمبيوتر) الأعظمي، محمد، مصطفى، الجزء الثاني، ص 417، أبواب الزهد، ضجاع آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم 2405. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 93. (¬7) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 560، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله -عز وجل-، حديث رقم 2320. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 93.

الطين أن يلبس نظيف الثياب، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ تنظف ولبس أجود ثيابه. فمن ترفَّه وقت العمل، ندم وقت تفريق الأجرة، وعوقب على التواني فيما كلف، فهذه النبذة تقوّي أزر الصبر" (¬1). 2 - الوسيلة الثانية: قصّ قصص الأنبياء -عليهم السلام-، وما تعرضوا له من ابتلاءات مختلفة وثباتهم وصبرهم عليها، هذه القصص تؤثر في تدريب النفس البشرية على الصبر وتحمل البلاء. قال ابن الجوزي: "ونوح سأل في ابنه فلم يُعطَ مراده، والخليل ابتلي بالنار، وإسماعيل بالذبح، ويعقوب بفقد الولد. ويوسف بمجاهدة الهوى. وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة. وجميع الأنبياء على هذا. وأما ما لقي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم" (¬2). فإذا تفكر الإنسان في أن أنبياء الله تعالى وهم صفوة الخلق، تعرضوا للبلاء، وجنوا ثمار ذلك الصبر، الأجر العظيم من الله تعالى، فإنه لا شك سيصبر، ولاسيما إذا أيقن أن الله تعالى وضع الدنيا للبلاء، ليختبر إيمان الإِنسان وصبره، قال ابن الجوزي: "فالدنيا وضعت للبلاء، فينبغي للعاقل أن يوطَّن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبِلَّة للدنيا كما قيل: طُبعتْ على كدرٍ وأنت تُريدُها ... صَفْوًا من الأقذاءِ والأكدارِ ومكلفُ الأيامِ ضدَ طباعِها ... متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ وهاهنا تبين قوة الإيمان وضعفه، فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم للمالك والتحكيم لحكمته" (¬3). 3 - الوسيلة الثالثة: مدارة النفس البشرية والتلطف بها بشغلها بما يرضي الله تعالى، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 93. (¬2) المرجع السابق، ص 388. (¬3) المرجع السابق، ص 388.

ووعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت. قال ابن الجوزي: "فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس" (¬1). وقد استشهد ابن الجوزي، بما يحكى عن بشر الحافي -رحمه الله- أنه "سار ومعه رجل في طريق فعطش صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى، فلما وصلا إليها، قال له: البئر الأُخرى، فما زال يعلّله. . . ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا" (¬2). 4 - الوسيلة الرابعة: احتساب الأجر من الله تعالى، وما يتبعه من تعويض الله -عز وجل- له في الدنيا والآخرة، ومدحه للصابرين، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ} (¬3). وفي هذا يقول ابن الجوزي: "ومن ذلك رجاء العوض في الدنيا. ومنه تلمح الأجر في الآخرة. ومنه التلذذ بتصوير المدح والثناء من الخلق فيما يمدحون عليه والأجر من الحق -عز وجل-، ومن ذلك أن الجزع لا يفيد، بل يفضح صاحبه، إلى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل والفكر. فليس في طريق الصبر نفقة سواها. فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه، ويقطع بها ساعات ابتلائه، وقد صبّح المنزل" (¬4). 5 - الوسيلة الخامسة: التفكُّر في أسباب البلاء والصبر عليها، وطلب الأجر والمثوبة من الله -عز وجل-. قال ابن الجوزي: "ثم ليسلَّ نفسه بأن المنع ليس عن بخل، وإنما هو لمصلحة لا يعلمها، وليؤجر الصابر عن أغراضه، وليعلم الله الذين سلَّموا ورضُوا. ثم إن زمن الابتلاء مقدار يسير، والأغراض مدخرة تلقى بعد قليل، وكأنه بالظلمة قد انجلت، وبفجر الأجر قد طلع. ومتى ارتقى فهمه إلى أن ما جرى مرادُ الحقّ سبحانه، اقتضى إيمانه أن يريد ما يريد، ويرضى بما يقدَّر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجًا عن حقيقة العبودية في المعنى" (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 98. (¬2) المرجع السابق، ص 99. (¬3) سورة الزمر، الآية 10. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 156. (¬5) المرجع السابق، ص 388.

خامسا: وسائل إنقاذ الإرادة من ضعفها

6 - الوسيلة السادسة: أن يعلم الصابر أنه عن طريق الصبر، يحصل على ثلاثة أنواع من العبادات تقوي إرادته، وتسمو بروحه، وترفع من درجته عند الله تعالى. قال ابن الجوزي: "فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب، والصبر على القضاء وسؤال الفرج، حصّلتَ ثلاثة فنون من العبادة، تثاب على كل منها" (¬1). خامسًا: وسائل إنقاذ الإرادة من ضعفها قال الله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬2)، وهذا الضعف البشري من خصائص النفس البشرية التي خلقها الله به. والإنسان ضعيف أمام خالقه -عز وجل-، وأمام من هو أقوى منه من البشر، وأمام دوافعه وشهواته، وأمام المسؤوليات والواجبات المكلف القيام بها من قِبَل الله تعالى. ومع هذا الضعف البشري، فإن الإِنسان يتسلط ويتجبر إذا تيسرت له أسباب السلطة والقوة، فإذا أصابته ضرّاء لجأ إلى الله تعالى، حتى إذا كشف عنه ضره رجع إلى عصيانه وطِغيانه، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (¬3). وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬4). لذلك جاء المنهج التربوي الإسلامي بواقعيته، لتقوية الإرادة ثم تربيتها للتغلب على ضعف الإنسان أَمام رغباته وشهواته قبل السقوط في الرذائل والمعاصي، ثم بعد الوقوع فيها إن وقع فيها، وقد كان لابن الجوزي رأيُ مشتق من هذا المنهج التربوي الإِسلامي. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 393. (¬2) سورة النساء، الآية 28. (¬3) سورة الروم، الآية 33. (¬4) سورة يونس، الآية 12.

أ - تربية الإرادة للوقاية من ارتكاب المعاصي إن الإنسان نتيجة ضعفه البشري الفطري، معرض لارتكاب المعاصي والآثام، لذلك استخدم الإسلام أسلوب تربية الإرادة الخيرة في جميع تصرفات الإِنسان وسلوكياته، بل شمل ما توسوس به النفس البشرية، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوزَ لأمتي ما حدثت به أنفُسها ما لم يتكلُموا أو يعملُوا به" (¬1). وكذلك إذا همَّ بالمعصية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى، قال: "إن اللهَ كتبَ الحسناتِ والسيئاتِ. ثم بين ذلك: فمن همّ بحسنةِ فلم يعملْها كتبَها اللهُ عنده حسنةَ كاملةً. وان همَّ بها فعملَها كتبَها الله -عز وجل- عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملْها كتبها اللهُ عنده حسنة كاملةً، وإن هم بها فعملَها كتبَها اللهُ سيئة واحدة" (¬2). ومن خلال هذا المنهج التربوي الإسلامي القويم في تعديل السلوك، وتقويم الاعوجاج، وتصحيح المسار، تقوى الإرادة الخيرة الصالحة على الإرادة الشريرة الداعية إلى المعصية، وتحث النفس المؤمنة على التمهل قبل الوقوع فيها. ولم يكن لابن الجوزي رأي في هذا الجانب فيما اطلعتُ عليه ولكن كتبت فيه حتى ننتقل إلى النقطة الثانية التي تعرض لها ابن الجوزي وهي: ب - تربية الإرادة بعد الوقوع في المعصية: إن الله تعالى -أعلم- بطبيعة النفس البشرية، وضعفها أمام الشهوات، لذلك نبَّه الجانبَ العاطفي للتنفير من المعصية، قال في ذلك د. مقداد يالجن. "إن الإِنسان إذا اشمأز من فعل الأشياء [السيئة] وتقززت نفسه منها، تدفع عاطفته إرادته إلى عدم فعلها والابتعاد عنها ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 116، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، حديث رقم 201 - (127). (¬2) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 118، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب، حديث رقم 207 - (131).

نهائيًّا" (¬1)، ثم استشهد بقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (¬2). وقد استخدم ابن الجوزي هذا الأسلوب العاطفي للتنفير من المعصية، حتى يبتعد العاصي عنها. فقال في التنفير من الزنى: "إنه يفسد الفرش، ويغير الأنساب، وهو بالجارة أقبح" (¬3)، وقال: "فكم يتعلق بالزنى من محن لا يفي معشار عشرها بلذة لحظة، منها هتك العرض بين الناس وكشف العورات المحرّمة. وخيانة الأخ المسلم في زوجته إن كانت متزوجة، وفضيحة المزني بها وهي كأخت له أو بنت. فإن علقت منه ولها زوج ألحقته بذلك الزوج، وكان هذا الزاني سببًا في ميراث من لا يستحق ومنع من يستحق. ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد. وأما سخط الحق سبحانه فمعلوم" (¬4). قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (¬5). وقال ابن الجوزي في التنفير من شرب الخمر: "فإنه تنجيس للفم والثوب، وإبعاد للعقل، وتأثيراته معلومة عند الخالق والمخلوق. فالعجب ممن يؤثر لذة ساعةٍ تجني عقابًا وذهابَ جاه، وربما خرج بالعربدة إلى القتل" (¬6). ثم إن ابن الجوزي بيّن أن سبب انغماس العاصي في المعاصي، وعدم إحساسه بها، هو شهواته التي تحجب عنه ما فيها من عيوب ونقائص، فإذا انجلت هذه الغشاوة رأى الشهوات على حقيقتها، فوجّهها بما يرضي الله تعالى. وفي هذا المعنى قال: "ومن رأى المعصية بعيني الشهوة فما رآها؛ إذ فيها من العيوب ما شئت ثم ثمرتها عقوبة آجلة، وفضيحة عاجلة" (¬7). وقد بيَّن ابن الجوزي أن المعصية لها مراتب، فقال: "كلّ المعاصي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، يالجن. جوانب الترببة الإسلامية الأساسية. ص 474. (¬2) سورة الحجرات، الآية 12. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 280. (¬4) المرجع السابق، ص 416. (¬5) سورة الإسرء، الآية 32. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 426. (¬7) المرجع السابق، ص 415.

قبيحة، وبعضها أقبح من بعض" (¬1). ثم عدّد بعضًا من المعاصي وفق درجتها فقال: "فإن الزنى أقبح الذنوب، فإنه يفسد الفرش، ويغير الأنساب، وهو بالجارة أقبح" (¬2)، وقد استشهد بهذا الحديث فقال: "فقد روي في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله: أيُ ذنبٍ أعظمُ؟ قال: أن تجعلَ للهِ ندًّا وهو خلقَك. قلت: ثم أيُ، قال: أن تقتلَ ولدَك من أجلِ أن يطعمَ معك؟ قلت: ثم أيُّ، قال: أن تزاني حليلةَ جارِك" (¬3). وقد بيَّن ابن الجوزي الحكمة من تشديد عقوبة الزنى مع الجارة، بقوله: "وإنما كان هذا، لأنه يضمُّ إلى معصية الله -عز وجل- انتهاك حقّ الجار" (¬4). ثم يلي ذلك في قبائح الذنوب أن يزني الشيخ"، وقد استشهد بحديث رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ يبغضُ الشيخَ الزاني" (¬5). وذلك "لأن شهوة الطبع قد ماتت، وليس فيها قوة تغلب، فهو يحركها ويبالغ، فكانت معصيته عنادًا" (¬6). وذكر بعض المعاصي أيضًا. فقال: "ومن المعاصي التي تشبه المعاندة لبس الحرير والذهب، خصوصًا خاتم الذهب الذي يتحلّى به الشيخ، وأنه من أبرد الأفعال وأقبح الخطايا" (¬7). وقال: "وكذلك المعاملة بالربا الصريح، خصوصًا من الغني الكثير المال" (¬8) ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 280. (¬2) المرجع السابق، ص 280. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثامن، ص 163، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، حديث رقم 4477. وقد ورد بلفظ: "حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل الله نِدًا وهو خلقك". قلت: إن ذلك لعظيم، قلت. ثم أي؟ قال: وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك". (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 281. (¬5) المرجع السابق، ص 281. (¬6) المرجع السابق، ص 281. (¬7) المرجع السابق، ص 281. (¬8) المرجع السابق، ص 281.

وقال: "ومن أقبح الأشياء أن يطول المرض بالشيخ الكبير، ولا يتوب من ذنب، ولا يعتذر من زلةٍ، ولا يقضي دينًا، ولا يوصي بإخراج حقٍّ عليه" (¬1). وقال أيضًا: "ومن قبائح الذنوب أن يتوب السارقُ أو الظالم ولا يردّ المظالم، والمفرِّطُ في الزكاة أو في الصلاة ولا يقضي. ومن أقبحها أن يحنث في يمين طلاقه ثم يقيم مع المرأة" (¬2). وبعد أن عدّد ابن الجوزي بعض المعاصي، التي يعتبرها من قبائح الذنوب، بيَّن معنى المغفرة، فقال: "من هفا هفوةً لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل ولا عزم على العود بعد الفعل، ثم انتبه لما فعل فاستغفر الله، كان فعله وإن دخله عمدًا في مقام خطأ" (¬3). ثم مثَّل لهذا المعنى بقوله: "مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع، فيطلق النظر ويتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمُّح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله، فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم تُقصد. فهذا معنى قوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (¬4). فأما المداوم على تلك النظرة المردّد لها، المصرّ عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي، مبارز بالخلاف، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره. ومن البعد أن لا يرى الجزاء على ذلك" (¬5). ويرى ابن الجوزي أن عقوبة الإصرار على المعاصي "أن لا يحس المعاقب بالعقوبة. وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة كالفرح بالمال الحرام، والتمكن من الذنوب" (¬6). ثم عدَّد ابن الجوزي الأسباب التي تدعو الإنسان إلى المعصية، وترك المبادرة إلى التوبة من هذه المعاصي، فذكر ثلاثة أسباب وعلاجها، فقال فيها: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 281. (¬2) المرجع السابق، ص 281. (¬3) المرجع السابق، ص 179. (¬4) سورة الأعراف، الآية 20. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 179. (¬6) المرجع السابق، ص 14.

"أحدها: رؤية الهوى العاجل فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه. والثاني: التسويف بالتوبة، فلو حضر العقل لحذّر من آفات التأخير، فربما هجم الموت ولم تحصل التوبة. والعجب ممن يجوز سلب روحه قبل مضي ساعة ولا يعمل على الحزم، غير أن الهوى يطيل الأمد، وقد قال صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم -: "صل صلاةَ مودع". وهذا نهاية الدواء لهذا الداء؛ فإنه من ظن أنه لا يبقى إلى صلاة أخرى جدّ واجتهد". والثالث: رجاء الرحمة فيُرى العاصي يقول: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب. ولو علم أن رحمته ليست رقة؛ إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفورًا ولا آلم طفلًا، وعقابه غير مأمون، فإنه شَرَّعَ قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة دراهم، لجدَّ وأناب" (¬1). وقد بيَّن ابن الجوزي أن للمعاصي آثارًا مذمومةً مضرةً بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة، فقال: "الذنوب تغطّي على القلوب، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبِنْ فيها وجه الهدى" (¬2) وقال: "كم من معصيةٍ لا يزال صاحبها في هبوطٍ أبدا مع تعثير أقدامه، وشدة فقره وحسراته على ما يفوته من الدنيا، وحسده لمن نالها" (¬3). وقوله: "من العجب إلحاحك في طلب أغراضك، وكلما زاد تعويقها زاد إلحاحك. وتنسى أنها قد تمتنع لأحد أمرين: إما لمصلحتك فربما معجل آذى، وإما لذنوبك فإن صاحب الذنوب بعيد من الإجابة" (¬4). والعلاج التربوي لهذه المعاصي والآثام، هو التوبة الصادقة النصوح، التي تقوي الإرادة الخيرة، وتقمع النفس المحبة للشهوات، وتطهر القلب والجوارح من الآثام، فتندفع النفس لمرضاة الله تعالى، والتقرب منه بالطاعات. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 351. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 25. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 193. (¬4) المرجع السابق، ص 191.

قال ابن الجوزي في التوبة، موثقًا كلامه بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية: "قد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} (¬1). ووعد بالقبول فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (¬2). وفتح باب الرجاء (¬3) فقال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (¬4). واستشهد ابن الجوزي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدهِ المؤمنِ من رجل نزلَ بأرض دَويّةٍ (مهلكة) معه راحلتُه، فطلبَها حتى إذا أدركهُ الموتُ. قال: أرجعُ إلى مكاني الذي أضللتُها فيه فأموتُ فيه، فأتى مكانَه فغلبتْه عيناه، فاستيقظَ فإذا راحلتُه عند رأسِه عليها طعامُه وشرابُه وزادُه وما يصلِحُه، فاللهُ أشدُ فرحًا بتوبةِ عبدهِ المؤمنِ من هذا براحلتِه وزاده" (¬5). ثم وضح ابن الجوزي معنى التوبة النصوح من خلال عرضه للأقوال التالية: "قال عمر بن الخطاب: التوبة النصوح أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدِّث نفسه أن لا يعود. وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك الجوارح، وإضمار أن لا يعود. وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كلَّ سيئة" (¬6). وقرأ الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (¬7). أما حقيقة التوبة في نظر ابن الجوزي، فهي كما قال: "ليست التوبة نطق اللسان، إنما هي ندم القلب، وعزمه أن لا يعود" (¬8). وقد قال أيضًا في حقيقتها: "أتعتقد أن التوبة قول باللسان، إنما التوبة نار تحرق الإنسان. جرد قلبك من الأقذار، ثم ألبسه الاعتذار، ثم حَلهِ حُلة الانكسار، ثم أقمه على باب الدار" (¬9). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية 31. (¬2) سورة الشورى، الآية 25. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 24. (¬4) سورة الزمر، الآية 53. (¬5) مرجع سابق، العسقلاني. الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الحادي عشر، ص 102، كتاب الدعوات، باب التوبة، حديث رقم 6308. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 359 - 360. (¬7) سورة التحريم، الآية 8. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 329. (¬9) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 362.

وحتى تُقبل التوبة، لابد لها من شروط لصحتها، قال ابن الجوزي في ذلك: "ومن شروط صحتها: أن تكون قبل معاينة أمور الآخرة، فمن باشره العذاب أو عاينه فقد فات موسم القبول، فاستدرِكوا قبل المفاجأة بالفوات الذي لا يؤمنَ" (¬1). وتختلف النفس البشرية في درجة معصيتها ثم توبتها من فرد لآخر. وقد صنف ابن الجوزي التائبين إلى فريقين من الناس، الأول قال فيه: "إن التائب الصادق كلما اشتد ندمه زاد مقته لنفسه على قبح زلته، فمنهم من قوي مقته لها، ورأى تعريضها للقتل مباحًا في بعض الأحوال فعرَّضها له، كما فعل ماعز والغامدية" (¬2). وقد وثق ابن الجوزي كلامه بقصة زنى ماعز واعترافه بذلك، ثم رجمه حتى الموت، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في توبته: "لقد تابَ توبة لو قُسِمتْ بين أمةٍ لوسعتْهم" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الغامدية عندما اعترفت بالزنى فرجمت: "لقد تابتْ توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له" (¬4). فمدح ابن الجوزي هذه الفئة من التائبين بقوله: "فانظر إلى مقت هؤلاء أنفسهم حتى أسلموها إلى الهلاك غضبًا عليها لما فعلت" (¬5). أما الفئة الأُخرى من التائبين، فقد قال فيهم: "ومن التائبين من لم يجز له التعريض بقتلها، فكان ينغص عيشها" (¬6). وقد قص ابن الجوزي هذه القصة لتأكيد قوله، فقال: "قال بعض السلف: رأيت ضيغمًا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 329. (¬2) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 360. (¬3) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 361 وكذلك، مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1322، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث رقم (22 - 1695). (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 361 وكذلك، مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1324، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى حديث رقم (24 - 1696). (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 361. (¬6) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 361.

سادسا: الوسائل النفسية الإيحائية لتقوية الإرادة

العابد، قد أخذ كوزًا من ماءٍ بارد، فصبه في الحبّ واكتال غيره، فقلت له في ذلك، فقال: نظرت نظرةً وأنا شاب، فجعلت على نفسي ألا أذيقها الماء البارد، أنغص عليها أيام الحياة" (¬1). يؤخذ على ابن الجوزي قَصِّهِ لهذه القصة التي تخالف المنهج التربوي الإِسلامي، الذي لا يجيز تحريم الطيبات التي أباحها الله تعالى، لزجر النفس البشرية وعقابها، إلى حدّ الحرمان من المباحات التي جعل الله فيها عونًا للعبد على عبادته وطاعته. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬2). وكان الأحرى به وهو عالم جليل، سبق أن وضحنا رأيه السديد في تهذيب النفس البشرية وتربيتها على مبدأ الاعتدال، أن يرشد إلى أن تنغيص العيش، ينبغي أن يكون عن طريق المحاسبة والمجاهدة لهذه النفس العاصية، الأمّارة بالسوء، حتى تصل إلى النفس اللوامة ثم إلى النفس المطمئنة، بدلًا من حرمانها من المباحات، فلا تقوى على الطاعات. سادسًا: الوسائل النفسية الإيحائية لتقوية الإرادة الإيحاء: "هو انتقال الأفكار من شخصٍ إلى آخر، أو انتقال الأفكار والآراء من مؤثر إلى متأثر" (¬3). وقد يكون الإيحاء من الشخص إلى نفسه، كأن يقول لنفسه: إنك قوي الإرادة، وتملك شخصية قوية، فمع تكرار ذلك مرارًا في كل يوم تقوى إرادة الإنسان. وطبيعة الإيحاء في المنهج التربوي الإِسلامي، يستمدّ قوته الروحية من قوة الله تعالى وهديه وتشريعه، قال الله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬4). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬5). ومن مصادر الإيحاء الذاتي بالقوة، الاعتزاز بالإيمان بالله تعالى ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 361 - 362. (¬2) سورة الأعراف، الآية 32. (¬3) مرجع سابق، زيدان. معجم المصطلحات النفسية والتربوية. ص 191. (¬4) سورة البقرة، الآية 165. (¬5) سورة الذاريات، الآية 58.

والتوكّل عليه. قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬1). وقال -عز وجل-: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬2). لذلك فالمؤمن القوي أفضل من المؤمن الضعيف، لأنه يستمدّ قوته وعزته من صلته بالله تعالى، ومن اتباعه لأوامر الله -عز وجل- واجتنابه لنواهيه. وفي هذا المعنى يقول ابن الجوزي: "ومتى صحت التقوى رأيت كلَّ خيرٍ، والمتقي لا يرائى الخلق، ولا يتعرض لما يؤذي دينه، ومن حفظ حدود الله حفظه الله" (¬3)، ثم وثَّقَ كلامه بوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس -رضي الله عنهما-: "احفظِ اللهَ يحفظْك. احفظِ اللهَ تجده أمامك" (¬4). ثم ضرب مثلًا لنبي الله يونس -عليه السلام-، عندما أنقذه إيمانه بالله تعالى من سجنه في بطن الحوت، أما فرعون هلك بسبب كفره وطغيانه. فقال في ذلك ابن الجوزي: "إن يونس -عليه السلام- لما كانت ذخيرته خيرًا نجا بها من الشدة. قال الله -عز وجل-: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬5). أما فرعون فلما لم تكن له ذخيرة خير لم يجد في شدته مخلَّصًا، فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (¬6). فأجعل لك ذخائر خير من تقوى تجد تأثيرها" (¬7). ويقصد ابن الجوزي بالذخائر التي يتمسك بها الإنسان ويستمد منها قوته مراعاةُ تطبيق شرع الله تعالى وأحكامه، فقال في ذلك: "واعلم أن أوفى الذخائر: غضّ الطرف عن محرم، وإمساك اللسان عن فضول كلمةٍ، ومراعاة لحد، وإيثار الله سبحانه وتعالى على هوى النفس" (¬8). ثم استشهد بقصة (¬9) الثلاثة الذين دخلوا الغار، وتوسلوا لله تعالى بصالح أعمالهم، فقال فيها: "وقد عرفت حديث الثلاثة الذين دخلوا إلى غارٍ، فانطبقتْ علهيم صخرةٌ، فقال أحدهم: اللهم ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية 10. (¬2) سورة النساء، الآية 139. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 55. (¬4) مرجع سابق، ابن حنبل، أحمد. المسند. الجزء الأول ص 293. (¬5) سورة الصافات، الآيتان 143 - 144. (¬6) سورة يونس، الآية 91. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 55. (¬8) المرجع السابق، ص 56. (¬9) المرجع السابق، ص 56.

إنه كان لي أبوان وأولادُ، فكنت أقفُ بالحليبِ على أبويّ أسقيهما قبل أولادي، فإن كنتُ فعلتُ ذلك لأجلِك فافرجْ عَنا، فانفرجَ ثلثُ الصخرةِ. وقال الآخرُ: اللهم إني استأجرتُ أجيرًا فتسخطَ أجَره، فاتجرتُ به، فجاء يومًا فقال: ألا تخافُ اللهَ وتعطيني أجرتي؟ فقلتُ: انطلقْ إلى تلك البقرِ ورعاتهِا فخذْها، فإن كنتُ فعلتُ ذلك لأجلِك فافرجْ عنا فانفرَج ثلثا الصخرة. فقال الآخر: اللهم إني علقتُ بنت عم لي فلما دنوتُ منها، قالت: اتقِ اللهَ ولا تفضَّ الخاتمَ إلا بحقْهِ، فقمتُ عَنها. فإن كنت فعلت ذلك لأجلك فافرج عنا. فرفعت الصخرة، وخرجوا (¬1) ". وعلى ذلك فإن الإنسان الصالح التقي يصبر أمام الشدائد وينتظر الفرج من الله، وكذلك المجاهد يستمد قوة الإرادة والشخصية من الله تعالى لأنه يجاهد في سبيله. وهكذا بيَّن ابن الجوزي أن الإِنسان المسلم، لابد أن يستمد قوته الروحية من إيمانه بالله تعالى، وتطبيق أحكامه، حتى تكون له نورًا وهدى في حياته. وهناك أساليب تربوية أُخرى لتقوية الإرادة وتربيتها لم يذكرها ابن الجوزي فيما درست من كتبه. أهم الآراء التربوية المستخلصة من هذا الجانب جانب تربية الإرادة هي: 1 - أهمية تدريب الإِنسان على استحضار النية الخيّرة في جميع أقواله وتصرفاته. 2 - إن استحضار الإِنسان نياته الخيرة في جميع أقواله وأفعاله له دور في بناء الإرادة القوية. 3 - التنوع في استخدام الأساليب والوسائل الإرادية، حتى تقوى شخصية الإِنسان. 4 - أهمية تدريب الفرد على ضبط دوافعه الفطرية، وانفعالاته النفسية منذ صغره. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2099، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال، حديث رقم 100 - (2743). وقد وردت بلفظ مختلف عما أورده ابن الجوزي، ولكن هي القصة نفسها والمعنى.

5 - أهمية استخدام الحوافز المادية والمعنوية عند تدريب الإرادة، حتى تنقاد النفس مرغمةً، ثم راضيةً إلى ما يحبه الله جلّ جلاله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. 6 - أهمية مراعاة طبيعة النفس البشرية، وما فيها من قوة وضعفٍ عند تدريب إرادتها.

الباب الخامس تقويم آراء ابن الجوزي التربوية ومقارنتها

الباب الخامس تقويم آراء ابن الجوزي التربوية ومقارنتها • الفصل الأول: تقويم آراء ابن الجوزي في ضوء القرآن الكريم والسنَّة المطهرة، وفي ضوء القواعد الفقهية ونواح أخرى. • الفصل الثاني: مقارنة آراء ابن الجوزي في ضوء بعض آراء معاصريه وفي ضوء الآراء التربوية المعاصرة.

الفصل الأول تقويم آراء ابن الجوزي في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة وفي ضوء القواعد الفقهية ونواح أخرى

• الفصل الأول تقويم آراء ابن الجوزي في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة وفي ضوء القواعد الفقهية ونواح أُخرى أولًا: الآراء التربوية الموثّقة بالقرآن الكريم. ثانيًا: الآراء التربوية المعتمدة على الأحاديث النبوية. ثالثًا: الآراء التربوية التي وثّقها بالقواعد الفقهية. رابعًا: الآراء التربوية التي وثّقها ابن الجوزي بعلم الكلام والمنطق. خامسًا: الآراء التربوية الأخرى. سادسًا: الآراء التربوية لابن الجوزي المخالفة للمنهج التربوي.

أولا: الآراء التربوية الموثقة بالقرآن الكريم

• الفصل الأول تقويم آراء ابن الجوزي في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة وفي ضوء القواعد الفقهية ونواح أُخرى من خلال تحليل آراء ابن الجوزي التربوية في البابين الثالث والرابع. رأت الباحثة أنه قد اعتمد في كتاباته التربوية، على مصادر أساسية وأُخرى فرعية، وعلى أساس هذه المصادر، صنفت آرائه التربوية إلى: 1 - آراء تربوية موثقة بالقرآن الكريم. 2 - آراء تربوية موثقة بالأحاديث النبوية. 3 - آراء تربوية موثقة بالقواعد الأصوليّة. 4 - آراء تربوية موثقة بالقصص. 5 - آراء تربوية موثقة بالشعر. 6 - آراء تربوية موثقة بالتجارب والخبرات الذاتية. وقد قامت الباحثة بتقويم هذه الآراء التربوية، لمعرفة مدى مطابقتها أو مخالفتها للقرآن الكريم، أو السُّنّة النبوية، أو القواعد الأصولية، وذلك لمعرفة مدى اعتماده على القرآن والسُّنّة وغيرهما في مجال التربية. أولا: الآراء التربوية الموثّقة بالقرآن الكريم القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي كله. والقرآن هو "كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمد

بن عبد الله بألفاظه العربية، ومعانيه الحقة، ليكون حجة للرسول على أنه رسول الله، ودستورًا للناس يهتدون بهديه، وقربة يتعبدون بتلاوته" (¬1). وقد حث ابن الجوزي على التمسك به فقال في ذلك: "عليكم بالكتاب والسُّنّة ترشدوا" (¬2)، ثم بيَّن المراد منه قائلًا: "تقويم ألفاظه، ثم فهمه، ثم العمل به، ثم الإقبال على ما يصلح النفس، ويطهر أخلاقها" (¬3). وذلك لما له من أثر عظيم في النفس البشرية، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أول من أثر فيه القرآن الكريم، وضح ذلك ابن الجوزي بقوله: "وقد سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقالت: كان خلقهُ القرآنُ. تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن" (¬4). ثم يبين أثره التربوي في السلف الصالح، من خلال فهمهم الصحيح للمراد من القرآن الكريم فقال: "تشاغلوا بالقرآن والعلم، فدلّهم على إصلاح البواطن وتصفيتها" (¬5). وقد لوحظ أن هناك -فيما درست- (27) رأيًا لابن الجوزي وثّقها بالآيات القرآنية الكريمة، أو استقى من لفظها ومعناها بعض آرائه، وأعرض هنا .. أ - الآراء التي وثَّقها بالآيات القرآنية: 1 - قال ابن الجوزي في التبذير: "التبذير مما يأمر به الهوى، وينهى عنه العقل (¬6)، وأحسن الأدب في هذا الباب تأديب الحق سبحانه وتعالى حين قال: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (¬7). 2 - وثّق ابن الجوزي فضل كظم الغيظ فقال: "ثم يتفكر في فضل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، خلّاف، عبد الوهاب. علم أصول الفقه. ص 23. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 479. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 112. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الثامن، ص 328 - 329. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 344. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 103. (¬7) سورة الإسراء، الآية 26.

كظم الغيظ، فقد مدح الله سبحانه القوم فقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (¬1). 3 - ووثّق ابن الجوزي رأيه في المنهج التعليمي للطفل في أهمية السيرة النبوية فقال: "وأنفع العلوم النظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه". {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬2). 4 - استخدم ابن الجوزي أسلوب الوصية التربوية لابنه محمد فقال فيها: "ثم رأيت منه نوع توانٍ عن الجِدّ في طلب العلم، فكتبت له هذه الرسالة أحثه بها وأحرضه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدله على الإلتجاء إلى الموفق -سبحانه وتعالى-، مع علمي أنه لا خاذل لمن وفق، ولا مرشد لمن أضل، قد قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬3)، وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (¬4). 5 - وثّق ابن الجوزي رأيه في غرس مراقبة الله تعالى في نفس البالغ بقوله: "وليعلم البالغ أنه من يوم بلوغه قد وجبت عليه معرفة الله تعالى بالدليل والتقليد ويكفيه من الدليل رؤية نفسه وترتيب أعضائه، فيعلم أنه لابد لهذا الترتيب من مرتّب، ولابد لهذا البناء من بانٍ، وليعلم أنه قد نزل ملكان يصحبانه طول عمره، يكتبان عمله، ويعرضانه على الله. قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (¬5). 6 - وثق ابن الجوزي رأيه في ماهية الروح بقوله: "رأيت كثيرًا من الخلق وعالِمًا من العلماء لا ينتهون عن البحث عن أصول الأشياء التي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 109، سورة آل عمران، الآية 134. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 66، سورة الأنعام، الآية 90. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 42، سورة العصر، الآية 3. (¬4) سورة الأعلى، الآية 9. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي، تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر، ص 59، سورة الانفطار، الآيات 10 - 12.

أُمروا بعلم جُلها ومن غير بحث عن حقائقها، كالروح مثلًا (¬1)، فإن الله تعالى سترها بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (¬2)، فلم يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها ولا يقعون بشيء". 7 - وثق ابن الجوزي رأيه في تربية الإرادة للوقاية من الوقوع في المعصية بقوله: "فكم يتعلق بالزنى من محن لا يفي معشار عشرها بلذة لحظة، منها هتك العرض بين الناس وكشف العورات المحرمة. وخيانة الأخ المسلم في زوجته إن كانت متزوجة وفضيحة المزني بها وهي كأخت له أو بنت. فإن علقت منه ولها زوج الحقته بذلك، وكان هذا الزاني سببًا في ميراث من لا يستحق، ومنع من يستحقّ. ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد. وأما سخط الحق سبحانه فمعلوم (¬3). قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (¬4). 8 - قال ابن الجوزي في معنى المغفرة وما يتبعها من ندم: "مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع، فيطلق النظر ويتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمُّح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله، فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم تُقصد .. فهذا معنى قوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (¬5). فاما المداوم على تلك النظرة المردّد لها، المصرّ عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي، مبارز بالخلاف، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره. ومن البعد أن لا يرى الجزاء على ذلك" (¬6). 9 - وثق ابن الجوزي رأيه في العلاج التربوي للذنوب والمعاصي بالآيات وذلك في قوله (¬7): "قد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة فقال: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 75. (¬2) سورة الإسراء، الآية 85. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 416. (¬4) سورة الإسراء، الآية 32. (¬5) سورة الأعراف، الآية 201. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 179. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 24.

{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} (¬1). ووعد بالقبول، فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (¬2). وفتح باب الرجاء فقال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (¬3). 10 - وثق ابن الجوزي رأيه في خلق الإِنسان بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (¬4). المراد بالإِنسان هاهنا آدم -عليه السلام-. . . ." (¬5). 11 - وثق ابن الجوزي علاجه التربوي للفرح الضارّ بالآية في قوله: "ومتى قويت غفلة الفرح حملت إلى الأَشر والبطر، ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (¬6)، يعني الأشرين الذين خرجوا بالفرح إلى البطر" (¬7). 12 - وثّق ابن الجوزي رأيه التربوي للإعلاء من الحاجة الفطرية للبالغ بالآية الكريمة فقال: ويغضّ طرفه (¬8)؛ قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (¬9). 13 - قال ابن الجوزي في عاطفتي الحب والخوف: "تأملت قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬10). فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقا، وقالت: محبته طاعته، فتدبرت ذلك، فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس. وبيان هذا: أن محبة الحسّ لا تتعدى الصور الذاتية، ومحبة العلم والعمل ترى الصور المعنوية فتحبها" (¬11). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية 31. (¬2) سورة الشورى، الآية 25. (¬3) سورة الزمر، الآية 53. (¬4) سورة المؤمنون، الآية 12. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 158. (¬6) سورة القصص، الآية 76. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 125 - 126. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 60. (¬9) سورة النور، الآية 30. (¬10) سورة المائدة، الآية 54. (¬11) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 44.

14 - قال ابن الجوزي في مقامات المحبة: "وعلى قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له، فإن قوي أوجب قلقًا وشوقًا. وإن مال بالعارف إلى مقام الهيبة أوجب خوفًا. وإن انحرف به إلى تلمح الكرم أوجب رجاء قويًّا" (¬1) {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} (¬2). 15 - قال ابن الجوزي في الردّ على شبهة الكافرين بشأن وجود الله -عزّ وجلّ-: ". . . . والعجب أن الذي أوصل إليها اليبس في أكنة لا يلقى جرمها، والذي رطَّبها يلقى جرمها، ثم أنها تبيض ورد الخشخاش وتحمر الشقائق وتحمّض الرمان، وتحلى العنب والماءُ واحد (¬3)، وقد أشار المولى إلى هذا بقوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} (¬4). 16 - قال ابن الجوزي في الطهارة المعنوية: "والضرب الثاني: تطهير الجوارح عن الآثام " (¬5). قال الله -عز وجل-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬6). 17 - قال ابن الجوزي في الأخلاق: "قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬7) فيه ثلاثة أقوال: أحدها: دين الإِسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن. والثالث: الطبع الكريم" (¬8). 18 - قال ابن الجوزي في الوسائل المعينة على الصبر: "ومما يقوي الصبر على الحالتين النقل والعقل. أما النقل فالقرآن والسُّنّة، أما القرآن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 45. (¬2) سورة البقرة، الآية 60. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 43. (¬4) سورة الرعد، الآية 4. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 219. (¬6) سورة الإسراء، الآية 36. (¬7) سورة القلم، الآية 4. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الثامن، ص 328.

فمنقسم إلى قسمين، أحدهما بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي (¬1)، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (¬2)، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} (¬3). {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (¬4). والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (¬5)، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} (¬6)، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (¬7). 19 - استدل ابن الجوزي برأيه في التوبة بقول ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة (¬8). وقرأ الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (¬9). 20 - وثّق ابن الجوزي رأيه في الوسائل الإيحائية لتقوية الإرادة بآيتين كريمتين وذلك في قوله: "إن يونس -عليه السلام- لما كانت ذخيرته خيرا نجا بها من الشدة. قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬10). أما فرعون فلما لم تكن له ذخيرة خير لم يجد في شدته مخلصًا فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} (¬11)، فاجعل لك ذخائر خيرٍ من تقوى تجدْ تأثيرها" (¬12). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 92. (¬2) سورة آل عمران، الآية 178. (¬3) سورة الزخرف، الآية 33. (¬4) سورة الإسراء، الآية 16. (¬5) سورة آل عمران، الآية 142. (¬6) سورة البقرة، الآية 214. (¬7) سورة التوبة، الآية 16. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 359 - 360. (¬9) سورة التحريم، الآية 8. (¬10) سورة الصافات، الآيتان 143 - 144. (¬11) سورة يونس، الآية 91. (¬12) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 55.

ب - الآراء التربوية المستقاة من الآيات القرآنية 1 - قال ابن الجوزي في حب التمتع بمتاع الدنيا المتنوع: "وقد يقع الشره في فنون ما يُلتذ به من الأبنية المنقوشة، والخيل المسومة، والملابس الفاخرة، وغير ذلك. وهذا مرض أصله موافقة الهوى" (¬1). وهذا المعنى استقاه من قول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (¬2). 2 - قال ابن الجوزي في أسلوب تهذيب وتقويم النفس البشرية: "ويحبسها -يقصد النفس- في مقام المداراة كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة، فهي تدارَى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب، وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم" (¬3). وقد اشتق هذا المعنى التربوي والتهذيبي للنفس البشرية من قول الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (¬4). 3 - قال ابن الجوزي في الدعوة إلى التأمل والتفكر في الكون: "ثم اخفض بصرك إلى الأرض تر فجاجها مذللة للتسخير، فامشوا في مناكبها وتفكروا في شربها بعد جدبها بكأس القطر، وتلمّح خروج النبات، يرفُل في ألوان الحلل على اختلاف الصور والطعوم والأراييح" (¬5). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 100. (¬2) سورة آل عمران، الآية 14. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 67. (¬4) سورة النساء، الآية 34. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 60.

وقد استخدم ابن الجوزي الأسلوب القرآني في الدعوة إلى التأمل والتفكر في الكون وفي مخلوقات الله تعالى، فجاء قوله مشتقًا من قول الله تعالي: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬1). وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2) ونحو ذلك من الآيات الكريمة. 4 - قال ابن الجوزي في الدعوة إلى التفكر في مخلوقات الله: "وانظر إلى انقسام الحيوانات ما بين طائر وماشٍ، وإلهامها ما يصلحها" (¬3). وقد اشتق هذا المعنى من قول الله تعالي: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬5). ونحوهما من الآيات الكريمة. 5 - قال ابن الجوزي في الدعوة إلى التفكر في الكون: "وانظر بفكرك إلى سعة البحر وتسخير الفُلْك فيه وما فيه من دابة" (¬6). وقد اشتق هذا المعنى من قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬7). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الملك، الآية 15. (¬2) سورة النحل، الآيتان 10 - 11. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 60. (¬4) سورة النور، الآية 45. (¬5) سورة الأنعام، الآية 38. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 60. (¬7) سورة الجاثية، الآية 12. (¬8) سورة البقرة، الآية 164.

6 - قال ابن الجوزي في الدعوة إلى التفكر في خلق النفس البشرية: "من أكبر الأدلة على وجود الخالق سبحانه وتعالى هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها فقد دبّرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع في المصنوع" (¬1). وقد اشتق هذا المعنى من دعوة الله تعالى الناس للنظر في خلق النفس البشرية كما في هذه الآية الكريمة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬2). وهناك آيات أُخرى في هذا المعنى. 7 - قال ابن الجوزي في طبيعة خلق الإنسان: "أنشأ الله الأبدان من النطف، وحفظ فيها المهج، ونَوَّرَ العيون فأحَسن في تركيبها الدَّعج، وأنطق اللسان، فأبان سبل المراد ونهج، وعلم الإِنسان البيان، فإذا خاصم فلج" (¬3). وقد اشتق هذه المعاني من قول الله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} (¬4). وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬5) ونحوهما من الآيات الكريمة. جـ - الآراء التربوية المستقاة من قصص الأنبياء: قال ابن الجوزي: "ونوح سأل في ابنه فلم يُعطَ مراده، والخليل ابتُلي بالنار، وإسماعيل بالذبح، ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميعُ الأنبياء على هذا" (¬6). وقد بنى ابن الجوزي قوله هذا على القصص القرآني، الذي قصّ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 253. (¬2) سورة فصلت، الآية 53. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 157. (¬4) سورة عبس، الآيات 17 - 19. (¬5) سورة الرحمن، الآيات 1 - 4. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 388.

ابتلاء الأنبياء -عليهم السلام-. قال الله تعالى في نوح -عليه السلام-: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬1). وقال تعالى في إبراهيم -عليه السلام-: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬2). وقال الله تعالى في ذبح إسماعيل -عليه السلام-: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} (¬3). وقال الله تعالى في يعقوب -عليه السلام-: {وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (¬4). وقال الله تعالى في مجاهدة يوسف للهوى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬5). وقال الله تعالى في أيوب -عليه السلام-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬6). وقال الله تعالى في فتنة داود -عليه السلام-: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة هود، الآيتان 45 - 46. (¬2) سورة الأنبياء، الآيتان 68 - 69. (¬3) سورة الصافات، الآيات 102 - 106. (¬4) سورة يوسف، الآية 84. (¬5) سورة يوسف، الآية 33. (¬6) سورة الأنبياء، الآية 83. (¬7) سورة ص، الآية 24.

ثانيا: الآراء التربوية المعتمدة على الأحاديث النبوية

وقال تعالى في فتنة سليمان -عليه السلام- {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (¬1). وهكذا رأينا كيف برزت ثقافة ابن الجوزي القرآنية في أسلوبه واضحة متلونة، حيث ظهرت الآيات القرآنية وسيلة من وسائل الاستدلال على صحة الفكرة وعمقها، فتارة تبرز لنا ألفاظ القرآن بحللها القشيبة تزدان بها سطور الكلام بشكلٍ مباشرٍ وصريح، وتارة يستقي من روح القصص القرآني ما تغني فيه الإشارة عن العبارة، والإجمال عن التفصيل -كما مر بنا- في ذكره لإشاراتٍ مقتضبةٍ إلى قصص الأنبياء، ورابعةً يكون أسلوبه بطرقٍ قرآنيةٍ بديعةٍ في لفت النظر، وتوجيه الفكر كما رأينا في التوجيه إلى التأمل في السموات والأرض، أو الإشارة إلى مناحي التعامل مع الزوجة الناشز، كل ذلك استقاء من روح الآيات لا استدلالًا صريحًا وكل ذلك بأسلوب واضحٍ بسيطٍ. ثانيا: الآراء التربوية المعتمدة على الأحاديث النبوية السُّنّة النبوية: هي المصدر الثاني للتشريع الإِسلامي، وتعريف "السُّنّة في الاصطلاح الشرعي: هي ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير" (¬2). أو صفة خِلْقيةٍ أو خُلْقيةٍ. وقد عرفها ابن الجوزي بالمعنى نفسه تقريبًا بقوله: "تعرف شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما بأفعاله، أو أقواله" (¬3). ثم أنه بيَّن أهمية اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ومن تأمل خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى كاملًا في العلم والعمل، فبه يكون الاقتداء، وهو الحجة على الخلق" (¬4) وقال ابن الجوزي: "ولينظر في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، فإنهم القدوة، ولا ¬

_ (¬1) سورة ص، الآيات 31 - 34. (¬2) مرجع سابق، خلاف. علم أصول الفقه. ص 36. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 319. (¬4) المرجع السابق، ص 90.

يَلتفت إلى بُنَيَّات الطريق" (¬1). وقد استشهد ابن الجوزي في الكثير من آرائه التربوية بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بسيرته العطرة. وستقوم الباحثة بعرض الآراء التربوية الموثقة بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم عرض الآراء المعتمدة على الاستشهاد بأفعاله، ثم الآراء المستقاة من ألفاظ ومعاني أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - وهذا التقسيم للدراسة فقط، لأن مصطلح الأحاديث يشمل الأقوال والأفعال. وقبل مناقشة وتخريج أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي استشهد بها ابن الجوزي عند عرض آرائه التربوية في البابين الثالث والرابع، أحدد منهجي الذي سأسير عليه في دراسة هذه الأحاديث وتخريجها ثم الحكم عليها، ويتلخص ذلك فيما يأتي: أ - تخريج الاْحاديث يتمّ على النحو الآتي: 1 - إذا كان الحديث في الصحيحين (البخاري ومسلم) أو أحدهما، فسأكتفي بذكره منهما أو أحدهما حسب النص الذي أورده ابن الجوزي. وإذا كان الحديث مذكورًا في أكثر من موضع سأكتفي بذكر موضع واحد فقط، وهو الموضع الذي يتطابق فيه اللفظ عند الإمام البخاري مع اللفظ الذي أورده ابن الجوزي. 2 - وإذا لم يكن الحديث موجودًا في الصحيحين، فأخرجه من أحد كتب السنن الأربعة وهي سنن أبي داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه، وذلك حسب تخريج ابن الجوزي، بأن يذكر راويه بقوله: "روى أبو داود" فأخرجه من سنن أبي داود وأكتفي به، دون البحث عنه في كتب السنن الأُخرى وهكذا. 3 - إذا أخرجت الحديث من الشيخين أو غيرهما فإنما مرادي أصل الحديث لاتمام المطابقة بين ألفاظ رواية ابن الجوزي والرواية المخرّجة. 4 - إذا لم يكن الحديث في الكتب الستة، فإنني أعمد إلى تخريجه من مسند الإمام أحمد بن حنبل، وأكتفي بذكر موضع واحدٍ للحديث ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 432.

الذي أورده بشرط مطابقته لما ذكره ابن الجوزي. 5 - إذا لم يكن الحديث في شيء من الكتب السابقة كلِّها أخرجه بواسطة الفهارس من المصادر والمراجع الحديثة بقدر المستطاع، مع عدم الالتزام بالأشهر من هذه الكتب عن بقيتها، إلا إذا دعت الحاجة للخروج عنه لإضافة معنى ما في إطارٍ محدودٍ. ب - بيان حكم الحديث: 1 - إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فمعلوم أنه صحيح، بناءً على ما جرى عليه عرف الأئمة من علماء الحديث من الجزم بصحة أحاديث الشيخين بصفة عامة. 2 - إذا كان الحديث في غير الصحيحين، فسأعتمد على تصحيح أو تضعيف علماء الحديث له، ما لم أجد له معارضًا أو مناقضًا، فأورد ما ذكر فيه، حتى أصل إلى الحكم عليه. 3 - إذا لم أجد الحديث الذي استشهد به ابن الجوزي، في الكتب التي بحثت فيها، فسأذكر أنني لم أقف عليه ولم أجده. وبعد بيان منهج التخريج، قُمتُ بتصنيف الأحاديث النبوية الشريفة التي استشهد بها ابن الجوزي على النحو الآتي: أ - ذكر الأحاديث الصحيحة للشيخين البخاري ومسلم. ب - ذكر الأحاديث التي وردت في كتب السنن الأربعة. جـ - ذكر الأحاديث التي وردت في مسند الإمام أحمد بن حنبل. د - ذكر الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة وأقوال علماء الحديث فيها، والآن أتناول تلك الموضوعات بشيء من التفصيل. أ - الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بأحاديث الشيخين -في حدود الكتب التي درستها من مؤلفات ابن الجوزي-: أقوم الآن بعرض الأحاديث النبوية الشريفة التي وثق ابن الجوزي بها آراءه التربوية: 1 - وثق ابن الجوزي رأيه التربوي في حب الرياسة في الدنيا دون

التفكر في عواقبها (¬1)، بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: "وفي أفراد مسلمٍ من حديث أبي ذر قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ، ألا تستعملني؟ قال: فضربَ بيدِه على منكبي ثم قال: يا أبا ذرٍ، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ، إلّا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها. وفي لفظ آخر: يا أبا ذر إني أحبُ لك ما أحبُ لنفسي، لا تأمرنَّ على اثنين، ولا تولينَّ على مالِ يتيم" وقد رواه مسلم بلفظ: "يا أبا ذرٍ إني أراك ضعيفًا، وإني أحبُ لك ما أحبُ لنفسي. لا تأمرنَّ على اثنين. ولا تولينَّ مال يتيم" (¬2). 2 - وقد وثّق ابن الجوزي علاجه التربوي لانفعال الحسد (¬3) بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- القرآن فهو يقوم به آناءَ الليلِ والنهارِ، ورجلٍ أتاه اللهُ مالًا فهو ينفقُه في الحقِّ آناءَ الليلِ والنهارِ" أُخرِج في الصحيحين (¬4). 3 - وقد وثق ابن الجوزي انفعال الغضب وعلاجه (¬5) بعدد من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال في ذلك: "فذكر بسنده إلى أبي هريرة قال: أتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقال: أوصني، فقال: لا تغضب، فردّد مرارًا، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 101 - 102. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1457، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، حديث رقم 16 - (1825)، وحديث رقم 17 - (1826). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 108. (¬4) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث عشر، ص 502، كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار. حديث رقم 7529. وذكر أيضًا في الجزء التاسع، ص 73، في كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن، حديث رقم 5025 - 5026. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 558 - 559، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلّمه وفضل من تعلّم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، حديث رقم 266 - 268. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 110.

فقال: لا تغضب. رواه البخاري" (¬1). 4 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصُّرَعةِ إِنَّما الشديد الذي يملكُ نفسَهُ عند الغضب" (¬2). 5 - "ومن حديث سليمان بن صُردَ قال: كنت جالسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبانِ، وأحدهما قد احمرَّ وجهه، وانتفختْ أوداجهُ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لذهب عنه ما يجد، قالوا له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم. قال: أَوَ بي جنون؟ " (¬3). 6 - وقد وثق ابن الجوزي علاجه التربوي للخوف من الموت (¬4)، بقولين من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: أنا عند ظنِ عبدي بي. متفق عليه" (¬5). "وعن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموتن أحدُكم إلا وهو يحسنُ باللهِ الظنَّ". أخرجه مسلم" (¬6). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 519، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، حديث رقم 6116. (¬2) أ - المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 518، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، حديث رقم 6114. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2014، كتاب البر والصلة والآداب باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب، حديث رقم 107 - (2609). (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 518 - 519، كتاب الأدب, باب الحذر من الغضب، حديث رقم 6115. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 124. (¬5) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث عشر، ص 466، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}، حديث رقم 7505. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2061، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث رقم 2 - (2675). (¬6) المرجع السابق، الجزء الرابع، ص 2205 - 2206، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، حديث رقم 81 - (2877) و 82 - (بدون).

7 - ذكر ابن الجوزي مراحل النمو الإنساني، ومنها مرحلة نفخ الروح في الجنين (¬1)، فاستشهد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرَّ بالنطفةِ ثنتان وأربعون ليلةً، بعثَ اللهُ إليها ملكًا فصوَّرها وخلقَ سمعها وبصرَها، وجلدَها ولحمَها وعظامَها، ثم قال: يا رب أذكرٌ أم أنثى، فيقضي ربُك ما شاءَ، ويكتبُ الملكُ، ثم يقول: يا ربّ رزقُه؟ فيقضي ربُك ما شاء ويكتبُ الملك، ثم يخرجُ بالصحيفةِ في يدهِ، فلا يزيدُ على ما أمرَ ولا ينقصُ" (¬2). 8 - وثّق ابن الجوزي رأيه في أهمية التداوي (¬3) للمحافظة على جسم الإنسان بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "فإن الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أنزلَ اللهُ داءً إلا وأنزلَ له دواءً فتداووا" (¬4). 9 - ذكر ابن الجوزي بعضًا من آداب العالم في أثناء تدريسه، ومنها أهمية أن يتأسّى العالم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أن يرفع صوته أو يخفضه حسب الموقف التعليمي (¬5). وقد استشهد بالحديث فقال: ". . . عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب الناس احمرت عيناه ورفع صوته واشتدّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبَّحكم أو مسَّاكم" (¬6). 10 - أثبت ابن الجوزي أن التكرار (¬7) من العوامل المساعدة على ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الخامس، ص 462 - 463. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2037، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي، في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله، وشقاوته وسعادته، حديث رقم 2645. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 87. (¬4) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 134، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث رقم 5678. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب القُصّاص والمذكّرين. (تحقيق) الصباغ، محمد، لطفي، ص 363. (¬6) النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني، ص 592، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، حديث رقم 43 - (867). (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحثُّ على حفظ العلم وذكرُ كبار الحفاظ. ص 21.

التعلم الجيد، وقد وثّق رأيه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تعاهدوا القرآن فإنه أشدُّ تفصِّيًا من صدورِ الرجالِ من النعمِ من عُقلِها" (¬1). 11 - ذكر ابن الجوزي أهمية مراعاة الفروق الفردية (¬2) في القدرات العقلية، وقد وثّق رأيه بقول علي - رضي الله عنه -: "حدّثوا الناسَ بما يعرفون. أتحبّونَ أن يُكذَّب اللهُ ورسولهُ" (¬3). 12 - ذكر ابن الجوزي في التربية الروحية أهمية الجانب التعبدي وأثره التربوي في النفس البشرية، وحتى تتحقق لابد من الطهارة المادية والمعنوية، فذكر في الطهارة المادية، الطهارة من نجس وهو البول (¬4)، وقد وثّقه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مرّ بقبرين يعذبان فقال: "إنهما ليَعذَّبانِ وما يعذبانِ في كبيرٍ: أما أحدهما فكان لا يستنزهُ من البولِ. . . ." (¬5). هذه الرواية أوردها الإمام مسلم في صحيحه الجزء الأول، ص ¬

_ (¬1) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع, ص 79، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، حديث رقم 5033. وقد روى البخاري هذا الحديث بلفظ: "تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من الإبل في عُقلها". ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 545، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضائل القرآن وما يتعلق به، من باب الأمر بتعهد القرآن، وكراهة قول نسيت آية كذا، وجواز قول أُنسِيتها، حديث رقم 231 - (791). (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 125. (¬3) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 225، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، حديث رقم 49. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 217. (¬5) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث، ص 222 - 223، كتاب الجنائز، باب الجريدة على القبر، حديث رقم 1361. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 240، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، حديث رقم 111 - (292).

240 - 241، كتاب الإيمان، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، حديث رقم (111 - 292)، أما روايات البخاري الخمس كلها "لا يستتر من البول". لذلك سنكتفي بتخريج الإمام مسلم. 13 - كذلك ذكر ابن الجوزي الطهارة من الحدث (¬1)، وفيها قال: "ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرةٍ سافرناها فأدركنا ونحن نتوضأُ فجعلنا نمسحُ أرجلَنا قال: فنادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا: "ويلٌ للأعقاب من النارِ" (¬2). 14 - ذكر ابن الجوزي في التربية الروحية، أهمية الاعتناء بسنن الفطرة (¬3) ومنها السواك وقد استشهد له بحديثين من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "أخبرنا عبد الأول بسنده عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشقَّ على أمتي أو على الناسِ، لأمرتهم بالسواكِ مع كل صلاة" (¬4). 15 - والحديث الثاني قال ابن الجوزي في السواك أيضًا: وأخرجا من حديث حذيفة قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يشوصُ فاهُ بالسواكِ" (¬5). 16 - ذكر ابن الجوزي (¬6) في إسباغ الوضوء حديثين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 217. (¬2) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 265، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، حديث رقم 163. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 214، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، حديث رقم 27. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 218 - 219. (¬4) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثاني، ص 374، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، حديث رقم 887. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 220، كتاب الطهارة، باب السواك، حديث رقم 42 - (252). (¬5) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول, ص 375، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، حديث رقم 889. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 220، كتاب الطهارة، باب السواك، حديث رقم 46 - (255). (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 217 - 218.

فقال: "من أتمَّ الوضوء كما أمرهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فالصلواتُ المكتوباتُ كفاراتٌ لما بينهن" (¬1). 17 - والحديث الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضأَ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ، فغسلَ وجهَه خرجَ من وجههِ كلُ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينيهِ مع الماءِ أو معَ آخرِ قطرِ الماءِ، فإذا غسلَ يديهِ خرجَ من يديهِ كلُ خطيئةِ، كان بطشتها يداهُ مع الماءِ أو مع آخر قطر الماءِ، فإذا غسَل رجليه خرجت كلُ خطيئة مشتها رجلاهُ مع الماءِ، أو معَ آخرِ قطرِ الماءِ حتى يخرجَ نقيًا من الذنوبِ" (¬2). 18 - استشهد ابن الجوزي بحديثين من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أثر الصلاة (¬3) فقال: "واعلم أن الشرع عظم أمر الصلاة وضرب الأمثال بفضلها، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، أنبأنا أبو عامر الأزدي، وأبو بكر الغورجي، قالا أخبرنا أبو محمد الجراحي، أنبأنا أبو العباس المحبوبي، أنبأنا الترمذي، حدثنا قتيبة، حدثنا الليث عن ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسلُ فيه كلَّ يوم خمس مراتٍ هل يبقى من درنِه شيء؟ قالوا: لا. قال: فذلك مَثَلُ الصلوَاتِ الخمسِ يمحو اللهُ بهن الخطايا. أخرجاه في الصحيحين" (¬4). 19 - "وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 208، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، حديث رقم 11. (¬2) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 215، كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع مع ماء الوضوء حديث رقم 32 - (244). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 232. (¬4) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثاني، ص 11، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة، حديث رقم 528. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 462، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، حديث رقم 283 - (667).

رمضانَ مكفّراتٌ ما بينهن إذا اجتنبتِ الكبائرُ" (¬1). 20 - استشهد ابن الجوزي بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن الزكاة ركن من أركان الإسلام (¬2)، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُني الإسلامُ على خمسٍ .. فذكر منهن الزكاة" (¬3). 21 - ذكر ابن الجوزي بعض المعاني التربوية للإنفاق من المال الحلال (¬4)، موثقًا كلامه بحديثٍ للرسول - صلى الله عليه وسلم - يبيِّن أجر المتصدق، فقال: "أخبرنا ابن الحصين بسنده عن سعيدِ بن يسارٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: من تصدقَ بعِدلِ تمرةِ من كسبٍ طيبٍ -ولا يصعدُ إلى اللهِ إلا الطيبُ- فإن اللهَ يتقبلُها بيمينهِ ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكُم فلوَّه حتى تكونَ مثلَ الجبلِ" (¬5). 22 - قال ابن الجوزي في الصوم "إنه من أشرف العبادات، وله فضيلة ينفرد بها عن جميع التعبدات وهى إضافته إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬6) بقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: "الصومُ لي وأنا أجزي به" (¬7). ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ب)، الجزء الأول، ص 209، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، حديث رقم 16. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 250. (¬3) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 49، كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم، حديث رقم 8. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 45، كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، حديث رقم 21. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 256. (¬5) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث عشر، ص 415، كتاب التوحيد, باب قول الله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، حديث رقم 7430. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني، ص 702، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث رقم 63 - (1014). (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 261. (¬7) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث عشر، ص 464، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}، حديث رقم 7492.

23 - وثق ابن الجوزي فضيلة الحج (¬1) بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (¬2). 24 - وضع ابن الجوزي لعلاج الكذب طرق عدة منها معرفة الكاذب احتقار الناس له وقلة ثقتهم به، فيدفعه ذلك لترك الكذب، وقد وثق كلامه (¬3) بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما يزالُ الرجلُ يكذبُ ويتحرى الكذبَ حتى يكتبَ عند الله كذابًا" (¬4). 25 - استشهد ابن الجوزي في التربية الإرادية، بشأن الصبر (¬5) على مرارة الأقدار بالحديث القدسي "لا يزالُ العبدُ يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَه، فإذا أحببتُه كنت سمعَهُ الذي يسمعُ به، وبصره الذي يبصرُ به" (¬6). 26 - وقد استشهد ابن الجوزي في تربية الإرادة بعد الوقوع في المعصية (¬7) بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلتُ يا رسولَ الله أيُ ذنبٍ أعظمُ؟ قال: أن تجعلَ للهِ ندًّا وهو خلقَك. قلت: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتلَ ولدَك من أجلِ أن يطعمَ معك. قلت: ثم أيُّ؟ قال: أن تزاني حليلةَ جارك" (¬8). ¬

_ = ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني، ص 807، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، حديث رقم 165. (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 280. (¬2) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث، ص 597، كتاب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها، حديث رقم 1773. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثاني، ص 983، كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، حديث رقم 437 - (1349). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 104. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2013، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، حديث رقم 105. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 95. (¬6) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الحادي عشر، ص 340 - 341، كتاب الرقاق، باب التواضع حديث رقم 6502. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 280. (¬8) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الثالث

27 - وثّق ابن الجوزي تربية الإرادة بعد الوقوع في المعصية بالتوبة (¬1) النصوح، بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدهِ المؤمنِ من رجل نزَل بأرض دويّةٍ (مهلكة) معه راحلتُه، فطلبَها حتى أدرَكهُ الموتُ. قَال: أرجعُ إلى مكاني الذي أضللتُها فيه فأموتُ فيه، فأتى مكانه فغلبتْه عيناه، فاستيقظ فإذا راحلتُه عند رأسهِ عليها طعامُه وشرابُه وزاده وما يصلحُه، فاللهُ أشدُ فرحًا بتوبةِ عبدهِ المؤمن من هذا براحلتهِ وزادهِ" (¬2). 28 - صنف ابن الجوزي التائبين في صنفين من الناس، الصنف الأول هو الذي زاد ندمه (¬3)، وقوي مقته لنفسه، فرأى تعريضها للقتل ¬

_ = عشر، ص 491، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، حديث رقم 7520. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 90، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، حديث رقم 141 - (86). وقد روي هذا الحديث في الصحيحين بلفظ آخر ففي صحيح مسلم. عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك. قال قلت له: إن ذلك لعظيم. قال قلت: ثم أي؟ قال ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك". (¬1) المرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 25. (¬2) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري الجزء الحادي عشر، ص 102، كتاب الدعوات، باب التوبة، حديث رقم 6308. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2103، كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها، حديث رقم 3 - (2744). والحديث في الصحيحين بألفاظ مقاربة. ولفظ مسلم قال فيه: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن، من رجلٍ في أرض دوية مَهْلَكة معه راحلته. عليها طعامه وشرابه. فنام فاستيقظ وقد ذهبت. فطلبها حتى أدركه العطش. ثم قال: ارجع إلى مكاني الذي كنت فيه. فأنام حتى أموت. فوضع رأسه على ساعده ليموت. فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه: فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده". (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 360.

مباحا، وهذا ما فعل ماعز، وقد استشهد ابن الجوزي بقصته الواردة في الحديث فقال فيها: ". . . . عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كنتُ جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءهُ رجلٌ يقال له ماعزُ بن مالك فقال: يا نبيَ اللهِ إني قد زنيتُ وأنا أريدُ أن تطهَرني فطهرني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع. فلما كان من الغدِ أتاه أيضًا فاعترف عنده بالزنى. فقال له النبيُ - صلى الله عليه وسلم -: ارجع. ثم أرسلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومِه فسألَهُم عنه فقال: ما تعلمون من ماعزِ بن مالكٍ الأسلمي؟ هل ترون به بأسًا وما تنكرون من عقلهِ شيئًا؟ قالوا: يا نبي الله. ما نرى به بأسًا، ولا ننكرُ من عقله شيئًا. ثم عاد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الثالثةَ فاعترف عنده بالزنى وقال: يا نبيَ اللهِ طهرني. فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومِه أيضًا فسألهم عنه. فقالوا له كما قالوا في المرة الأُولى: ما نرى به بأسًا، وما ننكرُ من عقلهِ شيئًا. ثم رجعَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرابعة فاعترفَ عنده بالزنى، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فحفرَ له حفيرةٌ فجُعِلَ فيها إلى صدرهِ ثم أمرَ الناسَ أن يرجموه". وقال في هذا الحديث وحديث المرأة الغامدية: انفرد بإخراج الحديثين مسلم" (¬1). 29 - وفى الوسائل النفسية الإيحائية لتقوية الإرادة، وثّق ابن الجوزي كلامه (¬2) بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الثلاثةِ الذين دخلوا إلى غار، فانطبقت عليهم صخرةٌ، فقال أحدهم: "اللهم إنه كان لي أبوان وأولاد، فكنت أقفُ بالحليب على أبوي أسقيهما قبل أولادي، فإن كنت فعلتُ ذلك لأجلك فافرج عنا، فانفرج ثلثُ الصخرة. وقال الآخرُ: اللهم إني استأجرتُ أجيرًا فتسخطَ أجره: فاتجرت به، فجاء يومًا فقال: ألا تخافُ الله وتعطيني أجرتي؟ فقلت: انطلق إلى تلك البقرِ ورعاتهِا فخذها، فإن كنتُ فعلتُ ذلك لأجلك فافرج عنا فانفرج ثلثا الصخرة. فقال الآخر: اللهم إني علقتُ بنتَ عمٍ لي فلما دنوتُ منها قالت: اتقِ اللهَ ولا تفض الخاتمَ إلا بحقهِ، فقمتُ عنها. فإن كنت فعلتُ ذلك لأجلك فافرج عنا، فرفعت الصخرةُ وخرجوا" (¬3). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1323، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، حديث رقم 23. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 56. (¬3) أ - مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر،

30 - في التربية الأخلاقية (¬1)، وثّق ابن الجوزي رأيه بقوله: "وقد سئلت عائشةُ -رضي الله عنها- عن خُلُق رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خُلُقهُ القرآن. وهو في صحيح مسلم (¬2). وقد أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد (¬3). التعليق على الأحاديث الصحيحة التي استشهد بها ابن الجوزي في آرائه التربوبة: من خلال عرضنا للأحاديث السابقة التي استشهد بها ابن الجوزي، نلاحظ أنه اعتمد على الصحيحين (البخاري ومسلم) أو أحدهما، وقد أجمع جمهور العلماء على صحتهما، ولا تحتاج إلى نظر أو بحث، وذلك لأن الإمامين قد التزما "بإخراج الأحاديث الصحيحة بأسانيد نظيفة (سليمة) لا تحوي رجالًا ضعفاء أو متروكين، كما أنها خالية من العلل القادحة الخفية التي تقدح في صحة الحديث. فوجود الحديث في أحد الصحيحين يكفي للحكم على صحة الحديث، ولا حاجة إلى البحث في إسناده، لأن الغاية من البحث في الإسناد إنما هي الوصول إلى معرفة صحة الحديث أو عدم صحته" (¬4). وعلى ذلك فإننا نرى -في حدود بحثنا- أن ابن الجوزي قد ¬

_ = ص 404، كتاب الأدب، باب إجابة دعاءَ من برَّ والديه، حديث رقم 5974. ب - مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2099، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال، حديث رقم 100 - (2743). (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. زاد المسير في علم التفسير. الجزء الثامن، ص 328 - 329. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 513، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، حديث رقم 139 - (746). ففي حديث طويل أخرجه مسلم: قال حكيم بن أفلح: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن. . . ." إلى آخر هذا الحديث. (¬3) مرجع سابق، ابن حنبل، أحمد. المسند. الجزء السادس، ص 163. (¬4) الطحان، د. محمود. أصول التخريج ودراسة الأسانيد. الرياض، مكتبة الرشد، الطبعة الخامسة، 1403 هـ - 1983 م، ص 208.

استشهد بـ (30) حديثًا صحيحًا من إخراج الشيخين أو أحدهما، إلا أنه يلاحظ أنه لم يكن دقيقًا دائمًا في نقل ألفاظ الأحاديث. ب - الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بأحاديث نبوية وردت في كتب السنن الأربعة: سأقوم بعرض الأحاديث النبوية التي وثّق بها ابن الجوزي آراءه التربوية، وخرجها من كتب السنن الأربعة وهي سنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه وهذا في حدود بحثي وفي نطاق الكتب التي رجعت إليها من مؤلفات ابن الجوزي الكثيرة. وبعد ذكر الحديث سأبين درجته، لأنه لا يكفي مجرد وجود الأحاديث. في هذه الكتب للحكم بصحتها "لأن مؤلفيها لم يلتزموا بإخراج الصحيح وحده فيها" (¬1). 1 - وثّق ابن الجوزي رأيه في طبيعة خَلق الإنسان (¬2) بقوله: "وقد روى أبو موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن اللهَ خلقَ آدم من قبضة قبضَها من جميع الأرض. . . .". أخرج هذا الحديث أبو داود في سننه (¬3)، وأخرجه الترمذي،، "وقال فيه: هذا حديث حسن صحيح" (¬4). 2 - وقد وثّق ابن الجوزي علاجه التربوي لانفعال الحسد (¬5) بقوله: "فعن الزبير بن العوَّام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلَكم الحسد والبغضاءُ، والبغضاءُ هي الحالقةُ، حالقةُ الدينِ لا حالقةُ الشعرِ، والذي نفسُ محمدِ بيدهِ لا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أنبِّئكُم بشيءٍ إذا فعلتموه تحابيتم: أفشوا السلامَ بينكم". أخرج هذا الحديث ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 215. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 158. (¬3) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الخامس، ص 67، كتاب القدر، باب في القدر، حديث رقم 4693. (¬4) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح. وهو سنن الترمذي. الجزء الخامس، ص 204، كتاب تفسير القرآن، باب "ومن سورة البقرة"، حديث رقم 2955. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 107.

الترمذي وقال فيه: "هذا حديث قد اختلفوا في روايته عن يحيى بن أبي كثير. فروى بعضهم عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد عن مولى الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكروا فيه عن الزبير" (¬1). وقد أخرج هذا الحديث "الإمام أحمد بن حنبل في المسند عن طريق يعيش بن الوليد عن الزبير بن العوام" (¬2)، وكذلك أخرجه "في موضعين عن طريق يعيش بن الوليد عن مولَّى لآل الزبير بن العوام" (¬3). "والحديث ضعيف على كلا الحالين فالإسناد الأول منقطع لأن يعيش لم يدرك الزبير بن العوام، والإسناد الثاني فيه مولى آل الزبير وهو مجهول" (¬4). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه البزار وإسناده جيد" (¬5)، ولكن "إسناد البزَّار في سنده مولى آل الزبير وهو مجهول كما مر" (¬6). 3 - وقد ذكر ابن الجوزي (¬7) في علاج الغضب حديث أبي ذر فقال: "وروى أبو داود في سننه من حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا غضبَ أحدكُم وهو قائمٌ فليجلس، فإن ذهبَ عنه الغضبُ وإلّا فليضطجعْ". أخرج هذا الحديث أبو داود في سننه" (¬8)، وقال الهيثمي فيه: رواه أبو داود باختصار القصة دون ذكر أبي الأسود -رواه ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 664، كتاب صفة القيامة، باب 56، حديث رقم 2510. (¬2) مرجع سابق، ابن حنبل، أحمد. المسند. الجزء الأول، ص 164. (¬3) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 167. (¬4) ابن حنبل، أحمد. المسند. (تحقيق) شاكر، أحمد، محمد، دون ناشر وطبعة وتاريخ، الجزء الثالث، ص 6، حديث رقم (1412). (¬5) الهيثمي، نور الدين، علي بن أبي بكر. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. (تحرير الحافظين الجليلين) العراقي وابن حجر، بيروت، لبنان، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 1402 هـ - 1982 م، المجلد الثامن، ص 30، باب ما جاء في السلام وإفشائه. (¬6) الهيثمي، نور الدين، علي بن أبي بكر. كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة. (تحقيق) الأعظمي، حبيب الرحمن، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م، الجزء الثاني ص 419. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 110. (¬8) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الخامس، ص 141، كتاب الأدب، باب ما يقال عند الغضب، حديث رقم 4782.

أحمد (¬1) ورجاله رجال الصحيح" (¬2). 4 - وثّق ابن الجوزي العلاج التربوي للخوف من الموت عند مداخلة الشيطان (¬3) بقوله: "وقد نقل أبو داود من حديث أبي اليسرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "أعوذُ بك أن يتخبطني الشيطانُ عند الموتِ" (¬4). ولم يبين أبو داود درجة هذا الحديث، ولكن عند بيان منهجه في تخريج الأحاديث قال: "كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث. انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، وجمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض" (¬5). وقد قال الهيثمي فيه: "رواه أحمد وفيه إبراهيم بن إسحاق ولم أجد من وثقه. وبقية رجاله ثقات" (¬6) وقد صحّحه الشيخ الألباني (¬7). 5 - ذكر ابن الجوزي من ضمن علاج الخوف من الموت مراقبة الله تعالى في كل الأمور (¬8)، وقد وثق كلامه بقوله: وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "احفظِ اللهَ تجدْهُ تجاهَك، تعرّفْ إلى اللهِ في ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن حنبل، أحمد. المسند. الجزء الخامس، ص 152. (¬2) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الثامن، ص 70 - 71، كتاب الأدب، باب ما يقول ويفعل إذا غضب .. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 123. (¬4) أ - السجستاني، أبو داود، سليمان، بن الأشعث الأزدي. رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه. (حققها وعلق عليها) الصباغ، د. محمد، بيروت، المكتب الإِسلامي، الطبعة الثالثة، 1401 هـ، ص 27. ب - مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الثاني، ص 92، كتاب الصلاة، باب في الاستعاذة، حديث رقم 1552. (¬5) المرجع السابق (ب)، الجزء الأول، ص 10، من المقدمة. (¬6) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الثاني، ص 318، كتاب الجنائز، باب فيما يستعاذ فيه من الموتات. (¬7) مرجع سابق، الألباني. صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). المجلد الأول، ص 275، حديث رقم 1282. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 123.

الرخاءِ يعرفْك في الشدةِ". وقد أخرج هذا الحديث الترمذي وقال فيه: "هذا حديث حسن صحيح" (¬1). 6 - وفي التربية الصحية في تطهير البدن من الحدث الأكبر، قال ابن الجوزي: "وأما غسل الجنابة (¬2) فروى أبو داود من حديث علي - رضي الله عنه - أنه قال: من تركَ موضعَ شعرةٍ من جنابةٍ لم يغسلَها فُعِل به كذا وكذا من النار". أخرج هذا الحديث أبو داود في سننه (¬3)، وقال ابن الأثير في هذا الحديث إنه "من رواية حمّاد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان، عن علي - رضي الله عنه -، وإسناده صحيح، لأن حمادًا سمع من عطاء قبل اختلاطه" (¬4). وقال فيه الشوكاني: "وقال النووي ضعيف وعطاء قد ضُعِّف قبل اختلاطه، ولحماد أوهام، وفي إسناده أيضًا زاذان وفيه خلاف" (¬5) وقال الشيخ الألباني: ولكن العلماء "اختلفوا هل رواه قبل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 667، كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، حديث رقم 2516. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 218. (¬3) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الأول، ص 65، كتاب الطهارة، باب الغسل من الجنابة، حديث رقم 249. (¬4) أ - الجزري، مجد الدين، ابن الأثير. جامع الأصول في أحاديث الرسول. (تحقيق) الأرناؤوط، عبد القادر، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر التوزيع، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م، الجزء السابع، ص 280، الباب السادس في الغسل، الفرع الثاني في فرائضه وسننه وفيه ستة أنواع، النوع الأول في: كيفية الغسل، حديث رقم 5317. معنى الاختلاط: "فساد العقل، وعدم انتظام الأقوال والأفعال". ب - عتر، د. نور الدين. منهج النقد في علوم الحديث. دمشق، دار الفكر، الطبعة الثالثة 1401 هـ - 1981 م، ص 133. (¬5) الشوكاني، محمد، بن علي، بن محمد. نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار. بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ، المجلد الأول، ص 247، كتاب الطهارة، باب تعاهد باطن الشعور وما جاء في نقضها.

الاختلاط أو بعده، فلذا اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه، والحق الوقف عن تصحيحه وتضعيفه حتى يتبين الحال فيه" (¬1). وقال الشوكاني: "قال الحافظ وإسناده صحيح لأن من رواته عطاء بن السائب وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط" (¬2). 7 - ذكر ابن الجوزي في التربية الروحية، أن من صفات الروح أنها لا تنال لذة إلا بواسطةٍ (¬3)، موثقًا كلامه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنها في حواصلِ طيرٍ خضرٍ تعلُقُ من شجرِ الجنةِ". كما جاء في أحاديث الشهداء. وقد أخرج هذا الحديث ابن ماجه (¬4) في سننه. وقال فيه الشيخ الألباني "حديث صحيح" (¬5). 8 - ذكر ابن الجوزي في الوسائل المعينة على الصبر وتقوية الإرادة (¬6) قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن الدنيا تساوي (تعدل) عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ". أخرج هذا الحديث الترمذي، وقال فيه: "هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه" (¬7). وفي سنده عبد الحميد بن سليمان الخزاعي ¬

_ (¬1) الألباني، محمد ناصر الدين. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة. دون ناشر، طبعة عام 1398 هـ، المجلد الثاني، ص 332، حديث رقم 930. (¬2) مرجع سابق، الشوكاني. نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار. المجلد الأول، ص 247، كتاب الطهارة، باب تعاهد باطن الشعور وما جاء في نقضها. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 35. (¬4) مرجع سابق، ابن ماجه، أبو عبد الله، محمد، بن يزيد، القزويني. سنن الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه. (حققه وصنع فهارسه بالكمبيوتر) الأعظمي, محمد, مصطفى الجزء الأول ص 267، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر، حديث رقم 1448. (¬5) مرجع سابق، الألباني. صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). المجلد الأول، ص 325، حديث رقم 1560. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 93. (¬7) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. الجزء الرابع، ص 560، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، حديث رقم 2320.

"الضرير وهو أخو فليح وهو ضعيف" (¬1). وقال المناوي بعد أن نقل قول الترمذي عن الحديث بأنه صحيح غريب: "وليس كما قال ففيه عبد الحميد بن سليمان أورده الذهبي في الضعفاء، وقال أبو داود غير ثقة، ورواه ابن ماجة أيضًا وفيه عنده زكريا بن منظور، قال الذهبي في الضعفاء منكر الحديث ورواه عنه الحاكم أيضًا وصححه، فردّه الذهبي بأن زكريا بن منظور ضعفوه" (¬2). لكن قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه البزار وفيه صالح مولى التوأمة وهو ثقة ولكنه اختلط وبقية رجاله ثقات" (¬3). وذكر المناوي أنه قد أخرجه الضياء المقدسي في المختارة" (¬4) فالحديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده، وقال الألباني فيه: "وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب" (¬5). 9 - ذكر ابن الجوزي الأسباب التي تدعو الإنسان للمعصية، فمنها التسويف بالتوبة (¬6)، وعلاجها المبادرة بالأعمال الصالحة، وقد وثّق كلامه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "صلِّ صلاة مودّع". هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه (¬7)، وقال الهيثمي فيه: "رواه الطبراني ¬

_ (¬1) العسقلاني، ابن حجر. تقريب التهذيب. (تحقيق) عبد اللطيف، عبد الوهاب، بيروت، دار المعرفة، دون طبعة وتاريخ، المجلد الأول، ص 468. (¬2) أ - المناوي، محمد، عبد الرؤوف. فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دون طبعة وتاريخ، الجزء الخامس، ص 329. ب - الذهبي، الحافظ. التلخيص بذيل المستدرك على الصحيحين. (إشراف) المرعشلي، د. يوسف، عبد الرحمن، بيروت، دار المعرفة، دون طبعة وتاريخ، الجزء الرابع، ص 306، كتاب الرقاق، باب من اغتنم خمسًا قبل خمس. (¬3) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد العاشر، ص 288، كتاب الزهد باب هوان الدنيا على الله. (¬4) مرجع سابق، المناوي. فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير. الجزء الخامس، ص 328. (¬5) الألباني، محمد، ناصر الدين. سلسلة الأحاديث الصحيحة. دمشق، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1399 هـ - 1979 م، المجلد الثاني، ص 307. (¬6) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 351. (¬7) مرجع سابق، ابن ماجه. سنن الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه. الجزء الثاني، ص 420، أبواب الزهد، باب الحكمة، حديث رقم 4223.

ورجاله ثقات" (¬1). 10 - بيَّن ابن الجوزي أن الطريق الموصل إلى محبة الله تعالى (¬2) يكون في مخالفة الهوى واجتناب إرضاء الخلق في معصية الله تعالى، وقد استشهد بالحديث فقال: "وفي الحديث: من أرضى الناسَ بسخطِ اللهِ عاد حامده من الناس ذامًا". أخرج هذا الحديث الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- بقوله: "من التمسَ رضا اللهِ بسخطِ الناسِ كفاهِ اللهُ مؤنةَ الناسِ، ومن التمسَ رضاء الناسِ بسخطِ اللهِ وكلهُ اللهُ إلى الناسِ" (¬3). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من طلب محامد الناس بمعاصي اللهِ عادَ حامدُه له ذاما -قلت له عند الترمذي من التمس رضا الناسِ بسخطِ اللهِ سخطَ اللهُ عليه وأسخطَ الناسَ عليه، رواه البزار من طريق قطبة بن العلاء عن أبيه وكلاهما ضعيف" (¬4). وقد صحح الشيخ الألباني حديث الترمذي وأبي نعيم، في الحِلْيَة عن عائشة -رضي الله عنها-" (¬5). التعليق على الأحاديث التي استشهد بها ابن الجوزي في آرائه التربوية: من خلال عرضنا للأحاديث السابقة التي استشهد بها ابن الجوزي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد العاشر، ص 236، كتاب الزهد، باب منه في المواعظ. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 451. (¬3) مرجع سابق، الترمذي. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. (تحقيق) عوض، إبراهيم، عطوة، الجزء الرابع، ص 610، كتاب الزهد، باب ما جاء في اللسان، حديث رقم 2414. (¬4) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد العاشر، ص 224 - 225، كتاب الزهد، باب فيمن يرضي الناس بسخط الله. (¬5) مرجع سابق، الألباني. صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). المجلد الثاني، ص 1040، حديث رقم 6010. وقد ورد بلفظ "من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس".

من كتب السنن الأربعة، وبعد تخريجها والحكم بصحتها، نلاحظ أنها بلغت عشرة أحاديث، سبعة أحاديث منها صحيحة، وحديثان حسنان، وحديث واحد ضعيف. جـ - الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بأحاديث نبوية وردت في مسند الإمام أحمد وذلك في حدود ما استخرجته من الكتب التي درستها من مؤلفاته: سأقوم بعرض الأحاديث النبوية التي وثق بها ابن الجوزي آراءه التربوية، وهي في مسند الإمام أحمد بن حنبل، ثم أذكر درجة الحديث من حيث الصحة والضعف، فقد ذكر الحافظ بن كثير شأن المسند بقوله: "يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيء كثير مما يوازي كثيرًا من أحاديث مسلم، بل والبخاري أيضًا، وليست عندهما ولا عند أحدهما، بل ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة، وهم: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه" (¬1). ثم علق على أحاديثه في الكتاب نفسه بقوله: "وأما قول الحافظ أبي موسى محمد بن أبي بكر المديني عن مسند الإمام أحمد: إنه صحيح: فقول ضعيف؛ فإن فيه أحاديث ضعيفة، بل وموضوعةً، كأحاديث فضائل مرو، وعسقلان، والبِرْث الأحمر عند حمص، وغير ذلك، كما قد نبه عليه طائفة من الحفاظ" (¬2). وقد قام الشيخ أحمد محمد شاكر بإحصاء عدد الأحاديث الصحيحة والضعيفة في المجلد الأول من المسند وأقل من ثلث المجلد الثاني من الطبعة القديمة، فقال في ذلك: "وهذه الأجزاء التسعة استوعبت المجلد الأول وأقل من ثلث المجلد الثاني من الطبعة القديمة، وكان مجموع ما فيها من الأحاديث بالإحصاء الدقيق 6511 حديثًا، الصحيح منها 5733 حديثًا، والضعيف 778 حديثًا. أي أن نسبة ¬

_ (¬1) ابن كثير، الحافظ. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث. (شرح الاختصار) شاكر، أحمد، محمد، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، الطبعة الثانية، 1370 هـ - 1951 م، ص 27. (¬2) المرجع السابق، ص 32 - 33.

الضعيف فيها إلى مجموع الأحاديث أقل من 12 %. وهي نسبة ضئيلة محتملة. خصوصًا إذا لاحظنا أن أكثر ضعف الضعيف منها ضعف محتمل غير بالغ الدرجة القصوى من الضعف، إلا في القليل النادر الذي لا يكاد يذكر" (¬1). وهناك الكثير من الآراء التي قيلت في مسند الإمام أحمد، ولا داعي لذكرها، حتى لا أخرج عن موضوع البحث، ويكفيني البحث عن درجة صحة الأحاديث التي وردت في كتب ابن الجوزي التي أدرسها. 1 - بيَّن ابن الجوزي أن من كمال العقل وبعد النظر أن يعرف الإنسان كيف ينفق ماله (¬2) بطريقةٍ تسدّ ضرورات يومه وتوافق ظروف مستقبله، وقد وثّق كلامه بقوله: "وعن أبي الدرداء مرفوعًا: من فقهِ الرجلِ بعدُ النظرِ في معيشته. وقد روي موقوفًا". أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من فقهِ الرجلِ رفقهُ في معيشتهِ" (¬3). قال الهيثمي فيه؛ "رواه أحمد وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط" (¬4). وأبو بكر بن أبي مريم هو: "أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغسَّاني الشامي، وقد يُنسب إلى جده، قيل اسمه بكير، وقيل عبد السلام. قال الحافظ ابن حجر: ضعيف. وكان (أبو بكر بن أبي مريم) قد سُرق بيته فاختلط" (¬5). وقال الذهبي: "ضعّفوه، له علم وديانة" (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 28. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. اللطائف والطب الروحاني. (تحقيق) عطا، عبد القادر، أحمد، ص 104. (¬3) مرجع سابق، ابن حنبل، أحمد. المسند. الجزء الخامس، ص 194. (¬4) مرجع سابق، الهيثمي، نور الدين، علي، بن أبي بكر. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. (تحرير الحافظين الجليلين) العراقي وابن حجر، المجلد الرابع، ص 74، باب الرفق في المعيشة. (¬5) مرجع سابق، العسقلاني، ابن حجر. تقريب التهذيب. (تحقيق) عبد اللطيف، عبد الوهاب، المجلد الثاني، ص 398. (¬6) الذهبي. الكاشف معرفة من له رواية في الكتب الستة. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983 م الجزء الثالث. ص 275.

"وضعفه غير واحد من الأئمة" (¬1). وقد نبه الشيخ الألباني إلى علة أُخرى في الحديث وهي الانقطاع فقال: "ثم هو منقطع لأن ضمرة لم يسمع من أبي الدرداء كما أفاده الذهبي. فإن بين وفاتيهما نحو مائة سنة" (¬2). 2 - وثق ابن الجوزي رأيه في حب الرياسة في الدنيا دون التفكر في عواقبها (¬3)، بقوله: "وروي عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما من رجل يلي أمرَ عشرةِ فما فوقَ ذلك إلا أتى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مغلولًا يومَ القيامةِ يدُه الى عنقهِ، فَكَّه برُّهُ، أو أوبقَه إثمُه، أولُها ملامةٌ، وأوسطُها ندامةٌ، وآخرُها خزيٌ يومَ القيامة". أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في المسند (¬4)، وقال الهيثمي فيه: "يزيد بن أبي مالكٍ وثقه ابن حبان وغيره وبقية رجاله ثقات" (¬5). ويزيد بن أبي مالك هو: "يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الهمذاني الدمشقي. قال عنه الحافظ ابن حجر: صدوق ربما يهم" (¬6)، فحديثه من قبيل الحسن. ونص الذهبي على توثيق أبي حاتم له" (¬7). وقال الشيخ الألباني حديث حسن" (¬8). ¬

_ (¬1) أ - الجوزجاني، أبو إسحاق، إبراهيم، بن يعقوب. أحوال الرجال. (تحقيق) السامرائي، السيد، صبحي، البدري، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م، الجزء الثاني، ص 172. ب - البستي، محمد، بن حيان، بن أحمد، التميمي. المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين. (تحقيق) زايد، محمود، إبراهيم، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ، الجزء الثالث، ص 146. (¬2) مرجع سابق، الألباني، محمد، ناصر الدين. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة. المجلد الثاني, ص 33, حديث رقم 556. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي, أبو الفرج, عبد الرحمن. اللطائف والطب الروحاني. (تحقيق) عطا، عبد القادر، أحمد، ص 101. (¬4) مرجع سابق، ابن حنبل. المسند. الجزء الخامس، ص 267. (¬5) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الخامس، ص 205، كتاب الخلافة، باب فيمن ولي شيئًا. (¬6) مرجع سابق، العسقلاني. تقريب التهذيب. المجلد الثاني، ص 368. (¬7) مرجع سابق، الذهبي. الكاشف معرفة من له رواية في الكتب الستة. الجزء الثالث، ص 247. (¬8) أ - مرجع سابق، الألباني. صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). المجلد الثاني، ص 997، حديث رقم 5718.

3 - وثق ابن الجوزي -أيضًا- رأيه التربوي في حب الرياسة في الدنيا دون التفكر في عواقبها بقوله: "وعن أبي هريرة مرفوعًا: "ويلٌ للأمراءِ، ويلٌ للعرفاءِ، ويلٌ للأمناءِ، ليتمنينَّ أقوامٌ يومَ القيامةِ أن ذوائبَهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماءِ والأرضِ ولم يكونوا عملُوا على شيء". أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده (¬1)، وقال الشيخ الألباني: إسناده ضعيف" (¬2). وفصل القول في بيان ضعف الحديث، لأنه يدور على عباد بن أبي علي، وهو كما قال ابن حبان: مولى أبي رهم الغفاري". فقال في تخريجه: "وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"! ووافقه الذهبي! وهذا من عجائبه، فإنه أورد عبادًا هذا في الميزان لهذا الحديث وقال: "وهذا حديث منكر، وقد علق له البخاري وحدث عنه حماد بن زيد. قال ابن القطان: لم تثبت عدالته". وأبو حازم هذا كنت ظننت قديمًا أنه سلمان أبو حازم الأشجعي الكوفي، فلما وقفت على الحديث عند ابن حبان، تبين لي أنني كنت واهمًا، وأنه غيره، وليس من رجال الشيخين، بل لم يوثقه غير ابن حبان وابن عبد البر. ولم يوثقه الحافظ بل قال في التقريب: مقبول. يعني عند المتابعة، وإلا فليّن الحديث. ومما سبق تعلم أن قول المنذري في الترغيب (1/ 279): رواه أحمد من طرق رواة بعضها ثقات". بعيد عن الصواب، وكذا قول الهيثمي في المجمع: "رواه أحمد ورجاله ثقات في طريقين من أربعة، ورواه أبو يعلى والبزار" (¬3) فإنهما يوهمان أن له أكثر من طريق واحد عن أبي هريرة، مع أنه ليس له عند أحمد ولا عند غيره ممن خرَّجنا عنه غير الطريق المذكورة، كما يوهمان أن ثقة رجاله مما يعتد به، مع ما علمت من جهالة ¬

_ = ب - مرجع سابق، الألباني. سلسلة الأحاديث الصحيحة. المجلد الأول، ص 74، حديث رقم 349. (¬1) مرجع سابق، ابن حنبل. المسند. الجزء الثاني، ص 352. (¬2) التبريزي، محمد، بن عبد الله، الخطيب. مشكاة المصابيح. (تحقيق) الألباني محمد، ناصر الدين، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1405 هـ - 1985 م، الجزء الثاني، ص 1093، كتاب الإمارة والقضاء، حديث رقم 3698. (¬3) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الخامس، ص 200، كتاب الخلافة، باب كراهة الولاية ولمن تستحب.

حال عباد بن أبي علي، وأزيد هنا فأقول: لم يوثقه غير ابن حبان، ولذلك لم يعتد الحافظ به فقال فيه: "مقبول" وقد عرفت أنه يعني أنه لين الحديث عند التفرد كما هو الشأن هنا" (¬1) وعلى هذا فالحديث ضعيف .. 4 - وثق ابن الجوزي علاج انفعال الغضب (¬2) بحديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا غضبَ أحدكُم فليسكتُ". أخرج هذا الحديث الإمام أحمد من طريق شعبة عن ليث عن طاووس عن ابن عباس، وفي هذه الرواية تصريح ليث بالسماع من طاووس فقد قال "سمعت طاووسًا" (¬3)، وأخرجه أحمد من حديث ابن عباس أيضًا من طريق سفيان عن ليث عن طاووس عن ابن عباس، وذلك في موضعين ليس فيهما تصريح بالسماع (¬4) , وكذا أخرجه البزار من طريق ليث من غير تصريح بالسماع (¬5)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد في موضعين أحدهما فيه تصريح بالسماع (¬6). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات لأن ليثًا صرح بالسماع من طاووسٍ" (¬7). وهذا فيه نظر لأن ليثًا فيه ضعف بل قد ضعفه الهيثمي نفسه حيث قال عن الحديث نفسه في موضع آخر: "رواه أحمد والبزار وفيه ليث بن أبي سليمٍ وهو ضعيف" (¬8). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الألباني، محمد، ناصر الدين. غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام. بيروت، المكتب الإِسلامي، الطبعة الثالثة، 1405 هـ - 1985 م، ص 128. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 110. (¬3) مرجع سابق، ابن حنبل. المسند. الجزء الأول, ص 239. (¬4) المرجع السابق، الجزء الأول، ص 283، 365. (¬5) مرجع سابق، الهيثمي. كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة. (تحقيق) الأعظمي، حبيب الرحمن، الجزء الأول، ص 90. (¬6) مرجع سابق، البخاري، محمد، بن إسماعيل. الأدب المفرد. بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ، ص 191 باب يسكت إذا غضب. وص 38، وص 95 باب العفو والصفح عن الناس. (¬7) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الثامن، ص 70، كتاب الأدب، باب ما يقول ويفعل إذا غضب. (¬8) المرجع السابق، المجلد الأول، ص 131، كتاب العلم، باب في قوله علموا ويسروا.

وقال الألباني: "وهذا سند ضعيف، ليث كان اختلط" (¬1). وليث قال عنه الحافظ ابن حجر: "صدوق اختلط أخيرًا ولم يتميز حديثه فتُرِك" (¬2). وقال أحمد: "مضطرب الحديث ولكن حدَّث عنه الناس" (¬3)، وضعّفه الجوزجاني فقال: "يضعَّف حديثه ليس بثبتٍ" (¬4) وكذا النسائي قال: "ضعيف" (¬5)، وقال يحيى بن معين: "ليس حديثه بذاك، ضعيف" (¬6). فالحديث ضعيف لكن ذكر له الألباني شاهدًا بإسنادٍ حسنٍ وقال في آخر كلامه: "فالحديث صحيح إن شاء الله تعالى" (¬7)، ومراده صحيح بمجموع الطرق والشواهد. 5 - وثّق ابن الجوزي رأيه في أهمية التفكر في ظاهرة الموت (¬8)، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نفسُ المؤمنِ طائرٌ تعلُقُ في شجرِ الجنةِ حتى يردَّهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إلى جسدهِ يوم يبعثه. . . .". ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الألباني، محمد، ناصر الدين. سلسلة الأحاديث الصحيحة. الريإض، مكتبة المعارف، الطبعة الرابعة 1408 هـ - 1988 م، المجلد الثالث، ص 363، حديث رقم 1375. (¬2) مرجع سابق، العسقلاني. تقريب التهذيب. المجلد الثاني، ص 138. (¬3) ابن حنبل، أحمد. العلل ومعرفة الرجال. (تعليقات وحواشي) د. قوج بكيت، طلعت، وجراح أوغلي، د. إسماعيل، استانبول، المكتبة الإِسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1987 م، الجزء الأول، ص 400. (¬4) مرجع سابق، الجوزجاني. أحوال الرجال. الجزء الثاني، ص 91. (¬5) النسائي، أبو عبد الرحمن، أحمد، بن شعيب. الضعفاء والمتروكون. (تحقيق) الضنّاوي، بوران والحوت، كمال، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م، ص 209. (¬6) الرازي، عبد الرحمن، المنذر، التميمي. كتاب الجرح والتعديل. حيدر آباد الدكن - الهند، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الأولى، 1372 هـ - 1952 م، المجلد السابع، ص 178. (¬7) مرجع سابق، الألباني. سلسلة الأحاديث الصحيحة. المجلد الثالث، ص 364، حديث رقم 1375. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 272.

هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند بلفظ "إنما نسمة المسلم طير. . . ."، من حديث كعب بن مالك (¬1)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح" (¬2). وقال الألباني فيه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين" (¬3). 6 - وفي التربية الروحية، وثّق ابن الجوزي رأيه في سنن الفطرة (¬4) بقوله: "قال مجاهد: أبطأ الملكُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أتاهُ فقال: لعلِّي أبطأتُ؟ قال: قد فعلتَ. قال: وماليَ لا أفعلُ وأنتم لا تتسوكونَ ولا تقصونَ أظفاركم ولا تنقُّون براجمَكم" (¬5). أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6) بلفظ: "أنه قيل له يا رسول الله لقد أبطأ عنك خبر جبريلُ -عليه السلامُ- فقال: ولم لا يبطئ عني وأنتم حولي لا تستنّون ولا تقلّمون أظفارَكم ولا تقصون شواربكم ولا تنقّون رواجبَكم" (¬7). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه أحمد والطبراني وفيه أبو كعب مولى ابن عباس، قال أبو حاتم: "لا يعرف إلا في هذا الحديث. رواه ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن حنبل. المسند. الجزء الثالث، ص 455. (¬2) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الثاني، ص 329، كتاب الجنائز باب في الأرواح. (¬3) مرجع سابق، الألباني. سلسلة الأحاديث الصحيحة. المجلد الثاني، ص 730، حديث رقم 995، وقد أورده بلفظ: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يبعثه الله إلى جسده يوم القيامة". (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 218. (¬5) البراجم: جمع بُرجُمة، وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها. أخذ معنى البراجم من هامش مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 223، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة. (¬6) مرجع سابق، ابن حنبل. المسند. الجزء الأول، ص 243. (¬7) مرجع سابق، معنى رواجبكم: "الرواجب: مفاصل أصول الأصابع التي تلي الأنامل، وقيل: هي بواطن مفاصل أصول الأصابع،. . . وفي الحديث: "ألا تنقون رواجبكم؟ هي ما بين عقد الأصابع من داخل، وأحدها راجبة". ابن منظور. لسان العرب. المجلد الأول، ص 413.

الطبراني ورجاله ثقات" (¬1). وقال في هذا الحديث الشيخ أحمد شاكر: "إسناده حسن. أبو كعب مولى ابن عباس: لم أجد فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهو تابعي حاله على الستر، حتى يتبيّن، فلذلك حسَّنَّا الحديث" (¬2). التعليق على الأحاديث التي استشهد بها ابن الجوزي في آرائه التربوية: من خلال عرضنا للأحاديث الستة السابقة التي استشهد بها ابن الجوزي من مسند الإمام أحمد بن حنبل، وبعد تخريج الأحاديث والحكم بصحتها، كانت كالآتي: حديثان صحيحان، وحديثان حسنان، وحديثان ضعيفان. د - الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بأحاديث قد تكون صحيحة أو حسنة أو ضعيفة أو موضوعة وهي أحاديث خارج نطاق الكتب السبعة السابقة غالبًا: سأعرض الأحاديث النبوية التي وثّق بها ابن الجوزي آراءه التربوية -وذلك في حدود كتبه التي درستها بل في حدود ما استخرجته من هذه الكتب- ومن المعلوم أن كتبه كثيرة جدًا، بل هناك أحاديث لم أهتدِ إلى أي مرجع لها، ولم تُذكر في أحد الكتب السبعة السابقة وهي ما بين صحيح أو حسنٍ أو ضعيفٍ أو موضوع. 1 - ذكر ابن الجوزي سبعة أمور لعلاج الهوى، منها أن يتفكر فيما يطلبه من اللذات فسيخبره العقل أنه ليس بشيءٍ وإنما عين الهوى عمياء (¬3)، ثم استشهد بقوله: "وفي الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه - "إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر مناتنها". وذكر الحديث نفسه في ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الخامس، ص 167، كتاب اللباس باب في تقليم الأظفار وغير ذلك. (¬2) مرجع سابق، ابن حنبل. المسند. الجزء الرابع، ص 32، حديث رقم 2181. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 15.

موضع آخر بقوله: "إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر مثالبَها". وهذا الحديث بحثت عنه، فلم أقف عليه في كتب الحديث رغم المراجعة والتتبع للأمهات والمجاميع الموسوعية من كتب الحديث وغيرها (¬1). 2 - ذكر ابن الجوزي رأيه التربوي في علاج انفعال الحزن (¬2) وقال: "وجاء في الحديث: بقيةُ عمرِ المؤمنِ لا قيمَة له إن لم يستدركْ فيه ما فاتَ". هذا الحديث بحثت عنه، فلم أقف عليه في كتب الحديث. 3 - وثّق ابن الجوزي بحديثٍ شريف العلاج التربوي من أجل إعلاء الدافع الجنسي للبالغ وذلك عن طريق الزواج الشرعي، فقال: "فقد جاء في الحديث من بلغَ له ولدٌ أمكنه أن يزوجَه فلم يفعل فأحدثَ الولدُ إثمًا كان الإثمُ بينهما" (¬3). هذا الحديث عزاه المتقي الهندي في: منتخب كنز العمال إلى مسند الديلمي من حديث ابن عباس بلفظ (¬4)، وذكره الديلمي في كتاب الفردوس بمأثور الخطاب من حديث أبي أمامة (¬5). أورده الألباني بلفظ: "من ولدَ له مولودٌ فليحسنْ أدبَه واسمه، فإذا بلغَ فليزوجه، فإن بلغ ولم يزوجه فأصابَ إثمًا باءَ بإثمه". وقال فيه: ¬

_ (¬1) أسماء الكتب: 1 - كتاب الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير. للسيوطي. 2 - كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. لابن الربيع الشيباني. 3 - كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة من الأخبار الشنيعة الموضوعة. للكناني. 4 - كتاب الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. للشوكاني. 5 - كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة. للألباني. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 118. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". المطبوع ضمن رسائل باسم كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 59. (¬4) مرجع سابق، الهندي، المتقي. منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال على حواشي مسند الإمام أحمد. الجزء السادس، ص 435. (¬5) الديلمي، أبو شجاع، شيرويه، بن شهرزاد، بن شيرويه، الهمداني. الفردوس بمأثور الخطاب. (تحقيق) زغلول، السعيد، بسيوني، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م، الجزء الثالث، ص 486، حديث رقم 5507.

ضعيف. رواه ابن بكير الصيرفي في فضائل من اسمه أحمد ومحمد، من حديث ابن عباس وأبي سعيدٍ الخدري مرفوعًا وضعفه لأن في سنده شدادًا بن سعيد الراسبي" (¬1). وقد ذكره العقيلي فقال عنه: "قال البخاري: ضعفه عبد الصمد ولكنه صدوق في حفظه بعض الشيء، قال العقيلي: وله غير حديث لا يتابع على شيء منها" (¬2). وقال الإمام أحمد: "أبو طلحة شداد شيخ ثقة، وعن يحيى بن معين قال: شداد بن سعيد الراسبي ثقة" (¬3). وقال الذهبي: "وثقه أحمد وغيره وضعفه من لا يعلم" (¬4). وقال ابن حجر: "صدوق يخطئ" (¬5). فالحديث يعتبر ضعيفًا. 4 - وثق ابن الجوزي رأيه في المحافظة على البالغ، إذا لم يتيسر له الزواج، أن يغض بصره (¬6)، فقال: قيل: "النظرُ إلى المرأةِ سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليس من تركه ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ أعطاهُ اللهُ إيمانًا في قلبه يجدُ حلاوتَه". أخرج هذا الحديث "الحاكم في المستدرك، من حديث حذيفة. وقال فيه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" (¬7). وتعقبه الذهبي ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الألباني. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة. المجلد الثاني، ص 163 - 164، حديث رقم 737. (¬2) العقيلي، أبو جعفر، محمد، بن عمرو، بن موسى، بن حماد. الضعفاء الكبير. (تحقيق) قلعجي، د. عبد المعطي، أمين، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م، الجزء الثاني، ص 185. (¬3) مرجع سابق، الرازي، عبد الرحمن، بن محمد، بن إدريس، بن المنذر، التميمي. كتاب الجرح والتعديل. المجلد الرابع، ص 330. (¬4) مرجع سابق، الذهبي. الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. الجزء الثاني، ص 6. (¬5) مرجع سابق، العسقلاني. تقريب التهذيب. المجلد الأول، ص 347. (¬6) ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 60. (¬7) مرجع سابق، النيسابوري. المستدرك على الصحيحين. الجزء الرابع، ص 314، كتاب الرقاق. وقد ورد بلفظ: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه إيمانًا يجد حلاوته في قلبه".

بقوله: إسحاق واهٍ وعبد الرحمن هو الواسطي ضعفوه" (¬1). وجاء في التقريب: "هو عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي. ضعيف" (¬2). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث ابن مسعود وقال: "رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف. وقد ورد بلفظ: "النظرةُ سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إِبليسَ من تركها مخافتي أبدلتُه إيمانًا يجدُ حلاوتُه في قلبه" (¬3). 5 - وثق ابن الجوزي رأيه في تربية الإرادة قبل الوقوع في المعصية بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ يبغضُ الشيخَ الزانيَ" (¬4). هذا جزء من حديث طويل أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وأوله: "ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله. . . ."، وقال فيه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" (¬5). ووافقه الإمام الذهبي، فقال فيه: "صحيح على شرطهما" (¬6). 6 - وثّق ابن الجوزي رأيه في الثواب والعقاب بقوله: قال ابن عباس: "عرامةُ الصبي في صغرهِ زيادةٌ في عقلِهِ في كبرهِ" (¬7) وقد ذكره المتقي الهندي في منتخب كنز العمال وقال فيه: "الحكيم عن عمرو بن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الذهبي، الحافظ. التلخيص بذيل المستدرك على الصحيحين. الجزء الرابع، ص 314، كتاب الرقاق، باب النظر سهم من سهام إبليس مسمومة. (¬2) مرجع سابق، العسقلاني. تقريب التهذيب. المجلد الأول، ص 472. (¬3) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الثامن، ص 63، كتاب الأدب، باب غض البصر. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 281. (¬5) مرجع سابق، النيسابوري. المستدرك على الصحيحين. الجزء الأول، ص 417، كتاب الزكاة، باب الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى والثلاثة الذين يبغضهم. ولفظه عند الحاكم: "الثلاثة الذين يبغضهم الله الشيخ الزاني والفقير المختال والغني الظلوم". (¬6) مرجع سابق، الذهبي. التلخيص بذيل المستدرك على الصحيحين. الجزء الأول، ص 417، كتاب الزكاة، باب الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى والثلاثة الذين يبغضهم. (¬7) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134.

معديكرب أبو موسى المديني في أماليه عن أنس" (¬1) وقال فيه السيوطي: "حديث صحيح" (¬2). وقد ضعفه الشيخ الألباني (¬3). 7 - بيَّن ابن الجوزي أن وجود الله تعالى يتجلى من خلال مخلوقاته (¬4)، ووثّق رأيه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تفكرُوا في خلقِ الله ولا تتفكروا في اللهِ، فإنكم لن تقدُروا قدرِه". أخرجه "أبو الشيخ في كتاب العظمة، باب الأمر بالتفكر في آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- وقدرته وملكه وسلطانه وعظمته ووحدانيته، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وفي سنده انقطاع وجهالة فهو ضعيف" (¬5). وأخرجه "أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب وهو مرسل ضعيف" (¬6). وقد قال فيه الشيخ الألباني بعد عرض تخريجه وتضعيفه من جميع الجوانب: "وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي" (¬7). ولم يظهر لي وجه التحسين لأن جميع الطرق ضعفها شديد. 8 - أكد ابن الجوزي أهمية النية (¬8)، لأثرها في زيادة الإيمان، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الهندي، علي، المتّقي. منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال في هامش مسند الإمام أحمد بن حنبل. الجزء الأول، ص 239. (¬2) مرجع سابق، السيوطي. الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير. المجلد الثاني، ص 151. (¬3) مرجع سابق، الألباني. ضعيف الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). المجلد الرابع، ص 28، حديث رقم 3699. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الأول، ص 59. (¬5) الأصبهاني، أبو محمد، عبد الله، بن محمد، بن جعفر، بن حيان، أبو الشيخ. العظمة. (تحقيق) المباركفوري، رضاء الله، محمد، إدريس، الرياض، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1408 هـ، الجزء الأول، ص 216. (¬6) مرجع سابق، الأصبهاني، أبو القاسم، إسماعيل، محمد، بن الفضل، الجوزي. الترغيب والترهيب للأصبهاني. (خرج الأحاديث) زغلول، محمد، السعيد، بسيوني، و (راجعه) زايد، محمود، إبراهيم، بيروت - لبنان، مؤسسة الخدمات الطباعية حسيب درغام وأولاده، الجزء الأول، ص 289. (¬7) مرجع سابق، الألباني. سلسلة الأحاديث الصحيحة. المجلد الرابع، ص 396 - 397، حديث رقم 1788. (¬8) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 20.

مستشهدًا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "نيةُ المؤمنِ خير من عملهِ". أخرجه ابن الربيع الشيباني الشافعي الأثري بقوله: "رواه العسكري في الأمثال، والبيهقي في الشعب عن أنس به مرفوعًا، وقال ابن دحية لا يصح، وقال البيهقي إسناده ضعيف" (¬1) كذلك ضعفه الشيخ الألباني (¬2). وسيتم التعليق على هذه الأحاديث عند مناقشة الآراء التربوية الموثقة بأحاديث غير صحيحة. أحاديث العقل: وثّق ابن الجوزي آراءه في التربية العقلية بعددٍ من الأحاديث التي لم ترد في أي من الكتب الستة، لذلك صنَّفتُها مستقلة عن غيرها، لأن ابن الجوزي له رأي فيها، سأوضحه عند مناقشة الآراء التربوية الموثقة بأحاديث غير صحيحة، اجتنابًا للتكرار. وهذه هي الأحاديث وتخريجها! 9 - "عن ابن عباس قال: لما خلقَ اللهُ العقلَ. قال له أدبرْ فأدبرَ ثم قال له أقبل فأقبلَ. قال وعزتي ما خلقتُ خلقا قطُ أحسنَ منك؛ فبك أعطي وبك آخذُ وبك أعاقبُ" (¬3). ذكره ابن الجوزي نفسه في الموضوعات (¬4)، وذكره الشيباني الشافعي الأثري، وقال فيه: "قال ابن تيمية واتبعه غيره أنه موضوع كذب باتفاقٍ" (¬5). وقال الهيثمي فيه: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه الفضل بن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الأثري. كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. ص 185. (¬2) مرجع سابق، الألباني. الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). المجلد السادس، ص 17، حديث رقم 5988. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 3. (¬4) ابن الجوزي. الموضوعات. (تحقيق) عثمان، عبد الرحمن، محمد، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م، الجزء الأول، ص 174. (¬5) مرجع سابق، الأثري. كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. ص 43.

عيسى الرقاشي، وهو مجمع على ضعفه" (¬1). 10 - "عن ابن عباس أنه دخل على عائشة -رضي الله عنها-، فقال: يا أمَ المؤمنين أرأيتِ الرجلَ يقلُ قيامُه ويكثرُ رقادُه، وآخرُ يكثرُ قيامُه ويقلُ رقادُه. أيهما أحبُ إليك؟ قالت: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عما سألتني. فقال: أحسنهما عقلًا. فقلت: يا رسولَ الله. إنما أسألُك عن عبادتهِما، فقال: يا عائشةُ إنهما لا يُسألان عن عبادتهِما، إنما يُسألان عن عقولهما. فمن كان أعقلَ كان أفضلَ في الدنيا والآخرة" (¬2). ذكره ابن الجوزي في كتابه الموضوعات، "وقال فيه: هذا حديث لا يصح" (¬3). وذكره الشوكاني مختصرًا وقال فيه: "رواه الحارث في مسنده، وهو موضوع" (¬4). 11 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل سبيل مطيةً وثيقة ومحجةً واضحةً، وأوثقُ الناسُ مطيةً وأحسنهم دلالةً، ومعرفة بالمحجةِ الواضحة أفضلُهم عقلًا" (¬5). أخرج هذا الحديث "داود بن المحبر في كتاب العقل، وقال فيه الكناني: ومن طريقه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وكلها موضوعة كما قاله الحافظ ابن حجر في المطالب العالية" (¬6). 12 - "عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجلَ ليكونُ من أهل الصيامِ وأهلِ الصلاةِ وأهلِ الحجِ وأهلِ الجهادِ، فما يُجزى يومَ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الثامن، ص 28، كتاب الأدب باب ما جاء في العقل والعقلاء. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 6. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب الموضوعات. الجزء الأول، ص 176. (¬4) الشوكاني، محمد، علي. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. (تحقيق) اليماني، عبد الرحمن، يحيى، المعلمي، بيروت، دمشق، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1402 هـ، ص 477، برقم 1344. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 7. (¬6) الكناني، أبو الحسن، علي، بن محمد، بن عراق. تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة. (تحقيق) عبد اللطيف، عبد الوهاب، وعبد الله، محمد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م، المجلد الأول، ص 213.

القيامةِ إلا بقدرِ عقلهِ" (¬1). هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في كتابه الموضوعات بنحوه، وقال فيه: "هذا حديث ليس بصحيح. قال ابن حبان: منصور يروي المقلوبات لا يجوز الاحتجاج به" (¬2). وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه منصور بن صقيرٍ، قال ابن معين: ليس بالقوي، وسقط من الإسناد إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك" (¬3). 13 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد سبق إلى جناتِ عدنٍ أقوامٌ، ما كانوا بأكثرَ الناسِ صلاةً ولا صيامًا ولا حجًّا ولا اعتمارًا، ولكنهم عقلوا عن اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مواعظَه، فوجلت منهم قلوبهم، واطمأنت إليه النفوسُ، وخشعت منهم الجوارحُ، ففاقوا الخليقةَ بطيبِ المنزلةِ وحسنِ الدرجةِ عند الناسِ في الدنيا، وعند اللهِ في الآخرةِ" (¬4). وهذا الحديث عزاه المتَّقي الهندي إلى "ابن السني وابن شاهين والديلمي عن علي، كما في منتخب كنز العمال" (¬5). وذكره الديلمي في كتاب الفردوس بمأثور الخطاب (¬6)، وذكره صاحب كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة وقال فيه: "أخرجه سليمان بن عيسى السجزي في كتابه في العقل، وهو من وضعه" (¬7). 14 - "عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أولُ شيءٍ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 7. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب الموضوعات. الجزء الأول، ص 172. (¬3) مرجع سابق، الهيثمي. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. المجلد الثامن، ص 28، كتاب الأدب، باب ما جاء في العقل والعقلاء. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. مرجع سابق ص 7. (¬5) مرجع سابق، الهندي، المتقي. منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال المطبوع على حواشي مسند الإمام أحمد بن حنبل. الجزء الأول، ص 173. (¬6) مرجع سابق، الديلمي. الفردوس بمأثور الخطاب. الجزء الرابع، ص 360، حديث رقم 7035. (¬7) مرجع سابق، الكناني. تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة. المجلد الأول، ص 224.

خلقَه اللهُ القلمُ، ثم خلقَ النونَ، وهي الدواةُ، ثم قال: اكتب. قال: وما أكتبُ. قال: اكتب ما يكونُ وما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم خلقَ العقلَ. فقال: وعزتي لأكملنَّك فيمن أحببتُ ولأنقصنَّك ممن أبغضتُ" (¬1). وذكره الشوكاني وقال فيه: "قال ابن عدي: باطل منكر، آفته محمد بن وهب الدمشقي. وقال الذهبي في كتابه ميزان الميزان: صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل. وقد أخرجه الدارقطني في الغرائب من طريقه" (¬2). التعليق على الأحاديث التي استشهد بها ابن الجوزي في آرائه التربوية: يتضح لنا من تخريج الأحاديث الواردة في الفقرة (د)، وعددها أربعة عشر حديثًا، بعد معرفة درجة صحتها أو ضعفها، أنها كالآتي: حديث واحد صحيح وخمسة أحاديث ضعيفة بالإضافة إلى ستة أحاديث موضوعة، وحديث وأثر بحثت عنهما فلم أقف على تخريجهما. هـ - التقويم العام لجميع الأحاديث النبوية التي استشهد بها ابن الجوزي في حدود دراستنا وفي حدود الكتب التي رجعتُ إليها: حتى يكون التقويم مستندًا إلى حقائق علمية صحيحة، سأعطي تعريفًا مفيدًا موجزًا عن أقسام الحديث وحكم العمل بكل منها، في ضوء هذه التعاريف سيتم التقويم. أقسام الحديث: القسم الأول: الحديث الصحيح: هو: "الحديث المسند الذي يتصل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 3. (¬2) مرجع سابق، الشوكاني. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة. ص 478 - 479.

إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذًّا ولا معلّلًا" (¬1). وعرّفه الحافظ ابن كثير بقوله: هو "الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًا ولا معلّلًا" (¬2). أما تعريفه عند الإمام السيوطى فهو: "ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة" (¬3). وشروط هذا القسم تنطبق على صحيحي البخاري ومسلم. القسم الثاني: الحديث الحسن: وتعريفه: "هو ما اتصل سنده بنقل عدل خفيف الضبط، وسلم من الشذوذ والعلة" (¬4). هو مستفاد من كلام ابن حجر الذي قال فيه: "فإن خف الضبط، فالحسن لذاته، وبكثرة طرقه يُصحَّحُ" (¬5). وقال فيه ابن كثير: "هو في الاحتجاج به كالصحيح عند الجمهور" (¬6). وقد وضح د. صبحي الصالح الفرق بين الحديث الصحيح والحسن بقوله: "العدل في الحسن خفيف الضبط، بينما هو في الصحيح تام الضبط. وكلا التقسيمين سالم من الشذوذ والعلة. وكِلاهما يُحتج به ¬

_ (¬1) ابن الصلاح، أبو عمرو، عثمان، بن عبد الرحمن، الشهرزوري. مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث. بيروت، دار الكتب العلمية، طبعة عام 1398 هـ - 1978 م، ص 7 - 8. (¬2) شاكر، أحمد، محمد. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1370 هـ - 1951 م، ص 21. (¬3) مرجع سابق، السيوطي. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. الجزء الأول، ص 63. (¬4) الصالح، د. صبحي. علوم الحديث ومصطلحه عرض ودراسة. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الحادية عشر، 1979 م، ص 156. (¬5) العسقلاني، أحمد، بن علي، بن حجر. نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. جدة: مكتبة جدة، طبعة عام 1406 هـ، ص 33. (¬6) مرجع سابق، شاكر. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير. ص 37.

ويُستشهد بمضمونه" (¬1). وشروط هذا الحديث تنطبق على كتب السنن الأربعة ومسند الإمام أحمد بن حنبل في الغالب لأن فيها الصحيح والحسن وبعض الضعيف. القسم الثالث: الحديث الضعيف: وتعريفه: هو "ما لم يجمع صفة الصحيح أو الحسن" (¬2). أو بمعنى آخر "ما فقد شرطًا من شروط الحديث المقبول" (¬3)، وشروط الحديث المقبول ستة هي: "العدالة، الضبط (ولو لم يكن تامًّا)، الاتصال، فقد الشذوذ، فقد العلة القادحة، العاضد عند الاحتياج إليه" (¬4). ويتفرع من الحديث الضعيف أنواع متعددة، سنكتفي بذكر ما توصلنا إليه أثناء تخريج الأحاديث التي استشهد بها ابن الجوزي، وهي أربعة أنواع: المرسل والمنقطع والمتروك والمنكر، وتعريفها كالآتي: الحديث المرسل هو: "ما سقط من آخر إسناده من بعد التابعي" (¬5) و"المرسل في الأصل ضعيف مردود لفقده شرطًا من شروط القبول وهو اتصال السند، وللجهل بحال الراوي المحذوف لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي" (¬6). الحديث المنقطع: هو: "الحديث الذي سقط من إسناده رجل، أو ذكر فيه رجل مبهم" (¬7). والحديث المنقطع ضعيف "للجهل بحال الراوي المحذوف" (¬8). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الصالح. علوم الحديث ومصطلحه عرض ودراسة. ص 156. (¬2) مرجع سابق، السيوطي. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. الجزء الأول، ص 179. (¬3) مرجع سابق، عتر، د. نور الدين. منهج النقد في علوم الحديث. ص 286. (¬4) المرجع السابق، ص 286. (¬5) مرجع سابق، العسقلاني. نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. ص 41. (¬6) الطحان، د. محمود. تيسير مصطلح الحديث. الرياض، مكتبة المعارف، الطبعة الثامنة، 1407 هـ - 1987 م، ص 72. (¬7) مرجع سابق، الصالح. علوم الحديث ومصطلحه عرض ودراسة. ص 168. (¬8) مرجع سابق، الطحان. تيسير مصطلح الحديث. ص 78.

الحديث المتروك: "هو الحديث الذي رواه واحد متهم بالكذب في الحديث، أو ظاهر الفسق بفعلٍ أو قولٍ، أو كثير الغفلة، أو كثير الوهم" (¬1). والحديث المنكر: هو "الحديث الذي يرويه الضعيف مخالفًا لرواية الثقة. وهو يباين الشاذ، إذ إن راوي الشاذ ثقة، بينما راوي المنكر ضعيف غير ثقةٍ" (¬2). والمقصود بالشاذ هو "ما رواه الثقة مخالفًا الثقات .. وقد عرفه الإمام الشافعي بقوله: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي حديثًا يخالف ما روى الناس" (¬3). حكم رواية الحديث الضعيف والعمل به: حكم الحديث الضعيف روايةً وعملًا، كان مثار اختلافٍ كبير بين العلماء، "وقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غير بيان ضعفه بشروط: أولًا: أن يكون الحديث في القصص، أو في المواعظ، أو في فضائل الأعمال، ونحو ذلك مما لا يتعلق بصفات الله تعالى وما يجوز له ويستحيل عليه سبحانه، ولا بتفسير القرآن، ولا بالأحكام كالحلال والحرام وغيرهما. ثانيًا: أن يكون الضعف فيه غير شديد، فيخرَّج. من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، والذين فحش غلطهم في الرواية. ثالثًا: أن يندرج تحت أصلٍ معمولٍ به. رابعأ: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط (¬4). وقد علق المؤلف الشيخ أحمد شاكر على هذه الشروط بقوله: "والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الصالح. علوم الحديث ومصطلحه عرض ودراسة. ص 206. (¬2) المرجع السابق، ص 203. (¬3) مرجع سابق، ابن الصلاح. مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث. ص 36. (¬4) مرجع سابق، شاكر، أحمد، محمد. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير. ص 91.

لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصًا إذا كان الناقل له من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك، وأنه لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حديث صحيح أو حسن. وأما ما قاله أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك: "إذا روينا في الحلال والحرام شدَّدنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا "فإنما يريدون به -فيما أرجح، والله أعلم- أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم مستقرًا واضحًا، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو الضعف فقط" (¬1). وبناء على ما تقدم من حكم رواية الحديث الضعيف والعمل به، فيكون حكمي على الرأي التربوي لابن الجوزي صحيحًا إذا كان هناك ما يدعمه من حديث صحيح استشهد به مع بقية الأحاديث الضعيفة التي وثق بها رأيه، ويكون ضعيفًا إذا وثق بحديث ضعيف وكان الرأي مخالفًا للمنهج التربوي الإسلامي. أما إذا كان الحديث ضعيفًا والرأي التربوي صحيحا فيكون هذا الرأي صحيحًا. وأُفصِّل القول عند عرض الآراء التربوية التي استشهد بها بأحاديث ضعيفة ثم أعلق عليها. القسم الرابع: وهو الحديث الموضوع: الذي يختلقه الكذابون وينسبونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وتعريفه: "هو المختلق المصنوع، وهو شرّ الضعيف وتحرم روايته مع العلم به في أي معنى كان إلا مُبَيَّنًا" (¬2). وهناك أقسام أخرى لا داعي لذكرها حتى لا يطول البحث في بيان أقسامه التي لم ترد أثناء تخريج الأحاديث التي استشهد بها ابن الجوزي. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 92. (¬2) مرجع سابق، السيوطي. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. الجزء الأول، ص 274.

بعد هذه النبذة التعريفية بأقسام الحديث، وعرض الأحاديث النبوية التي استشهد بها ابن الجوزي في آرائه التربوية، ثم تخريجها ومعرفة درجة صحتها أو ضعفها، وجدت أن مجموع هذه الأحاديث ستون حديثًا (60). وقبل إعطاء النتيجة النهائية لهذه الأحاديث، أقوم الآن بمناقشة الآراء التربوية التي ثبت من خلال تخريج الأحاديث التي استشهدت بها أحاديث ضعيفة أو موضوعة أو لم أجدها في كتب التخريج، حتى أحدد إمكانية اعتبارها من الآراء التربوية الموافقة للفكر التربوي الإسلامي أم لا يمكن بسبب ضعف الحديث ومخالفة الرأي التربوي للشريعة الإسلامية وقواعدها الأصولية والفقهية، أما الآراء التربوية الموثقة بأحاديث صحيحة فلا تحتاج إلى مناقشة لأنها صحيحة وموافقة للفكر التربوي الإسلامي. و- مناقشة الآراء التربوية الموثقة بأحاديث غير صحيحة: 1 - وثق ابن الجوزي علاج دافع الحسد بأحاديث نبوية منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دب إليكم داءُ الأمم قبلكم الحسدُ والبغضاءُ، والبغضاءُ هي الحالقةُ، حالقةُ الدين لا حالقةُ الشعرِ، والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لا تؤمنوا حتى تحابُوا، أفلا أَنبئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحابيتُم: أفشُوا السلامَ بينكم" (¬1). وقد ثبت أن هذا الحديث ضعيف. فهل يعني هذا أن علاج ابن الجوزي للحسد حسب استشهاده بهذا الحديث مرفوض وغير صحيح؟ إن استشهاد ابن الجوزي بهذا الحديث الضعيف، لا يقلل من صحة رأيه التربوي في علاج الحسد لأنه وثق كلامه بحديث صحيح رواه الشيخان وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسدَ (المقصود به هنا الغبطة) إلا في اثنتين: رجل آتاهُ اللهُ -عز وجل- القرآنَ فهو يقومُ به آناءَ الليلِ والنهارِ، ورجل آتاهُ اللهُ مالًا فهو ينفقُه في الحقِ آناءَ الليلِ والنهارِ". وعلى ذلك فإننا نستبعد الحديث الضعيف ونستشهد بالحديث الصحيح، والرأي التربوي يعدّ صحيحًا ولا غبار عليه. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 107.

2 - بيَّن ابن الجوزي رأيه التربوي في علاج دافع حب المال، ببيان كيفية الإنفاق الصحيح، فقال: "ينبغي أن تكون النفقة أقل من الكسب، ليقتني من الفضل ما يكون معدًّا لحادثة لا تؤمن، وهذا ما يأمر به العقل الناظر في العواقب، ولا يبالي به الهوى الناظر إلى الحالة الحاضرة. وعن أبي الدرداء مرفوعًا: من فقهِ الرجلِ بعدُ النظرِ في معيشتهِ" (¬1). على الرغم من أن الحديث الذي استشهد به ابن الجوزي ضعيف، إلا أن رأيه التربوي في كيفية الكسب والإنفاق لا يتعارض مع المفهوم الإسلامي، وقد سبق أن فصلناه في الباب الثالث، الفصل الأول ص 137 وما بعدها من هذا الكتاب، وعلى ذلك فإننا نعد رأيه صحيحًا. 3 - أورد ابن الجوزي رأيه في كيفية معاملة الطفل العنيد وضرورة اللطف واللين معه، وقد وثقه بقول ابن عباس "عرامةُ الصبي في صغرهِ زيادة في عقلهِ في كبرهِ" وقد ثبت أن هذا الحديث ضعيف. رَغم أن رأيه التربوي صحيح ولا غبار عليه، لذلك فإننا نستبعد الحديث الضعيف ونقبل بالرأي التربوي. 4 - وضع ابن الجوزي للبالغ خطوات عدة للإعلاء من الحاجة الجنسية، منها غض البصر، وقد وثقه بقوله قيل: "النظرُ إلى المرأةِ سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليسَ، من تركَه ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ أعطاهُ اللهُ إيمانًا في قلبهِ يجدُ حلاوتَه" (¬2). وثق ابن الجوزي هذا الرأي أيضًا بقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (¬3). وعلى ذلك فإننا سنعتبر الرأي التربوي صحيحًا رغم استشهاده بحديث ضعيف. 5 - وثق ابن الجوزي رأيه التربوي في أن وجود الله تعالى يتأكد من خلال مخلوقاته، بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تفكروا في خلقِ اللهِ ولا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 104. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 60. (¬3) سورة النور، الآية 30.

تتفكرُوا في اللهِ، فإنكم لن تقدروا قدره" (¬1). على الرغم من أن الحديث ضعيف، إلا أن رأي ابن الجوزي لا يخالف الحقيقة القرآنية التي أكدت ما ذهب إليه، ويمكن الرجوع إلى تفصيل ذلك في الباب الرابع (ص 331 وما بعدها). وعلى هذا فإن رأيه يعد صحيحًا. 6 - على الرغم من استشهاد ابن الجوزي في أهمية النية بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "نية المؤمن خير من عمله" (¬2) وهو حديث ضعيف، إلا أن رأيه التربوي في أثرها في حث الإنسان للاستزادة من الأعمال الصالحة، لا يخالف المنهج التربوي الإسلامي ولكن لابد من اقتران النية بالعمل، وعلى ذلك فإن رأيه يعد صحيحًا. 7 - وثق ابن الجوزي التربوية العقلية ببعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، على الرغم من معرفته بذلك، وذكر هذه الأحاديث في كتابه الموضوعات، وقد يكون لابن الجوزي العذر في ذكر هذه الأحاديث، أنه أراد بيانها وإيضاحها للقارئ حتى يكون على بينةٍ من هذه الأحاديث، فيحذر من الاستشهاد بها، بالإضافة إلى أن ابن الجوزي نفى صحة الأحاديث المتعلقة بالعقل، وذكر أنها جميعها غير صحيحة بقوله: "المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل العقل كثير، إلا أنه بعيد الثبوت" (¬3). وقول ابن الجوزي فيه نوع من المبالغة، لأن هناك أحاديث صحيحة وردت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العقل، أثبتت الباحثة بعضًا منها في الباب الرابع، الفصل الثاني (ص 280 وما بعدها). وعلى ذلك فإننا سنكتفي بالأحاديث الصحيحة التي استشهدت بها الباحثة، ونستبعد الأحاديث التي ذكرها ابن الجوزي بسبب ضعفها أو وضعها. كما إن الأحاديث التي بحثت عنها، فلم أقف على تخريج لها، هي استشهاده في علاج الهوى، بقول ابن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى. الجزء الأول، ص 59. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 20. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى. (مراجعة) الغزالي، محمد، ص 7.

مسعود - رضي الله عنه -: "إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها (مثالبها) " (¬1). ورأيه التربوي لا يخالف المنطق والعقل السديد. لذلك فإن رأيه يعد صحيحًا. وبعد فإنه يتضح لنا بعد تخريج الأحاديث ومعرفة درجة صحتها أو ضعفها، أنها موزعة على الوجه الآتي: 1 - الأحاديث الصحيحة من الصحيحين أو أحدهما عددها (30) حديثًا صحيحًا. 2 - الأحاديث المخرجة من كتب السنن الأربعة، عددها (10) أحاديث منها: 7 أحاديث صحيحة. حديثان حسنان. 1 حديث ضعيف. 3 - الأحاديث المخرجة من مسند الإمام أحمد بن حنبل عددها (6) أحاديث منها: حديثان صحيحان. حديثان حسنان. حديثان ضعيفان. 4 - الأحاديث المخرجة من غير الكتب السبعة السابقة عددها (14) حديثًا منها: 1 حديث صحيح. 5 أحاديث ضعيفة. 6 أحاديث موضوعة. "أحاديث العقل". 1 حديث لم أقف له على تخريج. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 15.

1 أثر من كلام عبد الله بن مسعود لم أقف له على تخريج. وبذلك يصبح مجموع الأحاديث التي استشهد بها ابن الجوزي في توثيق آرائه التربوية (60) حديثًا. وتوزيعها حسب صحة الحديث أو ضعفه كالآتي: 40 حديثًا صحيحًا. 4 أحاديث حسنة. 8 أحاديث ضعيفة. 6 أحاديث موضوعة. 2 حديث لم أقف على تخريجهما. المجموع= 60 حديث. وهكذا نجد أن نسبة الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى الأحاديث الصحيحة نسبة ضئيلة، على الرغم من ذلك قد يتساءل المرء كيف يغفل الحافظ (¬1) ابن الجوزي وهو مؤلف كتاب الموضوعات وكتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، وكتاب الضعفاء والمتروكين أن يوثق كتاباته بأحاديث صحيحة، فيستشهد بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وهو القائل: "إن الحديث المنكر يقشعر له جلد طالب العلم -منه- وقلبه في الغالب" (¬2)، وغير ذلك من أقواله التي تحث على الحذر من هذه الأحاديث؟ والباحثة قد تجد لابن الجوزي بعض المسوغات التي أسقطته في هذا السهو وهي: 1 - كون ابن الجوزي عالمًا جليلًا، له دراية كافية في علم الحديث لا ينفي عنه صفة البشرية، التي من شأنها القصور والغفلة والنسيان. ¬

_ (¬1) يطلق لقب الحافظ على مرتبة من مراتب رواة الحديث، وهي أعلى درجة وأرفع مقام. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب الموضوعات. الجزء الأول، ص 103.

2 - ابن الجوزي من العلماء الذين لا يراجعون ما كتبوه، بسبب كثرة مؤلفاته، وقال في ذلك الإمام الذهبي "وكان كثير الغلط فيما يصنفه فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره" (¬1)، فلو راجع ابن الجوزي ما كتبه، لاستدرك ما كتبه من أحاديث ضعيفة وموضوعة وتجنب الاستشهاد بها. 3 - من الملاحظ أنه على الرغم من استشهاده بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، إلا أن رأيه التربوي لا يخالف المنهج التربوي الإسلامي، وهذا يدل على ثقافته الإسلامية الصحيحة، واستشهاده بهذه الأحاديث قد حصل منه سهوًا، وبسبب عدم مراجعته لما كتب. وعلى الرغم من ذلك، فإننا لا ننسى فضل علمائنا الأجلاء -ومنهم ابن الجوزي- في المحافظة على الدين الإسلامي من دس المغرضين، وعرضه بطريقة صحيحة تخدم الغاية من التشريع الإلهي العظيم، ونلتمس لهم العذر فيما غفلوا عنه، وعن تصويبه وبيان الحق فيه، دون التقليل من شأنهم، أو التشهير بهم. 2 - الآراء التربوية الموثقة بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: سأقوم بعرض أقوال ابن الجوزي التي أيدها بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - ثم مناقشتها في ضوء علم الحديث: 1 - قال ابن الجوزي: "فالعاقل من نظر في مقدار إقامته، وتلمّح بيت نقلته، فحينئذ يقنع من الثياب بما يواريه، ومن البنيان بما يؤويه، وفي الحديث أن نوحا -عليه السلام- لبث في بيت شعر ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما وضع لبنةٍ على لبنةٍ، وكان في ثوبٍ عمَر اثنتا عشر رقعة" (¬2). استشهاد ابن الجوزي بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ما وضع لبنةً على لبنةٍ، مخالف لما ورد من بنائه - صلى الله عليه وسلم - مسجده في المدينة المنورة باللبِن، وكان ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ. الجزء الرابع، ص 1347. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 100.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبني مع أصحابه" وينقل اللبِنَ والحجارَة بنفسِه ويقول: اللهم إن العيشَ عيشُ الآخرة ... فاغفرْ للأنصارِ والمهاجرة . . . وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له: باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجعل عمده الجذوع، وسقفه الجريد، وقيل له: ألا تسقفه؟ قال: "عريش كعريش موسى" وبنى بيوت نسائه إلى جانبيه، بيوت الحجر باللَّبِن، وسقفها بالجذوع والجريد" (¬1). 2 - قال ابن الجوزي في التربية الجسمية: "وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ ما وجد، فإن وجد اللحم أكله، ويأكلُ لحمَ الدجاج, وأحبُ الأشياءِ إليه الحلوى والعسلُ، وما نُقل عنه أنه امتنع من مباحٍ" (¬2). ومجمل رأي ابن الجوزي لا يخرج عن سنته - صلى الله عليه وسلم -، فقد ورد في صحيح مسلم، أنه قال لثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: أصلح هذا اللحمَ، قال فأصلحتُه. فلم يزل يأكلُ منه حتى بلغ المدينة" (¬3). وعن أكله للحلوى والعسل قول عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُ الحلوى والعسل" (¬4). أما قوله: ما نقل عنه أنه امتنع عن مباح إلا إذا كرهته نفسه فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "ما عابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قط، إن اشتهاهُ أكله، وإن كرهه تركه" (¬5). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن عبد الوهاب، محمد. مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (تحقيق) الفقي، محمد، حامد، ص 99 - 100. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 27. (¬3) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1563، كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، في أول الإِسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، حديث رقم 36. (¬4) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء التاسع، ص 557، كتاب الأطعمة، باب الحلوى والعسل، حديث رقم 5431. (¬5) المرجع السابق، الجزء التاسع، ص 547، كتاب الأطعمة، باب ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا، حديث رقم 5409.

3 - وثق ابن الجوزي أهمية الاعتدال عند تقوية الجسم بالطعام المناسب بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام فقال: "إنما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إذا لم يجدوا جاعُوا، وربما آثرُوا فصبروا ضرورة" (¬1). وقد اشتقَّ هذا الفعل من الأحاديث ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يوم أو ليلةٍ. فإذا هو بأبي بكرٍ وعمر. فقال: "ما أخرجكما من بيوتِكما هذه الساعة؟ " قالا: الجوعُ. يا رسول الله! قال: وأنا والذي نفسي بيده! لأخرجني الذي أخرجكما. قوموا". فقاموا معه. فأتى رجلًا من الأنصار. فإذا هو ليس في بيتهِ. فلما رأته المرأةُ قالت: مرحبًا! وأهلًا! فقال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أين فلانُ؟ قالت: ذهب يستعذبُ لنا من الماءِ. إذ جاءَ الأنصاريُ فنظر إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه. ثم قال: الحمدُ لله. ما أحدٌ اليوم أكرمُ أضيافًا مني. قال فانطلقَ فجاءهم بعذقٍ فيه بسرٌ وتمرٌ ورطبٌ. فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إياك! والحلوبَ"، فذبح لهم. فأكلوا من الشاةِ. ومن ذلك العذقِ. وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمرَ: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامةِ. أخرجكَم من بيوتكم الجوع. ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم" (¬2). 4 - وفي الوسائل المعينة على الصبر ذكر الاستعانة بأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فوثق ابن الجوزي (¬3) ذلك بقوله: "أما الحال: فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتقلَّب على رمالِ حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمرُ - رضي الله عنه -. وقال كسرى وقيصرُ في الحرَيرِ والديباج، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: أفي شكٍ أنت يا عمرُ؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرةُ وَلهم الدنيا؟ " (¬4). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 160. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1609 - 1610، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، ويتحققه تحققًا تامًا، واستحباب الاجتماع على الطعام، حديث رقم 140 - (2038). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 93. (¬4) مرجع سابق، ابن ماجه. سنن الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه. الجزء الثاني، ص 417، أبواب الزهد، ضجاع آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، حديث رقم 2405.

5 - وقد استند ابن الجوزي في قوله: "فطريق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - العلم والعمل" (¬1) وقوله: "ومن تأمل حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى كاملًا من الخلق يعطي كل ذي حقٍ حقه" (¬2). وقوله: "وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفُ مجيئُه بريح الطيبِ، فكان الغاية في النظافة والنزاهةِ" (¬3)، على شمائله وسيرته العطرة وسنته بأفعالها وتقريراتها وصفاتها، ولتوضيح هذه السيرة نحتاج إلى عرضٍ مفصّلٍ. 3 - الآراء التربوية المستقاة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: استقى ابن الجوزي بعض آرائه التربوية من معاني وألفاظ أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسأورد في هذه الفقرة نماذج من هذه الآراء: 1 - قال ابن الجوزي في لباس الأطفال: "وليلبسه الثياب البيض، فإن طلب الملون قال له: تلك ملابس النساء والمخانيث" (¬4). وقد اشتق ابن الجوزي هذا المبدأ من الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه، "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خيرُ ثيابِكم، وكفنوا فيها موتاكم، وإن خيرَ أكحالِكم الإثمدُ: يجلو البصرَ، وبنبتُ الشعرَ" (¬5). وهذا الرأي لابن الجوزي يحتاج إلى وقفة تفيد إلى أي مدى يمكن تطبيق ذلك؟ فمن الملاحظ أن هناك اختلافا واضحا في الظروف المناخية من حرارةٍ وبرودةٍ من دولة لأخرى، وفي المظاهر التضاريسية من جبالٍ ومزارع ووديانٍ، وهذه الظروف لا يناسبها دائما لبس اللون الأبيض، الذي ينصح به ابن الجوزي، لذلك لا يمكن تطبيق رأيه رغم صحته إلا في الأحوال التي يناسبها اللون الأبيض وعلى أي حال هو على سبيل الندب وليس واجبًا. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 222. (¬2) المرجع السابق، ص 222. (¬3) المرجع السابق، ص 159. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. (¬5) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. المجلد الرابع، ص 51، كتاب اللباس، باب في البياض، حديث رقم 4061.

2 - وقال ابن الجوزي في خلق الملائكة والشياطين: "خلقت الملائكة من نورٍ لا ظلمة فيه، وخلقت الشياطين من ظلمةٍ لا نور فيها، وركب البشر من الضدَّين" (¬1). وربما أخذ معنى هذا القول من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خُلقتِ الملائكةُ من نور. وخُلقَ الجانُ من مارج من نار. وخُلِقَ آدمُ مما وُصِفَ لكم" (¬2). 3 - وفي علاج حب الدنيا وما إليه في قلب الإنسان، استخدم ابن الجوزي أسلوب الترهيب من عقاب الله تعالى فقال: "إن الحساب على كسب الحلال عسير. والتبذير ممنوع، وأن الله تعالى لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء، وأن كل شيء يؤجر المؤمن عليه إلا البناءَ" (¬3). والتحذير من المباهاة والكبر استقاه من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينظرُ اللهُ إلى من جر ثوبه خيلاء" (¬4). أما قوله: "كلُ شيء يؤجرُ المؤمن عليه إلا البناءَ"، فقد استقاه من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "يؤجرُ الرجلُ في نفقته كلها إلا في التراب" (¬5)، وقد علق على موضوع البناء الإمام ابن حجر في شرح صحيح البخاري بقوله: "وفي ذم البناء مطلقًا حديث خبّاب رفعه قال: يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا في التراب" أو قال "البناء"، أخرجه الترمذي وصححه وأخرج له شاهدا عن أنس بلفظ "إلا البناء فلا خير فيه" والطبراني من حديث جابر رفعه: "إذا أراد اللهُ بعبدٍ شرًّا خضَّرَ له ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. كتاب اللطف في الوعظ. ص 31. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2294، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة، حديث رقم (60 - 2996). (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 100. (¬4) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1651، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء، وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه، وما يُستحبّ، حديث رقم 42 - (2085). (¬5) السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن، بن أبي بكر. الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير. بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر التوزيع، الطبعة الأولى 1401 هـ - 1981 م، المجلد الثاني، ص 759، حديث رقم 9990.

في اللبنِ والطينِ حتى يبنيَ" ومعنى خضر: بمعجمتين حسَّن وزنًا ومعنى. وله شاهد في الأوسط من حديث أبي بشر الأنصاري بلفظ "إذا أراد اللهُ بعبد سوءًا أنفقَ مالَه في البنيانِ" وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مرَّ بي النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أطين حائطًا فقال: الأمرُ أعجلُ من ذلك، وصححه الترمذي وابن حبان. وهذا كله محمول على ما لا تمسُّ الحاجةُ إليه مما لابد منه للتوطن وما يقي البرد والحر، وقد أخرجه أبو داود أيضًا من حديث أنس رفعه"، أما إن كل بناءٍ وبالٌ على صاحبه إلا ما لا، "أي إلا ما لابدَّ منه" (¬1). ومن هذا التوضيح نجد أن ابن الجوزي قصد بتحذيره من البناء ما زاد على حاجة الإنسان، ولا يدخل في هذا بناء المساجد أو المدارس أو المستشفيات أو كل بناء قصد به النفع العام للناس، لأن الفرد يؤجر عليه. 4 - وفي علاج الغضب قال ابن الجوزي: "فإن كان ناطقًا سكت، وإن كان قائمًا قعد، وإن كان قاعدًا اضطجع، ليسكِّن تلك الفورة" (¬2). وقد اشتق هذه الأنواع من العلاج من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع" (¬3). ونحوه. 5 - بيَّن ابن الجوزي أثر الفطرة على الطفل فقال: "الأصل في الأمزجة الصحة، والعلل طارئة، وكل مولود يولد على الفطرة" (¬4). وقد اشتق هذا المعنى من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولودٍ إلا يولدُ على الفطرةِ. فأبواه يهودانهِ وينصّرانهِ ويمجِّسانهِ، كما تُنْتَجُ البهيمةُ ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الحادي عشر، ص 92 - 93، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في البناء، شرح حديث رقم 6303. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 109. (¬3) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الخامس، ص 141، كتاب الأدب، باب ما يقال عند الغضب، حديث رقم 4782. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 131.

ثالثا: الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بالقواعد الفقهية

بهيمةً جمعاءَ. هل تحسون فيها من جدعاءَ" (¬1). وبعد عرض الآراء التربوية التي استند فيها ابن الجوزي إلى السنة النبوية الشريفة بأقوالها وأفعالها، وصلت إلى أنه اعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا، وبنى آراءه عليها باعتبارها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهذا يدل على أهمية السنة النبوية في إغناء الفكر التربوي الإسلامي، وتبرز قدرة ابن الجوزي على توظيف ثقافته الحديثية في بلورة آرائه التربوية موشحة بألفاظ الحديث تارة، أو باقتباس المعنى تارةً أُخرى، أو باستقائها عامة من روح السنة النبوية المطهرة بأفعالها وتقريراتها. وقد عرض كل ذلك في أسلوبٍ واضحٍ ميسَّر. ثالثًا: الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بالقواعد الفقهية قبل عرض الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بالقواعد الفقهية، لابد من معرفة ما المقصود بهذه القواعد؟ ولماذا اعتبرناها أداةً من أدوات تقويم آراء ابن الجوزي التربوية، وأهميتها في الفكر التربوي. ونبدأ كلامنا بتعريف علم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي: "هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. أو هي مجموعة القواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" (¬2). والمقصود بأدلتها التفصيلية الأدلة الشرعية المعروفة: القرآن، السنة، الإجماع، القياس، الاستحسان، المصلحة المرسلة، العرف، الاستصحاب، شرع من قبلنا، مذهب الصحابي. والأصولي: "لا يبحث في الأدلة الجزئية، ولا فيما تدل عليه من الأحكام الجزئية، وإنما يبحث في الدليل الكلي وما يدل عليه من حكم كليِّ ليضع قواعد كليةً لدلالة الأدلة كي يطبقها الفقيه على جزئيات الأدلة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 2047، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، حديث رقم 2658. (¬2) مرجع سابق، خلّاف. علم أصول الفقه. ص 12.

لاستثمار الحكم التفصيلي منها" (¬1). وهناك الكثير من القواعد الفقهية التي أصَّلها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، سأذكر بعضًا منها موثِّقة كل قاعدة بآية قرآنية واحدة، أو حديث نبوي واحد اجتنابًا للإطالة. القاعدة الأولى: "لا ثواب إلا بالنية". القاعدة الثانية: "الأمور بمقاصدها" (¬2). الأصل فيهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية. وانما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولهِ فهجرتُه إلى اللهِ ورسولهِ. ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأة يتزوجُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه" (¬3). القاعدة الثالثة: "اليقين لا يزول بالشك" (¬4) ودليلها ما رواه الإمام البخاري عن عباد بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجل الذي يخيلُ إليه أنه يجدُ الشيءَ في الصلاةِ، فقال: لا ينفتل -أو لا ينصرفُ- حتى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا (¬5). وهذا الحديث رواه مسلم (¬6). القاعدة الرابعة: "المشقة تجلب التيسير" (¬7). والأصل فيها قوله ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 14. (¬2) ابن نجيم، زين العابدين، بن إبراهيم. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. بيروت، دار الكتب العلمية، طبعة سنة 1400 هـ - 1980 م، ص 27. (¬3) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الثالث، ص 1515 - 1516، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنية. وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال"، حديث رقم 155 - (1907). (¬4) مرجع سابق، ابن نجيم. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. ص 56. (¬5) مرجع سابق، العسقلاني. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء الأول، ص 237، كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، حديث رقم 137. (¬6) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الأول، ص 276، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، حديث رقم (98 - 361). (¬7) مرجع سابق، ابن نجيم. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. ص 75.

تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1). وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). القاعدة الخامسة: "الضرر يزال". أصلها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلًا. وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت -رضي الله عنهم-" (¬3). القاعدة السادسة: "العادة مُحكَّمة" (¬4) وقد استندت هذه القاعدة إلى قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬5). وقوله سبحانه وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬6) والمقصود بالمعروف: العرف والعادة، وقد عرفها الإمام القرطبي بقوله: "العرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن إليها النفوس" (¬7). وهناك بعض القواعد الكلية الأُخرى الاجتهادية التي يتخرَّج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية منها: القاعدة الأُولى: الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد. القاعدة الثانية: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام. القاعدة الثالثة: هل يكره الإيثار بالقُرَب؟ القاعدة الرابعة: التابع تابع. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية 185. (¬2) سورة الحج، الآية 78. (¬3) مرجع سابق، ابن نجيم. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. ص 85. (¬4) المرجع السابق، ص 93. (¬5) سورة البقرة، الآية 228. (¬6) سورة النساء، الآية 19. (¬7) مرجع سابق، القرطبي، أبي عبد الله، محمد، الأنصاري. الجامع لأحكام القرآن. (تحقيق) البردوني، أحمد عبد العليم، الجزء السابع، ص 346.

القاعدة الخامسة: تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة. القاعدة السادسة: الحدود تُدرأ بالشبهات. القاعدة السابعة: الحرّ لا يدخل تحت اليد فلا يضمن بالغصب ولو صبيًّا. القاعدة الثامنة: إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر. القاعدة التاسعة: إعمال الكلام أولى من إهماله. القاعدة العاشرة: الخراج بالضمان. القاعدة الحادية عشرة: السؤال معاد في الجواب. القاعدة الثانية عشرة: لا ينسب إلى ساكت قول. القاعدة الثالثة عشرة: الفرض أفضل من النفل. القاعدة الرابعة عشرة: ما حَرمُ أخذه حرم إعطاؤه. القاعدة الخامسة عشرة: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. القاعدة السادسة عشرة: الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة. القاعدة السابعة عشرة: لا عبرة بالظن البيَّن خطؤه. القاعدة الثامنة عشرة: ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله. القاعدة التاسعة عشرة: إذا اجتمع المباشر والمتسبب أضيف الحكم إلى المباشر" (¬1). وكل قاعدة من هذه القواعد تندرج تحتها قواعد عدة. فمثلًا قاعدة "الضرر يُزال" تتفرع منها القواعد الآتية: 1 - "الضرورات تبيح المحظورات. 2 - ما أبيح للضرورة يُقَدّر بقدرها. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن نجيم. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. ص 105 - 165.

3 - الضرر لا يزال بالضرر. 4 - إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفَّهما. 5 - درء المفاسد أولى من جلب المصالح. 6 - الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة" (¬1). القاعدة العشرون: لا اجتهاد مع وجود النص (الدليل). وهناك بعض القواعد الأخرى التي لها صلة بالتربية وبوسائلها مثل: 1 - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 2 - ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام. 3 - ما لا يدرك كله لا يترك جله. 4 - أفضل الأشياء أحمزها. 5 - الأصل في الأشياء الإباحة. إلى غير ذلك من القواعد الأصولية التي تفيدنا في مجال التربية، واكتفي بهذه القواعد لأنها كافية لتقويم آراء ابن الجوزي التربوية. إن السبب الذي دفع لاعتبار هذه القواعد الأصولية من أدوات تقويم آراء ابن الجوزي التربوية، هو أن نطمئن إلى أن هذه الآراء ضمن الإطار الشرعي العام لهذه الأحكام، ولا تخرج عن ضوابطها الشرعية المحددة. وبعد استقراء عام لآراء ابن الجوزي التربوية -في حدود الكتب التي درستها من مؤلفاته- يتضح لنا أنه لم يبين ما يتعلق بعلم أصول الفقه، ولم يذكر القواعد الفقهية صراحة، ولكن آراءه تدل على أنه استخدم هذه القواعد الفقهية، وفهم مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا ما سأوضحه في حينه. أما بالنسبة لأهمية هذه القواعد الأصولية في الفكر التربوي، فإن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 85 - 92، بتصرف.

هذه القواعد من الأدلة التشريعية للأحكام التي يحتاجها الفرد في حياته العامة والخاصة، ولذلك فإنها تفتح المجال واسعًا أمام التربوي في أن يجد حلولًا وبدائل متعددة للمبادئ التربوية أو مشكلات التربية ضمن الإطار الشرعي العام لمقاصد الشريعة الإسلامية. لذلك فإن التربوي في مجال التربية الإسلامية، يوظف هذه القواعد الفقهية في خدمة الفكر التربوي بما فيها من ضوابط وأحكام عامة مستنبطة من الأدلة الشرعية. أما الآراء التربوية التي ربما استنبطها ابن الجوزي من القواعد الفقهية، ولم يذكر فيها القواعد صراحة فنورد نماذج منها فيما يأتي: 1 - قال ابن الجوزي في الدوافع: "وهذا الميل قد خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل، وإلى المشرب ما شرب، وإلى المنكح ما نكح، وكذلك كل ما يشتهيه، فالهوى مستجلب له ما يفيد، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذي، فلا يصلح ذم الهوى على الإطلاق" (¬1). وقد استنبط ابن الجوزي هذا الرأي التربوي من مقاصد الشريعة التي تعود إلى تحقيق المصالح وقد قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام: "أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية" (¬2). وهذا الرأي مبني على تحقيق الحاجيات، ومعناها: "أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراع دخل على المكلفين -على الجملة- الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة. وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات والجنايات. (والذي يتعلق بهذا الرأي هو العادات). . . وفي العادات كإباحة الصيد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 12. (¬2) الشاطبي، أبو إسحاق، إبراهيم، بن موسى، اللخمي، الغرناطي، المالكي. الموافقات في أصول الشريعة. (حققه) دراز، عبد الله، و (ضبطه وفصله ووضع تراجمه) دراز، محمد، عبد الله، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية، 1395 هـ- 1975 م، المجلد الثاني، ص 8.

والتمتع بالطيبات مما هو حلال، مأكلًا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا ومركبًا، وما أشبه ذلك" (¬1). 2 - وقال ابن الجوزي في ذم الهوى: "وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالبًا، وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى حاكم العقل، فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة، ويأمره عند وقوع الشبهة باستعمال الأحوط في كفّ الهوى، إلى أن يتيقن السلامة من الشر في العاقبة" (¬2). ورأي ابن الجوزي هذا يثير في القارئ تساؤلًا وهو هل الحسن ما حسّنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل؟ وهل يستطيع العقل أن يدرك الحسن والقبيح دون اعتبار للشرع؟ إن قول ابن الجوزي "يرفع كل حادثة إلى حاكم العقل" اختلف فيه علماء المسلمين"، وخلاصة رأيهم أن "مقياس الحسن والقبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق. فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله، وما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله" (¬3). وعلى ذلك كان الأولى بابن الجوزي أن يقول: (يرفع الأمر إلى حاكم الشرع والعقل)، وليس إلى حكم العقل فقط، وذلك يتضح من حديث معاذ عندما أرسله الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا إلى اليمن فقال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ فقال: أقضي بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كتاب الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، المجلد الثاني، ص 10 - 11. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. ذم الهوى. ص 13. (¬3) مرجع سابق، خلّاف. علم أصول الفقه. ص 99. (¬4) مرجع سابق، الأزدي. سنن أبي داود. الجزء الثالث، ص 303، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، حديث رقم 3592.

رابعا: الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بعلم الكلام وعلم المنطق

3 - قال ابن الجوزي في التداوي: "فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب. كان إعراضي عن الأسباب دفعًا للحكمة. ولهذا أرى التداوي مندوبًا إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا، فإن الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنزلَ اللهُ داء إلا وأنزل له دواء فتداووا". ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجبًا أو ندبًا" (¬1). وقد استند ابن الجوزي في رأيه "وقد ذهب صاحب مذهبي -الإمام أحمد بن حنبل- إلى أن ترك التداوي أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا". إلى القاعدة الفقهية التي تؤكد أنه لا اجتهاد مع وجود النص (الدليل)، وهذا ما أكده الشيخ خلّاف بقوله؛ "فإن كانت الواقعة التي يراد معرفة حكمها قد دل على الحكم الشرعي فيها دليل صريح قطعي الورود والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها، والواجب أن ينفذ فيها ما دل عليه النص، لأنه مادام قطعي الورود فليس ثبوته وصدوره عن الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - موضع بحث وبذلِ جهدٍ" (¬2). أما قول ابن الجوزي: "ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجبًا أو ندبًا، فهذه معتمدة على مرتبة الأحكام الشرعية في الأصول، وهي تؤكد أن "الأصل في الأمر الوجوب، نص عليه في مواضع، وبه قال عامة المالكية، وجمهور الفقهاء، والشافعي، وغيره، وقالت المعتزلة وبعض الشافعية: الأصل فيه الندب" (¬3). وبذلك نجد أن ابن الجوزي استقى عبارته من القواعد الفقهية. رابعًا: الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بعلم الكلام وعلم المنطق هناك بعض الآراء التربوية التي استقاها ابن الجوزي من طرق علم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 87. (¬2) مرجع سابق، خلّاف. علم أصول الفقه. ص 216. (¬3) الدمشقي، شهاب الدين، أبو العباس، الحنبلي، الحراني، وآخرون. المسودة في أصول الفقه. (تحقيق) عبد الحميد، محمد، محي الدين، بيروت، دار الكتاب العربي، دون طبعة وتاريخ، ص 5.

المنطق وعلم الكلام. وهي أربعة طرق هي: القياس، والاستقراء، والتمثيل والحدس. والاستقراء هو "ملاحظة الظواهر الجزئية والارتفاع منها إلى قانون عام" (¬1)، أو كما يقول الإمام الغزالي: "أن نتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كليّ، حتى إذا وجدت حكمًا في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الكليّ به" (¬2). فهو انتقال من الحقائق المحسوسة الجزئية، إلى التفسير والتعليل" (¬3). قال ابن الجوزي متبعًا منهج الاستقراء، وهو الوصول من الجزء إلى الكل: "وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة، خصوصًا في جسد نفسه، علم أنه لابد للصنعة من صانع، وللمبني من بان" (¬4). كذلك استخدم الاستقراء المحسوس (الذي عبر عنه البعض بالمنطق الفطري) فقال: "إن الله -عز وجل- وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل، فالنفوس تعلمها ضرورة وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها. فإنه وضع في النفس أن المصنوع لابد له من صانع، وأن المبني لابد له من بان، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة" (¬5). وقال ابن الجوزي أيضًا، متبعًا منهج الاستدلال العقلي: "من أكبر ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العثمان، عبد الكريم. الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص. ص 352. (¬2) الغزالي، أبو حامد، محمد، محمد، بن محمد. معيار العلم في فن المنطق. (حققه وخرَّج أحاديثه) أبو العلا، محمد، مصطفى، القاهرة، مكتبة الجندي، طبعة عام 1392 هـ -1972 م، ص 129. (¬3) مرجع سابق، العثمان، عبد الكريم. الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص. ص 352. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 44. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 249.

خامسا: الآراء التربوية الأخرى

الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها، فقد دبرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع في المصنوع، فلم يحجبها ستر وإن تكاثف ولا يعرف مع هذا ماهيتها ولا كيفيتها ولا جوهرها ولا محلها. ولا يفهم من أين جاءت، ولا يدري أين تذهب، ولا كيف تعلقت بهذا الجسد؟ وهذا كله يوجب عليها أن لها مدبرًا وخالقًا، وكفى بذلك دليلًا عليه. إذ لو كانت وجدت بها لما خفيت أحوالها" (¬1). خامسًا: الآراء التربوية الأُخرى بعد عرض الآراء التربوية لابن الجوزي تلك التي وثقها بالآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية، أو القواعد الفقهية، أو طريقة الاستقراء. فإن هناك آراء تربوية وثقها بقصص الأنبياء -عليهم السلام- أو السلف الصالح، كذلك استشهد بالشعر التربوي الذي يضفي على الرأي قوة ووضوحًا وأصالة، كما أضاف على رأيه التربوي حصيلة تجاربه وخبراته الشخصية في هذا المجال. وسأعرض هذه الآراء: أ - الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بقصص الأنبياء وأقوالهم 1 - استشهد ابن الجوزي على فائدة العقاب بقول لقمان لابنه: "يا بني. ضرب الوالد للولد مثل السماد للزرع" (¬2). 2 - استشهد ابن الجوزي على إشباع دافع الجنس عن طريق الزواج الشرعي الحلال بفعل موسى -عليه السلام- فقال: "وقد أنفق موسى -عليه السلام-، من عمره الشريف عشر سنين في مهر بنت شعيب. فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه" (¬3). 3 - استشهد ابن الجوزي على التربية الإرادية بقصص الأنبياء ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 253. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 134. لم أجد له مصدرًا. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 26.

-عليهم السلام-، التي تبين ابتلاءاتهم المختلفة فقال: "هذا آدم طاب عيشه في الجنة وأخرج منها. ونوح سأل في ابنه فلم يُعطَ مراده، والخليل ابتلي بالنار، وإسماعيل بالذبح، ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا. وأما ما لقي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم" (¬1). 4 - كذلك استشهد ابن الجوزي على التربية الإرادية بقصة يوسف -عليه السلام- فقال: "وكذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى. والعفاف لا يكون إلا بكفِّ كفِّ الشرَه. ولولا ما عانى يوسف -عليه السلام- ما قيل له أيها الصديق" (¬2). ب- الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بقصص السلف الصالح وأقوالهم عرض ابن الجوزي في أثناء إبداء بعض آرائه التربوية بعض القصص الواقعية للسلف الصالح حتى يقتدي بهم القارئ في أخلاقهم وسلوكهم وتصرفاتهم، وتكون له حافزًا على التطبيق. وهذه بعض الآراء التي وثقها بهذه القصص: 1 - استشهد ابن الجوزي عند بيان فضيلة كظم الغيظ بحال السلف الصالح فقال: "وقد كان السلف إذا غضبوا غفروا وصفحوا طلبًا لفضيلة العفو، وكظم الغيظ، ومنهم من يرى السبب في إغضابه ذنوب نفسه، ومنهم من يرى أنه مختَبر" (¬3). 2 - وفي تربية الطفل استشهد بجواب سفيان الثوري لمن سأله بقوله: نضرب أولادنا على الصلاة؟ قال سفيان: بل بشرهم" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 388. (¬2) المرجع السابق، ص 269. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 111. (¬4) المرجع السابق، ص 133.

3 - وقال ابن الجوزي بشأن مراعاة الفروق الفردية في التربية الجسمية: "ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره، فيضعف هو عنه؛ فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه. قالت رابعة العدوية: إن كان صلاح قلبك في الفالوذج فكله" (¬1) فاستأنس بقول رابعة. 4 - واستشهد ابن الجوزي في آداب العالم بموقف السلف الصالح من الفتوى فقال: "ثم يُقدِم أحدكم على الفتوى وليس من أهلها، وقد كان السلف يتدافعونها" (¬2). 5 - استشهد ابن الجوزي في آداب طالب العلم بالإمام أحمد بن حنبل في تأخيره الزواج فقال: "وأختارُ للمبتدئ في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن، فإن الإمام أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم. فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل لتتوافر القوة على إعادة العلم" (¬3). 6 - استشهد ابن الجوزي في التربية الروحية، بأهمية التفكر في معاني الصلاة بفعل السلف الصالح فقال: "وقد كان أرباب التفكر من السلف يشاهدون في كل شيءٍ عبرة، فيذكرون بالأذان نداء العرض، وبطهارة البدن تطهير القلب، وبستر العورة طلب ستر القبائح من عيوب الباطن، وباستقبال القبلة صرف القلب إلى المقلب، فمن لم تكن صلاته هكذا فقلبه غافل" (¬4). 7 - بيَّن ابن الجوزي كيفية وقوف السلف الصالح بين يدي الله تعالى في الصلاة فقال: "إن المقصود بالصلاة إنما هو تعظيم المعبود؛ وتعظيمه لا يكون إلا بحضور القلب في الخدمة. وقد كان في السلف من يتغير إذا حضرت الصلاة ويقول: أترون بين يدي من أريد أن أقف؟! " (¬5). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 34. (¬2) المرجع السابق، ص 469. (¬3) المرجع السابق، ص 178. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. التبصرة. الجزء الثاني، ص 235. (¬5) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 235.

8 - استشهد ابن الجوزي في الوسائل المعينة على الصبر بقصة عن بشر الحافي رحمة الله عليه فقال فيها؛ "سار ومعه رجل في طريق فعطش صاحبه، فقال له: نشرب من هذه البئر؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأُخرى، فلما وصلا إليها قال له: البئر الأُخرى. فما زال يعلله .. ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا" (¬1). جـ - الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بشعره إن للشعر تأثيرًا فعّالًا في النفس البشرية لتغيير السلوك، وقد اعتبره بعض المربين المسلمين وسيلة تساعد على غرس القيم والأخلاقيات الصالحة. ولم يستخدم ابن الجوزي الشعر باعتباره وسيلة من وسائل التربية الخلقية فقط، وإنما كان ممن يقول الشعر ويتذوقه، ويدرك تمامًا أثره في تقوية وتدعيم المعنى المراد إيصاله للغير، لما له من أثر فعال في النفس البشرية. وهذه بعض الآراء التربوية التي وثَّقها ابن الجوزي بشعره: 1 - وضَّح ابن الجوزي رأيه في مرحلة الشباب بقوله نثرًا وشعرًا: "وهذا هو الموسم الأعظم الذي يقع فيه جهاد النفس والهوى وغلبة الشيطان. وبصيانة هذا الموسم يحصل القرب من الله، وبالتفريط فيه يقع الخسران العظيم. . . الخ. ثم قال ابن الجوزي: "ومما قلته من الشعر في هذا المعنى: أما الشبابُ فظلمة للمهتدي ... وبه ضلالُ الجاهلِ المتمردِ فأقمعْه بالصبرِ الجميلِ ودمْ ... على الصوم الطويلِ فإنه كالمبرَدِ واكففْ لسانَك عن فضولِ كلامهِ ... واحفظْه حفظَ الجوهرِ المتبددِ واغضُضْ لحاظَك عن حرام واقتنعْ ... بحلالِ ما حصلت تحمد في غدِ ودع الصَّبا فالله يحمَدُ صَابرًا ... يا نفسُ هذا موسمٌ فتزوَّدي" (¬2). الخ. 2 - كما بيَّن رأيه في مرحلة الكهولة بقوله نثرًا وشعرًا: "وهذا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 98 - 99. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 60 - 61.

الزمان فيه بقية من الشباب وللنفس فيه ميل إلى الشهوة، وفيه جهاد حسن، وإن كانت طاقات الشيب تزعج وترغب في جهاد اللهو، وليكتف الكهل بنور الشيب الذي أضاء له سبيل الرحيل وليعامل بالبقية المائلة إلى الهوى يربح ولكن لا كربح الشاب: قد رأيتُ المشيبَ نورًا تبدّى ... نوّرَ الطرقَ ثم ما إن تعدّى إن نورَ الشباب عاريةٌ عنـ ... ـدي فجاءَ المعيرُ حتى استردَّا جاءني ناصحٌ أتاني نذيرٌ ... ببياض أرانيَ الأمرَ جِدًا دعْ حديثَ الصِّبا ورامةَ والغو ... رِ ونجدا يا سعدُ واسعَ لسُعدى ثم خلِّي حديثَ ليلى ونعم ... ومساع وكلثم دع دعدا وتزودْ زادَ الشتاءِ فقد فا ... ت ربيعٌ ضَيعت به الوردا قف على الباب سائلًا عفوَ مولا ... كَ فما إن يزالَ يرحمُ عبدا (¬1) 3 - استشهد ابن الجوزي عند بيان سمات العلم النافع بقوله نثرًا وشعرًا: "ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها. فإن القنوع حالة الأرذال. فكن رجلًا رجلُه في الثرى ... وهامةُ همتِه في الثُّرَيَّا (¬2) 4 - كذلك وضح رأيه في مرحلة الشيخوخة بقوله نثرًا وشعرًا: "وقد يكون في أول الشيخوخة بغتة هوى فيثاب الشيخ على قدر صبره، فكلما قوي الكبر ضعفت الشهوة. . . الخ. غُررنا بالشباب المستعارِ ... وقعنا بالمشيب عن الخمارِ أنارَ لنا المشيبُ سَبيلَ رشدٍ ... وندَّمنا على خَلعِ العذارِ فوا أسفي على عمير تولّت ... لذاذتُه وأبقتْ قبحَ عارِ فنحنُ اليومَ نبكي ما فعلْنا ... وكيف وكم وقعنا في خَسارِ وليس لنا سوى حزنٍ وخوفٍ ... وندب في خضوع وانكسارِ تعالَوْا نبكِ ما قد كان منَّا ... وقوموا في الدياجِي باعتذارِ وما شيءٌ لمحوِ الذنبِ أولى ... من الأحزانِ والدمعِ الغزارِ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 62. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 160.

ستدري يا مفرِّطُ صدقَ قوليِ ... إذا غُودرتَ في بطنِ الصحارِي وخلّاك الصديقُ أسيرَ قفر ... ترافقُك الندامةُ في القفارِ وقد فازوا بما حازوا جميعًا ... وأنت رهينُ ذلٍ وافتقار فخذ حذرًا وزادًا تكتفيه ... لرحلته إلى تلك الديارِ" (¬1) يلاحظ على شعر ابن الجوزي أنه يتميز بالسهولة وترك التكلف، كما يتميز شعره بوضوح الطابع الأخلاقي والديني الذي يربي في النفس البشرية القيم والآداب الصالحة، ولا يخرج عن الأحكام الشرعية التي أمر بها المنهج التربوي الإسلامي. ب - وهناك بعض الآراء التربوية التي وثقها بشعر غيره من الشعراء 1 - استشهد ابن الجوزي في تربية الطفل بقوله: "أقوم التقويم ما كان في الصغر، فأما إذا تُرك وطبعَه فنشأ عليه ومرن كان رده صعبًا، قال الشاعر: إن الغصونَ إذا قَومتَها اعتدلَت ... ولا يلينُ إذا قومته الخشبُ قد ينفعُ الأدبُ الأحداثَ في مهلٍ ... وليس ينفعُ في ذي الشيبةِ الأدبُ" (¬2) 2 - واستشهد ابن الجوزي في أهمية تأديب الطفل حتى وإن شكا ثقل التأديب عليه بقوله: "وما احتمل من العلم يأمرانه به وينهيانه عن القبيح ويحثانه على المكارم، فإنه موسم الزرع. قال الشاعر: لا تسهُ عن أدب الصغيـ ... ـرِ وإن بكى ألمَ التعبْ ودع الكبيَرَ لشأنِه ... كبُرَ الكبيرُ عن الأدبْ (¬3) 3 - استشهد ابن الجوزي بأثر الصحبة الصالحة في الناشئ بقوله: "وليكن جلساؤك الكتب والنظر في سِيَر السلف، ولا تشتغل بعلم حتى تحكم ما قبله، وتلمّحْ سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون، فقد قال الشاعر: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 63 - 64. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر". ص 58.

ولم أرَ في عيوب الناسِ شيئًا ... كنقصِ القادرين على التمامِ (¬1) 4 - استشهَد ابن الجوزي بالشعر أيضًا على أهمية اغتنام الوقت في التزود بالعلم المفيد فقال: لما علم أن العمر لا يسع الكل أخذ ما يحتاج إليه من الكل زادًا لمسيره، ونهض للعمل بمقتضاه، فتراه ينتهب العمر خوف أن يذهب وما نال المراد، ولا يضيع لحظة في غير مهم، ويناقش (يحاسب) نفسه في زمان المطعم والنوم، لعلمه بقصر المدة، كما قال الشاعر: فاقضوا مآربكم عجالًا إنَّما ... أعمارُكم سَفَرٌ من الأسفار وتراكضوا خيلَ السباقِ وبادروا ... أن تُستَرَدَّ فإنهن عواري" (¬2) 5 - استشهد ابن الجوزي عند إبداء رأيه في من ضيع عمره فيما لا يفيد من العلوم بقوله؛ "وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم، فهم كما قال الحطيئة: زواملُ للأخبارِ لا علمَ عندها ... بمثقلِها إلا كعلم الأباعر لعَمرك ما يدري البعيرُ إذا غدا ... بأوساقهِ أوراحَ ما في الغرائرِ" (¬3) 6 - وقد بيَّن ابن الجوزي رأيه بأهمية الجدّ والمثابرة لطالب العلم بقوله: "وعليكم بملاحظة سِيَرِ السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال: فاتني أن أرى الديارَ بطرفي ... فلعلي أرى الديارَ بسمعي" (¬4) 7 - وقد بيَّن ابن الجوزي رأيه في التربية الأخلاقية بقوله: "نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب، وربما آل إلى الفقر. وكذلك الشجاعة، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس، قال الشاعر: لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُهمُ ... الجودُ يفقرُ والإقدامُ قتَّالُ" (¬5) ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 53. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 139. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 168. (¬4) المرجع السابق، ص 440. (¬5) المرجع السابق، ص 269.

8 - كما بيَّن ابن الجوزي رأيه في التربية الإرادية بقوله: "فالدنيا وضعت للبلاء، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا كما قيل: طُبعت على كدرٍ وأنت تريدُها ... صفوًا من الأقذاءِ والأكدار ومكلّفُ الأيام ضدَ طباعِها ... متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ" (¬1) 9 - استشهد ابن الجوزي بالشعر في حديثه عن الوسائل المعينة على الصبر فقال: "فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس، كما قال الشاعر: فإن تشكَّت فعلَّلها المجرةَ من ... ضوءِ الصباح وعدها بالرواحِ ضُحى" (¬2) يلاحظ على أشعار ابن الجوزي التي نظمها "أنها غنية بالمعاني الأخلاقية، والتوجيهات التربوية. أما إذا وزناها بميزان النقد والتذوق الجمالي نجدها لا تستند في جملتها إلى أصول جمالية فنية، فهي تفتقر إلى التراكيب الفنية، والفنون القولية، وعمق الخيال الذي يولد لنا الصور الفنية البارعة التي تثير الإحساس في النفس، وتزيد من دلالات التراكيب، فشعره شعر تعليمي أشبه ما يكون بشعر النظَّامين الذي يرصفون الكلمات بجوار بعضها بعض لتؤدي معنى معينًا من غير احتفاءٍ بالناحية الجمالية الفنية" (¬3). هـ - الآراء التربوية التي وثقها ابن الجوزي بتجربته الذاتية إن حياة الإنسان وما فيها من سراء وضراء، وما يعيش فيها من بؤس وشقاءٍ، أو ترفٍ ونعيم، وما يواجهه من مصاعب ومشاق، تكسبه صلابةً وقوةً، فتغني حياته العلمية والعملية بالتجارب المفيدة، والخبرات المثمرة، التي تكون حصيلة عمره الزمني كله، الذي يقدمه لغيره ليستفيد منه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 388. (¬2) المرجع السابق، ص 98. (¬3) علقت على ذلك، د. نجاح أحمد الظهار أستاذة الأدب في الكلية المتوسطة بجدة.

وابن الجوزي كغيره من الناس -وبوصفه عالمًا من علماء المسلمين- عاش حياته بكل ما فيها من شقاء ونعيم، وخاض غمارها بكل ما لديه من إيمانٍ وصبرٍ وعلم ويقين بالله تعالى، فكانت حصيلة عمره خبرات وتجارب، قدمها لغيره حتى يستفيد منها، ويواجه بنجاح ما قد يعترضه من عقبات وصعوبات. بالإضافة إلى أن ابن الجوزي أدرك الأثر العظيم الذي يكون في النفس البشرية، بعد معرفة تجارب الغير، وما فيها من خير أو شر، وهو من الذين تأثروا بتجارب غيرهم، وحاول أن يستفيد منها فقال في هذا الشأن: "ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصُّبوَّة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه" (¬1). هناك الكثير من المواقف الحياتية، والتجارب الشخصية التي عاشها ابن الجوزي، ولمس ثمرتها الروحية والعلمية والعملية في حياته، فشعر بسعادة الدنيا، ورجا حسن الجزاء من الله تعالى. تجاربه العلمية أ - ومن المواقف التي حكى فيها ابن الجوزي معاناته، وما لقي فيها من صعوبات، وما أثمرت من الثمرات، تجربته العلمية، قال فيها: "كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء. فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم. فأثمر ذلك عندي أني عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود (¬2). وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدرى إلَّا بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة، ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 235. (¬2) ابن أجود: بحثت ولم أصل بعدُ إلى معرفة هذا الرجل.

النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله -عز وجل-. ولولا خطايا لا يخلو منها البشر، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب. غير أنه -عز وجل- صانني، وعلَّمني، وأطلعني من أسرار العلم على معرفته، وإيثار الخلوة به، حتى إنه لو حضر معي معروف وبشر لرأيتهما زحمة. ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط حتى رأيت أقل الناس خيرًا مني. وتارة يوقظني لقيام الليل ولذة مناجاته، وتارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني. ولولا بشارة العلم بأن هذا نوع تهذيب وتأديب لخرجت إما إلى العجب عند العمل، وإما إلى اليأس عند البطالة. . . الخ" (¬1). ويمكن استخلاص الفوائد التربوية من تجربته العلمية: 1 - الصبر عند طلب العلم على الشدائد، والتغلب على الصعوبات. 2 - المثابرة على طلب العلم تكسب والإنسان حب العلم والعمل به. 3 - الإخلاص لله تعالى عند طلب العلم يفتح مغاليق العقول والقلوب. 4 - طلب العلم لوجه الله تعالى يورث الخشية والخوف منه. 5 - عناية الله تعالى لطالب العلم، تحفظه وتصونه وتقربه وتحبب الله إليه، فيؤثره على كل شيء. 6 - طلب العلم لوجه الله تعالى يجعل المؤمن بين الخوف والرجاء، كما يجعله متواضعًا راغبًا في مرضاته تعالى. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 235 - 236.

ب - أما تجربته الثانية فهي معاناته من أهل الفراغ، الذين لا يعرفون معنى الحياة، وقيمة الوقت فهم يضيعونه فيما لا يفيد. فهو يحكي تجربته مع أهل الفراغ، وتضييع الزمان، وما ألهمه الله تعالى لاغتنام الأوقات، قال ابن الجوزي: "لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمُّون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة .. ، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت منهما بين أمرين. إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبَّلته منهم ضاع الزمان. فصرت أدافع اللقاء جهدي فإذا غُلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعدد أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغًا. فجعلت من المستعدِّ للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لابدَّ منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي" (¬1). ويمكن استخلاص الفوائد التربوية الآتية من هذه التجربة: 1 - الإحساس بقيمة الوقت وشرفه. 2 - أهمية التفكير الجدي لإيجاد الحلول والبدائل فيما يعترض الإنسان من مشكلات اجتماعية وغيرها. 3 - الاستفادة من كل لحظة من لحظات العمر فيما يفيد. 4 - شغل الأوقات كلها بما يناسبها من أعمال لا تُضَيِّع حقًّا، ولا تفوِّت واجبًا. جـ - تجربة شخصية أُخرى لابن الجوزي في مجال التحصيل ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 227 - 228. المرجع السابق (تحقيق) الطنطاويان، ص 206.

العلمي؛ فهو يقول عن نفسه: "وإني أخبرُ عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره، فكأني وقعت على كنز. ولقد نظرت في ثَبَت الكتب الموقوفة في المدرسة النِّظَامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثَبَت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشاب، وكانت أحمالًا، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه. ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سِيَر القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع. فصرت أستزري ما الناس فيه، واحتقر همم الطلاب ولله الحمد" (¬1). إن الفوائد التربوية التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة العلمية، تفيد طالب العلم وتحفزه على البحث الجاد، والاطلاع الواسع على أمهات الكتب. وأهم الفوائد التربوية هي: 1 - إخبار العالم عن نفسه، يحفز همم طالب العلم للتحصيل والجد والمثابرة. 2 - أهمية الاطلاع الواسع لطالب العلم من أجل زيادة ثقافته، وتعديل سلوكه، وإتقان عبادته. 3 - تواضع طالب العلم مهما بلغ من العلم والمعرفة. د - كذلك هناك تجربة لابن الجوزي في إطلاق فكره للتدبر والتأمل في الكون، وما أثمر عنده من تعظيم وتقدير كبير لقدرة الله تعالى عز وجل. وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "عرض لي في طريق الحج خوف من العرب فسرنا على طريق خيبر، فرأيت من الجبال الهائلة والطرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق -عز وجل- في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم لا أجده عند ذكر غيرها. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 440 - 441.

فصحت بالنفس: ويحكِ اعبري إلى البحر وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر، تشاهدي أهوالا هي أعظم من هذه، ثم اخرجي عن الكون والتفتي إليه، فإنك ترينه بالإضافة إلى السموات والأفلاك كذرة في فلاة. ثم جولي في الأفلاك وطوفي حول العرش، وتلمّحي ما في الجنان والنيران. . . الخ" (¬1). وتجربة ابن الجوزي الذاتية في مجال التفكر والتدبر في الكون، تفيد في التربية العقلية والإيمانية. وهذه أهم الفوائد التربوية التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة: 1 - أهمية إطلاق الفكر في ملكوت السموات والأرض في زيادة عظمة الله تعالى وقدرته في النفس البشرية. 2 - تعليم العالم للناس كيفية التفكر فيما خلقه الله تعالى من سماء وأرض، وجبال، وبحار. . . الخ، حتى تتربى نفوسهم على حب الله تعالى وعظمته. هـ - ويبين ابن الجوزي من خلال تجربته الشخصية أثر القدوة الحقيقية في النفس البشرية، فيقول: "ولقيت عبد الوهاب الأنماطي، فكان على قانون السلف لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه. فكان -وأنا صغير السن حينئذ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحرّي فيما يقول، متقنًا محققًا. وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمائه، فيتوقف فيها حتى يتيقن. وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما. ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول" (¬2). ويمكن استخلاص أهم الفوائد التربوية من هذه التجربة: 1 - أهمية القدوة وأثرها ودورها في تربية النشء. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 154. (¬2) المرجع السابق، ص 143 - 144.

2 - الميل الفطري في الإنسان يدفعه للاقتداء بالصالحين. 3 - التأثر بالفعل أقوى من التأثر بالقول. و- كذلك عرض ابن الجوزي تجربته الشخصية في مجال التربية الجسمية، فقال: "فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه. وقد عرفت هذا من نفسي، فإني ربيتُ في ترف، فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى أثر معي مرضًا قطعني عن كثير من التعبد. حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن، فتناولت يومًا ما لا يصلح، فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها. فقلت: إن لقمة توفر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات، إن تناولها لطاعة عظيمة. وإن مطعمًا يؤذي البدن فيفوته فعل خير ينبغي أن يهُجَر" (¬1). ويمكن استخلاص الفوائد التربوية الآتية من هذه التجربة: 1 - كل فرد يختار ما يناسبه من المطعم والمشرب -في حدود الشرع- ولا يعتبر ذلك من الإسراف. 2 - معاملة الفرد لبدنه معاملة معتدلة لا تقتير ولا إسراف، حتى يتقوى على طاعة الله. 3 - الفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية عند تغذية البدن. وبعد فإن جميع هذه التجارب والخبرات الشخصية التي عاشها ابن الجوزي، لا تخرج عن المنهج التربوي الإسلامي، الذي تربى عليه علماء الأمة الإسلامية. لذلك فإننا نستطيع الاستفادة منها في تعليمنا وتربيتنا الإسلامية المعاصرة. وهناك مجموعة من الآراء التربوية التي لم يرد ذكرها فيما سبق وهي لا تخرج عن دائرة الفكر التربوي الإسلامي، وإن لم يوثقها ابن الجوزي بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية أو القواعد الفقهية، كما أن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 446.

سادسا: الآراء التربوية لابن الجوزى المخالفة للمنهج التربوي الإسلامي

هناك مجموعة من الآراء التربوية مخالفة للمنهج الإسلامي- سأذكرها هنا: سادسًا: الآراء التربوية لابن الجوزى المخالفة للمنهج التربوي الإسلامي على الرغم من أن معظم آراء ابن الجوزي التربوية موافقة للمنهج التربوي الإسلامي، فقد كان هناك بعض الآراء التربوية المخالفة والمتعارضة مع الفكر التربوي الإسلامي وربما كان ذلك ناتجًا من تأثر ابن الجوزي -في أثناء قراءته- بالفكر اليوناني، أو المذاهب المعاصرة لحياته. وهناك بعض الآراء مبنية على الأحاديث الضعيفة، وهي كالآتي: 1 - بيَّن ابن الجوزي أن هناك علاقة بين القدرات العقلية وشكل الإنسان، وصدَّرها بآراء الحكماء فقال في ذلك: "إذا كان الرأس صغيرًا رديء الشكل دلَّ على رداءةٍ في هيئة الدماغ. . . وحسن الصوت دليل على الحمق وقلة الفطنة، واللحم الكثير الصلب دليل على غلظ الحس والفهم، والغباوة والجهل في الطول أكثر. ومن العلامات التي لا تخطئ طول اللحية، فإن صاحبها لا يخلو من الحمق" (¬1). وهذا الرأي تؤيده الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، وهي: أ - "ما خلا قصيرٌ من حكمةٍ. قال في المقاصد لم أقف عليه. . . وعن الحسن بن علي رفعه إن الله جعلَ البهاءَ والهَوَج -بفتحتين أي الحمق- في الطوال، ورواه بعضهم ما خلا قصيرٌ من حكمةٍ، ولا طويل من حماقةٍ" (¬2). ب - وقد ورد حديث: "طولُ اللحيةِ دليل على قلةِ العقلِ. يروى ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. ص 28 - 29. (¬2) العجلوني، الجراحي، إسماعيل، محمد. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. (تحقيق) القلاش، أحمد، القاهرة، مكتبة التراث الإِسلامي، ودار التراث، الجزء الثاني، ص 261.

عن عمرو بن العاص رفعه "اعتبروا عقلَ الرجل في ثلاثٍ في طولِ لحيتهِ وكنيتهِ ونقشِ خاتمهِ". أسنده الديلمي وهو واه" (¬1). وهذا الحديث مخالف للحديث الصحيح الذي أمر فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحية وقال فيه: "أَنِهكوا الشواربَ، وأعفوا اللحى" (¬2). ومع ضعف هذا الرأي، وعدم صحته، فقد أثبتت الدراسات النفسية التجريبية الحديثة خطأه أيضًا، عندما قام بعض الباحثين ببحث "قضية ذكاء الإنسان وقياسه، فحاول البعض الربط بين الذكاء وتضاريس الجمجمة أو اتساع الجبهة، وحاول البعض الآخر قياسه عن طريق بعض السمات الشخصية، مثل درجة الحساسية للألم، والقدرة على التمييز الحسي، ثم ما لبث العلماء أن كشفوا عن خطأ هذه الاعتبارات" (¬3). وبناء على عدم وجود آيات قرآنية أو أحاديث نبوية صحيحة، أو حتى دراسات علمية تثبت صحة وصدق وجود علاقة ارتباط بين القدرات العقلية وشكل الإنسان، فإن هذا رأي لا يؤخذ به في الفكر التربوي الإسلامي لابن الجوزي الذي لم يعقب على خطأه. 2 - كذلك بيَّن ابن الجوزي أن هناك صفات جسمية يستدلّ بها على الأذكياء، فقال في ذلك: "الخلق المعتدل والبنية المتناسبة دليل على قوة العقل وجودة الفطنة، فإذا غلظت الرقبة دلت على قوة الدماغ ووفوره، ومن كانت عينه تتحرك بسرعة وحِدّة فهو مكار محتال لصّ، وأحمدُ العيون الشهلُ، فإذا لم تكن الشهلاء شديدة البريق، ولا يظهر عليها صفرة ولا حمرة دلت على طبع جيد، وإن كانت العين صغيرة غائرة فصاحبها مكار حسود، ومن كان نحيف الوجه فهو فهيم مهتم ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الأثري. كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. ص 103. (¬2) مرجع سابق، العسقلاني. الباري بشرح صحيح البخاري. الجزء العاشر، ص 351، كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى. وعَفَوْا: كثروا وكثرت أموالهم، حديث رقم 5893. (¬3) مرجع سابق، السمالوطي، د. نبيل محمد توفيق. الإسلام وقضايا علم النفس الحديث. ص 168.

بالأمور، واللطف في النِّحاف والقصار أظهر، والمعتدلون في الطول صالحو الحال" (¬1). ولم ترد آيات قرآنية أو أحاديث نبوية صحيحة، تبيّن أن هناك علاقة وطيدة بين صفات الإنسان الجسمية والذكاء، وإنما العبرة بالعمل الصالح لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظرُ إلى صوركم وأموالكم. ولكن ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم" (¬2). والأحاديث التي وردت في بيان العلاقة بين الصفات الجسمية والذكاء، كلها أحاديث ضعيفة أو موضوعة، سأذكرها مع بيان درجتها فيما يأتي: أ - "احذورا صفر الوجوهِ فإنه إن لم تكن عن علةٍ أو سهرٍ، فإنه من غلٍ في قلوبهم للمسلمين. أورده الديلمي في مسنده عن ابن عباس، قال ابن الحجر: لم أقف له على أصل وإن ذكره ابن قيم في الطب النبوي له فذاك بغير سند" (¬3). ب - "إياك والأشقرَ الأزرقَ فإنه من قرنهِ إلى قدمهِ مكرٌ وخديعةٌ وغدرٌ. ذكره الديلمي عن ابن عمر مرفوعًا ولم يسنده ولده" (¬4). جـ - "الزرقةُ في العينِ يمنٌ. أخرجه ابن حبان في الضعفاء عن عائشة به مرفوعًا" (¬5). بالإضافة إلى كون هذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة (ابن الجوزي لم يستشهد بها أو يذكرها)، فقد أثبتت الدراسات التجريبية خطأ القول بوجود علاقة بين الذكاء وشكل الإنسان. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الأذكياء. ص 8. (¬2) مرجع سابق، النيسابوري. صحيح مسلم. الجزء الرابع، ص 1987، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، حديث رقم 34. (¬3) مرجع سابق، الأثري. كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. ص 10. (¬4) المرجع السابق، ص 51. (¬5) المرجع السابق، ص 86.

وعلى هذا فإن رأي ابن الجوزي هذا يعتبر مخالفًا للفكر التربوي الإسلامي، لأنه مخالف للعلم وما يخالف العلم يخالف التفكير الإسلامي أصلًا. 3 - عدّد ابن الجوزي بعض الأسباب التي تورث النسيان وهي: "الحجامة في النقرة، وأكل الكُزْبرَة الرطبة والتفاح الحامض، والمشي بين جملين مقطورين، وكثرة الهم، وقراءة ألواح القبور، والنظر في الماء الدائم والبول فيه، والنظر الى المصلوب، ونبذ القمل، وأكل سؤر الفأر" (¬1). وقد علّق العجلوني على قول ابن الجوزي فقال: "قال في المقاصد ولا يصح في المرفوع من ذلك شيء" (¬2). وقد ورد حديث يقول: "الحجامةُ في نقرةِ الرأسِ تورثُ النسيانَ فتجنبوا ذلك. رواه الديلمي من حديث عمرو بن واصل، قال: حكى لي محمد بن سوأة عن مالك بن دينار عن أنس مرفوعًا، وابن واصل اتهمه الخطيب بالوضع لاسيما وهو حكاية، وقد احتجم - صلى الله عليه وسلم - في يافوخهِ من وجعٍ كان به" (¬3). وورد في القمل: "نبذُ القملِ يورثُ النسيانَ. أورده ابن عدي في حديث مرفوع شديد الوهي والضعف. وفي سنده الحكم بن عبد الله الأيلي متهم بالوضع، ولفظه ست تورث النسيان سؤر الفار، وإلقاء القملة وهي حية، والبول في الماء الراكد، وقطع القطار، ومضغ العلك، وأكل التفاح الحامض" (¬4). ومن هنا نجد أن رأيه مستند إلى أحاديث شديدة الضعف أو موضوعة، ولا يمكن أخذ رأيه في ذلك ولا يمكن اعتباره من الفكر التربوي الإسلامي الصحيح، بأي حال من الأحوال. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. الحث على حفظ العلم في كبار الحفاظ. ص 18. (¬2) مرجع سابق، العجلوني، الجراحي. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. الجزء الثاني، ص 434. (¬3) مرجع سابق, الأثري. كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. ص 68. (¬4) مرجع سابق، العجلوني، الجراحي. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. الجزء الثاني، ص 433.

الفصل الثاني موازنة الآراء التربوية لابن الجوزي بالآراء التربوية في عصره، وبالآراء التربوية المعاصرة

• الفصل الثاني موازنة الآراء التربوية لابن الجوزي بالآراء التربوية في عصره، وبالآراء التربوية المعاصرة أولًا: موارنة جوانب الحياة الثقافية والتعليمية والتربوية في عصر ابن الجوزي عند المسلمين وما يقابلها عند الأوروبيين. وهي المدة الزمنية الممتدة من سنة (510 هـ - 597 هـ = 1116 م - 1201 م) ثانيًا: موازنة آراء ابن الجوزي بآراء معاصريه من المسلمين في المدة الزمنية نفسها. ثالثًا: موازنة بعض آراء ابن الجوزي ببعض الآراء التربوية الحديثة عند غير المسلمين. رابعًا: موارنة بعض آراء ابن الجوزي التربوية بآراء المربين المسلمين المعاصرين.

• الفصل الثاني موازنة الآراء التربوية لابن الجوزي بالآراء التربوية في عصره، وبالآراء التربوية المعاصرة إن هذا الفصل يهدف إلى مقارنة بعض آراء ابن الجوزي التربوية ببعض الآراء والاتجاهات التربوية في عصره وفي العصر الحديث، وهذه المقارنة لا تعني مجرد مقارنة الفكر التربوي لابن الجوزي بالفكر الغربي فقط، بل تتناول أيضًا موازنة فكره بالفكر التربوي الإسلامي السائد في عصره ثم تتناول أيضًا موازنة فكره بالفكر التربوي لدى بعض المربين المسلمين المعاصرين. وتهدف الموازنة إلى أمر ضروري وهو "النظر من داخل التراث عن طريق إبراز أهم الاتجاهات الصحيحة والمستمدة من الأصول، المتوافقة مع الوحي، في محاولة لتقديم حلول مشكلات الواقع، أو تقديم النظرة المفسرة أو تنظير الواقع، وإلقاء الضوء على مكوناته، أو التراث ومشكلاته" (¬1). كما أن المقارنة تساعد على إبراز مميزات التفكير التربوي الإسلامي، لأن خصائصه تظهر بوضوح عند مقارنته بغيره، كذلك المقارنة تساعد هنا على تقويم آراء ابن الجوزي من حيث مدى تفوقه أو سبقه لغيره، ومدى صلاحية آرائه التربوية لأوضاعنا المعاصرة. ¬

_ (¬1) أبو العينين، د. علي، خليل. الفكر التربوي الإسلامي. مصادره. معطياته. حركته. مجلة رسالة الخليج العربي. مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، السنة السادسة، 1406 هـ - 1986 م، العدد السابع عشر، ص 69.

أولا: موازنة جوانب الحياة الثقافية والتعليمية والتربوية في عصر ابن الجوزي عند المسلمين وما يقابلها عند الأوروبيين، وهي المدة الزمنية الممتدة بين سنة (510 - 597 هـ = 1116 - 1201 م)

وستقوم الباحثة بمقارنة آراء ابن الجوزي التربوية من خلال أربعة محاور هي: أولًا: موازنة جوانب الحياة الثقافية والتعليمية والتربوية السائدة في عصر ابن الجوزي عند المسلمين وما يقابلها عند الأوروبيين، وهي المدة الزمنية الممتدة بين السنة (510 هـ والسنة 597 هـ = 1116 م والسنة 1201 م). ثانيًا: موازنة آراء ابن الجوزي التربوية بآراء معاصريه من المسلمين في الفترة الزمنية نفسها. التي عاش فيها، وهم الذين كانوا في بلاد الإسلام التي تشمل كلًا من بغداد والأندلس والمغرب. ثالثًا: موازنة بعض آراء ابن الجوزي التربوية ببعض الآراء التربوية الحديثة عند غير المسلمين. رابعًا: موازنة بعض ابن الجوزي التربوية بآراء المربين المسلمين المعاصرين. وهناك أسباب دعت الباحثة إلى تشعيب المقارنة إلى أربعة محاور، وسأكتفي بذكرها عند مقارنة آراء ابن الجوزي بغيرها من الآراء والاتجاهات، فلا أذكرها هنا اجتنابًا للتكرار. أولًا: موازنة جوانب الحياة الثقافية والتعليمية والتربوية في عصر ابن الجوزي عند المسلمين وما يقابلها عند الأوروبيين، وهي المدة الزمنية الممتدة بين سنة (510 - 597 هـ = 1116 - 1201 م) فرضت طبيعة الاتجاهات التربوية السائدة في أوروبا، في الفترة نفسها التي عاشها ابن الجوزي، عدم وجود آراء تربوية واضحة، يمكن مقارنتها بآراء ابن الجوزي. وقد ساعدت المظاهر المتعددة التي غلبت على القرون الممتدة من القرن الحادي عشر إلى الخامس عشر الميلاديين، إلى تميز التربية والتعليم في هذه الفترة، فكانت "الحياة العقلية في الشطر الأول من العصور الوسطى خاضعة للكنيسة خضوعًا شديدًا. فمع مجيء الأفكار الوثنية من الشرق وذهاب الحملات الصليبية إلى الأراضي المقدسة، وتأثيرات الغرب

الفكرية، كل هذه أثارت التفكير والتساؤل عن سلطان الكنيسة العقلي، وهزت العزلة التي عاشتها الحياة العقلية في الغرب" (¬1). وأبرز حركة فكرية ظهرت في هذه الفترة نتيجة للمظاهر السابقة، هي الحركة الكلامية المدرسية " Scholosticism"، والهدف من هذه الحركة المدرسية "الاستعانة بالعقل في الدفاع عن العقيدة، وتقوية الحياة الدينية والكنسية عن طريق تقوية المواهب العقلية، والقضاء على الشك والإلحاد والهرطقة عن طريق المناقشة" (¬2). وطبيعة هذه الحركة "تنطبق عليها خصائص الطريقة أكثر من خصائص الفلسفة. . . فهي أولًا وقبل كل شيء طريقة للتدريس والتأليف واختبار الحقائق وتمحيصها وتدعيمها والتدليل عليها والتوفيق بين الأقوال والتعاليم الدينية التي تبدو متعارضة" (¬3). ومن المميزات التي تميزت بها هذه الحركة "الإعلاء من شأن فلسفة "أرسطو" ومنطقه القياسي إلى مستوى يجعلهما في مصاف تعاليم الكنيسة. ومن هذه المميزات أيضًا محاولة التوفيق بين العقل والدين والإيمان بأنه ليس بينهما أي تناقض أو صراع إذا ما فُهما حق فهمهما ومحاولة تدعيم السلطة الدينية بالفكر وتبرير العقيدة بالعقل، ومحاولة صياغة العقائد والمبادئ الدينية في عبارات منطقية، وتدعيمها على أساس من المنطق الأرسطوطاليسي" (¬4). ومن أبرز علماء هذه الحركة انسيلم Ansselm (1034 - 1109 م)، وبطرس أبيلارد Abe Lardus (1079 - 1142 م)، وبطرس لمبارد Peter Lombard (1100 - 1164 م)، والكسندر هالس Alexander Hales (1180 - 1235 م)، وقد اتفقوا على إمكانية التوفيق بين العقيدة ¬

_ (¬1) أحمد، د. سعد، مرسي وعلي، د. سعيد، إسماعيل. تاريخ التربية والتعليم. القاهرة، عالم الكتب، 1973 م، ص 98. (¬2) المرجع السابق، ص 98. (¬3) مرجع سابق، الشيباني، د. عمر، محمد، التومي. تطور النظريات والأفكار التربوبة. ص 57. (¬4) المرجع السابق، ص 57.

والعقل، "ولكنهم اختلفوا في تقديم أحدهما على الآخر، فذهب أنسيلم إلى: أن العقيدة يجب أن تسبق المعرفة، وأن الشك لا يمكن قبوله مقدمة أو تمهيدًا للعقيدة، ويقول في هذا الشأن: "أنا لا أبحث عن المعرفة لكي أؤمن ولكني أؤمن لكي أصل إلى المعرفة"، "أحرى بالمسيحي أن يتقدم إلى المعرفة عن طريق الإيمان، لا أن يصل إلى الإيمان عن طريق المعرفة. أما بطرس أبيلارد فقد ذهب إلى أن: "العقل متقدم أو سابق للعقيدة وأنه يمكن جعله أساسًا لعقيدة الكنيسة" (¬1). وقد وجهت لهذه الحركة انتقادات عدة، منها: "اتهامها بضيق ميدانها الفكري، فإن مجال تطبيقها لم يتعد في الغالب الأعم العقائد والتعاليم الدينية، والمبالغة في تقدير المنطق الأرسطوطاليسي، والوقوف عند حدوده، وتركيزها على اللفظ والشكل والأمور المعنوية المجردة. فكان رجالها يجهدون أنفسهم بالبحث في أمور ميتافيزيقية، وفي مسائل وهمية لا حقائق واقعية تؤيدها الملاحظة الحسية. وكانت كتبهم كما قال هلام: "تحتوي على مجردات عقلية لا قيمة لها، وعلى قضايا مفروضة فرضا وعلى تعريفات مملوءة بالألفاظ التبريرية المزعجة" (¬2). وعلى الرغم من هذه الانتقادات التي وجهت لهذه الحركة، فإن لها مزايا متعددة منها "تحرير العقل المسيحي من النظرة الدينية الضيقة، وإلى الإيمان بأن العقل والدين ليسا متناقضين، والتحسين من أساليب البحث والتأليف والشرح للعقائد والتعاليم الدينية، ووضع مجموعة كبيرة من المفردات والمصطلحات الفلسفية والعلمية سهلت سبل الاتصال والبحث العلميين على مفكري العصر الوسيط والعصور اللاحقة له، وترك مجموعة كبيرة من المؤلفات القيمة في ميادين الدين والقانون والفلسفة، وإنتاج طائفة كبيرة من مشاهير الرجال الذين خدموا العلم والدين في ذلك الوقت (¬3). وقد سبق ذكرهم. ومن أهم منجزات العصر الوسيط هو نشأة الجامعات الأوروبية، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 57 - 58. (¬2) المرجع السابق، ص 58. (¬3) المرجع السابق، ص 58.

ومن أهمها جامعة بولونيا في إيطاليا، وجامعة باريس في فرنسا، جامعة أكسفورد في بريطانيا. وقد ظهرت هذه الجامعات في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي ومطلع القرن الثاني عشر الميلادي، نتيجة للتحرر الفكري الذي حدث فيها وما صاحبه من موقف الكنيسة التي "خرجت بمفاهيم جديدة واهتمامات جديدة من نضالها مع الأباطرة الرومان المقدسين، فقد سمحت للفضول الثائر، والمناقشات الدينية المحتدمة، بأن تتخذ شكلًا علميًّا ذا بالٍ. ثم إن نمو التجارة وظهور الحكومات البلدية، ولاسيما في المدن الإيطالية، نفخت في التعليم المدني روحًا جديدة، وأخيرًا فإن الحروب الصليبية بقضائها على عزلة أوروبا وجعلها على اتصال بالعالم العربي الإسلامي المتمدين، سمحت بدخول الأفكار الجديدة، وبالتالي بتوسيع الآفاق الفكرية عند الغربيين" (¬1). هذه أهم جوانب الحياة التعليمية والعقلية في الدول الأوروبية، التي كانت في الفترة الزمنية التي عاش فيها ابن الجوزي. وحتى تكون المقارنة موضوعية، لابد أيضًا من إبراز الحالة الثقافية والتعليمية والتربوية التي كانت في الدولة الإسلامية، وفي الفترة الزمنية نفسها التي عاش فيها ابن الجوزي. وقد سبق أن تكلمت على ذلك (¬2)، لذلك سنكتفي بمناقشة تلك المظاهر ومدى ارتباطها بالآراء التربوية عند ابن الجوزي. وهل لهذه الآراء علاقة بالفكر الأوروبي في ذلك الوقت، وما مدى تأثيره وتأثره بها. أهم المظاهر العلمية التي غلبت على عصر ابن الجوزي 1 - "تميز بغداد بالبيئة العلمية الخصبة التي حوت جميع الثقافات. 2 - اهتمام الخلفاء والوزراء بالعلم والتعليم والعلماء. ¬

_ (¬1) عاقل، د. فاخر. التربية قديمها وحديثها. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة 1981 م، ص 33. (¬2) انظر الباب الثاني، ص 53 وما بعدها من هذا الكتاب.

3 - انتشار المكتبات العامة والخاصة المليئة بالكتب المختلفة. 4 - قيام الجوامع الإسلامية بمهمة العلم والتعليم. 5 - انتشار المدارس التعليمية على المذاهب الأربعة. 6 - كثرة العلماء المتفرغين للعلم والتعليم وكثرة مؤلفاتهم. 7 - تعدد المذاهب والفرق الكلامية والاتجاهات الفكرية المختلفة. 8 - ازدهار العلوم الإسلامية بالإضافة إلى علوم الطب والفلك والهندسة. 9 - ترجمة كتب الفلسفة والمنطق إلى اللغة العربية" (¬1). وبمقارنة هذه المظاهر العلمية السائدة في الدولة الإسلامية، بالاتجاهات الفكرية السائدة في الدول الأوروبية، يتضح لنا ازدهار الحياة التعليمية الإسلامية، وشمولها لجميع أنواع العلوم الإسلامية والعلمية من طب وفلك وهندسة وإنجاز ترجمة كتب الفلسفة والمنطق من جميع اللغات اليونانية والهندية إلى اللغة العربية. هذا بالإضافة إلى الاختلاف الواضح في العقائد، فالدولة الإسلامية تدين بالعقيدة الإسلامية وتبني فكرها عليها، والدول الأوروبية تدين بالمسيحية وتبني فكرها عليها، مع محاولتها في هذه الفترة التحرر من سلطان الكنيسة إلى حد ما. وأهم النقاط التي ناقشها الفكر الأوروبي هي إمكانية التوفيق بين ¬

_ (¬1) أخذت هذه المعلومات من مراجع عدة بتصرف وإيجاز. أ - شلبي د. أحمد. موسوعة التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية. القاهرة، مكتبة النهضة، الطبعة السابعة، 1982 م، الجزء الثالث، ص 234. ب - مرجع سابق، السيوطي، الحافظ، جلال الدين. تاريخ الخلفاء. ص 407 - 408. جـ - مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. المجلد العاشر، ص 214، 284، 250. د - مرجع سابق، الحكيم، حسن، عيسى، علي. كتاب المنتظم لابن الجوزي. ص 166.

ثانيا: موازنة آراء ابن الجوزي بآراء معاصريه من المسلمين في الفترة الزمنية نفسها

العقيدة والعقل والإيمان وأنه ليس بينهما أي تناقض أو صراع إذا ما فُهما حق الفهم. وهذه فكرة لم يناقشها ابن الجوزي لكونه مسلمًا يدين العقيدة الربانية التي جاءت أحكامها وتشريعاتها موافقة للعقل البشري والإيمان الفطري، فحتى في الغيبيات مثلًا لا يحس المسلم بالتناقض أو الصراع وإنما يخاطب العقل البشري. كذلك قام الفكر الأوروبي بمحاولة صياغة العقائد والمبادئ الدينية في عبارات منطقية وتدعيمها على أساس من المنطق الأرسطوطاليسي. وابن الجوزي لم يناقش ذلك، ولكن ناقش -بصفة عامة- آراء الفلاسفة وتابعيهم الذين ينقلون "من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وجالينوس" (¬1)، ثم بين أن هؤلاء الفلاسفة "كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أمورًا خفية إلا أنهم لما تكلموا في الإلهيات خلّطوا ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا في الحسيات والهندسيات" (¬2). وبذلك نلاحظ أننا لا نستطيع مقارنة عصر ابن الجوزي بأفكاره التربوية الإسلامية بالعصر الأوروبي وأفكاره، لتركيز الأوروبيين الواضح على الديانة المسيحية، ومحاولة التحرر منها في خطواتها الأولى. وبذلك يكون الفكر التربوي لابن الجوزي فكرًا تربويًا متميزًا، لأنه استقاه من المنهج التربوي الإسلامي. ثانيًا: موازنة آراء ابن الجوزي بآراء معاصريه من المسلمين في الفترة الزمنية نفسها إن سبب موازنة آراء ابن الجوزي بآراء معاصريه من المسلمين، هو بيان مدى التشابه أو الاختلاف، أو التأثير فيهم والتأثر بهم، ثم مدى الترابط الفكري بين علماء المسلمين، رغم البعد المكاني، والتقارب الزمني. تمثل المدة من (510 - 597 هـ) فترة ازدهار الحضارة العلمية ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 49. (¬2) المرجع السابق، ص 49.

والثقافية في الدولة الإسلامية ولاسيما حركة التأليف من قبل علماء المسلمين أمثال: أبي بكر بن العربي في المغرب (468 - 543 هـ)، والسمعاني في بغداد (506 - 562 هـ)، والزرنوجي في شرق الدولة الإسلامية توفي في عام (571 هـ)، وابن طفيل في الأندلس (المتوفى في عام 581 هـ). وأخيرًا ابن رشد في الأندلس (520 - 595 هـ). وستقوم الباحثة بعرض مختصر لآراء هؤلاء العلماء بعد إعطاء نبذة موجزة عن اسم كل عالم ومكان نشأته، ومدى التشابه أو الاختلاف بينه وبين ابن الجوزي، ومدى استفادته منهم أو عدمها. أ - أبو بكر بن العربي (468 - 543 هـ) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الأشبيلي. ولد في 22 شعبان سنة 468 هـ بمدينة إشبيلية في أحضان أسرة كانت لها حظوة لدى المعتمد بن عباد (488 هـ- 1095 م) في عصر دول الطوائف" (¬1). وتوفي في سنة 543 هـ. ويعتبر أبو بكر بن العربي من الذين نقلوا التراث الفكري الحضاري من مختلف المراكز الثقافية، وشتى المدارس بالمشرق إلى المغرب بطريق مباشر، هو طريق الرحلة والطلب، والالتقاء بأصحاب المذاهب مباشرة؛ فقد التقى مباشرة بمنكري النبوات، وأتباع الفلسفة المشائية في بغداد، وبيت المقدس، والإسكندرية، بجانب أخذه عن أصحاب المذاهب الإسلامية، فسمع آراءهم مشافهة وناظرهم عليها، ونقدهم فيها، وحمل آراءهم إلى المغرب، وعرضها على تلاميذه، كما عرض نقده لها، وموقفه منها، الذي هو موقف الرفض، فيما يتعلق بالفلسفة اليونانية بالخصوص، ولم يكن موقفه سلبيًا محضًّا، بل إن نقده لم يخلُ من نظرات إيجابية نافذة، ومنهج عقلي واضح" (¬2). والذي يهمنا في موضوع بحثنا، هو الجانب التربوي من أفكاره، ¬

_ (¬1) طالبي، عمار. آراء أبي بكر بن العرب الكلامية. الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع دون طبعة وتاريخ، الجزء الأول، ص 25. (¬2) المرجع السابق، ص 64.

وقد أخذ جزءًا كبيرًا منه من الإمام الغزالي، وكان متأثّرًا به إلى حدّ كبير. وقد التقى أبو بكر بن العربي بالإمام الغزالي في مدينة السلام بغداد (¬1) في سنة 490 هـ وأخذ عنه من العلوم الشيء الكثير. موجز لبعض آراء أبي بكر بن العربي التربوية أُخذت هذه الآراء من كتاب آراء أبي بكر بن العربي الكلامية للأستاذ عمار طالبي: 1 - "انتقد طريقة تعليم أهل المغرب لصبيانهم وهي أنهم يبدأون بتعليم القرآن الكريم، ثم اللغة العربية، ثم حفظ موطأ الإمام مالك، ثم حفظ المدوّنة برواية ابن القاسم ثم دراسة الوثائق لابن العطاء في فن التوثيق والعقود، ثم يختم -الطالب- دراسته بكتاب أحكام ابن سهل. وقارنها بطريقة أهل المشرق التي اعتبرها أفضل منها وهي أن يبدأ بتعليم الصبي إذا عقل الخط أو الكتابة والحساب والعربية، ثم حفظ القرآن، ويستمر في تلقي العلوم الأخرى، أو يكتفي بذلك". 2 - المنهج الذي وضعه ابن العربي يتألف من: تعليم الصبي اللغة العربية ومقاطع الكلام، ويحفظ أشعار العرب وأمثالها، ثم ينتقل إلى تعلم الحساب، ثم دراسة القرآن. كذلك يمكن أن يتعلم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه. كما أوصى بتعليم أصول الطب، وتعليم تعبير الرؤيا، ومعرفة الأنساب". 3 - أن لا يخلط في التعليم بين علمين إلا أن يكون الطالب ذا جودة في الفهم، وقوة في النشاط، وقابلية في ذلك. وهذا الرأي ذهب إليه الإمام الغزالي -رحمه الله-. 4 - يرى أن ذهن الطفل خال من كل شيء. وهو ما ذهب إليه الغزالي. 5 - لا يشجع ابن العربي التخصص، ويقول في ذلك "ولا يفرد ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 52 - 53.

نفسه ببعض هذه العلوم، فيكون إنسانًا في الذي يعلم، بهيمة فيما لا يعلم" (¬1). وهناك الكثير من آرائه التربوية. والذي يبدو واضحًا تأثر ابن العربي بالإمام الغزالي، كما أشرنا وهذا التاريخ قبل ولادة ابن الجوزي 510 هـ. ثم ترك ابن العربي بغداد بعد سنتين عائدًا إلى المغرب، ثم مصر، ثم استقر في بلده من عام 535 هـ إلى أن توفي عام 543 هـ. والذي يبدو من التتبع التاريخي لحياة ابن العربي وصلته بالعلماء، أنه لم يقابل ابن الجوزي ولم يقرأ كتبه، ولم يذكر اسمه في أي من مؤلفاته الكثيرة، لذلك لم يكن هناك تأثير أو تأثر بينهما، وإن كان كل منهما قد تأثر بالإمام الغزالي. ولكن ابن العربي استفاد من الغزالي أكثر من ابن الجوزي وخصوصًا في الجانب التربوي. ب- عبد الكريم بن محمد بن منصور أبو سعد السمعاني (506 هـ- 563 هـ) "كان أحد فرسان الحديث، وعظ بالنظامية ببغداد، وقرأ تاريخها على أبي محمد ابن الأبنوسي، ثم ارتحل إلى همدان فسمع بها من شيوخها، وبأصبهان من أبي بكر أحمد بن محمد الحافظ ابن مردويه وطبقته. ذكر ولده له ترجمة حسنة وقال: رحل بي وبأخي سنة تسع وخمسمائة إلى نيسابور فسمعنا من الشيروي، وقد أملى مائة وأربعين مجلسًا بجامع مرو وكل من رآها اعترف له أنه لم يُسبق إلى مثلها، وكان يَعِظ ويروي في وعظه الحديث بأسانيده" (¬2). وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه المنتظم طرفًا من حياته فقال: "دخل إلى بغداد سنة اثنتين وثلاثين وسمع معنا على المشايخ، وسافر في ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 229 - 239. (بتصرف). (¬2) مرجع سابق، الذهبي. تذكرة الحفاظ للذهبي. المجلد الثاني، الجزء الرابع، ص 1266 - 1267.

طلب الحديث، وذيِّلَ على تاريخ بغداد. . . . الخ" (¬1). وقد اتهمه ابن الجوزي بالتدليس فقال: "كان يأخذ الشيخ البغدادي فيجلس معه فوق نهر عيسى ويقول حدثني فلان من وراء النهر ويجلس معه في رقة بغداد، ويقول حدثني فلان بالرقة في أشياء من هذا الفن لا تخفى على المحدثين" (¬2). وقد ضمن كتابه أدب الاملاء والاستملاء (¬3) مجموعة من الآداب وطرائق العمل، وأدوار كل من الأستاذ (المعلم) والأستاذ المساعد (المستملي، المعيد) والكاتب (الطالب)، وهي خاصة بعلم الحديث وأهميته وقواعد تعلمه. وأدوات التعليم. وأهم الآراء التي وردت فيه بإيجاز شديد هي: - فضل العلم وأهدافه. - قسَّم الآداب إلى أربعة أقسام؛ القسم الأول: شروط وآداب الأستاذ. أ- الآداب الشكلية وتشمل: 1 - المظهر الخارجي للأستاذ. 2 - أن يقتصد في مشيه للدرس ويلتزم بآداب السلام. 3 - أن يلتزم في أثناء الدرس بقواعد الدخول ووضعية الجلوس. 4 - أن يلتزم بتحديد الأماكن والأوقات الخاصة بالتدريس. . . . الخ. 5 - أن يلتزم بالمواعيد. ¬

_ (¬1) ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 224. (¬2) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 225. (¬3) السمعاني، عبد الكريم، محمد. أدب الإملاء والاستملاء. (تحقيق) زيعور، شفيق، محمد، لبنان، دار اقرأ، الطبعة الأولى, 1404 هـ - 1984 م ..

ب- قواعد تدريس المنهج وتشمل: 1 - أن لا يُحدِّث إلا من كتابة تجنبًا للنسيان. 2 - أن ينوّع في المصادر والمراجع. 3 - أن يستعمل الكتب والمصادر الموثوق بها ويبتعد عن الضعيفة. 4 - أن يراعي الفروق الفردية للاستيعاب عند التلاميذ. . . الخ. القسم الثاني: شروط وواجبات مساعد المملي وتشمل: 1 - أن لا يكون ثقيلًا بل خفيفًا على الفؤاد. 2 - يستحب أن يقعد على موضع مرتفع. 3 - ينبغي أن يكون جهوري الصوت. 4 - ينبغي أن يكون متيقظًا ولا يكون بليدًا مغفلًا. . . . الخ. القسم الثالث: آداب الطالب وتشمل: 1 - أن يتميز عن غيره باقتدائه بالرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أن يبكر إلى المجلس لطلب العلم. 3 - أن يهتم بمظهره الخارجي مع الاهتمام بالقواعد العامة للسير والمشي. 4 - أن يلتزم بآداب الدخول والخروج من مجلس العلم. . . . الخ. القسم الرابع: أدوات التعليم وتشمل: 1 - استعمال الحبر. 2 - استعمال المحبرة. 3 - استعمال القلم. 4 - الاستعمال الأمثل للخط.

5 - طريقة الكتابة تجنبًا للتصحيف والإملاء. . . الخ. على الرغم من ذكر ابن الجوزي للسمعاني في كتابه المنتظم، فإنه لم يعلق على كتابه هذا، وما فيه من آراء تربوية خاصة بآداب العالم والمتعلم، والملاحظ أن هناك تشابهًا أو شيئًا من التشابه بين آراء السمعاني في هذه الآداب، وآراء ابن الجوزي في الموضوع نفسه: آداب العالم والمتعلم والقاصّ. وهذا التشابه ربما نتج من أن كلًا منهما يدين بالإِسلام فكرًا ومنهجًا شاملًا للحياة، فبنَى كل واحد منهما رأيه حسب ما وجده في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، أو ربما نشأ هذا التشابه أيضًا من تأثر ابن الجوزي بالسمعاني، لأنه ذكر ترجمة حياته، ومعنى ذلك أنه وقف على تراثه وتأثر به، ولم يذكر تأثره لأن الدراسات لم تكن على نظامنا أن يذكر الباحث بكل ما أخذ من غيره. جـ- الزرنوجي (571 هـ) هو برهان الدين إبراهيم الزرنوجي (زَرْنوج بالفتح والسكون بلد بما وراء النهر بعد خجند) الحنفي من تلاميذ برهان الدين صاحب الهداية، المتوفَّى في حدود سنة 610 هـ. صنف الزرنوجي تعليم المتعلم طريق التعلم (¬1) ولم يحدد يوم ولادته، واختلف في وفاته، فمنهم من ذكر سنة وفاته 571 هـ (¬2). ومنهم من ذكر سنة 591 هـ. ويعتبر "أحد فقهاء الحنفية الذين عاشوا في شرق الدولة الإسلامية فيما وراء النهر، وفي النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وأوائل القرن السابع، ولم يذكر له الذين ترجموا حياته سوى هذا الكتاب، الذي يعطينا فكرة واضحة عن ثقافة عصره، بالإضافة إلى معرفته علوم الفقه ¬

_ (¬1) مرجع سابق، البغدادي، إسماعيل، باشا. هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين. الجزء الخامس، ص 13 - 14. (¬2) عبد الدائم، د. عبد الله. التربية عبر التاريخ. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، 1984 م، ص 260.

وبخاصة الفقه الحنفي" (¬1). وسنعرض لفكره التربوي من خلال كتابه تعليم المتعلم طريق التعلم، وقد قسم الزرنوجي موضوعات الكتاب إلى فصول عدة (¬2) هي: 1 - فصل في ماهية العلم والفقه وفضله. 2 - فصل في اختيار العلم والأستاذ والشريك والثبات عليه. 3 - فصل في تعظيم العلم وأهله. 4 - فصل في الجد والهمة. 5 - فصل في بداية السبق وترتيبه وقدره. 6 - فصل في التوكل. 7 - فصل في وقت التحصيل. 8 - فصل في الشفقة والنصيحة. 9 - فصل في الاستفادة واقتباس الآداب. 10 - فصل في الورع في حال التعلم. 11 - فصل فيما يورث الحفظ وفيما يورث النسيان. 12 - فصل فيما يجلب الرزق وما يمنعه، وما يزيد في العمر وما ينقص. وبمقارنة آراء الزرنوجي بآراء ابن الجوزي في هذا المجال، فإننا نلاحظ أن هناك تشابهًا وتقاربًا كبيرًا بينهما. وإذا أردنا أن نتبين هذا التقارب الكبير بينهما، هل حدث نتيجة التأثير والتأثر بينهما، أم نتيجة نقل أحدهما عن الآخر، فإننا لا نستطيع ¬

_ (¬1) ناصر، د. محمد. الفكر التربوي العربي الإسلامي. الكويت، وكالة المطبوعات، الطبعة الأولى، 1977 م، ص 343. (¬2) الزرنوجي، برهان الدين. تعليم المتعلم طريق التعلم. (تحقيق) الخيمي، صلاح، محمد وحمدان، نذير، دمشق، بيروت، دار ابن كثير، 1406 هـ - 1985 م، ص 17.

ذلك، لأن كتب التراجم لم تذكر شيئًا عن حياة الزرنوجي العلمية، ورحلاته وشيوخه، وتلاميذه، وعلاقته بغيره من العلماء السابقين واللاحقين لعصره. والشيء الذي يمكن أن نؤكده أن كلا الإمامين قد استقى آراءه التربوية من الفكر التربوي الإسلامي، بمصدريه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن مؤلفات غيرهما من العلماء، لذلك نتج هذا التقارب بينهما. د- ابن طفيل توفى (581 هـ) "هو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي. ولد في وادي "آش" (Guadix حاليًّا) لا يبعد أكثر من 55 كم عن قرطبة، في عام لم يحدده المؤرخون بدقة، فذكروه ما بين 495 هـ وعام 505 هـ. في أسرة لم يذكر المؤرخون عنها شيئًا، ينتمي إلى قبيلة قيس من أصل عربي من غير اليمن (¬1). أما حياته العلمية فقد "قرأ على جماعة من المحققين لعلم الفلسفة، منهم أبو بكر ابن الصايغ المعروف بابن باجة. وسواء قد تتلمذ ابن طفيل حقًّا على ابن باجة أو لم يصحَّ ذلك فمما لا شك فيه أنه تأثر به وبفلسفته تأثرًا بارزًا، هذا إلى جانب دراسته العلوم الدينية والفقه، والعلوم العقلية والطب، وقد برز بها جميعًا وترك آثارًا بها، ولعل علومه هذه تلقاها في غرناطة وأشبيلية لكونهما مركزي العلوم في بيئة وعصر ابن طفيل" (¬2). وقد تقلب ابن طفيل في وظائف عدة، فقدمه الباحثون لنا قاضيًا، كما قدموه لنا طبيبًا بارعًا في غرناطة لحقبة طويلة لدى السلطان أبي يعقوب يوسف القيسي، إلى أن تخلَّى عن هذه المهمة لابن رشد، كما يقدمه لنا البعض كاتبًا لأمير غرناطة، ولأحد أبناء عبد المؤمن. ووزيرًا ¬

_ (¬1) شمس الدين، د. عبد الأمير. الفكر التربوي عند ابن طفيل. بيروت، دار اقرأ للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الأولى، 1404 هـ -1984 م، ص 11. (¬2) المرجع السابق، ص 12.

للسلطان أبي يعقوب يوسف نفسه". وأوضح جوانب حياة فيلسوفنا تلك المرحلة التي قضاها في بلاط السلطان أبي يعقوب يوسف سلطان الموحّدين" (¬1). فكر ابن طفيل التربوي من خلال قصة حي بن يقظان ألف ابن طفيل قصة ضمنها أفكاره وسماها حي بن يقظان، وأراد أن يبرز فكره التربوي فيها، وهذه القصة قصة فلسفية رمزية، قسم فيها حياة "حي" ونموه إلى مراحل، وتعامل مع كل مرحلة بما يتناسب مع طبيعتها، وقدم لها ما يناسبها من خبرات ودوافع ومحركات تمهد للانتقال إلى مرحلة أُخرى تليها" (¬2). للوصول إلى الغاية من وجوده وخلقه في هذه الدنيا. وسأوجز عرض مراحل النمو وما حققته كل مرحلة كما جاءت في القصة، وكما عرضها أحد الباحثين (¬3). المرحلة الأُولى: من الولادة حتى الثانية من العمر: تربّى "حي" في أحضان ظبية أرضعته منها، وأغدقت عليه من حنانها، ومع توافر هذه الحاجات (الحيوية) البيولوجية التي يتطلبها في هذه المرحلة، تعلم عن طريق التقليد والمحاكاة ما يدفع عنه الضرر، ويحقق له المقدرة على الاستمرار، فقلد الأصوات التي تعبر عن انفعالاته الأولية كالخوف، والاستغاثة، والألفة، والقبول والرفض، بالإضافة إلى تكون بعض العواطف، واكتساب بعض العادات والممارسات مثل الكلام والنطق والمشي والتنقل. المرحلة الثانية: من السنتين حتى السابعة من العمر: ينتقل "حي" في هذه المرحلة من القصور الذاتي والعجز الكامل إلى ¬

_ (¬1) مرجع سابق، المرجع السابق، ص 12 - 13. (¬2) المرجع السابق، ص 56. (¬3) المرجع السابق، ص 30 - 40. بتصرّف ..

شيء من الاعتماد على نفسه، إذ يصبح عن طريق الملاحظة والمقارنة والمشاهدة والتفكر والتأمل، يدرك بعض الأمور مثل انفصاله عن الآخرين، والسعي لتحقيق الضروريات لحياته، كما أصبح يدرك بعض المفارقات بينه وبين الحيوانات، يضاف إلى ذلك نزوع عاطفي نحو ما ألفه من الطبيعة نظرًا لما قدمته له من حماية ووسائل للحياة. المرحلة الثالثة: من السابعة حتى الحادية والعشرين من العمر: يبين ابن طفيل في هذه المرحلة، ما وصل إليه "حي" من نمو جسدي وانفعالي وفكري، فذكر أنه على الصعيد الجسدي، استطاع أن يفصل بين الجسد والروح، ويكتشف طبيعتهما وماهية كل منهما وعلاقته بالآخر، كما اكتشف طبيعة الحواس، والدور الذي تؤديه للإنسان، وطبيعة عملها، وما تحقّقه للفرد من معارف وإدراكات بواسطتها. أما على الصعيد الانفعالي (العاطفي) فقد استمد "حي" عواطفه الايجابية من الظبية التي أمدته بأسباب الحياة فكانت سببًا في بقائه، كما أخذ من الغراب الذي دفن صاحبه درسًا وخبرة، مستحسنًا ما أقدم عليه ذلك الطير. وكما كانت تلك العاطفة -بعد وفاة الظبية- باعثًا على الكشف والتعرف، كانت باعثًا على الاهتمام والشفقة وتقديم المساعدة لكل من يحتاجها. أما على الصعيد الفكري: فقد أراد ابن طفيل الفيلسوف أن يصل بـ"حي" إلى درجة فكرية عالية ومتقدمة، كما وصل به في الجانبين الجسدي والانفعالي. وأهم الحقائق التي بلغها "حي" في هذه المرحلة هي أنه: "أ - تمكن من الكشف عن العلاقات بين أشياء متعددة متنافرة ومتباعدة مثل (علاقة الروح بالجسد، وأعضاء الجسد بالجسد نفسه الذي هو وحدة واحدة). ب - ربط الإدراكات والمعارف بالوسائل المؤدية إليها فقد ربط الادراكات الحسية بالحواس، وإذا تعرضت الحواس لعائق تعطلت الإدراكات.

جـ - توصل إلى الفصل بين مبدأي الحركة (أعلى وأسفل) والسكون، وبين التعدد والوحدة بالكشف عن الخصائص المشتركة وغير المشتركة بين الكائنات المجتزئة. د - توصل إلى ماهية وخصائص الأجسام والعناصر: الماء، والتراب، الهواء، النار، الجسد، الروح (النباتي منه والحيواني)، والفكر. هـ - اكتشف في عالم الكون والفساد: تحلّلَ العناصر وتحولها من حالة إلى أخرى، تختلف عنها ماهية وخاصية، تحول الماء إلى بخار، والنار إلى قوة محرقة، والتراب إلى طين. و- عرف مبدأ الفصل في الأجسام بين الهيولي والصورة، بين الشكل والمضمون، بين العنصر وماهيته، تحول الطين من شكل إلى شكل يختلف عنه، والماء والتراب والهواء. ز - كشف عن مبدأ العلية أو السببية: فكل تحول في جسم من حالة إلى حالة بالرغم من كون الهيولي واحدة، الصورة هي المتغيرة، لابد له من فاعل أو مسبب" (¬1). المرحلة الرابعة: (من العام الحادي والعشرين حتى الثامن والعشرين): في هذه المرحلة يتسع مجال تفكيره من عالم الحس والمادة إلى عالم الروح والعقل، ويبلغ ابن طفيل بحي بن يقظان أقصى درجات المعرفة، بل السعادة، حيث يلتقي العقل مع الشرع، العيان بالوحي، ويتفق المعقول مع المنقول، لينتهي بعدها دور العقل ويبلغ قدرًا يعجز عنه الوصف والتحدث به بلغة العقلاء من البشر. عندها يبلغ العلم الإلهي غايته من إدراك وجود الله تعالى. المرحلة الخامسة: (من الثامنة والعشرين من العمر حتى الخمسين): في هذه المرحلة يوضح ابن طفيل نموذجين من البشر في المجتمع إزاء دعوة الشريعة، إما إلى انتهاج طريق "العزلة والانفراد" باعتبارهما ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 35 - 36.

طريقي الخلاص والنجاة، أو انتهاج طريق "المعاشرة وملازمة الجماعة"، وقد فضل ابن طفيل العودة إلى الطبيعة واتباع طريق الوحدة واعتزال المجتمع فهو طريق الخلاص من ناحية، كما أنه الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الحقيقة التي ينشدها الإنسان من ناحية أُخرى (¬1). هذا موجز لفكر ابن الطفيل من خلال قصة حي بن يقظان، التي نقلتها بتصرف وإيجاز من كتاب الفكر التربوي عند ابن طفيل، للدكتور عبد الأمير شمس الدين. ولو أردنا الإسهاب لأخذ منا صفحات طويلة، لذلك سنكتفي بما سبق. وواضح من التتبع التاريخي لحياة ابن طفيل أنه عاش في مدينة من مدن الأندلس، ولم يكن على اتصال بابن الجوزي، ولم يكن ابن الجوزي على اتصال أو معرفة به، يضاف إلى ذلك أن فكر ابن طفيل التربوي يختلف تمامًا عن فكر ابن الجوزي الذي يعتمد في كثير من آرائه على الإشارات التربوية العامة، أما ابن طفيل فقد سلك منهجًا تربويًا متميزًا في عرض مراحل النمو الإنساني، وما يحتاجه هذا النمو من حاجات فطرية، ونفسية، ليحقق الغاية من هذا الوجود، مستخدمًا في ذلك الطرق والوسائل والأساليب التي توصله إلى هذه الغاية، وذلك من خلال العرض القصصي الذي أعطى تصورًا مخالفًا عن النظرة الإسلامية للإنسان والغاية من وجوده في بعض الأمور، وقد أهمل ابن طفيل تأثير البيئة، ودور كل من الوالدين والمربين والمعلمين في توجيه الطفل وتقويم سلوكه وتزويده بالمعارف والمهارات المختلفة، لأنه يرى أن الإنسان عنده قدرة فكرية وعقلية يستطيع بها الوصول إلى معرفة الله، ولإبراز فكره أهمل ذلك قصدًا حتى يصل إلى ذلك من خلال مراحل نمو الإنسان وخصائص كل مرحلة. هـ - ابن رشد (520 - 595 هـ) هو "محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 37 - 40 بتصرف ..

عبد الله بن رشد أبو الوليد المشهور بابن رشد الحفيد" (¬1). "ولد محمد بن رشد الحفيد في سنة 520 هـ. . . وقد تولى والده تربيته على النحو الذي تربَّى عليه، فحرص على تدريسه بنفسه، وإيصاله إلى كبار شيوخ عصره" (¬2). وقد أخذ بنصيب وافر من العلوم الإسلامية، القرآن الكريم والحديث والفقه والسيرة النبوية، وتاريخ الرجال، ومن علوم الفلسفة والطب. وقد ألَّف في معظم العلوم التي درسها مثل الطب والفلسفة التي يعتبر إمامها. كما "استطاع ابن رشد أن يلفت إليه الأنظار مبكرًا، فهو سليل علماء أجلاء وحفيد لشيخ الجماعة، كما أن نبوغه واستيعابه لأهم العلوم المرغوب فيها من لون الخاصة لاسيما في مجالات الطب والفلسفة أتاحا له البروز وأهَّلاه لتولي منصب القضاء، ولإيثار الملوك له دون أقرانه" (¬3). وقد توفي ابن رشد في سنة خمس وتسعين وخمسمائة (595 هـ) بعد أن تعرض لمكايد الحسَّاد لمنزلته من الخليفة. آراء ابن رشد التربوية هذه بعض آراء ابن رشد التربوية المستخلصة من كتابه تلخيص كتاب جمهورية أفلاطون. وقد نُقلت بتصرف من كتاب من أعلام التربية العربية الإسلامية المجلد الثالث، من بحث أعدّه الدكتور عبد السلام الهراس بعنوان "أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد" (¬4). ¬

_ (¬1) الهراس، د. عبد السلام. أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد، من أعلام التربية العربية الإسلامية. مكتب التربية العربي لدول الخليج، عام 1409 هـ-1988 م، المجلد الثالث، ص 65. (¬2) المرجع السابق، ص 66. (¬3) المرجع السابق، ص 69. (¬4) المرجع السابق، ص 81 - 90.

أهم الآراء التربوية لابن رشد 1 - وجوب التنشئة على الفضائل من الصغر، ويقول في ذلك: "بداية كل شيءٍ مهمة جدًّا، وينبغي ألا تعوَّد أنفسهم على حكايات فارغة فلا نربيهم وفقًا لها بأكثر مما نحمي أجسامهم مما يخربها" (¬1). 2 - استبعاد محاكاة كل ما هو سخيف ومنحطّ: فقال في ذلك: "وعندي أنه يجب استبعاد القصائد العربية التي تتناول مثل هذه الأشياء أو تحاكي ما يشابهها، فهو يلحّ على إبعاد الشباب في حداثتهم عن تعويدهم على سماع ما في قصائد العرب من شرور" (¬2). 3 - أولويات المواد في التعليم: ويقول في ذلك ابن رشد: "ولما كانت هذه الصناعة (يقصد بها علم المنطق) موجودة الآن، فإن الأَولى أن نبتدئ تعليمهم بها، وبعد ذلك ينبغي أن ينتقلوا إلى الحساب ثم الهندسة وعلم الهيئة والموسيقى وعلم المناظرة والميكانيك والطبيعيات وأخيرًا ما بعد الطبيعة" (¬3). 4 - أقسام العلوم علمية وعملية: يرى ابن رشد أن العلم الحق هو "معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأُخروية والشقاء الأُخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الشقاء. والمعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى "العلم العملي". والأفعال التي تعكس العمل الحق تنقسم إلى: أفعال بدنية والعلم بها يسمى الفقه، وأفعال نفسانية وأخلاقية دعا إليها الشرع أو نهى عنها والعمل بها يسمى "الزهد" "وعلوم الآخرة" وهو في هذا الرأي متأثر بالإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين (¬4). يبدو من آراء ابن رشد التربوية، أنها تختلف في بعضها عن آراء ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 81. (¬2) المرجع السابق، ص 82. (¬3) المرجع السابق، ص 83. بتصرف. (¬4) المرجع السابق، ص 89. بتصرف.

ثالثا: موازنة بعض آراء ابن الجوزي ببعض الآراء التربوية الحديثة عند غير المسلمين

ابن الجوزي، لأن ابن رشد يعتبر فيلسوفًا متأثرًا بالدراسات الاستشراقية المتأخرة التي بينت تأثيره في الفكر الأوروبي" (¬1)، وتأثره بالفلسفة واعتباره رائدًا من روادها، وقد اصطبغت آراؤه التربوية بالصبغة الفلسفية ذات الصلة بالطابع الشرعي والقياس العقلي. بينما لم يبدُ ذلك على آراء ابن الجوزي. ثالثًا: موازنة بعض آراء ابن الجوزي ببعض الآراء التربوية الحديثة عند غير المسلمين إن الداعي إلى مقارنة بعض آراء ابن الجوزي ببعض الآراء التربوية الحديثة -رغم البعد الزمني- يكمن في أن المقارنتين السابقتين لم تبرزا آراء ابن الجوزي التربوية، وموقعها بين الآراء التربوية الحديثة. وفي هذه المقارنة لن نركز على العالم التربوي أو عصره أو الفترة الزمنية التي عاش فيها، بل الذي يهمنا في المقام الأول هو أوجه الاختلاف أو الاتفاق في الآراء التربوية، وما أضافه ابن الجوزي، وما سبق به غيره وأسباب ذلك. وستكون المقارنة لبعض آراء ابن الجوزي التربوية، الواردة في كل فصل من الفصول السابقة في البابين الثالث والرابع حسب ترتيبها. أ - حقيقة الدوافع سبق في الباب الثالث، الفصل الأول، أن ذكرنا تعريف الدافع وبينا حقيقته ورأي ابن الجوزي فيه وهو "أن جميع ما وُضِع في الآدمي إنما وُضع لمصلحته، إما لاجتلاب نفع كشهوة المطعم أو لدفع ضرر كالغضب" (¬2) وهو بذلك يوافق ما ذهب إليه بعض علماء النفس وإن كان ثمة خلاف فهو في تحديد هذه الدوافع الغريزية، فقد أرجعها بعضهم إلى واحدة "هي الغريزية الجنسية (فرويد)، أو غريزة السيطرة، ومنهم من رآها متعددة، وقد اختلفوا في عددها؛ فرأى "ماكدوجل" زعيم المدرسة التقليدية في الغرائز أنها أربع عشرة غريزة، يصحب كلا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 80. بتصرف. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 92.

منها استثارة انفعالية خاصة، أما "وليم جيمس"، فقد ذكر أنها أكثر من 32 غريزة، وجعلها "ثورندايك" حوالى 42 غريزة" (¬1). وسنركز على نظرية الدوافع عند عالم النفس الانجليزي الأصل "وليم ماكدوجل" (1288 هـ-1357 هـ). (1871 - 1938 م)، لأنه العالم الذي لقيت نظريته القبول أكثر من غيرها، رغم ما فيها من نقد أبرزُه أنها نظرية تصنيفية وليست تفسيرية. فكل ما فعله هو تصنيف الغرائز تحت أسماء معينة دون أن يقدم لنا أطرًا تصنيفية معينة. مثال هذا أنه وضع أنماطًا سلوكية معينة تحت عنوان البحث عن الطعام، وأُخرى تحت عنوان القتال أو الوالدية أو حب الاستطلاع. . . . الخ. وانتقل من هذا إلى اعتبار أن الاسم الذي وضعه سبب ومحرك السلوك. فإذا ما تساءلنا عن الدليل الذي يدل على وجود غريزة البحث عن الطعام، فإن الإجابة تتمثل في سلوك البحث عن الطعام نفسه، وهكذا نقع في "الدور المنطقي، أو ما يطلق عليه المناطقة، المصادرة على المطلوب. ولم يعف "ماكدوجل" من النقد ما لجأ إليه مؤخرًا من العدول عن مصطلح الغريزة واستبداله بمصطلح الاستعداد الفطري" (¬2). أو الدافع الفطري. وقد استبعدنا نظرية "فرويد" لأن أهم نقد وجه إلى نظريته أنه: "جعل الأساس الأول للتكوين الإنساني الفطري الغرائزي (الجنس والعدوان) وبهذا سلب من الإنسان كل القيم والجوانب العليا التي استحق من أجلها الخلافة عن الله سبحانه" (¬3)، إلى غير ذلك من أوجه النقص الأخرى. أما الاتجاه السلوكي فقد أنكر الدوافع والاستعدادات الفطرية من أساسها، وجعل البيئة بمؤثراتها الخارجية هي المشكِّلة لسلوك الإنسان. ويذهب "ماكدوجل" إلى "أن الكائنات الحية مدفوعة لتحقيق ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العثمان، عبد الكريم. الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص. ص 186. (¬2) مرجع سابق، السمالوطي. الإسلام وقضايا علم النفس الحديث. ص 97. (¬3) المرجع السابق، ص 98. رغم عدوله عن ذلك في بعض كتاباته، ودعوته للالتجاء لله والاستعلاء على الغرائز والابتعاد عن الإباحية.

أغراض معينة مرسومة سواءً شعرت بها أو لم تشعر، ولهذا السبب زُوِّدت بعدد معين من الدوافع الكامنة أو القوى الموجهة وهي الغرائز لأجل تحقيق هذه الأهداف، وقد حدد "ماكدوجل" عدد الغرائز بـ (14) غريزة -كما أشرنا- منها، الهرب، المقاتلة، النفور، الوالدين (أو الوالدية كما في بعض الكتب). . . الخ" (¬1)، ثم أضاف إلى هذه القائمة أربع غرائز أخرى. ثم بيَّن "أن الإنسان قادر على تعديل غرائزه بسبب قدرته على التعلم، وما يتمتع به من ذكاء وقدرة على الفهم. ويكون التعديل قويًّا في مظهرين فقط مبن المظاهر الثلاثة للغريزة وهما المظهر الإدراكي والمظهر النزوعي. فالجانب الإدراكي الذي يتعلق بالمثير الخارجي والجانب النزوعي الذي يتعلق بالسلوك والفعل يمكن أن يتغيرا مع نمو الإنسان وتعلمه وخبراته وقدراته على الفهم، أما الجانب الوجداني -وهو جانب ذاتي غير إرادي- فيصعب التحكم فيه وتغييره" (¬2). كذلك بين "ماكدوجل" أن الدوافع صنفان دوافع فطرية ودوافع مكتسبة. وهكذا نلاحظ أن الدوافع عند بعض علماء النفس الحديث، لا تخالف ما ذهب إليه ابن الجوزي، وإن كان الاختلاف في المصدر الذي أخذ عنه كل منهما. فالجذور الأساسية التي استقى منها ابن الجوزي تصوره للدوافع من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬3). وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (¬4). وقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬5). وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} (¬6). . . الخ. أما علماء النفس المحدثون فقد استقوا آراءهم من اجتهاداتهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 93. (¬2) المرجع السابق، ص 96. (¬3) سورة آل عمران، الآية 14. (¬4) سورة الأعراف، الآية 31. (¬5) سورة البقرة، الآية 223. (¬6) سورة الفرقان، الآية 47.

البشرية المعتمدة على التأثر بغيرهم من العلماء ومؤلفاتهم، أو عن طريق الملاحظة أو المشاهدة، أو الاختبارات والتجارب المعملية. ب - تربية الطفل في ضوء مراحل النمو سبق في الفصل الثاني من الباب الثالث، أن وضحت الباحثة رأي ابن الجوزي في تقسيم مراحل النمو في ضوء علم النفس الحديث، وأثبتت أن هناك اتفاقًا عامًّا في تقسيم بعض المراحل، ثم اختلافًا في بعض المراحل مثل مرحلة الشباب والشيخوخة والهرم. وتعتبر تقسيمات ابن الجوزي لمراحل النمو تقسيمات عامة (¬1)، أما علم النفس المعاصر فقد أفرد لمراحل النمو علمًا مستقلًا يبحث في مظاهر النمو لكل مرحلة من مراحله من حيث للنمو الجسمي والنمو الحركي، والنمو العقلي، والنمو الانفعالي، والنمو الاجتماعي، كذلك "استعان علم نفس النمو بكثير مما توصل إليه علم التشريح، والطب الإنساني، وعلم الجراحة، ثم ما قام به علماء النفس أنفسهم من دراسات تتبعية أو تجريبية هدتهم إلى كثير من الحقائق التي تعتبر على الرغم من توافرها، لا تزال تمثل النصيب الأدنى من حقائق التكوين النفسي للإنسان" (¬2). ورغم ذلك يعد ابن الجوزي من المؤسسين لعلم نفس النمو، بإفراده رسالة خاصة لهذا، وهي: "تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر، ويشاركه في ذلك ابن طفيل في رسالة "حي بن يقظان"، ثم جاء ابن قيم الجوزية فتناول المراحل بصورة شمولية منذ كون الإنسان نطفة إلى استقراره في الجنة أو النار، وذلك في كتابه تحفة المودود بأحكام المولود. وقد كان هذا السبق بفضل ما جاء في كتاب الله عن أطوار خلق الإنسان بدقة وشمول. وسنقارن بعض مراحل النمو التي ذكرها ابن الجوزي مع ما يقابلها أو يخالفها في الفكر التربوي الغربي. ¬

_ (¬1) في الباب الثالث، ص 193 وما بعدها من هذا الكتاب. (¬2) مرجع سابق، الهاشمي، د. عبد الحميد، محمد. علم النفس التكويني. ص 34.

1 - مرحلة ما قبل الميلاد: رغم اهتمام المنهج التربوي الإسلامي بمرحلة ما قبل الميلاد، إلا أن "رونيه أوبير" يقول: "وقد تركنا جانبًا مرحلة ما قبل الولادة، لا لأنه محظور علينا أن نقبل بوجود نوع من الحياة النفسية فيها، بل لأنه لا يمكن لهذه الحياة النفسية إلا أن تكون خالية من الشعور، ولأننا لا نستطيع أن نقدم سوى فرضيات عن طبيعة هذه الحياة النفسية" (¬1). ويرى "مينكوفسكي" " mienkowsky" أن الحياة النفسية الشعورية ليست أكثر وجودًا لدى الوليد ولدى الرضيع، وذلك لأن الحياة النفسية الشعورية تنتظم حول الشعور بالأنا، ولأن الوليد لا يملك الشعور حتى بجسمه الخاص. . . ." (¬2). "ثم أثبتت دراسات علم الأجنة وعلم النفس أن عوامل الوراثة ذات أثر كبير في مرحلة ما قبل الميلاد، وكذلك العوامل البيئية المحيطة بالجنين وهو في الرحم" (¬3). ومن خلال هذه الدراسات بدأ علم نفس النمو يهتم بهذه المرحلة، وقد سبقه في الاهتمام المنهج التربوي الإسلامي، بينما ابن الجوزي لم يذكرها صراحةً وأهملها وتجاوزها -في حدود اطلاعي- رغم أهميتها في التربية. 2 - أهمية مرحلة الطفولة في التربية الغربية: لا نستطيع أن نحدد عالمًا تربويًّا تخصص في تربية الطفل من جميع الجوانب التي يحتاجها لنموه؛ فقد أبدى كل واحد رأيه في جانب من الجوانب، وقد ذكر "جون لوك" lock في القرن السابع عشر، الكثير من عادات الطفل وكيفية تكوينها ودوافعه وأنواعها واتفاقها مع معايير الجماعة. وقال "إن الطفل يولد وعقله صفحة بيضاء". ¬

_ (¬1) أوبير، رونيه. التربية العامة. (ترجمة) عبد الدائم، د. عبد الله، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة 1982 م، ص 159. (¬2) المرجع السابق، ص 159. (¬3) مرجع سابق، زهران، د. حامد، عبد السلام. علم نفس النمو. ص 83.

وكتب "جان جاك روسو" " Rousseau" في القرن الثامن عشر كتابه اميل Emile ونادى بإعطاء الطفل حريته المطلقة للتعبير عن نزعاته الطبيعية وتنمية مواهبة وقدراته التي حبته الطبيعة إياها. ويرى روسو أن الطفل مخلوق بدائي نبيل، وأنه خيَّر بطبيعته، ولا يفسد أحواله سوى تدخل الكبار، ومن ثمَّ يجب ألا يقحم الكبار آراءهم وألا يفرضوا سلوكهم على الطفل، وقال إن الطبيعة هي مصلح الفرد والمجتمع. وقد أثرت نظريات "بستالوزي" " Pestalozzi" (الذي تأثر بآراء روسو) في التربية في القرن التاسع عشر. وهو يرى أن الإنسان خيَّر ويسعى دائمًا لتحقيق الخير. وإذا كان شريرًا فإن ذلك يكون بسبب غلق طريق الخير في وجهه. وجاء "فروبل" " frobel" وانتشرت آراؤه عن استمرار النمو وأسس نظام مدرسة الحضانة" (¬1). أما ابن الجوزي فقد أكد أهمية تأديب الطفل منذ صغره، لصعوبة رده عن العادات السيئة التي نشأ عليها، وقد وافقه على ذلك علماء ومربون منهم "أدلر" الذي قال: "إن الطفل يأخذ الطابع الذي يلازمه طول حياته في السنوات الخمس الأُولى" (¬2). وقال روسو: ". . . أيها الناس كونوا أشدَّ إنسانيةً .. أحبوا الطفولة وارعوا في مودةٍ لهوها وملذاتها وطبيعتها اللطيفة. ." (¬3). ومن الآراء التربوية التي نادى بها ابن الجوزي، الاعتماد على مبدأ الخشونة حتى يستطيع الطفل مواجهة المصاعب والمشكلات التي قد تعترضه في مستقبل حياته، وقد وافقه في ذلك المربي الانجليزي "جون لوك" (1632 - 1704 م) الذي أكد "وجوب ارتداء الثياب القصيرة، الفضفاضة، والنوم على الفرش الخشنة والعيش في الهواء الطلق، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 16. (¬2) فهمي، أسماء، حسن. مبادئ التربية الإسلامية. القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، عام 1366 هـ - 1947 م، ص 51. (¬3) مرجع سابق، الشيباني، د. عمر، محمد، التومي. تطور النظريات والأفكار التربوية. ص 175.

والاقتصار على الطعام البسيط، وكل ذلك في سبيل الترويض القاسي" (¬1). كذلك من الآراء التي قال بها ابن الجوزي أن هناك أمورًا فطرية وأخرى مكتسبة: "إن قلب الطفل فارغ يقبل ما يلقى إليه"، وفي هذا المعنى يرى "جون لوك" أن "نفس الوليد البشري صحيفة بيضاء أن فضائلها وقواها تكتسب من الخارج، عن طريق تكوين عادات، وأن تكوين العادات هذا إنما يكون عن طريق الترويض" (¬2). وقد ربط "جون لوك" "الجانب الجسدي بالأخلاقي والعقلي، فقال: "فإذا حصل الطفل على القوة الجسدية كان لابد من تحقيق الأهداف التالية: الفضيلة والحكمة، والمعرفة" (¬3). وقد وضح ترابط الجانب الجسدي بالجانب الخلقي فقال: "كما أن قوة الجسد تنحصر في القدرة على تحمل المصاعب، فكذلك قوة النفس أساس كل فضيلة تنحصر في قدرة الإنسان على إنكاره ذاته، والقضاء على رغباته وميوله التي لا يسمح بها عقله. وهذه القدرة إنما تنال عن طريق التعود والتمرن الباكر. ولذلك فأنا أشير بأن يعود الأطفال على قهر رغباتهم منذ المهد وإفهامهم أنهم إنما يحصلون لا على ما يسرّهم، بل على ما يجب أن يحصلوا عليه" (¬4). ويرى "لوك" أن أوجه التربية ثلاثة: جسدي وأخلاقي وعقلي، وأن أهدافها ثلاثة أيضًا هي: قوة الجسد والفضيلة والمعرفة" (¬5). ويبدو من دراسة آراء "لوك" أنه أغفل الجانب الروحي، الذي اهتم به ابن الجوزي كغيره من الجوانب. شبه ابن الجوزي المربي بالطبيب الذي يفهم شخصية المريض من ¬

_ (¬1) مرجع سابق، عاقل، د. فاخر. التربية قديمها وحديثها. ص 136. (¬2) المرجع السابق، ص 135. (¬3) المرجع السابق، ص 135. (¬4) المرجع السابق، ص 136. (¬5) المرجع السابق، ص 135.

جميع جوانبها حتى يعالجه، وفي هذا المعنى يقول "روسو": "إن كثيرًا من المربين الحازمين ليخطئون مواقع التربية الصحيحة إذ يأخذون الأطفال بما يحتاج الرجال إلى معرفته، ويغفلون عما تستطيع عقول الأحداث فهمه وإدراكه، وإنهم ليخطئون كذلك حين يتطلبون في جسوم الأطفال عقول الرجال، ولا يفكرون أصلًا في حقيقة الطفل قبل أن يصير رجلًا" (¬1). 3 - مناهج التعليم في مرحلة الطفولة كانت المناهج التعليمية في مرحلة الطفولة مركزة على "دراسة الحساب وتقويم البلدان والتاريخ الطبيعي والموسيقي والرسم والتصوير" (¬2)، وهذا المنهج للعالم "بستالوزي" في القرن التاسع عشر وهناك اختلاف واضح بين مربٍ وآخر عند وضع المنهج. وقد ركز ابن الجوزي منهجه التعليمي على الدين الإسلامي وما فيه من قرآن كريم وسنَّة نبوية شريفة، وما يقتضيه من لغة عربية و. . . . الخ، وقد أثبتنا ذلك. (الفقرة ثانيًا - الفصل الثاني - الباب الثالث، مرحلة ما قبل الدراسة النظامية) (ص 230). 4 - الفروق الفردية بين الأطفال: أشار ابن الجوزي إلى أن هناك فروقًا فردية بين الأطفال في القدرة على التعلم، وأن هناك تفاوتًا أيضًا في "القدرات الطائفية" التي تظهر بينهم، فمن الأطفال من لديه القدرة على إجراء العمليات الحسابية، ومنهم من لديه القدرة على الحفظ وليس لديه القدرة على الكتابة وقد بيّنا ذلك سابقًا. (الفقرة ثانيًا - الفصل الثاني - الباب الثالث، الفروق الفرديه) (ص 239). وابن الجوزي في رأيه هذا يشير مجرد إشارةٍ إلى وجود القدرات العقلية المختلفة في الأفراد. في حين أن الدراسات النفسية الحديثة توسعت في هذا الموضوع ودرسته بعمق من خلال البحث والتقصي ¬

_ (¬1) أمين، مصطفى. تاريخ التربية. القاهرة، مطبعة المعارف بشارع الفجالة بمصر، الطبعة الثانية، 1344 هـ - 1926 م، ص 289. (¬2) المرجع السابق، ص 308.

والاختبارات، وأثبتت وجود هذه "القدرات العقلية الأولية وهي: 1 - القدرة على الطلاقة اللفظية. 2 - القدرة اللغوية (القدرة على فهم معاني الكلمات). 3 - القدرة العددية. 4 - القدرة المكانية. 5 - القدرة الإدراكية. 6 - القدرة التذكرية. 7 - القدرة الاستقرائية. 8 - القدرة الاستنباطية (¬1). وقد "اتسعت دراسات القدرات، وأجريت العديد من التجارب على العديد من الأفراد استعملت فيها العديد من الاختبارات. وقد شجعت هذه الدراسات التجريبية على وضع مجموعة من مناهج التحليل العاملي المائل والمتعامد، بحيث أصبح لدى الباحث إمكانية مراجعة نتائج تطبيق طريقة ما من طرق التحليل العاملي عن طريق مضاهاتها بنتائج طريقة أخرى أو أكثر، وأصبحت المشكلة الأساسية التي تواجه علماء النفس هي مشكلة تصنيف هذه العوامل أو القدرات أو السمات، التي ظهرت نتيجة للدراسات والأبحاث التي استعملت نوعًا من أنواع المقاييس والاختبارات النفسية. فكانت محاولات "رايموند كاتل" في "وصف الشخصية وقياسها 1946 م" ومحاولات "فرنون" في (تكوين القدرة الإنسانية 1950)، ومحاولات "جيلفورد" في بناء العقل 1951 م، وغيرهم" (¬2). ورغم هذه الدراسات فإن علماء النفس لم يتفقوا على العدد النهائي للقدرات الطائفية، ولكن الذي أثبتوه أن "القدرة الطائفية بمعناها العام وحدة وظيفية تتجمع فيها أساليب نشاط من نوع معين. فالقدرة اللغوية مثلًا تتجمع فيها جميع أساليب النشاط اللغوي، المتعلق منه بالكلمات أو المتعلق بعبارات وجمل، أو المتعلق بحفظ آلي، أو بنشاط ابداعي وما إلى ذلك" (¬3). وهكذا الحال في جميع القدرات. جـ - جوانب التربية في الفكر التربوي الغربي: ستتناول الباحثة بالموازنة من الباب الرابع بعض جوانب التربية ¬

_ (¬1) مرجع سابق، صالح، د. أحمد، زكي. علم النفس التربوي. ص 636. (¬2) المرجع السابق، ص 648 - 649. (¬3) المرجع السابق، ص 661.

الإسلامية عند ابن الجوزي: 1 - مفهوم العقل في الفكر التربوي الغربي وعند ابن الجوزي حدد ابن الجوزي مفهوم العقل في معانٍ عدة هي: - الطاقة الفطرية التي تميز الإنسان عن الحيوان. - القدرة على الإدراك والتمييز. - الأداة التي يعرف بها الله تعالى فيتبع شرعه. - النشاط العقلي من التذكر والتخيل والتدبّر والعلم والنظر. - القدرة الضابطة للدوافع والشهوات. - القدرة على العلم والتعلم واكتساب المهارات. وكل معنى من هذه المعاني قد يقابله رأي أو تعريف عند علماء النفس المحدثين، الذين أطلقوا على العقل الذكاء أو القدرات العقلية. ومن خلال ذلك سيتضح لنا إلى أي حدٍ اتفق ابن الجوزي أو اختلف معهم. حيث لم يخصص أحد من علماء النفس القول بالمعنى الأول للعقل، ولكن كتاباتهم أكدت أن الإنسان يتميز بالعقل عن الحيوان (¬1). أما المعنى الثاني وهو القدرة الإدراكية فقد جاء في التعريف الذي ذكرته الجمعية الوطنية في الولايات المتحدة بأن الذكاء "استعداد عقلي عام فطري. يشترك في جميع العمليات المعرفية على جميع المستويات التي تبدأ بالإدراك الحاسي وتنتهي بالتفكير الكلي المجرد" (¬2). وقد عرفه "كهلر" kohler بأنه "القدرة على إدراك العلاقات" (¬3). أما المعنى الثالث وهو أن العقل هو الأداة التي يعرف بها الله تعالى، فقد وردت كتابات كثيرة لعلماء غير مسلمين، كانوا لا يؤمنون بوجود الله، فدلتهم دراساتهم وأبحاثهم العلمية على وجود الله تعالى، فاعترفوا بذلك وآمنوا به وذلك عن طريق العقل ولا شكّ، وسأورد ¬

_ (¬1) مرجع سابق، السمالوطي. الإسلام وقضايا علم الحديث. ص 162 - 163. (¬2) مرجع سابق، الهاشمي. الفروق الفردية. ص 114. (¬3) مرجع سابق، محمد، د. محمد، محمود. علم النفس المعاصر في ضوء الإسلام. ص 279.

بعض الأقوال التي تؤكد المعنى الثالث: "قال "لسترجون زمرمان" -اختصاصي التُّربة وفسيولوجيا النبات- كيف خلق النبات الأول؟ ونحن لا نستطيع أن نصل بعقلنا الطبيعي، ومنطقنا السليم إلى أن هذه الأشياء قد أنشأت نفسها بنفسها، أو نشأت هكذا بمحض المصادفة، ولابد لنا من البحث عن خالق مبدع، ويعتبر التسليم بوجود الخالق أمرًا بديهيًّا تفرضه عقولنا علينا" (¬1). "وقال "جورج دافيز" -عالم الطبيعية-: نستطيع أن نتحقق من وجود الله باستخدام العقل والاستنباط مما نتعلمه ونراه؛ فالمنطق الذي نستطيع أن نأخذ به، والذي لا يمكن أن يتطرق إليه الشك، هو أنه ليس هناك شيء مادي يستطيع أن يخلق نفسه" (¬2). "وقال "داين أولت" -وهو مختص في الكيمياء الجيولوجية: إن فكرة وجود الله أقرب إلى العقل والمنطق من فكرة المصادفة ولا شك، بل إن ذلك النظام البديع الذي يسود هذا الكون يدل دلالة حتمية إلى وجود إله منظِّم وليس على وجود مصادفة عمياء تخبط خبط عشواء" (¬3). . . الخ. أما المعنى الرابع فقد عبَّر عنه "ميومان" " meumann" في تعريفه للذكاء "على أنه الاستعداد العام للتفكير الاستدلالي، الابتكاري، الإنتاجي" (¬4)، والتفكير الاستدلالي "يقتضي تدخل العمليات العليا كالتذكر والتخيل والحكم والفهم والاستبصار والتجريد والتصميم والاستنتاج والتخطيط والتمييز والتعليل والنقد" (¬5). أما المعنى الخامس وهو كون العقل هو القدرة الضابطة للدوافع ¬

_ (¬1) مونسما، جون، كلوفر. الله يتجلى في عصر العلم. (ترجمة) سرحان، د. الدمرداش، عبد المجيد، و (راجعه وعلق عليه) الفندي، د. محمد، جمال الدين، القاهرة، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 1968 م، ص 124. (¬2) المرجع السابق، ص 41. (¬3) المرجع السابق، ص 132. (¬4) مرجع سابق، السيد، د. فؤاد البهي. الذكاء. ص 203. (¬5) راجح، د. أحمد، عزت. أصول علم النفس. الإسكندرية، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشر، الطبعة التاسعة، دون تاريخ، الطبعة التاسعة ص 283.

والشهوات، فهذا ما ذهب إليه "لوك"، الذي قال في "فاتحة مباحثه في التربية الخلقية: كما أن قوة الجسم إنما تكون بقدرته على احتمال المشاق، كذلك قوة العقل إنما تكون في ضبط النفس ومقاومة الشهوات" (¬1). وقال في موضع آخر: "من البدهيات عندي أن أساس الفضيلة أن يقدر الإنسان على منع نفسه كثيرًا مما تميل إليه وترغب فيه إذا لم يكن العقل رائدها وحاديها في هذه الميول والرغبات. أما طريق الحصول على هذه القدرة، فإنما يكون بالتعود من الصغر" (¬2). أما المعنى السادس: وهو القدرة على العلم والتعلم واكتساب المهارات، فقد وافق هذا المعنى تعريف "كلفن" " colvin" بأنه "القدرة على التعليم" وتعريف ديربورن " dearborn" بأنه "القدرة على اكتساب الخبرة والإفادة منها" (¬3). ونلاحظ من الموازنة موافقة الفكر التربوي الغربي بصفة عامة في أكثر الأمور لرأي ابن الجوزي في العقل. وإن ظهر على التعاريف الحديثة الدقة العلمية، المعتمدة على المقاييس والاختبارات النفسية، رغم أن تعريفات الذكاء -كما ذكر د. أحمد زكي صالح- "تحاول أن تفسر الذكاء ولا تشرحه، وتحاول أن تحدد وظيفة الذكاء، ولا تبين معالمه، فهي محاولات وصفية وظيفية، قد تُقبل في نواحي أُخرى غير الناحية العلمية" (¬4). ورأي ابن الجوزي اعتمد في بعضه على الفكر التربوي الإسلامي، والبعض الآخر استقاه من قراءته لغيره من علماء المسلمين ورأيهم في هذا الموضوع. 2 - درجات العقل حدد ابن الجوزي درجات العقل المرتفعة والمنخفضة وتعريفها، ثم بيَّن الفروق بينها، مع توضيح بعض المظاهر العامة لكل درجة من الدرجات العقلية. وقد عرضت ذلك في الفصل الثاني، من الباب الرابع (ص 283 وما بعدها، من هذا الكتاب). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، أمين، مصطفى. تاريخ التربية. ص 268 - 269. (¬2) المرجع السابق، ص 269. (¬3) مرجع سابق، صالح، د. أحمد، زكي. علم النفس التربوي. ص 534. (¬4) المرجع السابق، ص 535.

ويتفق ابن الجوزي في هذا مع الدراسات النفسية الحديثة، ولكنه يختلف عنها في أنه وضح الفروق بين الدرجات بالألفاظ، وعلم النفس وضحها بالنسب المئوية الرقمية، التي كانت خلاصة التجارب النفسية، مع العلم أن هناك اختلافًا في التقديرات بين العلماء، لذلك سأورد على سبيل المثال، جدولين يوضحان ذلك للموازنة بينهما. الجدول الأول (¬1): نسبة الذكاء (70 - فأقل) أفراد ضعاف العقول (بين أبله ومعتوه). (70 - 80) أفراد أغبياء (80 - 90) أفراد دون الوسط. (90 - 110) أفراد متوسطوا الذكاء. (110 - 120) أفراد فوق الوسط. (120 - 140) أفراد أذكياء. (140 - فأكثر) أفراد أذكياء جدًّا (عبقري وألمعي): الجدول الثاني (¬2): نسبة الذكاء أقل من 20 أو 25 معتوه. من 20 أو 25 - 50 أبله. من 50 - 70 أهوك (أحمق). أقل من 70 ضعيف العقل. من 70 - 80 غبي جدًّا. من 80 - 90 دون المتوسط. من 90 - 110 متوسط الذكاء. من 110 - 120 فوق المتوسط. من 120 - 140 ذكي جدًّا. فوق 140 ألمعي. والألفاظ التي أطلقها ابن الجوزي على درجات العقل المرتفعة هي: الفطنة والذكاء والفهم والذهن، والألفاظ التي أطلقها علم النفس الحديث هي "عبقري، وألمعي، وذكي، ومتوسط الذكاء" (¬3). وقد اتفق ابن الجوزي مع علم النفس في إعطاء مسمىً لكل درجة من درجات العقل المرتفعة أو المنخفضة، واختلفوا معه في بعض معاني هذه الدرجات التي لا تتقابل مباشرة مع غيرها. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الهاشمي. أصول علم النفس العام. ص 260. (¬2) مرجع سابق، راجح، د. أحمد، عزت. أصول علم النفس. ص 322. (¬3) مرجع سابق، الهاشمي. أصول علم النفس العام. ص 259.

أما الألفاظ التي أطلقها ابن الجوزي لدرجات العقل المنخفضة فهي: الحمق والتغفيل والجنون. والألفاظ التي أطلقها علم النفس الحديث هي: "المعتوه والأبله والمأفون" (¬1). وهي تتفق في تحديد مسمىً لكل درجة من درجات العقل، وتختلف في معنى كل درجةٍ. وهذا ما وضحته الباحثة في الفصل الثاني من الباب الرابع، (ص 285 وما بعدها) وهذه الدرجات تدل على الضعف العقلي، وقد استطاع "اسكيرول" " esquirol" سنة 1838 م أن يفرق بين الضعف العقلي والجنون وبين المستويات المختلفة للضعف العقلي، وهو يؤكد أن "الضعف العقلي لا يدل على مرض العقل، إنما يدل على نقص نموه الذي يحول بينه وبين بلوغ مستوى نشاط الفرد العادي، أي أن الضعف بهذا المعنى صفة تميز الفرد من باكورة حياته إلى نهايتها. وأن الجنون مرض عقلي يصيب الفرد فينحدر بمستواه انحدارًا شديدًا" (¬2). وقد اعتمد علم النفس الحديث في تقسيماته لضعاف العقول على المظاهر الوظيفية لسلوكهم، فقال فيهم: 1 - "المعتوه: وهو الذي لا يستطيع أن يكسب رزقه، ولا أن يحافظ على حياته. 2 - الأبله: وهو الذي لا يستطيع أن يكسب رزقه، ولكنه يستطيع أن يحافظ على حياته بمشقة. 3 - المأفون: وهو الذي يكسب رزقه بصعوبة، ويحافظ على حياته بمشقة" (¬3). "وقد وضع "ترمان" " l.m.terman" نسب الذكاء لضعاف العقول: أقل من 20 المعتوه. من 20 إلى 50 الأبله. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، السيد، د. فؤاد، البهي. الذكاء. ص 122. (¬2) المرجع السابق، ص 422. (¬3) المرجع السابق، ص 122، 423.

من 50 إلى 70 المأفون" (¬1). والذي نلاحظه أن هناك اختلافًا بين ابن الجوزي والفكر الحديث في التقسيمات ونسبها لأنه لم يحددها، يضاف إلى ذلك أنه لم يكشف عن هذه المستويات العقلية بالطرق العلمية المستخدمة الآن في علم النفس الحديث، ذلك أن الطريقة العلمية تعتمد على الكشف عن الضعف العقلي على تطبيق اختبارات الذكاء الجماعية، ثم تطبيق اختبارات الذكاء الفردية لتحديد هذا الضعف تحديدًا دقيقًا، ثم تطبيق الاختبارات العملية لتحديد مستوى هذا الضعف، بالإضافة إلى الوسائل النفسية والاجتماعية، ودراسة تاريخ الحياة، وتحليل مستوى التحصيل المدرسي" (¬2). 3 - أنواع القدرات العقلية: أكد ابن الجوزي أن القدرات العقلية صنفان فطرية ومكتسبة من تأثير البيئة، وهذا ما أثبته علماء الوراثة والبيئة من خلال التجارب والدراسات، فقد ذهبوا إلى "أن الذكاء استعداد فطري من هبة الطبيعة. واْن الرعاية لها الأثر الثانوي المساعد" (¬3). و"البيئة إنما تفيد في استغلال مواهب الذكاء الفطرية إلى أقصى حدودها إن كانت مشجعة. كما أنها قد تعوق نشاطها إلى أدنى الحدود إن كانت غير مشجعة. وهذا مصدر هام يؤثر في الفروق العقلية بين الأفراد .. فالفرد الذي يعيش في بيئة مثقفة يجد سبل العلم والثقافة ميسورة. والفرد الذي قد لا يجد وسائل العلم والتهذيب ينشأ جاهلًا رغم ذكائه الفطري الذي لو وجد التنمية والتشجيع لأفاد واستفاد من مواهبه الفطرية. فالبيئة تساعد على نمو ما هو موجود فعلًا، ولكنها لا تستطيع أن توجد شيئًا من العدم" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 122. (¬2) المرجع السابق، ص 428. (¬3) مرجع سابق، الهاشمي. الفروق الفردية. ص 116. (¬4) المرجع السابق، ص 114 - 115.

وبذلك يسبق ابن الجوزي علماء الوراثة والبيئة المعاصرين في هذا الرأي. وقد ذكر ابن الجوزي أن هناك علاقة بين الذكاء والصفات الجسمية، وهذا الرأي لا تدل عليه آيات القرآن الكريم ولا الأحاديث النبوية الصحيحة، ثم أثبتت الدراسات التجريبية الحديثة ضعفه أيضًا، كذلك ذكر ابن الجوزي أن هناك علاقة بين الذكاء والصفات السلوكية، فالأذكياء يتصرفون بطريقة حسنة حكيمة، أما الأغبياء فيتصرفون بطريقة تدل على خطئهم وانحرافهم وقلة حكمتهم بصفة عامة. وقد وضحت الباحثة ذلك في الباب الرابع من الفصل الثاني، (ص 289 وما بعدها) واجتنابًا للتكرار لم تُعِد ذكره. 4 - العلم والتعليم في الفكر التربوي الغربي: استقى ابن الجوزي رأيه في العلم والتعليم من المنهج التربوي الإسلامي وما يحويه من آداب وفضائل وأخلاقيات، لذلك فمهما اتفقت مبادئه مع الفكر الغربي، فإنها تختلف عنها اختلافًا جذريًّا من الناحية العقائدية، لأن الهدف من العلم في الإسلام يختلف تمامًا عن هدفه في الفكر الغربي. كذلك فضل العلم والعلماء في الإسلام يختلف عن نظيره عند الغرب، فإنه ينحصر لدى الغربيين في الفائدة المادية والمعنوية الدنيوية فقط، هذا لدى الماديين، ولكن يختلف عند العلماء النصارى الذين يؤمنون بالله، ويعملون من أجل الآخرة. ويختلف الأمر أيضًا في المقومات الأساسية للعالم والمتعلم، والتركيز على العلوم الإسلامية وطريقة تدريسها. 5 - العوامل المساعدة على التعلم الجيد: اتفق ابن الجوزي مع علم النفس الحديث في العوامل المساعدة على التعلم الجيد، وقد أثبت علماء النفس الكثير من هذه العوامل من خلال التجارب المعملية والميدانية التي أيدت هذه العوامل. 6 - الأسباب التي تؤدي إلى النسيان: حصر ابن الجوزي الأسباب التي تؤدي إلى النسيان في أربعة

أسبابٍ، ناقشناها في الفصل الثاني من الباب الرابع، (ص 314 وما بعدها) وأثبتت الباحثة خطأ بعضها من الناحية العلمية النقلية لاعتماد ابن الجوزي فيها على أحاديث غير صحيحة، وبعضها الآخر لا تشهد له الحقائق من الناحية الطبية والنفسية. والدراسات النفسية الحديثة ذكرت أسبابًا للنسيان تختلف تمامًا عن الأسباب التي ذكرها ابن الجوزي، وهذه الأسباب هي: "العوامل العضوية، والخبرة اللاحقة، الدافعية .. بالإضافة إلى "تأثير تداخل الخبرات، والتغيرات العضوية في داخل الفرد، ووجود رغبةٍ لا شعوريةٍ للنسيان" (¬1). 7 - الطرق المتبعة في مقاومة النسيان: ذكر ابن الجوزي الكثير من المبادئ التربوية لمقاومة النسيان، وهي في مجملها توافق ما ذهب إليه علم نفس التعلم. وسأذكر بعضًا منها فقط اجتنابًا للتطويل أو التكرار: 1 - رأى ابن الجوزي أن إعطاء المتعلم فترة راحةٍ بمعدل يومٍ أو يومين في الأسبوع، يساعد على تثبيت المعلومات في ذهن المتعلم، وهذا ما أكده "جثري" " Guthrie" بقوله "الخبرات التي يتعلمها الفرد ويعقبها النوم أو الراحة أطول عمرًا في التذكر من المنبّهات التي ترتبط باستجابات يعقبها نشاط وعمل" (¬2). 2 - كذلك رأى ابن الجوزي أهمية تنظيم أوقات الإعادة بطريقةٍ لا ترهق المتعلم ولا تضرّه، وهذا ما أكدته التجارب التي أثبتت أن "التمرين المتصل قد يؤدي إما إلى تعب المتعلم وإما إلى ملله ونقص رغبته في التحصيل، وإما إلى حدوث ظاهرة الكفّ الرجعي، حيث تتداخل عناصر الخبرات المتعلَّمة بعضها في البعض الآخر فيعرقل بعضها البعض" (¬3). ¬

_ (¬1) توق، د. محي الدين وعدس، عبد الرحمن. أساسيات علم النفس التربوي. (نيويورك: جون وايلي وأولاده، دون طبعة وتاريخ)، ص 270 - 276. (¬2) مرجع سابق، الغريب، د. رمزية. التعلم. ص 158. (¬3) المرجع السابق، ص 529.

د - الأخلاق في المفهوم الغربي: أوجز ابن الجوزي رأيه في الأخلاق التي اشتقها من المنهج التربوي الإسلامي، ولكن لو قارنا ما ذكره مع الاتجاهات الأخلاقية الحديثة، فإن البحث سيطول بسبب كثرة هذه الاتجاهات الأخلاقية وخصائصها ووجوه النزاع بينها. لذلك ستحاول الباحثة الإيجاز قدر المستطاع. اختلفت الاتجاهات الأخلاقية في أمور كثيرة من قرن لآخر، ومن عالم لعالم، ومن مدينة لأُخرى، حسب الفلسفة التي يدين بها كل مربٍ، فمن مذهب المنفعة الفردية إلى مذهب المنفعة العامة، إلى نظرية التطور في الأخلاق أو مذهب الكمال، ومن فلسفة الأخلاق الاجتماعية في الوضعية الفرنسية، إلى البرجماتية الأمريكية. ومن الاتجاه الماركسي إلى الاتجاه المثالي الحدسي، ومن مذهب الحاسة الخلقية إلى الضمير الأخلاقي عند بطلر ونقاده، ومن مبدأ الواجب عند كانت، إلى المثالية المحدثة. وقد ناقش هؤلاء العلماء الأخلاق من الناحية الفلسفية، وحاولوا إخضاعها للمنهج الفكري، وأبعدوها عن الديانة النصرانية وغيرها. وستركز الباحثة على أحد علماء القرن الثامن عشر الميلادي وإبراز رأيه الموافق أو المخالف لابن الجوزي، لأن ما وراء ذلك يحتاج إلى بحث شامل طويل. وعلى هذا ستتناول الباحثة الأخلاق عند (كانت) (kant) (¬1) (1137 هـ - 1219 هـ) (1724 م - 1804 م)، الذي شرع بوضع مذهبه الأخلاقي في أول كتبه في الأخلاق وهو الذي "نُشر في سنة 1785 م- 1200 هـ تقريبًا بعنوان: تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق وقد جعله بمثابة نواة لنقد العقل العملي، لأنه ينظر فيه في بعض الموضوعات الخاصة بنقد العقل العملي، ويترك الباقي" (¬2). ويقصد "كانت" (بميتافيزيقا الأخلاق) أنه لن تستمد قوانين ¬

_ (¬1) سبب اختيار "كانت" دون غيره من التربويين الغربيين، هو أنه يعد من أكبر الفلاسفة الغربيين الباحثين في الأخلاق، وله فيه مذهب وفلسفة خاصة. (¬2) بدوي، عبد الرحمن. الأخلاق عند كنت. الكويت، وكالة المطبوعات، طبعة سنة 1979 م، ص 32.

الأخلاق من الطبيعة الإنسانية، ولا من عادات الناس .. ، بل من العقل ذاته مباشرة، ولهذا فإنها لن تستعين بعلم النفس ولا بعلم الإنسان (و"كانت" يوحّد مرارًا بين علم النفس التجريبي وعلم الإنسان، لأن موضوعهما واحد وهو معرفة الطبيعة الإنسانية). والسبب في ذلك هو أن معطيات علم النفس (أو علم الإنسان) هي من الغموض والتشعب والتشتت بحيث لا يمكن أن نستخلص منها قواعد كلية مطلقة، وفيها خلط بين المبادئ والأحوال الجزئية، بحيث تتوقف النتائج المستخلصة على الأحوال الفردية والميول والعواطف الخاصة. وآفة المذاهب التي تميل إلى تفسير الأخلاق بتراكيب النفس الإنسانية أو الطبيعة الإنسانية، أو بالظروف التي يعيش فيها الإنسان هي أنها لا تملك أن تقدم غير قواعد متفاوتة العموم، ذاتية، بدلًا من أن تقدم قوانين كلية موضوعية للإرادة" (¬1). ومحور مذهب "كانت" الأخلاقي هو فكرة (الواجب): والواجب في نظره هو: "شعور بإلزام عقلي مع إدراك استحالة ضده، هو أمر مطلق نطيعه وفاقًا لطبيعة العقل العملي الذي يميز الإنسان -باعتباره حيوانًا ناطقًا- عن سائر الكائنات. من أجل هذه اقتضت الأخلاقية أن يلزم الإنسان نفسه بمحض إرادته بسلوك يضحي فيه بمطالب جسمه ودوافعه طاعة لنداء العقل دون اكتراث بوجدان أو عاطفة أو نحوها، وإلا افتقد الفعل قيمته الأخلاقية" (¬2). وتفسير قوله هذا هو: "أن الفعل لكي ما تكون له قيمة أخلاقية، فعليه ليس فقط أن يتفق مع الواجب، بل ويجب أيضًا أن يفعل من أجل الواجب. . . . وأن الفعل الذي ينجز بحسب الميل فقط، أو عن دافع مثل الرغبة في السعادة، فليس له قيمة أخلاقية" (¬3). وقد ضرب (كانت) مثلًا لتعريف الواجب قال فيه: "حينما تكون الأفعال قابلةً لأن تؤدى عن واجب وعن ميل مباشر. فمن واجبي مثلًا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 33. بتصرف يسير .. (¬2) الطويل، د. توفيق. فلسفة الأخلاق. نشأتها وتطورها. القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 1979 م، ص 415. (¬3) مرجع سابق، بدوي. الأخلاق عند كنت. ص 51.

المحافظة على حياتي وتحقيق سعادتي. ولكني بطبعي أتعلق بالحياة، وبطبعي أسعى إلى أن أكون سعيدًا. فكيف نحدد طابع الواجب في مثل هذا؟ لابد أن نفترض أحوالًا يعتور فيها حبَّ الحياة والرغبةَ في السعادة ظروفٌ معاكسةٌ تجعلهما ينقلبان إلى عكسيهما. فالإنسان الذي تنتابه أقسى الآلام إلى درجة أنه يطلب الموت ومع ذلك يحافظ على الحياة، هذا الإنسان يمكن أن يعد سلوكه هذا سلوكًا أخلاقيًّا" (¬1). وقد وضع (كانت) أسس متيافيزيقا الأخلاق، وسأوجز أفكاره فيما يأتي: 1 - التجربة لا تفيد في وضع مبادئ الأخلاق. وهذا معناه كما يقول (كانت) أنه "من المستحيل تمامًا أن نقرر بالتجربة وبيقين كامل حالة واحدة قام فيها الفعل، المطابق مع ذلك الواجب، على مبادئ أخلاقية فقط وعلى امتثال الواجب"، وعلّق المؤلّف د. عبد الرحمن بدوي بقوله: "ولهذا لا يمكن أن نتخذ من التجربة شواهد على مبادئ الأخلاق العالية" (¬2). 2 - "مبادئ الأخلاق قبلية كلية. وهذا معناه أن الأخلاق "يجب أن تُستمد من مبادئ العقل القبلية غير الممزوجة بأية اعتباراتٍ تجريبيةٍ مستمدةٍ من أحوال الطبيعة الإنسانية وميولها ونوازعها" (¬3). 3 - اعتمد على العقل العملي، الذي قصد به الإرادة الخيرة التي تتمثل في إرادة العمل وفقًا لمبدأ "الواجب لذاته"، وليس لمنفعة أو جريًا وراء ميل أو رغبة. وقد بيَّن (كانت) من خلال العقل العملي "الأمر المطلق" ودلالاته وصيغته السلبية في المبدأ الآتي: "ينبغي ألا أتصرف إلا بطريقة أستطيع أن أرى جعل قاعدة تصرفي قانونًا عامًّا للناس جميعًا" (¬4). وقد حدد "كانت" معنى الأمر "الذي يفترض وجود كائن عاقل لديه القدرة على أن يتصرف وفاقًا لفكرته عن القوانين أو المبادئ" (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 48. (¬2) المرجع السابق، ص 62. (¬3) المرجع السابق، ص 65. (¬4) مرجع سابق، الطويل. فلسفة الأخلاق. نشأتها وتطورها. ص 423. (¬5) المرجع السابق، ص 424.

وهذا ما نعنيه حين نقول إن لديه إرادة. ثم صنف الأمر إلى ثلاثة أوامر تقابلها ثلاثة مبادئ موضوعية وثلاثة صنوف من الخير" (¬1)، وقام بعرض مسوغاتها من الناحية الخلقية لبيان أنها متوافقة مع طبيعة الإنسان. وعلى هذا نقول إن (كانت) حدد للواجب (الأمر المطلق) ثلاثة قواعد هي: 1 - "قاعدة التعميم: أن الأمر المطلق يوجب علينا أن نتصرف وفاقًا لقانون عام، أي بموجب مبدأ صالح للإنسان بما هو إنسان، وصيغته هي: "افعل طبقًا لقاعدة تستطيع في الوقت نفسه أن تريد جعلها قانونًا عامًّا". وقد ضرب أمثلة على ذلك: الانتحار، أو الوعد الكاذب" (¬2). 2 - قاعدة الغائية: "أن الأمر المطلق لا يتعلق بغاية شخصية. . . وصاغها "كانت" في عبارة تقول: "افعل بحيث تعامل الإنسانية دائمًا ممثلة في شخصك أو أي شخص آخر غاية، ولا تعاملها قط مجرد وسيلة إلى تحقيق غاية" (¬3). 3 - قاعدة الحرية: "استخلص "كانت" من مفهوم القاعدتين السالفتين قاعدة ثالثة تقول: افعل بحيث تجعل إرادتك بمثابة مشرع يسن للناس قانونًا عاقًا، فالإنسان في القاعدة الأُولى يعمل بموجب القانون، وفي القاعدة الثانية ينظر إلى نفسه باعتبارها غاية في ذاتها. . . ." ومعنى هذه القاعدة أن الإنسان في هذا المذهب يتصرف وفاقًا لقاعدة تصلح أن تكون قاعدة لسلوك الآخرين متى كانوا في ظروفه، وهو يستجيب في هذا لإملاء العقل وحده، ومن أجل هذا اقتضت الأخلاق أن يريد الإنسان القانون الأخلاقي، وأن يرغب في الخضوع له بمحض حريته" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 424. (¬2) المرجع السابق، ص 426، 427. بتصرف. (¬3) المرجع السابق، ص 431. بتصرف. (¬4) المرجع السابق، ص 432 - 433. بتصرف.

وقد أقام "كانت" الواجب على أسس دينية ميتافيزيقية متمثلة في "الإرادة، وخلود النفس، ووجود الله" (¬1). وفي كتابه ميتافيزيقا الأخلاق وضع "كانت" الأخلاق العملية، وتقسيماتها، فبدأها بتعريف الفضيلة بأنها "القوة الأخلاقية التي يمارسها الإنسان في أداء واجبه: وهي قسر أخلاقي يقوم به عقله المشِّرع، من حيث إن هذا يتولى القيام بدور القوة المنفذة للقانون" (¬2). وقد ناقش مذهب الفضيلة ثم قسمه إلى قسمين: "إما بحسب الشكل، أو بحسب المادة (الموضوع) " (¬3). ثم قدم "كانت" تقسيمين للأخلاق: "الأول: وفقًا لاختلاف الموضوعات وقوانينها ويشمل: - واجبات: الإنسان نحو الإنسان: • نحو ذاته • نحو سائر الناس الإنسان نحو غير الإنسان: • نحو الموجودات الأدنى من الإنسان • نحو الموجودات الأعلى من الإنسان ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 435. بتصرف. (¬2) مرجع سابق، بدوي. الأخلاق عند كنت. ص 175. (¬3) المرجع السابق، ص 177.

الثاني: وفقًا لمبادئ نظام العقل المحض العملي. ويشمل: الأخلاق • المذهب الأَوّلي [دوجماتيقي - فتاوي] • المناهج [تعليمي - زهدي] (¬1) وقد ناقش أصناف الأخلاق وبيَّن فضائلها ورذائلها مثل الانتحار ودنس الشهوة وذهاب الوعي بالإفراط في الشراب أو الطعام، والكذب والبخل والتواضع الزائف والكبرياء والغيبة، والسخرية وواجبات الصداقة. ثم عرض "لمنهجيات الأخلاق ووضح فيه أن الفضيلة مكتسبة وليست فطرية، وأن هناك طرقًا متعددة لتعليم الفضيلة مثل أن يكون سماعيًّا، أو سؤاليًّا، أو التعليم بالقدوة الحسنة، ثم بين طريقة الرياضة الأخلاقية للفضيلة" (¬2). وقد تعرض مذهب "كانت" كغيره من المذاهب الفلسفية للنقد. كان هذا عرضًا موجزًا لمذهب "كانت" الأخلاقي، وعند موازنته بآراء ابن الجوزي الأخلاقية، فإننا نلاحظ الآتي: 1 - ناقش "كانت" الأخلاق من الناحية الفلسفية العقلية وفصلها عن الميول والوجدان. أما ابن الجوزي فقد ذكرها كما وردت في المنهج التربوي الإسلامي دون تحليل فلسفي، فالأخلاق في "المفهوم القرآني شيء شامل لكل تصرفات الإنسان، وكل مشاعره، وكل تفكيره، حتى الهاجس الذي يهجس داخل الضمير، فهي ليست محدّدة بمساحة معينة ولا بعمل معين .. ولا يوجد -في الإسلام- عمل واحد يمكن أن يخرج عن دائرة الأخلاق" (¬3). 2 - أن "كانت" أقام الأخلاق بعيدة عن وحي الدين، ورفض رد ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 178 - 224. بتصرف. (¬2) المرجع السابق، ص 225 - 227. بتصرف. (¬3) قطب، محمد. دراسات قرآنية. بيروت، القاهرة، دار الشروق، دون طبعة وتاريخ، ص 139.

الواجب إلى الله، بعد أن حرص على استقلال الإنسان وإرادته عن كل سلطة" (¬1)، حتى ضاق منه رجال اللاهوت. أما ابن الجوزي فقد أقام آراءه الأخلاقية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، الملائمة لفطرة الإنسان وطبيعته التي خلقه الله عليها. وهكذا نجد أن الأخلاق في نظر "كانت" تختلف عنها في نظر ابن الجوزي، بسبب اختلاف العقيدة بينهما، وما يترتب على هذا الاختلاف من تصور للإنسان والكون والوجود، وما يتبعهما من مبادئ وقوانين وآداب تصاغ للإنسان. وسأكتفي بهذا القدر من الموازنة حتى لا يطول البحث. وخلاصة القول: مما سبق من الموازنة، وفي ضوء الاستقراء الذي قمنا به لآراء ابن الجوزي وفي حدود التحري الذي أمكننا أن نقوم به للفكر التربوي الغربي، وهما غير تامين ولا محيطين، يمكن أن نقول إننا نلاحظ أنه رغم البعد الزمني والمكاني، والاختلاف العقائدي والبيئي، فقد وافق ابن الجوزي الفكر التربوي الغربي في الكثير من آرائه التربوية المستقاة من مصدري التشريع الإسلامي الحنيف وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ثم من تجاربه الخاصة، وأما الاختلاف بين آراء ابن الجوزي وآراء غيره فيعود إلى أسباب عدة: 1 - اختلاف العقيدة التي يدين بها كل من ابن الجوزي وغيره من التربويين الغربيين. 2 - لم يكتب ابن الجوزي في التربية كالمتخصص فيها، ولكن كتب كغيره من العلماء المسلمين، الذين كتبوا في موضوع التربية بطريقة عرضية، فالتربية كغيرها من العلوم التي يحتاجها الإنسان المستخلف، تساعده على حمل رسالة الإسلام. أما علماء التربية الحديثة من الغربيين ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الطويل. فلسفة الأخلاق. نشأتها وتطورها. ص 452.

رابعا: موازنة بعض آراء ابن الجوزي التربوية بآراء بعض المربين المسلمين المعاصرين

فقد تناولوا موضوع التربية متخصصين فيها، وهي عندهم علم، الاحتياج إليه متوافر في تربيتهم وتعليمهم، ولاسيما أن دولهم لا تستند إلى مبادئ دينية ثابتة، ولكن تتصارع فيها المذاهب والفلسفات التي قد تتعارض مع طبيعة الإنسان كما خلقها الله تعالى، في الكثير من مبادئها وآرائها. 3 - أن ابن الجوزي -كما سبق أن ذكرت الباحثة- استقى آراءه التربوية من المنهج التربوي الإسلامي بعموميته دون الاستعانة بالطب أو علم الأجنة، أما علماء الفكر التربوي الحديث فقد استعانوا بهذين العلمين وبغيرهما من العلوم التي تسهِّل صياغة آرائهم التربوية. وبذلك يمكن أن نصل إلى أن أسبقية ابن الجوزي في صياغة هذه الآراء، لا تنبع من فكره فقط ولكنها تأتي بالدرجة الأُولى من صلاحية المنهج التربوي الإسلامي لكل زمان ومكان، وموافقته للطبيعة الإنسانية كما خلقها الله تعالى، وشموله لكل ما يحتاجه الإنسان في حياته العامة والخاصة. رابعًا: موازنة بعض آراء ابن الجوزي التربوية بآراء بعض المربين المسلمين المعاصرين إن الداعي إلى موازنة آراء ابن الجوزي التربوية بآراء المربين المسلمين المعاصرين هو بيان أوجه التشابه والاختلاف، ومعرفة مدى تأثر المربين المسلمين في الوقت الحاضر بعلمائنا السابقين، وما أخذوه منهم نصًّا وروحًا، وما أضافوه لتوضيح المفاهيم والأهداف، وبيان الطريقة والوسيلة، حسب الحاجة المعاصرة لهم. والشخصية التربوية الإِسلامية المختارة لموازنة آراء ابن الجوزي التربوية بآرائها هي شخصية الدكتور عمر محمد التومي الشيباني، الأستاذ بكلية التربية في جامعة الفاتح بالجماهيرية الليبية. وقد ولد د. الشيباني في مدينة مصراته بليبيا في عام 1930 م. وقد تنقل في المراحل الدراسية المختلفة كالآتي: أتم دراسته الثانوية في عام 1951 م، ثم حصل على ليسانس كلية دار العلوم - جامعة القاهرة في عام 1955 م، وفي عام 1956 م حصل على دبلوم معهد التربية العالي - جامعة عين شمس، ثم

حصل على دبلوم الدراسات العليا - قسم التاريخ الإِسلامي في عام 1956 م. ثم حصل على شهادة الماجستير من الجامعة الأمريكية بواشنطن عام 1959 م، وأخيرًا حصل على شهادة الدكتوراة في التربية من جامعة جورج واشنطن، بواشنطن - الولايات المتحدة في عام 1963 م. وقد تقلد د. الشيباني عددًا من المناصب العلمية، فعمل محاضرًا بكلية الآداب والتربية الجامعة الليبية من 1962 م - 1964 م. ثم مساعدًا لمدير كلية المعلمين العليا من عام 1964 م - 1965 م، ثم أمينًا لمجلس التعليم الأعلى من عام 1965 م - 1967 م، ثم عمل مديرًا عامًا لرعاية الشباب من عام 1968 م - 1969 م. ثم تولى رئاسة الجامعة الليبية من عام 1969 م - 1974 م. وهو حاليًا يشغل درجة أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية التطبيقية في جامعة الفاتح بطرابلس - ليبيا. وقد قامت الباحثة بعرض مختصر لأهم الموضوعات التربوية التي بحثها الدكتور عمر محمد التومي الشيباني في ثلاثة من كتبه، سنبدأها بكتابه (¬1) من أسس التربية الإِسلامية، ثم توازنها بآراء ابن الجوزي التربوية، وتحدد ما توصلت إليه في ضوء هذه الموازنة. موضوعات الكتاب قسم د. الشيباني الموضوعات إلى فصول ومنها إلى مباحث، وستكتفي الباحثة بذكر الفصول فقط حتى لا يطول البحث، وهي كالآتي: • الفصل الأول: نحو بناء فلسفة تربوية تستمد أصولها من مبادئ الإِسلام. • الفصل الثاني: فضل المعلم ووظيفته في التربية الإسلامية. • الفصل الثالث: شخصية المعلم المسلم. ¬

_ (¬1) لدى المؤلف العديد من الكتب المتخصصة في التربية الإسلامية منها على سبيل المثال: 1 - آراء في الإصلاح التربوي. 2 - دور التربية في بناء الفرد والمجتمع.

• الفصل الرابع: الصفات الإيمانية للمعلم المسلم. • الفصل الخامس: الصفات الخلقية للمعلم المسلم. • الفصل السادس: الصفات العقلية والنفسية والبدنية المرغوب فيها للمعلم في التربية الإِسلامية. • الفصل السابع: واجبات المعلم وآدابه في التربية الإِسلامية. • الفصل الثامن: حقوق المعلم في التربية الإِسلامية. • الفصل التاسع: إعداد المعلم في التربية الإِسلامية. • الفصل العاشر: أسس الإدارة التربوية في التربية الإِسلامية. • الفصل الحادي عشر: من أسس النظام المدرسي في التربية الإِسلامية. • الفصل الثاني عشر: فلسفة العقوبة المدرسية في التربية الإِسلامية. • الفصل الثالث عشر: الدور التربوي للأُسرة في الإِسلام. • الفصل الرابع عشر: تربية المرأة في الإِسلام. تناول د. الشيباني في الفصل الأول من كتابه من أسس التربية الإِسلامية الموضوع الأول فيه وهو: "نحو بناء فلسفة تربوية تستمد أصولها من مبادئ الإِسلام" وقد بيَّن فيه أهمية التربية بالنسبة لتقدم المجتمع الإِسلامي، وبناء فلسفة تربوية صالحة للتعليم في المجتمع الإِسلامي فإنها أُولى خطوات إصلاح هذا التعليم، ثم ميَّز بين المفهوم المناسب للفلسفة التربوية، والمصادر التي ينبغي أن تشتق منها الفلسفة التربوية في المجتمع الإِسلامي. وأهم مقومات وشروط الفلسفة التربوية المستمدة من الإِسلام، وأخيرًا المبادئ الفلسفية والتربوية التي ترتكز عليها الفلسفة التربوية الإِسلامية. وهذا الموضوع لم يتعرض له ابن الجوزي؛ لأنه يعتبر من الموضوعات التربوية التي فرضتها طبيعة العصر الحاضر ومتغيراته المختلفة في جميع جوانب الحياة، بسبب ما آلت إليه أحوال المجتمعات الإِسلامية المعاصرة، وقد بين د. الشيباني أن أهم سبب دعاه للكتابة في هذا

الموضوع هو "تخلي المسلّمين عن التطبيق الكامل السليم لتعاليم وأحكام دينهم في كافة شؤون حياتهم، وتخلفهم الفكري والتربوي في حاضر حياتهم؛ فهم ما وقعوا فيما وقعوا فيه من مشكلات وتأخر إلا بعد أن انسلخوا عن تعاليم دينهم وأهملوا ما فيه من معاني القوة والعزة من دعوة إلى العلم النافع والعمل الصالح والجهاد في سبيل الله، وبعد أن تخلّفوا فكريًّا وأهملوا التعليم وأصبحوا مقلِّدين لغيرهم في كافة نظمهم التعليمية والاقتصادية والسياسية والتشريعية، يطبقون نظمًا غريبة عن قيم دينهم وثقافتهم الإِسلامية الأصيلة، فأفقدهم هذا التطبيق هويتهم وشخصيتهم الإِسلامية المميزة التي كانت لهم إبان عظمة وازدهار أمتهم" (¬1). ومن أجل ذلك لابد من بناء فلسفة تربوية تستمد أصولها من مبادئ الإِسلام وتعاليمه وقيمه، وتصبغ التربية والتعليم بالصبغة الإِسلامية، التي تكفل إعداد الأجيال المؤمنة. أما عصر ابن الجوزي فقد كان يتميز بتطبيق الإِسلام في الجانب التربوي والتعليمي بصفة خاصة، وكل ما يتعلق بالتربية والتعليم مستمد من مبادئ الإِسلام وتعاليمه وقيمه، لذلك لم يتعرض لها ابن الجوزي، رغم وجود حاجة ماسة لبناء فلسفة تربوية تستمد أصولها من مبادئ الإِسلام وقيمه، وهناك فرق في معالجة هذا الموضوع لاختلاف العصرين واختلاف الفهم. وقد خصص د. الشيباني الفصول من الفصل الثاني إلى الفصل التاسع للحديث عن المعلم من حيث دوره ووظيفته وأهميته في التربية الحديثة والتربية الإِسلامية وتحدث كذلك عن فضل العالم والمعلم في الفكر الإِسلامي وذكر النصوص الدالة على ذلك من القرآن الكريم والأحاديث النبوية. ثم بيَّن معنى الشخصية وطريقة تكوينها، ومقوّمات الشخصية المتكاملة الناضجة للمعلم المسلم من خلال معطيات علم النفس الحديث ومعطيات الفكر الإِسلامي، وفي إطار الصورة الواضحة التي رسمها الإِسلام للفرد المسلم الصالح، مع بيان أهم الصفات الإيمانية ¬

_ (¬1) الشيباني، د. عمر، محمد، التومي. من أسس التربية الإسلامية. طرابلس، ليبيا، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الثانية، 1402 هـ - 1982 م، ص 17.

والخلقية والعقلية والنفسية والبدنية المرغوب فيها في المعلم المسلم المنشود، وواجباته وآدابه في التربية الإِسلامية، كما ذكرها بعض المربين المسلمين أمثال الماوردي والغزالي، ثم وضح تقسيمات هذه الواجبات ومستوياتها، ثم تعرض لحقوق المعلم في التربية الإِسلامية من حيث علاقة الحقوق بالواجبات وأنواعها وتقسيماتها المختلفة، وأهم الحقوق التي كفلها الإِسلام للمعلم، ثم بين أهمية الإعداد الصالح المناسب للمعلم، وفلسفته وأهدافه العامة ومناهج وسبل هذا الإعداد في التربية الإِسلامية. وهذه الفصول التي محورها المعلم في التربية الإِسلامية، قد فصّل فيها د. الشيباني القول، وتناول جميع جوانب الموضوع بطريقة اختلف فيها عن ابن الجوزي الذي قصر كلامه على فضل العلم والعلماء في الإِسلام، ومفهوم العلم والهدف منه وسمات العلم النافع، والمقومات الأَساسية للعالم والمتعلم وآدابهما، وأهم العلوم التي ينبغي تعلمها، وطريقة حفظ هذه العلوم، والعوامل المساعدة على التعلم الجيد، والأسباب التي تؤدي إلى النسيان وطرق مقاومته. فالدكتور الشيباني بذلك يتفق مع ابن الجوزي في بعض الآراء التربوية الخاصة بآداب العالم والمتعلم، ويختلف معه في بقية الموضوعات التربوية، فقد ناقشها د. الشيباني بتوسع شامل موثق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، وآراء المربين المسلمين، من خلال واقع المعلم ومشكلاته في الوقت الحاضر، وما له وما عليه بطريقة تكفُل حقوقه. وتمكَّنه من أداء عمله بارتياح في أجواء الحصانة الإِسلامية. ومن أوجه الاختلاف بينهما أيضًا، طريقة عرض الموضوع، فابن الجوزي سار على نهج علماء السلف، فقد كان هدفه من عرض موضوعاته هو الأخذ بها وتطبيقها في حياتهم. كما رأى د. الشيباني أن "حال التعليم لا يمكن أن يصلح إلا إذا كان المعلم في وضع يمكنه من تنظيم الموقف التعليمي وترتيبه وتوجيهه الوجهة النافعة للعملية التعليمية والميسِّرة لسبيلها على المتعلم، والمعلم إذا كان صالحًا من جميع النواحي .. يستطيع بكل تأكيد أن يعوض كثيرًا من جوانب النقص في العناصر الأُخرى للموقف التعليمي من كتاب

تعليمي، ووسيلة تعليمية .. الخ" (¬1) وهذا الرأي الذي دفعه للكتابة في موضوع المعلم في التربية الإِسلامية نابع من واقع المعلم في الوقت الحاضر، وأهمية العودة لإصلاحه في ضوء المصادر الأصلية كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية، يضاف إلى ذلك آراء علماء المسلمين. ثم إن بناء الفلسفة التربوية التي تستمد أصولها من الإِسلام ومبادئه تحتاج إلى المعلم باعتباره أحد العناصر الرئيسية فيها. أما الفصل العاشر وموضوعه "أسس الإدارة التربوية في التربية الإسلامية" فقد تحدث فيه عن مفهوم الإدارة التربوية وخصائصها العامة، وأهميتها وأهدافها العامة التي تسعى إلى تحقيقها، ثم حدد مجالات الإدارة التربوية ووظائفها الأساسية، وأنماط القيادة التربوية ونظرياتها وأخيرًا ذكر بعض المبادئ العامة التي ترتكز عليها الإدارة التربوية في التربية الإِسلامية. وهذا الموضوع لم يتطرق له ابن الجوزي ضمن آرائه التربوية، ولعل السبب في ذلك يرجع كما ذكره د. الشيباني: "إننا لم نعثر فيما اطلعنا عليه من آثار وكتب إسلامية في مجال التربية والتوجيه العام على تعريف للإدارة التربوية، لأن هذا النوع من الإدارة وإن كانت آثاره وممارساته موجودة منذ أن وجد التعليم بصورة منظمة، وأصبحت له مدارسه ومعاهده الخاصة به وأجهزته المشرفة عليه، فإنه لم يصبح علمًا أو فنًا يدرس، له أسسه وفلسفته ونظرياته ومفاهيمه وأهدافه وأنماطه وطرقه وأساليبه وتقنياته ووسائله الخاصة إلا في العصر الحديث الذي نشأت وتطورت فيه الإدارة بأنواعها المختلفة ويدخل في ذلك الإدارة التعليمية أو التربوية" (¬2). وإذا كان الحال كما ذكر د. الشيباني، فكيف ذكر بعض المبادئ العامة التي تقوم عليها الإدارة التربوية في التربية الإِسلامية؟ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 57. (¬2) المرجع السابق، ص 349.

لقد وضح د. الشيباني ذلك بقوله: "يجب أن نشير بادئ ذي بدء إلى أن التربية الإِسلامية لا تحتوي على تفصيلات للإدارة التربوية على النحو الذي تحويه الإدارة التربوية الحديثة، فإنها بكل تأكيد تحوي العديد من المبادئ العامة التي لها من المرونة ما يجعلها تساير كلَّ تقدم وتطور صالح، هذا بالإضافة إلى ما تحمله هذه المبادئ من سهولة ويسر وواقعية ووضوح وتأكيد لمبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص ومراعاة المصلحة العامة والعناية بحاجات الجسم والعقل والروح والوجدان" (¬1). ومن هذه المبادئ الإِسلامية العامة اشتق د. الشيباني بعض المبادئ العامة التي تقوم عليها الإدارة التربوية الإِسلامية مثل: مبدأ الإيمان والأخلاق، ومبدأ العدل والمساواة، ومبدأ الشورى في الرأي، ومبدأ تقسيم العمل وتوزيع الاختصاصات .. الخ. أما الفصل الحادي عشر فموضوعه "من أسس النظام المدرسي في التربية الإِسلامية" وقد ناقشه من حيث مفهوم النظام المدرسي وأنواعه واتجاهاته وأهميته وأهدافه، وعوامل وأسباب اختلال هذا النظام، ثم عوامل وسبل تدعيمه، وأخيرًا المبادئ العامة التي يقوم عليها هذا النظام في التربية الإِسلامية. وأما الفصل الثاني عشر فموضوعه: "فلسفة العقوبة المدرسية في التربية الإِسلامية" وقد ناقشها د. الشيباني من حيث مفهوم العقوبة وأنواعها والغاية منها، وشروطها والمبادئ التي ترتكز عليها في التربية الإِسلامية، موثقًا ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، ثم بآراء بعض علماء المسلمين. وقد اعتبر د. الشيباني في هذا الفصل والفصل الذي يليه فلسفة العقوبة المدرسية في التربية الإِسلامية من المشكلات التربوية الرئيسة ذات الصلة بالإدارة التربوية، فقال في ذلك: "لابدّ لكل إدارة تعليمية أن تهتم بهما [مشكلة النظام ومشكلة العقوبة المدرسية] وتضع لهما الأسس والمبادئ في ضوء فلسفتها التربوية، وفي ضوء الإطار العقائدي ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 385.

والأخلاقي التي تلتزم به؛ فكل إدارة تعليمية صالحة لابدّ أن يكون من بين أهدافها الأساسية حفظ النظام المدرسي في المؤسسة التي توجد هي فيها، ليتحقق الأمن والمُناخ الصالح لتحصيل العلم. كما أنه لابد لها من أن تحدد الأسس السليمة لمعالجة مشكلة النظام المدرسي، وتتخذ من الوسائل والإجراءات والاحتياطات العملية ما هو كفيل بحلّ هذه المشكلة حلًّا سليمًا يؤدّي إلى حفظ النظام وصيانته. وبالنسبة للذين سببوا اختلال النظام بالذات، فإن الحزم الإداري قد يستدعي تحميلهم تبعة أفعالهم التي أخلّوا بها النظام، وعقابهم بنوع من أنواع العقوبة المناسبة التى تردعهم عن الأفعال المخلّة بالنظام وتعود بهم إلى حظيرة الأمن والنظام" (¬1). وقد ربط د. الشيباني بين النظام المدرسي والعقوبة المقررة لضبط العملية التعليمية والتربوية، وتهيئة المناخ الأمني الصالح لتعليم التلاميذ. وهذا الموضوع من الموضوعات التربوية التي لم يتطرق لها ابن الجوزي، ولكنه تعرض لموضوع العقوبة. ويعود سبب ربط د. الشيباني بين النظام المدرسي والعقوبة المقررة هو ما ذكره من: "أن هاتين المشكلتين لم يكن حظهما واحدًا في كتب التربية الإِسلامية وفي الفكر التربوي الإِسلامي، فبينما نجد مشكلة العقوبة قد نالت حظا وافرا من المعالجة والنقاش في كتب التشريع الإِسلامي وكتب التربية الإِسلامية، فإن مشكلة النظام المدرسي أو مشكلة المحافظة على هذا النظام لم تنل إلا حظًّا قليلًا من النقاش والمعالجة المباشرة في كتب التربية الإِسلامية، ولكن قلة حظ مشكلة النظام المدرسي من المعالجة المباشرة في كتب التربية الإسلامية، لا تنافي أن الفكر التربوي الإِسلامي قد تضمّن بطريقة غير مباشرة الكثير من المبادئ التي تصلح أساسًا لمعالجة هذه المشكلة وتحدد الإطار الفلسفي لحلّها" (¬2). لقد اشتق د. الشيباني المبادئ العامة التي يقوم عليها النظام المدرسي من الفكر التربوي الإسلامي، حيث وافق ابن الجوزي في بعضها. مثال ذلك قوله: "أقوم التقويم ما كان في الصغر، فأما إذا ترك ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 413. (¬2) المرجع السابق، ص 413 - 414.

الولد وطبعه فنشأ عليه ومرن، كان ردّه صعبًا" (¬1) وفي هذا المعنى قال د. الشيباني: 1 - "الإيمان بضرورة البدء المبكر في توجيه الطفل وإرشاده إلى الخِلال والأخلاق الحميدة، وتعويده منذ الصغر على تقدير الواجب، وتحمل المسؤولية المناسبة لسنه واحترام النظام والطاعة فيما ليس فيه معصية لله .. الخ" (¬2). وقد وثَّق رأيه بأقوال المربين المسلمين أمثال ابن سينا وابن الجزار القيرواني. 2 - قال ابن الجوزي في دور الأُسْرة التربوي في الموسم الأول من الطفولة المبكرة: "إن هذا الموسم يتعلق معظمه بالوالدين فهما يربّيان ولدهما ويعلّمانه ويحملانه على مصالحه، فلا ينبغي أن يفترا عن تأديبه وتعليمه، فإن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر" (¬3). وفي هذا المعنى قال د. الشيباني: "الإيمان بأهمية دور الأُسْرة ودور الأبوين بصورة خاصة في تنشئة أولادهما التنشئة الصالحة وطبعهم منذ الصغر على ممدوح الخصال وحَسَن العادات وتوجيههم إلى طريق الخير والاستقامة بوعي وحكمة. . . الخ" (¬4). وقد وثَّق رأيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأورد رأي الإمام الغزالي في الكثير من الآراء التربوية مثل: الثواب والعقاب، ومراعاة الفروق الفردية في التعليم، ودور المعلم وأهميته في العملية التعليمية والتربوية، وفي تقوية الإرادة، والاستفادة من العبادات المفروضة كالصلاة والصوم والحج والزكاة لضبط النفس وتعويدها على البذل والعطاء. أما العقوبة فقد توسع د. الشيباني في مناقشة مفهومها من الناحية ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. اللطائف والطب الروحاني. ص 133. (¬2) مرجع سابق، الشيباني. من أسس التربية الإِسلامية. ص 434. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه الغمر على مواسم العمر". من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. ص 58. (¬4) مرجع سابق، الشيباني. من أسس التربية الإِسلامية. ص 435.

اللغوية والشرعية والقانونية بصفة عامة، ومن الناحية التربوية بصفة خاصة مستعينًا على ذلك بالمنهج التربوي الإِسلامي، وآراء بعض علماء المسلمين الذين استفاد منهم استفادة كبيرة, وأخذ معظم آرائهم كما هي نصًّا وروحًا. وهذا يدل على تأثر د. الشيباني بعلماء التربية المسلمين، واتفاقه مع ابن الجوزي في رأيه التربوي، وإن لم يستشهد بقوله، فإنه قد استشهد بآراء غيره من علماء المسلمين، الذين اتفقت آراؤهم مع ابن الجوزي، فإن الجميع اقتبسوا هذه الآراء من القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة. وربما يكون أخذ عمن أخذوا عن ابن الجوزي فيكون أخذ عن ابن الجوزي بطريق غير مباشر. أما الفصل الثالث عشر فموضوعه "الدور التربوي للأُسْرة في الإسلام" وقد تناوله من نقاط عدة هي: مفهوم الأُسْرة في الإِسلام، وأهميتها والعناية بتدعيمها وتماسكها، وطبيعة الوظيفة التربوية لها، وأخيرًا واجبات الأبوين نحو أولادهما وحقوقهما عليهم في الإِسلام. وقد ناقش د. الشيباني هذه النقاط بتوسع مستفيض موثّق بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية وآراء المربين المسلمين. هذا وإن ابن الجوزي قد أوجز في بيان الدور التربوي للأُسْرة، ولم يتناوله من جميع جوانبه كما فعل د. الشيباني. أما الفصل الرابع عشر فموضوعه "تربية المرأة في الإسلام" وقد تناوله من نقاط عدة هي: الوضع الثقافي للمرأة العربية قبل الإِسلام وفي ظل الإسلام، ثم ناقش موضوع عدم تعارض أدب الحجاب مع حق المرأة في التعليم، وضرورة تمشي تعليم المرأة المسلمة مع طبيعتها ووظائفها في الحياة، ثم مفهوم وفلسفة أهداف تربية المرأة في الإِسلام. وقد ناقش د. الشيباني هذا الموضوع التربوي المهمّ، لتأكيد الدور الحيوي للمرأة المسلمة في تربية الأجيال المؤمنة، بعد أن مرت بعهود مظلمة حرمتها من التمتع بحقوقها الإسلامية التي منحها إياها الله -عز وجل-. وقد استطاع د. الشيباني أن يصحّح النظرة السائدة للمرأة المسلمة، ويزيل الشُّبَه الموجودة في النفوس عن حقيقة الحجاب وتوهّم تعارضه مع

تعليم وعمل المرأة، وحدد فلسفة أهداف تربية المرأة في الإِسلام. وهذا الموضوع الذي تعرض له د. الشيباني، هو وليد الظروف المعاصرة لوضع المرأة المسلمة وما تواجهه من تحديات في حجابها وتعليمها وعملها خارج المنزل. أما ابن الجوزي فقد تناول موضوع المرأة المسلمة -حسب ظروف عصره- من ناحية تعليمها أمور دينها كالطهارة والصلاة والزكاة والصيام وحقوق الزوج، وذلك لجهلها بهذه الأمور، فقال في ذلك: "رأيت النساء أحوج إلى التنبيه من هذه الرقدة من الرجال، لبعدهن عن العلم، وغلبة الهوى عليهن بالطبع، فإن الصبية في الغالب تنشأ في مخدعها لا تلقَّن القرآن ولا تعرف الطهارة من الحيض، ولا تعلم أيضًا أركان الصلاة، ولا تحدَّث قبل التزويج بحقوق الزوج. . . . الخ" (¬1). ولكي يساهم ابن الجوزي في توعية المرأة المسلمة بأمور دينها، ألف كتابًا أسماه أحكام النساء فقال في ذلك: "فلما رأيت النساء أحوج إلى العلم من الرجل، شرعت في تصنيف هذا الكتاب الذي يتعلق بأحوالهن، محتسبًا الأجر" (¬2). وبهذا نلاحظ أن ابن الجوزي ود. الشيباني قد عالجا موضوع المرأة المسلمة حسب الوضع والظروف والاحتياجات التي عاصرها كل واحد منهما. أما الكتاب الثاني فهو كتاب فلسفة التربية الإِسلامية. موضوعات الكتاب قسم د. الشيباني الموضوعات إلى فصول ومنها إلى مباحث، وستكتفي الباحثة بذكر الفصول فقط كما سبق، وهي كالآتي: • الفصل الأول: فلسفة التربية الإِسلامية: ماهيتها ومصادرها وشروطها. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. أحكام النساء. ص 4. (¬2) المرجع السابق، ص 4.

• الفصل الثاني: المبادئ التي تقوم عليها نظرة الإِسلام إلى الكون. • الفصل الثالث: المبادئ التي تقوم عليها نظرة الإِسلام إلى الإنسان. • الفصل الرابع: المبادئ التي تقوم عليها نظرة الإِسلام إلى المجتمع. • الفصل الخامس: المبادئ التي تقوم عليها نظرية المعرفة في الفكر الإِسلامي. • الفصل السادس: المبادئ التي تقوم عليها فلسفة الأخلاق في الإِسلام. • الفصل السابع: أهداف التربية الإِسلامية. • الفصل الثامن: فلسفة المناهج الدراسية في التربية الإِسلامية. • الفصل التاسع: فلسفة طرق التدريس في التربية الإِسلامية. مناقشة موضوعات الكتاب في ضوء آراء ابن الجوزي التربوية: قبل مناقشة موضوعات الكتاب في ضوء الكتاب والسُّنّة ثم موازنة آراء ابن الجوزي التربوية مع ما قدمه الدكتور الشيباني في كتابه، لابد من وقفه عند عنوانه الذي أسماه فلسفة التربية الإِسلامية، وقد بيَّن د. الشيباني في المقدمة، المنهج الذي سار عليه حتى يتفق محتواه مع عنوانه، فقال: "وقد حاولت ما استطعت أن أتبسط في القول، وأن أتجنب الخوض في خلافات الفلاسفة والمتكلمين، وأن أقتصر -في الغالب الأعم- على ذكر ما اتفق عليه جمهور علماء المسلمين، وأن أشمِل، في بحثي عن المبادئ والأفكار التربوية في التراث الإسلامي، كتابات القدماء والمحدثين من علماء المسلمين على السواء، وأن أعطي نصيبًا وافرًا في استشهادي وتدعيمي للمبادئ والأفكار الفلسفية والتربوية التي أتيت بها للنصوص الإِسلامية الحديثة باعتبارها أكثر عمقًا ودقة وأبعد نظرة في فهم الإِسلام وأقرب في أسلوبها ومضمونها إلى روح العصر الذي نعيش فيه. كما حاولت أن أتجنب المنهج التاريخي الذي سار عليه أغلب من كتب في التربية الإِسلامية، وأن أتبع منهجًا هو أقرب إلى المنهج المقارن، بحيث أذكر المبدأ أو الفكرة الفلسفية أو التربوية التي تتفق مع الفكر الفلسفي والتربوي الحديث المعتدل، ثم أُثنِّي على ذلك بالتعليق

والشرح وذكر النصوص الإِسلامية المؤيدة لذلك المبدأ أو الفكرة. كما حاولت أيضًا في هذا الكتاب أن أركز على ذكر ومناقشة المبادئ والأصول العامة للتربية الإِسلامية في فلسفتها وأهدافها ومناهجها وطرق تدريسها، حتى تكون محتويات الكتاب متفقة في مضمونها وطبيعتها مع عنوانه فلسفة التربية الإِسلامية (¬1). وللباحثة ملاحظتين على المنهج الذي سار عليه أستاذنا الدكتور الشيباني، الملاحظة الأولى: في قوله: "وأن أعطي نصيبًا وافرًا في استشهادي وتدعيمي للمبادئ والأفكار الفلسفية والتربوية التي أتيت بها للنصوص الإِسلامية الحديثة باعتبارها أكثر عمقًا ودقة وأبعد نظرة في فهم الإِسلام وأقرب في أسلوبها ومضمونها إلى روح العصر الذي نعيش فيه". إن القارئ لهذه العبارة يفهم منها أن الدكتور الشيباني رغم استشهاده بكتابات القدماء والمحدثين من علماء المسلمين، إلا أنه سيعطي نصيبًا وافرًا من استشهاده، للنصوص الإِسلامية الحديثة للمعاصرين، لأنهم يتميزون عن القدماء بأنهم أكثر عمقًا ودقة وأبعد نظرة في فهم الإِسلام، وأقرب في أسلوبهم ومضمونهم إلى روح العصر الذي نعيش فيه. وإنني أتساءل هل المعاصرون -في نظر أستاذي الدكتور الشيباني- أكثر عمقًا ودقة وأبعد نظرة في فهم الإِسلامي من الأئمة مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية وأمثالهم من علماء المسلمين؟! ثم ألم يستشهد الدكتور الشيباني بأقوال علمائنا القدماء في الكثير من الأفكار التي عرضها، واعتبر ما تركوه من آراء تربوية هي جزء أصيل من تراثنا الخالد؟ (¬2)، فكيف يستشهد بأقوالهم بعد استشهاده بالكتاب والسُّنّة ثم يقدم عليها أقوال المعاصرين لأنهم أكثر عمقًا ودقة ¬

_ (¬1) الشيباني، د. عمر، محمد، التومي. فلسفة التربية الإسلامية. ليبيا، منشورات الشراكة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الثانية، 1978 م، ص 7 - 8. (¬2) مرجع سابق، الشيباني. من أسس التربية الإسلامية. ص 201.

وأبعد نظرة في فهم الإسلام. ثم أليس هؤلاء المعاصرين اعتمدوا في كتاباتهم على ما خطه علماؤنا السابقون وبنوا عليه اجتهاداتهم الفكرية والتربوية؟، وهؤلاء العلماء المعاصرون يثبتون ذلك ويرجعون الفضل فيه لجهود علمائنا السابقين. لذلك كان الأولى بأستاذنا الدكتور الشيباني أن يثبت هذا الفضل لعلمائنا السابقين كما تشهد بذلك كتاباته القيمة واستشهاده بأقوالهم. الملاحظة الثانية: في قول د. الشيباني: "أذكر المبدأ أو الفكرة الفلسفية أو التربوية التي تتفق مع الفكر الفلسفي والتربوي الحديث المعتدل، ثم أُثني على ذلك بالتعليق والشرح وذكر النصوص الإسلامية لذلك المبدأ أو الفكرة". لقد لخص د. الشيباني المنهج المقارن الذي سيتبعه في الخطوات الآتية: 1 - ذكر المبدأ الفلسفي أو التربوي الذي يتفق مع الفكر الفلسفي التربوي الحديث المعتدل. 2 - ثم إيراد التعليق والشرح والنصوص الإسلامية التي تؤيد ذلك المبدأ. ومع تقديري لأستاذي الدكتور الشيباني وريادته في تناول موضوعات التربية الإِسلامية، إلا أنني أشير إلى أن المنهج الصحيح في مجال التربية الإِسلامية هو أن نبدأ بالقرآن الكريم والسُّنة النبوية، فنستخرج ما يدلان عليها ثم نثني بالشرع والبيان، ثم نذكر المبدأ أو الفكرة الفلسفية أو التربوية المتفقة أو المخالفة للمنهج التربوي الإسلامي فنفسرها ونحللها ثم نقوَّمها على ضوء الكتاب والسُّنَّة. أما بالنسبة للعناوين فقد حدد د. الشيباني عناوين لموضوعات الكتاب متفقة مع المضمون، والمحتوى أما ابن الجوزي فقد حدد بعض آرائه التربوية في عناوين مناسبة للمحتوى كما في كتابه اللطائف والطب الروحاني، والبعض الآخر -وهو معظم آرائه التربوية- أُخذت دون عناوين ولكنها جمُعت من ثنايا مؤلفاته المختلفة من خلال عرضه للموضوعات بصفة عامة، ودون تحديد لسبب اختيار رأي تربوي دون آخر.

وقد تناول د. الشيباني في الفصل الأول من كتابه فلسفة التربية الإسلامية فشرح مفهوم هذه الفلسفة وما يتصل بها في أربع نقاط هي: 1 - ماهية فلسفة التربية الإسلامية المستمدة من تعاليم الإسلام ومنهجه التطبيقي، وعلاقتها بالفلسفة الإسلامية العامة. 2 - أهمية بناء فلسفة إسلامية وأنها تحدد سير العملية التعليمية والتربوية من جميع جوانبها بحيث تخدم تربيتنا وتعليمنا الحاضر. 3 - أهم المصادر التي يمكن أن تشتق منها فلسفة التربية الإسلامية وهي القرآن الكريم والسُّنّة النبوية والإجماع والقياس، يضاف إلى ذلك بعض المصادر الفرعية مثل خصائص نمو المتعلم، والقيم والتقاليد في المجتمع، واحتياجات المجتمع الفعلية. . . الخ. 4 - مقومات وشروط فلسفة التربية الإسلامية التي لابد أن تكون مستمدة من المنهج الإِسلامي من جميع جوانبه، ومرتبطة بواقع المجتمع وحاجاته ومشكلاته، ومستفيدة من تجارب الآخرين، وخالية من التناقض والتضارب بين المبادئ والمعتقدات. . . إلى غير ذلك. وهذا الموضوع -كما سبق أن أشرت (¬1) - لم يتعرض له ابن الجوزي، لأنه من الموضوعات الحديثة، التي فرضتها طبيعة العصر الحاضر، وكثرة الروافد العلمية والثقافية من كل مكان، والمتيسرة لكل طالب علم. وقد خصص د. الشيباني الفصول الثاني والثالث والرابع للمبادئ التي تقوم عليها نظرة الإسلام إلى الكون، والإنسان والمجتمع، موثقًا ذلك بالآيات القرانية والأَحاديث النبوية ذاكرًا آراء الفلاسفة المسلمين، مفندًا بذلك النظريات والآراء المخالفة للإسلام. والذي يؤخذ على أستاذنا الدكتور الشيباني أنه عرض أهم التعاريف التي ذكرها العلماء والفلاسفة لتحديد ماهية الإنسان وطبيعته وأنه "حيوان ناطق أو حيوان متكلم أو حيوان مفكر أو حيوان متدين أو حيوان أخلاقي أو حيوان اجتماعي" (¬2). ثم أيد هذه التعريفات، ورجح -حسب رأيه- التعريف الذي يشمل جميع خصائص الإِنسان ومميزاته وهو أن الإِنسان حيوان ناطق، ¬

_ (¬1) الباب الخامس، الفصل الثاني، ص 540، 541 من هذا الكتاب. (¬2) مرجع سابق، الشيباني. فلسفة التربية الإسلامية. ص 81 - 82.

وذلك لأنه كما يقول د. الشيباني: إن "هذا التعريف الذي أتى به الفلاسفة وما يندرج تحته أو يرتبط به من تعريفات أخرى ليس فيه ما يتنافى مع روح الإسلام ولا مع تعاليمه ولا مع ما فهمه علماؤه في مختلف عصورهم" (¬1). والذي أراه -والله أعلم- أن تعريفات العلماء والفلاسفة مخالفة لتكريم الله تعالى للإنسان، قال الله تعالى في ذلك: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬2)، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬3). إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكد تميز الإنسان عن جميع المخلوقات، وتنفي عنه صفة الحيوانية التي لا تتفق مع حملَ رسالة الخلافة وتعمير الأرض بما يرضي الله تعالى. لذلك كان الأولى بأستاذنا الدكتور الشيباني أن يناقش تعريفات العلماء والفلاسفة في ضوء ألفاظ القرآن الكريم التي تصف الإِنسان بأنه حيوان، بل أكدت أنه إنسان، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬4)، وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (¬5)، وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (¬6). . . إلى غير ذلك من الآيات. ونقول هذا لأجل أن يكون عرض د. الشيباني لنظرة الإسلام للإنسان نظرةً صحيحة وكاملة من جميع جوانبها، ولاسيما أنه من خلال تفصيله (¬7) لخصائص الإنسان التي وردت في التعاريف، يؤكد تفرّدَ الإنسان وتميزه عن الحيوان في كل شيء وهذا حق، بل لقد سخر الله تعالى الكون وما فيه من مخلوقات ومنها الحيوانات للإنسان، فكيف نطلق عليه لفظ الحيوان؟!! والتعريف الذي أراه مناسبًا متفقا مع خصائص الإنسان ومميزاته ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 82 - 83. (¬2) سورة الإسراء، الآية 70. (¬3) سورة البقرة، الآية 30. (¬4) سورة التين، الآية 4. (¬5) سورة الإسراء، الآية 13. (¬6) سورة الطارق، الآية 5. (¬7) مرجع سابق، الشيباني. فلسفة التربية الإسلامية. ص 83 - 92، وص 114.

التي ذكرها د. الشيباني هو: الإنسان: هو ذلك الكائن الحي الذي خلقه الله تعالى من قبضة من طين، ونفخة من روح الله، وميزه عن الحيوان بالعقل المدرك الواعي، والنطق بألفاظ ذات دلالات لغوية واضحة، ووهبه القدرة على التمييز بين الخير والشر، والحلال والحرام، والقدرة على العلم والتعليم والبناء والتعمير والتغيير بالقدر الذي يحقق الغاية من وجوب وهي عبادة الله تعالى بكل ما أوتي من قدرة وقوة ووسائل وأساليب سخرها الله -عز وجل- له. ثم ناقش د. الشيباني المبادئ التي تقوم عليها نظرة الإسلام للكون والمجتمع من الجوانب التي يحتاجها التربوي، أما ابن الجوزي فقد أغفل نظرة الإسلام للكون، ولم يتعرض لها، ربما لأن هذه النظرة كانت واضحة وصحيحة في أذهان الناس في ذلك الوقت. وهذا على عكس هذا العصر الذي اختلطت فيه المفاهيم، وكثرت المذاهب المخالفة للإسلام وطغت آراؤها على نظرة الإسلام، فكان لابد من إبراز نظرة الإسلام وتوضيحها للقارئ، واقتصر ابن الجوزي على نظرة الإسلام للإنسان من حيث طبيعته المخلوقة من قبضة من طين ونفخة من روح الله تعالى، وأنها مزودة بالدوافع والانفعالات والعواطف، ثم بيَّن أسباب الانغماس في الشهوات، والطريقة التربوية المناسبة لتهذيب النفس البشرية، كذلك وضح طريقة تربية جوانب النفس الإنسانية الجسمية والعقلية والروحية والعقائدية والأخلاقية والإرادية -كما رأينا-. وقد عرض ابن الجوزي هذه الآراء بطريقة عامة، أما د. الشيباني فقد فصل القول فيها وتناولها من خلال مبادئ منظمة، كل مبدأ يعالج فكرة من الأفكار المتعلقة بالموضوع بطريقة مقصودة وهي تبرز التخصص التربوي الدقيق للدكتور الشيباني. أما الفصل الخامس فموضوعه "المبادئ التي تقوم عليها نظرية المعرفة في الفكر الإسلامي" وقد تحدث فيه عن أهمية المعرفة وتحصيلها من حيث هي هدف أساسي للتربية، والإيمان بأن المعرفة هي كل ما نتوصل إليه عن طريق حواسّنا أو عقولنا أو نتلقاه عن طريق الحدس أو الإلهام أو الدين. كذلك بيَّن أن المعارف البشرية تتفاوت في فضلها

وقيمتها حسب موضوعها وغايتها ووسيلتها، وأن هذه المعارف لها مصادر متعددة يقرها الإسلام، وأكد أن المعرفة مستقلة عن العقل الذي يدركها، وصفات المعرفة الصالحة في الإسلام هي ما توفر فيه اليقين الجازم والتواضع أمام عظمة الله وواسع علمه، والتمشي مع روح الدين وما رسمه من مبادئ خلقية سامية مساعدة على إشاعة الأمن والطمأنينة في النفوس، ونبه د. الشيباني على ضرورة التثبت والدقة والموضوعية، وتدعيم العمل الصالح والخبرة الناجحة، وتيسير سبل تقدم المجتمع وقوته. والذي يبدو، أن الدكتور الشيباني قد ركز على المعرفة من جميع جوانبها، وأوجز في فضل العلم وأهميته في نظر الإسلام، أما ابن الجوزي فقد فصل في هذا الموضوع ولكنه لم يعالج موضوع المعرفة كما عالجه د. الشيباني، الذي اعتبره من جوانب الفلسفة الإسلامية وفلسفة التربية الإسلامية، لأنه ينبغي التعرف على "النظرية التي تكمن خلف هذه المعرفة في التراث الإِسلامي والفلسفة الإِسلامية" (¬1). أما الفصل السادس فموضوعه "المبادئ التي تقوم عليها فلسفة الأخلاق في الإسلام"، وقد تحدث فيه عن أهمية الأخلاق في الحياة، وأنها اتجاه راسخ في النفس البشرية، وأن الأخلاق الإسلامية في حقيقتها أخلاق إنسانية تساير الفطر السليمة، وغايتها تحقيق سعادة الدارين للفرد، والخير للمجتمع، والدين هو أهم مصدر للأخلاق، والنظرية الخلقية لا تكتمل إلا إذا حددت فيها بعض المفاهيم الأساسية كالضمير الخلقي، والإلزام الخلقي، والحكم الخلقي، والمسؤولية الخلقية، والجزاء الخلقي. لقد توسع د. الشيباني في عرض موضوع المبادئ التي تقوم عليها فلسفة الأخلاق في الإسلام، أما ابن الجوزي فقد اقتصر على تفسير معنى الخلق، وأنه صنفان فطري ومكتسب وعدَّدَ بعضًا من الأخلاقيات السيئة مثل الكذب والحسد والغضب والحقد والكبر والعجب. موثقًا ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 183.

أما الفصل السابع فموضوعه "أهداف التربية الإِسلامية"، وقد تحدث فيه د. الشيباني عن مفهوم الهدف التربوي ومستوياته والمصادر التي تستمد منها التربية الإسلامية أهدافها، وخصائص أهداف التربية الإسلامية الفردية والاجتماعية التي تسعى إلى تحقيقها، وأهم المبادئ التي تقوم عليها هذه الأهداف. وهذا الموضوع من الموضوعات التي عالجها ابن الجوزي بغير الطريقة التي عالج بها الدكتور الشيباني. وذلك لأنه كما ذكر د. الشيباني أن "كتب التربية الإسلامية القديمة لم تتعرض -فيما أتيحت لنا فرصة الاطلاع عليه- لتعريف الهدف التربوي ولا لتقسيمه إلى الأقسام أو الأنواع الثلاثة" (¬1). ورغم ذلك فإن د. الشيباني استطاع أن يستنبط من الفكر الإسلامي مفهوم الهدف التربوي وتقسيماته، وقد قال في ذلك: "ليس هناك ما يمنع في الشريعة الإسلامية والفكر الإِسلامي من تعريف الهدف بما عرفناه (¬2)، أو بأي تعريف آخر يتقارب معه في المعنى ولا يتعارض مع روح الشريعة والفكر الإسلامي، ومن الأخذ بذلك التقسيم الثلاثي طالما أنه يوسع مجال الهدَف التربوي، ومن مجال الاستفادة من العمل التربوي ليشمل الفرد والمجتمع ومهنة التعليم نفسها" (¬3). وذلك يدل دلالة واضحة على مرونة الشريعة الإسلامية لاستيعاب كل ما يتعلق بالعملية التعليمية والتربوية، وقدرتها على توظيف الشريعة الإسلامية لخدمة العلوم التربوية المعاصرة. ولا يعني هذا أن علماء المسلمين ومنهم ابن الجوزي قد أغفلوا أهداف التربية الإسلامية بصفة عامة، بل لقد ذكروها في كتاباتهم التربوية من دون تحديد لمسماها، وصنفها بعض ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 283. (¬2) التعريف الذي ذكره د. الشيباني للهدف التربوي هو أنه: "التغير المرغوب الذي تسعى العملية التربوية أو الجهد التربوي إلى تحقيقه، سواء في سلوك الفرد وفي حياته الشخصية، أو في حياة المجتمع وفي البيئة التي يعيش فيها الفرد، أو في العملية التربوية نفسها وفي عمل التعليم كنشاط أساسي وكمهنة من المهن الأساسية في المجتمع"، مرجع سابق. فلسفة التربية الأسلامية. ص 282. (¬3) مرجع سابق، الشيباني. فلسفة التربية الإسلامية. ص 283.

التربويين المعاصرين، وفي ذلك يقول د. الشيباني: "فقد ظهرت في السنوات الأخيرة بعض الدراسات المتواضعة، وحاول أصحابها أن يحددوا الأهداف العامة للتربية العامة حسبما فهموه من النصوص الدينية ومن التراث الفكري والتربوي الإِسلامي" (¬1). ولمعرفة هذه الأهداف العامة المستنبطة من هذا التراث يمكن الرجوع إلى كتاب د. الشيباني، فلسفة التربية الإسلامية، ص 296 - 301. والذي يبدو عند قراءة هذا الفصل وموازنته بآراء ابن الجوزي التربوية، أنه لم يكتب في هذا الموضوع، لأنه كتب عن التربية بصفة عامة بعكس د. الشيباني الذي أفاض فيه بحكم تخصصه التربوي. أما الفصل الثامن فموضوعه "فلسفة المناهج الدراسية في التربية الإسلامية"، تحدث فيه عن أهمية المناهج الدراسية في التربية الإسلامية، ومفهوم المنهج الدراسي في التربية الإسلامية وفي التربية الحديثة، وأهم الخصائص العامة لهذه المناهج في التربية الإِسلامية، والمبادئ العامة التي تقوم عليها مناهج التربية الإِسلامية، مع معرفة الأسس العامة التي تقوم عليها مناهج التربية الإِسلامية كالأساس الديني، والفلسفي، والنفسي، والاجتماعي. كذلك معرفة الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها مناهج التربية الإِسلامية، وأهم التقسيمات الممكنة لهذه المناهج. لقد استطاع د. الشيباني من خلال تتبعه التاريخي للمناهج الدراسية في الأقطار العربية والإسلامية في العصور الإسلامية، أن يحدد -بصفة عامة- طبيعة المنهج الدراسي وخصائصه ومميزاته وأسسه والتقسيمات الممكنة للمناهج في التربية الإسلامية، وهدفه من ذلك وضحه بقوله: "والذي يهمنا في هذه الخصائص والمميزات أنها متمشية مع روح الإسلام وروح التربية فيه، وتستلزمها مبادئه وتعاليمه والفلسفة المستمدة منه للتربية والإصلاح، ولا يهمنا بعد ذلك أن تكون -المناهج الدراسية المطبقة فعلًا في العالم الإِسلامي عاكسة لهذه الخصائص ومتمشية معها أو غير ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 296.

متمشية، لأن عدم تمشيها مع هذه الخصائص في فترة من فترات التاريخ الإسلامي، أو في قطر من أقطاره لا يخل بوجود هذه الخصائص في الفكر التربوي الإِسلامي، على الأقل في مستوى ما يجب أن يكون" (¬1). أما ابن الجوزي فقد اقتصر على ذكر المنهج التعليمي الذي يحبذه، وهو التركيز على العلوم الإسلامية، والتحذير من علم النجوم والكيمياء وعلم الكلام، ولم يهمل علم الطب بل قد ألف فيه وذكر منافعه. أما الفصل التاسع فموضوعه "فلسفة طرق التدريس في التربية الإسلامية"، تحدث فيه د. الشيباني عن مفهوم طريقة التدريس وأهميتها في التربية الإسلامية وتقسيماتها المختلفة، وأهم طرق التدريس العامة في التربية الإسلامية، وهي تتمثل في الطريقة الاستقرائية أو الاستنباطية، والطريقة القياسية، وطريقة المحاضرة والحوار والمناظرة، وطريقة الحَلْقة والرواية والسماع والقراءة والإملاء والحفظ والدراية والرحلة. كذلك تحدث عن أهم الخصائص والأهداف العامة لطرق التدريس في التربية الإسلامية، والأسس العامة لهذه الطرق وهي تتمثل في الأساس الديني والحيوي والنفسي والاجتماعي. وأخيرًا ذكر أهم المبادئ العامة التي تقوم عليها طرق التدريس في التربية الإِسلامية وهي تتمثل في مراعاة دوافع وحاجات وميول المتعلم، ومراعاة مستوى نضجه ومراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، مع أهمية تحديد غرض المتعلم وتهيئة فرص الممارسة العملية، والاهتمام بالفهم وإدراك العلاقات وتكامل الخبرة واستمرارها والجِدّة والأصالة واستقلالية التفكير. إذا وازنا ما تحدث عنه د. الشيباني بآراء ابن الجوزي في هذا المجال، فإننا نلاحظ أنه كتب في بعض طرق التدريس ومبادئه العامة التي يقوم عليها في التربية الإِسلامية دون تحديد لمسماها. أما الكتاب الثالث فهو كتاب الأسس النفسية والتربوية لرعاية الشباب. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 355.

موضوعات الكتاب قسم د. الشيباني محتويات الكتاب إلى خمسة أبواب وقسم الأبواب إلى فصول، ثم أورد في كل فصل مباحث، وقد اشتملت في مجموعها على أربعة وعشرين فصلًا، وسأكتفي بذكر الأبواب والفصول -كما فعلت بشأن الكتابين السابقين- وهي على الوجه الآتي: الباب الأول: أهمية الشباب والتحديد الزمني لمرحلته. وفصوله هي: • الفصل الأول: أهمية الشباب وأهمية رعايته في مجتمعنا العربي. • الفصل الثاني: التحديد الزمني لمرحلة الشباب. الباب الثاني: خصائص الشباب وحاجاتهم: • الفصل الثالث: الخصائص والمميزات العامة للنمو الجسمي والانفعالي في مرحلة الشباب. • الفصل الرابع: الخصائص والمميزات العامة للنمو العقلي في مرحلة الشباب. • الفصل الخامس: الميول العقلية في مرحلة الشباب. • الفصل السادس: الخصائص والمميزات العامة للنمو الاجتماعي في مرحلة الشباب. • الفصل السابع: الحاجات الجسمية والنفسية والاجتماعية في مرحلة الشباب. • الفصل الثامن: العقبات الذاتية والبيئية التي تحول بين الشباب وإرضاء حاجاتهم. الباب الثالث: مشكلات الشباب • الفصل التاسع: مشكلات الشباب وأسس علاجها. • الفصل العاشر: العوامل التي تكمن وراء مشكلات الشباب الصحية والجسمية.

• الفصل الحادي عشر: الأمراض والاضطرابات والانحرافات الجسمية التي يعاني منها بعض الشباب والمواطنين الليبيين. • الفصل الثاني عشر: بعض المشكلات الجسمية والصحية الأخرى للشباب. • الفصل الثالث عشر: المشكلات النفسية للشباب العربي. الباب الرابع: فلسفة وأهداف رعاية الشباب العربي. • الفصل الرابع عشر: المشكلات العقلية للشباب. • الفصل الخامس عشر: المشكلات الاجتماعية للشباب. • الفصل السادس عشر: الفلسفة التي ينبغي أن تبنى عليها رعاية الشباب العربي. • الفصل السابع عشر: كيف يمكننا أن نبني أهدافًا صالحة لرعاية شبابنا العربي. الباب الخامس: الميادين المختلفة لرعاية الشباب. • الفصل الثامن عشر: الرعاية الصحية للشباب العربي. • الفصل التاسع عشر: الرعاية العقلية للشباب العربي. • الفصل العشرون: رعاية الذوق الفني والجمالي للشباب العربي. • الفصل الحادي والعشرون: الرعاية النفسية للشباب العربي. • الفصل الثاني والعشرون: الرعاية الاجتماعية للشباب العربي. • الفصل الثالث والعشرون: الرعاية السياسية للشباب العربي. • الفصل الرابع والعشرون: الرعاية الروحية للشباب العربي. مناقشة موضوعات الكتاب في ضوء آراء ابن الجوزي التربوية لقد أفرد د. الشيباني كتابًا كاملًا لبحث كل ما يتعلق بالشباب ومشكلاته وعلاجها، أما ابن الجوزي فقد تحدث عن هذه المرحلة ضمن مراحل النمو الإنساني الأُخرى، وحددها بالمرحلة من زمن البلوغ إلى سنة

خمس وثلاثين وهو زمن الشباب" (¬1)، وقد حددها د. الشيباني من "سن الثانية عشرة إلى سن الخامسة والعشرين" (¬2). ويرجع سبب الاختلاف بين ابن الجوزي ود. الشيباني في تحديد هذا الزمن إلى طبيعة الحياة في المجتمعات الإسلامية في عصر كل واحدٍ منهما. ويؤكد هذا المعنى د. الشيباني بقوله: "فالفرد في المجتمعات الأُولى يمكن أن يبدأ في تكوين أسرته ويتحمل مسؤولياته كراشد بمجرد بلوغه، وتحقق نضجه الجسمي والفسيولوجي. فكثيرًا ما يتزوج الشخص ويتحمل مسؤولياته كراشد في هذه المجتمعات البدائية البسيطة في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره، وبذلك لا تطول مدة مراهقته" (¬3). بينما في المجتمعات الإسلامية المعاصرة يختلف الحال تمامًا، "ويعتبر الشباب فيها أشد حاجة إلى الرعاية والتوجيه نظرًا لكثرة فراغهم وكثرة المغريات وكثرة المؤثرات الخارجية التي يتعرضون لها" (¬4). وقد توسع د. الشيباني في موضوع رعاية الشباب وتوجيههم، أما ابن الجوزي فقد اقتصر على بيان أهمية هذه المرحلة من الناحية الجنسية، وأهم الإجراءات الوقائية المتبعة للإعلاء من هذه الحاجة الفطرية، خوفًا من الانزلاق في مهاوي الفاحشة والفساد الأخلاقي، ثم أكد ضرورة معاملة الفرد في هذه المرحلة معاملة طيبة وإعداده للقيام بمسؤوليات أسرته. والذي يبدو من الموازنة أن إسهاب د. الشيباني في عرض هذا الموضوع الحيوي الخطير، وإيجاز ابن الجوزي فيه يعودان إلى طبيعة ظروف عصر كل واحد منهما، وما يتعرض له الشباب من مسؤوليات وعقبات تفرضها طبيعة عصره، فطبيعة الحياة أيام ابن الجوزي تمكن الشاب من الزواج مبكرًا ومن تحمل مسؤوليات أسرته، أما طبيعة الحياة المعاصرة ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. "تنبيه النائم الغمر على موسم العمر" ص 58. (¬2) الشيباني، د. عمر، محمد، التومي. الأسس النفسية والتربوية لرعاية الشباب. بيروت، دار الثقاقة، طبعة عام 1393 هـ - 1973 م، ص 35 - 37. (¬3) المرجع السابق، ص 34. (¬4) المرجع السابق، ص 35.

فإنها تمتاز بالتطور والنمو والتعقيد في مختلف جوانب الحياة، التي تقف حائلًا دون تحقيق رغبات الشباب وآمالهم بيسر وسهولة، يضاف إلى ذلك كثرة المغريات والكماليات التي أصبحت ضرورات، وكثرة المؤثرات والضغوط الخارجية التي يتعرضون لها. لذلك فطبيعة العصر حددت للشباب -في كلا العصرين- طريقة ونمط الحياة التي يعيشونها سواء كانت سهلة أو معقدة. ومن هنا نجد أن د. الشيباني أدرك بحكم عمله المباشر في مجالات تربية الشباب ورعايتهم، أهمية وضع الأسس النفسية والتربوية لتربيتهم ورعايتهم وحل مشكلاتهم التي يتعرضون لها. بينما نرى أن ابن الجوزي كتب عن هذه المرحلة كغيرها من المراحل دون أن يتعرض للمشكلات التي تواجه الشباب في ذلك الوقت، لأنه على ما أعتقد لم تواجههم مشكلات كالتي يعاني منها الشباب حاليًّا بسبب سهولة الحياة وخلوِّها من التعقيدات المختلفة. وخلاصة القول الذي نخرج به من هذه الموازنة: أن هناك تشابهًا من جهة واختلافًا من جهة أُخرى بين كل من ابن الجوزي ود. الشيباني، ومن أسباب التشابه والتقارب بينهما اعتمادهما على المصادر التشريعية نفسها في الإسلام مثل القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة والإجماع والقياس. . . الخ، وقد أدى هذا الاعتماد على هذه المصادر الأصيلة إلى ثبات وواقعية وحيوية هذه الآراء، وجدَّتها إلى وقتنا الحاضر. أما نواحي الاختلاف بينهما فتبرز في الآتي: 1 - أن ابن الجوزي كتب في التربية بصفة عامة دون تحديد للأسباب التي دفعته لذلك. أما د. الشيباني فهو أستاذ متخصص في التربية، التي قال فيها درجة الدكتوراة، وقد دفعه اهتمامه الشخصي وحبه للتربية الإسلامية إلى التعمق في هذه التربية والكتابة فيها كتابة المتخصص. يضاف إلى ذلك توليه المناصب التربوية التي صقلت العلم بالتجربة العملية في الوظيفة.

إن د. الشيباني كشف عن هذه الأسباب التي دفعته للكتابة في مثل هذا المجال، عندما قال في مقدمة كتاب من أسس التربية الإسلامية: "وإنني لأرجو أن يكون ما أقدمه اليوم من جهد متواضع حافزًا لغيري على مزيد من الدراسة الواعية والبحث العميق في مجال التربية الإسلامية ليتسنى لنا قطع الشرط المطلوب في إلقاء الضوء على تراثنا (¬1) التربوي الخالد المليء بالأفكار والمبادئ التربوية الصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وفي إحياء وتجديد وتصفية (¬2) هذا التراث ونقله إلى أجيالنا الحاضرة والمقبلة، وليتحقق لنا بالتالي ربط حاضرنا بماضينا وربط ما نسعى إليه من تقدم وتجديد في كافة مجالات الفكر والحياة بأصالتنا الفكرية وبتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف وتراثنا الإسلامي الخالد" (¬3). 2 - تميزت الفترة التي عاش فيها ابن الجوزي من (510 - 597 هـ)، بالكثير من نواحي القوة والضعف في جميع جوانب الحياة العلمية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية (وسبق أن بينا ذلك في الباب الثاني من هذا البحث). أما الفترة الزمنية التي يعيش فيها د. الشيباني أعني في وقتنا الحاضر، فهي وليدة عصور متعددة فمن "عصر ظهور الإسلام وازدهاره وامتداده، ثم عصر الانحسار والانحراف والانحطاط إلى عصر الاستعمار والغزو الأجنبي" (¬4) وما خلفه من آثار واضحة نتيجة "إيفاد البعثات، واستقدام الأساتذة الأجانب، ونقل مناهج التعليم وكتبه إلى مدارسنا وتأسيس مدارس أجنبية في بلادنا، ونقل نتائج الثقافة الغربية إلى لغات الشعوب الإِسلامية، إن ذلك كله أدى بتزايد واستمرار عملية ¬

_ (¬1) المقصود بالتراث في هذا السياق: القرآن الكريم والسنة النبوية وما كتبه العلماء والمربون المسلمون السابقون. (¬2) التصفية: تخص ما كتبه العلماء والمربون فقط. (¬3) مرجع سابق، الشيباني. من أسس التربية الإسلامية. ص 8. (¬4) المبارك، محمد. المجتمع الإسلامي المعاصر. بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1399 - 1979 م، ص 46.

التغريب (¬1) " (¬2). وبعد التحرر من الاستعمار الأجنبي وخروج المستعمر (الغازي الكافر) من الدول الإسلامية، ابتُليت الأمّة الإسلامية بالغزو الفكري والعقائدي والاجتماعي والأخلاقي في شؤون حياتها كافة. وقد مر المجتمع الإِسلامي المعاصر خلال اتصاله ولقائه وتأثره بالمجتمع الأوروبي الغربي "بمراحل متعاقبة أولها مرحلة الذهول والدهشة والإعجاب والشعور بالنقص، ثم كانت مرحلة النقل والتقليد والاقتباس، ومرحلة تتراوح بين التوفيق بين القيم الغربية والقيم الإسلامية تارة، والصراع بينهما تارة أخرى، ثم كانت أخيرًا مرحلة الذاتية بالنسبة للاتجاه الأصيل أو الإسلامي التي تقابل بالنسبة للاتجاه الآخر مرحلة الانسلاخ النهائي من الإسلام والاندماج كليًّا في أحد تيارات الفكر الغربي" (¬3). ود. الشيباني أحد الملتزمين بالاتجاه الإسلامي الأصيل، وقد لمس موطن الداء في واقعنا التربوي والتعليمي، وأدرك خطورة ذلك على تنشئة الأجيال الإسلامية الحاضرة، فكانت معظم مؤلفاته تدور حول الإصلاح التربوي والعودة إلى المصادر الإسلامية الثابتة من القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة، لإعادة البناء التربوي الحالي إلى أصوله الإسلامية الأُولى، وتنقيته من شوائب الفكر الدخيل. لذلك فرضت طبيعة العصر الحاضر على د. الشيباني أن يتناول موضوعات لم يتناولها ابن الجوزي مثال: "نحو بناء فلسفة تربوية تستمد أصولها من مبادئ الإسلام". أو قد يعالج موضوعات عالجها ابن الجوزي -مثل: "فضل المعلم ووظيفته في التربية الإِسلامية- من الوجهة الإسلامية وفق ما تجدّد من ظروف في الوقت الحاضر تتعلق بالمعلم ولم تكن في عصر ابن الجوزي. ¬

_ (¬1) المقصود بعملية التغريب: انتقال المسلمين من العقلية الإسلامية إلى العقلية الغربية. (¬2) المبارك، محمد. بين الثقافتين الغربية والإسلامية. بيروت، دار الفكر، طبعة سنة 1400 هـ - 1980 م، ص 78. (¬3) مرجع سابق، المبارك. المجتمع الإسلامي المعاصر. ص 102.

والذي يبدو من الموازنة -بصفة عامة- تأثر د. الشيباني بآراء المربين المسلمين، بدليل استشهاده بأقوالهم في كثير من الأفكار التي يعرضها. بل لقد أكد في أكثر من موضع أن ما تركوه من آراء تربوية قيمة هي جزء من تراثنا الخالد، فقال في ذلك: ". . . ما تركه لنا هؤلاء العلماء والمربون من تراث مكتوب في هذا المجال [يعني واجبات المعلم وآدابه] يمثل جانبًا كبيرًا من تراثنا التربوي الإِسلامي الذي نعتز به" (¬1). ونصل من هذه الموازنة إلى أن ابن الجوزي ود. الشيباني قد جعلا مصدر ثرائهما الفكري والتربوي هو كتاب الله -عز وجل- وأحاديث وسُنّة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم ما يتفرع عنهما من مصادر أخرى كالإجماع والقياس .. ثم النظر في تراثنا التربوي الذي خلفه لنا الأسلاف .. ونحو ذلك. ولكن .. هل يعني هذا أن ابن الجوزي تناول بآرائه التربوية الدراسات التربوية المعاصرة؟ ولكي تكون الإجابة صحيحة وواضحة من الوجهة العلمية، لابدَّ من الإلمام -ولو بصورة عامة وسريعة- بالموضوعات التربوية التي تناولها المؤلفون، أو الباحثون أو المهتمون بالدراسات التربوية الإسلامية في وقتنا الحاضر، لموازنتها بآراء ابن الجوزي التربوية ثم لمعرفة ذلك، وتحديد مكان ابن الجوزي بين المربين المعاصرين. ومن خلال الاستقراء العام للدليل الذي وضعه د. مقداد يالجن وهو دليل التأصيل الإسلامي للتربية لعام 1411 هـ، بتكليف من عمادة البحث العلمي، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية بالرياض (¬2)، نجد أن هذا الدليل يشمل الموضوعات الآتية: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الشيباني. من أسس التربية الإسلامية. ص 201. (¬2) برزت فكرة هذا الدليل إلى الوجود أثناء عضوية د. مقداد يالجن في لجنة التأصيل الإسلامي للتربية، فقد اقترح عليهم عمل ثلاثة أدلة للتأصيل الإسلامي في التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس. وكان د. مقداد قد بدأ فعلًا في تنفيذ هذا الدليل أثناء عرضه لهذا الاقتراح، إلى أن أتمه ووافقت عمادة البحث العلمي على طباعته. وهو الآن مطبوع. أما دليلا علم الاجتماع وعلم النفس فسوف يتم إنجازهما في هذا العام إن شاء الله تعالى.

المقدمة وذكر فيها الصعوبات والمشكلات التي واجهته، وبعض الدراسات المشابهة لهذا العمل التربوي المفيد، والمنهج المستخدم لكتابة هذا الدليل. أولًا: نبذة عن اهتمام الجامعة بالتأصيل وبخاصة تأصيل التربية. ثانيًا: دليل البحوث والمؤلفات التي تمَّ إنجازها، والتي ما زالت تحت الإنجاز (باللغة العربية) (وعناوينها مصنفة على أساس الحروف الأبجدية لسهولة التعرف على الموضوعات). ثالثًا: دليل الباحثين وهو مصنف على أساس الحروف الأبجدية. رابعًا: دليل البحوث والمؤلفات باللغات الأجنبية ويشمل: أ - دليل البحوث باللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية. ب - دليل البحوث باللغة التركية. خامسًا: بعض النماذج لأعمال مكتبية لبحوث التربية الإسلامية. سادسًا: دليل البحوث التي قُدمت والتي ستُقدَّم أيضًا إلى بعض المؤتمرات والندوات المقرر عقدها. سابعًا: مجالات التأصيل الإِسلامي للتربية. ومشروع خريطة البحوث التربوية المقترحة. ثامنًا: دليل المؤسسات والهيئات المهتمة بالتأصيل وبالتربية الإِسلامية بوجه خاص. الخاتمة وقد ذكر فيها أهمَّ ما يتميز به هذا الدليل عن غيره من الأعمال السابقة وهذه المميزات هي: 1 - "أنه يحتوي على أكبر كمية من البحوث والمؤلفات، وهذا لم تحوه أية دراسة سابقة في هذا المجال -حسب علم المؤلف- 2 - أنه اشتمل على مشروع خريطة البحوث التربوية في المجالات التأصيلية وقد تضمّن (166) مشروع بحث .. وذلك ليختار الباحث الذي يريد الإسهام في التأصيل موضوعات مناسبة لاختصاصه أو ميوله واستعداده من غير إضاعة وقت في البحث عن الموضوعات التي تحتاج إلى الدراسة والتأصيل. 3 - أنه اشتمل على البحوث التي ستُقدم إلى بعض المؤتمرات

والندوات المقرّر عقدها في مجالات التأصيل، على أساس أن هذه البحوث بمثابة البحوث المسجّلة ومآلها معروف، وتعتبر في سبيل الإنجاز، ويمكن الاتصال بتلك الجهات المسؤولة عنها للحصول عليها بعد انعقاد تلك المؤتمرات والندوات، وعددها حسب الخطة 67 بحثًا. 4 - أنه اشتمل على أسماء وعناوين المؤسسات المعنية بالتأصيل للتعاون معها، ومتابعة نشاطها والحصول على بحوثها أو إنتاجها. 5 - أنه دراسة عصرية ركزت على المؤلفات والبحوث العصرية المنجزة والمشروعات، وبذلك تميز عن الدراسات التراثية، سواء في مجال الأعلام (أعلام المربين) أو الموضوعات التربوية. 6 - أن عناوين الموضوعات المنجزة أو التي هي بمنزلة (مشروعات) على حد سواء منظمة ومصنفة تحت عنوان، إما على أساس المجالات وإما على أساس حروف الهجاء (مرتَّبة كترتيب المعجم)، وذلك مما يسهّل للباحثين الحصول على مطالبهم في أقرب وقت ممكن" (¬1). وبعد الاستقراء لعناوين الموضوعات التربوية التي نوقشت من قبل المؤلفين، أو الباحثين والباحثات في الدراسات العليا (ماجستير ودكتوراة) لوحظ الآتي: 1 - تعدُّد وتنوع الموضوعات التربوية الإسلامية التي درست، وكل دراسة منها ركزت على جانب من جوانب الفكر التربوي الإسلامي. 2 - إن الدراسات التربوية الحالية، تمثل ظاهرة العودة إلى الهوية الإسلامية الضائعة، في محاولة منها لتحديد معالم التربية المنشودة، ثم إحياء التراث الإسلامي وجعله مفيدًا وميسَّرًا وفق طبيعة العصر الحاضر وظروفه المتغيرة ضمن الحدود الإسلامية وضوابطها الشرعية. 3 - إن أعداد البحوث والدراسات التربوية التي أُنجزت والتي هي في طور الإنجاز تدل على الرغبة الصادقة والجادة في تأصيل التربية إسلاميًا، وكذلك اهتمام المؤسسات التعليمية بعقد المؤتمرات وكتابة البحوث في هذا المجال يدل على مدى أهمية هذا الموضوع والحاجة ¬

_ (¬1) يالجن، د. مقداد. التأصيل الإسلامي للتربية. الرياض، عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالتعاون مع إدارة الثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1411 هـ الجزء الأول، ص 295 - 296.

الماسّة التي تدعو إليه. إلى غير ذلك من مؤشرات ودلالات تبشر بأن التربية الإسلامية ستكون بإذن الله النظام المنقذ لكل مشكلات وأزمات التربية والتعليم في العالم الإِسلامي ومنه العالم العربي، بل وفي العالم كله. فإذا وازنَّا ما لاحظناه من الدراسات التربوية بآراء ابن الجوزي التربوية، فإننا نجد أن هذه الدراسات التربوية الحالية تحاول تأصيل التربية إسلاميًّا، والعودة إلى المصادر الأساسية لها، بينما لا تحتاج آراء ابن الجوزي إلى تأصيل إسلامي، لأنها نابعة من الفكر التربوي الإِسلامي، وتعتبر جزءًا أصيلا وقيما من الفكر التربوي الإِسلامي الذي يُعتمد عليه عند عرض أو دراسة أي موضوع تربوي. وعلى الرغم من أن الفكر التربوي لابن الجوزي يمثل قيمة علمية وتربوية، فإن ابن الجوزي لم يتناول موضوعات الدراسات التربوية المعاصرة، وذلك لأسباب عدة: 1 - إنه -كما سبق أن ذكرنا- غير متخصص في التربية، ولكن كتب ما كتب من الموضوعات التربوية بصفة عامة. 2 - إنه تناول الآراء التربوية من الوجهة الإسلامية دون تأثير عقائد أو مذاهب أو تيارات مخالفة للمنهج الإسلامي، أَو ظروف فرضتها طبيعة العصر، إلا ما ذكره في ما يتعلق بعَلامات الذكاء الجسمية ومثلها في الحمقى. 3 - إنه لا يمكن لبشر مهما أوتي من القوة والعلم أن يتناول جميع جوانب العلم، قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1). 4 - الموضوعات التربوية التي تناولها أقل بكثير من الموضوعات التربوية الإسلامية التي تناولها، المربون المسلمون المعاصرون. وبعض الموضوعات المهمة لم يتطرق إليها ابن الجوزي مثل أهداف التربية الإِسلامية، والتربية الإبداعية والابتكارية. 5 - أن هناك آراء تربوية مرفوضة لابن الجوزي لأنه أخذها من المربين الآخرين، أو لأنها مبنية على أحاديث ضعيفة أو موضوعة. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية 85.

الباب السادس أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة من اجتهاداته وجهوده التربوية

الباب السادس أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة من اجتهاداته وجهوده التربوية • الفصل الأول: أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها • الفصل الثاني: طريقة إجتهاداته التربوية ووجوه الاستفادة منها

الفصل الأول أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها

• الفصل الأول أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها أولًا: أهم الآراء التربوية في الطبيعة البشرية ثانيًا: أهم الآراء التربوية في تربية الطفل في ضوء مراحل النمو ثالثًا: أهم ما يستفاد من جوانب التربية الإسلامية عند ابن الجوزي:

• الفصل الأول أهم الآراء التربوية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها يمثل هذا الباب .. نهاية المطاف في الفكر التربوي لابن الجوزي، في إجمال أهم آرائه وتوجيهاته التربوية، ووجوه الاستفادة منها. وقبل عرض هذه الآراء .. يبرز لدينا سؤال عن الهدف الأساسي من التربية الإِسلامية؟. إن الغاية التي خلق الله الإنسان من أجلها هي العبودية الخالصة لله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). ولن يتم تحقيق هذه العبودية إلا من خلال تنشئة وتربية الإنسان التربية المتكاملة من "جميع نواحيه، من الناحية الصحية والعقلية والاعتقادية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والإرادية والإبداعية في جميع مراحل نموه، وفي ضوء المبادئ والقيم التي أتى بها الإسلام، وفي ضوء أساليب وطرق التربية التي بينّها" (¬2). وإذا دققنا النظر في هذه الغاية من التربية الإسلامية، نجد أن آراء ابن الجوزي التربوية قد ركزت عليها، ووضحتها موثقة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة. وسأركز حول أهم الآراء التربوية التي ذكرها ابن الجوزي، وأوجزها في النقاط التالية: ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية 56. (¬2) مرجع سابق، يالجن. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 26.

أولا

أولًا: أ- أهم الآراء التربوية في الطبيعة البشرية (¬1) 1 - ضرورة معرفة المربي بخفايا طبيعة النفس البشرية وما فيها من دوافع وميول وانفعالات وعواطف، حتى يستطيع توجيهها بطريقة صحية، وعن علم ومعرفة. 2 - ضرورة تعريف المتعلم الغاية من خلقه، والحكمة من وجوده، حتى يسهل على المرء تحديد أهدافه في الحياة مستمدًا ذلك من غاية خلقه، وحتى تعرف التربية وظيفتها بدقة، لأن التربية الإسلامية تأخذ غايتها من غاية خلق الإنسان، فتعده على نحو يستطيع معه تحقيقها. 3 - الاعتراف بحاجات الجسم والروح والعقل، وضرورة إشباعها بطريقة معتدلة ومتوازنة وذلك ليتم من خلالها تحقيق العبودية المطلقة لله -عز وجل-. 4 - الاعتراف بانفعالات الإنسان وعواطفه، واتباع الطرق المناسبة لتهذيبها ومجاهدتها والإعلاء منها. 5 - معرفة الحكمة من وجود الدوافع والانفعالات والعواطف في النفس البشرية وجعلها تسير بحيث تتحقق الحكمة من وجودها. 6 - ضرورة معرفة الطرق والأساليب المناسبة، لتدريب النفس البشرية على الاعتدال في إشباع الحاجات الفطرية، وتهذيبها بالضوابط الإِسلامية. 7 - مراعاة الفروق الفردية بين الأفراد وبين الرجال والنساء في القدرات والانفعالات والشهوات، وفي مجاهدتهم وضبطهم لهذه الشهوات وتأديبها وتهذيبها. 8 - وجوب الأخذ بمبدأ التدرج عند مجاهدة وتهذيب النفس البشرية. 9 - وجوب تربية العقل على إدراك مقاصد الشريعة الإسلامية، حتى يكون له دور في ضبط الشهوات والانفعالات والعواطف والتربية بموجبها. ¬

_ (¬1) الباب الثالث، الفصل الأول (ص 105 وما بعدها).

ب- وجوه الاستفادة من الآراء التربوية في الطبيعة البشرية

ب- وجوه الاستفادة من الآراء التربوية في الطبيعة البشرية قبل بيان وجوه الاستفادة من آراء ابن الجوزي بشأن الطبيعة البشرية، لابدّ من تأكيد أن الإنسان هو محور العملية التعليمية والتربوية، وحتى تتحقق الغاية من وجوده، لابد من توجيهه الوجهة الصحيحة التي تتناسب مع ما لديه من ميول ودوافع ورغبات واستعدادات وقدرات، ولن يتم هذا التوجيه كما قال أحد الباحثين إلا "بمعرفة ما في الداخل من حقائق وأجهزة وطاقات وآلات محركة وموجهة، ليستطيع الإنسان أو المربي تحريك الإنسان وتوجيهه كيفما يشاء وحيثما يريد، ولهذا كانت الأسباب الرئيسية في إخفاق النظريات التربوية في تحقيق أهدافها، ترجع ضمن ما ترجع إليه إلى أنها بعيدة عن طبيعة الإنسان الداخلية أو يكون السبب جهلها وخطأ تصورها للحقائق الداخلية لهذه الطبيعة من الجوانب المختلفة. ولهذا نجد الإسلام يعطي تصورًا كاملًا لحقيقة طبيعة تكوين الإنسان، كما يلقي بعد ذلك أضواءً كاشفة عن أغوار هذه الطبيعة، ثم كان توجيهه وفقًا لذلك التصور الكامل ووفقًا لتلك المعرفة الكاملة للجوانب الداخلية لهذه الطبيعة. . . . وهذه المعرفة معرفة خالق هذه الطبيعة (¬1). ثم أكد الباحث ذلك يقول الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬2). ومن خلال هذه التصورات للطبيعة الإنسانية كما خلقها الله تعالى، يستطيع المخططون تحديد الأهداف العامة والخاصة للتعليم بمراحله المختلفة وفقًا لهذه التصورات، ثم وضع المناهج التعليمية المناسبة لهذه القدرات والميول والاستعدادات، وما يناسبها من وسائل وأساليب تربوية، وما يتبعها من نظم ولوائح إدارية تنظم كل ما يتعلق بالناحية التعليمية والتربوية، بدءًا من المعامل والأجهزة والإمكانات البشرية، إلى المقررات والوسائل وأنظمة الامتحانات .. الخ. كل ذلك .. يوظف لخدمة الإنسان وتربيته وتعليمه التعليم المناسب الذي يحقق الأهداف المرجوة منه، وفق المنهج التربوي الإِسلامي. وهذا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، القاضي ويالجن. علم النفس التربوي في الإسلام ص 27. (النص المنقول من كلام د. يالجن). (¬2) سورة الملك، الآية 14.

ثانيا: أهم الآراء التربوية في تربية الطفل في ضوء مراحل النمو

لا يعنى أن هذه التصورات للطبيعة الإنسانية تكفي وحدها، لكي تكون مصدرًا لاشتقاق الأهداف، بل هناك نواح أُخرى متعددة -يحتاجها المجتهد التربوي المسلم- منها على سبيل المثَال طبيعة المجتمع وفلسفته وآماله ومشكلاته، وطبيعة العصر الذي نعيش فيه، وما يقدمه المتخصصون في المواد الدراسية، تلك الأمور التي تساعد على بناء حضارة إسلامية متكاملة. والآراء التربوية التي حددها ابن الجوزي من خلال تصوره للطبيعة البشرية كما خلقها الله تعالى، يمكن الاستفادة منها في معاهد المعلمين والكليات التربوية المتخصصة، لإعداد المعلمين والمعلمات، فهي تمدَّهم بالمعلومات اللازمة عن التصور، ليستعينوا بها أثناء تدريسهم للتلاميذ، لتلافي سلبيات المناهج التعليمية الراهنة، وليطبقوا ما في توجيهات ابن الجوزي من طرق ووسائل لتهذيب النفس البشرية. ويضاف إلى ذلك أنه يمكن تعميم هذه الآراء والتوجيهات التربوية لكل من يريد أن يربي نفسه تربية ذاتية مستمرة، لأن ابن الجوزي قد وضح أساليب التحكم في الأهواء والشهوات، وأساليب تهذيب الانفعالات والعواطف بالتفصيل. ثانيًا: أهم الآراء التربوية في تربية الطفل في ضوء مراحل النمو تنوعت الآراء التربوية لابن الجوزي في تربية الطفل في ضوء مراحل النمو، بسبب تعدد المراحل التي تناولها، من طفولة مبكرة .. إلى بلوغ، ومن شباب إلى كهولة، وما تتعرض له كل مرحلة من مناشط مختلفة تتناسب ونمو الإنسان فيها. لذلك سأحدد الآراء التربوية لكل مرحلة، ثم أذكر أوجه الاستفادة منها. أ- الآراء التربوية في مرحلة ما قبل الولادة (¬1): 1 - اختيار الشريك الصالح، لما لهما (أي الزوجين) من دور مهم في تربية الأجيال المسلمة وتنشئتها. 2 - رعاية الجنين وهو في بطن أمه من كافة الجوانب الجسمية والنفسية، لما لذلك من تأثير في تشكيل الفرد. ¬

_ (¬1) الباب الثالث، الفصل الثاني، (ص 196) هذه المرحلة لم يتحدث عنها ابن الجوزي.

وجوه الاستفادة من آرائه في هذه المرحلة: تبرز أهمية الاستفادة من توجيهات ابن الجوزي التربوية، عند وضع الأهداف العامة والخاصة لتعليم المرأة المسلمة، التي تختلف في بعض جوانب تكوينها الجسمي والنفسي عن الرجل، وتختلف عنه في وظيفتها ودورها في الحياة. لذلك يمكن أن تصاغ الأهداف وتؤلف المناهج التي تعد المرأة المسلمة لوظيفتها الحقيقية التي كلفها الله القيام بها وهي رعاية شؤون الأسرة وتربية الأجيال المؤمنة، وهذه الوظيفة الخطيرة تحتاج إلى حسن إعداد الزوجة الصالحة، والأم المربية، وهذا يتم من خلال المناهج التعليمية التي تركز على هذا الإعداد التربوي من جميع جوانبه الصحية والعقلية والنفسية والأخلاقية. وتزود المرأة بالمعلومات الكافية عن حقيقة العلاقة بين الزوجين، وما لهما من حقوق وما عليهما من واجبات، وكيفية الاهتمام بالطفل قبل ولادته وتربيته إلى نهاية حياته، وما هي الأساليب والوسائل التربوية التي يجب استخدامها لتعينها على التربية، هذا بالإضافة إلى تزويدها بكل ما تحتاجه من ثقافة إسلامية متنوعة تتعلق بوظيفتها أُمًّا وداعية لنشر الإسلام. . . الخ. وهذه الاستفادة تنبع من كون المناهج "لا تفرق بين خواص الرجال وخواص النساء -إلا في بعض الأمور اليسيرة الخاصة بالمرأة- فلا تقيم تعليمًا منفصلًا للفتاة بحكم تكوينها النفسي والإجتماعي والجسمي الحياتي، وبحكم مسؤوليتها ورسالتها وعملها، ولكنها تشترك مع الرجال في برنامج واحد، فلا تعرف لها مهمة خاصة ولا هدفًا محددًا" (¬1). لذلك لابد من الاهتمام بذلك عند صياغة الأهداف ووضع المناهج التعليمية حتى نضمن إعداد المرأة المسلمة الإعداد المناسب لوظيفتها الحقيقية في الحياة. ب- أهم الآراء التربوية في مرحلة الطفولة المبكرة (¬2) (2 - 6 سنوات) أهم الآراء التربوية لابن الجوزي في مرحلة الطفولة المبكرة تتمثل في الآتي: ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الجندي. التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام ص 194. (¬2) الباب الثالث، الفصل الثاني، (ص 212) من هذا الكتاب.

1 - ضرورة تكوين العادات الطيبة، والآداب الحسنة في هذه المرحلة، مع الاستمرار في تأصيلها بشتى أساليب الترغيب والتحبيب. 2 - وجوب الاهتمام بغرص القيم والآداب في السنوات الأُولى من عمر الطفل. 3 - ضرورة معرفة المربي بخصائص نمو الطفل في هذه المرحلة، وما يناسبها من تطبيقات تربوية إسلامية. 4 - المحافظة على شخصية كل من الذكر والأنثى، عن طريق تميز الفريقين باللباس والإعداد والتدريب على أعمال خاصة بكل نوع منهما. 5 - الاهتمام بالتربية الجسمية والصحية والخلقية والاجتماعية للأطفال. 6 - تعريف الوالدين بدورهما العظيم في تربية الأطفال وتنشئتهم، مع مراعاة الحكمة في المعاملة والتأديب. 7 - الاهتمام باختيار الصحبة الصالحة للطفل، لأثرها العظيم في غرس السلوكيات والآداب الصالحة. 8 - يجب الاهتمام باستخدام أساليب التربية الإِسلامية ووسائلها. 9 - ضرورة التنويع في أساليب التربية حتى تتناسب وطبيعة النفس البشرية. 10 - ضرورة الاهتمام بالعلوم الأساسية للطفل، وتقديمها على العلوم الأقل أهمية. 11 - عدم الانتقال من علم إلى علم إلا بعد أن يتقن العلم الأول. 12 - ضرورة اقتران العلم بالعمل به. 13 - ضرورة التنوع في العلوم، وعدم الاقتصار على علم واحد. 14 - مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال في قدراتهم العقلية وتعلمهم وسلوكهم. 15 - ضرورة العناية بالمناهج التعليمية في مرحلتي الدراسة النظامية وما قبلها، والتركيز على المواد الأساسية الإِسلامية.

وجوه الاستفادة من آرائه في هذه المرحلة: لا تنحصر الاستفادة من الآراء التربوية لابن الجوزي في هذه المرحلة على معلمات رياض الأطفال، بل تشمل أيضًا ركني الأسرة (الأب، الأم) ذلك أنه ينبغي لهما أن يعرفا كيفية القيام بعملية التنشئة والتربية الصحيحة. ويمكن تصنيف وجوه الاستفادة في النقاط الآتية: 1 - تربية الأمهات المربيات، والآباء المربين الذين هم معلموا المدرسة الأُولى، مدرسة الأسرة. 2 - بناء المناهج التعليمية لما قبل الدراسة النظامية وما بعدها وهذه يستطيع أن يستفيد منها القائمون على وضع المناهج عند تحديد المواد الدراسية في هذه المرحلة. 3 - الاستفادة من أساليب التربية بالقدوة والثواب والعقاب وغيرها من أساليب التربية الإِسلامية .. التي ذكرها ابن الجوزي، وهذه لابد من إدراجها ضمن مناهج معلمات رياض الأطفال، وكليات التربية، للاستفادة منها في توجيه الأطفال وتربيتهم. وعمومًا يمكن الاستفادة من جميع الآراء التربوية لابن الجوزي في مرحلتي الدراسة الثانوية والدراسة الجامعية، باعتبار أنهما النواة الأُولى لتكوين الأسرة المسلمة، وعليهما دور التربية والتوجيه. جـ - أهم الآراء التربوية في مرحلة البلوغ والشباب (¬1) (12 - 21 سنة): أهم الآراء والتوجيهات التربوية لابن الجوزي في مرحلة البلوغ والشباب: 1 - ضرورة الاهتمام بمرحلة البلوغ، والعناية التربوية بها لخطورة هذه المرحلة على البالغ. 2 - ضرورة تكوين الشعور القوي بمراقبة الله الدقيقة لدى البالغ. 3 - ضرورة تسهيل طريق الزواج للبالغ، وإذا لم يستطع فيعوَّد على ¬

_ (¬1) الباب الثالث، الفصل الثاني، (ص 241) من هذا الكتاب.

غض البصر والصيام ويدفع إلى الاشتغال بالعلم وبمعالي الأمور. 4 - ضرورة تدريب البالغ على الصيام حتى يقوّي إرادته، ويضبط دوافعه، فيحفظ نفسه من الوقوع في الزلل. 5 - الاكتفاء ما أمكن بالزوجة الواحدة للمحافظة على نفسه من التشتت. 6 - منع اختلاط البالغ بالنساء. 7 - المعاملة الكريمة للبالغ، مع احترام رأيه وتقدير مشاعره، وغرس الثقة في نفسه. 8 - ضرورة التأهيل الوظيفي لكسب الرزق للبالغ. وجوه الاستفادة من آرائه في هذه المرحلة: رغم تركيز ابن الجوزي على الجانب الجنسي للبالغ، وكيفية التعامل معه، فإننا نستطيع الاستفادة من هذه الآراء في التربية الأُسرية للوالدين، من حيث المحافظة على البالغ ومعاملته المعاملة المناسبة وتربيته تربية إسلامية، (وهذا لا يتم إلا ممن توافرت لديه معلومات تربوية كافية ومهارات مناسبة)، تليق بكرامته الإنسانية وبالمرحلة الحرجة التي يمرّ بها، وهو في حاجة إلى التقدير والاحترام، اللذين يزيدان من ثقته بنفسه. كذلك نستطيع الاستفادة من مبدأ منع اختلاطه بالنساء في التربية الأسرية، وفي نظام التعليم، ولاسيما في الدول التي تبيحه وتجني من ورائه الويلات. أما مبدأ تأهيل البالغ وظيفيًا لكسب الرزق، فأعتقد أن الحاجة ماسة لهذا المبدأ -ولاسيما في الوقت الحاضر- لأن البالغ يعتمد على أسرته في معيشته حتى انتهاء دراسته، وفي معظم الأحيان إلى ما بعد الدراسة، وإذا تزوج فإنه لا يستطيع تحمل المسؤولية، لأنه تعود الاعتماد على أسرته في كل شؤونه. لذلك لابد من الاستفادة من هذا في تشغيل وتوظيف البالغين في أيام الإجازات، ومواسم العمل كالحج، بما يتناسب وعمرهم الزمني ومؤهلاتهم العلمية، وقدراتهم العقلية والجسمية، حتى يتعودوا الاعتماد على أنفسهم وتحمل المسؤولية، وتكتسب نفوسهم القوة والصلابة

والرجولة، والمشاركة في العطاء والبناء. أما الفتاة فتدرب على الأعمال الخاصة بوظيفتها الأساسية مع الاهتمام بإعدادها لتكون زوجة صالحة، ومربية فاضلة. د- أهم الآراء التربوية في مرحلة الكهولة (¬1) (40 - 60 سنة): ركز ابن الجوزي في هذه المرحلة على جانبين هما: ميل الإنسان لشهواته المختلفة ثم مرحلة العلم والحفظ والتأليف، ومن هذين الجانبين نستخلص هذه الآراء والتوجيهات التربوية: 1 - ضرورة استمرار ضبط النفس عن شهواتها، ومحاولة التسامي والإعلاء منها. 2 - ضرورة تعلم العلم وتعليمه وبذله للآخرين. 3 - ضرورة الاهتمام بالتأليف وتصنيف الكتب المفيدة. وجوه الاستفادة من آرائه في هذه المرحلة: إن كلَّ مرحلة من مراحل النمو الإنساني، تحتاج إلى توجيه يناسبها، وهذه المرحلة -كغيرها من المراحل- تحتاج من المجتمع بكافة مؤسساته إلى الاهتمام بالاستفادة من خبرة وتجارب هؤلاء الأفراد، واستغلال طاقاتهم العقلية في الإنتاج الأدبي والعلمي، وتشجيعهم على البحث الجادّ في المجالات التي تناسب ميولهم وقدراتهم، ويمكن الاستفادة ممن يتميز منهم بالكتابة والتأليف في مراكز البحوث، وبقية الأفراد كل حسب ما يميل إليه ويقدر عليه فتكثر مراكز التدريب المهني أو النوادي الثقافية والاجتماعية والفكرية، وبذلك يمتص المجتمع أوقات الفراغ في أمور مفيدة، بالإضافة إلى إغناء العمل من خبراتهم وتجاربهم في هذا المجال، واستغلال هذه الطاقات المعطلة القادرة على العمل والعطاء في مختلف المجالات المناسبة لهم. هـ - أهم الآراء التربوية في مرحلة الشيخوخة (¬2) (50 - 70 سنة): ركز ابن الجوزي في هذه المرحلة على جانبين هما: ضعف الشهوة، ¬

_ (¬1) الباب الثالث، الفصل الثاني، (ص 247) من هذا الكتاب. (¬2) الباب الثالث، الفصل الثاني، (ص 248) من هذا الكتاب.

ثالثا: أهم ما يستفاد من جوانب التربية الإسلامية عند ابن الجوزي

وضعف القدرة العقلية والعلمية -وهذا الضعف يتفاوت بين الأفراد بحسب بدء المرحلة أواسطها ونهايتها- ومن هذين الجانبين نستخلص هذه الآراء والتوجيهات التربوية: 1 - ضرورة المحافظة على وقار الشيخ ومظهره من الابتذال في التشبه بالشباب. 2 - ضرورة الاهتمام بالنواحي العلمية والتعليمية والتأليف في هذه المرحلة. 3 - ضرورة الاستزادة من العمل الصالح الذي ينفعه في آخرته. وجوه الاستفادة من آرائه في هذه المرحلة: يمكن الاستفادة مما سبق ذكره من وجوه الاستفادة في مرحلة الكهولة لهذه المرحلة (مرحلة الشيخوخة) لأنها الاستفادة نفسها، ويضاف إلى ذلك استغلال جميع الأوقات في العمل الصالح ومرضاة الله تعالى، وحث الشيوخ على حضور مجالس العلم والذكر متابعين للعلم أو معلّمين له. و- أهم الآراء التربوية في مرحلة الهرم (¬1) (ما بعد 70 - إلى نهاية العمر): ركز ابن الجوزي في هذه المرحلة على تذكير الإنسان بأنها نهاية المطاف، للتأهب للرحيل، والتزوّد بالزاد. وأهم رأي تربوي يمكن استخلاصه هنا هو: 1 - ضرورة الاستزادة من العمل الصالح، والصدقة الجارية، والذكر المستمرّ، للاستعداد للموت ولقاء الله تعالى. وكثير من وجوه الاستفادة من هذه المرحلة، هي وجوه الاستفادة نفسها تقريبًا من مرحلة الشيخوخة، لذلك لا داعي للتكرار. ثالثًا: أهم ما يستفاد من جوانب التربية الإِسلامية عند ابن الجوزي: تقوم الباحثة هنا بتوضيح أهم الآراء التربوية في كل جانب من ¬

_ (¬1) الباب الثالث، الفصل الثاني، (ص 250) من هذا الكتاب.

جوانب التربية الإِسلامية عند ابن الجوزي ووجوه الاستفادة منها. أ- أهم الآراء في التربية الصحية (¬1) عند ابن الجوزي: 1 - ضرورة الاهتمام بإشباع الحاجات الفطرية، لإعانة البدن على طاعة الله -عز وجل-. 2 - مراعاة الفروق الفردية عند إشباع هذه الحاجات الفطرية، واجتناب تكليفهم نظامًا واحدًا يتجاهل هذه الفروق بين الأفراد، كي لا يؤثر فيهم ذلك تأثيرًا سيئًا. 3 - الاهتمام بتناول ما يحفظ الذات، والابتعاد عما يؤذي البدن. 4 - الاهتمام بالتداوي والعناية بالنظافة الشخصية، لأثرها الطيب في قوة الإنسان وإيمانه. 5 - تنشئة الأطفال على المبادئ الصحية. 6 - تكوين الوعي بأهمية السلوكيات الصحية. 7 - تعويد الأطفال على الاعتدال في الأكل والشرب، مع بيان أضرار كل من الإفراط والتفريط فيه. 8 - تعويد الأطفال على خصال الفطرة (¬2)، لأنها الأساس في المحافظة على صحة البدن ووقايته من الأمراض ولها آثارها الاجتماعية الصالحة. وجوه الاستفادة من آرائه في هذا الجانب: يمكن الاستفادة بصفة عامة من آراء ابن الجوزي في التربية الجسمية والصحية في مجال الأُسْرة والمدرسة والوسائل الإعلامية المختلفة، من خلال تعويد النشء الآداب والسلوكيات الصحية في الأسرة والمدرسة، ثم بث الوعي الصحي من خلال الوسائل الإعلامية المرئية ¬

_ (¬1) الباب الرابع، الفصل الأول، (ص 259 وما بعدها) من هذا الكتاب. (¬2) يعود الطفل على خصال الفطرة المناسبة لسنه مثل: السواك، وقص الأظافر، وغسل البراجم، وتؤجل بقية الخصال إلى المراحل الأخرى المناسبة لعمره الزمني.

والمسموعة والمقروءة. ب- أهم الآراء في التربية العقلية والعلمية (¬1) عند ابن الجوزي: أهم الآراء التربوية في الجانب العقلي والعلمي عند ابن الجوزي تتلخص فيما يأتي: 1 - ضرورة مراعاة الفروق الفردية في القدرات العقلية. 2 - ضرورة توجيه القدرات العقلية المرتفعة والمنخفضة عند الأفراد بما يناسبها. 3 - مراعاة القدرات العقلية الفطرية والمكتسبة في مجال التربية والتعليم. 4 - الاهتمام بالمقومات الأساسية عند إعداد المعلم له الأثر الفعال في الإعداد. 5 - توجيه المتعلم إلى طرق التعليم الجيد، يساعد على التقدم في التحصيل. 6 - إرشاد الطلاب إلى العوامل المساعدة حقًا على مقاومة النسيان. وجوه الاستفادة من آرائه في هذا الجانب: جميع الآراء التربوية لابن الجوزي في الجانب العقلي والعلمي، التي ثبتت صحتها من خلال التقويم في الباب الخامس، يمكن ترجمتها في المناهج التعليمية إلى توجيهات ولوائح وأنظمة عامة يستفيد منها المعلمون والموجهون في معاهد إعداد المعلمين والكليات التربوية، لتوصيلها للتلاميذ في مختلف المراحل التعليمية وتدريبهم على الاستفادة منها، وتطبيقها في تدريسهم ودراستهم اليومية. جـ - أهم الآراء في التربية الاعتقادية (¬2) في نظر ابن الجوزي أهم الآراء التربوية في الجانب الاعتقادي عند ابن الجوزي تتلخص فيما يأتي: ¬

_ (¬1) الباب الرابع، الفصل الثاني، (ص 279 وما بعدها) من هذا الكتاب. (¬2) الباب الرابع، الفصل الثالث، (ص 321 وما بعدها) من هذا الكتاب.

1 - ضرورة التربية الاعتقادية الصحيحة، كي تؤتي ثمارها في الخلق والسلوك والعبادة. 2 - ضرورة الابتعاد عن التلقينات الصورية التقليدية الجامدة في مجال التربية الاعتقادية. 3 - استخدام الأساليب القرآنية الكريمة في التربية الاعتقادية. 4 - التركيز على الجوانب الإيجابية المؤثرة والدافعة إلى السلوكيات الصالحة. 5 - تنمية عاطفتي حب الله تعالى والخوف منه دائما، مع مراعاة التوازن بينهما. 6 - تكوين القناعة التامة بالعقيدة الإسلامية بالأدلة النقلية والحجج العقلية والعلمية. 7 - ضرورة تربية النشء على العقيدة الإسلامية، والثقافة الصحيحة، من أجل أن تكون لهم حصانة ضد الإلحاد وأهله. وجوه الاستفادة من آرائه في هذا الجانب: إن الاهتمام بهذا الجانب الاعتقادي للاستفادة منه، لا يقتصر على مرحلة تعليمية معينة، أو فئة من الأفراد بل هو يشمل جميع الفئات في مختلف المراحل التعليمية. والشيء المفقود -يا للأسف- عند تربية هذا الجانب الهام، هو غياب توصيل المعلومات الخاصة بهذا الجانب، بطريقة إيجابية مؤثرة، مدعّمة بالأدلة والحجج العقلية والعلمية المناسبة لإدراك الناشئ، فتكون نتيجة هذا الفهم الصحيح للعقيدة، تعديل السلوك، وإتقان العبادة، وضبط الشهوات، ونبذ الأخلاق السيئة. وهذا مما تسعى إليه التربية الإسلامية الحقة. لذلك ولنضمن الاستفادة من هذه المبادئ والتوجيهات التربوية في هذا الجانب، لابدّ من تلقين الآباء والمربين المعلومات الاعتقادية بطريقة صحيحة، مستخدمين في ذلك المنهج القرآني والنبوي، مع تنمية عاطفتي الحب لله والخوف منه، حتى تثمر هذه التربية، وهذا التلقين والإعداد للآباء والمربين لن يتم إلا من خلال المناهج التعليمية لجميع المواد، ولجميع المستويات، وبطريقة تتناسب مع

خصائص النمو في كل مرحلة من جميع جوانبها، بحيث تستثير فيهم الناحية الوجدانية مع الأدلة العقلية التي تثبت العقيدة في نفوسهم. د- أهم الآراء في التربية الروحية (¬1) في نظر ابن الجوزي: أهم الآراء التربوية في الجانب الروحي عند ابن الجوزي تتلخص فيما يأتي: 1 - وجوب الاهتمام بغرس العقيدة الإِسلامية الصحيحة، وربطها بجميع جوانب النفس البشرية. 2 - ضرورة التربية الروحية للباطن والظاهر عند تكوين الشخصية المؤمنة. 3 - ضرورة ارتباط التربية الروحية بالنواحي التعبدية والخلقية والاجتماعية والنفسية والجسمية. 4 - ضرورة الاهتمام بالآثار التربوية والروحية لكل نوع من العبادات المفروضة: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. وجوه الاستفادة من آرائه في هذا الجانب: تتم الاستفادة من هذا الجانب على مراحل زمنية مختلفة من عمر الإنسان، بواسطة الأسرة ثم المدرسة ثم المسجد والمجتمع بوجه عام. وتبدأ الأُسرة بتربية الجانب الروحي للفرد وهو طفل، بتعريفه بالله تعالى من خلال مخلوقاته، ثم عن طريق التحبيب والترغيب وربط جميع جوانب حياته ومتطلباته بالله تعالى، إلى أن يصل لسن السادسة من عمره فتدربه على الصلاة بإتقان إلى العاشرة من عمره، فتلزمه بها. أما الصيام فتدربه عليه بالتدريج إلى أن يتم صوم يوم كامل وهكذا. كذلك في الزكاة تعوده على التصدق من مال تعطيه إياه، وتعرِّف له الحج من خلال وسائل الإعلام التي تتناول هذا الجانب في وقته، يضاف إلى ذلك استخدام الوسائل التعليمية المختلفة، إلى أن يقوم ¬

_ (¬1) الباب الرابع، الفصل الرابع، (ص 341 وما بعدها) من هذا الكتاب.

بالحج فعلًا فتربط مناسك الحج بالمعاني الإيمانية، وبسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنَّته. وتقوم المدرسة بالدور المكمل للمنزل، والمثبّت لهذه العبادات من خلال ممارستها جماعيًّا في المدرسة. هـ - أهم الآراء في التربية الأخلاقية (¬1) في نظر ابن الجوزي: أهم الآراء في التربية الأخلاقية في نظر ابن الجوزي، تتلخص فيما يلي: 1 - وجوب الاهتمام بالأخلاق الإِسلامية في تربية النشئ عليها منذ نعومة أظفارهم. 2 - ضرورة التقويم الخلقي الإِسلامي للمتعلمين. 3 - ضرورة التنشئة على القيم الأخلاقية الإسلامية منذ الصغر حتى تصبح جزءًا راسخًا من شخصية الفرد. وجوه الاستفادة من هذا الجانب: يمكن الاستفادة من هذا الجانب في جميع المراحل العمرية للإنسان جمد مرحلة الرضاعة -لما لهذه المرحلة من أثر في تعويد الطفل على بعض الأمور ذات الطابع السلوكي- ومن خلال جميع المؤسسات الاجتماعية بدءًا بالبيت وانتهاءً بالمجتمع ومؤسساته المختلفة. وقد أكد د. مقداد يالجن أهمية ذلك، وبيَّن أن هناك طريقين لتعميم التربية الأخلاقية على كل أفراد المجتمع، فقال: "الطريق الأول والأهم، تعميم التربية الأخلاقية في جميع الميادين التعليمية، وجعل مادة تعليم التربية الأخلاقية إجبارية كتعليم العلوم الأخرى. الطريق الثاني: اتخاذ المؤسسات الأُخرى مثل الراديو والتلفزيون والمسرح وتأليف كتب مختلفة في ميدان التربية الأخلاقية وسيلة تربوية، لتزويد الآباء بطرق التربية الأخلاقية ووسائلها في مختلِف مراحل نمو الأطفال. وبذلك ¬

_ (¬1) الباب الرابع، الفصل الخامس، (ص 365 وما بعدها) من هذا الكتاب.

نستطيع أن نساعد أبناءنا لكي يتربوا على الفضيلة، ويكونوا أبرارًا" (¬1). ومن خلال هذين الطريقين نستطيع تعميم التربية الأخلاقية في جميع المؤسسات الاجتماعية فينتشر الخير والصلاح بين الأفراد. و- أهم آراء ابن الجوزي في التربية الإرادية (¬2): أهم الآراء التربوية لابن الجوزي في الجانب الإرادي هي: 1 - ضرورة تدريب الإنسان على استحضار النية الخيّرة في جميع أقواله وتصرفاته. 2 - ضرورة التنويع في استخدام الأساليب والوسائل الإرادية، حتى تقوى شخصية الإنسان. 3 - ضرورة تدريب الفرد على ضبط دوافعه الفطرية وانفعالاته النفسية منذ صغره. 4 - ضرورة استخدام الحوافز المادية والمعنوية عند تدريب الإرادة بطريقة عملية، ثم تنقاد النفس مكرهة، ثم تنقاد راضية إلى ما يحبه الله جل جلاله ويحبّه رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 5 - ضرورة مراعاة طبيعة النفس البشرية، وما فيها من قوة وضعف عند تدريب إرادتها. وجوه الاستفادة من هذا الجانب: نستطيع الاستفادة من آراء ابن الجوزي في التربية الإرادية في جميع مراحل نمو الإنسان، ولكل مرحلة من هذه المراحل ما يناسبها من آراء تتناسب مع الطبيعة البشرية، وأن يكون ذلك بالتدريج حتى يقوى جسم الناشئ وفكره وروحه ونفسه وشخصيته وذلك من خلال المؤسسة التربوية الأُولى وهي البيت، وعن طريق التدريب العملي لإعلاء الدوافع الفطرية المختلفة، وضبط الانفعالات البشرية، بشتى الأساليب التربوية ¬

_ (¬1) مرجع سابق، يالجن، د. مقداد. جوانب التربية الإسلامية الأساسية. ص 320. (¬2) الباب الرابع، الفصل السادس، (ص 373 وما بعدها) من هذا الكتاب.

والتهذيبية، والحوافز التشجيعية المعنوية، مع تكليف الطفل بالأعمال والمسؤوليات المناسبة لعمره الزمني، وتعويده على القوة والصلابة والشدة. فتتربى إرادته من جميع الجوانب الفكرية والنفسية والروحية والجسمية. وبعد ذلك يأتي دور المدرسة في تدعيم هذه التربية مع مساعدة المنزل في تثبيتها. هذا وبعد عرض أهم الآراء التربوية لابن الجوزي، ووجوه الاستفادة منها، نستطيع القول: إن هذه الآراء لو أُخذت في الاعتبار، ووُضعت مقتضياتها ضمن المناهج الدراسية بطريقة تتناسب مع المستوى التعليمي، لأسهمت إلى حد كبير في غرس المفاهيم الصحيحة للتربية الإسلامية، وكان لها دور في بناء الشخصية الإسلامية، وساعدت -في الوَقت نفسه- على تأصيل الفكر التربوي الإِسلامي الذي ينبغي أن يحل مكان الفكر التربوي الغربي. رغم أن ابن الجوزي لم يتكلم على التربية الإبداعية، وهي تربية مهمة في عصرنا، ولابد من الاهتمام بها لنستطيع إعداد أجيال قادرة على ابتكار وتصنيع ما تحتاج إليه أمتنا الإسلامية بدلًا من استيرادنا جميع المصنوعات والمبتكرات التي ينتجها غيرنا.

الفصل الثاني طريقة ابن الجوزي في اجتهاداته التربوية ووجوه الاستفادة منها

• الفصل الثاني طريقة ابن الجوزي في اجتهاداته التربوية ووجوه الاستفادة منها أولًا: طريقة اجتهاداته التربوية من خلال شروط الاجتهاد وضوابطه. ثانيًا: ووجوه الاستفادة من طريقة اجتهادات ابن الجوزي التربوية.

أولا: طريقة اجتهاداته التربوية من خلال شروط الاجتهاد وضوابطه

• الفصل الثاني طريقة ابن الجوزي في اجتهاداته التربوية ووجوه الاستفادة منها أولًا: طريقة اجتهاداته التربوية من خلال شروط الاجتهاد وضوابطه سبق في الباب الخامس الخاص بتقويم آراء ابن الجوزي التربوية، أن أثبتت الباحثة اعتماد ابن الجوزي عند توثيق آرائه التربوية على القرآن الكريم، والسُّنّة النبوية الشريفة، والقواعد الأصولية والفقهية، وعلم المنطق، وعلم الكلام، بالإضافة إلى استعانته بالقصص والشعر التربوي المناسب لهذه الآراء. ولم يحدد ابن الجوزي في مؤلفاته المتعددة منهجه في كتابة آرائه التربوية، لأنه كما سبق أن وضحت الباحثة، أنه عرض الآراء التربوية كغيره من علماء المسلمين الذين كتبوا في كل فروع المعرفة دون تخصيص لعلم التربية. وهذا لا يعني أنه لم يلتزم بمنهجية محددة في كتاباته، بل إن كتاباته التربوية تدل على أنه التزم بأصول وقواعد مختلفة، سنبينها بعد عرض موجز لشروط الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، التي تظهر بصماتها بوضوح في كتاباته التربوية. وقد يسأل سائل: ولماذا شروط الاجتهاد في الشريعة الإِسلامية بالذات دون غيرها؟. والإجابة عن ذلك تتجلى في أن الاجتهاد بضوابطه الشرعية، باب واسع يستوعب متطلبات البشرية حسب ظروف العصر ومتغيراته المختلفة، ويعالج المشكلات الطارئة ضمن الإطار العام للمنهج الإِسلامي.

أما شروط الاجتهاد (¬1) فتتمثل في النقاط الآتية: 1 - العلم بالقرآن وما يتصل به وناسخه ومنسوخه: عرَّف علماء الأصول واللغة القرآن الكريم بأنه "الكلام المعجز المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبّد بتلاوته" (¬2). وهذا يقتضي فهم معاني الآيات القرآنية وأحكامها، مع معرفة أسباب النزول ومقاصد التشريع، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منه، ومعرفة دلالات النصوص من حيث عبارة النص، وإشارة النص والعام والخاص وما إلى ذلك. وإذا أردنا أن نرى مدى التزام ابن الجوزي بهذا الشرط، فإننا نلاحظ من تتبع سيرته الخاصة، أنه بدأ طفولته -كعادة علماء السلف الصالح- بحفظ القرآن الكريم في مسجد أبي الفضل بن ناصر، وفي ذلك يقول ابن رجب: "وحفظ القرآن وقرأه على جماعة من أئمة القراء. وقد قرأ بالروايات في كبره بواسط علي ابن الباقلاني" (¬3). ولم يكتف ابن الجوزي بحفظ القرآن الكريم بل عَلِمَ تفسيره وألف فيه، بل فسره كلَّه أثناء وعظه، وفي ذلك يقول: "وفي يوم السبت سابع عشر جُمادَى الأولى انتهى تفسيري للقرآن في المجلس على المنبر، فإني كنت أذكر في كل مجلس منه آيات من أول الختمة على الترتيب إلى أن تمّ، فسجدت على المنبر سجدة الشكر وقلت: ما عرفت أن واعظًا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن، فالحمد لله المنعم. . . ." (¬4). وقد صنف ابن الجوزي في القرآن وعلومه "سبعة وعشرين ¬

_ (¬1) مرجع سابق، أبو زهرة، محمد. أصول الفقه. ص 380 - 389 "بتصرف". (¬2) الصالح، د. صبحي. مباحث في علوم القرآن. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة عشر، 1982 م، ص 21. (¬3) مرجع سابق، ابن رجب. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. المجلد الأول، ص 401. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم الجزء العاشر، ص 251.

كتابًا" (¬1) أشهرها كتاب، زاد المسير في علم التفسير. وقد تجلى حرص ابن الجوزي في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم من خلال إبراز الصحيح منه منعًا لتبديل شرع الله تعالى، فألف كتابًا في ذلك أسماه نواسخ القرآن. وله غير هذا الكتاب في الناسخ والمنسوخ. 2 - العلم بالسُّنة النبوية: لابد من معرفة السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية للرسول - صلى الله عليه وسلم - من حيث مناسبتها والأحوال التي قيلت فيها، وأهم الأحكام المستنبطة منها، كما ينبغي معرفة طرق تخريج الأحاديث من مصادرها الأصلية، ومنهج الحكم عليها، ومعرفة أحوال الرواة من كتب الجرح والتعديل، وكل ما يتعلق بالحديث النبوي وعلومه. أما مدى انطباق هذا الشرط على ابن الجوزي، ومدى تمكنه من علوم الحديث، فقد أقبل ابن الجوزي على فهم أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسُنته الشريفة، "فسمع صحيح البخاري على أبي الوقت، وصحيح مسلم بنزول، وما لا يحصى من الأجزاء. . . ." (¬2). وقد ذكر ابن الجوزى أنه تلقى الأحاديث على يدي الإمام هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري الطبري، فقال في ذلك: "وسمعت عليه الحديث وقرأت عليه" (¬3). والإمام أبي منصور الجواليقي الذي قال عنه: "وكان من أهل السُّنّة وسمعت منه كثيرًا من الحديث وغريب الحديث" (¬4). وقد صنف إين الجوزي في الحديث وعلومه "42 كتابا" (¬5)، منها على سبيل المثال: كتاب الموضوعات في ثلاثة أجزاء، وكتاب العلل ¬

_ (¬1) مرجع سابق، العلوجي. فهرس مؤلفات ابن الجوزي. ص 222 - 223. (¬2) مرجع سابق، ابن رجب .. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. المجلد الأول، ص 402. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك. الجزء العاشر، ص 71. (¬4) المرجع السابق، الجزء العاشر، ص 118. (¬5) مرجع سابق، العلوجي. فهرس مؤلفات ابن الجوزي. ص 223.

المتناهية في الأحاديث الواهية وهو مطبوع في مجلدين، وكتاب الكشف في مستور ما في الصحيحين .. الخ. 3 - العلم باللغة العربية: يشترط في المجتهد أن يكون متمكنًا من اللغة العربية وقواعدها، عالمًا بأسرارها البيانية والبلاغية بالقدر الذي يستطيع به فهم القرآن الكريم والحديث النبوي ثم استنباط الأحكام منها بدقة. وقد حدد الإمام الغزالي -رحمه الله- هذا القدر الذي يجب معرفته من اللغة العربية فقال: إنه "القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقة ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه، والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد، وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو، بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسُّنّة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه" (¬1). وقد التزم ابن الجوزي بهذا الشرط، وكان ملمًا باللغة العربية وأسرارها ومدلولاتها. وقد تلقى فقه اللغة وآدابها على أيدي شيوخ في اللغة والأدب وعلى يدي شيخة أبي منصور الجواليقي بوجه خاص، فقال في ذلك: "وقرأت عليه كتابه المعرَّب وغيره من تصانيفه وقطعة من اللغة" (¬2). وهذا مثال يدل على تمكُنه وهو قوله: "وكذلك يتفاوت الشعراء الذين شغلهم التفطن لدقائق الأحوال كقول قائلهم: لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعن بالضحى ... وأسيافُنا يقطرن من نجدة دما والجفنات عدد يسير، فلو قال: الجفانُ لكان أبلغَ، ولو قال: بالدُّجى لكان أحسنَ، ويقطرن دليل على القلة. . . وكذا قول القائل: أدعو إلى هجرِها قلبي فيتبعُني ... حتى إذا قلتُ هذا صادقٌ نزعا ¬

_ (¬1) الغزالي. المستصفى من علم الأصول وبذيله فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في الفقه. بيروت، دار العلوم الحديثة، دون طبعة وتاريخ، الجزء الثاني، ص 352. (¬2) ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء العاشر، ص 118.

ولو كان صادقًا في المحبة لما كان له قلب يخاطبه. وإذا خاطبه في الهجر لم يوافقه. إنما المحب الصادق هو القائل: يقولون لو عاتبتَ قلبَك لارعوى ... فقلتُ وهل للعاشقين قلوبُ ومثل هذا إذا نوقش كثير" (¬1). وقد صنف ابن الجوزي كتابًا في اللغة أسماه تقويم اللسان. وله غيره. 4 - معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف: المقصود بمعرفة مواضع الإجماع، الأحكام الإسلامية التي "أجمع عليها العلماء من عصر الصحابة إلى عصر الأئمة المجتهدين ومن جاء من بعدهم، وليس المراد أن يحفظ كل مواضع الإجماع حفظًا يستظهره في عامة أحواله، بل المراد أن كل مسألة يتصدى لدراستها يكون على علم بموضع الإجماع فيها إن كان هناك إجماع، وأما مواضع الخلاف فأن يعرف "إن كان هناك اختلاف. ومع العلم بمواضع الإجماع التي أجمع عليها السلف الصالح، يجب أن يكون على علم باختلاف الفقهاء، فيعرف اختلاف فقه المدينة ومنهاجه عن فقه العراق ومنهاجه" (¬2). إذا طُبق هذا الشرط الاجتهادي على ابن الجوزي، فإنه يلاحظ من خلال الاستقراء لآرائه التربوية أنه لم يحدد صراحة بكلمات تدل على معرفته بمواضع الإجماع ومواضع الخلاف، ولكن آراءه التربوية توضح أنه التزم بما أجمع عليه جمهور العلماء، وابتعد عن مواضع الخلاف بصفة عامة. وقد نقد ابن الجوزي الفقهاء الذين يكتفون بالعلم الشرعي القليل فقال فيهم: "كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث، فما زال الأمر يتناقص حتى قال المتأخرون: يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن، وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث كسنن أبي داود ونحوها، ثم استهانوا بهذا الأمر أيضًا، وصار أحدهم يحتج بآية لا ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد المخاطر. ص 476. (¬2) مرجع سابق، أبو زهرة. أصول الفقه. ص 383 - 384. بشيء من التصرف.

يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا، وربما اعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم لقلة التفاته إلى معرفة النقل، وإنما الفقه استخراج من الكتاب والسنة. فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه!؟ (¬1). وقد رأى ابن الجوزي أن الفقيه عليه أن "يبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا لا يخفى عليه بذلك منه شيء. وانصح له قراءة القراءات السبع وأشياء من النحو وكتب اللغة وليبدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء فلينظر في أصول ذلك. وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب. ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغنى عنه كنسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقاربه وأزواجه وما جرى له. ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة، وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم" (¬2). ويرى ابن الجوزي أن على الفقيه أن يلتزم بأحد المذاهب، وهذا ما حدث له عندما التزم بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقد بين سبب ذلك بقوله: "إعلم أنا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين، فرأينا هذا الرجل أوفرهم حظًا من تلك العلوم" (¬3). وعلى الرغم من تقليد شيخه أحمد بن حنبل، فإنه كان يخالفه في المسائل التي صح بالدليل مخالفتها فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو قوله، مثال ذلك قوله: "ولهذا أرى التداوي مندوبًا إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا، فإن الحديث ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. تلبيس إبليس. ص 118. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 169. (¬3) ابن الجوزي. مناقب الإمام أحمد بن حنبل. (تحقيق) لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الثالثة، 1402 هـ - 1982 م، ص 496.

الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء فتداووا. . . ." (¬1). وقد كان لابن الجوزي الكئير من الفتاوي الفقهية التي ضمَّنها بعض كتبه مثل كتاب تلبيس إبليس وغيره، وقد صنف مؤلفات عدة في الفقه وأصوله منها: الإنصاف في مسائل الخلاف. وكتاب جنة النظر وجنة المنتظر وكتاب النساء وآدابهن. 5 - معرفة القياس: يعتبر القياس من الأدلة الشرعية المعتمدة في الشريعة الإسلامية. وتعريف القياس في "اصطلاح الأصوليين: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم" (¬2). مثال: ورد نص بتحريم الخمر لِعِلَّة الإسكار، فكل ما يسكر يسوَّى بالخمر في حكمه ويحرم شربه، للعلة نفسها. والعلم بالقياس يقتضي العلم بثلاثة أمور هي: "أولها: العلم بالأصول من النصوص التي يُبنى عليها والعلل التي قامت عليها أحكام هذه النصوص، والتي بها يمكن إلحاق حكم الفرع إليها. ثانيها: العلم بقوانين القياس وضوابطه كألا يقاس على ما يثبت أنه لا يتعدى حكمه، ومعرفة أوصاف العلة التي يبنى عليها القياس ويلتحق بها الفرع بالأصل. ثالثها: أن يعرف المناهج التي سلكها السلف الصالح، في تعرُّف عِلل الأحكام، والأوصاف التي اعتبروها أسسًا لبناء الأحكام عليها، واستخرجوا طائفة من الأحكام الفقهية" (¬3). والذي يبدو من خلال استقراء آراء ابن الجوزي التربوية، أنه وإن ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد المخاطر. ص 87. (¬2) مرجع سابق، خلاف، عبد الوهاب. علم أصول الفقه. ص 52. (¬3) مرجع سابق، أبو زهرة. أصول الفقه. ص 385.

لم يصرح بهذا الدليل الشرعي من الأدلة المعتمدة، ولكنه ضبط آراءه التربوية وفقه. وقد سبق أن وضحت الباحثة في ذلك في باب التقويم. 6 - معرفة مقاصد الأحكام: وُضعت الشرائع السماوية لمصالح العباد في الدنيا والآخرة. وقد بنى الشاطبي الاجتهاد على أصلين هما: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة، وقد قسمت إلى ثلاثة أقسام وفق تحقيقها للمصالح، والمصالح هي: 1 - الضروريات: "ومعناها أنها لابدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهاريج وفوت حياة، وفي الأُخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين. . . ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل" (¬1). 2 - الحاجيات: "ومعناها أنها مفتَقَرٌ إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. فإذا لم تُراعَ دخل على المكلفين الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة" (¬2). 3 - التحسينات: "ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدلسات التي تأنفها العقول الراجحات. ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق" (¬3). والثاني: "التمكن من الاستنباط بمعرفة العربية ومعرفة أحكام القرآن والسُّنة والإجماع وخلاف الفقهاء وأوجه القياس، فإن هذه أداة الاستنباط" (¬4). ¬

_ (¬1) مرجع سابق، الشاطبي، أبو إسحاق. الموافقات في أصول الشريعة. (حققه) دراز، عبد الله و (ضبطه وفضله ووضع تراجمه) دراز، محمد، عبد الله، الجزء الثاني، ص 8 - 10. (¬2) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 10 - 11. (¬3) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 11. (¬4) مرجع سابق، أبو زهرة. أصول الفقه. ص 387.

وقد تلقى ابن الجوزي علم الفقه وأصوله على يد عدد من الشيوخ، أولهم ابن الزاغوني، وبعد وفاته "قرأ الفقه والخلاف والجدل والأصول على أبي بكر الدينوري، والقاضي أبي يعلى الصغير، وأبي حكيم النهرواني. . . ." (¬1). وله مصنفات عدة في الفقه وأصوله منها: كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف وكتاب جنة النظر وجنة المنتظر وكتاب البلغة. وقد ضبط ابن الجوزي آراءه التربوية بالضابط الشرعي الذي يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية، ويبدو ذلك واضحًا في باب التقويم في الآراء التربوية التي وثقها بالقواعد الفقهية، ويمكن الرجوع إليها منعًا من التكرار. 7 - صحة الفهم وحسن التقدير: المقصود بها: القدرة أو "الأداة التي بها يكون استخدام كل المعلومات المتعلقة بفهم القرآن الكريم والسُّنّة النبوية وأصول الفقه ومعرفة اللغة العربية، وتوجيهها، وتمييز زيف الآراء من صحيحها، وغثَّها من سمينها" (¬2). وقد اشترط بعض العلماء أن يكون المجتهد عالمًا بالمنطق، والبعض الآخر لم يشترط المنطق، كالشافعي الذي اشترط في المجتهد أن يكون متميزًا "بحسن الفهم ونفاذ النظر، ليصل إلى لب الحقائق" (¬3). ومن خلال الاستقراء لمعظم الآراء التربوية لابن الجوزي، نلاحظ أنه يتميز بالقدرة على توظيف قدراته العقلية وثقافته الإسلامية الشاملة لعلوم القرآن الكريم، والسُّنّة النبوية، وأصول الفقه، ومعرفة اللغة العربية، وعلم المنطق في الوصول إلى آراء تربوية إسلامية مستوحاة من الفهم الصحيح لهذا المنهج الإسلامي السديد، ما عدا بعض الآراء التي رفضتها لأسباب ذكرتها في مواضعها عند التقويم. ¬

_ (¬1) مرجع سابق، ابن رجب. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. المجلد الأول، ص 402. (¬2) مرجع سابق، أبو زهرة. أصول الفقه. ص 387. (¬3) المرجع السابق، ص 388.

8 - صحة النية وسلامة الاعتقاد: إن صحة النية وكذا سلامة الاعتقاد، تنير العقل والقلب، وترشدهما للصواب، وتجنبهما الضلال، "والله تعالى يلقي في قلب المخلص الحكمة، فيهديه ويجنبه، والشريعة نور لا يدركه إلا من أشرق قلبه بالإخلاص، وأما فاسد الاعتقاد بأن يكون ذا بدعة أو ذا هوى، أو لا يتجه إلى المنصوص بقلب سليم، فإنه قد يسيطر على تفكيره ما يمنعه من الاستنباط الصحيح مهما تكن قوة تفكيره لأن النية المعوجة تجعل الفكر معوجًا" (¬1). وقد أدرك ابن الجوزي أهمية النية في صلاح القلب والعقل وقبول العمل، فقال في ذلك: "ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك نيته؛ لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له. ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك. وليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة، وإن لم يطلعوا عليها. فالقلوب تشهد للصالح بالصلاح، وإن لم يشاهَد منه ذلك. . . ." (¬2). وقد بيَّن مراتب العلماء من حيث نياتهم فقال في ذلك: "وأما العلماء فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نية خبيثة يقصد بالعلم المباهاة لا العمل، ويميل إلى الفسق ظنًّا أن العلم يدفع عنه، وإنما هو حجة عليه. وأما المتوسطون والمشهورون فأكثرهم يغشى السلاطين، ويسكت عن إنكار المنكر. وقليل من العلماء من تسلم له نيته ويحسن قصده. فمن أراد الله به خيرًا رزقه حسن القصد في طلب العلم، فهو يحصله لينتفع به وينفع، ولا يبالي بعمل مما يدله عليه العلم. . . ." (¬3). وقوله: "كل من عمل خيرًا أو صحح نية، فلينتظر جزاءها الحسن، وإن امتدت المدة. . . ." (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، ص 388. (¬2) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 363. (¬3) المرجع السابق، ص 342. يقصد ابن الجوزي أن العالم المخلص العامل بعلمه يعمل ما يوجبه العلم ولو خالف العامة أو خالف الجهلاء .. ولا يبالي .. (¬4) المرجع السابق، ص 25.

والذي يبدو واضحًا من وصايا وأقوال ابن الجوزي عن أهمية النية، أنه كان مستحضرًا إياها في أعماله وأقواله حتى ينال الأجر والمثوبة من الله تعالى. ولاسيما أن الكاتب حين يكتب فإنه أول من يلتزم -إن شاء الله- بما يقوله حتى لا يكون ممن ينطبق عليه قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1). وبذلك يصبح ابن الجوزي محققًا لهذا الشرط. ومما سبق، من مطابقة شروط الاجتهاد على الروافد العلمية والثقافية التي نهل منها ابن الجوزي منذ نعومة أظفاره وحتى اشتغاله بالوعظ والتصنيف. فإننا نلاحظ أن مصادر ثقافته كانت جامعة لمعظم العلوم المعروفة في زمانه، وفي مقدمتها العلوم الإسلامية التي يحتاجها المجتهد عند إصدار الأحكام واستنباطها ضمن الحدود الشرعية. والذي زاد من ثرائه الثقافي والعلمي أنه تلقّى علومه على "سبعة وثمانين شيخًا" (¬2). وهذا التنوع في العلوم والشيوخ والكتب التي أخذ منها ثقافته قد أعانه، وذلك بالإضافة إلى ما تميَّز به من همة عالية، وعقل ناضج، وحب للعلم، وقدرة على الفهم والحفظ والتصنيف، كما وصف نفسه قائلًا: "ولي همة عالية وأنا في المكتب ابن ست سنين وأنا قرين الصبيان الكبار، وقد رُزقت عقلًا وافرًا في الصغر يزيد على عقل الشيوخ" (¬3)، وقد قال: "إني رجل حبب إليَّ العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به، ثم لم يحبَّب إليَّ فن واحد منه، بل فنونه كلها" (¬4)، وقال: "ورزقني الفهم وسرعة الحفظ والخط وجودة التصنيف" (¬5). وقد أكسبه كلُّ ذلك القدرة على توظيف هذه الثقافات المتنوعة في عرض الكثير من آرائه التربوية ¬

_ (¬1) سورة الصف، الآيتان 2 - 3. (¬2) مرجع سابق، ابن رجب. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. المجلد الأول، ص 401. (¬3) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 36. (¬4) مرجع سابق، ابن الجوزي. صيد الخاطر. ص 37. (¬5) مرجع سابق، ابن الجوزي. لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. ص 47.

ثانيا: وجوه الاستفادة من طريقة اجتهادات ابن الجوزي التربوية

التي لم يوثقها بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، ولكنه كتبها من خلال فهمه الشامل للمنهج التربوي الإسلامي، ومن خلال خصائصه وانطباق شروط الاجتهاد عليه. وهذه الآراء التربوية في حدود الـ 300 رأيًا تربويًّا، وهي موزعة بين موضوعات هذا البحث. هذا في حدود ما درسته الباحثة من تراثه الكثير المتنوع. وهذا العدد من الآراء التربوية يدل على فهم ابن الجوزي وقدرته على إدراك منهج التربية الإِسلامية. ثانيًا: وجوه الاستفادة من طريقة اجتهادات ابن الجوزي التربوية إن انطباق شروط المجتهد على ابن الجوزي، ذلك المربي المسلم وقدرته على توظيف هذه الشروط والاستفادة منها في بلورتها إلى آراء إسلامية، تدعو المتأمل فيها إلى استنباط صفات علمية وخلقية وشخصية، لابد من توافرها في الباحث المعاصر في التربية الإسلامية، حتى يكون مؤهلًا للبحث العلمي، ولكي تتكون لديه القدرة على الفهم والتفسير، والاستنباط والتحليل والتركيب من خلال الفهم الصحيح للمنهج الإِسلامي من جميع جوانبه. وأهم الصفات التي يمكن استنباطها من شخصية ابن الجوزي ومن طريقة اجتهاداته التربوية، والتي ينبغي وجودها في الباحث التربوي المعاصر في التربية الإِسلامية هي: 1 - الفهم الصحيح للقرآن الكريم وعلومه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وكل ما يتعلق بأحكام الآيات القرآنية وأسباب نزولها ومعناها ومقاصدها. 2 - الفهم الصحيح للحديث وعلومه، ومعرفة طرق تخريج الأحاديث من مصادرها، وصحة الحكم عليها، وأحوال الرواة ودرجة صدقهم والثقة بهم. هذا بالإضافة إلى معرفة السُّنّة النبوية الفعلية والتقريرية ومعرفة مناسبتها والأحوال التي قيلت فيها. 3 - إتقان اللغة العربية من حيث قواعدها النحوية والصرفية واللغوية للكتابة الصحيحة، ومعرفة بعض أوجه إعجازها البياني والبلاغي.

4 - العلم بالفقه وأصول الفقه من حيث أدلتهما الشرعية المتعددة وقواعدهما الفقهية ومقاصد الشريعة، حتى يتمكن الباحث من إيجاد حلول وبدائل للمشكلات التربوية المعاصرة في ضوء معرفته للإطار الشرعي العام. 5 - الاهتمام بالتربية قبل الإِسلام وبعده، مع دراسة الفكر التربوي لعلماء المسلمين عبر القرون. 6 - الاهتمام بالعلوم المعاصرة بصفة عامة، وبالعلوم التربوية بصفة خاصة، مع معرفة كل ما يتعلق بها من أهداف ووسائل، وأوجه نقد وتقويم سلبية كانت أو إيجابية، ومدى اتفاق الاتجاهات التربوية مع المنهج التربوي الإِسلامي ومدى اختلافها عنه. 7 - أن يتميز الباحث التربوي بالقدرة على البحث العلمي والنظرة الموضوعية المتجردة عن التعصب والهوى، مع القدرة على التحليل والتفسير والنقد في ضوء معطيات التربية قديمًا وحديثًا، وضمن حدود الضوابط الشرعية. 8 - أن يتميز الباحث التربوي بالإخلاص لله تعالى، والعمل على نشر العلم الإسلامي الصحيح، فلا يكون هدفه الدرجة العلمية، أو المركز الاجتماعي، أو الكسب المادي. 9 - أن يتميز الباحث التربوي بالجدية والصبر والمثابرة والروح العلمية المتقبلة للنقد والتوجيه. 10 - أن يتأسى الباحث التربوي بالعلماء السابقين، فيما تميزوا به من الصبر والجلد، وبما أنتجوا من مؤلفات مختلفة في جميع الفنون وبخاصة في العلوم الإِسلامية.

الباب السابع نتائج البحث ومقترحاته

الباب السابع نتائج البحث ومقترحاته • الفصل الأول: النتائج • الفصل الثاني: المقترحات

الفصل الأول النتائج

• الفصل الأول النتائج قبل عرض النتائج التي توصلت إليها الباحثة في أثناء دراستها وتحليلها وتقويمها ومقارنتها لآراء ابن الجوزي التربوية، لابدَّ من وقفة .. لتلخيص موجز لكل المعلومات التي قُدّمت في الأبواب السابقة، حتى تعطي القارئ فكرة واضحة عنه، يستطيع من خلالها ربط هذا التلخيص بالنتائج، ليدرك أبعاد هذه الدراسة وأهميتها وما توصلت إليه، ومدى الاستفادة منها. فهذه الدراسة التربوية لفكر ابن الجوزي، وضحت نظرته للطبيعة البشرية، التي تؤمن بفطرتها بوجود خالق للكون، وأنه لم يخلقه عبثًا، وإنما خلقه لعبادته وحده دون سواه. وقد خُلقت هذه الطبيعة من قبضة من طين ونفخة من روح الله، وزودت بالدوافع والانفعالات والعواطف المختلفة. وقد بيَّن ابن الجوزي أن قوى النفس البشرية هي: قوة ناطقة، وقوة شهوانية، وقوة غضبية، كذلك بيَّن خصائصها ومميزاتها وطريقة تهذيبها. وهذه النفس البشرية تضم الروح والعقل والبدن، ولكلٍ وظيفته ودوره في عبودية الإنسان لله تعالى. وقد أكدت آراء ابن الجوزي التربوية ضرورة ملازمة -الوالدين- الإنسان في جميع مراحل عمره، بل قبل ولادته بطريق غير مباشر، من لحظة اختيار الزوجة الصالحة المدركة لدورها المهم في تربية الأبناء، إلى مراحل تكوين الجنين في بطن أمه، وما يترتب على ذلك من اهتمام وعناية به حتى ولادته.

وقد اهتم ابن الجوزي بمرحلة الطفولة اهتمامًا كبيرًا من جميع الجوانب الخلقية والعقلية والصحية والعلمية والنفسية والاجتماعية، لما لها من أثر عظيم في بناء وتشكيل شخصية الطفل ثم بيَّن أثر الوسائط التربوية في تربية الطفل، والدور الفعّال لكل من الأُسْرة والصحبة سلبًا وإيجابًا. كما ذكر العديد من الأساليب التربوية المناسبة لتهذيب الطفل وتقويمه، مثل التربية بالقدوة، أو التربية بأسلوب الثواب والعقاب، أو عن طريق أسلوب الرسائل التربوية (الكتابة والتأليف) كذلك حدد ابن الجوزي المنهج التعليمي للطفل في مرحلة ما قبل الدراسة النظامية، والدراسة الإلزامية وأهم الفروق الفردية بين الأطفال وأهمية رعايتها في التعلم والسلوك. وقد ركز ابن الجوزي في مرحلة البلوغ والشباب على الجانب الجنسي وذكر خطورته على البالغ، وأكد أهمية المحافظة عليه عن طريق غرس مراقبة الله تعالى وتسهيل طريق الزواج له، وتعويده على غضّ البصر والصيام ومنع اختلاطه بالنساء، وإعداده لكسب الرزق عن طريق تأمين عمل له، وأن تكون تربيته مبنية على الاحترام والتقدير والثقة به. وفي مرحلتي الكهولة والشيخوخة نادى ابن الجوزي بضرورة الاستمرار في ضبط النفس عن شهواتها، والاهتمام بالعلم والحفظ والتأليف، والاستزادة من العمل الصالح الذي ينفع في الدار الآخرة. أما في مرحلة الهرم، فالتفرغ لذكر الله تعالى، والعمل الصالح، والصدقة الجارية والاستعداد للرحيل، والتزوُّد بالباقيات الصالحات. ولكي يستغلّ الإنسان مراحل عمره فيما يرضي الله -عز وجل-، بيَّن ابن الجوزي كيفية تربية كل جانب من جوانب الكيان البشري بطريقة معتدلة ومتوازنة تتفق وفطرة الإنسان التي خلقه الله بها. فالتربية الجسمية تشمل العناية بالدافع إلى الطعام والشراب والجنس، كما تعنى بالاستشفاء من المرض والنظافة والرياضة وتكوين البصيرة بالأمور الصحية، والتنشئة عليها، وتكوين الحصانة ضد الأمراض، وهذه المبادئ تتم في إطار المنهج التربوي الإسلامي المعتدل، الذي يراعي الفروق الفردية بين الناس، ويعتبر إشباع هذه الحاجات الفطرية وسيلة لطاعة الله -عز وجل- وليست غاية في ذاتها.

وفي التربية العقلية والعلمية، حدّد ابن الجوزي العقل بمعان ستة، هي أنه: الطاقة أو القوة الفطرية وهي التي تميز الإنسان عن الحيوان، وهو الأداة التي بها يعرف الله تعالى ويترتب على هذه المعرفة الإلمامُ بالأحكام والتكاليف الشرعية، ولدى العقل القدرة على الإدراك والتمييز بين الأمور، والقدرة على التعلم واكتساب المعارف والمهارات وضبط الدوافع والشهوات. وهذه القدرات العقلية فطرية ومكتسبة، والناس يختلفون فيها، وفي درجات العقل المرتفعة والمنخفضة، وما تتميز به كل قدرة من صفات. وفي مجال التربية العقلية أشاد ابن الجوزي بالعلم والتعليم والعلماء، ونوَّه بفضلهم مؤكّدًا قوله بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وموضحًا أن العلم النافع هو الذي يورث الخوف والخشية من الله تعالى، ويصلح السريرة التي تبتغي وجه الله تعالى، وتدفع المرء لاكتساب الفضائل، وأكّد وجوب تلازم العلم والعمل. وأنه لابد من مراعاة المقومات الأساسية للعالم والمتعلم في أثناء تعلمهما حتى يجنيا ثمرة علمهما، ومن هذه المقومات الخاصة بالعالم، أن يبتغي بعلمه وجه الله تعالى، باذلًا له، عاملًا به، ويهتم بمظهره الخارجي ونظافته الشخصية مقتديًا في ذلك بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكسب من المال ما يسدّ حاجة أهله وعياله، ويستغلّ وقته فيما يفيده، مع مراعاة الآداب الوعظية في أثناء إعداد الدرس وإلقائه مثل اختيار الموضوع المناسب، وذكر الله تعالى، والموازنة في الصوت، ومراعاة الفروق الفردية العقلية للسامعين، والاقتصاد في الموعظة، والورع في الفتوى. أما المقومات الخاصة بالمتعلم فأن يبتغي بعلمه وجه الله تعالى، ويحرص على الانتفاع به وتنظيم أوقاته في طلب العلم، والمثابرة عليه، والإلمام من كل علم بطرف، مع تخصيص وقت للكسب الذي يسدّ حاجة أهله وعياله. وهناك شروط للتعلم الجيد الذي يساعد على التحصيل الفعّال، منها تحقيق الصحة العامة للمتعلم، واستغلال الأعمار الزمنية المناسبة

للحفظ، مع تنظيم أوقات الحفظ، وتحديد مقدار المحفوظ وتقسيمه ليسهل حفظه، واستخدام أسلوب التكرار ليثبت في ذهن المتعلم، ومراعاة الأحوال النفسية للمتعلم، وأن يستفيد من طاقاته العقلية المختلفة في حفظ العلوم المهمة أولًا، ثم الأقل أهمية، حتى لا يبدد هذه القدرات فيما لا يفيد، مع مراعاة اجتناب الانتقال من مادة إلى أُخرى قبل أن يتقن الأُولى. ومع هذه الشروط للتعلم الجيد، لابد من إرشاد الطلاب إلى أساليب مقاومة النسيان التي تنحصر في استمرارية ودوام المذاكرة، مع تنظيم أوقات الإعادة، وتحديد القدر الذي يحفظه المتعلم، وأن يكون الحفظ في أوقات النشاط، مع إعطاء المتعلم فترة راحة بمعدل يوم أو يومين حتى تثبت المعلومات في ذهنه. وفي التربية الاعتقادية انتقد ابن الجوزي الأسلوب التقليدي الجامد لتلقين العقيدة أولًا ثم تلقين الشعائر التعبدية دون فهم لما فيها من معانٍ سامية، وحِكَم بليغة، وأن ذلك أدى إلى ضعف الإيمان في قلوب الناس، وتحوُّل العبادات إلى عادات جوفاء لا روح فيها ولا خلق. وهذا ما دعا ابن الجوزي إلى استخدام الأساليب القرآنية، والطرق النافعة لغرس العقيدة الإسلامية الصحيحة، فحذّر من التلقين الصوري الجامد للمبادئ الإِسلاميةَ دون فهم لها. كما أكد أهميةَ استغلال جوانب العقيدة المؤثرة كالإيمان بالله واليوم الآخر وما يتعلق بهما، كذلك الإيمان بشمولية الأحكام التشريعية المنزلة من عند الله -عز وجل-، وأنها جاءت لتنظيم حياة البشر، وتدبير مصالحهم. ونبّه على استخدام الأدلة التي تؤكد فطريةَ الإيمان بوجود الله تعالى، يضاف إلى ذلك تنميةُ عاطفتي الحب والخوف من الله تعالى، لتأثيرهما الفعال في توجيه السلوك وضبطه بطاعة الله تعالى، والبعد عما نهى عنه. مع تكوين القناعة التامة بالعقيدة الإِسلامية بالأدلة والحجج العقلية والعلمية، حتى تكوَّن للناشئين حصانة قوية ضد الإلحاد وأهله. أما التربية الروحية، فقد بيَّن ابن الجوزي فيها أن الروح شيء مبهم غامض، ليس له حدود، وهي لا تُرى بالعين المجرّدة، وعلم

حقيقتها عند الله تعالى، وهي تعرف بآثارها في سلوك الإنسان وتصرفاته. ومن صفات الروح أنها جوهر مخلوق، لا يتجزأ ولا يموت، وأن لها وجودًا بعد موتها وأنها تنعّم وتعذّب، وهي بمثابة المحرك والخادم لجميع البدن. وهناك وسائل تربوية متعددة لتربية الروح نذكرها فيما يأتي: - الوسيلة الأُولى: غرس العقيدة الربانية الصحيحة من خلال الآيات الكونية الدالة على وجود الله تعالى وقدرته الجليلة، والآيات العظيمة في الأنفس البشرية، ومن خلال التفكر في ظاهرة الموت وما بعده. - والوسيلة التربوية الثانية هي تكوين روح الطاعة والإخلاص لله وحده من خلال جميع الأعمال الصالحة التي يؤديها الإنسان ويبتغي بها وجه الله تعالى. - والوسيلة التربوية الثالثة هي ممارسة العبادات المفروضة رغبًا ورهبًا كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وتحصيل ما تثمره كل عبادة منها من آثار نفسية وخلقية وروحية جليلة. - الوسيلة التربوية الرابعة هي تطهير النفس من الرذائل وتزكيتها من الآثام والذنوب والمعاصي. أما التربية الخلقية، فقد بيَّن ابن الجوزي بشأنها أن مقياس الأخلاق الفاضلة هو اتباع ما أمر الله به، والتأدب بآدابه، لأن القرآن الكريم أهم مصدر من المصادر التي نتلقى عنها الخلق الفاضل. والخلق فطري ومكتسب من صحبة الناس، لذلك لابد من بذل الجهد في تدريب النفس على الخلق الكريم، والخصال الفاضلة، والبعد عن الخلق الذميم كالكذب وغيره. أما التربية الإرادية فلم يحدد ابن الجوزي تعريفًا للإرادة، ولكنه بيَّن أهمية النية الخيّرة ودورها في حثّ الإنسان على الالتزام بالأعمال الصالحة. لذلك لابد من تدريب الفرد على استحضار النية الطيبة في جميع أعماله، مع اجتناب تكليف الطفل فوق طاقته، حتى لا يؤثر ذلك في نموه الطبيعي العام، وأن لا يكلَّف في بداية نشأته بالعبادات التي لا

يعقلها كالصلاة والصوم والحج، وأن يعوَّد منذ بداية نشأته على الفضائل والأخلاقيات والآداب الصالحة، حتى تصبح جزءًا من سلوكه وشخصيته. وللتربية الإرادية وسائل متعددة منها: الوسيلة الأُولى: ممارسة أنواع التدريب الإرادي للسلوك الفطري المتمثل في إشباع الدوافع كالأكل والشرب والجنس بطريقة معتدلة، وتهذيب الانفعالات كالغضب وكظم الغيظ ودفع الإساءة بالإحسان. والوسيلة الثانية: ممارسة أنواع التدريب الإرادي الخاصة بالبذل والعطاء بالنفس والمال وكل ما يملك. والوسيلة الثالثة: ممارسة أنواع التدريب الخاصة بالتحمل والصبر على كل ما يصيب الإنسان من السراء والضراء، مستخدمًا في ذلك الوسائل المعينة على الصبر كما وردت في القرآن الكريم والسُّنّة النبوية الشريفة، وقصص الأنبياء، ومن خلال مداراة النفس والتلطف بها، وتذكيرها بالأجر العظيم من الله تعالى. والوسيلة الرابعة: تتجلى في وسائل إنقاذ الإرادة من ضعفها، قبل ارتكاب المعاصي، ومعالجتها بعد الوقوع في المعصية. الوسيلة الخامسة: تتجلى في الوسائل النفسية الإيحائية لتقوية الإرادة. بعد دراسة آراء ابن الجوزي التربوية وتحليلها، قامت الباحثة بتقويم هذه الآراء في ضوء القرآن الكريم والسُّنّة النبوية والقواعد الفقهية، وكانت النتيجة النهائية لهذا التقويم كما يأتي: 1 - وثّق ابن الجوزي حوالي 29 رأيًا بالآيات القرآنية. 2 - وثّق ابن الجوزي حوالي 60 رأيًا بالأحاديث النبوية. 3 - وثّق ابن الجوزي 3 آراء بالقواعد الفقهية. 4 - وثّق ابن الجوزي 3 آراء بعلم الكلام والمنطق. 5 - وثّق ابن الجوزي 12 رأيًا بقصص الأنبياء والسلف الصالح.

6 - وثّق ابن الجوزي 3 آراء بالشعر. 7 - وثّق ابن الجوزي 6 آراء بالتجارب والخبرات الذاتية. 8 - ذكر ابن الجوزي آراء تربوية أُخرى غير موثقة بالآيات القرآنية، أو الأحاديث النبوية أو القواعد الفقهية، أو علم الكلام والمنطق، والقصص والشعر والتجارب. وعلى الرغم من أن معظم آراء ابن الجوزي التربوية موافقة للمنهج التربوي الإسلامي، فقد وجدت الباحثة أن هناك بعض الآراء التربوية التي لا أدلة عليها من مصادر التربية الإسلامية، ولكنه استقاها من مصادر الثقافة العامة في عصره، مثل أن هناك علاقة بين القدرات العقلية وشكل الإنسان، أو أن هناك صفات جسمية يستدل بها على الأذكياء، أو أن من الأسباب التي تورث النسيان الحجامة في النقرة، وأكل الكزبرة الرطبة والتفاح الحامض .. الخ، وهذه الآراء مخالفة للمنهج التربوي الإِسلامي، والدراسات التجريبية الحديثة. قامت الباحثة -بعد هذا التقويم- بموازنة بعض آراء ابن الجوزي التربوية من خلال ثلاثة محاور هي: 1 - موازنة جوانب الحياة الثقافية والتعليمية والتربوية السائدة في عصر ابن الجوزي عند المسلمين وعند الأوروبيين، وهي المدة الزمنية الممتدة بين سنة (510 - 597 هـ - 1116 - 1201 م). وقد وجد من المقارنة سَبْق ابن الجوزي في كثير من آرائه التربوية بسبب ازدهار الحركة العلمية عند المسلمين من جميع الجوانب، وتركيزها عند الأوروبيين على الديانة النصرانية التي أصابها التحريف، ومحاولة التحرر منها في خطواتها الأُولى. 2 - موازنة آراء ابن الجوزي التربوية بآراء غيره من المسلمين المعاصرين له في الفترة الزمنية نفسها التي عاش فيها، أمثال: أبي بكر بن العربي في الأندلس والمغرب، والسمعاني في بغداد، والزرنوجي في شرق الدولة الإسلامية، وابن طفيل وابن رشد في الأندلس. واتضح من الموازنة أن ابن الجوزي لم يتصل بأحد من هؤلاء العلماء المسلمين بأية وسيلة من وسائل الاتصال، ومع ذلك فقد كان هناك تشابه إلى حدٍّ ما

في آرائهم، وهذا ناتج من وحدة ينابيع أو مصادر الفكر التربوي الإسلامي التي تربطهم جميعًا. 3 - موازنة بعض آراء ابن الجوزي التربوية ببعض الآراء التربوية الحديثة. وعند مقارنة الدوافع عند علماء علم النفس الحديث، وجد أن معظمها لا يخالف ما ذهب إليه علماء النفس المحدثون، وإن كان الاختلاف في المصدر الذي أخذ عنه كل منهما. فابن الجوزي استقى تصوره للدوافع من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، أما علماء علم النفس فقد أخذوها من اجتهاداتهم البشرية، أو عن طريق الملاحظة أو المشاهدة أو الاختبارات والتجارب المعملية. وقد اتفق علم النفس الحديث مع ابن الجوزي في كثير من جوانب التقسيم العام لمراحل النمو الإنساني. وأغفل ابن الجوزي مرحلة ما قبل الميلاد رغم اهتمام المنهج التربوي الإسلامي، كذلك اتفق ابن الجوزي مع المحدثين في الاهتمام بالطفولة المبكرة من جميع الجوانب ما عدا الجانب الروحي الذي أغفلوه ولم يغفله ابن الجوزي. أما مفهوم العقل في الفكر الغربي، فقد جاء موافقًا لرأي ابن الجوزي، وإن ظهر في التعاريف الحديثة الدقة العلمية، المعتمدة على المقاييس والاختبارات النفسية. وإن كان لتعريف ابن الجوزي للذكاء وعرض ظواهره قيمة علمية فريدة سبق بها الفكر الغربي الحديث. وقد اتفق رأي ابن الجوزي في درجات العقل المرتفعة والمنخفضة مع الدراسات النفسية الحديثة، أو ما يقابلها بالدرجة العليا والدنيا، ولكنه اختلف عنها في أنه وضَّح الفروق بين الدرجات بالألفاظ، وعلم النفس الحديث وضحها بالنسب المئوية العددية. وقد أكد ابن الجوزي أن القدرات العقلية زمرتان فطرية، ومكتسبة من تأثير البيئة، وهذا ما أثبته علماء الوراثة والبيئة من خلال التجارب والدراسات التي أجريت في هذا المجال. أما العلم والتعليم في نظر ابن الجوزي والمقومات الأساسية للعالم والمتعلم، فقد اختلف فيه اختلافًا واضحًا عن الفكر الغربي بسبب اختلاف بعض مصادر الفكر التربوي لدى الطرفين، وقد اتفق معهم في

العوامل المساعدة على التعلم الجيّد، وطائفة من الطرق المتبعة في مقاومة النسيان. وفيما يتعلق بالتربية الأخلاقية، فقد ركز ابن الجوزي على مفهوم الأخلاق، ولم يهتم بالتربية الأخلاقية، كذلك كشفت الباحثة اختلافًا بين وجهة نظر ابن الجوزي والفيلسوف الألماني "كانت" فالأخلاق في نظر "كانت" " kant"، تختلف اختلافًا كبيرًا عنها عند ابن الجوزي بسبب اختلاف المنطلقات العقائدية، وما يترتب عليها من اختلاف في التصور والسلوك، وهذا الاختلاف ناشئ أساسًا من اختلاف وجهة نظرهما في أساسيات الأخلاق بينهما. والمحصلة النهائية لهذه الموازنة، أن ابن الجوزي وافق الفكر التربوي الحديث في الكثير من آرائه التربوية المستقاة من المنهج التربوي الإسلامي، واختلف معهم في بعض آرائه التربوية بسبب اختلاف المنطلق، أو لأنه كتب في التربية بصفة عامة لا بصفة المتخصص، يضاف إلى ذلك أنه لم يستعن عند كتابته في التربية بعلم الطب أو الأجنة كما فعل علماء علم النفس الحديث. ورغم البعد المكاني والزماني لابن الجوزي، فإنه سبق علماء العصر الحديث في بعض آرائه التربوية، وهذا يدل على صلاحية المصادر التربوية الإسلامية لكل زمان ومكان، وموافقة الإسلام للطبيعة الإنسانية كما خلقها الله تعالى، وشموله لكل ما يحتاجه الإنسان في حياته العامة والخاصة. مجمل النتائج: بعد الدراسة والتحليل والتقويم والمقارنة لآراء ابن الجوزي التربوية، ثم بعد ذكر خلاصتها فيما سبق فقد أجملت الباحثة النتائج التي وصلت إليها هنا، لأن القارئ المتعمق يدرك ما فيها من جزئيات لا تحتاج إلى تفصيل مرة أخرى، ولاسيّما أن الباحثة ذكرت في نهاية كل فصل أهم الآراء التربوية المستخلصة منه. وقد حاولت الباحثة أن تكون هذه النتائج مستمدة من الدراسة نفسها، لتكون مفيدة بنّاءة، وتحقق الأهداف المرجوة منها، وتلك النتائج المجملة التي تعتبر خلاصة ملخص

النتائج بعناوينها الأساسية هي الآتية: 1 - الكشف عن الفكر التربوي لابن الجوزي، واستخراج المبادئ والتوجيهات والأساليب التربوية لديه. 2 - تقويم آراء ابن الجوزي التربوية في ضوء القرآن الكريم والسُّنّة النبوية والقواعد الفقهية، وبيان مدى أصالة هذه الآراء وثباتها لأنها مستمدة من المنهج التربوي الإِسلامي. 3 - أسبقية ابن الجوزي لعلماء التربية وعلم النفس الحديث في بعض آرائه التربوية والنفسية. 4 - إمكانية الاستفادة من التوجيهات والمبادئ التربوية لابن الجوزي في تعليمنا وتربيتنا المعاصرة. 5 - إمكانية الاستفادة من طريقة اجتهاداته التربوية المستمدة من القرآن الكريم والسُّنّة النبوية، ومن ضوابط القواعد الفقهية، ومن استعانته بالقصص والشعر والتجارب والخبرات الذاتية فى تعليمنا وتربيتنا المعاصرة. 6 - تحليله للعواطف والانفعالات الإيجابية والسلبية، وتقديم معالجات لبعض الحالات النفسية المرضية معالجة إسلامية فذّة. 7 - من جوانب سمات اهتمامات ابن الجوزي التربوية، الاهتمام بآداب العالم والمتعلم، وغياب مثل هذا الاهتمام في العصر الحديث. فنرى ظاهرة سوء أدب المتعلمين مع المعلمين، ومع الآباء ومع الكبار. 8 - هناك العديد من وجوه الاستفادة من آراء ابن الجوزي فى مجال تربيتنا الإِسلامية المعاصرة. ذكرتها الباحثة بالتفصيل في مواضعها.

الفصل الثاني المقترحات

• الفصل الثاني المقترحات إن المقترحات المنبثقة من هذه الدراسة التربوية لفكر ابن الجوزي، تهدف بوجه خاص وأساسي إلى ترجمة هذه المبادئ والتوجيهات التربوية بالعمل ونقلها من إطارها النظري إلى التطبيق الفعلي في واقع الأُسْرة ثم المدرسة ثم المجتمع بمؤسساته المختلفة. وقد جاءت هذه المقترحات، لتبين أن هذه الدراسة ليست مجرد بحث تربوي تقدمه الباحثة لنيل درجة علمية فقط ثم ليحفظ هذا الجهد العلمي كبعض الجهود العلمية الأُخرى، بل لتثمر هذه الدراسة وتترجم إلى خطط تربوية، ومناهج تعليمية، ووسائل تهذيبية تخدم تربيتنا وتعليمنا المعاصر، بما يتوافق ومنهج الإِسلام الحنيف. وإنني لآمل أن تسهم هذه الدراسة -إن شاء الله- في تصحيح بعض المفاهيم، أو تغيير وتعديل البعض الآخر، لأن هذه الآراء والتوجيهات من صميم المنهج التربوي الإسلامي، نعم إن هذه الدراسة وحدها لن تحدث التغيير المطلوب، ما لم تتضافر الآراء التربوية لجميع علماء المسلمين في سبيل ذلك. كما آمل أن تغني هذه الدراسة مكتبة التربية الإِسلامية التراثية، وتفيد كثيرًا من الباحثين عن التراث التربوي الإِسلامي. لذلك فإن الباحثة من خلال دراستها لآراء ابن الجوزي التربوية، وقراءتها لآراء غيره من العلماء المسلمين لاحظت أن كل بحث يهتم بدراسة عالم من العلماء المسلمين، ويبرز آراءه التربوية، وسبقه للغربيين المعاصرين، وهذه الآراء تتفاوت في كثرتها أو قلتها من عالم لآخر،

ولكن في مجموعها لا تخدم النظام التعليمي والتربوي من جميع جوانبه إلا إذا نفذت الاقتراحات المنبثقة عنها. ويمكن إجمال هذه المقترحات في الآتي: 1 - أن تشكل لجنة علمية، تهتم بجمع الآراء التربوية للعلماء المسلمين ودراستها من جميع الجوانب ثم تصنيف هذه الآراء في مجالات متعددة مثل "أهداف التربية الإسلامية"، "تربية الأطفال والناشئين وفق مراحل العمر" "وسائل التربية الإسلامية وأساليبها"، "آداب العالم والمتعلم" .. وهكذا. وبعد هذه الدراسة والتصنيف وجمع الآراء التربوية لعلماء المسلمين، تحت المجال نفسه، مثل "تربية الأطفال"، تكون اللجنة قد حصلت على آراء تربوية قيّمة في تربية الأطفال لجميع العلماء، ثم تقوم بالتوفيق بين الآراء وإخراجها في صورة مبادئ تربوية مناسبة للتلاميذ في جميع المراحل التعليمية. وإذا ظهرت هذه الخطوة العلمية إلى حيز التطبيق، فإنها لا شك ستغني القارئ المسلم، وطالب العلم بما فيها من عمق وأصالة وفهم للمنهج التربوي الإِسلامي من قبل علمائنا الأجلاء، ويضاف إلى ما سبق أنها ستسهم إلى حد كبير في تأصيل الفكر التربوي الإسلامي في العالم من خلال نشرها وتعميمها والأخذ بمقتضياتها ضمن الخطط والمناهج التعليمية. 2 - تحقيق تراثنا التربوي تحقيقًا علميًّا وتيسير الاستفادة منه، ومن هذا التراث مؤلفات ابن الجوزي وتحقيق المخطوط منه ونشره. 3 - الاهتمام بالفكر التربوي لابن الجوزي ولغيره من العلماء المسلمين، لأنه محاولة جادة لاستمداده غالبًا من المنهج التربوي الإسلامي بمصدريه الكتاب الكريم والسُّنّة النبوية ثم الاجتهاد المنهجي في ضوئهما. 4 - إمكانية تطبيق آراء ابن الجوزي التربوية، لذلك أوصي القائمين على المناهج التعليمية في مملكتنا الحبيبة، باختيار الآراء التربوية المناسبة لكل مرحلة من المراحل التعليمية والعمل وفقها ضمن المقررات

الدراسية. (سبق في الباب السادس بيان وجوه الاستفادة بالتفصيل). 5 - الاستفادة من طريقة ابن الجوزي عند عرضه للآراء التربوية، من خلال فهمه الصحيح للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقواعد الفقهية. 6 - حصر التراث التربوي الإِسلامي وتصنيفه حسب العصور أو حقبة تاريخية معينة. 7 - إنشاء مكتبة تربوية إسلامية تراثية عن طريق جمع كل هذه الرسائل والبحوث التربوية التراثية. 8 - طبع الرسائل الجامعية التربوية التراثية بعد إجراء التعديلات الضرورية. 9 - دراسة خصائص التربية التراثية ومميزاتها، ومعرفة المناهج العلمية المستخدمة عند كتابتها. 10 - دراسة تطور التفكير التربوي الإِسلامي عبر العصور السابقة، وملامح كل عصر من تلك العصور، وأهم المؤثرات الموجهة للتربية فيه. 11 - دراسة خصائص الفكر التربوي لدى العلماء المسلمين السابقين، ومقارنتها بالواقع الحالي للمتعلمين. 12 - عقد بعض المؤتمرات والندوات التربوية التي تركز على طرق إحياء التراث التربوي الإِسلامي للعلماء المسلمين، وإبراز أنماط دراستها دراسة مكتبية فنية، بحيث يستفيد منها الباحثون وتساعد على سرعة إنجاز بحوثهم، وتُعمل أدلة لتلك البحوث وفهرسة تحليلية لها. 13 - دراسة عوامل اندثار مثل هذا النسق من التفكير التربوي الإسلامي، وبقائها في طي النسيان في واقعنا التربوي، ثم دراسة وضع التربية الغربية المنفذة في الأنظمة التعليمية والتربوية في البلاد الإسلامية، وخطرها وأثرها في تشكيل الشخصية المسلمة. 14 - العمل على كشف المنهج التربوي التعليمي لدى علماء المسلمين وبخاصة في عصور ازدهار العلم والحضارة الإسلامية التي سبق فيها المسلمون غيرهم في العلوم والصناعات الاقتصادية ولذا ما كانوا

يحتاجون فيها إلى غيرهم ولا إلى إرسال أبنائهم إلى الدول الأجنبية، وما كانوا يحتاجون إلى غيرهم في المعونة الاقتصادية والصناعات وما إلى ذلك. 15 - الاهتمام بإدخال التغيير المناسب في مناهج كليات التربية وكليات المعلمين لتعدَّ المجتهد التربوي المسلم الذي لديه الأهلية للاجتهاد التربوي، مع تغيير النظم واللوائح المساعدة على هذا الإعداد.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1 - القرآن الكريم. 2 - إبراهيم، صبحي، طه، رشيد. التربية الإسلامية وأساليب تدريسها. عمان، دار الأرقم للكتب، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1986 م. 3 - الأتابكي، جمال الدين، أبو المحاسن، يوسف، بن تغري بردي. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب مع استدراكات وفهارس جامعة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، دون تاريخ. 4 - الأثري، عبد الرحمن، علي، بن محمد، بن عمر، الشيباني، الشافعي. كتاب تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث. بيروت، دار الكتاب العربي، دون تاريخ. 5 - أحمد، د. سعد، مرسي وعلي. د. سعيد، إسماعيل. تاريخ التربية والتعليم القاهرة، عالم الكتب، 1973 م. 6 - الأصبهاني، أبو القاسم، إسماعيل، محمد، بن الفضل، الجوزي. الترغيب والترهيب. (خرَّج الأحاديث) زغلول، محمد، السعيد، بسيوني، (راجعه) زايد، محمود، إبراهيم، بيروت، مؤسسة الخدمات الطباعية حسيب درغام وأولاده، دون تاريخ. 7 - الأصبهاني، أبو محمد، عبد الله، بن محمد، بن جعفر، بن حيان، أبو الشيخ. العظمة. (تحقيق) المباركفوري، رضاء الله، محمد إدريس، الرياض، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1408 هـ. 8 - الألباني، محمد، ناصر الدين. سلسلة الأحاديث الصحيحة. دمشق، بيروت، المكتب الإسلامي، المجلد الأول والثاني الطبعة الثانية في عام 1399 هـ - 1979 م. والمجلد الثالث والرابع طبع في الرياض، مكتبة دار المعارف، الطبعة الثالثة، عام 1407 هـ - 1987 م، والطبعة الرابعة، 1408 هـ - 1988 م.

9 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ على الأُمّة. دون ناشر، 1398 هـ. 10 - صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية عام 1406 هـ - 1986 م. 11 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير). بيروت، المكتب الإِسلامي، الطبعة الثانية، 1399 هـ - 1979 م. 12 - غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام. بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1405 هـ - 1985 م. 13 - الأهواني، د. أحمد، فؤاد. التربية في الإسلام. القاهرة، دار المعارف، دون طبعة. 14 - أمين، مصطفى. تاريخ التربية. مصر، مطبعة المعارف بشارع الفجّالة، الطبعة الثانية، 1344 هـ - 1926 م. 15 - أوبير، رونيه. التربية العامة. (ترجمة) عبد الدائم، د. عبد الله، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، 1982 م. 16 - البار، د. محمد، علي. خلق الإنسان بين الطب والقرآن. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م. 17 - موت القلب أو موت الدماغ. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 18 - الوجيز في علم الأجنة القرآني. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 19 - البخاري، محمد، بن إسماعيل. الأدب المفرد. بيروت، دار الكتب العلمية. دون تاريخ. 20 - بدوي، عبد الرحمن. الأخلاق عند كنت. الكويت، وكالة المطبوعات، 1989 م. 21 - البستي، محمد، بن حبان، أحمد، التميمي. المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين. (تحقيق) زايد، محمود، إبراهيم، بيروت، لبنان، دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ. 22 - البغدادي، إسماعيل، باشا. هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنفين. بيروت، دار العلوم الحديثة، طبع في استانبول سنة 1981 م. 23 - البغدادي، زين الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن، بن شهاب الدين، بن أحمد، بن رجب، الحنبلي. جامع العلوم والحكم. مؤسسة الكتب الثقافية، دون تاريخ.

24 - كتاب الذيل على طبقات الحنابلة. بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، 1372 هـ - 1952 م. 25 - بغدادي، عبد الله، عبد المجيد. الانطلاقة التعليمية فى المملكة، أصولها، جذورها، أولياتها. جدة، دار الشروق، الطبعة الثانية، 1406 هـ - 1985 م. 26 - البلالي، عبد الحميد. البيان [في] مداخل الشيطان. بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م (*). 27 - البنا، حسن. مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا. بيروت، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، الطبعة الثالثة، 1403 هـ - 1983 م. 28 - بيصار، د. محمد. العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع. بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الرابعة، 1973 م. 29 - البيضاوي، ناصر الدين، أبو سعيد عبد الله بن عمر، الشيرازي. أنوار التنزيل وأسرار التأويل. بيروت، دار الجيل، دون تاريخ. 30 - التبريزي، محمد، بن عبد الله، الخطيب. مشكاة المصابيح. (تحقيق) الألباني، محمد، ناصر الدين، بيروت، المكتب الإِسلامي، الطبعة الثالثة عام 1405 هـ - 1985 م. 31 - الترابي، حسن. الإيمان أثره في حياة الإنسان. الكويت، دار القلم، الطبعة الأولى، 1394 هـ - 1974 م. 32 - التميمي، عز الدين وسمرين، بدر، إسماعيل. نظرات التربية الإسلامية. عمان، دار البشير، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 33 - توق، د. محيي الدين وعدس، عبد الرحمن. أساسيات علم النفس التربوي. نيويورك، جون وايلي وأولاده، دون تاريخ. 34 - ابن تيمية، تقي الدين، أحمد بن عبد الحليم. العبودية. الرياض، مكتبة المعارف، دون طبعة، 1404 هـ - 1984 م. 35 - ابن جبير. رحلة ابن جبير. بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، 1404 هـ - 1984 م. 36 - الجراحي، إسماعيل، محمد، العجلوني. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. (تحقيق) القلاش، أحمد، القاهرة، مكتبة التراث الإسلامي ودار التراث. 37 - الجرجاني، علي، محمد، علي. كتاب التعريفات. (حققه وقدم له ووضع فهارسه) الأبياري، إبراهيم، بيروت، دار الكتاب العربي، 1405 هـ - 1985 م. 38 - الجزري، مجد الدين، ابن الأثير. جامع الأصول في أحاديث الرسول. (تحقيق)

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع (1400 هـ - 1983 م)، ولا يستقيم، والطبعة الأولى للكتاب كانت (1400 هـ - 1980 م)، والله أعلم

الأرناؤوط عبد القادر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 39 - الجمالي، د. محمد، فاضل. نحو تربية مؤمنة. تونس، الشركة التونسية للتوزيع، الطبعة الأولى، 1977 م. 40 - الجندي، أنور. التربية وبناء الأجيال فى ضوء الإسلام. بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، 1975 م. 41 - الجوزجاني، أبو إسحاق، إبراهيم، بن يعقوب. أحوال الرجال. (تحقيق) السامرائي، السيد، صبحي، البدري، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 42 - الجوزو، محمد, علي. مفهوم العقل والقلب في القرآن والسُّنّة. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 1980 م. 43 - ابن الجوزي، جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن، بن علي. أحكام النساء. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 44 - أخبار الحمقى والمغفلين. بيروت، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الخامسة، 1403 هـ - 1983 م. 45 - الأذكياء. دمشق، مكتبة الإحسان للطباعة والنشر والتوزيع، دون تاريخ. 46 - التبصرة. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى. بيروت، مؤسسة جمال، الطبعة الأولى، 1390 هـ - 1970 م. 47 - تلبيس إبليس. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1378 هـ. 48 - تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر. من كتاب التحفة البهية والطرفة الشهية. بيروت، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م. 49 - الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفَّاظ. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 50 - ذم الهوى. (تحقيق) عبد الواحد، د. مصطفى. (مراجعة) الغزالي، محمد، الطبعة الأولى، 1381 هـ - 1962 م. 51 - زاد المسير في علم التفسير. دمشق - بيروت، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1384 هـ - 1964 م. 52 - صيد الخاطر. (راجعه ووضع مقدمته وعلق عليه) الطنطاوي، علي و (حققه ووضع فهارسه وعناوين فصوله) الطنطاوي، ناجي، دمشق، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ - 1978 م. 53 - صيد الخاطر. بيروت، المكتبة العلمية، دار الباز للطباعة والنشر، دون تاريخ.

54 - كتاب القصاص والمذكرين. (تحقيق) الصباغ، د. محمد، لطفي، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م. 55 - اللطائف والطب الروحاني. (تحقيق) عطا، عبد القادر، أحمد، القاهرة، مكتبة القاهرة، دون تاريخ. 56 - كتاب اللطف في الوعظ. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1984 م. 57 - لفتة الكبد إلى نصيحة الولد. القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها، دون تاريخ. 58 - مشيخة ابن الجوزي. (تحقيق) محفوظ، محمد، (أثينا - بيروت، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1400 هـ - 1980 م. 59 - مناقب الإمام أحمد بن حنبل. (تحقيق) لجنة إحياء التراث العربي، بيروت، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الثالثة، 1402 هـ - 1982 م. 60 - كتاب المنتظم. (دراسة وتحقيق) الحكيم، د. حسن، عيسى، علي، بيروت، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 61 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. حيدر آباد، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، 1358 هـ. 62 - الموضوعات. (تحقيق) عثمان، عبد الرحمن، محمد. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 63 - الجيار، سيد، إبراهيم. دراسات في تاريخ الفكر التربوي. القاهرة، مكتبة غريب، دون تاريخ. 64 - ابن حنبل، أحمد. العلل ومعرفة الرجال. (تعليقات وحواشي) قوج بكيت، د. طلعت وجرّاح أوغلي، د. إسماعيل، استانبول، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1987 م. 65 - المسند. وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. بيروت، المكتب الإسلامي، دار صادر، الطبعة الخامسة، 1405 هـ - 1985 م. 66 - الحنبلي، أبو الفلاح، عبد الحي، بن العماد. شذرات الذهب في أخبار من ذهب. بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، دون تاريخ. 67 - خلاف، عبد الوهاب. علم أصول الفقه. الكويت، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة العاشرة، 1392 هـ - 1972 م. 68 - أبو داود، سليمان، بن الأشعث، السجستاني، الأزدي. رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه. (حققها وعلق عليها) الصباغ، د. محمد، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1401 هـ.

69 - سنن أبي داود. (إعداد وتعليق) الدعاس، عزت، عبيد والسيد، عادل، حمص - سورية، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1394 هـ - 1974 م. 70 - سنن أبي داود. (تحقيق) عبد الحميد، محمد، محيي الدين، دار إحياء السُّنّة النبوية، دون تاريخ. 71 - الداودي، شمس الدين، محمد، بن علي، بن أحمد. طبقات المفسرين. (تحقيق) عمر، علي، محمد، القاهرة، مركز تحقيق التراث بدار الكتب، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1392 هـ - 1972 م. 72 - الدفاع، د. علي، عبد الله. العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية. بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م. 73 - الدمشقي، شهاب الدين، أبو العباس الحنبلي الحراني. المسودة في أصول الفقه. (تحقيق) عبد الحميد، محمد، محيي الدين، بيروت، دار الكتاب العربي، دون تاريخ. 74 - دياب، د. عبد الحميد وقرقوز، د. أحمد. مع الطب في القرآن الكريم. دمشق، مؤسسة علوم القرآن، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م. 75 - الديلمي، أبو شجاع، شيرويه، بن شهرزاد، بن شيرويه، الهمداني. الفردوس بمأثور الخطاب. (تحقيق) زغلول، السعيد، بسيوني، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 76 - الذهبي، الحافظ. تذكرة الحفاظ. بيروت، دار إحياء التراث العربي، دون تاريخ. 77 - التلخيص بذيل المستدرك على الصحيحين. (إشراف) المرعشلي، د. يوسف عبد الرحمن. بيروت، دار المعرفة، دون تاريخ. 78 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1403 هـ - 1983 م. 79 - راجح، د. أحمد، عزت. أصول علم النفس. الإسكندرية، المكتب المصري الحديث، الطبعة التاسعة، دون تاريخ. 80 - الرازي، عبد الرحمن، المنذر، التميمي. كتاب الجرح والتعديل. حيدر آباد الدكن - الهند، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الطبعة الأولى، 1372 هـ -1952 م. 81 - الزرنوجي، برهان الدين. تعليم المتعلم طريق التعلم. (تحقيق) الخيمي، صلاح، محمد وحمدان، نذير، دمشق - بيروت، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1985 م. 82 - الزنداني, عبد المجيد وآخرون. الإيمان. دمشق، دار القلم، الطبعة الرابعة، 1406 هـ - 1986 م.

83 - زهران، د. حامد، عبد السلام. علم نفس النمو. القاهرة، عالم الكتب، الطبعة الرابعة، 1977 م. 84 - أبو زهرة، محمد. أصول الفقه. القاهرة، دار الفكر العربي، 1377 هـ - 1958 م. 85 - تنظيم الإسلام للمجتمع. القاهرة، دار الفكر، 1385 هـ - 1965 م. 86 - زيدان، د. محمد، مصطفى. معجم المصطلحات النفسية والتربوية. جدة، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م. 87 - سابق، السيد. فقه السنة. بيروت، دار الكتاب العربي، دون تاريخ. 88 - السدلان، د. صالح، غانم. النية وأثرها في الأحكام الشرعية. الرياض، مكتبة الخريجي، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م. 89 - السمالوطي، د. نبيل، محمد، توفيق. الإسلام وقضايا علم النفس الحديث. دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1400 هـ - 1980 م. 90 - السمرقندي، نصر بن محمد بن إبراهيم. تنبيه الغافلين. (تحقيق) الوكيل، عبد العزيز، محمد، جدة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، 1407 هـ - 1986 م. 91 - السمعاني، عبد الكريم، محمد. أدب الإملاء والاستملاء. (تحقيق) زيعور، شفيق، محمد، لبنان، دار اقرأ، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م. 92 - ابن سورة، أبو عيسى، محمد، بن عيسى. الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي. (تحقيق) عوض، إبراهيم، عطوة، القاهرة، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1395 هـ - 1975 م. 93 - السيد، د. فؤاد البهي. الأسس النفسية للنمو. دون ناشر، الطبعة الرابعة، 1975 م. 94 - الذكاء. القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الرابعة، 1976 م. 95 - ابن سينا، أبو علي، الحسين بن عبد الله. دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية. بيروت، دار إحياء العلوم، الطبعة الثانية، 1405 هـ - 1985 م. 96 - السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمن. تاريخ الخلفاء. بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دون تاريخ. 97 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. (حققه وراجع أصوله) عبد اللطيف، عبد الوهاب، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، عام 1409 هـ - 1989 م. 98 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير. بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م. 99 - الشاطبي، أبو إسحاق، إبراهيم بن موسى، اللخمي، الغرناطي، المالكي. الموافقات في أصول الشريعة. (حققه) دراز، عبد الله، (ضبطه وفصّله ووضع

تراجمه) دراز، محمد عبد الله، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية، 1395 هـ - 1975 م. 100 - شاكر، أحمد، محمد. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير. بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1370 هـ - 1951 م. 101 - شلبي، د. أحمد. موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية. القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السابعة، 1982 م. 102 - شمس الدين، د. عبد الأمير. الفكر التربوي عند ابن طفيل. بيروت، دار اقرأ للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م. 103 - الشوكاني، محمد علي. الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة. (تحقيق) اليماني، عبد الرحمن، يحي المعلّمي، بيروت - دمشق، المكتب الإِسلامي، الطبعة الثالثة، 1402 هـ. 104 - نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار. بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ. 105 - الشيباني، د. عمر، محمد التومي. الأسس النفسية والتربوية لرعاية الشباب. بيروت، دار الثقافة، 1393 هـ - 1973 م. 106 - تطور النظريات والأفكار التربوية. ليبيا - تونس، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثانية، 1397 هـ - 1977 م. 107 - فلسفة التربية الإسلامية. ليبيا، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الثانية، 1978 م. 108 - من أسس التربية الإسلامية. طرابلس، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الثانية، 1391 هـ - 1982 م. 109 - صالح، د. أحمد زكي. علم النفس التربوي. القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة عشرة، دون تاريخ. 110 - الصالح، د. صبحي. علوم الحديث ومصطلحه. (عرض ودراسة)، بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الحادية عشرة، 1979 م. 111 - مباحث في علوم القرآن. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة عشرة، 1982 م. 112 - ابن الصلاح، أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن، الشهرزوري. مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث. بيروت، دار الكتب العلمية، طبعة عام 1398 هـ - 1978 م. 113 - صليبا، جميل. المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية. بيروت، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، دار الكتاب المصري، الجزء

الأول طبع عام 1978 م، والجزء الثاني عام 1979 م. 114 - طالبي، عمار. آراء أبي بكر بن العربي الكلامية. الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، دون تاريخ. 115 - الطحان، د. محمود. أصول التخريج ودراسة الأسانيد. الرياض، مكتبة الرشد، الطبعة الخامسة 1403 هـ - 1983 م. 116 - تيسير مصطلح الحديث. الرياض، مكتبة دار المعارف، الطبعة الثامنة، 1407 هـ - 1987 م. 117 - الطويل، د. توفيق. فلسفة الأخلاق، نشأتها وتطورها. القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 1979 م. 118 - عاقل، د. فاخر. التربية قديمها وحديثها. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة، 1981 م. 119 - عبد الدائم، د. عبد الله. التربية عبر التاريخ. بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة، 1984 م. 120 - عبد العال، د. حسن، إبراهيم. مقدمة فى فلسفة التربية الإسلامية (التربية والطبيعة الإنسانية). الرياض، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، 1405 هـ - 1985 م. 121 - عبد القادر، حامد وآخرون. في علم النفس. القاهرة، دار المعرفة للطبع والنشر، 1351 هـ - 1932 م. 122 - عبد الله، د. عبد الرحمن، صالح. ابن الجوزي وتربية العقل. مكة المكرمة، شركة مكة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 123 - ابن عبد الوهاب، محمد. مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (تحقيق) الفقي، محمد، حامد، المملكة العربية السعودية، نشر وتوزيع إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1375 هـ - 1956 م. 124 - عتر، د. نور الدين. منهج النقد في علوم الحديث. دمشق، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1401 هـ - 1981 م. 125 - العثمان، عبد الكريم. الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص. القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية، 1401 هـ - 1981 م. 126 - عز الدين، توفيق، محمد. دليل الأنفس بين القرآن الكريم والعلم الحديث. القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1986 م. 127 - العساف، د. صالح بن حمد. المدخل إلى البحث فى العلوم السلوكية. الرياض، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1409 هـ - 1989 م.

128 - العسقلاني، أحمد، بن علي، بن حجر. تقريب التهذيب. (تحقيق) عبد اللطيف، عبد الوهاب، بيروت، دار المعرفة، دون تاريخ. 129 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري. (رقَّم كتبه وأبوابه وأحاديثه) عبد الباقي، محمد فؤاد، (قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه) الخطيب، محب الدين، بيروت، دار المعرفة، دون تاريخ. 130 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. جدة، مكتبة جدة، طبعة عام 1406 هـ. 131 - العُقَيلي، أبو جعفر، محمد، بن عمرو، بن موسى، بن حماد. الضعفاء الكبير. (تحقيق) قلعجي، د. عبد المعطي، أمين، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1404 هـ - 1984 م. 132 - علوان، د. فارس. وفي الصلاة صحة ووقاية. جدة، دار المجتمع للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 133 - العلوجي، عبد الحميد. مؤلفات ابن الجوزي. بغداد، شركة دار الجمهورية للنشر والطبع، 1385 هـ - 1965 م. 134 - العلي، محمد، بن صفوك. تكاليف القلب السليم. الكويت، مكتبة الصحابة الإِسلامية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 135 - العمادي، أبو السعود، محمد، بن محمد. تفسير أبي السعود. بيروت، دار إحياء التراث العربي، دون تاريخ. 136 - عمر، محمد، زيان. البحث العلمي مناهجه وتقنياته. القاهرة، 1974 م. 137 - عودة، عبد القادر. المال والحكم في الإسلام. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة، 1984 م. 138 - الغريب، د. رمزية. التعلّم. القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة السادسة، 1978 م. 139 - الغزالي، أبو حامد، محمد، بن محمد. إحياء علوم الدين. بيروت، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 140 - المستصفى من علم الأصول وبذيله فواتح الرحموت بشرح مسلَّم الثبوت في الفقه. بيروت، دار العلوم الحديثة، دون تاريخ. 141 - معيار العلم في فن المنطق. (حققه وخرَّج أحاديثه) أبو العلا، محمد، مصطفى. القاهرة، مكتبة الجندي، 1392 هـ - 1972 م. 142 - فراج، عثمان، لبيب. أضواء على الشخصية والصحة العقلية. القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، 1970 م. 143 - فهمي، أسماء، حسن. مبادئ التربية الإسلامية. القاهرة، مطبعة لجنة التأليف

والترجمة والنشر، 1366 هـ - 1947 م. 144 - فهمي، د. مصطفى. الصحة النفسية. القاهرة، مكتبة الخانجي، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1987 م. 145 - القاضي، د. يوسف، مصطفى ويالجن، د. مقداد. علم النفس التربوي. الرياض، دار المريخ، 1401 هـ - 1981 م. 146 - ابن قُدامة، موفق الدين وشمس الدين. المغني ويليه الشرح الكبير. بيروت، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، 1403 هـ - 1983 م. 147 - القرضاوي, يوسف. الإيمان والحياة. القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الخامسة، 1397 هـ - 1977 م. 148 - العبادة في الإسلام. بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادية عشرة، 1403 هـ - 1983 م. 149 - القرطبي، أبو عبد الله، محمد الأنصاري. الجامع لأحكام القرآن. (تحقيق) البردوني، أحمد عبد العليم، الطبعة الثانية، 1372 هـ - 1952 م. 150 - القضاة، د. شرف. متى تنفخ الروح في الجنين. الأردن، دار الفرقان، الطبعة الأولى، 1410 هـ - 1990 م. 151 - قطب، محمد. دراسات فى النفس الإنسانية. دار الشروق، 1394 هـ - 1974 م. 152 - دراسات قرآنية. بيروت - القاهرة، دار الشروق، دون تاريخ. 153 - منهج التربية الإسلامية. دار الشروق، الطبعة الثانية، دون تاريخ. 154 - ابن قيم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله محمد. تهذيب مدارج السالكين. (هذبه) العربي، عبد المنعم، صالح العلي، جدة، المملكة العربية السعودية، دار المطبوعات الحديثة، محرم 1402 هـ. 155 - الروح. الرياض، دار الرشد للنشر والتوزيع، دون تاريخ. 156 - روضة المحبين ونزهة المشتاقين. مكة المكرمة، الباز، عباس، أحمد، دون تاريخ. 157 - الطب النبوي. (تحقيق) قلعجي، عبد المعطي القاهرة، دار التراث، الطبعة الأولى، 1398 هـ - 1978 م. 158 - طريق الهجرتين وباب السعادتين. بيروت، دار الكتاب العربي، دون تاريخ. 159 - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين. بيروت، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الرابعة، 1400 هـ - 1980 م. 160 - الفوائد. بيروت، دار العلوم الحديثة، دون تاريخ.

161 - كاريل، الكسيس. الإنسان ذلك المجهول. (تعريب) فريد، شفيق، أسعد، بيروت، مكتبة المعارف، الطبعة الثالثة، 1980 م. 162 - الكناني، أبو الحسن، علي بن محمد بن عراق. تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة. (تحقيق) عبد اللطيف، عبد الوهاب، محمد، بيروت، دار الكتب العلمية، 1399 هـ -1979 م. 163 - ابن كثير، الحافظ. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث. (تأليف) شاكر، أحمد، محمد، (مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، الطبعة الثانية، 1370 هـ - 1951 م. 164 - البداية والنهاية. بيروت، مكتبة المعارف، الطبعة الثانية، 1977 م. 165 - لبن، علي. الغزو الفكري في المناهج الدراسية. المنصورة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 166 - ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد، القزويني. سنن ابن ماجه. (حقَّقه ووضع فهارسه بالكمبيوتر) الأعظمي، محمد، مصطفى، الرياض، شركة الطباعة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م. 167 - المبارك، محمد. بين الثقافتين الغربية والإسلامية. دار الفكر، 1400 هـ - 1980 م. 168 - المجتمع الإسلامي المعاصر. بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1399 هـ - 1979 م. 169 - محمد، محمد، محمود. علم النفس المعاصر في ضوء الإسلام. دار الشروق، دون تاريخ. 170 - مسكويه، أبو علي، أحمد بن محمد بن يعقوب، الرازي. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق. (قدم له) تميم، حسن، بيروت، الطبعة الثانية، "منقحة"، دون تاريخ. 171 - المكي، أبو محمد، عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان، اليافعي، اليمني. مرآة الجنان وعبرة اليقظان فى معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان. بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الثانية، 1390 هـ - 1970 م. 172 - المناوي، محمد عبد الرؤوف. فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير. بيروت، دمشق، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دون تاريخ. 173 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، محمد بن مكرم. لسان العرب. بيروت، دار صادر ودار الفكر، دون تاريخ. 174 - مونسما، جون، كلوفر. الله يتجلى في عصر العلم. (ترجمة) سرحان، د. الدمرداش، عبد المجيد، (راجعه وعلق عليه) الفندي، د. محمد جمال الدين،

القاهرة، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 1968 م. 175 - الميداني، عبد الرحمن، حسن حبنكة. ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة. دمشق، بيروت، دار القلم، الطبعة الأولى، 1395 هـ - 1975 م. 176 - ناصر، د. محمد. الفكر التربوي العربي الإسلامي. الكويت، وكالة المطبوعات، الطبعة الأولى، 1977 م. 177 - النجار، زغلول، راغب. أزمة التعليم المعاصر. الكويت، مكتبة الفلاح، الطبعة الأولى، 1400 هـ -1980 م. 178 - النجيحي، د. محمد، لبيب. فلسفة التربية. القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية، 1967 م. 179 - ابن نُجَيم، زين العابدين، بن إبراهيم. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان. بيروت، دار الكتب العلمية، 1400 هـ - 1980 م. 180 - النحلاوي، عبد الرحمن. أصول التربية الإسلامية وأساليبها فى البيت والمدرسة والمجتمع. دمشق، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1399 هـ - 1979 م. 181 - التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة. بيروت، المكتب الإِسلامي، الرياض، مكتبة أسامة، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م. 182 - النَّسائي، أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب. الضعفاء والمتروكون. (تحقيق) الضناوي، بوران والحوت، كمال، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى، 1405 هـ - 1985 م. 183 - سنن النسائي. بيروت، دار الكتاب العربي، دون تاريخ. 184 - نصر، د. عبد اللطيف أحمد. غذاؤك في الصحة والمرض. جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دون تاريخ. 185 - نُصَير، د. آمنه محمد. أبو الفرج ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية. القاهرة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 186 - النيسابوري، أبو الحسين، مسلم بن الحجّاج، القشيري. صحيح مسلم. (تحقيق) عبد الباقي، محمد فؤاد، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1972 م. 187 - النيسابوري، أبو عبد الله، الحاكم. المستدرك على الصحيحين وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي. (إشراف) المرعشلي، د. يوسف، عبد الرحمن، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 188 - الهاشمي، د. عبد الحميد، محمد. أصول علم النفس العام. جدة, دار الشروق، الطبعة الثانية، 1407 هـ - 1986 م. 189 - علم النفس التكويني. القاهرة، مكتبة الخانجي، الطبعة الثالثة، 1976 م.

190 - الفروق الفردية. بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م. 191 - الهندي، علي، المتَّقي. منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال على هامش مسند الإمام أحمد بن حنبل. (وضعه) الألباني، محمد، ناصر الدين، بيروت، المكتب الإِسلامي، الطبعة الخامسة، 1405 هـ - 1985 م. 192 - الهيثمي، نور الدين، علي بن أبي بكر. كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة. (تحقيق) الأعظمي، حبيب الرحمن، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1404 هـ - 1984 م. 193 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. (تحرير الحافظين الجليلين) العراقي وابن حجر، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 1402 هـ - 1982 م. 194 - يالجن، د. مقداد. بناء البيت السعيد في ضوء الإسلام. الرياض، دار المريخ، 1408 هـ - 1987 م. 195 - التربية الأخلاقية الإسلامية. القاهرة، مكتبة الخانجي، 1397 هـ - 1977 م. 196 - توجيه المتعلم في ضوء التفكير التربوي الإسلامي. الرياض، دار المرّيخ، الطبعة الأولى، 1402 هـ - 1982 م. 197 - جوانب التربية الإسلامية الأساسية. بيروت، مؤسسة دار الريحاني للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1406 هـ - 1986 م. 198 - منابع مشكلات الأُمّة الإسلامية والعالم المعاصر ودور التربية الإسلامية وقيمها في معالجتها. الرياض،، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1990 م. 199 - دليل التأصيل الإسلامي للتربية. عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية، بالتعاون مع إدارة الثقافة والنشر، الطبعة الأولى، 1411 هـ.

فهرس الدوريات

فهرس الدوريات 1 - أحمد، محمد، خلف الله. "الذكاء عند ابن الجوزي". جملة دراسات تربوية. القاهرة، رابطة التربية الحديثة، 13 ميدان التحرير، يونيه 1987 م، المجلد الثاني، الجزء السابع. 2 - بوياجيلار، نور الدين، شكري. فهرس مؤلفات أبي الفرج ابن الجوزي. المخطوطة بمكتبات تركيا: مجلة كلية أصول الدين، العدد الرابع، الرياض، 1402 هـ - 1403 هـ. 3 - دليل قسم التربية بكلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. 4 - عبد العال، د. حسن، إبراهيم. "من ملامح الفكر التربوي عند الإمام أبي الفرج ابن الجوزي". مجلة رسالة الخليج العربي. الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، السنة الرابعة، 1404 هـ - 1984 م، العدد الثالث عشر. 5 - أبو العينين، د. علي، خليل. "الفكر التربوي الإسلامي. مصادره. معطياته. حركته". مجلة رسالة الخليج العربي. الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج، السنة السادسة، 1406 هـ -1986 م. العدد السابع عشر. 6 - المبارك، محمد، "المؤتمر العالمي الخامس للتربية الإسلامية" بالقاهرة من 8 - 13 رجب 1407 هـ" مجلة التضامن الإسلامي، مكة المكرمة، وزارة الحج والأوقاف، السنة الثالثة والأربعون الجزء التاسع، رمضان 1407 هـ - 1987 م. 7 - الهراس، د. عبد السلام. "أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد". مجلة رسالة الخليج العربي. من أعلام التربية العربية الإسلامية. مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1409 هـ - 1988 م، المجلد الثالث. 8 - يالجن، د. مقداد. مرئيات ومقترحات حول تأصيل العلوم الاجتماعية. الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الثلاثاء والأربعاء 5, 6/ 6/ 1407 هـ، ندوة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية المنعقدة في يومي 5 - 6/ 6/ 1407 هـ.

§1/1