آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد

مدحت آل فراج

تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - حفظه الله -

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - حفظه الله - الحمد لله المنفرد بالخلق والإيجاد الذي توحيده على جميع العباد وأشهد أنه إله الحق المتعالي عن الأنداد وأنه أرسل الرسل لإقامة الحجج وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وعم برسالته الحاضر والباد. أما بعد فقد تصفحت هذا الكتاب الذي بعنوان (آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد) فوجدته كتاباً قيماً في موضوعه: إقامة الحجة وقطع المعذرة وأن الله تعالى قد نصب له الآيات والبراهين ما تعرف به إلى عباده وأعطاهم من الأدلة والبينات ما يعرفون به ربهم وإلههم وما خلقوا له وما يجب أن يتعبدوا به ومع ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان ما خلق الخلق له بالتفصيل وبذلك قامت حجة الله على العباد وانقطعت المعذرة ومع أنه تعالى ما كلف العباد إلا بما يطيقون وما في وسعهم وما شهدت فطرهم وعقولهم بحسنه وملاءمته ولا شك أن من تأمل شرائع الأنبياء واعتبر ما جاؤوا به وأمعن النظر في الأحكام والأوامر والنواهي تحقق وتيقن أنها تنزيل من حكيم حميد وبعيدة عن أحكام البشر وقوانينهم واقتراحاتهم فلهذا صلحت للحاضر والماضي والمستقبل ولم تحتج إلى تغيير أو تجديد رغم طول الزمان وتتابع القرون وإنما أنكرها أو تركها من فسدت فطرهم وتغيرت عقولهم وتلوثت أفكارهم بالاقتراحات الغربية والقوانين الوضعية ولقد أحسن هذا الكاتب في استيفاء النقول التي انتقاها من كلام فحول العلماء من المفكرين والعقلاء والجهابذة المشهورين فكلل الله جهده ونفع بهذا الكلام وهذه الرسالة المسلمين. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً). أما بعد: لا جرم أن الصراع الأبدي القائم بين معسكري الإيمان والكفر لم يكن صراعاً قط بين: أسماء بلا مسميات، ولا بين أشكال بلا مضامين، ولا بين انتساب مزور للمنتسب إليه ... وإنما حقيقة الصراع الأبدي الرهيب قائمة وسط: حقائق، ومسميات، ومضامين. فالصراع مشتعل بين: حقيقتي التوحيد والشرك؛ وملتهب بين: مضموني الإيمان والكفر؛ ومتأجج بين مسمى الحق والباطل. وبجلاء هذه الحقيقة الغائبة التائهة نلمس ونتيقن: علة استباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ومقدساتهم وسط جماهيره الغفيرة - والتي يُستعصى حصرها على العادّين - دون تحريك ساكن، أو تسكين متحرك، اللهم إلا الشجب والإدانة! تلك الألفاظ الرنانة التي تعرت عن معانيها

ولوازمها، والتي حرم عليها مجاوزة محلها من صفحات الجرائد والمجلات، وتمتمات رجال الإذاعة والتلفاز! قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها" (¬1). فأول هذه الأمة لما قاموا بحقائق التوحيد ومقتضياته: علماً، وعملاً، واعتقاداً، وسلوكاً؛ أظلتهم الرحمة، وغشيتهم العافية، وضمن لهم مولاهم تبارك وتعالى: النصر، والعلو، والتمكين، ولو اجتمع عليهم من بأقطار المعمورة حتى يسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً. وآخر هذه الأمة لما غفل كثير من المنتسبين إليها عن: معنى التوحيد وأركانه وشروطه، وضاع فرقانه بينهم، واختلطت أعلامه بأعلام ضده ونقيضه من الشرك والإلحاد، ومن ثم عاد مختزلاً بينهم: تارة في النطق فقط، وتارة في الاعتقاد دون العمل، وتارة في الانتساب المزيف، وتارة في إرث موروث بلا بينة ولا برهان، وتارة في شهادات الميلاد وبطاقات الرشد وجوازات المرور ... وترتب على تلك الغفلة: * تسلط الأعداء ومعاينة البلاء حتى صار أمرنا كالغنم المائجة على وجهها هربا من ذئاب رعاتها وأعدائها، لا تدري لماذا الفرار ولا أين القرار. * ضياع الأمانة الملقاة على عاتق الأمة. * قلب الموازين والقيم. * تأمين الخائن والزنديق. * تخوين المؤمن الأمين. * ترئيس العتاة المتكبرين. * العمل على استئصال الموحدين المخلصين. * السعي على ظهور وعلو المفسدين الضالين. * رفع رايات الإلحاد والعلمانية. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 161، 191) والإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة برقم: 46، والنسائي في البيعة وابن ماجه في الفتن.

* إخماد راية التوحيد والإيمان. * موالاة المشركين والكافرين. * البراءة من حزب الله الموحدين. * تنحية شرائع الرحمن. * تحكيم شرائع الشيطان. * الدعوة إلى التوحيد الصافي أصبحت جريمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام. * الدعوة إلى الإلحاد والتشكيك في أصول الاعتقاد غدت مستندات الحياة الآمنة الرغدة الهنيئة ... إن في الأفق ملامحاً أكيدة، وقرائن عديدة، وخطوطاً عريضة: منذرة ومحذرة بقرب وقوع المعركة الفاصلة بين: المسلمين الموحدين، وبين قوى الكفر قاطبة على اختلاف مللهم ونحلهم وعقائدهم. إن كفار اليوم قد صفوا كافة حساباتهم بينهم، وغضوا الطرف جانباً عنها، ريثما يتم التخلص من المسلمين والقضاء على دينهم. إن كفار اليوم قد أعدوا العدة وشحذوا الهمم، وامتطوا الجياد، وسلوا السيوف، وصفوا الصفوف ... وما زال كثير من الدعاة والمربين والمصلحين مصرين: على وضع الغمامة على أعينهم، وعلى جعل أصابعهم في آذانهم، خشية تشخيص الداء القتال الذي يفتك بجسد الأمة، ويوهن صلبها، ويسلمها صيداً ثميناً لأعدائها، ينهشون لحمها، ويقطعون أوصالها، ويرتوون من دمائها، ويجتمعون على موائد المكر والفتك بدينها. وبعد هذه المقدمة أضع نصب أعين الدعاة والمربين والمصلحين: حقيقة راسخة ناطقة بأنه لا عود لهذا الدين مسيطراً ومهيمناً ومتحدياً، إلا بتجريد التوحيد والتربية عليه، والقضاء على الشرك بكافة صورة وألوانه. * إن التوحيد هو الحبل الوحيد الممدود بين الأمة وربها. * إن التوحيد هو المستمسك الرصين الكفيل بالقضاء على كافة ألوان الشرك

والإلحاد المتمثلة في الوطنية، والقومية العربية، والعلمانية، والحداثة ... * إن التوحيد هو الشعار الخالص والعلم الفريد الذي يضمن للأمة وحدتها وتفردها وعلوها. * إن التوحيد هو الفرقان الفارق، والحد الفاصل بين المسلمين والمشركين. * إن التوحيد هو ثمن الجنة، ومهر الزحزحة عن النيران ولا سبيل للنجاة بدونه. * إن التوحيد هو الحصن الحصين والمأمن الأمين من مكائد وفتن مردة الطغاة والشياطين. * إن التوحيد هو المطهّر الفعال لصفوف المسلمين من آفات المنافقين والزنادقة. * إن التوحيد هو السبيل المعصوم للبراءة من البدع ومحدثات الأمور. * إن التوحيد هو البيان العملي والتجسيد الفعلي لدعوة الكتب الربانية ولرسالة الرسل الإلهية. * إن التوحيد هو حائطة الصد الشامخ الذي تتهاوى عليه كافة الضربات المتلاحقة من سائر الكفار والملاحدة. ولعظم هذه القضية - التي تطابقت وتصادقت عليها: الكتب الربانية، والرسالات الإلهية - جاء هذا المؤلف، وأعد لها. وقد قمت في هذه الرسالة ببيان: بعض الحجج المأخوذة لإفراد الله بالعبادة والبراءة من عبادة ما سواه، والمتمثلة في: الميثاق، والفطرة، والعقل، والآيات الكونية؛ وهي الحجج المذكورة في كتابي الأول "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي" فقد عزمت مستعيناً بالله على إخراج كل باب منه في بحث مستفيض مستقل. والله المستعان، وعليه التكلان، وهو الهادي إلى سواء الصراط. وقد قسمت هذه الرسالة إلى أربعة فصول:

الفصل الأول: في حجية الميثاق. وتحدثت فيه عن: محتواه، وعلته، وأنه حجة مستقلة في: إفراد الله بالربوبية والألوهية، وكذا في بطلان الشرك، وأنه ليس بحجة مستقلة في وجوب العذاب في الدارين حتى تقوم الحجة الرسالية. الفصل الثاني: في حجية الفطرة. وذلك فيه على أن الفطر والإيجاد يوجب عبادة الفاطر، وأن الفطرة قد قطعت: كافة الأسباب الداعية إلى الشرك، وأنها أسبق من سائر المعاذير الساقطة والحجج الداحضة التي يحتج بها المشركون على فعلتهم الخبيثة، المتشخصة في: عبادة غير الله. الفصل الثالث: في حجية العقل. وأوضحت فيه أن أوجب شيء في العقول هو: حسن التوحيد؛ وأن من أرسخ مرتكزاته؛ قبح الشرك؛ وكذا فيه البراهين الباهرة والأدلة الدامغة على مقتضى الفطرة والميثاق؛ وضمنته حديثاً عن: حجية الآيات الكونية، وشهادتها على إفراد الله بالتأله، وعلى بطلان تأله ما سواه. وختمته بمبحث عن: حكم التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع، وحررت فيه مذهب أهل السنة وجماهير فحو سلف الأمة، وعريت فيه سوءات ومخازي كل من حاد عن الصراط في هذه المسألة الفاصلة بين براهين التوحيد وزيف الشرك والإلحاد. الفصل الرابع: وفيه "آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد". وبرهنت فيه على أن: حكم الشرك ثابت لمن عبد غير الله، وإن كان جاهلاً ولم تقم عليه حجة البلاغ؛ وأن الشرك والفواحش ذنوب ومعاصي ولو لم يأت الخبر بحرمتها، ويجب على أصحابها التوبة والانخلاع منها بعد بلوغ الخطاب وقيام البرهان. ثم إن الله الرحمن الرحيم لحبه العذر وقف إنزال العقوبة على فعل الشرك والفواحش حتى يبعث الرسل لتزيح علل الكفار؛ وانتفاء العقوبة لانتفاء شرطها، لا لانتفاء سببها. فسببها قبل الرسالة موجود ومقتضاها قائم، إلا أن العذاب عليها مشروط بقيام الحجة وبلوغ الخطاب.

وختاماً أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرفع علم الجهاد بجحافل التوحيد، وأن يضع بهم أهل الشرك والفساد. اللهم تقبله مني، واغفر لي خطئي وزللي، واجعله ذخراً لي في الدنيا وعتقاً من النيران في الآخرة. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين. كتبه أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج.

الفصل الأول حجية الميثاق

الفصل الأول حجية الميثاق وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الميثاق في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك. المبحث الثاني: الميثاق حجة مستقلة في الإشراك وتلك علة أخذه. المبحث الثالث: عموم حجية الميثاق على كافة البشر.

بين يدي حجية الميثاق

بين يدي حجية الميثاق قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (¬1)، يخبر المولى جل في علاه عن استخراجه ولد آدم، من صلبه، ومن أصلاب آبائهم، وإقرارهم بتوحيده بالألوهية، وبطلان ألوهية ما سواه. وجعل الحكيم الخبير أثر هذا الميثاق ومقتضاه من لوازم النفوس وحقائقها التي لا انفكاك لها عنها ألبتة ما دامت باقية على استقامة خلقتها. "فالعلم الإلهي فطري ضروري وهو أشد رسوخاً في النفس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تُعرض عنها أكثر الفطر وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة" (¬2). ولهذا كان علم التوحيد هو الحقيقة البديهة التي انبثقت منها كافة العلوم، وسائر القواعد والأصول، وعامة المعارف والأدلة. ومن ثم أصبج الشك في هذا العلم الشريف - فضلا من جحده وإنكاره - تشككا في أصل ذات الإنسان، وعلة وجوده وتكريمه وتشريفه على سائر المخلوقات، بل - والذي نفسي بيده - إنه ليؤول إلى التشكك في سائر حقائق الوجود بأسرها. وقد علل المولى تبارك وتعالى هذا الأخذ والميثاق، وذاك العلم الفطري ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيات: 172 - 174. (¬2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 15: 16) بتصرف بسيط.

الضروري بقوله (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). فدل ذلك على احتجاج المشركين الغافلين والمقلدين بتلك الحجتين الساقطتين، وتعللهم بذينك العلتين الباطلتين، إن لم يؤخذ عليهم ذلك الميثاق مع وجود أثره ومقتضاه في فطرهم وعقولهم. وعليه أستطيع الجزم والحزم بأن: الميثاق، والفطرة، والعقل، حجج مستقلة في دفع وبطلان حجتين هما ركيزتا وساقا الشرك والمشركين على اختلاف نحلهم، وعقائدهم، ومشاربهم دائماً وأبداً: - الأولى: الجهل والغفلة. وتلك حجة علية القوم والملأ والسادة الذين أخذوا على عاتقهم سن المعتقدات، وتقويم السبل - بزعمهم -، وإحداث النظم والدساتير، وحد الحدود ونسبتها إلى الله افتراء عليه. قال تعالى في حقهم: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (¬1). الثانية: الاتباع والتقليد (¬2) وتلك حجة الخلوف والأتباع فاقدي البصائر والعاجزين عن تحديد المصائر، القائلين بلا حياء ولا استخزاء: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (¬3). ¬

(¬1) سورة ص، الآيتان: 6 - 7. (¬2) التقليد المحض الفاقد للبرهان والحجج مذموم على أية حال، فالمشركون عبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع، بل وفي الفطر السليمة خلاف ذلك. أما الموحدون فقد عبدوا ربهم ببراهين نقية، وحجج بهية منبثقة من: الميثاق والفطرة والعقل والنقل التي خرجت جميعا من مشكاة واحدة قال تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) [هود: 17] وقال سبحانه (نُورٌ عَلَى نُورٍ) [النور: 35] أي: نور الوحي المطابق لنور الفطرة والعقل، والأخير هو البينة من الله في نفس الموحدين. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 23.

وبهذا تكون حقيقة الميثاق وعلته قد بدت جلية لذوي العقول، وحصحصت لذوي الأبصار، فهو حجة مستقلة لدحض ومحق مرضي التعطيل والشرك. فالقول بإثبات الصانع: علم فطري ضروري لا تنفك عنه أي نفس، وهذا العلم الفطري الضروري يبين بطلان الشرك في التأله، وهو التوحيد الذي شهدت به الذرية. ومن المعلوم أن مقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه في كل شيء؛ إذ كان هو الذي أنشأه ورباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه. فإذا احتج المشركون بهذا، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقضه ويبطل تقوله، لقالوا: إنما الذنب ذنب آبائنا المشركين ونحن ذرية لهم بعدهم اتبعناهم على جهل منا بسوء طريقتهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم ... فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به: من وحدانية الله في ربوبيته وألوهيته، وقامت عقولهم شاهدة بصحته، وناطقة بجرم ضده، كان معهم: ما يبين بطلان الشرك. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء؛ كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية السابقة لهذه العادة الأبوية. وهذا يقتضي أن العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك؛ لا يحتاج ذلك إلى بلوغ الرسالة وإقامة الحجة، فإن الله جعل ما تقدم حجة عليهم بدونها. وبنقض الميثاق يكون قد قام بصاحبه ما يستوجب العذاب، إلا أن الله لكمال رحمته، وسمو إحسانه قضى أن لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وإن كان قد قام بناقضه ما يستحق به الذم والعقاب.

فلله على عباده حجتان قد أعدهما عليه، لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما: ما فطره وجبله عليه، وصبغ عقله بصحته وبرهانه من أن: الله وحده هو ربه ومعبوده، وحقه عليه لازم. ثانيتهما: إرسال رسله إليه للتذكير بذلك وتفصيله وتقريره: فيقوم عليه شاهدا الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان من الكافرين: قال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (¬1). وهذا هو فصل الخطاب في تلك المسألة التي صال وجال حولها كثير من اللغط والمنازعات، وإلى الله المآب للفصل بين العباد بميزان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والله المستعان. قوله تعالى (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (¬2). أي: "إلى الحق، ويتركون ما هم عليه من الباطل، وقيل: يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه، والمآل واحد." (¬3). وقوله تعالى (يَرْجِعُونَ) دل على أن مرض الشرك محدث وطارئ على الفطرة ودخيل عليها، وليس بمحل للعبد لكي يحط رحله فيه؛ بل محل العبد وقراره في تجريد العبودية لفاطره ومالكه. فأولى وأحرى بكم أيها المشركون أن تحلوا في محلكم، وتقطعوا غربتكم، وتقروا في قراركم. * * * ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 130 (¬2) سورة الأعراف، من الآية: 174 (¬3) فتح البيان في مقاصد القرآن للسيد صديق حسن خان. (3/ 458).

تنبيهات

تنبيهات * للعلماء في تفسير هذه الآية - آية الميثاق - مذهبان: أحدهما: وهو مذهب جمهور المفسرين وعامة أهل الأثر: أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صور كالذر، وركب فيهم عقولاً تعقل بها ما يعرض عليها، وأخذ عليهم الميثاق بأنه ربهم المعبود، وحقه عليهم لازم، وأنهم عبيده المربوبون؛ فأقروا بذلك، ووقعت الشهادة عليهم به، ثم أخرجهم إلى الدنيا بفطرة مجبولة على مقتضى الميثاق ولازمه، وبعقل يقيم برهانه، ويجاهد دونه. وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه لمجيء الآثار الصحيحة عن الصحابة مرفوعة وموقوفة عليه. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. الثاني: أن المراد بهذا الإشهاد: هو فطر ذرية بني آدم على التوحيد مع الشهادة به - حالاً، لا مقالاً - بما ركب الله فيهم من العقول، وبما نصب لهم من عظيم خلقه، وغرائب صنعه، ودلائل وحدانيته التي تضطرهم اضطرار إلى العلم بأن للكون خالقاً لا يعبد إلا إياه. قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي تعليقا على التفسيرين: "قلت: ليس بين التفسيرين منافاة ولا مضادة ولا معارضة، فإن هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة. الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام، وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (¬1)، وهو الذي قاله جمهور المفسرين رحمهم الله في هذه الآيات، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 172

الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة، وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (¬1). وهو الثابت في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار والأسود بن سريع رضي الله عنهم وغيرها من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما. الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل، وأنزل به الكتب تجديداً للميثاق الأول وتذكيراً به (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (¬2). فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته - التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول - فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقا لما في فطرته وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد. ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول؛ بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه، وهوّده أبواه، أو نصراه، أو مجساه؛ فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته: فرجع إلى فطرته، وصدق بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب؛ نفعه الميثاق الأول والثاني، وإن كذب بهذا الميثاق كان مكذبا بالأول فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه حيث قال: (بَلَى) جوابا: لقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقامت عليه حجة الله، وغلبت عليه الشقوة، وحق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء" (¬3) أ. هـ. * يذكر كثير من العلماء ساعة التحدث في تأويل هذه الآية: حجية ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 30. (¬2) سورة النساء، الآية: 165 (¬3) معارج القبول (1/ 92: 93).

الرسالة، وما ترتب عليها من تذكير العباد بمقتضى ما أخذ عليهم من الميثاق، ثم يتبعون هذا بانقطاع الحجة وحلول النقمة واستحقاق العذاب. وعليه ظن البعض: أن الميثاق لا يستقل بحجة في بطلان الشرك. وفي هذا الظن الخاطئ من الفساد ما الله به عليم. إذ يلزم من هذا: أن كل من مات مشركاً قبل نزولها لم تقم عليه حجتها، وكذا كل من عبد غير الله ومات على ذلك دون أن يقرع أذنه خبرها بعد نزولها؛ ولكان لزاماً على النبيين التحدث بها مع أقوامهم توّ تكليفهم بالبلاغ؛ ليقيموا حجتها، ويقطعوا عذر المتلبسين بنقيضها!!! والحق الذي لا ينبغي العدول عه ولا تعدي حده: أن الميثاق حجة مستقلة في بطلان الشرك، وليس بحجة مستقلة في استحقاق العذاب. والأخير على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو الذي تقتضيه القواعد الكلية والنصوص الشرعية. * أخذ الميثاق وإرسال الرسل قطعا الاحتجاج وأوجبا العذاب. * بعض أهل العلم ينص على أن الميثاق كان في الربوبية، ولا يذكر مقام الألوهية؛ وذلك لأن الربوبية تستلزمها، وهي حجتها وبرهانها. فالرب لا بد أن يكون، إلها، ومن فقد الربوبية بطل تألهه واستحال. قال تعالى مبرهناً على استحقاقه التأله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (¬1)، وقال تعالى مبرهنا على بطلان تأله كل ما يعبد من دونه: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 21. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 3.

وتارة لا يذكرون مقام الألوهية لأن "الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ) (¬1) وكما يقال: رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك ... إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (¬2). وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً) (¬3)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (¬4)، فالربوبية في هذا هي الألوهية وليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران، فينبغي التفطن لهذه المسألة" (¬5). دليل ما سبق - وهو على سبيل المثال لا الحصر - يراجع قول الإمام القرطبي في آية الميثاق، وقوله في قوله تعالى (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (¬6). تجده في الأولى ذكر أن الميثاق في الربوبية، وفي الثانية نص على أنه في الربوبية والألوهية. وسيأتي ذكر ذلك في فصل "حجية الميثاق" بمشيئة الله وعونه. * اتفق العلماء - بلا خلاف بينهم - على ثبوت حجة مستقلة عن الرسالة توجب وصف الشرك وحكمه لمن عبد غير الله تعالى. ¬

(¬1) سورة الناس، الآيات: 1 - 3. (¬2) سورة الحج، الآية: 40. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 164. (¬4) سورة فصلت، الآية: 30. (¬5) تاريخ نجد/ 259 نقلاً عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. (¬6) سورة الروم، الآية: 30.

فمنهم من جعلها: الميثاق، ومنهم من جعلها: الفطرة، ومنهم من جعلها: العقل، ومنهم من قال بجميعهم: وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا مجاوزة عَلَمَه. ودليل ما سلف: إطباقهم على ثبوت وصف الشرك وحكمه لمن تلبس بعبادة غير الله ولو لم يأته نذير في الدنيا ولم يسمع للرسالة بخبر. قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم" أ. هـ. (¬1). وقال الإمام الشنقيطي: "اعلم أولا أن من لم يأذته نذير في دار الدنيا وكان كافراً حتى مات، اختلف العلماء فيه. هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير" أ. هـ (¬2). وبهذا وجب ثبوت حجة مستقلة بذاتها عن الرسالة توجب وصف الشرك وحكمه لأهله، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق. وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على عدم وقوع التكليف به لأنه ظلم والله منزه عنه. وعدم التكليف بما لا يطاق "هو قول الجماهير من جميع طوائف المسلمين وإجماع العترة، والشيعة، والمعتزلة، ورواه ابن بطال في شرح البخاري عن الفقهاء أجمعين" (¬3). ¬

(¬1) حكم تكفير المعين - الرسالة السادسة من كتاب: عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين/ 151. (¬2) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب/ 180. (¬3) إيثار الحق على الخلق لابن الوزير اليماني/ 325.

المبحث الأول: الميثاق في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك

الفصل الأول حجية الميثاق قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (¬1). المبحث الأول: الميثاق في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك: قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان [لك] ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول نعم. قال فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك؛ أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" (¬2) متفق عليه. وقال الإمام السيوطي (¬3): "أخرج عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن منده في كتاب الرد على الجهمية واللالكائي وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر في تاريخه عن أبي بن كعب في قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ - إلى قوله - بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). قال: جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيات: 172 - 174. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 127) وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء - باب خلق آدم وذريته حديث رقم: 3334، وفي كتاب الرقاق - باب من نوقش الحساب عذب - حديث رقم: 6538 وأخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم: 2805. (¬3) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 154 - 155).

ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع، وأشهد عليك أباكم آدم؛ أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا، اعلموا: أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا، ورفع عليهم آدم ينظر إليهم، فرأى الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: يا رب لولا سويت بين عبادك. قال: إني أحببت أن أُشكر. ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة أن يبلغوا وهو قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ) (¬1). وهو قوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (¬2). وفي ذلك قال: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (¬3). وفي ذلك قال: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) (¬4). قال: فكان في علم الله يومئذ من يكذب به ومن يصدق به؛ فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم فأرسله الله إلى مريم في صورة بشر فتمثل لها بشرا سويا. قال أبي: فدخل من فيها" (¬5). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 7. (¬2) سورة الروم، الآية: 30. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 102. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 101 (¬5) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي - المستدرك (2/ 324) وصحيح إسناده الشيخ أحمد شاكر - تفسير الطبري (13/ 239). وقال الألباني: سنده حسن موقوف، ولكنه في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي - مشكاة المصابيح (1/ 44) كتاب الإيمان/ باب الإيمان بالقدر، قلت: وهذا الأثر من الصحابي الجليل أبي ن كعب رضي الله عنه في حكم المرفوع وإن لم يرفعه، إذ لا مجال فيه للرأي، بل في تفسير يتعلق بسبب نزول آية. وقال السيد صديق حسن خان معلقاً عليه: وهو في حكم المرفوع، وإن لم يرفعه، لأن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد أ. هـ. الدين الخالص (1/ 408). وقال الحاكم: ليعلم طالب هذا العلم: أن تفسير الصاحبي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند. أ. هـ. المستدرك (2/ 258). وقال الإمام السيوطي مقيداً قول الحاكم: فذاك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية كقول جابر: "كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأنزل الله تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة: 223] الآية. رواه مسلم، أو نحوه مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مدخل للرأي فيه. أ. هـ. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (1/ 193).

وقال الإمام الطبري: حدثني علي بن سهل قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة قال، حدثنا أبو مسعود، عن جويبر قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم، ابن ستة أيام قال فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده، فأبرز وجهه، وحل عنه عقده، فإن ابني مجلس ومسئول! ففعلت به الذي أمرني، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عم يسأل ابنك؟ قال: يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم عليه السلام. قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وأخذ منهم الميثاق: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به، نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به، لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول: على الفطرة" (¬1) أ. هـ. وقال الإمام مجاهد: "أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن الله ربكم لا إله لكم سواه" (¬2) أ. هـ. وقال إمام المفسرين الإمام الطبري: "يقول تعالى ذكر لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) جامع البيان في تفسير القرآن (9/ 77). وجود إسناده أحمد شاكر في عمدة التفسير (5/ 243). (¬2) تفسير البغوي (8/ 33) عند آية (8) من سورة الحديد.

واذكر يا محمد ربك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم فقررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك وإقرارهم به" (¬1) أ. هـ. وتحدث - رحمه الله - عن حد الميثاق وماهيته عند تأويل قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (¬2)، قال: "حدثني المثنى قال: حدثنا علي بن الهيثم قال: أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قال: صاروا يوم القيامة فريقين، فقال لمن اسود وجهه، وعيّرهم: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) قال: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقروا كلهم بالعبودية، وفطرهم على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين ... وقال أبو جعفر: وأولى الأقوال (¬3) التي ذكرناها في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرناه عن أبي ابن كعب أنه عني بذلك جميع الكفار، وأن الإيمان الذي يوبّخون على ارتدادهم عنه، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا). وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميع أهل الآخرة فريقين: أحدهما سوداء، وجوهه، والآخر بيضاء، وجوهه. فمعلوم - إذ لم يكن هنالك إلا هذان ¬

(¬1) جامع البيان (9/ 75). (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 106 - 107. (¬3) أي أقوال المفسرين في تأويل قوله تعالى (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) إذ منهم من حملها على المرتدين من أهل القبلة، ومنهم من حملها على أهل البدع، ومنهم من حملها على المنافقين، ومنهم من محملها على من نقض الميثاق. وهو الراجح عنده.

الفريقان - أن جميع الكفار داخلون في فريق من سُود وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بُيض وجهه. فلا وجه إذا لقول قائل: "عني بقوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، بعض الكفار دون بعض، وقد عم الله جل ثناؤه الخبر عنهم جميعهم، وإذا دخل جميعهم في ذلك، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة، كان معلوماً أنها المرادة بذلك. فتأويل الآية إذاً: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه قوم وتسود وجوه آخرين (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ). فيقال: أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه، بأن لا تشركوا به شيئا، وتخلصوا له العبادة ... (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ). فمن ثبت على عهد الله وميثاقه، فلم يبدل دينه، ولم ينقلب على عقبيه بعد الإقرار: بالتوحيد، والشهادة لربه بالألوهية: وأنه لا إله غيره" (¬1). وقال الإمام القرطبي - في معرض الاحتجاج على دخول جميع الأطفال الجنة إن ماتوا صغاراً -: لأن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صورة الذر أقروا بالربوبية وهو قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ (¬2) وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (¬3) ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن: أقروا له بالربوبية، وأنه لا إله غيره، ثم يكتب العبد في بطن أمه شقياً أو سعيداً على الكتاب الأول، فمن كان في الكتاب الأول شقياً عُمّر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق ¬

(¬1) جامع البيان (4/ 27 - 28). (¬2) قراءة نافع وبها كان القرطبي يقرأ. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 172.

الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك" (¬1) أ. هـ (¬2). "وقال أيضاً: وقال ابن عباس وأبي بن كعب: قوله (شَهِدْنَا) هو من قول بني آدم والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا" (¬3) أ. هـ. وقال الحافظ ابن كثير: "قد فطر - أي: الله جل ثناؤه - الخلق كلهم على: معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، وجعله في غرائزهم وفطرهم" (¬4) أ. هـ. وقال رحمه الله في الآية موضع الاحتجاج: "يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه" (¬5) أ. هـ. وقال السيد صديق حسن خان: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟) فأقر الجميع بأنك ربنا، واعترفوا بربوبيته سبحانه، فأخذ عليهم الميثاق: أن لا يعبدوا إلا إياه، ولا يعتقدوا أحداً الحاكم والمالك سواه، وأن لا يؤمنوا إلا به. فاعترفت الذرية كلها بذلك، وأشهد الله - تبارك وتقدس - السموات كلها، والأرضين كلها، وآدم أباهم، على هذا الميثاق تقوية للعهد، وتوثيقا للإقرار وقال لهم: إن رسلنا يأتونكم بالكتب من جهتنا، لتذكير هذا الاعتراف منكم؛ فأقرّت كل جماعة على حدة، بتوحيد الألوهية والربوبية، وأنكرت الشرك به تعالى" (¬6). وقال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي: ¬

(¬1) أخي القارئ ارجو منك إمعان النظر وتدقيقه في أن الميثاق ينقض بالشرك، ولم يذكر بلوغ الحجة. (¬2) الجامع لأحكام القرآن (14/ 29 - 30). (¬3) المصدر السابق (7/ 318 - 319). (¬4) تفسير القرآن العظيم (3/ 401). (¬5) المصدر السابق (3/ 500). (¬6) الدين الخالص (1/ 408 - 409).

أخرج فيما قد مضى من ظهر ... آدم ذريته كالذر وأخذ العهد عليهم أنه ... لا رب معبود بحق غيره (¬1) أ. هـ وقال الإمام الخازن: "أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن: الله ربكم لا إله لكم سواه" (¬2) أ. هـ. وقال السيد صديق حسن خان: "باب في إقرار بني آدم بالتوحيد في عالم الذر، والاجتناب من الإشراك بالله تعالى، والنهي عنه وما يليه. وقال تعالى في سورة الأعراف: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (¬3) أ. هـ. وقال أبو حيان: وتقدير الكلام: وإذ أخذ ربك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد وإفراده بالعبادة" (¬4) أ. هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة له بالإلهية، محبة له، تعبده لا تشرك به شيئا. ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحى بعضهم إلى بعض من الباطل. قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ....) " (¬5) أ. هـ. قلت: ونظم الآية يقتضي أن الإشهاد كان في الإقرار لله بالإلهية وإفراده بالمحبة والعبادة له وحده بلا شريك. قال تعالى (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (¬6) وقد اتفق ¬

(¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الوصول [في التوحيد] (1/ 84). (¬2) لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن (7/ 31). (¬3) الدين الخالص (1/ 391). (¬4) تفسير البحر المحيط (4/ 421). (¬5) مجموع فتاوى ابن تيمية (14/ 296). (¬6) سورة الأعراف، الآية: 174

المفسرون على أن الرجوع المنشود: هو المآب من الشرك إلى التوحيد. فإن لم يكن كذلك عاد الأمر (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من الإقرار بالربوبية إلى الإقرار بالربوبية، ولعلهم يثوبون من الحالة التي هم فيها إلى صنوها ومثيلها! وبهذا تنتفي حجية الميثاق، وهذا كلام يصان عن التحدث به آحاد العقلاء، فضلاً عن رب الأرباب. وقد يقول قائل: إن حجية المآب من الشرك إلى التوحيد قائمة بخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس للميثاق ودلالته؟ فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون به وبغيره مما جاءت به الرسل، وهو قد جعل حجة مستقلة في بطلان الشرك، فدل على أنه في التوحيد وإلا انتفت استقلالية برهانه. وقد يسوغ هذا الاعتراض إذا كان هناك بين يدي الخبر: معجز قاهر خارج عن مقدور الثقلين ملزم لكل من بلغه بالانقياد لصاحبه. كيف والأمر بخلاف ذلك، فإن الإشهاد في طي النسيان لدى الأنبياء والمؤمنين فضلاً عن المشركين، ولذلك حمله فريق من السلف والخلف على الفطرة (¬1)، تلك العلوم الضرورية التي لا انفكاك لأي نفس عنها. ويلزم قائل هذه المقالة: أن حجية الميثاق لا تلزم من مات قبل نزول آيتها، وكذا كل من لم تقرع أذنه من المشركين بعد نزولها، ولكن لزاما على النبيين وأتباعهم الحث على ذكرها في نوادي المشركين وطرقهم: جماعات وفرادى حتى يقيموا حجتها وبرهانها على رؤوسهم؛ امتثالاً لقوله تعالى (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (¬2). فلما لم يكن كذلك دل على بطلان الاعتراض، واستقلالية حجية الميثاق. ¬

(¬1) وإن كان الأمر بخلاف ذلك؛ لثبوت الآثار مرفوعة وموقوفة على حقيقة الأخذ والإشهاد. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 19.

المبحث الثاني: الميثاق حجة مستقلة في الإشراك، وتلك علة أخذه

المبحث الثاني: الميثاق حجة مستقلة في الإشراك، وتلك علة أخذه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (¬1)، ذكر لهم حجتين، يدفعهما هذا الإشهاد. إحداهما: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (¬2). فبين أن هذا علم فطري ضروري، لا بد لكل بشر من معرفته. وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل. والثاني: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ)، فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل. فالتعطيل: مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك: مثل شرك المشركين من جميع الأمم. وقوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ): وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه لو قدر أنه لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمظاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبيّن خطأهم. فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به: من أن الله وحده هو ربهم، كان ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 173. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 172.

معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كان الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها. وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد، حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا. وهذا لا يناقض قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (¬1) ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 15.

فإن الرسول يدعو إلى التوحيد. لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم. فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم، ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب. ثم إن الله - سبحانه - بكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا" (¬1) أ. هـ. ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل/ تحقيق محمد رشاد سالم - مكتبة ابن تيمية الطبعة الأولى (8/ 490 - 492).

وقال الإمام ابن القيم: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد: إحداهما أن يقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين؛ فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل. والثاني أن يقولوا: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) وهم آباؤنا المشركون: أي أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم؛ إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون وآباؤنا الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها. وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا. وهذا لا يناقض قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (¬1). فإن الرسول يدعوإلى التوحيد ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع (¬2) لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم. فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن بأن الله ربهم، ومعرفتهم أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله في تصديق رسله؛ فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني؛ لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له؛ فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب. ثم إن الله - سبحانه - لكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه - وإن كان فاعلاً لما يستحق به الذم والعقاب - فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما: ما فطره وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم. والثاني: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله؛ فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا كما قال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (¬3). فلم ينفذ عليه الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين، وهذا غاية العدل" (¬4) أ. هـ. وقال ابن كثير: في معرض التدليل على أن المراد بالإشهاد هو فطر العباد على التوحيد: "قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا (¬5) هذا (¬6)، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا (¬7) - كما قاله من قال - لكان ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 15. (¬2) بياض في الأصل، والسياق يقتضي وضع "وإلا". (¬3) سورة الأنعام، الآية: 130. (¬4) أحكام أهل الذمة (2/ 563 - 564) - تحقيق: الدكتور صبحي الصالح. (¬5) أي: "بالإشهاد". (¬6) أي: "فطرهم على التوحيد". (¬7) أي: "الإشهاد الحقيقي، والخروج من صلب آدم عليه السلام - حقيقة - لأخذ الميثاق".

كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءت به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: (أَنْ تَقُولُوا) أي: لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، أي: عن التوحيد غافلين. (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا) الآية" (¬1) أ. هـ. وقال الفخر الرازي: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) قال المفسرون: المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار: إنما اشركنا لأن آباءنا أشركوا، فقلدناهم في ذلك الشرك، وهو المراد من قوله (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) والحاصل: أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا العذر. وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل، قالوا: معنى الآية أنا نصبنا هذه الدلائل، وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، فما نبهنا عليه منبه، أو كراهة أن يقولوا: إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء" (¬2).أ. هـ. وقال القرطبي: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)، بمعنى لست تفعل هذا، ولا عذر للمقلد في التوحيد" (¬3) أ. هـ. وقال القاسمي: "تنبيهات - الثاني - تدل الآية على فساد التقليد في ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم (3/ 506). (¬2) التفسير الكبير (15/ 44). (¬3) الجامع لأحكام القرآن، (14/ 30).

الدين، وتدل على أنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة، وبعدها لا يعذر أحد. ذكره: الجشمي" (¬1) أ. هـ. وقال الإمام الطبري: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم كيلا تقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) إنا كنا لا نعلم ذلك، وكنا في غفلة منه. (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) اتبعنا منهاجهم. أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا، واتباعنا منهاجهم على جهل منا بالحق". (¬2) أ. هـ. وقال الإمام الشوكاني: "والمعنى: كراهة: أن يقولوا، أو لئلا يقولوا: أي فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن يقولوا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له. قوله (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) معطوف على (تَقُولُوا) الأول. أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة؛ أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، و (أَوْ) لمنع الخلو دون الجمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين (مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل زماننا. (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) لا نهتدي إلى الحق، ولا نعرف الصواب (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر، واقتفائنا آثار سلفنا. بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم. وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذا المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة، ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة. (وَكَذَلِكَ) أي: ¬

(¬1) محاسن التأويل (7/ 2901). (¬2) جامع البيان (9/ 81).

ومثل ذلك التفصيل (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل" (¬1) أ. هـ. وقال ابن الوزير اليماني: "ومن ذلك (¬2) قوله تعالى حاكيا عن الأشقياء: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (¬3). وقوله في غير آية: (وأنتم تعقلون) (¬4)!، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (¬5). فإنها وأمثالها تدل على معرفتهم بعقولهم: قبح ما هم عليه وبطلانه معاً. إذ لو عرفوا بطلانه بها دون قبحه لم تقم عليهم الحجة، وإنما أرسلت الرسل لقطع عذرهم لكيلا يقولوا: ما حكى الله تعالى عنهم، وذلك لزيادة الإعذار، لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، لا لأنه لا حجة عليهم قبل الرسل أصلاً. ولذلك صح عند أهل السنة: أن تقوم حجة الله بالخلق الأول في عالم الذر على ما سيأتي بيانه، وذلك قبل الرسل ولم يختلفوا في صحته، وإنما اختلفوا في وقوعه (¬6) ". (¬7) أ. هـ. اللهم منك، البيان. وعلى رسولك، البلاغ. ومنا: التسليم والقبول. * * * ¬

(¬1) فتح القدير (2/ 263). (¬2) جاء ذلك في سياق الأدلة الدالة على مقتضى حكمة الرب تعالى، وكذلك حكم التحسين والتقبيح العقلي. (¬3) سورة الملك، الآية: 20. (¬4) (وأنتم تعقلون) كذا! والآيات التي وردت فيها كلمة (تعقلون) كثيرة، ولكن لا يوجد في الآيات (وأنتم تعقلون)! فلزم التنبيه. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 20. (¬6) أي "في كيفية وقوعه". (¬7) إيثار الحق على الخلق/ 193.

المبحث الثالث: عموم حجية الميثاق على كافة البشر: في بداية هذا المبحث أذكر القارئ مرة أخرى بأثر أبي بن كعب رضي الله عنه والذي جاء فيه: "قال جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى: قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: إنا لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك؛ فأقروا ... (¬1). قال الإمام السيوطي: "وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردوية والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة؛ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه كالنذر، ثم كلمهم قبلا قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا - إلى قوله - الْمُبْطِلُونَ) " (¬2). وقال الإمام الطبري: "حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن علية، عن ¬

(¬1) قد مر تخريجه في المبحث الأول فليراجع هناك. (¬2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 155) وقال الشيخ محمود محمد شاكر معلقاً عليه: خبر ابن عباس هذا من حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جيبر، عن ابن عباس، رواه أبو جعفر بخمسة أسانيد: هذا، ورقم: 15339 - 15341، ثم رقم: 15350. وهذا الأول هو المرفوع وحده، وسائرها موقوف على ابن عباس. ورواه أبو جعفر بإسناده هذا مرفوعاً في التاريخ 1: 67. ورواه مرفوعاً احمد في مسنده رقم: 2455، من طريق حسين بن محمد، وهو طريق أبي جعفر. ورواه مرفوعاً أيضاً، الحاكم في المستدرك 1: 27، من طريق إبراهيم بن مرزوق البصري، عن وهب بن جرير بن حازم، عن جرير بن حازم، بمثله، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد احتج مسلم، بكلثوم بن جبر"، ووافقه الذهبي، ثم رواه في المستدرك 2/ 544 من طريق الحسن بن محمد المروروذي، عن جرير بن حازم، وصححه، ووافقه الذهبي. وذكره مرفوعاً، الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 25، 7/ 188 - 189، وقال: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". وأما من رواه موقوفاً فابن جرير بالأسانيد التالية: 15339 - 15341، 15350، وابن سعد في الطبقات 1/ 1/8، من طريق ابن علية، عن كلثوم، ومن طريق حماد بن زيد، عن كلثوم وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 584 - 585، وفي تاريخه 1/ 90، وطال الكلام في تعليله، وجعل كثرة رواه وقفه علة في رد رواية من رفعه، وقال في ص: 589، أنه قد بين أنه موقوف لا مرفوع؛ فقال أخي السيد أحمد في شرح المسند: "وكأن ابن كثير يريد تعليل المرفوع بالموقوف، وما هذه بعلة، والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة صحيحة". وقال أيضاً: "إسناده صحيح". أ. هـ. تفسير الطبري (13/ 222 - 223). وقال الشوكاني: وإسناده لا مطعن فيه. فتح القدير (2/ 263) وقال ابن كثير: رواه أحمد بإسناد جيد قوي على شرط مسلم، ثم رجح وقفه. البداية والنهاية (1/ 83). وحكم الألباني بأنه على شرط الإمام مسلم وصحح رفعه لسببين: الأول: أنه في تفسير القرآن، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع ... الآخر: أن له شواهد مرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جمع من الصحابة. أ. هـ. سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 158 - 159) حديث رقم / 1623.

شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: "مسح الله ظهر آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة" (¬1). وقال الإمام السيوطي: "وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: إن الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى يوم القيامة فأخرجهم مثل الذر ثم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) قالت الملائكة: شهدنا. ثم قبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء في الجنة. ثم قبض قبضة أخرى فقال: هؤلاء في النار ولا أبالي. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) قال: عن الميثاق الذي أخذ عليهم. (أَوْ ¬

(¬1) تفسير الطبري - بتحقيق محمود وأحمد شاكر - وقال محمود شاكر: صحيح الإسناد (13/ 228).

تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) فلا يستطيع أحد من خلق الله من الذرية أن يقولوا: إنما أشرك آباؤنا ونقضوا الميثاق، وكنا نحن ذرية من بعدهم أفتهلكنا بذنوب آبائنا، وبما فعل المبطلون" (¬1). أ. هـ. قلت: ويراجع أثر أبي بن كعب في قوله تعالى (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (¬2) الذي قال فيه: "هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقروا كلهم بالعبودية وفطرهم على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين" (¬3). وقال ابن كثير: "قد فطر - أي الله جل ثناءه - الخلق كلهم على: معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، وجعله في غرائزهم وفطرهم (¬4) ". وقال السيد صديق خان: "فأقر الجميع بأنك ربنا، واعترفوا بربوبيته سبحانه فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعبدوا إلا إياه، ولا يعتقدوا أحداً الحاكم والمالك سواه، وأن لا يؤمنوا إلا به. فاعترفت الذرية كلها بذلك" (¬5). وبهذا القدر يكون قد تم هذا الفصل بفضل الله وعونه. * * * ¬

(¬1) الدر المنثور (3/ 158). (¬2) سورة آل عمران، الآية: 106. (¬3) قد مر في المبحث الأول، فليراجع. (¬4) تفسير القرآن العظيم 3/ 401). (¬5) الدين الخالص (1/ 408).

أهم نتائج الفصل الأول

أهم نتائج الفصل الأول - حجية الميثاق -: * الميثاق كان في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك. وفطرت الفطر على أثره ومقتضاه. * حجية الميثاق عامة على كافة البشر وسائر الأمم. * الميثاق حجة مستقلة في بطلان الشرك وتلك علته التي حصل من أجلها؛ وعليه لا يستطيع أحد من البشر الاعتذار من نقضه ولو كان على سبيل الغفلة والجهل، أو التقليد والاتباع. * فطر الله جل في علاه خلقه جميعا على: معرفته، وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره. وجعل العلم الإلهي من أرسخ العلوم الضروريه في الأنفس على الإطلاق، بحيث لو ترك النفس بلا فساد لما كان صاحبها إلا موحداً لله بالألوهية، محباً له، يعبده لا يشرك به شيئاً (¬1). * العقل الذي به يعرف التوحيد حجة مستقلة في بطلان الشرك، ولو لم تقم حجة البلاغ (¬2). * لو لم تقم حجة الله على خلقه قبل البلاغ، لاستحال مؤاخذتهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب. * إرسال الرسل وإنزال الكتب لتذكير العباد: بمقتضى العهد والميثاق. * من أدرك ميثاق الرسالة فوفى به نفعه الميثاق الأول؛ ومن لم يف به لم ينفعه الميثاق الأول. ومن مات صغيراً - قبل إدراك ميثاق الرسل - مات على فطرة الميثاق الأول. ¬

(¬1) سيأتي لذلك مزيد بيان في الفصل الثاني - حجية الفطرة - بمشيئة الله وعونه. (¬2) سيأتي لذلك مزيد بيان في الفصل الثالث - حجية العقل - بمشيئة الله وعونه.

* العذاب والهلاك متوقف على سبب وشرط. السبب يتمثل في: نقض حجج التوحيد بالشرك. والشرط يتمثل في: بلوغ الرسالة وقيام الحجة. فنفي العذاب عن المشركين قبل الرسالة لنفي شرطه، لا لنفي سببه ومقتضيه. وبالله التوفيق.

الفصل الثاني حجية الفطرة

الفصل الثاني حجية الفطرة وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الفطرة في الإقرار بالإلهية والبراءة من الشرك. المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنه خلاف مقتضاها. المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة الله والبراءة من الشرك.

الفصل الثاني حجية الفطرة لقد خلق الله جل في علاه عباده حنفاء مسلمين موحدين لرب العالمين بالألوهية، ومتبرئين من تأله ما سواه. وجعل ذلك من لوازم فطرهم بحيث لو تركوا ودواعيها لما كانوا إلا عارفين بالله، وبتوحيده، وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى القائم عليها والمنيثق منها: وحدانية تألهه. وبذلك شهدت فطر الموحدين وعقولهم: بأن الله أهل أن يُعبد، ولو لم يرسل بذلك رسولاً، ولم ينزل به كتاباً. وعليه أصبحت الفطرة بينة التوحيد وشاهده في أنفس الموحدين. فلا جرم أن الفطر يقتضي: عبادة الفاطر، وأن من كان مفطوراً مخلوقاً فحري به أن يتفرغ لعبادة فاطره وخالقه، لا سيما إذا كان أمره بيده ومنتهاه إليه. قال سبحانه (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (¬1). ومن هنا استحال جواز الشرك في الفطر السليمة والعقول المستقيمة ولو لم يرد بذلك خبر، كيف وقد أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في فطر خلقه من: حسن التوحيد وحل الطيبات، ومن قبح الشرك وحرمة الخبائث. فاطمأنت قلوب الموحدين، وثلجت صدورهم وعلموا: أن الفطرة والعقل والوحي خرجوا جميعا من مشكاة واحدة؛ فعبدوا ربهم ووحدوه وعظموه ومجدوه بداعي الفطرة، وداعي العقل، وداعي النقل. ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 22.

وبهذا تكون الفطرة حجة مستقلة في بطلان الشرك. فهي أسبق من كافة الحجج الواهية، وسائر المعاذير الساقطة التي يتشبث بها المشركون. فالمشركون خرجوا عن: كافة دواعي الهدى، وتردوا في ظلمات الردى، واستبدلوا الحجج الدامغة بالحجج الداحضة، واستغنوا بالشبه الزائفة عن البينات البينة، واشتروا الأدلة المظلمة بالأدلة الساطعة. إلا أن الله لكمال حكمته وعظيم عفوه حكم: بأن لا يعذب أحداً وقع في عبادة غيره حتى تقوم عليه الحجة برسله، وإن كان قد دقام به ما يستحق به العذاب لنقضه: كافة حجج وعهود التوحيد؛ بتلبسه بالشرك، ولمخالفته العلم الضروري البديهي الذي لا تنفك عنه أي نفس، والمستقر في قرار فطر الخلائق، والذي يقضي: بأن الفاطر الخالق لا بد أن يعبد وحده لا شريك له، ويكفر بكل معبود لا يملك لأوليائه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشوراً. قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (¬1). قال الإمام البخاري: حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني: أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"؟ يقول أبو هريرة رضي الله عنه (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) سورة الروم، الآيتان: 30 - 31. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز برقم: 1359، 1358. وفي كتاب التفسير برقم: 4775 وأخرجه مسلم في كتاب القدر برقم: 2658 وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 315، 346).

وفي رواية للإمام مسلم: "ويشركانه" (¬1) وفي رواية "إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه". (¬2) وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب ذات يوم فقال في خطبته "إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا. كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. ثم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من أهل الكتاب ... " (¬3). * * * ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب القدر. (¬2) صحيح مسلم، كتاب القدر. (¬3) المسند (4/ 162) وصحيح مسلم/ كتاب الجنة برقم: 2865.

المبحث الأول: الفطرة في الإقرار لله بالإلهية والبراءة من الشرك

المبحث الأول: الفطرة في الإقرار لله بالإلهية والبراءة من الشرك: قال ابن شهاب الزهري: "يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغِيَّة (¬1) من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام، يدعي أبواه الإسلام، أو أبوه خاصة وإن كانت أمه على غير الإسلام، إذا استهلّّ صارخا صلي عليه، ولا يصلى على من لا يستهلّ من أجل أنه سقط، فإن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما من مولود إلا يولد على الفطرة - ثم ذكر الحديث - ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (¬2). وقال الإمام ابن القيم: "وقال الإمام أحمد في رواية الميموني: الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، فقال له الميموني: الفطرة الدين؟ قال: نعم. وقد نص في غير موضع أن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه واستدل بالحديث "كل مولود يولد على الفطرة". ففسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث؛ ولو لم يكن ذلك معناه معناه عنده لما صح استدلاله" أ. هـ. (¬3). وقال الإمام البخاري: "الفطرة: الإسلام" (¬4) أ. هـ. وقال الإمام الطبري: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) قال: الإسلام مذ خلقهم الله من آدم جميعاً يقرون بذلك، وقرأ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (¬5) قال: ¬

(¬1) أي من الزنا. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه/ كتاب الجنائز رقم: 1358. (¬3) بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن القيم، جمعه يسري السيد محمد. (2/ 277). (¬4) صحيح البخاري/ كتاب التفسير - باب (لا تبديل لخلق الله). (8/ 372 فتح). (¬5) سورة الأعراف، الآية: 172.

فهذا قول الله (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ). وقال أيضاً: حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، وحدثني الحارث قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: فطرة الله. قال: الإسلام (¬1). وقال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا بحيى بن وضح. قال: حدثنا يونس بن أبي صالح عن: يزيد بن أبي مريم قال: مر عمر بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهو الفطرة، (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة فقال عمر: صدقت. وقال: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا زيد بن حباب عن: حسين بن واقد عن: يزيد النحوي عن عكرمة (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) قال: الإسلام. وقال الإمام الطبري في تأويل قوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (¬2)، يقول تعالى ذكره: فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجّهك إليه ربك يا محمد لطاعته وهي: الدين (حَنِيفاً) يقول: مستقيما لدينه وطاعته. (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) يقول: صنعة الله التي خلق الناس عليها. ونصبت "فطرة" على المصدر من معنى قوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً). وذلك أن معنى ذلك: فطر الله الناس على ذلك فطرة (¬3) أ. هـ. وقال الحافظ: وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة: الإسلام. ¬

(¬1) قال ابن القيم: إسناده صحيح عن مجاهد - بتصرف بسيط - أحكام أهل الذمة (2/ 540). (¬2) سورة الروم، الآية: 30. (¬3) جامع البيان (21/ 26 - 27).

قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف. وأجمع أهل التأويل على أن المراد بقوله تعالى (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا): الإسلام (¬1) " أ. هـ. وقال ابن القيم: "قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). فبين سبحانه أن إقامة الوجه: وهو إخلاص القصد، وبذل لوسع لدينه المتضمن محبته وعبادته حنيفاً مقبلا عليه، معرضا عما سواه هو فطرته التي فطر عليها عباده، فلو خُلّوا ودواعي فطرهم لما رغبوا عن ذلك، ولا اختاروا سواه. ولكن غيرت الفطر وأفسدت، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ). و"منيبين" نصب على الحال من المفعول أي: فطرهم منيبين إليه، والإنابة إليه تتضمن: الإقبال عليه بمحبته وحده، والإعراض عما سواه. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في مقامي هذا، إنه قال: كل مال نحلته عبدا فهو له حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وحرمت عليهم ما أحللت لهم" (¬2) فأخبر سبحانه أنه إنما فطر عباده على الحنيفية المتضمنة لكمال حبه، والخضوع له، والذل له، وكمال طاعته وحده دون غيره، وهذا من الحق الذي ¬

(¬1) فتح الباري/ كتاب الجنائز (3/ 292). (¬2) قد مر تخريجه من قبل.

خلقت له، وبه قامت السموات والأرض وما بينهما، وعليه قام العالم، ولأجله خلقت الجنة والنار، ولأجله أرسل رسله، وأنزل كتبه، ولأجله أهلك القرون التي خرجت عنه وآثرت غيره، فكونه سبحانه أهلاً أن يعبد ويحب ويحمد ويثنى عليه أمر ثابت له لذاته، فلا يكون إلا كذلك. كما أنه الغني القادر الحي القيوم البصير فهو سبحانه الإله الحق المبين، والإله هو الذي يستحق أن يؤله: محبة وتعظيما وخشية وخضوعا وتذللاً وعبادة، فهو الإله الحق ولو لم يخلق خلقه، وهو الإله الحق ولو لم يعبدوه؛ فهو المعبود حقاً، الإله حقاً، المحمود حقاً، ولو قدر أن خلقه لم يعبدوه ولم يحمدوه ولم يألهوه فهو الله الذي لا إله إلا هو قبل أن يخلقهم، وبعد أن خلقهم، وبعد أن يفنيهم، لم يستحدث بخلقه لهم ولا بأمره إياهم استحقاق إلهية وحمد؛ بل إلهيته وحمده ومجده وغناه أوصاف ذاتية له يستحيل مفارقتها له لحياته، ووجوده، وقدرته، وعلمه، وسائر صفات كماله. فأولياؤه وخاصته وحزبه لما شهدت عقولهم وفطرهم أنه أهل أن يُعبد - وإن لم يرسل إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، ولو لم يخلق جنة أو ناراً - علموا أنه لا شيء في العقول والفطر أحسن من عبادته، ولا أقبح من الإعراض عنه، وجاءت الرسل وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في الفطر والعقول من ذلك، وتكميله، وتفصيله، وزيادته حسناً إلى حسنه، فاتفقت شريعته وفطرته وتطابقا، وتوافقا، وظهر أنكما من مشكاة واحدة، فعبدوه، وأحبوه، ومجدوه، وحمدوه: بداعي الفطر، وداعي الشرع، وداعي العقل، فاجتمعت لهم الدواعي، ونادتهم من كل جهة، ودعتهم إلى وليهم وإلههم وفاطرهم" (¬1) أ. هـ. وقال ابن كثير: "يقول تعالى: فسدد وجهك، واستمر على الدين الذي شرعه الله من الحنيفية - ملة إبراهيم - الذي هداك الله لها، وكملها لك ¬

(¬1) بدائع التفسير (3/ 391 - 392).

غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على: معرفته، وتوحيده، وأنه لا إله غيره" (¬1) أ. هـ. وقال الشوكاني: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). الفطرة في الأصل: الخلقة، والمراد بها هنا الملة، وهي: الإسلام والتوحيد .... والقول بأن المراد بالفطرة هنا: الإسلام هو مذهب جمور السلف". (¬2) أ. هـ. وقال ابن تيمية: "قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ...). وفي الصحيحن عن النبي - صى الله عليه وسلم - أنه قال "كل مولود يولد على الفطرة ... ". والفطرة تستلزم: معرفة الله، ومحبته، وتخصيصه بأنه أحب الأشياء إلى العبد وهو التوحيد. وهذا معنى قول "لا إله إلا الله" كما جاء مفسراً "كل مولود يولد على هذه الملة". وروى "على ملة الإسلام". وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله: "إني خلقت عبادي حنفاء ... ". فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن: معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده. فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول "لا إله إلا الله". فإن في هذا الكلمة الطيبة التي هي (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (¬3)، فيها إثبات معرفته والإقرار به، وفيها إثبات محبته. فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يكون مألوهاً؛ وهذا أعظم ما يكون من المحبة. وفيها أنه لا إله إلا هو. ففيها: المعرفة، والمحبة، والتوحيد. وكل مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها؛ ولكن ¬

(¬1) بن كثير (6/ 320). (¬2) فتح القدير (4/ 223:224). (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 24

أبواه يفسدان ذلك - فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، ويشركانه، وكذلك يجهمانه - فيجعلانه منكراً لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده. ولهذا كانت الرسل إنما تأتي بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته وإمداده، ونفي المغيّر للفطرة. فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها. والكمال يحصل بالفطرة المكمّلة بالشرعة المنزلة" (¬1) أ. هـ. وقال رحمه الله أيضاً: "فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفاً بالله، محباً له، عابداً له وحده. لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها، وإن كانت بقضاء الله وقدره - كما يغير البدن بالجدْع - ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الله تعالى لها من يسعى في إعادتها إلى الفطرة" (¬2) أ. هـ. وقال أيضاً: "وأصل الدين الذي هو عبادة الله الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس" (¬3) أ. هـ. وقال رحمه الله: "الدلائل الدالة على أنه أراد على فطرة الإسلام كثيرة كألفاظ الحديث التي في الصحيح، مثل قوله "على الملة"، "وعلى هذه الملة" ومثل قوله في حديث عياض بن حمار: "خلقت عبادي حنفاء كلهم" وفي لفظ "حنفاء مسلمين"، ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك، وهم أعلم بما سنمعوا" (¬4) أ. هـ. وقال ابن القيم: "قال شيخنا - أي ابن تيمية -: والإجماع والآثار المنقولة عن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (16/ 344 - 346). (¬2) مجموع الفتاوى (10/ 135). (¬3) مجموع الفتاوى (15/ 438). (¬4) درء تعارض العقل والنقل (8/ 371).

السلف لا تدل إلا على القول الذي رجحناه؛ وهو أنهم على الفطرة، ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة، لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان ومستلزمة له لولا العارض" (¬1) أ. هـ. وعرض ابن القيم اختلاف العلماء في ماهية الفطرة، ثم رجح المذهب الصحيح قائلاً: "والصحيح من هذه الأقوال: ما دل عليه القرآن والسنة أنهم ولدوا حنفاء على فطرة الإسلام بحيث لو تركوا لكانوا حنفاء مسلمين، كما ولدوا أصحاء كاملي الخلقة، فلو تركوا وخلقهم لم يكن فيهم مجدوع، ولا مشقوق الأذن. ولهذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم0 شرطاً مقتضياً (¬2) غير الفطرة، وجعل خلاف مقتضاها من فعل الأبوين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عن ربه عز وجل "إني خلقت عبادي حنفاء. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم". فأخبر أن تغيير الفطرة التي خلقوا عليها بأمر طارئ من جهة الشيطان، ولو كان الكفار منهم مفطورين على الكفر لقال: خلقت عباي مشركين فأتتهم الرسل فاقتطعتهم عن ذلك، كيف وقد قال: "خلقت عبادي حنفاء كلهم"؟ فهذا القول أصح الأقوال والله أعلم" (¬3) أ. هـ. قلت: ولا يلزم من تحرير مقتضى الفطرة أن يكون الطفل ساعة خروجه من بطن أمه عالماً: بمعنى "لا إله إلا الله"، فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا. ولكن المقصود: سلامة القلب واستقامته على التوحيد وبراءته من الشرك بكافة صوره وألوانه، بحيث لو ترك صاحبه بلا مغير لصبغته - حتى تعقّله - لما كان إلا موحداً لربه بالألوهة، ومنخلعاً من تأله ما سواه. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله - صلى الله عليه وسلم - "كل مولود يولد على الفطرة" فأجاب: ¬

(¬1) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل/ 292. (¬2) أي للإسلام. (¬3) أحكام أهل الذمة (2/ 609).

"الحمد لله. أما قوله - صلى الله عليه وسلم - "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" فالصواب أنها: فطرة الله لتي فطر الناس عليها يوم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة. فإن حقيقة "الإسلام" أن يستسلم لله، لا لغيره وهي معنى " لا إله إلا الله" ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل. فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، ولكن سلامة القلب، وقبوله، وإرادته للحق - الذي هو الإسلام - بحيث لو ترك بغير مغير لما كان إلا مسلماً. وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع هي: فطرة الله التي فطر الناس عليها" (¬1) أ. هـ. وذكر الإمام ابن القيم محاورة بين: الإمام محمد بن نصر، وبين الإمام ابن قتيبة في مقتضى آية المياق. قال: "قال محمد بن نصر: واحتج ابن قتيبة بقوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ...) فأجابوا - بكلام - شاهدين مقرين على أنفسهم بأن الله ربهم، ثم ولدوا على ذلك. قال محمد بن نصر: فقوله "ثم ولدوا على ذلك" زيادة منه ليست في الكتاب، ولا جاءت في شيء من الأخبار. قلت - أي: ابن القيم - قوله "ثم ولدوا على ذلك" إن أراد به أنهم ولدوا حال سقوطهم وخروجهم من بطون أمهاتهم عالمين: بالله وبتوحيده وأسمائه وصفاته فقد أصاب - أي محمد بن نصر - في الرد عليه. وإن أراد أنهم: على حكم ذلك الأخذ، وأنهم لو تركوا لما عدلوا عنه إذا عقلوا فهو الصواب الذي لا يرد" (¬2) أ. هـ. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 245 - 248). (¬2) أحكام أهل الذمة (2/ 543).

المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنه خلاف مقتضاها

المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنه خلاف مقتضاها: قال ابن تيمية رحمه الله: "والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله، الذي هو معرفة الله، والإقرار به، بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم، ويمقتضاها يجب حصوله فيها؛ إذا لم يحصل ما يعوقها. فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء مانع. ولهذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لموجب الفطرة شرطا، بل ذكر ما يمنع موجبها، حيث قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (¬1)، فأخبر أن المشركين مفترقون. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" (¬2). وقد قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (¬3). وقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (¬4). ¬

(¬1) سورة الروم، الآيات: 30 - 32. (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الأقضية - باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة برقم: 1715. (¬3) سورة الشورى، الآية: 13. (¬4) سورة البقرة، لآية: 213.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (¬1). وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده. كما قال: "خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطانا" فهو يجمع أصلين: أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما يُعبد بما أحبه وأمر به. وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق، وضده الشرك والبدع. والثاني: حل الطيبات التي يستعان بها على المقصود. وهو الوسيلة، وضدها تحريم الحلال. والأول كثير في النصارى، والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود، وهما جميعا في المشركين". (¬2) أ. هـ. وقال الحافظ رحمه الله: "ويؤيد المذهب الصحيحح - أي أن المراد بالفطرة هو الإسلام - أن قوله "فأبواه يهودانه الخ" ليس فيه لوجود الفطرة شرط، بل ذكر ما يمنع موجبها؛ كحصول اليهودية مثلاً متوقف على أشياء خارجة عن الفطرة، بخلاف الإسلام" (¬3) أ. هـ. وقال ابن القيم: "وإن كان المراد بهذا القول (¬4) ما قاله طائفة من العلماء، أن المراد أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه الفطرة، فهذا القول قد يقال: لا يرد عليه ما يرد على القول ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 51 - 53. (¬2) درء تعارض العقل والنقل (8/ 454: 455). (¬3) فتح الباري (3/ 294). (¬4) أي أن: كل مولود يولد على السلامة: خلقة وطبعاً وبنية ليس معها كفر ولا إيمان. وهو أحد الأقوال في تعريف الفطرة.

الذي قبله؛ فإن صاحبه يقول: في الفطرة قول تميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة؛ وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها. لكن يقال: فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية هل هي كافية في حصول المعرفة؛ أو تقف المعرفة على أدلة من خارج؟ فإن كانت المعرفة تقف على أدلة من خارج أمكن أن يوجد تارة ويعدم أخرى. ذلك السبب يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه، بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا؛ فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت واجبة الحصول عند وجود ذلك الأسباب؛ وإلا فلا؛ وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان، وحينئذ فلا فرق فيها بين: الإيمان والكفر، والمعرفة والإنكار، إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له! لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج، وهذا هو القسم الأول الذي أبطلناه، وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة. وأما إن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها - وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة فيها بدون ما يسمعه من الأدلة - سواء قيل إن المعرفة ضرورية فيها، أو قيل إنها تحصل بأسباب تنتظم في النفس، وإن لم يسمع كلام مستدل؛ فإن النفس قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما يحتاج معه إلى كلام الناس، فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة؛ لزم أن يكون المقتضي للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب، والمقتضي التام مستلزم مقتضاه. فتبين أن أحد الأمرين لازم: إما كون الفطرة مستلزمة للمعرفة؛ وإما استواء الأمرين بالنسبة إليها، وذلك ينفي مدحها وتلخيص ذلك أن يقال: المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب؛ فإما أن تكون هي موجبة مستلزمة لذلك، وإما أن لا تكون مستلزمة له؛ فلا يكون

واجبا لها. فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان بالنسبة إليها، أو كلاهما ممكن لها؛ فثبت أن المعرفة لازمة لها إلا أن يعارضها معارض. فإن قيل: ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكن هيء إليها الميل مع قبولها للنكرة. قيل: فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة وجدت تارة، وعدمت تارة، وهي وحدها لا يحصلها؛ فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين فيكون الإسلام والتهويد والتنصير والتمجيس. ومعلوم أن هذه أنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس، فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس؛ فوجب أن يذكر كما ذكر ذلك، ويكون هذا كمكون الفطرة لا يقضى الرضاع إلا بسبب منفصل وليس كذلك، بل الطفل يختار مص اللبن؛ بنفسه فإذا مُكن من الثدي وجدت الرضاعة لا محالة؛ فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرضع؛ فكذلك هو مولود على أن يعرف الله؛ والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض. وأيضا: فإن حب النفس لله، وخضوعها له، وإخلاصها له مع الكفر به، والشرك، والإعراض عنه، ونسيان ذكره إما أن يكون نسبتهما إلى الفطرة سواء، أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني. فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم، وإن لم يكن فرق بين: دعائها إلى الكفر، ودعائها إلى الإيمان، ويكون تمجيسها كتحنيفها؛ وقد عرف بطلان هذا. وإن كان فيها مقتض لهذا: فإما أن يكون المقتضي مستلزماً لمقتضاه عند عدم المعارض، وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها؛ فإن كان الأول ثبت ذلك من لوازمها، وأنها مفطورة عليه، لا يفقد إلا إذا فسدت الفطرة؛ وإن قدر أنه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية، وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا. وإذا قيل: هي إلى الحنيفية

أميل كان كما يقال: هي إلى غيرها أميل، فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله، والذل له، وإخلاص الدين له، وإنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض، كما أن فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه. مما يبين هذا: أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد، فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله، ويعبده، ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك، إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل، ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد، فما في النفوس من قوة المحبة له إذا شعرت به تقتضي حبه إذا لم يحصل معارض، وهذا موجود في محبة الأطعمة، والأشربة، والنكاح، والعلم وغيرها، وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله، والإخلاص والذل له والخضوع، وأن فيها قوة الشعور به، فيلزم قطعا وجود المحبة له والتعظيم والخضوع بالفعل لوجود المقتضي إذا سلم عن المعارض. وتبين أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل؛ وإن كان وجودها قد يذكر ويحرك، كما لو خوطب الجائع أو الظمآن بوصف طعام، أو خوطب المغتلم بوصف النساء؛ فإن هذا مما يذكره، ويحركه ويثير شهوته الكامنة بالقوة في نفسه؛ لا أنه يحدث له نفس تلك الإرادة والشهوة بعد أن لم تكن فيه فيجعلها موجودة بعد أن كانت عدما. فكذلك الأسباب الخارجة عن الفطرة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق ومحبته وتعظيمه والخضوع له؛ وإن كان ذلك مذكرا ومحركا ومنبها ومزيلا للعارض المانع؛ ولذلك سمى الله سبحانه ما كمل به موجبات الفطرة بذكر وذكرى، وجعل رسوله مذكرا فقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) وقال: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) وقال: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) وقال: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) وقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ

مُدَّكِرٍ) وقال: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وهذا كثير في القرآن يخبر أن كتابه ورسوله مذكر لهم بما هو مركوز في فطرهم من: معرفته، ومحبته، وتعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والإخلاص له، ومحبة شرعه - الذي هو العدل المحض - وإيثاره على ما سواه. فالفطر مركوز فيها: معرفته، ومحبته، والإخلاص له، والإقرار بشرعه، وإيثاره على غيره، فهي تعرف ذلك، وتشعر به مجملا، ومفصلا بعض التفصيل؛ فجاءت الرسل تذكرها بذلك، وتنبهها عليه، وتفصله لها وتبينه، وتعرفها الأسباب المعارضة لموجب الفطرة المانعة من اقتفائها أثرها. وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل فإنها: أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإباحة طيب، وتحريم خبيث، وأمر بعدل، ونهي عن ظلم. وهذا كله مركوز في الفطرة، وكمال تفصيله وتبيينه موقوف على الرسل، وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه؛ ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل، وكذلك تنزيهه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقر في فطر الخلائق خلافا لمن قال من المتكلمين إنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص، وإنما علم بالإجماع!! قبحا لهاتيك العقول فإنها ... عقال على أصحابها ووبالٌ فليس في العقول أبين ولا أجلى من: معرفتها بكمال خالق هذا العالم، وتنزيهه عن العيوب والنقائص. وجاءت الرسل بالتذكرة بهذه المعرفة وتفصيلها، وكذلك في الفطر الإقرار بسعادة النفوس البشرية وشقاوتها، وجزائها بكسبها في غير هذه الدار. وأما تفصيل ذلك الجزاء والسعادة والشقاوة فلا تعلم إلا بالرسل، وكذلك فيها: معرفة العدل ومحبته وإيثاره. وأما تفاصيل العدل الذي هو شرع الرب تعالى فلا يعلم إلا بالرسل.

فالرسل تذكر بما في الفطر وتفصله وتبينه؛ ولهذا كان العقل الصريح موافقا: للنقل الصحيح، والشرعة مطابقة: للفطرة يتصادقان ولا يتعارضان خلافا لمن قال: إذا تعارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي!! فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه ... ويشهد حقا أنه هو كاذب والمقصود أن الله فطر عباده على فطرة فيها: الإقرار به، ومحبته، والإخلاص له، والإنابة إليه، وإجلاله وتعظيمه، وأن الشخص الخارج عنها لا يحدث فيها ذلك، ويجعلها فيها بعد أن لم يكن، وإنما يذكرها بما فيها، وينبهها عليه، ويحركها له، ويفصله لها ويبينه، ويعرفها الأسباب المقوية والأسباب المعارضة له والمانعة من كماله. كما أن الشخص الخارج لا يجعل في الفطرة شهوة اللبن عند الرضاع، والأكل والشرب والنكاح، وإنما تذكر النفس وتحركها لما هو مركوز فيها بالقوة. ومما يبين ذلك: أن الإقرار بالصانع مع خلو القلب عن محبته والخضوع له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا، بل الإقرار به مع الإعراض عنه، وعن محبته وتعظيمه والخضوع له أعظم استحقاقا للعذاب، فلا بد أن يكون للفطرة مقتض للعلم، ومقتض للمحبة، والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه، والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري؛ فإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها وهو المعرفة أيضاً جبلي فطري؛ فلا بد أن يكون في الفطرة: محبة الخالق مع الإقرار به وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وفطرته فطرهم عليها. فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها؛ والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل أعمال الحنيفية، وذلك مستلزم: للإقرار والمعرفة، ولازم اللازم لازم، وملزوم الملزوم ملزوم، فالفطرة ملزومة لهذه الأحوال، وهذه الأحوال لازمة لها (¬1). ¬

(¬1) أي أن المحبة مستلزمة للمعرفة لاستحالة محبة المجهول، والإقرار والمعرفة أصل لانبثاق المحبة.

فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار واتفاق السلف على: أن الخلق مفطورون على دين الله - الذي هو معرفته، والإقرار به، ومحبته والخضوع له - وأن ذلك موجب فطرتهم ومقتضاها يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصول ضده، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء المانع؛ فإذا لم يوجد فهو لوجود منافيه لا لعدم مقتضيه، ولهذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجود الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال "فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فحصول هذا التهويد والتنصير موقوف على أسباب خارجة عن الفطرة، وحصول الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصله على غير الفطرة؛ وإن توقف كماله وتفصيله على غيرها وبالله التوفيق". (¬1) أ. هـ. ¬

(¬1) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل/ ص: 300 - 303.

المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة لله والبراءة من الشرك

المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة لله والبراءة من الشرك: النفس فقيرة بالذات ومريدة ضرورة، وفطرت على تأله إله ليسدّ فقرها ويلبي مرادها. فلا بد لكل أحد من إله يألهه ومعبود يعبده، وصمد يصمد إليه في: الرغبات والرهبات. فإن كان المعبود ميتاً فالحي أكمل منه؛ والنفس مفطورة على عبادة الكامل الذي لا نقص فيه. وإن كان المعبود من دون الله حيا لزم فقره وحاجته لغيره، وذلك طعن في تألهه. فلزم - منعاً للتسلسل الممتنع - تأله الناس لإله لا يأله، وصمد لا يصمد لغيره، ومعبود لا يعبد، غني بالذات، كامل الكمال المطلق الذي لا نقص فيه. ومن هنا لو تركت الفطر على صبغتها لتألهت الله وحده - ضرورة - وكفرت بكل معبود سواه. وهذا برهان قطعي وعلم ضروري ودليل كلي، وضده مكابرة وسفسطة لا يؤبه لها. قال ابن القيم: "فإن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها، وكونها مريدة هو من لوازم ذاتها؛ فإنها حية، وكل حي شاعر متحرك بالإرادة؛ وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد: إما أن يكون مراداً لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه قطعا للتسلسل في العلل الغائية فإنه محال كالتسلسل في العلل الفاعلة. وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهو الله الذي لا إله إلا هو: الذي تألهه النفوس، وتحبه القلوب، وتعرفه الفطر، وتقرّ به العقول، وتشهد بأنه ربها ومليكها وفاطرها. فلا بد لكل أحد من إله يأله، وصمد يصمد إليه، والعباد مفطورون على محبة الإله الحق، ومعلوم بالضرورة أنهم ليسوا مفطورين على تأله غيره؛ فإذاً إنما فطروا على تألهه وعبادته وحده؛ فلو خُلّوا وفطرهم لما عبدوا غيره، ولا تألهوا سواه؛ يوضحه. الوجه الخامس عشر: أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن التأله

والمحبة، ويستحيل أن يكون فيها تأله غير الله لوجوه منها: أن ذلك خلاف الواقع. ومنها: أن ذلك المخلوق ليس أولى أن يكون إلها لكل الخلق من المخلوق الآخر، ومنها: أن المشركين لم ينفقوا على إله واحد بل كل طائفة تعبد ما تستحسنه. ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل منه؛ فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة الميت، وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله تألهه؛ وحينئذ فلزم الدور الممتنع، أو التسلسل الممتنع، فلا بد للخلق كلهم من إله يألهوه، ولا يأله هو غيره. وهذا برهان قطعي ضروري" (¬1) أ. هـ. وقال ابن تيمية في معرض الاحتجاج على المشركين الجاهلين بالفطرة: "وذلك لأنه لو قدر أنهم - أي المشركين - لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية: أن يحتذي الرجل حذو أبيه في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية. كما قال - صلى الله عليه وسلم - "كل مولود يولد على ¬

(¬1) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل/ ص:306.

الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه". فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها" (¬1) أ. هـ. وقال ابن القيم في ذات المعنى: "فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم؛ ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم؛ إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندما ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم: الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها (¬2) " أ. هـ. وقال ابن كثير: "وهذا جعل حجة مستقلة عليهم - أي الميثاق حجة مستقلة في بطلان الشرك - فدل على أنه: الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد" (¬3) أ. هـ. وقال رحمه الله في تأويل قوله تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (¬4): (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي: لأكثر الأمم. (مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) أي: لقد وجدنا أكثرهم ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (8/ 490). (¬2) أحكام أهل الذمة (2/ 563). (¬3) تفسير القرآن العظيم (3/ 506) أثناء تأويله لآية الميثاق. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 102.

فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هو: ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه "لا إله إلا هو" وأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع، وفي الفطر السليمة: خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى "إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وفي الصحيحين "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث، وقال تعالى في كتابه العزيز (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (¬1). وقوله تعالى (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (¬2) وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (¬3) إلى غير ذلك من الآيات". (¬4) أ. هـ. الفطر والإيجاد يقتضي العبودية للفاطر: قال ابن القيم: قوله تعالى: حاكياً عن صاحب ياسين أنه قال لقومه محتجاً عليهم بما تقر به فطرهم وعقولهم: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (¬5). فتأمل هذا الخطاب كيف تجد تحته أشرف معنى وأجله، وهو أن كونه سبحانه فاطراً لعباده يقتضي عبادتهم له، وأن من كان مفطوراً مخلوقاً فحقيق به ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 45. (¬3) سورة النحل، الآية: 36. (¬4) تفسير القرآن العظيم (3/ 449). (¬5) سورة يس، الآية: 22.

أن يعبد فاطره وخالقه، ولا سيما إذا كان مردّه إليه، فمبدأه منه، ومصيره إليه، وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته. ثم احتج عليهم بما تقر به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره فقال: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (¬1). أفلا تراه كيف لم يحتج عليهم بمجرد الأمر بل احتج عليهم بالعقل الصحيح ومقتضى الفطرة (¬2). وقال القرطبي: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) قال قتادة: قال له قومه: أنت على دينهم؟ فقال: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي: خلقني. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهذا احتجاج منه عليهم. وأضاف الفطرة إلى نفسه، لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبعث (¬3) إليهم، لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكراً، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثراً". (¬4) أ. هـ. وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: " (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) فأمرهم باتباعهم، ونصحهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة. ثم ذكر تأييداً لما شهد به ودعا إليه، فقال: (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً) أي: اتبعوا من نصحكم نصحا، يعود عليكم بالخير، وليس يريد منكم أموالكم، ولا أجراً على نصحه لكم، وإرشاده إياكم، فهذا موجب لاتباع من ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 23 - 24. (¬2) بدائع التفسير (3/ 478). (¬3) أي قوله تعالى (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (¬4) الجامع لأحكام القرآن (15/ 18).

هذا وصفه. بقي أن يقال: فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة، ولكنه ليس على الحق. فدفع هذا الاحتراز بقوله: (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا عما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا عما يشهد العقل الصحيح بقبحه. فكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له، على اتباع الرسل، وإخلاص الدين لله وحده فقال: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أي: وما المانع لي، من عبادة من هو المستحق للعبادة، لأنه الذي فطرني، وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم. فالذي بيده الخلق والرزق، والحكم بين العباد، في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه ويمجّد، دون من لا يملك نفعاً ولا ضراً، ولا عطاء ولا منعا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشوراً" (¬1). أ. هـ. وقال الإمام الشنقيطي: "قوله (فَطَرَنِي) معناه: خلقني وابتدعني، كما تقدم إيضاحه في أول سورة فاطر. والمعنى: أي شيء ثبت لي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني، وابتدعني، وأبرزني من العدم إلى الوجود، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الذي يخلق هو وحده هو الذي يستحق أن يعبد وحده، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله" (¬2) أ. هـ. وبذلك جلت حجة الموحدين، وعلت رايتهم على رؤوس الأشهاد، ودحض برهانهم كافة الافتراءات والأباطيل التي أسس المشركون بنيانهم عليها. فكل من كان مفطوراً مخلوقاً، فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه ويتفرغ لعبادته. فتلك بينة الفطر السليمة التي فطر الله عباده عليها وصبغهم بها. الشرك تنقص بالخالق ويستحيل جوازه في الفطر والعقول: قال ابن القيم: "وقال تعالى: عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: (مَاذَا ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (4/ 233). (¬2) أضواء البيان (6/ 658).

تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (¬1). أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج إلى رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء؛ فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم إلى قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم. فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، والعالم بكل شيء الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح. يوضح هذا: أن العابد معظم لمعبوده، متأله له، خاضع ذليل له، والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله والخضوع والذل، وهذا خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه، ولا سيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه عو عبده ومملوكه (¬2) أ. هـ. وقال عبد الرحمن السعدي: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: وما الذي ¬

(¬1) سورة الصافات، الآيات: 85 - 87. (¬2) بدائع التفسير (4/ 16 - 17).

ظننتم برب العالمين من النقص حتى جعلتم له أنداداً وشركاء" (¬1) أ. هـ. وقال ابن القيم: "قال تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (¬2). "يحتج" سبحانه عليهم بما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكاً له، فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه، ولا يرضى بذلك؛ فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي!؟. وهذا يبين أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر، والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك" (¬3). وقال القرطبي: قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (¬4)، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا فيقال لهم: فكيف يُتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي، فهذا حكم فاسد، وقلة نظر، وعمى قلب! فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة - والخلق كلهم عبيد الله تعالى - فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله، فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل، والقديم الأزلي منزة عن ذلك جل وعز. ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن (4/ 264). (¬2) سورة الروم، الآية28. (¬3) بدائع التفسير (3/ 391). (¬4) سورة الروم، الآية: 28.

وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك". (¬1) أ. هـ. وبهذا يظهر أن الفطرة السليمة قد قطعت: كافة الأسباب الداعية لعبادة أي معبود من دون الله؛ فالمشرك إنما يتخذ معبوده ليجلب به النفع، ويدفع به الضر، وشأن هذا لا يكون إلا فيمن اتصف بخصلة من هذه الأربع: إما أن يكون مالكاً لما يريده عبده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك. فإن لم يكن شريكاً كان معيناً له وظهيرا. فإن لم يكن كذلك كان شفيعا عنده بغير إذنه، ولا ترد شفاعته لديه أبداً. ومن المعلوم أن ثبوت أي خصلة من تلك الخصال - فضلا عن جميعها - في نفس مشرك ما لأي واحد من الخلق يكون ذلك تنقصا بالله وربوبيته وألوهيته وتوحيده، وهضماً لهذه الحقوق جميعاً. والمولى جل في علاه قد جبل القلوب وفطرها على: محبته والإقرار به وإجلاله وتعظيمه مع ثبوت صفات الكمال له، وتنزيهه عن كافة النقائص والعيوب. وبذلك تكون الفطرة ينبوع التوحيد، والعقل برهانه، وبهما قطعت مواد الشرك وأصوله، وانهار بنيانه القائم على شفا جرف هار. قال تعالى (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (¬2). قال ابن القيم فيها: "فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه. فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك. ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 23). (¬2) سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23.

فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً. فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مترتباً، متنقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك؛ وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً، وبرهاناً ونجاة، وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها؛ ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً. وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن" (¬1) أ. هـ. وقال ابن تيمية: "فبين سبحانه أن من دُعي من دون الله من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون: مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للمالك أعوان وظهراء وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فنفى بذلك وجوه الشرك. وذلك أن من يدعون من دونه: إما أن يكون مالكا، وإما أن لا يكون مالكا، وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا، وإما أن لا يكون شريكا، وإذا لم يكن شريكاً فإما أن يكون معاوناً، وإما أن يكون سائلاً طالباً. فالأقسام الأول الثلاثة وهي: الملك، والشركة، والمعاونة منتفية؛ وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه. كما قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (¬2) وكما قال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (¬3) وقال تعالى: ¬

(¬1) بدائع التفسير (3/ 435). (¬2) سورة البقرة، الآية: 255. (¬3) سورة النجم، الآية: 26.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (¬1) وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (¬2) وقال تعالى (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (¬3) وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (¬4) فإذا جعل من أخذ الملائكة والنبيين أربابا كافراً فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أرباباً؟! وتفصيل القول (¬5): أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى: مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخوله الجنة، أو نجاته من النار، أو أن يتعلم العلم والقرآن. أو أن يُصلح قلبه، ويحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك: فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ - سواء كان حياً أو ميتاً -: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشف مريضي، ولا عافني أو عاف أهلي أو دابتي وما أشبه ذلك، ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيتان: 43 - 44. (¬2) سورة السجدة، الآية: 40. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 51. (¬4) سورة آل عمران، الآيتان: 79 - 80. (¬5) أي: في سؤال المخلوق.

والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه - ثم ذكر الآيات الدالة على ذلك إلى أن قال - وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض" (¬1) أ. هـ. الفطرة بينة الشرعة والشرائع موافقة لموجبها: الفطرة نور الله وبينته في قلوب عباده الموحدين، الذين صبغت قلوبهم وجبلت على محبة الله وتوحيده، وعلى الكفر بما يعبد من دونه. فالموحدون عبدوا ربهم: بداعي العقل، وداعي الفطرة، وعلموا أن أنه لا شيء فيهما أوجب من عبادة الله وحبه؛ ولو لم ترسل بذلك الرسل، وتنزل به الكتب. كيف وقد جاءنا مؤكدتان: لمقتضاهما، وآمرتان بموجبهما؟! فاطمأنت قلوب الموحدين وثلجت صدورهم، وتيقنوا أن: الفطرة، والعقل، والوحي خرجوا جميعاً من مشكاة واحدة! والأخير منهم يستحيل أن يأتي بمجالات الأولين، وإن جاء بما يعجزا عن إدراكه، وهما الفرقان والبرهان بين وحي الرحمن، ووحي الشيطان قال تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (¬2). قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (¬3) وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (27/ 66 - 68). (¬2) سورة هود، الآية: 17. (¬3) سورة الروم، الآية: 30.

- صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ". وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم"، وفي المسند والسنن: "كل مولود يولد على هذه الملة، حتى يعرب عنه لسانه .. " الحديث، فالمؤمن باق على هذه الفطرة. [وقوله: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)، أي]: وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكمّلة المعظمّة المختتمة بشريعة محمد - صلوات الله وسلامه وعليهم أجمعين - ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم النخعي، والسدي، وغير واحد في قوله تعالى: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ): إنه جبريل عليه السلام. وعن علي، والحسن، وقتادة: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وكلاهما قريب في المعنى، لأن كلا من جبريل ومحمد - صلوات الله عليهما - بلّغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد، ومحمد إلى الأمة. وقيل: هو "علي". وهو ضعيف لا يثبت له قائل، والأول والثاني هو الحق، وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها، ولذا قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) (¬1)، وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبلغه النبي محمد إلى أمته" (¬2) أ. هـ. وقال عبد الرحمن السعدي: "يذكر تعالى حال رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن قام مقامه، من ورثته القائمين بدينه وحججه الموقنين بذلك، وأنهم لا يوصف بهم ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 17. (¬2) تفسير القرآن العظيم (4/ 245: 246).

غيرهم ولا يكون أحد مثلهم. فقال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة، ودلائلها الظاهرة، فتيقن تلك البية. (وَيَتْلُوهُ) أي: يتلو هذه البينة والبرهان، برهان آخر (شَاهِدٌ مِنْهُ) وهو: شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه، وعلم بعقله حسنه، فازداد بذلك إيماناً إلى إيمانه". (¬1) أ. هـ. وقال ابن القيم في قوله تعالى (نُورٌ عَلَى نُورٍ) (¬2). فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وصدق رسله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع النور المشهود، وأنه نور على نور، نور الوحي ونور العقل؛ نور الشرعة ونور الفطرة؛ نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية" (¬3). أ. هـ. وقال ابن تيمية: "الحادي عشر (¬4)؛ أن النبي هو وسائر المؤمنين لا يخبرون إلا بحق، ولا يأمرون إلا بعدل؛ فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد، لا يأمرن بالفواحش، ولا الظلم، ولا الشرك، ولا القول بغير علم. فهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها، فلا يأمرون إلا بما يوافق المعروف في العقول الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول، فكما أنهم هم لا يختلفون فلا يناقض بعضهم بعضاً، بل دينهم وملتهم واحد، وإن تنوعت الشرائع فهم أيضاً موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده، موافقون للأدلة العقلية لا يناقضونها قط، بل الأدلة العقلية الصحيحة كلها توافق الأنبياء ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن (2/ 358). (¬2) سورة النور، من الآية: 35. (¬3) بدائع التفسير (3/ 272). (¬4) أي من الفروق بين الأنبياء، وبين السحرة والكهان.

لا تخالفهم، وآيات الله، السمعية والعقلية والعيانية السماعية كلها متوافقة متصادقة متعاضدة لا يناقض بعضها بعضا" (¬1) أ. هـ. وبعد ما حررت مقتضى الفطرة، وموجبها ولوازمها من خلال الأدلة الدالة عليها من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها الذين هم: أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وشموس الفلاح، ونجوم الحيارى، وبر النجاة. وتبين أن عامة السلف وجمهرة العلماء قائلون بأن الله فطر عباده وجبلهم على وجوب عبادته (¬2)، وعلى الكفر والبراءة من كل معبود سواه. وبذلك تكون الأدلة قد اتضحت، والأعلام قد انتصبت، ولاح نور الفرقان. وعليه أذكر - على عجالة بمشيئة الله - الأقوال الأخرى في معنى الفطرة وبيان: التعقبات عليها. قال قوم: المولود على فطرة الإسلام من كان أبواه مسلمين دون غيره ممن نشأ بين أبوين كافرين، والجواب: قال الحافظ: "قوله (يولد على الفطرة) ظاهره تعميم الوصف المذكور في جميع المولودين، وأصرح منه رواية يونس المتقدمة بلفظ "ما من مولود إلا يولد على الفطرة"، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه"، وفي رواية له من هذا الوجه "ما من مولود إلا وهو على الملة". وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم، وإنما المراد: أن كل من ولد على الفطرة، وكان له أبوان على غير الإسلام، نقلاه إلى دينهما. فتقدير الخبر على هذا: كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه. ويكفي في الرد عليهم: رواية أبي صالح المتقدمة، وأصرح منها رواية ¬

(¬1) النبوات /43: 431. (¬2) هذا بخلاف الوجوب الشرعي والذي هو محل الثواب والعقاب، وسيأتي مزيد بيان بمشيئة الله لهذه المسألة في فصل حجية العقل.

جعفر بن ربيعة بلفظ "كل بني آدم يولد على الفطرة" (¬1). أ. هـ. وقال قوم: ليس المراد بالفطرة: الفطر على التوحيد، وإنما المراد بها التهيئ لقبول الحق. والجواب قد مر فليراجع المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنها خلاف مقتضاها. ويقال لأرباب هذا القول: هل الفطرة بذاتها تقتضي الإسلام، أم الإسلام متوقف على شيء خارجها؟ فإن كان الأول ثبت المطلوب؛ وإن كان الثاني، لم يبق ثم فرق بين الإسلام، والتهويد، والتنصير، والتمجيس .. بالنسبة إليها، فهي لم تجبل على أي واحد منهم، وحصوله فيها متوقف على شيء دونها. فلما لم يأت ذكر (¬2) للإسلام ساعة الأحداث والتغيير من قبل الأبوين، دل على أن الفطرة تقتضيه إذا خليت عن المعارض، وأن الكفر خلاف مقتضاها. وقال الحافظ مبطلاً لقول هؤلاء: "وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (¬3). ولكن المراد: أن فطرته مقتضيه: لمعرفة دين الإسلام، ومحبته؛ فنفس الفطرة تستلزم: الإقرار والمحبة، وليس المراد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد: أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا. والله أعلم" (¬4) أ. هـ. ¬

(¬1) فتح الباري: كتاب الجنائز (3/ 292). (¬2) مثل أن يقول - صلى الله عليه وسلم - بادئاً بالذي هو خير: "فأبواه يسلمانه أو يهودانه ... الخ". (¬3) سورة النحل، الآية: 78. (¬4) فتح الباري: كتاب الجنائز (3/ 293: 294).

وأترك الحافظ رحمه الله يعرض بقية الأقوال والتعقب عليها. قال رحمه الله: "وفي المسألة أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وغيره. منها قول ابن المبارك: إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلما ولد على الإسلام، ومن علم الله أنه يصير كافراً ولد على الكفر، فكأنه أول الفطرة: بالعلم. وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله "فأبواه يهودانه الخ" معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي في التمثيل بحال البهيمة. ومنها: أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة والإنكار، فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعاً: (بَلَى)، أما أهل السعادة فقالوها طوعاً، وأما أهل الشقاوة فقالوها: كرهاً: وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه. وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح. فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند آخر الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيم عن شيخه. ومنها: أن المراد بالفطرة الخلقة أي: يولد سالماً لا يعرف كفراً ولا إيماناً، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البر وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله (حَنِيفاً) أي على استقامة. وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر دون ملة الإسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى. ومنها: قول بعضهم إن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه، وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله. ويؤيد المذهب الصحيح أن قوله "فأبواه يهودانه الخ" ليس فيه لوجود الفطرة شرط، بل ذكر ما يمنع موجبها كحصول اليهودية مثلا متوقف على

أشياء خارجة عن الفطرة. بخلاف الإسلام. وقال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثة، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن قوله "فأبواه يهودانه الخ" محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى، ومن ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث "الله أعلم بما كانوا عاملين" (¬1) أ. هـ. وبهذا القدر يكون قد تم هذا الفصل بعون الله وفضله. * * * ¬

(¬1) المصدر السابق/294.

أهم نتائج هذا الفصل

أهم نتائج هذا الفصل - حجية الفطرة -: * خلق الله جل في علاه عباده جميعاً حنفاء موحدين لله رب العالمين بالألوهية، وكافرين بألوهية كل معبود سواه. * لو ترك الناس ودواعي فطرهم لما كانوا إلا عارفين بالله، وبتوحيده، يعبدونه وحده بلا شريك. * الموحدون عبدوا ربهم: بداعي العقل، وداعي الفطرة، وداعي النقل. * الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام، والخروج عنه خلاف مقتضاها. * الفطرة بينة الشرعة وشاهدها في أنفس الموحدين. * الفطر يقتضي ويوجب: إخلاص العبادة للفاطر. * الفطرة أبطلت كافة الأسباب الداعية لعبادة أي معبود من دون الله تبارك وتعالى * الشرك تنقص بالخالق، ويستحيل جوازه في الفطر والعقول، ولو لم يرد بذلك شرع. * الفطرة حجة مستقلة في بطلان الشرك. * المشركون خالفوا كافة الحجج والمواثيق، ولم يكن لديهم سلطان قط على فعلتهم الشنيعة النكراء. * بعثت الرسل بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغييرها وتحويلها، فالوحي جاء ليذكر النفوس ما استودع الله فيها من معرفته، وتوحيده، ومحبته، ووجوب إخلاص التوجه إليه، وليس ليبدع فيها هذا العلم بعد أن لم يكن لديها. * الرسل لا يأمرون إلا بما يشهد العقل الصحيح والفطرة المستقيمة بحسنه، ولا ينهون إلا عما يشهدان بقبحه. * جميع العبادات البدنية لا تصح - فضلاً عن أن تقبل - حتى تستقيم مسألة التوحيد في القلوب.

الفصل الثالث حجية العقل

الفصل الثالث حجية العقل وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: العقل فيه وجوب التوحيد والبراءة من الشرك. المبحث الثاني: العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك. المبحث الثالث: خصائص وسمات الأدلة العقلية. المبحث الرابع: الشريعة جاءت بخلاصة الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين وهي أول ما أنزل من التشريع. المبحث الخامس: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال. المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة.

الفصل الثالث حجية العقل إن الله جل في علاه قد منّ على عباده بمنة جليلة وبنعمة عظيمة، بها يَسمون على كافة المخلوقات إن عملوا بموجبها، وبها يردون إلى أسفل سافلين إن خرجوا عن موجها ونقضوا مقتضاها، ألا وهي نعمة العقل. وقد حلّى المولى تبارك وتعالى عباده بالعقل ليعرفوا به: معبودهم ويوحدوه ويدركوا به: أسماءه الحسنى وصفاته العلى القائم عليها والمنشق منها: وحدانية تألهه، وكذا بطلان وقبح الشرك والفواحش والخبائث؛ ومن ثم كان العقل كافياً في معرفة الله وتوحيده ولو لم يرد بذلك شرع. فالإيمان بالله وحده والكفر بما يعبد من دونه مستقر في الفطر والعقول، بل هو أرسخ وأثبت مرتكزاتهما. وبهذا كان العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك، ولو لم يأت بحرمته شرع. فلما طال الأمد، وصالت شياطين الجن على عقول وفطر الإنس، فأفسدوا عليهم: تصوراتهما، وبدّلوا موازينهما، وحرفوا مرتكزاتهما، أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لتذكر العباد ما استودع سبحانه في فطرهم وعقولهم: من حسن عبادته وحده، وحل الطيبات، ومن قبح الشرك به، وحرمة الخبائث. وضرب لهم سبحانه الأمثال، وبين الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين. فالوحي الرباني دلالة على المطالب الإلهية نوعان: أحدهما: الخبر المحض. والثاني: الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي تقيم صحة مقتضى كافة الأخبار. وبهذا قامت حجة الله - الموجبة للعذاب - على عباده بالمعقول والمنقول. فالعقل والنقل خرجا من مشكاة واحدة، وجاء الأخير ليخاطب العباد بمرتكزات الأول، ويقيم موجبه، ويفصل مجمله،

ويبين ما عجز عن إدراكه، ولم يأت قط بمحالاته، ولا بضد تصوراته وموازينه. وإليك إخي القارئ براهين ما سبق: من الكتاب والسنة، بفهم فحول أهل العلم، ونظار أهل السنة. * * *

المبحث الأول: العقل فيه وجوب التوحيد والبراءة من الشرك

المبحث الأول: العقل فيه وجوب التوحيد والبراءة من الشرك: قال القرطبي في قوله تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (¬1) "أجمع العلماء على أن: هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب؛ ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب" (¬2) أ. هـ. وقال ابن القيم: "قال تعالى: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (¬3). ولم يقل: إلهكم، والرب: هو السيد والمالك والمنعم والمربي والمصلح، والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها، فلا شيء أوجب (¬4) في العقول والفطر من عبادة من هذا شأنه وحده لا شريك له (¬5) أ. هـ. وقال رحمه الله في قوله تعالى (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) (¬6): "أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفاً لهم، ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول، مستهجن تركها، قبيح الإخلال بها؛ فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بعد تابعة لإيجاده وخلقه. وقد جبل الله العقول والفطر على: شكر النعم، ومحبة المحسن. ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك؛ فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع" (¬7) أ. هـ. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 36. (¬2) الجامع لأحكام القرآن (5/ 180). (¬3) سورة البقرة، الآية: 21. (¬4) الوجوب هنا بمعنى: استحالة قبول العقول المجبولة من قبل فاطرها لعبادة غيره - سبحانه - ولو لم يرد بذلك شرع، ومن ثم كان العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك. (¬5) بدائع التفسير (1/ 288). (¬6) سورة يس، الآية: 22. (¬7) بدائع التفسير: (3/ 477).

وقال رحمه الله - في رده على نفاة التحسين والتقبيح الذاتي للأفعال (¬1): "قولكم: فكيف يعرفنا العقل وجوباً: على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح بالطاعة، وعلى الرب بالثواب والعقاب. (فيقال): وأي استبعاد في ذلك؟ وما الذي يحيله؟ فقد عرفنا العقل من الواجبات عليه ما يقبح من العبد تركها. كما عرفنا، وعرف أهل العقول، وذوي الفطر التي لم تتواطأ على الأقوال الفاسدة: وجوب الإقرار بالله وربوبيته وشكر نعمته ومحبته، وعرفنا قبح الإشراك به، والإعراض عنه، ونسبته إلى ما لا يليق به. وعرفنا: قبح الفواحش والظلم والإساءة والفجور والكذب والبهت والإثم والبغي والعدوان، فكيف نستبعد منه أن يعرفنا وجوباً على نفسه بالمعرفة، وعلى الجوارح - بالشكر المقدور المستحسن في العقول التي جاءت الشرائع بتفصيل ما أدركه العقل منه جملة، وبتقرير ما أدركه تفصيلاً. وأما الوجوب على الله بالثواب والعقاب فهذا مما تتباين فيه الطائفتان أعظم تباين. فأثبتت القدرية من المعتزلة عليه تعالى وجوباً عقلياً، وضعوه شريعة له بعقولهم، وحرموا عليه الخروج عنه، وشوّهوا (¬2) في ذلك كله بخلقه، وبدّعهم في ذلك سائر الطوائف وسفهوا رأيهم فيه، وبينوا مناقضتهم وألزموهم بما لا محيد لهم عنه. ونفت الجبرية أن يجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه، وجوّزوا عليه ما يتعالى ويتنزّه عنه، وما لا يليق بجلاله مما حرمه على نفسه، وجوّزوا عليه ترك ما أوجبه على نفسه مما يتعالى ويتنزه عن تركه وفعل ضدّه. فتباين الطائفتان أعظم تباين. وهدى الله الذين آمنوا - أهل السنة الوسط - للطريقة المثلى التي جاء بها ¬

(¬1) ستأتي تلك المسألة في بحث مستقل بمشيئة الله وعونه. (¬2) هكذا في الأصل وإن كان السياق يقتضي وضع "وشبهوه".

رسوله ونزل بها كتابه، وهي أن العقول البشرية - بل وسائر المخلوقات - لا توجب على ربها شيئاً ولا تحرمه، وأنه يتعالى ويتنزه عن ذلك. وأما ما كتبه على نفسه وحرمه على نفسه فإنه لا يخل به، ولا يقع منه خلافه؛ فهو إيجاب منه على نفسه بنفسه وتحريم منه على نفسه بنفسه؛ فليس فوقه تعالى موجب ولا محرّم" (¬1) أ. هـ. وقال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد ابن المنير المالكي - متعقباً الزمخشري في مسألة وجوب النظر العقلي في أدلة التوحيد: - "وأما وجوب (¬2) النظر في أدلة التوحيد فإنما يثبت بالسمع لا بالعقل، وإن كان حصول المعرفة بالله وتوحيده غير موقوف على ورود السمع، بل محض العقل كاف فيه باتفاق" (¬3) أ. هـ. وقال ابن تيمية: "وكثير من هؤلاء - أي الذين يظنون أن العقل غير مستقل بإدراك التوحيد - يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل: كالمعاد وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم والكذب. والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك، وينكر على من لم يستدل بها؛ ويبين أنه بالعقل يعرف: المعاد، وحسن عبادته وحده، وحسن شكره، وقبح الشرك وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع" (¬4) أ. هـ. وقال رحمه الله في قوله تعالى (مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - إلى قوله تعالى - أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة /412: 413. (¬2) أي: الوجوب المقتضي لعذاب تاركه فهذا محله السمع لقوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15]. (¬3) الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال وهو بحاشية تفسير الكشاف للزمخشري (1/ 275) مطبعة الحلبي وأولاده لمصر. (¬4) مجموع الفتاوى (16/ 252: 253).

وَمَا تَعْمَلُونَ) (¬1). "فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم ولهذا استفهم استفهام منكر فقال: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي: وخلق ما تنحتون. فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعون بأيدكم وتدعون رب العالمين؟ فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا؛ إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يذمون عليه" (¬2) أ. هـ. وقال ابن القيم في قوله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (¬3): "أي: لو كان في السموات والأرض آلهة تعبد غير الله لفسدتا وبطلتا. ولم يقل "أرباب" بل قال "آلهة" - والإله هو المعبود والمألوه - وهذا يدل على أنه من الممتنع المستحيل عقلا أن يشرع الله عبادة غيره أبداً، وأنه لو كان معه معبود سواه لفسدت السموات والأرض. فقبح عبادة غير الله قد استقر في الفطر والعقول وإن لم يرد بالنهي عنه شرع، بل العقل يدل على أنه أقبح القبيح على الإطلاق، ومن المحال أن يشرعه الله قط؛ فصلاح العالم في أن يكون الله وحده هو المعبود، وفساده وهلاكه في أن يعبد معه غيره. ومحال أن يشرع لعباده ما فيه فساد العالم وهلاكه؛ بل هو المنزه عن ذلك" أ. هـ. إن حسن التوحيد وقبح الشرك من أثبت الثوابت وأركز المرتكزات في الفطر والعقول. ومن ثمّ استحال جواز الشرك فيهما ما دامت السماء سماء ¬

(¬1) سورة الصافات، الآيات: 85 - 96. (¬2) مجموع الفتاوى (11/ 681: 682). (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 22.

والأرض أرضاً. فحسن التوحيد وقبح الشرك حقيقة ثابتة راسخة، ولو لم ترسل الرسل وتنزل الكتب. فالعقل قاطع بوجوب عبادة الفاطر الخالق، المربي المنعم، المالك لجلب النفع، ولدفع الضر، وكذا يقطع بحرمة عبادة كل مخلوق مربوب محدث. وقد هيأ الله العقول للقيام بالبراهين الباهرة والحجج الدامغة والأدلة الدالة على تلك الحقيقة التي كانت سبباً لانبثاق كافة الحقائق؛ وبهذا كانت الفطر والعقول من أقوى مستندات النبيين والمرسلين على الملحدين والمشركين. وبذلك أصبح العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك، ولو لم يرد بحرمته شرع. * * *

المبحث الثاني: العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك

المبحث الثاني: العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك: قال ابن تيمية: "وهذا يقتضي - أي فطر الذرية على التوحيد - أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا" (¬1) أ. هـ. وقال ابن القيم: "وهذا يقتضي - أي فطر الذرية على التوحيد - أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا" (¬2) أ. هـ. وقال رحمه الله في قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (¬3).: "فهذا استدلال قاطع على أن الإيمان بالله أمر مستقر في الفطر والعقول، وأنه لا عذر لأحد في الكفر به ألبتة" (¬4) أ. هـ. وقال رحمه الله في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (¬5): "فضرب لهم سبحانه مثلاً من عقولهم يدلهم على قبح عبادتهم لغيره، وأن هذا أمر مستقر قبحه وهجنته في كل عقل وإن لم يرد به الشرع، وهل في العقل أنكر وأقبح من عبادة من لو اجتمعوا كلهم لم يخلقوا ذباباً واحداً، وإن يسلبهم الذباب شيئا لم يقدروا على الانتصار منه واستنقاذ ما سلبهم إياه. وترك عبادة الخلاق العليم القادر على كل شيء الذي ليس كمثله شيء. ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (8/ 491). (¬2) أحكام أهل الذمة (2/ 563) ويلاحظ: تطابق كلام ابن القيم، مع كلام شيخه. (¬3) سورة البقرة، الآية: 28. (¬4) بدائع التفسير (1/ 298). (¬5) سورة الحج، الآية: 73.

أفلا تراه كيف احتج عليهم بما ركّبه في العقول من حسن عبادته وحده، وقبح عبادة غيره؟ " (¬1) أ. هـ. وقد حمل فريق من أهل العلم حجية الميثاق على: نصب الأدلة الدالة على وجوب التوحيد، وحرمة الشرك، والشاهد على صحتها العقول. قال أبو حيان: "أي: فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول؛ كراهة أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه، أو كراهة أن تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم؛ لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نُبهوا عليه قائم معهم؛ فلا عذر في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم" (¬2) أ. هـ. قلت: وهو معنى صحيح متفق عليه بين عامة سلف الأمة، ولكن تبقى دلالة الآية عليه تحتمله أم لا؟ وقد ذكره جمهور المفسرين: وجها من وجهين في قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (¬3). قال الخازن: "يعني: وأي عذر لكم في ترك الإيمان بالله والرسول يدعوكم إليه، وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبرهان والحجج (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) أي: أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. وقيل أخذ ميثاقكم حين ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعوا إلى متابعة الرسول (¬4) أ. هـ. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة /326. (¬2) تفسير البحر المحيط: (4/ 421). (¬3) سورة الحديد، الآية: 8. (¬4) تفسير الخازن (7/ 31).

وقال الشوكاني: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضاً: أي والحال: أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان. قرأ الجمهور (وَقَدْ أَخَذَ) مبنيا للفاعل، وهو الله سبحانه لتقدم ذكره. وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحجج والدلائل، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب؛ فهذا من أعظم أسبابه، وأوضح موجباته" (¬1) أ. هـ. * * * ¬

(¬1) فتح القدير (5/ 167) ويراجع تفسيري القرطبي والبغوي فهما في ذات المعنى.

المبحث الثالث: خصائص وسمات الأدلة العقلية

المبحث الثالث: خصائص وسمات الأدلة العقلية: العقل حجة مستقلة في وجوب التوحيد والبراءة من الشرك، ولا أُبعد النجعة إن زعمت: أنه من أعظم وأجل آيات ودلائل الرسل على أقوامهم. فالكتب الربانية دلالتها على المطالب الإلهية نوعان: أحدهما: الخبر المحض. الثاني: الأدلة العقلية والبراهين اليقينية والعلوم الضرورية الدالة على صحة مقتضى الأخبار، وبذلك تكون دلالتها شرعية عقلية؛ شرعية: لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها؛ وعقلية: لأن بالعقل يُعلم صحتها، ويُستقل بإدراكها، وليس لمجرد الخبر. "فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يخبر بالحق، ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته، كالأقيسة العقلية، وهي الأمثال المضروبة" (¬1). مثال ذلك: قوله تعالى (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (¬2). فهذا خبر محض يدل على وجوب إفراد الله بالعبادة، والبراءة من عبودية ما سواه؛ فإذا طعن المشركون في صحته محتجين بقولهم (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (¬3) فعند ذلك تنتصب الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية؛ والعلوم الضرورية - التي لا ينفك عن بداهة مدلولها اثنان من العقلاء - حكماً فصلاً بين: الموحدين والمشركين. فنقول لهم: من المعلوم ضرورة: أن الإله لا بد أن يكون مالكاً لجلب النفع، وقادراً على دفع الضر عن عابديه، والعقل قاطع بأن الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً يكون أعجز عن ملكه لغيره. وهذا برهان ضروري يقيني ينسف به تأله كافة الآلهة المزعوم ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (3/ 305). (¬2) ورد هذا الجزء وتكرر في كثير من الآيات. (¬3) سورة ص، الآية: 7.

عبادتها دون الله، ويعلو به برهان تأله الله الواحد القهار. قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (¬1) مثال آخر: قوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (¬2)، فهذا الخبر يدل على بعث الناس من قبورهم لوقوفهم بين يدي ربهم للحساب والقصاص. فإذا احتج المشركون بقولهم مثلاً: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (¬3) فالجواب: من المعلوم ببداهة العقول: أن الذي يقول على حمل القنطار، يكون على حمل أوقية أقوى وأقدر. قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4)، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} (¬5). فقد يرد أحدهم متبجحًا: هذا دليل على الجواز، فأين الدليل على وجوب البعث؟ فالجواب: إن أفعال الله المتقنة، وصنعته الباهرة، وخلقه المحكم دلّ على حكمته، وحكمته دلت على إرادته، وإرادته مستلزمة لعلمه، وتلك صفاته الأزلية التي لم تفارق ذاته؛ فدل ذلك على أنه لا يفعل إلا بعلم ولحكمة مراده. والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه، والجمع بين المتماثلين والتفريق بين المتناقضين. ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 3. (¬2) سورة الحج، الآية: 7. (¬3) سورة المؤمنون، الآية 82 - 83. (¬4) سورة غافر، الآية: 57. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 99.

وإعطاء الله لعباده القدرة والإرادة والجوارح، دون تكليف، وضوابط، ومآل إليه لتجزى كل نفس بما تسعى، يقتضي كونه راضيًا: بسيء الأعمال وقبيح الأفعال!!! ومن ثم لا يوجد أدنى فرق بين المعروف والمنكر، ولا بين الطيبات والخبائث ... ومن هنا استحال في هذه العقول الصحيحة والفطر المستقيمة: أن يترك الله الناس سدى: يتهارجون بينهم كتهارج الحمر، وينزو بعضهم كنزو الوحوش والذئاب على ضحاياها دون تكليف وشرع وضوابط وحدود، ثم مآل إليه للفصل بينهم حتى تعود الحقوق لأصحابها، ويفرق بين أوليائه وأعدائه. فإلهيته سبحانه وربوبيته وحكمته وآثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى تأبى أن يكون مآل المسلمين كالمجرمين، والظالمين كالمظلومين، والطائعين كالعاصين، بل وقد استقر في قرارة العقول قبح ترك الناس سدى؛ ولذا قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (¬1) قال ابن القيم: "أي: مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وهذا يدل على أن هذا مناف لكمال حكمته، وأن ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك؛ لهذا خرج الكلام مخرج الإنكار على من زعم ذلك، وهو يدل على أن حسنه مستقر في الفطر والعقول، وقبح تركه سدى معطلاً أيضًا مستقر في الفطر. فكيف ينسب إلى الرب ما قُبحه مستقر في فطركم وعقولكم؟! " (¬2) وبذلك يجزم الموحدون بأن الله جلّ في علاه قد أقام الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على صحة كافة الأخبار الدالة على أصول الدين، تلك ¬

(¬1) سورة القيامة، الآية 36. (¬2) بدائع التفسير: (5/ 89).

الأصول التي أخذ عليها الميثاق، وفطر عليها العباد، وركز في العقول أدلة صحتها، وبراهين استقامتها، وقامت الآيات الكونية ناطقة بمدلولها. وقد سجل القرآن على المشركين مخالفتهم للمعقول والمنقول، وضرب لهم الأمثال الدالة على حسن التوحيد، وعلى بطلان الشرك. فحصحصت بذلك حجة العقل في الدلالة على المطالب الإلهية، وسطع برهانه على بطلان الجريمة الكبرى والخيانة العظمى المتمثلة في الوقوع في عبادة غير الله العلي الكبير. والمستلزمة للتنقص به، وبربوبيته، وألوهيته، وأسمائه الحسنى وصفاته العلى - شاء المشرك ذلك أم أبى -. فإن لم يكن كذلك بطلت دلالة تلك الأمثال، وعادت أخباراً محضة، ومن المعلوم ضرورة أن الخبر لا يقيم صحة الخبر وبهذا تكون حجج التوحيد قد علت وسطع نورها، وأبادت ظلمات الشرك، وأحرقت زيفها، وقضت على أباطيلها. فالموحدون عبدوا ربهم: بداعي العقل، وداعي الفطرة، وداعي الشرع، ووافقوا مقتضى الآيات الكونية. والمشركون: خرجوا عن كافة دواعي الهدى وخالفوا المعقول والمنقول، وغدوا صفر اليدين من كافة الحجج والبراهين. قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (¬1). ومن هنا ندرك: أن الدليل الشرعي لا يقابل: بالدليل العقلي، بل بالدليل البدعي. فالبدعة ضد: الشرعة، والمعقول برهان المنقول وميزانه. قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (¬2). قال ابن كثير: (وَالْمِيزَانَ) هو: العدل: قاله: مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو ¬

(¬1) سورة الملك، الآية: 10. (¬2) سورة الحديد، الآية: 5.

الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة". (¬1) أ. هـ. وقال ابن تيمية: "والميزان" التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوي بين المتماثلين، وتفرق بين المختلفين، بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف. فإذا قيل: إن كان هذا مما يعرف بالعقل؛ فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل؟ قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف. فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية. فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علماً وعملاً، وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليها وأرشدتها، لما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت - بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة - فأزالت ذلك الفساد. والقرآن والحديث مملوءان من هذا، يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة. ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين. وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآية وقوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي هذا حكم جائر لا عادل، فإن فيه تسوية بين المختلفين. ومن التسوية بين المتماثلين قوله: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية". (¬2) أ. هـ. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم: (8/ 53). (¬2) مجموع الفتاوى (9/ 242: 243).

ولست أعني بالأدلة العقلية: منطق اليونان، أو قوانين الفلاسفة، أو سراب حجج المتكلمين والمتهوكين ... بل الميزان العقلي الصحيح العادل - لا العائل - الذي منّ الله به على الإنسان، والذي به سما على كافة المخلوقات، وعلا في أحسن تقويم، والذي بفقده يرد صاحبه إلى أسفل سافلين. علة تكريم الإنسان بالعقل: لقد منّ المنان الكريم على الإنسان الضعيف بنعمة العقل؛ ليدرك به الآثار الربانية والمطالب الإلهية، ومن ثم جعل حجة مستقلة عليه في بطلان الشرك، وكذا جعل مستنداً من مستندات السمع، وبهما قامت حجة الله على خلقه. قال ابن القيم: "فإن الله سبحانه ركب العقول في عباده ليعرفوا بها: صدقه وصدق رسله، ويعرفوه بها، ويعرفوا: كماله وصفاته، وعظمته وجلاله، وربوبيته وتوحيده، وأنه الإله الحق وما سواه باطل. فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول، وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون عوناً لهم على ما خلقوا لأجله، وأعطوا العقول له، فأعظم ثمرة العقل: معرفته لخالقه وفاطره، ومعرفة صفات كماله، ونعوت جلاله وأفعاله، وصدق رسله والخضوع والذل والتعبد له" (¬1) أ. هـ. وقال رحمه الله: "إن السمع حجة الله على خلقه، وكذلك العقل، فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركب فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من السمع. والعقل الصريح لا يتناقض في نفسه، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه، وكذلك العقل مع السمع، فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض، ولكن تتوافق وتتعاضد، وأنت لا تجد سمعاً صحيحاً عارضه معقول مقبول عند ¬

(¬1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (4/ 1236).

كافة العقلاء أو أكثرهم، ولا تجده ما دام الحق حقاً والباطل باطلاً، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ويشهد ببطلانه" (¬1) أ. هـ. موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول: لا جرم أن العقل الصحيح موافق للنقل الصريح، وأن من خالف صريح المعقول لم تقم له حجة عقلية ولا سمعية لتطابقهما وتصادقهما وخروجهما من مشكاة واحدة؛ ومن ثم كان العقل شاهداً للنقل، ومحامياً دونه، وبرهاناً على صدقه، وآية من آيات طمأنينة الصدور والقلوب به. قال ابن القيم في معرض التصدي للذين يزعمون وقوع التعارض بين النقل والعقل: "إن تجويز معارضة العقل للوحي يوجب وصف الوحي بضد ما وصفه الله به؛ فإن الله سبحانه وصفه بكونه هدى في غير موضع، وأخبر أنه يهدي للتي هي أقوم الطرق: وهي أقربها إلى الحق. فإن الطريق المستقيم هو أقرب خط موصل بين نقطتين، وكلما تعوج بعد. وأخبر سبحانه أنه شفاء لما في الصدور، وهذا يتضمن أنه يشفي ما فيها من الجهل والشك والحيرة والريب، كما أن الهدى يتضمن أنه موصل إلى المقصود. فالهدى يوصلها إلى الحق المقصود من أقرب الطرق، والشفاء يزيل عنها أمراضها المانعة لها من معرفة الحق وطلبه، فهذا [يزيل] الجهل المقتضي، وهذا يزيل المانع، ومن المحال أن تكون هذه صفة كلام مخالف للعقل ومعارض له. وكذلك أخبر أنه نور كما قال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬2). وقال: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (¬3). ¬

(¬1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: (3/ 1187). (¬2) سورة الأعراف، الآية: 157. (¬3) سورة الشورى، الآية: 52.

فهو نور البصائر من العمى، كما هو شفاء الصدور من الجهل والشك، ومحال أن تتنور البصائر بما يخالف صريح العقل؛ فإن ما يخالف العقل موجب الظلمة. وأخبر سبحانه أنه برهان فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (¬1). ومحال أن يكون ما يخالف صريح العقل برهاناً. وأخبر سبحانه أنه علم كما قال: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (¬2). وما يخالف العقل الصريح لا يكون علماً. وأخبر أنه حق، والعقل الصريح لا يخالف الحق فقال تعالى: (الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (¬3). وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (¬4). وقال: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (¬5). وقال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (¬6). وحينئذ فكونه حقاً يدل على أن ما خلافه مما يسمى معقول باطل، فإن كان ما خالفه حقاً لزم أن يكون باطلاً، وإن كان هو الحق فما خلافه باطل قطعاً. وأخبر أنه آيات بينات، وما يخالف صريح العقل لا يكون كذلك. وأخبر أنه أحسن القصص وأحسن الحديث، ولو خالف صريح العقل لكان موصوفاً بضد ذلك. وأخبر أنه أصدق الكلام فقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (¬7) (وَمَنْ ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 174. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 61. (¬3) سورة آل عمران، الآيات: 1 - 3. (¬4) سورة النساء، الآية: 105. (¬5) سورة يونس: الآية: 94. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 62. (¬7) سورة النساء، الآية: 122.

أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (¬1). ولو خالف العقل لم يكن كذلك، وكان كلام هؤلاء الضالين المضلين أصدق منه. وأخبر أن القلوب تطمئن به أي: تسكن إليه من قلق الجهل والريب والشك كما يطمئن القلب إلى الصدق، ويرتاب بالكذب فقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (¬2). وجعل هذا من أعظم الآيات على صدقه وأنه حق من عنده. ولهذا ذكره جواباً لقول الكفار (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فقال: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ). أي: بكتابه الذي أنزله وهو ذكره وكلامه، ولو كان في العقل الصريح ما يخالفه لم تطمئن به قلوب العقلاء. والعاقل اللبيب إذا تدبر القرآن، وتدبر كلام هؤلاء المعارضين له تبين: أن الريبة كلها في كلامهم، والطمأنينة في كلام لله ورسوله. وأخبر سبحانه أن التوراة - التي هو (¬3) أكمل وأجل منها - إمام للناس. فقال تعالى: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً) (¬4). والإمام هو: القدوة الذي يؤتم به. وكيف يقتدى بكلام يخالف صريح العقل. وسماه سبحانه فرقاناً؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، فلو خالف صريح العقل لم يكن فرقاناً. ولكان الفرقان كلام هؤلاء الضالين المضلين. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 87. (¬2) سورة الرعد، الآية 28. (¬3) أي القرآن. (¬4) سورة الأحقاف، الآية: 12.

وأخبر أنه كتاب مبارك، والمبارك: الكثير البركة والخير والهدى والرحمة، وهذا لا يكون فيما يرده العقل ويقضي بخلافه. وأخبر أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، ولو كان العقل يخالفه لأتاه الباطل من كل جهة. وأخبر أنه كتاب أحكمت آياته، وأنه حكيم، وأنه فصل؛ وما يخالفه العقل لا يوصف بشيء من ذلك. وأخبر أنه مهيمن على كل كتاب أي: أمين عليه وحاكم وشاهد وقيم، ولو خالفه العقل لكان مهيمناً عليه، وكانت معقولات هؤلاء الضالين المضلين هي المهيمنة عليه، ولم يكن هو المهيمن عليها. وأخبر أنه لا عوج فيه، وأنه قيم فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّماً) (¬1) وأي عوج أعظم من مخالفة صريح العقل له، وقال تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (¬2). ومن تدبره وتدبر ما خالفه؛ عرف أن القدح كله فيما خالفه. وعلمه بتعوج ما خالفه يعرف من طريقتين: من جهة الكلام في نفسه وأنه باطل، ومن جهة مخالفته للقرآن. وجعله سبحانه حجة على خلقه، كما قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ ¬

(¬1) سورة الكهف/ الآيتان: 1 - 2. (¬2) سورة الزمر، الآية: 28.

بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) (¬1). وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (¬2). وكيف تقوم الحجة بكلام يخالف صريح العقل" (¬3) أ. هـ. وبذلك نعلم أن في العقل ثوابت ومرتكزات بها يعلم صحة النقل، وبموازينها يخاطب الوحي العباد، ويقيم عليهم حجته. ومن أرسخ وأثبت تلك المرتكزات: معرفة الرب ومحبته وعبادته وحده لا شريك له، وكذا العلم بصحة الرسالات والتصديق بها، وفي العقل كذلك: حب الطيبات، وبغض المنكرات، وفيه الاستمساك بالعدل والنفرة من الظلم ... ومن ثم جاءت الشرائع موافقة لموجب العقول ومفصلة لمجملاتها، ومبينة لما عجزت عن إدراكه، إلا أنه لم تات شرائع من الرحمن قط بمحالات العقول، وبضد موجبها. * * * ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيات: 155 - 157. (¬2) سورة النساء، الآية: 165. (¬3) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (3/ 1122: 1127).

المبحث الرابع: الشريعة جاءت بخلاصة الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين وهي أول ما أنزل من التشريع

المبحث الرابع: الشريعة جاءت بخلاصة الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين وهي أول ما أنزل من التشريع: قال ابن تيمية: في بيان أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين وهي: الأدلة العقلية الدالة على ثبوت الصانع وتوحيده وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المعاد إمكاناً ووقوعاً: "وقد ذكرنا فيما تقدم هذا الأصل غير مرة، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الأدلة العقلية والسمعية التي يهتدي بها الناس إلى دينهم، وما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأن الذين ابتدعوا أصولا تخالف بعض ما جاء به هي أصول دينهم، لا أصول دينه. وهي باطلة عقلاَ وسمعاً، كما قد بسط في غير موضع. وبين أن كثيراً من المنتسبين إلى العلم والدين قاصرون أو مقصرون في معرفة ما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية. فطائفة: قد ابتدعت أصولا تخالف ما جاء به من هذا وهذا. وطائفة: رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه، وصاروا ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك. ولكن هم مع ذلك لم يتبعوا السنة على وجهها، ولا قاموا بما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية. بل الذي يخبر به من السمعيات - مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر - غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من غير تصور لما أخبر به. بل قد يقولون مع هذا: إنه نفسه لم يكن يعلم معنى ما أخبر به، لأن ذلك عندهم هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. وأما الأدلة العقلية فقد لا يتصورون أنه أتى بالأصول العقلية الدالة على ما يخبر به كالأدلة على التوحيد والصفات. ومنهم من يقر بأنه جاء بهذا - مجملا، ولا يعرف أدلته. بل قد يظن أن ما يستدل به كالاستدلال بخلق الإنسان على حدوث جواهره - هو دليل الرسول. وكثير من هؤلاء يعتقدون أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل:

كالمعاد، وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم. والكذب. والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك. وينكر على من لم يستدل بها. وييبن أنه بالعقل يعرف: المعاد، وحسن عبادته وحده، وحسن شكره، وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع. وكثير من الناس يكون هذا في فطرته، وهو ينكر تحسين العقل وتقبيحه إذا صنف في أصول الدين على طريقة النفاة الجبرية - أتباع جهم - وهذا موجود في عامة ما يقوله المبطلون: يقولون بفطرتهم ما يناقض ما يقولونه في اعتقادهم البدعي. وقد ذكر أبو عبد الله - ابن الجد الأعلى - أنه سمع أبا الفرج بن الجوزي ينشد في مجلس وعظه البيتين المعروفين: هب (ألبعث) لم تأتنا رُسْله ... وجاحمة النار لم تُضرمِ أليس من الواجب المستحق ... حياء العباد من المنعم؟ فقد صح في هذا بأنه من الواجب المستحق حياء الخلق من الخالق المنعم. وهذا تصريح بأن شكره واجب مستحق، ولو لم يكن وعيد، ولا رسالة أخبرت بجزاء. وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب. وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح. ونتيجة فعل المنهى: انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها، وإن كان لا يعاقب بالضرر. ويبين أن الوجوب والاستحقاق يعلم بالبديهة. فتارك الواجب وفاعل القبيح وإن لم يعذب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه. وهذا جزاء من لم يشكر النعمه - بل كفرها - أن يسلبها. فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد. والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك ينقص النعمة ولا يزيد.

مع أنه لا بد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار" (¬1) أ. هـ. وقال رحمه الله: وكذلك "العقليات الصريحة" إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحاً لم تكن إلا حقاً، لا تناقض شيئاً مما قاله الرسول، والقرآن قد دل على الأدلة العقلية التي بها: يعرف الصانع وتوحيده، وصفاته، وصدق رسله، وبها يعرف إمكان المعاد. ففي القرآن من بيان أصول الدين التي تعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها. قال تعالى: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وقال: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (¬2) أ. هـ. وقال رحمه الله: "وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة، كل منهما مستلزم صحة الآخر. فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به، والأدلة السمعية فيها بيان الأدلة العقلية التي بها: يعرف الله، وتوحيده، وصفاته، وصدق أنبيائه. ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي. والعقليات لا تتضمن السمعي. ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات، وطعن في العقليات، ومنهم من عكس. وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية. ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم" (¬3) أ. هـ. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (16/ 251 - 254). (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 81). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (8/ 25).

وقد أفاض القرآن من ذكر الأدلة العقلية والبراهين اليقينية الدالة على: التوحيد، وإثبات الصفات، والمعاد، وصدق الرسالات، والتي تقيم صحة مقتضى الأخبار الدالة على أصول الدين. فالعقل المستقيم موافق للشرع القويم، وكلاهما قسيم الابتداع والإحداث. قال ابن تيمية: "كون الدليل عقليا أو سمعيا ليس هو صفة تقتضي مدحا ولا ذما، ولا صحة ولا فسادا، بل ذلك يبين الطريق الذي به علم، وهو السمع أو العقل، وإن كان السمع لا بد معه من العقل، وكذلك كونه عقليا أو نقليا، وأما كونه شرعيا فلا يقابل بكونه عقليا، وإنما يقابل بكون بدعيا، إذ البدعة تقابل الشرعة، وكونه شرعيا صفة مدح، وكونه بدعيا صفة ذم، وما خلاف الشريعة فهو باطل. ثم الشرعي قد يكون سمعيا وقد يكون عقليا، فإن كون الدليل شرعيا يراد به كون الشرع أثبته ودل عليه، ويراد به كون الشرع أباحه وأذن فيه، فإذا أريد بالشرعي ما أثبته الشرع، فإما أن يكون معلوما بالعقل أيضا، ولكن الشرع نبه عليه ودل عليه، فيكون شرعيا عقليا. وهكذا كالأدلة التي نبه الله تعالى عليها في كتابه العزيز، من الأمثال المضروبة وغيرها الدالة على توحيده وصدق رسله، وإثبات صفاته، وعلى المعاد، فتلك كلها أدلة عقلية يُعلم صحتها بالعقل، وهي براهين ومقاييس عقلية، وهي مع ذلك شرعية. وإما أن يكون الدليل الشرعي لا يُعلم إلا بمجرد خبر الصادق، فإنه إذا أخبر بما لا يُعلم إلا بخبره كان ذلك شرعياً سمعيا. وكثير من أهل الكلام يظن أن الأدلة الشرعية منحصرة في خبر الصادق فقط، وأن الكتاب والسنة لا يدلان إلا من هذا الوجه. ولهذا يجعلون أصول

الدين نوعين: العقليات، والسمعيات، ويجعلون القسم الأول مما لا يعلم بالكتاب والسنة. وهذا غلط منهم، بل القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها، وإن كان من الأدلة العقلية ما يعلم بالعيان ولوازمه، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (¬1). وأما إذا أريد بالشرعي ما أباحه الشرع وأذن فيه، فيدخل في ذلك ما أخبر به الصادق، وما دل عليه ونبه عليه القرآن، وما دلت عليه وشهدت به الموجودات" (¬2) أ. هـ. وقال ابن القيم: "إن أدلة القرآن والسنة التي يسميها هؤلاء (¬3) الأدلة اللفظية، نوعان: أحدهما: يدل بمجرد الخبر. والثاني: يدل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي. والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة عليه، وعلى ربوبيته، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته. فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول، وهو مجرد الخبر، فلم يتجرد إخباره سبحانه عن آيات تدل على صدقها، بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله، ما فيه شفاء وهدى وكفاية. فقول القائل: إن تلك الأدلة لا تفيد اليقين، إن أراد به النوع المتضمن ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 53. (¬2) درء تعارض العقل والنقل (1/ 198: 199). (¬3) أي: الفرق الضالة التي تزعم أن أدلة الوحي قاصرة على الأخبار المحضة - وهي ظنية الدلالة - وتخلوا من الأدلة العقلية؛ وبالتالي فلا يستدل بها على المطالب الإلهية!!!

لذكر الأدلة العقلية العيانية، فهذا من أعظم البهت والوقاحة والمكابرة، فإن آيات الله التي جعلها أدلة وحججاً على وجود ووحدانيته وصفات كماله، إن لم تفد يقيناً لم يفد دليل بمدلول أبداً. وإن أراد به النوع الأول الدال بمجرد الخبر، فقد أقام سبحانه: الأدلة القطعية والبراهين اليقينية على ثبوته، فلم يُحل عبادة فيه على خبر مجرد، لا يستفيدون ثبوته إلا من الخبر نفسه دون الدليل الدال على صدق الخبر. وهذا غير الدليل العام، الدال على صدقه، فيما أخبر به، بل هو الأدلة المتعددة الدالة على التوحيد وإثبات الصفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان، فلا تجد كتاباً قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن، فأدلته لفظية عقلية فإن لم يفد اليقين: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) " (¬1) (¬2) أ. هـ. وقال ابن تيمية: "إن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينة، مع دلالة السمع على ذلك (¬3): ¬

(¬1) سورة الجاثية، الآية: 6. (¬2) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة تحقيق د/ علي بن محمود (2/ 793: 794). (¬3) أسوق مثالاً لإمامين من أئمة التحقيق ليعلم رصانة ورسوخ علم شيخ الإسلام رحمه الله. قال أبو بكر بن العربي: وعول الجويني على أن الأمة قد أجمعت على نفي الآفات عن الباري تعالى، ولا مستند إلا السمع، وما قاله المتكلمون لا يرتضيه. قال الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن العربي وإنما ذكرنا لكم هذا لتتخذوه قانوناً، وتعجبوا من رأي المحققين يعول في نفي الآفات على السمع، ولا يجوز أن يكون السمع طريقاً إلى معرفة الباري تعالى ولا شيء من صفاته، لأن السمع منه، فلا يعلم السمع إلا به، ولا يعلم هو إلا بالسمع، فيتعارض ذلك ويتناقض. أ. هـ. قانون التأويل لأبي بكر بن العربي - تحقيق محمد السليماني/ 165: 126. قلت والحق في إثبات كل واحد منهما والباطل في نفيهما.

ودلالة القرآن على الأمور (نوعان): أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به. والثاني: دلالة القرآن يضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب. فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي "شرعية" لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها؛ و"عقلية" لأنها تعلم صحتها بالعقل. ولا يقال: أنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر. وإذا أخبر الله بالشيء ودل عليه بالدلالات العقلية، صار مدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى: (الدلالة الشرعية) (¬1) أ. هـ. وقال رحمه الله: "قد ذكرنا في غير موضع أن أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد بينها الله في القرآن أحسن بيان، وبين: دلائل الربوبية، والوحدانية، ودلائل أسماء الرب، وصفاته، وبين دلائل نبوة أنبيائه، وبين المعاد وبين إمكانه وقدرته عليه في غير موضع، وبين وقوعه بالأدلة السمعية والعقلية. فكان في بيان الله: أصول الدين الحق، وهو دين الله، وهي أصول ثابتة صحيحة معلومة، فتضمن بيان العلم النافع، والعمل الصالح: الهدى ودين الحق. وأهل البدع الذين ابتدعوا أصول دين يخالف ذلك ليس فيما ابتدعوه لا هدى ولا دين حق. فابتدعوا ما زعموا أنه أدلة وبراهين على إثبات الصانع وصدق الرسول. وإمكان المعاد أو وقوعه. وفيما ابتدعوه ما خالفوا به الشرع وكل ما خالفوه من الشرع فقد خالفوا فيه العقل أيضاً. فإن الذي بعث الله به محمداً وغيره من الأنبياء، هو حق وصدق. وتدل عليه الأدلة العقلية. فهو ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (6/ 71: 72).

ثابت بالسمع والعقل. والذين خالفوا الرسل ليس معهم لا سمع ولا عقل. كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (¬1). وقال تعالى لمكذبي الرسل: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (¬2). ذكر ذلك بعد قوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (¬3) ثم قال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الآية. ثم قال: (وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (¬4) فذكر إهلاك من أهلك وإملاءه لمن أملى لئلا يغتر المغتر فيقول: نحن لم يهلكنا. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: أن ما جاء به الرسول دل عليه السمع والعقل. وهو حق في نفسه كالحكم الذي يحكم به. فإنه يحكم بالعدل، وهو الشرع، فالعدل هو الشرع. والشرع هو العدل. ولهذا يأمر نبيه أن يحكم بالقسط، وأن يحكم بما أنزل الله. والذي أنزل الله هو القسط. والقسط هو الذي أنزل الله. ¬

(¬1) سورة الملك، الآيات: 8 - 10. (¬2) سورة الحج، الآية: 46. (¬3) سورة الحج، الآيات: 42 - 45. (¬4) سورة الحج، الآية: 48.

وكذلك الحق والصدق هو ما أخبرت به الرسل" (¬1) أ. هـ. لقد شهدت العقول والفطر: بأن الله أهل أن يعبد، ولو لم يرسل بذلك رسولاً وينزل به كتاباً. كيف وقد أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه فيهما، وتذكير العباد بمقتضاهما؛ فالشرع لا يأتي بمحالاتهما وإن أتى بما يعجزان عن إدراكه. فالشرك قبيح ذاتياً بضرورة العقل، وببداهة العلوم الضرورية. ومن ثم احتج القرآن على المشركين، وبين فساد مذهبهم بالأدلة العقلية، وبما ركبه في العقول من حسن عبادة الخالق، وقبح عبادة ما سواه، وضرب لهم الأمثال. ولو كانت حرمة الشرك متوقفة على النهي والخبر فقط لم يبق لتلك الأمثال معنى، وعادت أدلة الشرع منحصرة في: إن الله يأمركم بكذا، وينهاكم عن كذا .. قال ابن القيم: "وكذلك إنكاره قبح الشرك به في إلهيته وعبادة غيره بما ضربه لهم من الأمثال، وأقام على بطلانه من الأدلة العقلية، ولو كان إنما قبح بالشرع لم يكن لتلك الأدلة والأمثال معنى. وعند نفاة التحسين والتقبيح: يجوز في العقل أن يأمر بالإشراك به وعبادة غيره، وإنما علم قبحه بمجرد النهي. فيا عجباً أي فائدة تبقى في تلك الأمثال والحجج والبراهين الدالة على قبحه في صريح العقل والفطر؟ وأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم؟ وأي شيء يصح في العقول إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي، وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضرورة العقل، وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه، وأن أصحابه ليست لهم عقول ولا ألباب ولا أفئدة .. وكم في القرآن من مثل - عقلي وحسي - ينبه به العقول عل حسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه. فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال ¬

(¬1) النبوات: (ص:214: 215).

للعقول معنى، ولكن إثبات ذلك بمجرد الأمر والنهي، دون ضرب الأمثال، وتبين جهة القبح المشهودة بالحس والعقل" (¬1) أ. هـ. وقال رحمه الله: "فأولياؤه وخاصته وحزبه لما شهدت عقولهم وفطرهم أنه أهل أن يعبد، وإن لم يرسل إليهم رسولا، ولم ينزل عليهم كتاباً، ولو لم يخلق جنة ولا ناراً، علموا أنه لا شيء في العقول والفطر أحسن من عبادته، ولا أقبح من الإعراض عنه، وجاءت الرسل وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في الفطر والعقول من ذلك وتكميله وتفضيله وزيادته حسناً إلى حسنه" (¬2) أ. هـ. وقال رحمه الله: "ومما يدل على ذلك أيضاً (¬3) أنه سبحانه يحتج على فساد مذهب من عبد غيره بالأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول، ويجعل ما ركبه في العقول من: حُسن عبادة الخالق وحده، وقبح عبادة غيره من أعظم الأدلة على ذلك. وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر ها هنا، ولولا أنه مستقر في العقول والفطر: حسن عبادته وشكره، وقبح عبادة غيره وترك شكره؛ لما احتج عليهم بذلك أصلا، وإنما كانت الحجة في مجرد الأمر. وطريقة القرآن صريحة في هذا كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (¬4). فذكر سبحانه أمرهم بعبادته، وذكر اسم الرب مضافاً إليهم؛ لمقتضى عبوديتهم لربهم ومالكهم، ثم ذكر ضروب إنعامه عليهم بإيجادهم، وإيجاد من قبلهم، وجعل الأرض فراشاً لهم يمكنهم الاستقرار عليها والبناء والسكنى، ¬

(¬1) مدارج السالكين: (1/ 262: 263). (¬2) مفتاح دار السعادة (3/ 121: 122). (¬3) أي: على أن العقل فيه حسن التوحيد وقبح الشرك. (¬4) سورة البقرة، الآيتان: 21، 22.

وجعل السماء بناء وسقفاً فذكر أرض العالم وسقفه، ثم ذكر إنزال مادة أقواتهم ولباسهم وثمارهم، منبهاً بهذا على استقرار حسن عبادة من هذا شأنه وتشكره الفطر والعقول، وقبح الإشراك به وعبادة غيره" (¬1) أ. هـ. وقال ابن تيمية: "وأيضاً: ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال، كقوله تعالى (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وقوله: (أَفَلا تَتَّقُونَ) وقوله: (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها، وأن عبادتها من القبائح المذمومة" (¬2) أ. هـ. العقل والفطرة حجة في بطلان الشرك، والرسالة حجة في بطلانه ووجوب العذاب عليه: فلله الحجة البالغة على المشركين في كل زمان ومكان. فقد فطر الفطر وجبل العقول على: توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل فيهما أن يكون معه إله سواه، وقامت حجة الله على عباده بما استودع في فطرهم وعقولهم، إلا أن حكمته ورحمته اقتضت أن لا يعذبهم حتى يقيم عليهم حجته برسله، وإن كانت قائمة على خلقه بما صبغ فطرهم وجبل عقولهم عليه من: حسن توحيده ووجوبه، وقبح الشرك به وحرمته. قال ابن القيم: "فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل. والله أعلم (¬3) أ. هـ. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، (325). (¬2) مجموع الفتاوى (11/ 682). (¬3) زاد المعاد في هدى خير العباد بتحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط (3/ 686).

وقال رحمه الله: "فما أبقى الله عز وجل حسناً إلا أمر به وشرعه، ولا قبيحاً إلا نهى عنه وحذر منه، ثم إنه سبحانه أودع في الفطر والعقول الإقرار بذلك فأقام عليها الحجة من الوجهين، ولكن اقتضت رحمته وحكمته أن لا يعذبها إلا بعد إقامتها عليها برسله، وإن كانت قائمة عليها بما أودع فيها، واستشهدها عليه: من الإقرار به وبوحدانيته، واستحقاقه الشكر من عباده بحسب طاقتهم على نعمه، وبما نصب عليها من الأدلة المنوعة المستلزمة إقرارها بحسن الحسن وقبح القبيح" (¬1) أ. هـ. وقال ابن الوزير: "ومن ذلك (¬2) قوله تعالى حاكياً عن الأشقياء: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (¬3). وقوله في غير آية: (وأنتم تعقلون) (¬4)، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ). فإنها وأمثالها تدل على معرفتهم بعقولهم قبح ما هم عليه وبطلانه معاً. إذ لو عرفوا بطلانه بها دون قبحه لم تقم عليهم الحجة، وإنما أرسل الرسل لقطع عذرهم لكيلا يقولوا ما حكى الله تعالى عنهم وذلك لزيادة الإعذار؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، لا لأنه لا حجة عليهم قبل الرسل أصلاً. ولذلك صح عند أهل السنة أن تقوم حجة الله بالخلق الأول في عالم الذر - على ما سيأتي بيانه - وذلك قبل الرسل، ولم يختلفوا في صحته، وإنما اختلفوا في وقوعه" (¬5) (¬6) أ. هـ. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة /402. (¬2) جاء ذلك في سياق الأدلة الدالة على مقتضى الحكمة وحكم التحسين والتقبيح العقلي. (¬3) سورة الملك، الآية: 10. (¬4) يلاحظ: أن هذه ليست آية، ولا جزءاً من آية في القرآن الكريم. (¬5) أي: في كيفية وقوعه. (¬6) إيثار الحق على الخلق لأبي عبد الله محمد بن المرتضى اليماني المشهور بابن الوزير /193.

المبحث الخامس: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال

المبحث الخامس: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال: نبتت تلك المسألة في مباحث كتب الأصول، وقام المتكلمون بعرضها بطريقة سقيمة بناء على شبه أدلة وبراهين مفتراه افترض فيها مفتروها أنها موافقة ومستمدة من العقل الصريح، وقدمت بطريقة أشبه بالألغاز والأحاجي بدلا من طرحها بطريقة قويمة منبثقة من المعقول المستقيم الموافق للمنقول الصحيح. ونظرا لمسيس الحاجة لتلك المسألة الفارقة بين تنزيه الله والتنقص به، وبين توحيده والشرك به، وبين صحة الرسالات وبطلان الافتراءات، مع شدة الصلة واستحالة الانفصال بينها وبين القضية محل البحث رأيتني مضطراً للحديث عنها، إلا أني قد أخذت على نفسي عهداً أن أنقيها - بمشيئة الله وعونه - مما علق بها من أوزار المتكلمين، مع إقامة الفرقان عليها من نصوص الوحيين بفهم سلف الأمة وأئمتها، وكذلك كشف العورات والسوءات والمخازي الشنيعة التي تلزم كل من انحرف عن الصراط المستقيم فيها، مع تقديمها بسهولة ويسر قدر المستطاع، والله المستعان وعليه التكلان. هل الأفعال توصف بالحسن والقبح الذاتي مع إدراك العقل لهما أم لا؟. قالت طائفة: إن التوحيد والصدق والعدل والطيبات ... تتصف بالحسن الذاتي في العقل، وإن الشرك والظلم والكذب والخبائث توصف بالقبح الذاتي فيه وهو - أي العقل - متعلق التكليف، وبه يستحق العقاب وإن لم يرد بذلك سمع. وحملوا قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (¬1) على الواجبات العملية دون العلمية، ومنه من حملها على العذاب الدنيوي دون الأخروي، ومنهم من قال: العقل هو الرسول المتوقف عليه العذاب ... إلى غير ذلك من التأويلات المستكرهة التي هي أقرب للتحريف منها للتأويل مع ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 15.

مصادمتها لمحكمات الكتاب وكليات الشريعة وقواعد الملة وأصول العلم الضروري (¬1). وقد غالت تلك الطائفة في حجية العقل، وأرخصت من حجية السمع - وهو غال لا رخص فيه - وساعة التعارض بينهما يقدم العقل على النقل لأنه أصله الذي به تقرر، وإلا لزم إبطالهما والعود عليها بالفساد بزعمهم (¬2). وأرباب هذا القول هم: المعتزلة. وقابل هؤلاء: آخرون جردوا الأفعال من الأوصاف الذاتية لها وقالوا بتماثلها، وعدم المرجحات بينهما بحال إلا بمطلق المشيئة ومجيء الخبر. فلا فرق بين: التوحيد والشرك، ولا بين: العدل والظلم، ولا بين: الصدق والكذب، ¬

(¬1) أخي القارئ: يجب التفريق بين ما قررته في هذا المقام، وبين من أوجب العذاب على أهل الفترة استمساكاً بعمومات من القرآن والسنة لا بالعقل أو بسبب قيام الحجة عليهم عنده ببقايا من الملة السابقة. فانتبه للفرق. (¬2) قال ابن القيم في دحض هذه المقولة المفتراه: إن العقل مع الوحي كالعامي المقلد مع المفتي العالم بل ودون ذلك بمراتب كثيرة لا تحصى، فإن المقلد يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف المقلد عالماً فدل عليه مقلداً آخر، ثم اختلف المفتي والدال فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون المقلد الذي دله وعرفه بالمفتي. فلو قال له الدال: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت فلزم القدح في فرعه. فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفت، ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده، دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئاً الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله، وإن أصبت في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله، وإن أصبت في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه مفت مجتهد يجب عليك تقليده، هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله ولا يجوز عليه الخطأ. أ. هـ. الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (3/ 808: 809) وقال محقق الكتاب: هذا النص في درء تعارض العقل والنقل (1/ 138، 139) ونقله شارح الطحاوية /219.

وكذا الطيبات والخبائث .. إلا بالسمع وكان من الممكن أن يأتي محرماً لكل ما أحل ومحلاً لكل ما حرم، بل وقد تأتي الشرائع مفرقة بين المتماثلين من كل وجه، ومسوية بين المتناقضين من كل وجه. فقد تحرم السجود على وجه التعبد للشمس وتحله للقمر، وقد تحرم الزنا بالعمة الأولى وتحله بالثانية .. !!! والعقل ليس فيه إلا الإقرار بالصانع والتهيؤ والقبول لما تأتي به الشرائع على أي وجه كانت. وجوزوا على الحكيم العليم فعل كل شيء ولم ينزهوه عن فعل شيء ألبتة بناء على استواء الأفعال ونفي المرجحات. فالمقدور كله جائز على الله، والمحرم عليه - من قبل نفسه - هو: المحال لذاته الخارج عن نطاق القدرة، أو المستلزم لعجزها ونقصانها. "فحكموا بأنه تعالى لو عكس الحكم في جميع أوامره العادلة المصلحة الحكيمة في شرائعه وأحكامه في الدنيا، وكذلك في يوم القيامة، أو عذاب الأنبياء والأولياء وأهانهم وأخزاهم بذنوب غيرهم ثم أدخل أعداءه وأعداءهم الجنة بحسناتهم وأكرهم وعظمهم؛ ما كان هذا - المحال عليه - بأبعد عن حكمته ومحامده في العقل والسمع مما هو فاعله سبحانه وتعالى، مما تمدح به وسماه حقاً وعدلاً وحكمة وصواباً، وتمدح لذلك بأنه لا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته، وبأنه إذا بدل آية مكان آية لا يبدلها إلا بما هو خير منها أو مثلها. فزعموا أن التسوية بين أحكامه وأضدادها هو مقتضى العقول والشرائع. لكن الشرائع وردت بالخبر عن وقوع أحد الجائزين المتماثلين في الحكمة مثل تماثلهما في القدرة، بل المتماثلين في القدرة بلا حكمة عندهم، إلا الصدق في الخبر فواجب وحده. فإنا لله إن كانت ذهبت العقول فأين الحياء من الله تعالى، وكتبه ورسوله والمؤمنين؟! " (¬1). ¬

(¬1) إيثار الحق على الخلق /184.

وصرحوا بأن الشرائع لا يستدل بها على صحة الرسالات، ولا تصلح أن تكون فرقاناً بين النبيين والمتنبئين، بل يطلب الدليل عليها من غيرها. وما ذلك إلى لجواز أن يأتي رسول بشريعة تضاد وتناقض كافة شرائع النبيين الذين قد خلوا من قبله. ونصوا على أن الله لا يفعل شيئا: لشيء، ونفوا مقتضى الحكمة الربانية والعدالة الإلهية انطلاقاً من أصولهم الفاسدة المستمدة من نفي الصفات. وأرباب تلك الترهات والأباطيل هم: الأشاعرة. وما أعوز القوم إلى تلك الأصول الباطلة هم ومن قبلهم إلا بسبب قياسهم الفاسد - للخالق على المخلوق، واعتمدوا في المطالب الإلهية على قياسي الشمول والتمثيل. ومن المعلوم ضرورة: أن الرب جل في علاه لا يدخل تحت قضية كلية يستوي فيها أفرادها، ولا يدخل تحت قياس تمثيل يستوي فيه الأصل مع الفرع. بل لا يستعمل في حق الخالق إلا قياس الأولى لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (¬1). فكل كمال ثبت للمخلوق فهو ثابت للخالق على وجه يليق به سبحانه من باب الأولى، وكل نقص تنزّه عنه المخلوق، فالخالق يتنزه عنه ويتعالى عليه من باب أولى. وأما جمهرة العلماء من أهل السنة وعلوم سلف الأمة الذين قام الكتاب بهم وبه قاموا، والذين نطق الكتاب بهم وبه نطقوا، والذين أعلوا راية التوحيد وبها علوا. فقالوا: إن الأفعال - معقولة المعنى - تتصف بالحسن والقبح الذاتي، وصفاتها ذاتية وليست إضافية. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 60.

وبذلك يستحيل على الله - من قبل نفسه - حل الشرك والظلم والفواحش لمنافاة ذلك لتألهه وربوبيته وكمال ملكه وحمده وحكمته، وحتى لا يقع العباد أسرى التناقض بين: آيات الله العقلية والكونية، وبين آياته السمعية. فإن الله جل في علاه قد جبل الفطر وصبغ العقول على العلم ببطلانها وقبحها، وعلى كون العقول والفطر من أعظم الآيات وأجل البراهين المفرقة بين وحي الرحمن وأهله، ووحي الشيطان وأهله. وبهذا انتصبت الأعلام، وبانت الطرق، وعلا الفرقان، ودحر البطلان. ونصوا: على أن الله أوجب الواجبات فوجبت، وحرم المحرمات فحرمت. فها هنا شيئان: إيجاب وتحريم وذلك حكم الله وخطابه المنوط بالبلاغ. والثاني: وجوب وحرمة وذلك صفة للفعل ثابتة له بدون الخطاب لمعقول المعنى منها. وثبت: أن من وقع في الشرك وفعل الخبائث فقد اقترف ذنوباً عظيمة وأتى سيئات شنيعة لمخالفته مقتضى الفطر والعقول ولخروجه عن موجبهما، ولو كان صاحبها جاهلاً بالرسالة ولم تقم عليه حجة البلاغ؛ ويجب عليه التوبة منها بعد البلاغ وظهور البرهان. - أي: الوجوب المستوجب للعقاب - إلا أن الله لكمال رحمته وحبه العذر وقف العقوبة على ذلك حتى تقام الحجة ويتقطع العذر. وانتفاء العقوبة لانتفاء شرطها، لا لانتفاء سببها. فسببها قائم قبل البلاغ لمخالفة المشركين لكافة العهود والمواثيق الموجبة لإفراد الله بالعبادة والبراءة من عبادة ما سواه. وهذا الحكم - برفع العقوبة حتى تقوم حجة البلاغ - عام في الأصول والفروع، وفي الكليات والجزئيات، وهو ضابط مستقيم مطر منعكس في كافة التكاليف، واستحال على الخصم الظفر بضابط محكم غير معوج دونه. لعموم قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (¬1). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 15.

وقرروا أن الفواحش فواحش في نفسها لم تكتسب فحشها فقط بالخطاب، وقد أخبر الحكيم الخبير في سياق الإنكار على المشركين: بأنه لا يأمر بالفحشاء، فدل ذلك على تنزهه عنه، فلو كان جائزاً عليه الأمر بها ما تنزه عنه. وبذلك استحال على أحكم الحاكمين من قبل نفسه - أن تأتي شريعته على خلاف مجيئها، وبهذا ظهر بهت النفاة (¬1) ولاح إفكهم. قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (¬2). قال ابن تيمية: "والفاحشة أريد بها: كشف السوءات، فيستدل به على أن في الأفعال السيئة من الصفات ما يمنع أمر الشرع بها، فإنه أخبر عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء، فدل ذلك على أنه منزه عنه، فلو كان جائزاً عليه لم يتنزه عنه. فعلم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء؛ وذلك لا يكون إلا إذا كان ال الفعل في نفسه سيئاً، فعلم أن كلما كان في نفسه فاحشة فإن الله لا يجور عليه الأمر به، وهذا قول من يثبت للأفعال في نفسها صفات الحسن والسوء، كما يقوله أكثر العلماء كالتميميين وأبي الخطاب؛ خلاف قول من يقول: إن ذلك لا يثبت قط إلا بخطاب. وكذلك قوله (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (¬3) علل النهي عنه بما اشتمل عليه أنه فاحشة، وأنه ساء سبيلاً، فلو كان إنما صار فاحشة وساء سبيلا بالنهي لما صح ذلك، لأن العلة تسبق المعلول لا تتبعه. ومثل ذلك كثير في القرآن" (¬4). ¬

(¬1) المقصود عندي في هذه الرسالة بهذا المصطلح: نفاة التحسين والتقبيح العقلي للأفعال. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 28. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 32. (¬4) مجموع الفتاوى (15/ 8: 9).

وقال ابن القيم: "فقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) دليل على أنها في نفسها فحشاء، وأن الله لا يأمر بما يكون كذلك، وأنه يتعالى ويتقدس عنه، ولو كان كونه فاحشة إنما علم بالنهي خاصة كان بمنزلة أن يقال: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه. وهذا كلام يصان عنه آحاد العقلاء فكيف بكلام رب العالمين. ثم أكد سبحانه هذا الإنكار بقوله: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (¬1)، فأخبر أنه يتعالى عن الأمر بالفحشاء. بل أوامره كله حسنة في العقول، مقبولة في الفطر، فإنه أمر بالقسط لا بالجور، وبإقامة الوجوه له عند مساجده لا لغيره، وبدعوته وحده مخلصين له الدين لا بالشرك. فهذا هو الذي يأمر به تعالى لا بالفحشاء. أفلا تراه كيف يخبر بحسن ما يأمر به ويحسنه وينزه نفسه عن الأمر بضده وأنه لا يليق به تعالى" (¬2) أ. هـ. * * * ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 29. (¬2) مفتاح دار السعادة /327.

أصول أهل السنة في مسألة التحسين والتقبيح: لأهل السنة في هذه المسألة أصول وقواعد تقررت من استقراء النصوص، وكليات الأدلة التي جاءت متعاضدة متضافرة يصدق بعضها بعضاً، حتى أصبحت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. وانطلق القوم من تلك الأصول المحررة والقواعد المقررة حاكمين: بأن العقل فيه حسن التوحيد ووجوبه، وحل الطيبات، وفيه بغض الشرك والخبائث وحرمتها، وأنه يستحيل على الله أن تأتي شرائعه على خلاف مقتضى العقول والفطر. وذلك لما يلي: * من المستحيل في أدنى العقول تعقلاً: أن يأخذ الله من البشرية جميعا قبل الخلق وهم في عالم الذر ميثاقا وثيقاً وعهداً غليظاً على أن يعبدوه وحده لا شريك له، ويجعل أثر هذا الميثاق في فطرهم، ويركز في عقولهم البراهين الباهرة على محتواه ومقتضاه، ويجعل المولى جل في علاه أخذه إقامة الحجة على من لم يوف به، ثم يرسل رسله وينزل كتبه آمرة بنقض كافة العهود وسائر المواثيق!!! أليس هذا سوء ظن بالله وبربوبيته وغناه؟!. * مقتضى الحكمة والإرادة، ومعنى الظلم يجعلنا نحكم: باستحالة التكليف بالشرك وحل الخبائث، واستواء الأفعال. فـ "الحكمة: وضع الأشياء في مواضعها، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه" (¬1). "والحكيم إذا أمر بأمر كان المأمور به حسناً في نفسه، وإذا نهى عن شيء كان المنهي عنه قبيحاً في نفسه، وإذا أخبر بخبر كان صدقا، وإذا فعل فعلاً كان صواباً، وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره. وهذا الوصف على ¬

(¬1) النبوات/ 145.

الكمال لا يكون إلا لله وحده" (¬1). "قد ثبت أنه مريد - أي الله تبارك وتعالى - وأن الإرادة تخصص المراد عن غيره، وهذا إنما يكون إذا كان التخصيص لرجحان المراد، إما لكونه أحب إلى المريد وأفضل عنده، فأما إذا ساوى غيره من كل وجه امتنع ترجيح الإرادة له" (¬2). فمقتضى الحكمة والإرادة، ومعنى الظلم يوجب تباين الأفعال وثبوت المرجحات، وظهر بهذا أن للأفعال حقائق ومواضع. فللتوحيد والطيبات مواضع. وللشرك والخبائث مواضع أخر. والإرادة: تخصص المراد عن غيره لمرجح فيه، فالآمر بالتوحيد وحل الطيبات، والنهي عن الشرك وحرمة الخبائث يوجب الفروق بينها، واختلاف حقائقها، وتباين مواضعها، وبذلك علا الفرقان على بطلان استواء الأفعال. * مقتضى الآيات الكونية يأبى التكليف بالشرك واستواء الأفعال. عندما نزل قول الله تعال (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (¬3). ضج المشركون وثارت ثائرتهم وقالوا: أين البرهان؟ فنزل قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (¬4). قال ابن كثير: "قال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، ¬

(¬1) بدائع التفسير (1/ 463). (¬2) النبوات/ 358. (¬3) سورة البقرة، الآية: 163. (¬4) سورة البقرة، الآية: 164.

حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ). فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - إلى قوله - لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء" (¬1) أ. هـ. فالآيات الكونية من أعظم وأجل الحجج والبراهين الدالة دلالة باهرة: على معرفة الخالق وتفرده بالألوهة، وعلى بطلان تأله المخلوقين المربوبين المحدثين، العاجزين عن الخلق والتكوين. ولذلك أمر الله عز وجل بالنظر إليها والتدبر والإمعان في دلالتها. قال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (¬2)، وأنكر على من أعرض عنها ولم يع برهانها بقوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (¬3). قال الإمام الطبري: "يقول جل وعز: كم من آية في السموات والأرض لله، وعبرة وحجة، وذلك كالشمس والقمر والنجوم، ونحو ذلك من آيات السموات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار وغير ذلك من آيات الأرض. (يَمُرُّونَ عَلَيْهَا) يقول: يعاينونها فيمرون بها معرضين عنها لا يعتبرون بها، ولا يفكرون فيها، وفيما دلت عليه من توحيد ربها، وأن الألوهة لا تنبغي إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شيء" (¬4) أ. هـ. ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم: (1/ 290). (¬2) سورة يونس، الآية: 101. (¬3) سورة يوسف، الآية: 105. (¬4) جامع البيان: (13/ 51).

"ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة بذلك، بل شهادتها أتم من شهادة الخبر المجرد؛ لأنها شهادة حال لا يقبل كذباً فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله إلا وجده دالاً على فاطره وبارئه وعلى وحدانيته، وعلى كمال صفاته، وعلى صدق رسله، وعلى أن لقاءه حق لا ريب فيه. وهذه طريقة القرآن في إرشادة الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالهم على: إثبات الصانع وعلى التوحيد والمعاد والنبوات. فمرة يخبرهم أنه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا، ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق، ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما أخبرت به رسله حتى يبين لهم: أن الرسل إنما جاءتم بما يشاهدون أدلة صدقه، وبما لو تأملوه لرأوه مركوزاً في فطرهم مستقراً في عقولهم، وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به رسله عن: أسمائه وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته. وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان إنما يفتحه الله على من سبقت له منه سابقة السعادة، وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار" (¬1). وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "لا عذر لأحد من الخلق في جهله معرفة خالقه لأن الواجب على جميع الخلق معرفة الرب سبحانه وتعالى وتوحيده لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه، وسائر ما خلق سبحانه وتعالى" (¬2) أ. هـ. وقال ابن القيم رحمه الله: "وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها، والاستدلال بها. فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية. وآيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها تعرف لعباده. فبها يعرفون أسماءه وصفاته ¬

(¬1) بدائع التفسير: (1/ 345: 346). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 132).

وتوحيده وأمره ونهيه. فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به وهو آياته القولية، ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك وهي آياته العيانية. والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة" (¬1) أ. هـ. فهل يجوز بعد هذا أن شرع الحكيم الخبير: عبادة غيره ويحسنها ويأمر بها، ويحرم إفراده بالعبادة ويقبحه وينهى عنه. فيقع العباد أسرى حائرين بين: تعارض مقتضى الآيات الكونية، ومقتضى الآيات السمعية؟!!! * الشرك سوء ظن بالله وبحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، ومن ثم استحال استحسانه؛ إذ الفطر والعقول تأبى جوازه. قال ابن القيم: "ووقعت مسألة وهي: أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك. فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية، وإنما قصد تعظيمه. وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدلني وتدخلني عليه، فهو المقصود وهذه وسائل وشفعاء، فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى، ومخلداً في النار، وموجباً لسفك دماء أصحابه واستباحة حريتهم (¬2) وأموالهم؟. وترتب على هذا سؤال آخر، وهو: أنه هل يجوزأن يشرع لله سبحانه لعبادة التقرب إليه بالشفعاء والوسائط، فيكون تحريم هذا إنما ليستفيد من الشرع، أم ذلك قبح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشرائع بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السر في كونه لا يغفره من بين سائر الذنوب؟ كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (¬3). ¬

(¬1) بدائع التفسير (1/ 467: 468). (¬2) هكذا في الأصل، ولعلها تكون "حريمهم". (¬3) سورة النساء، الآية: 116.

فتأمل هذا السؤال، واجمع قلبك وذهنك على جوابه ولا تستهونه، فإنه به يحصل الفرق بين: المشركين والموحدين، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهل الجنة وأهل النار - ثم أخذ يتحدث الشيخ عن أنواع الشرك الأكبر والأصغر ظاهره وباطنه في الربوبية والألوهية إلى أن قال: "إذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك الجواب عن السؤال المذكور؛ فنقول، ومن الله وحده نستمد الصواب. حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبه للمخلوق به، هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله، فعكس الأمر من نكس الله قلبه، وأعمى بصيرته، وأركسه بكسبه، وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية: التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً - فضلاً عن غيره - شبيهاً لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد. فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوبة والتوكل والاستعانة. وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون له وحده، ويمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة

أن يكون لغيره، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغبر بمن لا شبيه له ولا مثيل له ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أن لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل. هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه. وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم. فازدادوا بذلك نوراً على نور (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) (¬1). * إذا تبين (¬2) هذا فها هنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته. ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (¬3). وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (¬4). قال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: (مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 35. (¬2) أي: سوء الشرك وشنيع جرمه. (¬3) سورة الفتح، الآية: 6. (¬4) سورة فصلت، الآية: 23.

دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (¬1). أي: فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، فلا يحتاج إلى معين، الرحمن بذاته، فلا يحتاج لرحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرساء، فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم إلى قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزه وقصور علمهم. فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، والعالم بكل شيء الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح" (¬2) أ. هـ. * تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد دليل على ذاتية الحسن والقبح للأفعال، وعلى بطلان استواء ذواتها. فالشريعة كلها شاهدة بتعليل الأحكام - ما خلا الأحكام التعبدية - ودالة ¬

(¬1) سورة الصافات، الآيات: 85 - 87. (¬2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي بتحقيق حسين عبد الحميد 175: 189 دار القبلتين الطبعة الأولى.

عليه، وناطقة به. ولذلك أطبق الفقهاء على تأثير العلل في الأحكام، وأنها تدور معها وجوداً وعدماً، وإلا انسد باب القياس الذي هو أصل أصيل، وركن ركين من أصول وأركان الاستنباط وأدلة الأحكام. وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين؛ إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر النهي فقط. وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها فيجعل الأول ضابطاً للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل. فلو تساوت الأوصاف في أنفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعاة الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لاتأثير لها" (¬1). وأما النفاة فقالوا: "إن الشرع لا يأمر وينهى لحكمة، ولم يعتمدوا المناسبة وقالوا: علل الشرع أمارات، كما قالوا: إن أفعال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط من غير أن يكون في أحد الفعلين معنى يناسب الثواب أو العقاب" (¬2). وللك جوزوا أن تأتي شرائع أحكام الحاكمين بحل الشرك والخبائث، وتحريم التوحيد والطيبات. وما هذا إلا لاستواء الأفعال ونفي المرجحات. ومن تأمل شراع الرحمن وجدها من أولها إلى آخرها شاهدة ببطلان إفكهم، وناطقة بجرمهم، ووجد: الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة بادياً على صفحاتها، وأنه يستحيل على أحكام الحاكمين، ولا يليق بجنابه أن يعدل بها إلى ضدها لما في خلافها من: القبائح والظلم والسفه. فحكمته، وإرادته وعدله يحولون: دون مجيء شريعته على خلافها، ¬

(¬1) مفتاح السعادة/ 360. (¬2) النبوات/ 142.

لحبه: الصلاح والعدل، ولبغضه: الفساد والظلم، وصفتي الحب والبغض هما مصدري: الأمر والنهي. فأهل السنة يؤمنون بأن الله يحب ويبغض على وجه يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأثبتوا متعلق أثرهما في الأفعال التي به تباينت، وقامت المرجحات بينها. وهذا من أجل أصول أهل السنة في تلك المسألة. وأما النفاة فمن أصولهم الفاسدة لنفي الصفات انطلقوا لتأويل تلك الصفتين ونفي أثرهما المفرق بين ذوات الأفعال وكنه الأشياء، وقالوا: الكل على وتيرة واحدة لا فرق بينها إلا بالخبر. قال ابن القيم: "وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخاصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فاتت أدناهما؛ وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناها. وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه شاهدة له بكمال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم. وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة، وارتضاع من ثديها، وورود من صفو حوضها، وكلما كان تضلعه منها أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل، ولا يمكن أحد من الفقهاء أن يتكلم في مآخذ الأحكام وعللها والأوصاف المؤثرة فيها حقاً وفرقاً إلا على هذه الطريقة. وأما طريقة إنكار الحكم (¬1) التعليل ونفي الأوصاف المقتضية لحسن ما أمر به، وقبح ما نهى عنه وتأثيرها واقتضائها للحب والبغض الذي هو مصدر الأمر والنهي بطريقة جدلية كلامية لا يتصور بناء الأحكام عليها، ولا يمكن فقيهاً أن يستعملها في باب واحد من أبواب الفقه، كيف والقرآن وسنة ¬

(¬1) هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي: الحكمة والتعليل أو الحكم والتعليل.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مملوآن من تعليل (¬1) الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان. ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة. فتارة يذكر لام التعليل الصريحة، وتارة يذكر المفعول لأجله الذي هو المقصود بالفعل، وتارة يذكر (من أجل) الصريحة في التعليل، وتارة يذكر أداة (كي)، وتارة يذكر الفاء وإن، وتارة يذكر أداة (لعل) المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق، وتارة ينبّه على السبب يذكره صريحاً، وتارة يذكر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام ثم يرتبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها، وتارة ينكر على من زعم أنه خلق خلقه وشرع دينه عبثاً وسدى، وتارة ينكر على من ظن أنه يسوي بين المختلفين اللذين يقتضيان أثرين مختلفين، وتارة يخبر بكمال حكمته وعلمه المقتضي أنه لا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين، وأنه ينزل الأشياء منازلها ويرتبها مراتبها، وتارة يستدعي من عباده التفكر والتأمل والتدبر والتعقل لحسن ما بعث به رسوله وشرعه لعباده، كما يستدعي منهم التفكر والنظر في مخلوقاته وحكمها وما فيها من المنافع والمصالح، وتارة يذكر منافع مخلوقاته منبها بها على ذلك، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وتارة يختم آيات خلقه وأمره بأسماء وصفات تناسبها وتقتضيها. والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما، وما تضمناه من الآيات الشاهدة الدالة عليه. ولا يمكن من له أدنى اطلاع على معاني القرآن إنكار ذلك. ¬

(¬1) قال ابن الوزير اليماني: جزم ابن الحاجب في كتابه (مختصر منتهى السؤل والأمل): بإجماع الفقهاء على أن أفعال الله تعالى في الشرائع معللة. أ. هـ. إيثار الحق على الخلق /187.

وهل جعل الله سبحانه في فطر العباد استواء العدل والظلم والصدق والكذب والفجور والعفة والإحسان والإساءة والصبر والعفو والاحتمال والطيش والانتقام والحدة والكرم والسماحة والبذل والبخل والشح والإمساك؟ بل الفطرة على الفرقان بين ذلك كالفطرة على قبول الأغذية النافعة وترك ما لا ينفع ولا يغذي، ولا فرق في الفطرة بينهما أصلاً. وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى آخرها شاهدة بذلك، ناطقة به ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة باديا على صفحاتها منادياً عليها يدعو العقول والألباب إليها، وأنه لا يجوز على أحكم الحاكمين ولا يليق به أن يشرع لعباده ما يضادها. وذلك لأن الذي شرعها علم ما في خلافها من المفاسد والقبائح والظلم والسفه الذي يتعالى عن إرادته وشرعه، وأنه لا يصلح العباد إلا عليها، ولاسعادة لهم بدونها ألبتة" (¬1) أ. هـ. * الربوبية تستلزم الألوهية، وبها بطل تأله كل ما سوى الله، واستحال لفقرهم لها. قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (¬2). وهذا الدليل من أنصع وأدل البراهين على دحض افتراء المفترين على الله: بجواز تحسين الشرك إن أتى به خبر - كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا. وهذا الدليل يطفح القرآن بذكره. يقررهم المولى بربوبيته، ثم يلزمهم بلازمه. فلم يحتج سبحانه عليهم بمجرد الخبر، ولكن بما هو مركوز في فطرهم ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة/ 340 - 341. (¬2) سورة يونس، الآيتان: 31 - 32.

وعقولهم: من استحالة عبادة من لا يرزق، ولا يملك السمع والأبصار، ولا يقدر على إخراج الحي من الميت ولا على إخراج الميت من الحي، فلو لم يكن ذلك موجب الفطر والعقول لقالوا: وما لنا لا نعبد من هذا شأنه؟ فلو لم يكن هناك مناسبة بين التقرير والإلزام، فلم يقررهم المولى بشيء هم مقرون به؟ ولم يأمرهم بشيء هم مكذبون به؟ ويجعل الأولة علة للثاني ويحتج به له. وهذا التعليل يبطل قول الزاعمين: جواز استحسان الشرك في العقول والفطر، والتعبد به لله لو جاء به خبر. لأنه لو كان كذلك لجاز أن يأتي شرع يخبرهم بذات الدليل، ويلزمهم بضد لازمه وهو: الشرك. فكيف يحتج بدليل واحد على الشيء وضده؟!!! قال ابن كثير: "يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على: وحدانية الإله. فقال: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) - وقد يعدد ألوان النعم من المنعم عز وجل - وقوله: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي: فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو: ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي: فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو وحده لا شريك له. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي: فكيف تصرفون عن عبادة إلى عبادة ما سواه، وأنت تعلمون: أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؟!! " (¬1). أ. هـ وقال تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم: (4/ 202 - 203).

فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (¬1). لقد نفى المولى جل في علاه عن نفسه الولد، لأنه من المعلوم ضرورة في كل عقل سليم وفطرة مستقيمة أن لهذا الكون خالقا لا ند له ولا نظير. والولد لا يكون إلا من ذاتين متماثلتين، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، ولا نعلم له سميا. ولو كان معه آلهة أخرى - كما يزعمون - لاضطرب نظام الكون، ولعلا بعضهم على بعض من أجل السيطرة والغلبة. والمشاهد أن الكون منتظم متسق في غاية الكمال والارتباط. فدل ذلك على أن مدبره واحد لا إله إلا هو، وعلى بطلان تأله ما سواه. ثم نزه نفسه جل في علاه عن هذا الظن السيء، وعلا بنفسه الجليلة وعظمها عما يظنه المشركون به. فلو كان يجوز عليه الأمر بعبادة غيره، وقد فطر الفطر، وهيأ العقول على استحسان ذلك لو أمر به، فلم نزه نفسه وعلا بها عن شيء يجوز عليه؟!!! قال عبد الرحمن السعدي: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) كذب يُعرف بخبر الله، وخبر رسله، ويعرف بالعقل الصحيح. ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي على امتناع إلهين فقال: (إِذاً) أي: لو كان معه آلهة كما يقولون (لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) أي: لانفرد كل واحد من الإلهين بمخلوقاته واستقل بها، ولحرص على ممانعة الأخر ومغالبته. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فالغالب يكون هو الإله. فمن التمانع لا يمكن وجود العالم، ولا يتصور أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول. واعتبر ذلك بالشمس والقمر، والكواكب الثابتة والسيارة. فإنها منذ خلقت وهي تجري ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 91 - 92.

على نظام واحد، وترتيب واحد، كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم، ليست مقصورة على أحد دون أحد، ولن ترى فيها خللا، ولا معارضة في أدنى تصرف. فهل يتصور أن يكون ذلك تقدير إلهين ربين؟!!! (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) قد نطقت بلسان حالها، وأفهمت ببديع أشكالها، أن المدبر لها إله واحد، كامل الأسماء والصفات، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات في ربوبيته لها، وفي إلهيته لها. فكما لا وجود لها ولا دوام إلا بربوبيته كذلك لا صلاح لها ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة" (¬1) أهـ. وقال ابن القيم: "تأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين. فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابديه النفع ويدفع عنهم الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى شركة الإله الآخر معه، بل إن قدر على قهره والتفرد بالإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بمماليكهم، إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر، والعلو عليه. وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا يختلف، ولا يفسد. من أدل دليل على أن مدبره واحد، لا إله غيره ... فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون له إلهان معبودان" (¬2) أ. هـ. وأختم هذه المسألة بنقلين قيمين للإمام ابن القيم يفضح فيهما قول المفترين على الله كذباً بزعمهم: استواء كافة الأفعال وأنها على حد سواء بالنسبة إليه، لا فرق بينها إلا بمحض المشيئة بلا سبب ولا حكمة، مستدلا في ذلك بمقتضى ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن (3/ 372: 373). (¬2) التفسير القيم /371.

الفطرة والعقل الذي نزل كلام رب العالمين ليخاطبهما ويقرر موجبهما الذي صبغهما به، ويزيل كافة التغييرات والافتراءات التي نالتهما من قبل شياطين الإنسن والجن. قال ابن القيم: "ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: إن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلاً، وإما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة. وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلاً بالرد على هذه المقالة، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه الرب نفسه عنها، كقوله تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (¬1) وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (¬2) وقوله (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (¬3). فأنكر سبحانه على من ظن به هذا الظن السيء، ونزه نفسه عنه. فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلهيته، لا إله إلا هو، تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا. وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة. فإذا وضع العقوة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان. وكلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، ¬

(¬1) سورة القلم، الآيتان: 35 - 36. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 21. (¬3) سورة ص، الآية: 28.

كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم، ودمائم، فأكرمه غاية الإكرام، ورفعه وكرمه. فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشتهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها" (¬1) أ. هـ. وقال رحمه الله: "وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أمر لحكمة، ولا نهى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا لغاية مقصودة. وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده. بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات فهما مظهران بحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره. والذي أثبته المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة بل يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه ألبتة، وينهى عما في مصلحة، والجميع بالنسبة إليه سواء، ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه وينهى عن جميع ما أمر به. ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي، ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعطه طرفة عين بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، وينعم على من لم يعصه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول وإلا فهو جائز عليه. وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه" (¬2) أ. هـ. تضارب النفاة: ولما تحررت المسائل وظهرت الدلائل وتقررت الحقائق، وبانت الصراط ¬

(¬1) بدائع التفسير (5/ 391: 392). (¬2) المصدر السابق (4/ 141).

وتعرت السبل، وظهرت مكابرة النفاة، وحصحص جحدهم للضروريات. قالوا: نحن سلمنا بالتحسين والتقبيح العقلي للأفعال بمعنى الملاءمة والمنافرة، وبمعنى الكمال والنقصان، ولا ننازع فيه بهذين الاعتبارين، وإنما النزاع في كون العقل متعلق المدح والذم عاجلاً، والثواب والعقاب آجلاً. وهذا التفصيل لو أعطي حقه، والتزمت لوازمه، رفع النزاع، وعادت المسألة اتفاقية، وأسفر ضوء الشمس عليها، وأدبرت ظلمات الاشتباه من حولها. فالله جل في علاه يحب الكامل من الأفعال والأقوال، ويبغض الناقص منهما، وهو سبحانه يحب كل ما أمر به ويبغض كل ما نهى عنه، وبذلك ظهر تباين الأفعال وثبوت المرجحات بينها، وجلا بطلان استوائها أمام الحكيم العليم، واستحال مجيء شرعه على ضده وخلافه. بقي حديث المدح والذم، والثواب والعقاب. فأما المدح والثواب لفاعل الكمال والمتحلي به، والذم والعقاب لفال النقص والمتصف به فهو أمر عقلي ومتعلق فطري، وإنكاره يزاحم المكابرة، وأما وقوع العقاب فمشروط بالسمع يقع به وينتفي بانتفائه، وانتفاؤه لانتفاء شرطه، لا لانتفاء سببه فسببه قائم ومقتضيه موجود قبل بلوغ السمع. وهذا هو فصل الخطاب في هذه المسألة، وهو المنصور لقوته وتدافق الأدلة عليه بلا تمانع ولا تعارض، ولسلامته من الوهن والتضارب. دليل ذلك قوله تعالى (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (¬1). قال ابن القيم: "فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً؛ فقطع هذه الحجة ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 47.

بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة، ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل. وهذا هو فصل الخطاب. وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم: أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة؛ وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي، وأحسنوا في رد ذلك عليهم. واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة، وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلاً على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها، وأحسنوا في رد هذا عليهم. فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب. وأما من سلك هذا المسك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله، ولا الظفر عليه أصلاً؛ فإنه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له، مخالف لها في باطلها منكر له. وليس مع النفاة قط دليل واحد صحيح على نفي الحسن والقبح العقليين، وأن الأفعال المتضادة كلها في نفس الأمر سواء لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي، وكل أدلتهم على هذا باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى. وليس مع المعتزلة دليل واحد صحيح قط يدل على إثبات العذاب على مجرد القبح العقلي قبل بعثة الرسل، وأدلتهم على ذلك كلها باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله" (¬1) أ. هـ. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة (324: 325).

وقال رحمه الله: وقد سلّم كثير من النفاة أن كون الفعل حسناً أو قبيحاً بمعنى: الملاءمة والمنافرة والكمال والنقصان عقلي. وقال نحن: لا ننازعكم في الحسن والقبح بهذين الاعتبارين، وإنما النزاع في إثباته عقلاً بمعنى: كونه متعلق المدح والذم عاجلاً، والثواب والعقاب آجلاً، فعندنا لا مدخل للعقل في ذلك، وإنما يعلم بالسمع المجرد. قال هؤلاء: فيطلق الحسن والقبح بمعنى: الملاءمة والمنافرة، وهو عقلي. وبمعنى: الكمال والنقصان، وهو عقلي. وبمعنى: استلزامه للثواب والعقاب، وهو محل النزاع. وهذا التفصيل لو أعطي حقه والتزمت لوازمه، رفع النزاع، وأعاد المسألة اتفاقية، وأن كون الفعل صفة كمال أو نقصان يستلزم إثبات تعلق الملاءمة والمنافرة لأن الكمال محبوب للعالم، والنقص مبغوض له. ولا معنى للملاءمة والمنافرة إلا الحب والبغض. فإن الله سبحانه يحب الكامل من الأفعال والأقوال والأعمال، ومحبته لذلك بحسب كماله، ويبغض الناقص منها ويمقته، ومقته له بحسب نقصانه، ولهذا أسلفنا أن من أصول المسألة إثبات صفة الحب والبغض لله فتأمل كيف عادت المسألة إليه وتوقفت عليه. والله سبحانه يحب كل ما أمر به ويبغض كل ما نهى عنه، ولا يسمى ذلك ملاءمة أو منافرة، بل يطلق عليه الأسماء التي أطلقها على نفسه وأطلقها عليه رسوله: من محبته للفعل الحسن المأمور به، وبغضه للفعل القبيح ومقته له، وما ذلك إلا لكمال الأول ونقصان الثاني. فإذا كان الفعل مستلزماً للكمال والنقصان، واستلزامه له عقلي، والكمال والنقصان يستلزم الحب والبغض الذي سمّيتموه ملاءمة ومنافرة واستلزامه عقلي، فبيان كون الفعل حسناً كاملاً محبوباً مرضياً، وكونه قبيحاً مسخوطاً مبغوضا أمر عقلي. بقي حديث المدح والذم والثواب والعقاب. ومن أحاط علماً بما أسلفناه في ذلك انكشفت

له المسألة، وأسفرت عن وجهها، وزال عنها كل شبهة وإشكال. فأما المدح والذم فترتّبه على النقصان والكمال والمتصف به، وذمهم لمؤثر النقص والمتصف به أمر عقلي فطري، وإنكاره يزاحم المكابرة، وأما العقاب فقد قررنا أن ترتّبه على فعل القبيح مشروط بالسمع، وأنه إنما انتفى عند انتفاء السمع انتفاء المشروط لانتفاء شرطه، لا انتفاءه لانتفاء سببه، فإنه سببه قائم، ومقتضيه موجود إلا أنه لم يتم لتوقفه على شرطه. وعلى هذا فكونه متعلقا للثواب والعقاب والمدح والذم عقلي، وإن كان وقوع العقاب موقوفاً على شرط وهو ورود السمع. وهل يقال: إن الاستحقاق ليس بثابت لأن ورود السمع شرط فيه؟ هذا فيه طريقان للناس، ولعل النزاع لفظي، فإن أريد بالاستحقاق: الاستحقاق التام فالحق نفيه، وإن أريد به: قيام السبب والتخلف لفوات شرط أو وجود مانع فالحق إثباته. فعادت الأقسام الثلاثة أعني: الكمال والنقصان، والملاءمة والمنافرة، والمدح والذم إلى أن عرف واح وهو كون الفعل محبوباً أو مبغوضاً، ويلزم من كونه محبوباً أن يكون كمالاً، وأن يستحق عليه المدح والثواب، ومن كونه مبغوضاً أن يكون نقصاً يستحق به الذم والعقاب. فظهر أن التزام لوازم هذا التفصيل، وإعطاءه حقه يرفع النزاع ويُعيد المسألة اتفاقية. ولكن أصول الطائفتين تأبى التزام ذلك فلا بد لهما من التناقض إذا طردوا أصولهم. وأما من كان أصله إثبات الحكمة واتصاف الرب تعالى بها، وإثبات الحب والبغض له، وأنهما أمر وراء المشية العامة فأصوله مستلزمة لفروعه، وفروعه دالة على أصوله، فأصوله وفروعه لا تتناقض، وأدلته لا تتمانع ولا تتعارض" (¬1) أ. هـ. وقال ابن الوزير: "حكى الزركشي في شرحه لكتاب السبكي المسمى جمع الجوامع: أن قوماً توسطوا فقالوا: إن القبح واستحقاق الذم عليه ثابت بالعقل، ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة /362: 363.

وأما العقاب فتوقف على الشرع. قال: وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكرته الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة. قال: وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض ... وقول الزركشي أن ذلك هو المنصور لموافقته الفطرة وآيات القرآن المجيد قول صحيح" (¬1) أ. هـ. الإجماع على بطلان قول النفاة، وتفصيل جيد لأنواع التحسين والتقبيح. قال ابن تيمية: "فالناس في مسألة "التحسين والتقبيح" على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط. (الطرف الأول): قول من يقول: بالحسن والقبح، ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له، ولا يجعل الشرع إلا كاشفاً عن تلك الصفات، لا سبباً لشيء من الصفات، فهذا قول المعتزلة وهو ضعيف ... وأما الطرف الآخر في "مسألة التحسين والتقبيح" فهو قول من يقول: إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام، ولا على صفات هي علل للأحكام. بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر، لمحض الإرادة، لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر. ويقولون: إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله، وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش، وينهى عن البر والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفاً عندهم، ولا المنكر في نفسه منكراً عندهم. بل إذا قال: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) فحقيقة ¬

(¬1) إيثار الحق على الخلق /343.

ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم، وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، بل الأمر والنهي والتحليل والتحريم ليس في نفس الأمر عندهم لا معروف ولا منكر ولا طيب ولا خبيث، إلا أن يعبر عن ذلك بما يلائم الطباع، وذلك لا يقتضي عندهم كون الرب يحب المعروف ويبغض المنكر. فهذا القول ولوازمه هو أيضاً قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة. ولإجماع السلف والفقهاء، مع مخالفته أيضاً للمعقول الصريح؛ فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء. فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر فقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (¬1) وقال: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (¬2) وقال: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (¬3). وعلى قول النفاة: لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء، وبين تفضيل بعضهم على بعض، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر، وهذا خلاف المنصوص والمعقول. وقد قال الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (¬4) وعندهم تعلق الإرسال بالرسول كتعلق الخطاب بالأفعال لا يستلزم ثبوت صفة لا قبل التعلق ولا بعده. والفقهاء وجمهور المسلمين يقولون: الله حرم المحرمات فحرمت، وأوجب الواجبات فوجبت، فمعنا شيئان: إيجاب وتحريم، وذلك كلام الله وخطابه، ¬

(¬1) سورة الجاثية، الآية: 21. (¬2) سورة القلم، الآيتان: 35 - 36. (¬3) سورة ص، الآية: 28. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 124.

والثاني وجوب وحرمة وذلك صفة للفعل. والله تعالى عليم حكيم، علم بما تتضمنه الأحكام من المصالح. فأمر ونهى لعلمه بما في الأمر والنهي والمأمور والمحظور من مصالح العباد ومفاسدهم، وهو أثبت حكم الفعل، وأما صفته فقد تكون ثابتة بدون الخطاب. وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع: (أحدها): أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن؛ لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة، إذا لم يرد شرع بذلك. وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا خلاف النص قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (¬1) وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (¬2) وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (¬3) وقال تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 15. (¬2) سورة النساء، الآية: 165. (¬3) سورة القصص، الآية: 59. (¬4) سورة الملك، الآيات: 8 - 10.

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين" والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة، ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم. (النوع الثاني): أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. و (النوع الثالث): أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه! ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح، وكذلك حديث الأبرص والأقرع والأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة. فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم فرضي عنك، وسخط على صاحبيك. فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة؛ وزعمت أن الحسن القبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا، أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع؛ وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب (¬1) أ. هـ. وأورد ابن تيمية سؤالاً مهماً في هذا المقام يظهر به أدق الفروق بين مذهب جماهير أهل السنة، وبين مذهب النفاة في تلك المسألة. قال رحمه الله: "فإن قيل: إذا لم يكن معاقباً عليها - أي: على فعل الشرك والفواحش قبل الرسالة - فلا معنى لقبحها. قيل: بل فيه معنيان: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 431 - 436).

أحدهما: أنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط وهو الحجة قال تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) (¬1) فلولا إنقاذه لسقطوا، ومن كان واقفا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان وبعد عن ذلك فقد بعد عن الهلاك. فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب. الثاني: أنهم مذمومون منقصون معيبون. فدرجتهم منخفضة بذلك ولابد؛ ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم من ذلك من كرامته أيضاً وثوابه. فهذه عقوبة بحرمان خير، وهي إحدى نوعي العقوبة" (¬2) أ. هـ. نعم إن من وقع في عبادة غير الله الواحد المتعال قد نقض حججاً وخرق مواثيقاً؛ ومن ثم لا يكون مسلماً ولا يدخل في عداد المسلمين. فإن كان فعله قبل بلوغ الخطاب وقيام الحجة فقد اتفقت كلمة العلماء على عقابه. فمنهم من حكم بخلوده في النيران لمخالفته لحجج الميثاق والفطرة والعقل ومقتضى الآيات الكونية. وهو وقول ضعيف مرجوح منابذ للأصول والنصوص. ومنهم من حكم ببطلان فعله وشنيع جرمه وأوجب عليه التوبة بعد البلاغ والبيان لمناقضته للحجج والمواثيق، وجعل عقوبته متمثلة في خروجه من عداد المسلمين، ولحوقه بعداد المشركين، وأن الجنة عليه حرام طالما ظل على حاله. وهذا الأخير هو المستقيم مع النصوص والأصول، فجماهير علماء الأمة اتفقوا على عقابه واختلفوا في درجته، ولم يقل أحد منهم بإسلامه. * * * ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 103. (¬2) مجموع الفتاوى: (11/ 686).

المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة

المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة: إن من أدق وأحد الأمور المفرقة بين السنة والبدعة: النظر في لوازمها وتتبع مآلاتها. فالسنة مستقاة من صلب النصوص الصحيحة الصريحة لذلك فهي تسير وفق قواعدها ودلالاتها بسهولة ويسر بلا تمانع ولا تعارض ومن ثم استحال تضاربها مع بقية المقررات الشرعية، أو استلزامها للوازم باطلة. قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً) (¬1) أي: يشبه ويصدق بعضه بعضاً. وأما البدعة فهي مستقاة من نصوص صحيحة غير صريحة، أو من نصوص صريحة غير صحيحة. لذلك فهي أجنبية عن الشريعة ودائمة التصادم مع قواعدها ومقرراتها، ومن ثم كان التضارب والتدافع والتعارض وعدم التجانس سمتها الأساسية مع الشريعة الربانية، وأصولها يبطل بعضها بعضاً لقيامها على شفا جرف هار. قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (¬2) وقد أصل النفاة أصولاً سترى وتلمس - بمشيئة الله - عاقبة شؤمها، ومخازي لوازمها التي تؤول بأصحابها إلى: التنقص بالرحمن، والجهل به، وعدم تقرير أصول دينه. إلا أن القواعد الكلية والمقررات الشرعية قضت: بأن كفر المآل ليس بكفر في الحال، ولازم المذهب ليس بمذهب حتى يلتزمه صاحبه. أصول النفاة: * قالوا: إن الله لا يفعل شيئاً لشيء، نفياً لمقتضى حكمته وعدله، ويجوز عليه فعل كل شيء. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 23. (¬2) سورة النساء: الآية: 82.

* قرروا: أن الأفعال متساوية بلا مرجحات بينها قط إلا السمع. ونفوا متعلق صفتي الحب والبغض لله تعالى المفرق بين ذوات الأفعال وكنه الأشياء انطلاقاً من أصولهم الفاسدة القائمة على: نفي الصفات. * نصوا على أن: الظلم المنزه عنه الرب والذي حرمه على نفسه هو: المحال لذاته الخارج عن نطاق. القدرة: كالجمع بين النقيضين، ووجود الإنسان في مكانين وما دون ذلك فجائز عليه فعله، ولا ينزه عن شيء منه .. ويلزم من تلك الأصول الخاوية على عروشها: التنقص بالرحمن وبربوبيته وألوهيته والتعدي على سلطانه، وملكه، ويستعصي على أصحابها إثبات أصول الدين، والتدليل على صحة الرسالات وإليك البيان: النفاة ليس لديهم فرقان بين النبيين والمتنبئين: إن الله جل في علاه قد نصب براهين باهرة، وأدلة ساطعة وحججاً دامغة على صحة الرسالات، وصدق النبوات، وجعلها حداً فاصلاً وفرقاناً فارقاً بين: وحي الرحمن، ووحي الشيطان. منها: حال النبي قبل الرسالة: لا شك أن من كان حاله الصدق والصلة والعفاف والبر، والحياء من سفاسف الأمور فضلاً عن جليلها، مع اجتناب المعايب والرائل والمنكرات التي تنكرها الفطر وتأباها الشيم المستقيمة. فهذا الحال يكون من القرائن الدالة على صدقه. ومن هنا ندرك: علة تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لقومه بصدقه من قبل أن يعرض دعوته عليهم عندما نزل عليه قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فجمع - صلى الله عليه وسلم - بطون قريش وقال لهم: " ... أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً.

قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (¬1). قال الحافظ: "أرأيتم لو أخبرتكم" أراد بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب (¬2) أ. هـ. فلو لم تكن صفة الصدق قبل النبوة والوحي تدل وتبرهن على صدق صاحبها عند ادعائه الرسالة، ما احتج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومه، ولا قررهم بصدقه قبل عرض دعوته. قال ابن القيم: "وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمداً - صلى الله عليه وسلم - فإنه يصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين لا يخزيه، ولا يسلط عليه الشيطان. وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه، فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى، وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه ومجازاته بإحسانه، وأنه لا يضيع أجر المحسنين" (¬3) أ. هـ. وقال ابن تيمية رحمه الله: "وما زال العقلاء يستدلون بما علموه من صفات الرب على ما يفعله كقول خديجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لها: "لقد خشيت على نفسي" فقالت: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق". فاستدلت بما فيه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال على أن الله لا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه/ كتاب التفسير/ باب وأنذر عشيرتك الأقربين. (¬2) فتح الباري (8/ 360). (¬3) أعلام الموقعين عن رب العالمين: (1/ 282).

يخزيه. ومنه قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (¬1) فإن الشيطان إنما ينزل على ما يناسبه ويطلبه وهو يريد الكذب والإثم، فينزل على من يكون كذلك، وبسط هذا له موضع آخر" (¬2) أ. هـ. والنفاة قد أحكموا غلق هذا الباب دونهم في الاستدلال به على صحة الرسالات وصدق النبوات. فالمقرر لديهم أنهم لا فرق بين فعل وفعل إلا بالخبر، ويجوز على الله فعل كل ممكن مقدور، وعليه جوزوا من جهة العقل أن يرسل رسولا فاعلاً للكبائر والموبقات، ولا يشترط فيه إلا أن يكون عالماً بالصانع. وهذا احتراز غير محرز، وحد ليس بفاصل لوجوده في عامة الخلق. قال ابن تيمية: "وجوزوا من جهة العقل: ما ذكره القاضي أبو بكر أن يكون الرسول فاعلاً للكبائر، إلا أنه لا بد أن يكون عالماً بمرسله، لكن ما علم بالخبر أن الرسول لا يتصف به علم من جهة الخبر فقط. لا لأن الله منزه عن إرسال ظالم أو مرتكب للفواحش أو مكاس أو مخنث أو غير ذلك، فإنه لا يعلم نفي شيء من ذلك بالعقل لكن بالخبر، وهم في السمعيات عُمدتهم الإجماع. وأما الاحتجاج بالكتاب والسنة فأكثر ما يذكرونه تبعاً للعقل أو الإجماع. والعقل والإجماع مقدمان عندهم على الكتاب والسنة فلم يعتمد القاضي أبو بكر وأمثاله في تنزيه الأنبياء لا على دليل عقلي ولا سمعي من الكتاب والسنة، فإن العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاء إذ كان يجوز عنده على الله فعل كل ما يقدر عليه. وإنما اعتمد على الإجماع. فما أجمع المسلمون ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيتان: 221 - 222. (¬2) النبوات/ 353.

عليه أنه لا يكون في النبي نزه عنه. ثم ذكر ما ظنه إجماعاً كعاداته وعادات أمثاله" (¬1) أ. هـ. * شرع النبي من أعلام نبوته وشواهد رسالته: إن شرائع الأنبياء والمرسلين من أعظم وأجل الآيات والبراهين لدى الكمل من المؤمنين على صدق النبوات وصحة الرسالات فهي موافقة لموجب عقولهم وفطرهم، فالمعروف والمنكر فيها معروف ومنكر لديهما. فما وجد المؤمنون في تنزيل رب العالمين أمراً قالت عقولهم وفطرهم: ليته ما أمر به، ولا ألفوا نهياً قالت: ليته ما نهى عنه. وهذه سبيل محجورة على جماهير أهل السنة القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي للأفعال، وكونه حجة وبرهانا من حجج وبراهين العليم الخبير على عباده. وأما النفاة "فهؤلاء يجوزون أن يأمر الله بكل شيء، وأن ينهى عن كل شيء، فلا يبقى عندهم فرق بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب، لا من جهة نفسه فإنهم لا يشترطون فيه إلا مجرد كونه في الباطن مقراً بالصانع، وهذا موجود في عامة الخلق، ولا من جهة آياته، ولا من جهة ما يأمر به" (¬2). وقال ابن القيم: "وهل ركب الله في فطرة عاقل قط: أن الإحسان والإساءة والصدق والكذب والفجور والعفّة والعدل والظلم وقتل النفوس وإنجاءها بل السجود لله وللصنم سواء في نفس الأمر لا فرق بينهما، وإنما الفرق بينهما الأمر المجرد. وأي جحد للضروريات أعظم من هذا؛ وهل هذا إلا بمنزلة من يقول: إنه ¬

(¬1) النبوات: /146. (¬2) النبوات: /213.

لا فرق بين الرجيع والبول والدم والقيء ويبن الخبز واللحم والماء والفاكهة والكل سواء في نفس الأمر وإنما الفرق بالعوائد؟! فأي فرق بين: مدّعي هذا الباطل وبين: مدعي ذلك الباطل. وهل هذا إلا بهت للعقل والحس والضرورة والشرع والحكمة، وإذا كان لا معنى عندهم للمعروف إلا ما أمر به فصار معروفاً بالأمر ولا للمنكر إلا ما نهى عنه فصار منكراً بنهيه، فأي معنى لقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال: يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عا ينهاهم عنه. وهذا كلام ينزه عنه آحاد العقلاء فضلاً عن كلام رب العالمين. وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنه الفطر؟ فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم، ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض على العقول السليمة أنكرته أشد الإنكار كما [أن ما] أمر به إذا عُرض على العقل السليم قبله أعظم قبول وشهد بحسنه. كما قال بعض الأعراب وقد سئل: بما عرفت أنه رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيء. فقال: ليته أمر به. فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به، وقبح ما نهى عنه حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته؛ ولو كان جهة كونه معروفاً ومنكراً هو الأمر المجرد، لم يكن فيه دليل، بل كان يطلب له الدليل من غيره. ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه. ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه وشواهد نبوته، ومن لم يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول له، ولضده صفات أوجبت قبحه ونفور العقل عنه فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة وجعلها مستدلاً عليه فقط.

ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (¬1). فهذا صريح في أن الحلال كان طيباً قبل حله. وأن الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه. ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس التحليل والتحريم لوجهين اثنين: أحدهما: أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) (¬2). فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم، وهذا أيضاً باطل. فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني. فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل، فكساه بإحلاله طيباً آخر، فصار منشأ طيبه من الوجهين معاً. فتأمل هذا الموضع حق التأمل، يطلعك على أسرار الشريعة، ويشرفك على محاسنها، وكمالها، وبهجتها، وجلالها. وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين: أن تكون بخلاف ما وردت به. وأن الله تعالى منزه عن ذلك، كما يتنزه عن سائر ما لا يليق به" (¬3) أ. هـ. * معجزات النبوة: من المعلوم ضرورة: أن الله خلق المعجزات لتصديق الأنبياء، وجعلها فرقاناً ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 157. (¬2) سورة الأعراف: الآية 157. (¬3) فتاح دار السعادة /323: 324.

فارقاً بينهم، وبين المتقولين عليه. - وهذا يبطل ما أصله النفاة: من أن الله لا يخلق شيئاً لشيء - ويلزم من هذا أن تكون معجزات رسله: خارجة عن مقدور الثقلين، وما دونها في مقدورهم ووسعهم، وإلا بطل فرقانها واختلطت الأعلام، ولزم القدح في صحة الدلالة. قال ابن تيمية: "إن ما يأتي به السحرة والكهان، والمشركون وأهل البدع من أهل الملل، لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن. وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها لا الإنس ولا الجن، كما قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) " (¬1) أ. هـ. فمعجزات النبوة ودلائل الرسالة التي نصبها الله أعلاماً على صدق أصحابها، استحال ظهورها على أيدي غيرهم، وإلا انتفى أخص خصائص الدليل. "والدليل يجب أن يكون مختصاً بالمدلول عليه لا يوجد مع عدمه، لا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول" (¬2) أ. هـ. ومن ثم استحال خلق تلك المعجزات على أيد المتقولين على الله لموجب حكمته ورحمته وعدله، وهو مقدور له سبحانه إلا أنه منزه عن فعله. والنفاة يجوزون حلقها على أيدي السحرة والكهان، ولا ينزهون ربهم عن فعلها إلا أن يأتي بذلك خبر. وبذلك يلزم الدور. فبرهان المعجزات متوقف على الخبر، والخبر متوقف على برهانها. قال ابن تيمية: "والجهمية المجبرة الذين قالوا: إن الله قد يفعل كل ممكن ¬

(¬1) النبوات /425. (¬2) النبوات /161.

مقدور لا ينزهونه عن فعل شيء، ويقولون: إنه يفعل بلا سبب ولا حكمة، وهو الخالق لجميع الحوادث، لم يفرقوا بين ما تأتي به الملائكة، ولا ما تأتي به الشياطين، بل الجميع يضيفونه إلى الله على حد واحد، ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم، حتى يأتي الرسول. فقبل ثبوت الرسالة لا يميزون بين شيء من الخير والشر، والحسن والقبيح. فلهذا لم يفرقوا بين: آيات الأنبياء وخوارق السحرة والكهان، بل قالوا: ما يأتي به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الأنبياء، وما يأتي به الأنبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان. لكن إن دل على انتفاء ذلك نص أو إجماع نفوه مع أنه جائز عندهم أن يفعله الله، لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله" (¬1) أ. هـ. والكلام في النبوة ودلائلها فرع على إثبات حكمة الرب وتنزيهه عن السوء والسفه؛ والنفاة لا يملكون فرقاناً بين موجب الحكمة، وبين ضدها ونقيضها لاستواء الأفعال ونفي المرجحات مع قبول الفطر والعقول لكافة المقدورات في زعمهم. لذلك فهم لا ينزهون الله عن فعل مقدور إلا المحال لذاته الذي ليس فيه مدحة ولا تنزيه في نفيه. وأما أهل السنة فنزهوا معبودهم عن كل سوء ظلم، وعن كل نقيض لحكمته ومستندهم في ذلك موجب فطرهم وعقولهم. وبذلك تحررت لديهم: دلائل النبوة وأعلام الرسالة؛ واستحال تحريرها على أيدي النفاة لأصولهم الخاوية على عروشها. قال ابن تيمية: "وبيان ذلك أن يقال: ما خلقه على يد الصادق هو قادر على أن يخلقه على يد الكاذب أم لا؟ فإن قلت: (¬2) ليس بقادر فقد أثبت عجزه، وإن قلت: هو قادر على ذلك، فالمقدور عندك لا ينزه عن شيء منه، وإن قلت: هذا المقدور أنزهه عنه لئلا يلزم عجزه، كان حقيقة قولك: أثبت ¬

(¬1) النبوات /315: 316. (¬2) أي الذي ينفي التحسين والتقبيح العقلي للأفعال ويجوز على الله فعل كافة المقدورات.

عجزه لأنفي عجزه، فجعلته عاجزاً لئلا تجعله عاجزاً، فجمعت بين النقيضين بين إثبات العجز ونفيه، وإنما لزمه هذا لأنه لا ينزه الرب عن فعل مقدور فاستوت المقدورات كلها في الجواز عليه عنده، ولم يحكم بثبوت مقدور إلا بالعادة (¬1) أو الخبر، والعادة يجوز انتقاضها عنده، والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر. ولا طريق له إلى ذلك. فتعين أن كل من لم ينزه الرب عن السواء والسفه، ويصفه بالحكمة والعدل لم يمكنه أن يعلم نبوة نبي، ولا المعاد ولا صدق الرب في شيء من الأخبار" (¬2) أ. هـ. وقال رحمه الله: "ولما أرادوا إثبات معجزات الأنبياء عليهم السلام. وأن الله سبحانه لا يظهرها على يد كاذب. مع تجويزهم عليه فعل كل شيء فعوا معاً (¬3). فقالوا لو جاز ذلك؛ لزم أن لا يقدر على تصديق من ادعى النبوة. وما لزم منه نفي القدرة كان ممتنعاً. فهذا هو المشهور عن الأشعري. وعليه اعتمد القاضي أبو بكر. وابن فورك والقاضي أبو يعلى وغيرهم. وهو مبني على مقدمات: أحدها: أن النبوة لا تثبت إلا بما ذكروه من المعجزات، وأن الرب لا يقدر على إعلام الخلق بأن هذا نبي إلا بهذا الطريق، وأنه لا يجوز أن يعلموا ذلك ضرورة، وأن إعلام الخلق بأن هذا نبي بهذا الطريق ممكن. فلو قيل لهم: لا نسلم أن هذا ممكن على قولكم فإنكم إذا جوزتم عليه فعل كل شيء، وإرادة كل شيء لم يكن فرق بين: أن يظهرها على يد صادق أو كاذب. ولم يكن إرسال رسول يصدقه بالمعجزات ممكناً على أصلكم. ولم يكن لكم حجة على جواز إرسال الرسول وتصديقه بالمعجزات إذ كان لا طريق عندهم إلا خلق المعجز. وهذا إنما يكون دليلاً إذا علم أنه إنما خلقه لتصديق ¬

(¬1) أي سنة الله في خلقه التي لا تتبدل، ولا تتغير. (¬2) النبوات /360: 361. (¬3) هكذا في الأصل، وإن كان المعنى يوحي بـ "اضطربوا اضطراباً".

الرسول، وأنتم عندكم لا يفعل شيئاً لشيء، ويجوز عليه فعل كل شيء. وسلك طائفة منهم طريقاً آخر وهي طريقة أبي المعالي وأتباعه، وهو أن العلم بتصديقه لمن أظهر على يديه المعجز علم ضروري، وضربوا له مثلاً بالملك (¬1) وهذا صحيح إذا منعت أصولهم، فإن هذه تعلم إذا كان المعلم بصدق رسوله ممن يفعل شيئاً لحكمة، فأما من لا يفعل شيئاً لشيء، فكيف يعلم أنه خلق هذه المعجزة لتدل على صدقه لا لشيء آخر، ولم لا يجوز أن يخلقها لا لشيء على أصلهم. وقالوا أيضاً ما ذكره الأشعري: المعجز علم الصدق ودليله، فيستحيل وجوده بدون الصدق، فيمتنع وجوده على يد الكاذب وهذا كلام صحيح، لكن كونه علم الصدق مناقض لأصولهم، فإنه إنما يكون علم الصادق إذا كان الرب منزهاً عن أن يفعله على يد الكاذب. أو علم بالاضطرار أنه إنما فعله لتصديق الصادق، أو أنه لا يفعله على يد كاذب، وذا علم بالاضطرار تنزهه عن بعض الأفعال بطل أصلهم" (¬2) أ. هـ. فمآل أصول النفاة وحقيقة قولهم: أن الله يرسل رسولاً ولا يقيم حجة على صدقه، ويلزم الناس باتباعه. ¬

(¬1) قال الجويني: والمرضي عندنا أن المعجزة تدل على الصدق من حيث تنزل منزلة التصديق بالقول. وغرضنا يتبين بفرض مثال: فنقول: إذا تصدر ملك الناس، وتصدر لثلج عليه رعيته واحتفل الناس واحتشدوا، وقد أرهق الناس شغل شاغل، فلما أخذ كل مجلسه، وترتب الناس على مراتبهم انتصب واحد من خواص الملك وقال: معاشر الأشهاد، قد حل بكم أمر عظيم وأظلكم خطب جسيم، وأنا رسول الملك إليكم، ومؤتمنه لديكم، ورقيبه عليكم، ودعواي هذه بمرأى من الملك ومسمع، فإن كنت أيها الملك صادقاً في دعواي فخالف عادتك وجانب سجيتك، وانتصب في صدرك وبهوك ثم اقعد، ففعل الملك ذلك على وفق ما ادعاه ومطابقة هواه. فيستيقن الحاضرون على الضرورة: تصديق الملك إياه، وينزل الفعل الصادر منه منزلة القول المصرح بالتصديق. أ. هـ. الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للإمام الجويني تحقيق د. محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم - مطبعة السعادة بمصر - الناشر مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثني ببغداد. (¬2) النبوات /148: 149.

قال ابن تيمية: "ثم إنه لما أثبت النبوة - أي: أبو بكر الباقلاني - قال: إنه يجوز على النبي فعل كل شيء من الكبائر، إلا أن يمنع من ذلك سمع، كما قال: كل ما كان معجزة للأنبياء يجوز أن يأتي به الساحر، إلا أن يمنع منه سمع إذ كان في نفس الأمر لا فرق بين فعل وفعل، بل يجوز من الرب كل شيء، فيجوز أن يبعث كل أحد، ولا يقيم على نبوته دليلاً. هذا حقيقة قولهم: أنه يجوز أن يبعث كل أحد، وأنه إذا بعثه لا يقيم دليلاً على نبوته، بل يلزم العباد بتصديقه بلا دليل يدلهم على صدقه، فإن غاية هذا تكليف ما لا يطاق، وهم يجوزونه. وهذا الذي قالوه باطل من وجوه متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع" (¬1) أ. هـ. "فينبغي أن يتدبر هذا الموضع وتعرف الفروق الكبيرة بين: آيات الأنبياء، وبين ما يشتبه بها، كما يعرف الفرق بين: النبي وبين المتنبي، وبين ما يجيء به النبي، وما يجيء به المتنبي. فالفرق حاصل في نفس صفات هذا، وصفات هذا، وأفعال هذا، وأفعال هذا، وأمر هذا، وأمر هذا، وخبر هذا وخبر هذا، وآيات هذا، وآيات هذا. إذا الناس محتاجون إلى هذا الفرقان أعظم من حاجتهم إلى غيره، والله تعالى يبينه وييسره" (¬2) أ. هـ. ويلزم النفاة في هذه المسألة التنقص بالرحمن، ورفع متعلق التكليف وما ينبني عليه من الثواب والعقاب. قال ابن تيمية: "فهذه الطريقة وهو أن ما يستحقه المخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه، فالخالق أولى به، وما ينزه عنه المخلوق من العيوب المذمومة، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عن كل عيب وذم، وهو سبحانه القدوس السلام الحميد المجيد من أبلغ الطرق البرهانية وهي مستعملة في القرآن في غير موضع، ¬

(¬1) النبوات /292. (¬2) النبوات /13.

فلذلك يقال: الواحد من الناس قادر على إرسال رسول، وعلى أن يرسل نشابة وعلامة يعرفه المرسل إليهم بها صدقه، فكيف لا يقدر الرب على ذلك؟ ثم إذا أرسله إليهم وأمرهم بتصديقه وطاعته ولم يعرفهم أنه رسوله، كان هذا من أقبح الأمور، فكيف يجوز مثل هذا على الله؟ ولو بعثه بعلامة لا تدلهم على صدقه كان ذلك عيباً مذموماً، فكل ما ترك من لوازم الرسالة، إما أن يكون لعدم القدرة، وإما أن يكون للجهل والسفه وعدم الحكمة، والرب أحق بالتنزيه عن هذا وهذا من المخلوق، فإذا أرسل رسولاً فلا بد أن يعرفهم أنه رسوله ويبين ذلك، وما جعله آية وعلامة ودليلاً على صدقه امتنع أن يوجد بدون الصدق فامتنع أن يكون للكاذب المتنبي، فإن ذلك يقدح في الدلالة، فهذا ونحوه مما يعرف به دلالة الآيات من جهة حكمة الرب، فكيف إذا انضم إلى ذلك أن هذه سننه وعادته، وأن هذا مقتضى عدله، وكل ذلك عند التصور التام يوجب: علماً ضرورياً يصدق الرسول الصادق، وأنه لا يجوز أن يسوى بين الصادق والكاذب، فيكون ما يظهره النبي من الآيات يظهر مثله على يد الكاذب، إذ لو فعل هذا لتعذر على الخلق التمييز بين الصادق والكاذب، وحينئذ فلا يجوز أن يؤمروا بتصديق الصادق، ولا يذموا على ترك تصديقه وطاعته، إذ الأمر بذلك بدون دليله تكليف ما لا يطاق، وهذا لا يجوز في عدله وحكمته، ولو قدر أنه جائز عقلاً فإنه غير واقع" (¬1) أ. هـ. وبهذا يتبين لك أخي القارئ: عجز النفاة عن إثبات صحة الرسالة وصدق النبوة، وهذا أيضاً يلزم خصومهم من المعتزلة. قال ابن القيم: "وأما طريق العلم بالنبوة: فإنهم أصلوا أنه سبحانه يجوز عليه كل ممكن، وأنه يجوز عليه تأييد الكذابين بأنواع المعجزات، وأنه لا فرق بالنسبة إليه ¬

(¬1) النبوات/ 343: 344.

سبحانه بين ذلك وبين تأييد الصادقين بها، فإن العقل لا يقبل ذلك، ولا يحسن هذا، وليس إلا مجرد القدرة والمشيئة، فلما أورد عليهم العقلاء أن هذا يسد طريق العلم بالنبوة، عدلوا إلى نوع من المعارضة لخصومهم من المعتزلة، وقالوا: هذا يلزمنا ويلزمكم، فإن وجوب النظر في المعجزة عندكم، وإن وجب بالعقل، لكن وجوبه نظري؛ فالمكلف يقول: لا أنظر حتى يجب علي، ولا يجب علي حتى أنظر، فسددتم على أنفسكم طريق إثبات النبوة، فانظر كيف آل أمر الفريقين إلى الاعتراف بأن العلم بإثبات النبوة طريقه مسدودة عليهم، وماذا يفيدكم مشاركة خصومكم لكم في هذا الضلال المبين والكفر المستبين؟ فأبعد الله أصولاً وقواعد هذا حاصلها، ورأس مال أصحابها" (¬1) أ. هـ. وأختم هذا الفصل بنقل للإمام ابن القيم يفضح فيه قول النفاة ويعري أصولهم الزائفة، ويهدم قواعدهم الساقطة قال ابن القيم رحمه الله: "وحسبك بمذهب فساداً استلزامه: جواز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وأنه ليس بقبيح، واستلزامه جواز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وأنه لا يقبح منه، واستلزامه التسوية بين: التثليث والتوحيد في العقل، وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود، ولا شيء من أنواع الكفر، ولا السعي في الأرض بالفساد، ولا تقبيح شيء من القبائح أصلاً. وقد التزم النفاة ذلك وقالوا: إن هذا الأشياء لم تقبح عقلاً، وإنما جهة قبحها السمع فقط، وأنه لا فرق قبل السمع بين: ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضده، ولا بين الصدق والكذب والعفة والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما، وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين من كل وجه. وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا ¬

(¬1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (4/ 1437: 1438).

يتكلف رده، ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم، فأطبق اصحاب أبي حنيفة على خلافه، وحكوه عن أبي حنيفة نصاً، واختاره من أصحاب أحمد: أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير، ولم يقل أحد من متقدميهم بخلافه، ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة. واختاره من أئمة الشافعية: الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير، وبالغ في إثباته، وبنى كتابه (محاسن الشريعة) عليه، وأحسن فيه ما شاء. وكذلك الإمام سعيد بن علي الزنجاني بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعري القول: بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد. وكذلك أبو القاسم الراغب، وكذلك أبو عبد الله الحليمي وخلائق لا يحصون" (¬1) أ. هـ. وبهذا يكون قد تم هذ الفصل ولله الحمد والمنة. * * * ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة /359: 360.

أهم نتائج الفصل الثالث

أهم نتائج الفصل الثالث - حجية العقل -: * العقل فيه وجوب التوحيد، وحسن العدل والصدق، وفيه البراءة من الشرك، وقبح الفواحش والظلم والكذب. * من المستحيل عقلاً أن يشرع الله عبادة غيره أبداً. * العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك. * الشرك سوء ظن بالله وتنقص بحق ربوبيته وألوهيته وتوحيده. * لا عذر لأحد في الكفر بالله ألبتة. * ما كتبه الله جل جلاله على نفسه، وما حرمه عليها، لا يُخل به، ولا يقع منه سبحانه خلافه. * حكمة الله وربوبيته تأبى: خلق الناس عبثاً وتركهم سدى، وذلك مستقر في الفطر والعقول. * العقل فيه التصديق بالبعث إمكاناً ووقوعاً. * الآيات الكونية تدل على توحيد ربها، وأن الألوهة لا تنبغي إلا له. * السمع يأتي بما يعجز العقل عن إدراكه، ولا يأت بمحالاته وضد موجبة. * أول ما أنزل من التشريع الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين. * أدلة السمع على المطالب الإلهية نوعان: الأول الخبر المحض. والثاني: الأدلة العقلية التي تقيم صحة مقتضى الأخبار. * حجة الله الموجبة للعذاب قامت على العباد بالسمع والعقل. * الموحدون وافقوا السمع والعقل، والمشركون خالفوا مقتضاهما. * * *

الفصل الرابع آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد

الفصل الرابع آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: بعث الرسل إزاحة لعلل الكفار. المبحث الثاني: الشرك قبل البيان افتراء على الله وأصحابه مذمومون. المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان.

الفصل الرابع آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد بعد استعراض حجج الله سبحانه على أعظم معنى في الوجود والقائم على: إفراد الله بالعبادة والطاعة، مع الكفر بكافة الأرباب والآلهة المغبودة من دونه. تلك الحجج المتمثلة في: الميثاق والفطرة والعقل مع شهادة الآيات الكونية بصحة موجبها ومقتضاها. يمكننا الجزم والحزم: بأن الشرك والظلم والفواحش ذنوب وسيئات، ولو لم يأت الخطاب بالنهي عنها، وتقم حجة البلاغ بحرمتها، وما ذلك إلا لقيام تلك الحجج: ببراهين قبحها وتحسين ضدها من: التوحيد والعدل والطيبات. وقد أسجل الوحي على المشركين مخالفتهم لحجج التوحيد ونقضهم لعهودها ونبذهم للوفاء بها. ووصم أفعالهم القبيحة بأنها ذنوب وسيئات من قبل أن يقرع آذانهم بحكم من السمع يخالفونه. وحكم المولى جل في علاه على كل من وقع في عبادة غيره: بالافتراء والإفك والبهتان، ووبخهم على أفعالهم الممقوتة، وطالبهم تعجيزاً وتبكيتاً: بالسلطان والبرهان على دينهم المفترى وعلى صراطهم المعوج. قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (¬1) وقال سبحانه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ ¬

(¬1) سورة الأنعام: 148.

لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (¬1). وقد أمر الله عز وجل بالاستغفار والتوبة لكل ناقض لحجج التوحيد ومتعد على سلطانها، وإن كان جاهلاً ولم تأته رسالة، ولا سمع لها بخبر. قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (¬2). فلو كان الشرك والظلم والفحشاء: كالمباح المستوي الطرفين والمعفو عنه، وكفعل الصبيان والمجانين، أو لم يثبت لها حكم قبل البيان، ما أمر بالاستغفار والتوبة منها، وما عيّر أصحابها بالافتراء والإفك مع توبيخهم وذمهم عليها، إذ كانت لا حكم لها ولا فرق بينها وبين الطعام والشراب واللهو المباح، ولا توصف بالقبح والسوء والذم إلا بالخبر. وهذا دليل عزيز وبرهان باهر وحجة ساطعة على أن: حسن التوحيد والعدل والطيبات، وقبح الشرك والظلم والخبائث ثابت في نفس الأمر معلوم بالفطر والعقول، وإلا لزم استواؤها ونفي المرجحات بينها حتى يقوم الخبر بالبيان. وتلك سوءة النفاة التي آلت بهم إلى: المكابرة في الحقائق، وجحد ضروريات المعارف، والطعن في مسلمات العلوم، والسفسطة في أوليات النظر. * * * ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 4. (¬2) سورة نوح، الآيات: 1 - 4.

المبحث الأول: بعث الرسل إزاحة لعلل الكفار

المبحث الأول: بعث الرسل إزاحة لعلل الكفار: وعلى ضوء هذه المقدمة نعيد قراءة قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (¬1). فغير خاف على كل ذي لب بطلان المعاني الآتية: وما كنا معذبين: فاعلي المباحات حتى نبعث رسولا. وما كنا معذبين: ذوي الأفعال التي لا حكم لها ولا شيء على فاعلها حتى نبعث رسولا. وما كنا معذبين: أولي الطاعات حتى نبعث رسولا. فلم يبق إلا المعنى الذي يقتضيه نظم الآية، وتوجبه مقاصد الشريعة وكليات الأدلة، واستقراء النصوص. وما كنا معذبين: الكفار أصحاب الذنوب والمعاصي - الناقضين لحجج التوحيد وبينات الهدى حتى نبعث رسولا. قال الإمام الطبري في قوله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (¬2). (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين لئلا يحتج من كفر بي وعبد الأنداد من دوني أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردت عقابه: (لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)، فقطع حجة كل مبطل ألحد في توحيده، وخالف أمره بجميع معاني الحجج القاطعة عذره، إعذارا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم، وعلى جميع خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك حدثنا ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 15. (¬2) سورة النساء، الآية: 165.

محمد بن الحسين قال: ثنا أحمد بن المفضل قال: ثنا أسباط، عن السدي (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسلا (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) يقول: ولم يزل الله ذا عزة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على كفره به ومعصيته إياه بعد تثبيته حجته عليه برسله وأدلته، حكيما في تدبيره فيهم ما دبره" أ. هـ. وما أظهر أجلى هذا المعنى في قول المعصوم إمام الهدى - صلى الله عليه وسلم - "ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين" متفق عليه واللفظ للبخاري. فعلام يكون العذر، إن لم يكن من شيء يستوجب: عقوبة؟ قال الحافظ: "قوله (ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين) (¬1) يعني: الرسل، وقد وقع في رواية مسلم "ولذلك أنزل الكتب والرسل" أي: وأرسل الرسل، قال ابن بطال: هو من قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (¬2) فالعذر في هذا الحديث: التوبة والإنابة كذا قال، وقال عياض: المعنى بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه قبل أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) " (¬3) أ. هـ. وقال النووي: "المعنى: ليس أحد أحب إليه الإعذار من الله تعالى. فالعذر هنا بمعنى: الإعذار والإنذار قبل أخذهم بالعقوبة، ولهذا بعث المرسلين، ¬

(¬1) البخاري كتاب التوحيد (13/ 411). ومسلم في اللعان برقم/ 1499. (¬2) سورة الشورى، الآية: 25. (¬3) فتح الباري (13/ 411).

كما قال سبحانه وتعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) " (¬1) أ. هـ. وقال القرطبي: "وبعث الرسل إزاحة لعذر الكفار" (¬2) أ. هـ. وهذا المعنى مستفيض ذكره في القرآن وهو أبلغ من ضوء الشمس في رابعة النهار على رؤوس الأعلام. وقد حكم المولى تبارك وتعالى على أهل الكتاب فضلا عن المشركين قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم: أهل فترة بقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (¬3). قال ابن كثير: ... والمقصود أن الله بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعمة، والحاجة إليه أمر عمم، فإن الفساد قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء ... ثم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل ... رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه ... فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمداً، - صلى الله عليه ويلم - فهدى الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء. ولهذا قال - تعالى -: (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ). أي: لئلا تحتجوا وتقولوا يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه: ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - (¬4) أ. هـ. ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي (10/ 132). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (13/ 293). (¬3) سورة المائدة، الآية: 19. (¬4) تفسير القرآن العظيم (3/ 66: 67).

وهذا الزمن الذي يتسم بانقطاع النبوات وفتور الرسالات، قال الله في حق أهله: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (¬1). قال الطبري: "يقول - تعالى - ذكره -: ولولا أن يقول هؤلاء الذين: أرسلتك يا محمد، - صلى الله عليه وسلم - إليهم لو حلّ بهم بأسنا أو أتاهم عذابنا من قبل أن نرسلك إليهم على كفرهم بربهم واكتسابهم الآثام واجترامهم المعاصي: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من قبل أن يحل بنا سخطك، وينزل بنا عذابك فنتبع أدلتك وآي كتابك الذي تنزله على رسولك ونكون من المؤمنين بألوهيتك المصدقين رسولك فيما أمرتنا ونهيتنا. لعاجلناهم العقوبة على شركهم من قبل ما أرسلناك إليهم، ولكنا بعثناك إليهم نذيراً بأسنا على كفرهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (¬2) أ. هـ. وقال ابن كثير: "أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ولينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير" (¬3) أ. هـ. وقال البغوي: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ). عقوبة ونقمة (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعصية. (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وجواب لولا محذوف أي: لعاجلناهم بالعقوبة يعني: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة على كفرهم، وقيل: معناه لما بعثناك إليهم رسولا، ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" (¬4) أ. هـ. ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 47. (¬2) جامع البيان (20/ 52). (¬3) تفسير القرآن العظيم (6/ 251). (¬4) تفسير البغوي: (6/ 211: 212).

وقال الإمام القاسمي: "ولولا أن تصيبهم مصيبة "أي: عقوبة "بما قدمت أيديهم" أي من الكفر والفساد. (فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: بها. وجواب (لولا) الأولى محذوف ثقة بدلالة الحال عليه. أي: ما أرسلناك لكن قولهم هذا عند عقوبتهم محقق. ولذا أرسلناك قطعاً لمعاذيرهم" (¬1) أ. هـ. وهذا من آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد: ثبوت وصف الشرك لمن عبد غير الله تعالى وإن كان جاهلاً ولم تقم عليه حجة البلاغ؛ لمخالفته للعلوم الضرورية التي فطره فاطره عليها، وركز في عقله حسنها ووجوبها وبرهانها وقامت الآيات الكونية ناطقة بصحتها، وشاهدة ببطلان ضدها. فتلك المسألة قد التأم شمل الأدلة عليها، ووقع عليها أعلام الموقعين عن رب العالمين. فاسم الشرك ثبت قبل الرسالة لمن عبد غير الله، وعدل به غيره، وجعل له أندادا؛ إلا أن الله العلي الكبير لكمال رحمته وحبه العذر وقف العذاب عليه حتى إيتان النذير وبلوغ الرسالة. فإرسال الرسل مبشرين ومنذرين إزاحة لعلل الكفار والمشركين، وقطعاً لمعاذيرهم وحججهم، إذا حل بهم بأس المنتقم الجبار، أو أتاهم عذابه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. قال الإمام الشنقيطي: "اعلم أولاً: أن من لم يأته نذير في دار الدنيا وكان كافراً حتى مات، اختلف العلماء فيه: هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟ كما أشار له في مراقي السعود بقوله: ¬

(¬1) محاسن التأويل (13/ 4710).

ذو فترة بالفرع لا يراع ... وفي الأصول بينهم نزاع" (¬1) أ. هـ. وقال رحمه الله: "قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ظاهر هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى يبعث إليه رسولا ينذره ويحذره فيعصي ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار ... وها الخلاف مشهور بين أهل الأصول - هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم، أو معذورون بالفترة؟. قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا. ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا، لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل" (¬2). أ. هـ. وبهذا يكون قد انسل محل الاتفاق عن موضع النزاع. فثبوت وصف الشرك وحكمه لمن عبد غير الله قبل الرسالة أمر متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها، والعذاب عليه قبل الحجة موضع نزاع بينهم، وإن كان الراجح الذي تقتضيه الأصول والنصوص عدم وقوع العذاب في الدارين قبل قيام الحجة الرسالية. وقد أجمع أهل العلم على خروج هؤلاء عن مسمى الإسلام ومباينتهم لزمرة أهله. فالإسلام: "هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله ¬

(¬1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب /180. (¬2) أضواء البيان (3/ 429: 438).

ورسوله واتباعه فيما جاء به؛ فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل" (¬1) أ. هـ. والمشرك لم يأت بهذا القدر من التوحيد والإيمان، فكيف يتحلى بوصف الإسلام؟!! قال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن، وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم" (¬2) أ. هـ. * * * ¬

(¬1) طريق الهجرتين /390. (¬2) حكم تكفير المعين - الرسالة السادسة من كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين /151.

المبحث الثاني: الشرك قبل البيان افتراء على الله وأصحابه مذمومون

المبحث الثاني: الشرك قبل البيان افتراء على الله وأصحابه مذمومون: ومن آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد: الحكم على المشركين بالافتراء والإفك، وعلى فعلتهم النكراء المتمثلة في اتخاذ آلهة من دون الله تقربهم إليه زلفى بأنها ذنب عظيم وسيئة قبيحة ويجب - أي: الوجوب المستوجب للعقاب لتاركه - على أصحابها التوبة منها، والمآب إلى التوحيد بعد البيان. قال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ، يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ، وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (¬1). قال ابن تيمية: "فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر. فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول" (¬2) أ. هـ. وقال الإمام الطبري: القول في تأويل قوله تعالى (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ). يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له دون ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان، ما لكم من إله غيره يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره؛ فأخلصوا له العبادة، وأفردوه بالألوهة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) يقول: ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل قرية مكذبون تختلقون الباطل لأنه لا إله سواه ... ¬

(¬1) سورة هود، الآيات: 50 - 52. (¬2) مجموعة الفتاوى (20/ 37 - 38).

القول في تأويل قوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ). يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: ويا قوم استغفروا ربكم يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم. والاستغفار هو الإيمان بالله في هذا الموضع لأن هودا صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم كما قال نوح لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) وقوله (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) يقول ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به أرسل قطر السماء عليكم يدر لكم الغيث في وقت حاجتكم إليه، وتحيا بلادكم من الجدب والقحط" (¬1) أ. هـ. وقال الإمام البغوي: "قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ) أي: وأرسلنا إلى عاد (أَخَاهُمْ هُوداً)، في النسب لا في الدين، (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ): "وحدوا الله"، (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ): ما أنتم في إشراككم إلا كاذبون. (يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ)، أي: على تبليغ الرسالة، (أَجْراً) جُعْلا، (إِنْ أَجْرِيَ): ما ثوابي (إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي)، خلقني، (أَفَلا تَعْقِلُونَ). (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، أي: آمنوا به، والاستغفار ها هنا بمعنى الإيمان، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، من عبادة غيره ومن سالف ذنوبكم" (¬2) أ. هـ. وقال تعالى في حق خليله إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا ¬

(¬1) جامع البيان: (12/ 35). (¬2) معالم التنزيل (4/ 182). ويراجع تفاسير القرطبي وابن كثير والشوكاني وغيرهم فيها.

يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً). قال ابن تيمية: "فهذا توبيخ على فعله قبل النهي" (¬1) أ. هـ. وقال الشوكاني: (لم تعبد) للإنكار والتوبيخ (¬2) أ. هـ. وقال عبد الرحمن السعدي: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ) مهجناً له عبادة الأوثان (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي: لم تعبد أصناماً ناقصة في ذاتها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً، بل لا تملك لأنفسها شيئاً من النفع، ولا تقدر على شيء من الضر. فهذا برهان جلي دال: على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلا وشرعاً" (¬3) أ. هـ. فانظر إلى قول الخليل عليه السلام وأمعن النظر فيه (لِمَ تَعْبُدُ) ولم يقل (لا تعبد). فثبت بهذا التوبيخ والذم للمشركين قبل البيان. فهل يكون هذا على فعل مباح، أو على فعل لا حكم له قبل الخبر؟!!! هذا مع قول الخليل لأبيه (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً). قال ابن كثير: "يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك فاعلم: أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد" (¬4). أ. هـ. وقال ابن تيمية: وكذلك قول الخليل لقومه أيضاً: (مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 681). (¬2) فتح القدير (3/ 335). (¬3) تيسير الكريم الرحمن (5/ 110). (¬4) تفسير القرآن العظيم: (5/ 229).

آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) - إلى قوله - (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي: وخلق ما تنحتون، فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم؟ وتدعون رب العالمين. فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحاً بالنهي، ومعنى قبحه: كونه منهياً عنه، لا لمعنى فيه؛ كما تقوله المجبرة" (¬1) أ. هـ. وقال القاسمي: (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) أي: أتريدون بطريق الكذب، آلهة دون الله؟ القول في تأويل قوله تعالى: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ). "فما ظنكم برب العالمين" أي: بمن هو الحقيق بالعبادة، لكونه ربا للعالمين، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره. والمعنى: لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه. فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة. وهو الذي حملهم على عبادة غيره. أو المعنى: فما ظنكم به؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ وعلى كل، فالاستفهام إنكاري. والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه" (¬2) أ. هـ. * * * ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 681: 682). (¬2) محاسن التأويل: (14/ 5046).

المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان

المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان: وهذا أيضا من آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد. لا جرم أن الذي يواقع الفاحشة يستشعر قبحها وسوء منقلبها. دليل ذلك استخفاؤه بها، ونقمته على من يهم بفعلها في أهله وذويه. وكذلك الذين يطففون الميزان يعلمون يقينا جرم فعلتهم النكراء، وبرهانه أنهم: إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. وكذلك الذي يغتصب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والورق، يأبى ويأنف أنه يُغتصب درهم منه بغير وجه حق .. وبذلك ندرك علة اقتران الأمر بالاستغفار مع دعوة التوحيد على ألسنة الرسل الكرام لأقوامهم المشركين العصاة. قال ابن تيمية: "و"أيضاً" أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه (¬1)، فلو كان كالمباح المستوي الطرفين والمعفو عنه، وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة، وهذا كقوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ). وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وقال: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). فدل على أنها كانت: ذنوباً ¬

(¬1) أي" قبل إقامة الحجة عليهم.

قبل إنذاره إياهم (¬1) وقال عن هود: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ، يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ، وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود: 50 - 52]. فأخبر في أول خطابه: أنهم مفترون. بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (¬2). وكذلك قال صالح: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (¬3). وكذلك قال لوط لقومه: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) (¬4). فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم. بخلاف قول من يقول: ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها؛ ولهذا قال لهم: (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (¬5). وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب. وكذلك قول شعيب: (أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (¬6). بين أن ما فعلوه كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم؛ بخلاف ¬

(¬1) قال الشوكاني: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) هذا جواب الأمر، ومن للتبعيض، أي: بعض ذنوبكم وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته. أ. هـ. فتح القدير (5/ 297). ويراجع في ذات المعنى: الطبري والقرطبي والبغوي ومحاسن التأويل ونظم الدر .. وغيرهم .. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 71. (¬3) سورة هود، الآية: 61. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 80. (¬5) سورة العنكبوت، الآية: 29. (¬6) سورة هود، الآية: 85.

قول "المجبرة" أن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك. كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من: الشرك والظلم والفواحش ... وقد قال سبحانه: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (¬1) (¬2) وقال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (¬3) (¬4) وقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (¬5) (¬6). فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون: إن كل عاص فهو جاهل. كما قد بسط في موضع آخر، فهو متناول لمن يكون (¬7) علم التحريم أيضاً. فدل على أنه يكون عاملاً سوءاً، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 54. (¬2) قال القرطبي: قال مجاهد: لا يعلم حلالاً من حرام، ومن جهالته ركب الأمر. فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل. أ. هـ. الجامع لأحكام القرآن (6/ 436). وقوله: فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل عام في جميع العصاة، لأن العاصي لا يخرج عن أحد احتمالين: إما جهلة بالحرمة، وإما علمه بها وجهله بعظم شأن من يعصه تبارك اسمه وتعالى جده وتقدست أسماؤه وعلى كلا الاحتمالين يكون جاهلا. (¬3) سورة النساء، الآية: 17. (¬4) قال أبو جعفر الطبري بعد ذكره لأقوال المفسرين: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للإثم، أو جاهلين بما أعد الله لأهلها. أ. هـ. جامع البيان (4/ 203). (¬5) سورة النحل، الآية: 119. (¬6) قال القرطبي: قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي: الشرك. قاله ابن عباس. أ. هـ. الجامع لأحكام القرآن (10/ 197). (¬7) هكذا في الأصل وإن كان السياق يقتضي وضع "لمن لم يكن" ودليل ذلك ما جاء بعده.

عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة. وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيراً من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة: كالفاحشة، والظلم الظاهر. فأما ما قد يتخذ دينا فلا يعلم أنه ذنب - إلا من علم أنه باطل - كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى. وكذلك البدع كلها (¬1) أ. هـ. وقد أطبق أهل العلم بلا خلاف بينهم على سوء أفعال المشركين من أهل الفترات، وعلى وجوب التوبة عليهم منها. إلا أنهم اختلفوا في الكافر منهم إذا أسلم، هل توبته من الشرك تجبه فقط، أم تجبه وسائر عمله السيء من الذنوب والمعاصي؟. فالكلمة متفقة وملتئمة على قبح أفعالهم ووجوب البراءة منها - وهو محل الاستدلال - ومختلفة في ماهية المكفر وحده، هل هو الانخلاع من الشرك فقط؟ أم الانخلاع منه ومن سائر المعاصي؟. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء أخذ بالأول والآخر) (¬2) أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري. قال ابن تيمية معلقاً عليه: "وحسن الإسلام" أن يلتزم فعل ما أمر الله به، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 679: 684). (¬2) البخاري كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم - باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة برقم /6921، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم /190 وابن ماجه في الزهد برقم /29.

وترك ما نهى عنه. وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها. وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله" فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن. وقوله: "ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" أي: إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب فإنه يؤاخذ بالأول والآخر. وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره. والمسلم تائب من الكفر، كما قال تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (¬1) وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (¬2) أي: إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف. فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه. من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه. وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر. والله أعلم (¬3) أ. هـ. وقال الحافظ: قوله: (ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر) قال الخطابي: ظاهره خلاف ما أجمعت عليه الأمة أن الإسلام يجب ما قبله، وقال ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 5. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 38. (¬3) مجموع الفتاوى (11/ 701: 702) ويراجع (10/ 323 - 325). فهو في ذات المعنى.

تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (¬1) قال: ووجه هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم لم يؤاخذ بما مضى، فإن أساء في الإسلام غاية الإساءة وركب أشد المعاصي وهو مستمر الإسلام فإنه إنما يؤاخذ بما جناه من المعصية في الإسلام ويبكت بما كان منه في الكفر كأنه يقال له: ألست فعلت كذا وأنت كافر فهلا منعك إسلامك عن معاودة مثله؟ انتى ملخصا. وحاصله أنه أول المؤاخذة في الأول بالتبكيت وفي الآخر بالعقوبة، والأولى قول غيره: إن المراد بالإساءة الكفر لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث "أكبر الكبائر الشرك" وأورد كلا في أبوب المرتدين، ونقل ابن بطال عن المهلب قال: معنى حديث الباب من أحسن في الإسلام بالتمادي على محافظته والقيام بشرائطه لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أي في عقده بترك التوحيد أخذ بكل ما أسلفه، قال ابن بطال: فعرضته على جماعة من العلماء فقالوا لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية. قلت: وبه جزم المحب الطبري. ونقل ابن التين عن الداودي معنى: من أحسن مات على الإسلام، ومن أساء مات على غير الإسلام. وعن أبي عبد الملك البوني: معنى من أحسن في الإسلام أي: أسلم إسلاماً صحيحاً لا نفاق فيه ولا شك، ومن أساء في الإسلام أي: أسلم رياء وسمعة، وبهذا جزم القرطبي، ولغيره معنى الإحسان: الإخلاص حين دخل فيه، ودوامه عليه إلى موته، والإساءة: بضد ذلك، فإنه إن لم يخلص إسلامه كان منافقاً فلا ينهدم ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 38.

عنه ما عمل في الجاهلية، فيضاف نفاقه المتأخر إلى كفره الماضي فيعاقب على جميع ذلك. قلت: وحاصله أن الخطابي حمل قوله: "في الإسلام" على صفة خارجة عن ماهية الإسلام، وحمله غيره على صفة في نفس الإسلام وهو أوجه. تنبيه: حديث ابن مسعود هذا يقابل حديث (¬1) أبي سعيد الماضي في كتاب الإيمان معلقاً عن مالك، فإن ظاهر هذا أن من ارتكب المعاصي بعد أن أسلم يكتب عليه ما عمله من المعاصي قبل أن يسلم، وظاهر ذلك أن من عمل الحسنات بعد أن أسلم يكتب له ما عمله من الخيرات قبل أن يسلم، وقد مضى القول في توجيه الثاني عند شرحه، ويحتمل أن يجيء هنا بعض ما ذكره هناك كقول من قال: إن معنى كتابة ما عمله من الخير في الكفر: أنه كان سبباً لعمله الخير في الإسلام. ثم وجدت في "كتاب السنة" لعبد العزيز بن جعفر - وهو من رءوس الحنابلة - ما يدفع دعوى الخطابي وابن بطال الإجماع الذي نقلاه، وهو ما نقل عن الميموني عن أحمد أنه قال: بلغني أن أبا حنيفة يقول: إن من أسلم لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، ثم رد عليه بحديث ابن مسعود ففيه: أن الذنوب التي كان الكافر يفعلها في جاهليته إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، لأنه بإصراره لا يكون تاب منها وإنما تاب من الكفر فلا يسقط عنه ذنب تلك المعصية لإصراره عليها، وإلى هذا ذهب الحليمي من الشافعية، وتأول بعض الحنابلة قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) على أن المراد: ما سلف مما انتهوا عنه، قال: والاختلاف في هذه المسألة مبني على أن: التوبة هي الندم على الذنب مع الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه. ¬

(¬1) قال صلى الله عليه وسلم "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها .. " كتاب الإيمان/ باب حسن إسلام المرء (1/ 122) من فتح الباري.

والكافر إذا تاب من الكفر ولم يعزم على عدم العود إلى الفاحشة لا يكون تائبا منها فلا تسقط عنه المطالبة بها. والجواب عن الجمهور أن هذا خاص بالمسلم وأما الكافر فإنه يكون بإسلامه (¬1) كيوم ولدته أمه، والأخبار دالة على ذلك كحديث أسامة لما أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: قتل الذي قال: لا إله إلا الله حتى قال في آخره "حتى تمنيت أنني كنت أسلمت يومئذ" (¬2) أ. هـ. فها هي نقول كبراء أهل العلم وفحول السلف شاهدة بسوء أعمال المشركين وقبح أفعالهم قبل البيان، وأنها معاصي وذنوب، ويجب على أصحابها التوبة منها، والانخلاع من شرها. وبهذا البيان يمكننا الاهتداء إلى علة مقت الله لأهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم: - وقبل نزول القرآن. أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" (¬3). قال الإمام النووي: "المقت: أشد البغض؛ والمراد بهذا المقت والنظر: ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليهم وسلم -. والمراد ببقايا أهل الكتاب: الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل (¬4) أ. هـ. وهذا المقت والبغض للمشركين، والازدراء على أفعالهم المشينة، ومطالبتهم بوجوب التوبة منها والانخلاع عنها، كان في وقت فترت فيه ¬

(¬1) يراجع: كلام شيخ الإسلام في ذلك والذي جاء فيه - معناه - أن الإسلام المعهود بين الصحابة - ساعة التحدث بهذا الحديث - هو الإسلام الملزم لصاحبه: بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه. (¬2) فتح الباري: (12/ 278: 279). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الجنة برقم /63 وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 162). (¬4) صحيح مسلم بشرح النووي (17/ 197: 198).

الرسالات، وطمست فيه السبل، ولم تكن لديهم بقايا ملة من الملل، أو آثارة من علم تقم بها الحجة عليهم. قال الإمام الشنقيطي في هذا المعنى: "قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) [آل عمران: 103]. هذه الآية الكريمة تدل على: أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم كانوا أهل فترة، والله تعالى يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ويقول: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، وقد بين تعالى هذه الحجة بقوله في سورة طه: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) [طه: 134]. والآيات بمثل هذا كثيرة، والذي يظهر في الجواب والله تعالى أعلم: أنه برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق عذر لأحد، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت. كما بينه تعالى بقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود: 17]. وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين، تلزمهم بها الحجة فهو جواب باطل، لأن نصوص القرآن مصرحة: بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى: (لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) [يس:6] وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [السجدة: 3]. وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [القصص: 46] وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) [المائدة: 19] وقوله تعالى:

(وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) [سبأ: 44] (¬1) أ. هـ. "وبهذا تكون قد تقررت قاعدة من قواعد الأحكام، المستقاة من فهم دلالات النصوص وموجب مقتضى الأصول، ومن استقراء الأدلة. أنه يجب "الاستغفار والتوبة مما فعله وتركه في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة. فإنه سبحانه قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) " (¬2) أ. هـ. * * * ¬

(¬1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب /66: 67. (¬2) مجموع الفتاوى (11/ 675).

أهم نتائج الفصل الرابع

أهم نتائج الفصل الرابع - آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد -: * حسن التوحيد وقبح الشرك حقيقة ثابتة معلومة بالعقل. * الشرك قبل البيان افتراء على الله وأصحابه مذمومون. * ثبوت وصف الشرك لمن عبد غير الله، وإن كان جاهلاً ولم تقم عليه حجة البلاغ. * فعل الشرك والفواحش ذنوب ومعاصي، ولو لم تقم حجة البلاغ على أصحابها، ويجب عليهم التوبة والاستغفار منها بعد بلوغ الخطاب وقيام الحجة. * بعث الرسل إزاحة لعلل الكفار. * الإسلام: هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه سلم - واتباعه فيما جاء به؛ ومن ثم استحال ثبوت وصف الإسلام لمن عبد غير الله جاهلاً كان أو عامداً. * من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما فعل في الجاهلية؛ ومن أساء أخذ بالأول والآخر. * * *

تلخيص دقيق للبحث

تلخيص دقيق للبحث * حجية الميثاق: - لقد أخذ الله من بني آدم - وهم في عالم الذر قبل الخلق - ميثاقاً غليظاً على أن يعبدوه وحده لا شريك له، ويكفروا بكل معبود سواه؛ ثم فطر المولى جل في علاه كل مولود على: أثره ومقتضاه، وركز في عقولهم: أدلته وبرهانه. - وعليه أصبح العلم الإلهي فطرياَ ضرورياً؛ وهو يبين: بطلان الشرك في التأله. فالإله لا بد أن يكون: رباً خالقاً منعماً؛ ومن فقد الربوبية بطل تألهه واستحال. - ومن ثم كان الميثاق حجة مستقلة في بطلان الشرك على كافة البشر وسائر الأمم؛ وعليه لا يستطيع أحد من الذرية الاحتجاج بالغفلة والجهل، ولا بالاتباع والتقليد على جرم الشرك أو التعطيل. - فنصب الأدلة على التوحيد قائم مع المشركين أينما كانوا، وبه انقطع عذرهم لغفلتهم عن آياته، وإقبالهم على التقليد، والاقتداء بالآباء. - ولذا فقد صح عند أهل السنة: أن حجة الله قد قامت بالخلق الأول في عالم الذر، وذلك قبل الرسل، ولم يختلفوا في صحته، إنما اختلفوا في كيفية وقوعه. * * *

حجية الفطرة

* حجية الفطرة: - لو تركت الفطر ودواعيها لما كانت إلا عارفة بالله، وتوحيده، وأسمائه وصفاته المنبثق منها: وحدانية ألوهيته. - فالمولى جل في علاه - قد فطر عباده منيبين إليه بالطاعة والتأله، ومعرضين عن تأله كل ما سواه. - والفطر فيها كذلك: الإقرار بسعادة النفوس البشرية وشقاوتها، وجزائها بكسبها في غير هذه الدار؛ وأما تفصيل ذلك الجزاء، وبيان مراتب السعادة والشقاوة فلا تعلم إلا بالرسل. - وبذلك شهدت فطر وعقول الموحدين: بأن الله أهل لأن يعبد، ولو لم يرسل بذلك الرسل، وينزل به الكتب. - وعليه أصبحت الفطرة هي: بينة التوحيد وشاهده في أنفس الموحدين. فلا جرم أن الفطر يقتضي عبادة الفاطر، لا سيما إذا كان المبدأ منه، والمصير إليه. فهذا يحتم على المفطور: التفرغ لعبادة فاطره. - وبهذا تكون الفطرة حجة مستقلة في بطلان الشرك، وذلك لسبق حجيتها: كافة الحجج الداحضة، والمعاذير الساقطة، والعلل العليلة التي يتشبث بها المشركون لتسويغ: افترائهم وإفكهم. - والدليل على أن الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام، والخروج عنه خلاف مقتضاها، هو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر للإسلام شرطاً مقتضياً له غيرها، وجعل ما دونه من الأديان والاعتقادات الباطلة من إحداث الأبوين - أو من يقوم مقامها في التربية والتنشئة -. والإجماع والآثار عن سلف الأمة وأئمتها لا تدل إلا على هذا القول الراجح في مقتضى الفطرة. - ولا يلزم من تحرير مقتضى الفطرة أن يكون الطفل ساعة خروجه من

بطن أمه عالماً بمعنى: "لا إله إلا الله". فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا. ولكن سلامة القلب واستقامته على التوحيد، وبراءته من الشرك بكافة صوره وألوانه، بحيث لو ترك صاحبه بلا مغير لصبغته - منذ ولادته حتى تعلقه - لما كان إلا موحداً لربه بالألوهية، وكافراً بكل معبود سواه. - ثم أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغييرها وتحويلها.؟ والكمال يحصل: بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة. - إلا أن الكتب الربانية، والرسل والإلهية لا تنشئ في فطر الخلق: العلم بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته ... ولكن تذكرها، وتنبهها، وتفصله لها، وتزيل العوارض عنها. - وبذلك ظهر تطابق وتوافق: الفطر، والعقول، والسمع، وتبين خروجهم جميعاً من مشكاة واحدة. فأولياء الله وخاصته الموحدون المخلصون عبدوه، ووحدوه، وأحبوه، ومجدوه، وحمدوه .. بداعي الفطرة، وداعي العقل، وداعي النقل فاجتمعت لهم كافة الدواعي ونادتهم من كل جهة ودعتهم إلى: إلههم ووليهم وفاطرهم. - أما المشركون الذين عبدوا مع الله غيره؛ فلم يكن لديهم قط - على تقوّلهم وباطلهم - دليل ولا حجة صحيحة من المعقول أو المنقول، بل وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، هذا مع إعراضهم عن الأدلة والبراهين التي نصبها الله تعالى شاهدة على التوحيد، وناطقة بجرم المشركين وإفكهم. - والمشرك قد ظن بالله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته من النقص والازدراء ما الله به عليم - شاء المشرك ذلك أم أبى - حتى أحوجه ذلك إلى عبودية غيره، وتأله سواه.

فلو ظن بالله ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير .. ما وقع في عبودية غيره، ولا في تأله أحد سواه. - وبهذا كان جواز الشرك في الفطر والعقول مستحيلا وممتنعاً، لاستلزامه التنقص بالرحمن، والهضم لحقوق ربوبيته وتوحيده وأسمائه وصفاته، مع الظن به - والحال هكذا - أسوأ الظن وأشنعه. - وبذلك تكون الفطرة قد قطعت: كافة الأسباب الواهية الداعية إلى: الشرك، أو التعطيل والإلحاد. - ومن ثم كانت جميع العبادات البدنية لا تصح - فضلا عن أن تقبل - حتى تصح وتستقيم مسألة التوحيد في القلوب فيظهر أثرها على الجوارح وفي السلوك. * * *

حجية العقل

* حجية العقل: - لقد من المولى تبارك وتعالى على عباده بمنة العقل ليعرفوا به: معبودهم ويوحدوه، ويدركوا به أسماءه الحسنى وصفاته العلى المنبثق منها: وحدانية تألهه، وكذا ليتحقق لهم به: قبح الشرك، والفواحش، والخبائث. - ومن ثم أصبح أوجب شيء في العقول: عبادة الفاطر الخالق المنعم، وكذا بطلان عبادة المفطور المخلوق، المربوب. - فالعقل الصحيح قد عرفنا: وجوب الإقرار بالله، وربوبيته، وشكر نعمه، ومحبته، وطاعته. وعرفنا: قبح الشرك بالله، والإعراض عنه، ونسبته إلى ما لا يليق به. وعرفنا: وجوب المآب بعد الممات إلى الله الواحد القهار لتجزى كل نفس بما كسبت. وعرفنا: قبح الظلم، والفواحش، والبغي، والعدوان .. وعرفنا: أن العقول البشرية لا توجب على ربها شيئا، وأنه يتعالى ويتقدس عن ذلك؛ وأما ما كتبه وحرمه على نفسه بمقتضى علمه وعدله وحكمته ورحمته فإنه لا يخل به، ولا يقع منه خلافه. فهو إيجاب منه على نفسه بنفسه، وتحريم منه على نفسه بنفسه؛ فليس فوقه تعالى آمر ولا ناه، ولا موجب ولا محرم. - وعليه أصبح من الممتنع والمستحيل عقلاً: جواز الشرك بالله، إذ قبح ذلك مركوز فيه، ولو لم يأت بذلك شرع. - بل وغدا محض العقل كافياً باتفاق في: معرفة الله وتوحيده؛ ولا يتوقف ذلك على مجرد الخبر. فصفات الكمال لله ووحدانيته، ووجوب عبادته وحده بلا شريك، مع نفي النقائص والعيوب، وتنزيهه عنها أمر ثابت (¬1) له سبحانه بمقتضى الأدلة ¬

(¬1) بل هو أمر واجب بذاته، وثابت بنفسه قبل الخلق والإيجاد. فالله سبحانه قد فطر العقول ووهبنا إياها لتعكس لنا الحقائق الخارجية الثابتة بنفسها. ووجودنا أو عدمنا لا يغير من الحقائق شيئا، ولا يجعل لها صفات لم تكن فيها أصلاً - لمعقول المعنى منها -.

العقلية، والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع عليه. - ومن ثم أصبح العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك، ولو لم يأت بحرمته سمع. - ولهذا أنكر القرآن على المشركين: الوقوع في عبادة غير الله، واقتراف الفواحش والمنكرات، وذمهم على ذلك من قبل أن يقرع آذانهم بحكم من السمع يخالفونه. - واحتج القرآن عليهم بما جبلت عقولهم، وصيغت به من: حسن عبادة الله وحده، وقبح الشرك به وعبادة غيره. - فالوحي الرباني دلالته على المطالب الإلهية نوعان: أحدهما: الخبر المحض. والثاني: الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية التي تقيم صحة مقتضى كافة الأخبار الدالة على أصول الدين. وبذلك تكون دلالتها شرعية عقلية، شرعية: لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها؛ وعقلية: لأنه بالعقل يعلم صحتها، ويستقل بإدراكها، وليس لمجرد الخبر. ومن هنا ندرك: أن الدليل الشرعي لا يقابل بالدليل العقلي، بل بالدليل البدعي. فالبدعة ضد الشرعة، والمعقول برهان المنقول وميزانه. وعلى الجملة فكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأصول الاعتقادية، والمطالب الإلهية فقد تطابق على صحتها المعقول، والمنقول، مع قبول الفطر السليمة لها واستقامتها عليه. - ومن ثم أصبحت الفطر والعقول من أقوى حجج، وبراهين النبيين، والمرسلين على المعطلة، والمشركين. - وعليه نقطع بأنه: لا عذر لأحد في الكفر بالله ألبتة، إلا أن الله لحبه العذر وقف العقوبة عليه حتى تقوم الحجة الرسالية. - ولقد قامت حجة عظيمة من حجج الله وبيناته - والمتمثلة في آيات الله

الكونية، ومخلوقاته المرئية - شاهدة: على صدق ما أخبرت به الرسل، وما لو تأمل العباد فيه لرأوه مركوزاً في فطرهم، ومستقراً في عقولهم من: وجوب عبادة الله وحده، ومعرفته، وضرورة المحيا بعد الممات للحساب والقصاص. - وبهذا نتيقن: أنه لا عذر لأحد من الخلق في جهله بربه؛ وتوحيده لما يرى من خلق السموات والأرض، وخلق نفسه، وسائر ما خلق الله سبحانه وتعالى. - فالرسل تخبر عن الله بكلامه الذي تكلم به وهو: آياته القولية؛ ويستدلون على ذلك بمفعولاته - التي تشهد على صحة ذلك - وهي آياته العيانية. والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع، والبصر، والعقل، والفطرة. * * *

آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد

* آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد: - بعد استعراض حجج الله وبيناته على وجوب التوحيد وحل الطيبات، وعلى حرمة الشرك والخبائث والمتمثلة في: الميثاق، والفطرة، والعقل، مع شهادة الآيات الكونية بصحة موجبها ومقتضاها، يمكننا الاهتداء إلى علة ثبوت وصف الشرك لمن عبد غير الله جاهلاً، ولو لم تقم عليه حجة البلاغ. - وبذلك أسجل القرآن على المشركين: مخالفتهم لحجج التوحيد، وخرقهم لعهودها، ونبذهم للوفاء بها؛ ووصف أفعالهم القبيحة - من الشرك، واقتراف الموبقات - بأنها ذنوب - وسيئات من قبل أن يقرع آذانهم بحكم من السمع يخالفونه. - ومن ثم أوجب - أي: الوجوب المستوجب للعقاب لمن لم يقم به - عليهم: التوبة والاستغفار مما اقترفت أيديهم من الشرك والفساد فور مجيء الرسل إليهم، وبلوغ الخطاب لهم. - فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك به أمر ثابت في نفسه معلوم بالفطر والعقول لم يخاطبهم القرآن بهذا، إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يُذمّون عليه. - وبذلك ندرك المعنى الجليل لقوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: 15)، ولقول المعصوم - صلى الله عليه وسلم "ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين". فنفي العذاب في الآية برهان باهر على: اقتراف أفعال مذمومة من المشركين العصاة تستوجب العقوبة عليها، وكذلك عذر الله لعباده المتمثل في إرسال الرسل - مبشرين ومنذرين - يؤكد مدلول آية الإسراء؛ وإلا انتفى المقصود من نفي العذاب في الآية، وحب الله للعذر في الحديث.

- ومن ثم كان: إرسال الرسل والنبيين إزاحة لعلل الكفار والمشركين، وقطعاً لأعذارهم، لئلا يكون لهم حجة على ربهم بعد مجيئهم. - وبهذا يكون قد تقرر: أن حكم الشرك ثابت قبل الرسالة لمن عبد غير الله، وعدل به غيره، وجعل له أنداداً، والعقاب عليه لا يكون إلا بعد قيامها. - وقد وقع الخلاف بين العلماء في العبد الناقض لحجج التوحيد: بالشرك، وكان كافراً حتى مات، إلا أنه لم يأته نذير في الدنيا، ولا سمع للرسالة بخبر. هل يكون من أهل النار لكفره؟ أو معذوراً لعدم البلاغ؟. والقول الراجح الذي تقتضيه الأصول، والنصوص هو: عدم وقوع العذاب في الدارين حتى تقوم الحجة الرسالية. - إلا أن أهل العلم قد أجمعوا على: خروج هذا العبد عن مسمى الإسلام، ومباينته لزمرة أهله. - لأن الإسلام هو: توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه فيما جاء به. فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. - وبهذا تكون قد تقررت قاعدة من قواعد الأحكام وهي: وجوب التوبة والاستغفار من فعل الشرك والخبائث، الشاهد على قبحها وذمها الفطر والعقول، ولو كان صاحبها جاهلاً، ومن أرباب الفترات الخالية عن ذكر الرسالات. * * *

مناقشة هادئة

* مناقشة هادئة: وكأني الآن ببعض الإخوة المخالفين في هذه المسألة يقول: يا أخي إن كل ما ذكرته خارج عن محل النزاع، والرسالة لم تحرر بعد موضع الخلاف. فمحل الخلاف بيننا ليس في الكافر الأصلي، وإنما هو فيمن نطق بالشهادتين مريداً للإسلام، ثم ألمت به مصيبة ما، فأراد الخلاص منها، فغرر به بعض أحبار الصوفية فوقع في علم من أعلام الشرك الأكبر جاهلاً بحرمته، وقاصداً للتقرب زلفى بين يدي الإله .. والجواب: أولاً: أرى من تحريركم موضع النزاع: موافقتكم، وإقراراكم لنا بأن من عبد غير الله جاهلاً من أهل الفترات الفاقدة للحجة والبرهان يكون مشركاً، ولا يعذر بجهله، وتخلف قصده. وهذا أمر مجمع عليه بين سلف الأمة وجمهرة العلماء. قال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة، والقرآن، وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم" (¬1). وقال ابن تيمية: "فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فإنه يشرك بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول" (¬2) وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: "اعلم أولاً أن من لم يأته نذير في دار الدنيا؛ وكان كافراً حتى مات، اختلف العلماء فيه هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟." (¬3). ¬

(¬1) عقيدة الموحدين - الرسالة السادسة /151. (¬2) مجموع الفتاوى (20/ 37: 38). (¬3) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب/ 180.

ثانيا: وبعد ثبوت هذا الحكم المجمع عليه نكون بين احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تكون هناك حجج ومواثيق أخذت على العباد من ربهم، وفاطرهم توجب عليهم: التوحيد، والبراءة من الشرك، فمن خرقها، ولم يؤد حقوقها منهم ثبت له بها وصف الشرك وحكمه. وإما أن يكون المولى جل في علاه قد كلف عباده بما لا يطاق، وأوجب عليهم ما ليس في وسعهم. وهذا ظلم تنزه ربنا عنه. ولا شك أن أي إنسان صاحب دين لا يجد لنفسه خياراً إلا الاحتمال الأول. إذاً فقد ثبت بإقراركم وجود حجج وبينات تفرض على العباد: الكفر بالطواغيت والأنداد، مع الإيمان بوحدانية الخالق الفاطر في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. فلو لم تؤخذ تلك الحجج والمواثيق (¬1)، لساغ الاحتجاج للمشركين، وعنهم: بالغفلة والجهل، وبالتقليد واتباع الآباء. إلا أن هذه الحجج والمواثيق الموجبة للتوحيد، والانخلاع من الشرك، سابقة لكافة الحجج الداحضة، والعلل الواهية التي يتشبث بها المشركون والملاحدة. وقد مرت علينا الآيات والأحاديث الدالة على تلك العهود والمواثيق بفهم الصحابة، والتابعين، وتابعيهم بإحسان من أهل العلم العاملين قاضية وحاكمة: بعموم تلك الحجج لسائر البشر، وكافة القرون، ولم يوجد الاستثناء فيها ألبتة لأي واحد من الذرية، فضلاً عن أي أمة من الأمم. ثالثاً: ثم أعود فأقول أريد منكم: وصفاً مناسباً منضبطا مؤثراً في التفريق ¬

(¬1) وفي هذا المقام أود التنبيه على أمر مهم: وهو أنه حتى لو لم تؤخذ حجج على العباد توجب عليهم التوحيد، والانخلاع من الشرك، لاستحال أيضا أن يوصف العبد الذي وقع في عبادة غير الله جاهلاً - في وقت فترت فيه الرسالات - بالإسلام. لأن للإسلام حقيقة واضحة وهي: الانخلاع من الشرك والبراءة من أهله. أما الذين يرفضون أن يكون للإسلام حقيقية واضحة واحداً فاصلاً، بل يريدونه شيئاً متميعاً ولفظاً لا معنى له، فهذا شأنهم وما ارتضوه لأنفسهم، وليس من الإسلام في شيء.

بين حال ما ذكرتموه، وبين حال الكافر الأصلي. - فمنهم من يقول: لقد نطق بالشهادتين مريداً للإسلام، فثبت له عقده، ثم وقع في فعل مكفر لم يقصد به المروق، ولا الخروج من الملة .. والجواب: نعم إن النطق بالشهادتين مع عدم التلبس بناقض حال التلفظ بها يكون دلالة على عصمة الدم، والمال، والحكم على صاحبها بالإسلام، مع افتراض توفر شروط عصمة الدم والمال لديه دون امتحان أو سؤال. لكن هل التعويل في ذلك على النطق بألفاظ مبهمة، خفية الحقائق، والمعاني، واللوازم؛ أم المقصود إرادة المعاني، والمقاصد التي جعلت الألفاظ دلالة عليها، وعلى إرادة موجبها، حتى يتطابق ويتحقق المعنى الخارجي للألفاظ مع مراد المتكلم ومقصوده. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنما هي مقصود للمعاني، والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم." (¬1). وقال أيضاً: "والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم" (¬2). وقال أيضاً: "وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصداً لها، مريداً لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصداً للتكلم باللفظ مريداً له، فلا بد من إرادتين: إرادة التكلم باللفظ اختياراً، وإرادة موجبه ومقتضاه؛ بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصود واللفظ وسيلة، هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام" (¬3). وقال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام: "إذا نطق الأعجمي بكلمة ¬

(¬1) أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 279). (¬2) المصدر السابق (1/ 280). (¬3) المصدر السابق (3/ 84).

كفر، أو إيمان، أو طلاق، أو إعتاق، أو بيع، أو شراء، أو صلح، أو إبراء لم يؤاخذ بشيء من ذلك لأنه لم يلتزم مقتضاه، ولم يقصد إليه، وكذلك إذا نطق بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك لأنه لم يرده. فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون، وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم، مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه." (¬1). وقال الإمام الطحاوي معلقاً على حديث الحبريّن اللذين شهدا بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون الإقرار بفرضية اتباعه. قال رحمه الله: "ففي هذا الحديث أن اليهود قد كانوا أقروا بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع توحيدهم لله، فلم يقاتلهم - أي لامتناعهم عن طاعته بعد الإقرار بصحة رسالته - رسولا لله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقروا: بجميع ما يقر به المسلمون. فدل ذلك أنهم لم يكونوا بذلك القول مسلمين: وثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي تدل على الدخول في الإسلام، وترك سائر الملل" (¬2). نعم إن المقصود من أعظم وأجل شهادة في الوجود هو: القيام بمعانيها، وإرادة موجباتها، وتحقيق مقتضياتها، مع حتمية النطق بألفاظها، إلا أن القيام بشروطها، وتحقيق أركانها، لا يقل بحال من الأحوال عن النطق بألفاظها. فالعبد الذي يعلم معانيها، ويدرك مقتضياتها، إلا أنه يأبى مختاراً التلفظ بها فليس بمسلم باتفاق، وكذلك الذي ينطق بها، دون معرفة موجباتها، أو عدم القيام بأركانها لا يكون مسلماً سواء بسواء. وهذا أمر معلوم بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والميزان. قال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "أما النطق بها - أي الشهادتين - من غير معرفة لمعناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فعير ¬

(¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 120: 121). (¬2) شرح معاني الآثار (3/ 215).

نافع بالإجماع." (¬1). وقال محمد بن إبراهيم: "فإن كثيراً من الناس ينتسبون إلى الإسلام، وينطقون بالشهادتين، ويؤدون أركان الإسلام الظاهرة، ولا يكتفي بذلك في الحكم بإسلامهم، ولا تحل ذكاتهم لشركهم بالله في العبادة بدعاء الأنبياء والصالحين ولاستغاثة بهم، وغير ذلك من أسباب الردة عن الإسلام" (¬2). كيف وقد جاءت الأدلة متواترة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها حاكمة، ومصرحة: بشروط عصمة الدم والمال، والحكم بالإسلام مثل: النطق، والعلم، والانخلاع من الشرك، والكفر بالطواغيت، مع الانقياد والقبول لكافة أحكام الله ... قال تعالى (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (¬3). والتوبة باتفاق المفسرين تتمثل في: الانخلاع من الشرك، وقال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (¬4) وقال تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (¬5) وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (¬6) وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (¬7). ¬

(¬1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد /35. (¬2) عقيدة الموحدين/ 392. (¬3) سورة التوبة، الآية: 5. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 39. (¬5) سورة البقرة، الآية: 256. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬7) سورة النحل، الآية: 36.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" (¬1) وفي رواية: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" (¬2).وفي رواية "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" (¬3) وفي رواية "من وحد الله" (¬4) وفي رواية: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" (¬5) قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: "وهذا من أعظم ما يبين معنى "لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع" (¬6) - ومنهم من يقول: لا نستطيع تكفيره لأن ما اقترفه كفر عملي، لا اعتقادي ... وتلك سوءة المرجئة الذين هم أضر على الأمة من الخوارج - لقصرهم الإيمان على مجرد التصديق والاعتقاد، مع التلفظ بالشهادتين دون أعمال القلب والجوارح التي هي المعركة الكبرى بينهم، وبين أهل السنة في تلك القضية. ومنهم من يقول: لا نجرؤ على التكفير حتى نعلم انشراح القلب بما صدر من الجوارح من دلالات الكفر، وأعلام الشرك، إذ الظاهر وحده لا تتكيف به الأحكام، ولا يصلح أن يكون بمفرده مناطاً لها. وتلك سوءة التجهم التي جوزت - ظلماً وزوراً - إتيان كافة أبواب الكفر، ¬

(¬1) أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي". (¬2) أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي". (¬3) أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي". (¬4) أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي". (¬5) أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي". (¬6) فتح المجيد/ 35: 36.

مع طمأنية القلب بالإيمان لعدم ارتباط الظاهر بالباطن لديهم، انطلاقاً من قولهم الفاسد في الإيمان أنه: مجرد الاعتقاد والتصديق دون الإقرار والقبول والانقياد المتمثل في: قول اللسان، وعمل القلب والجوارح، ومن ثم أصبحت كافة دلالات الكفر لديهم غير مؤثرة سلباً في الإيمان، ولا حتى التصريح بالكفر والإلحاد لأن اللسان قد يخبر بغير ما انطوى القلب عليه، إلا أن الشرع إذا حكم بالكفر على: قول، أو فعل، أو ترك حكموا بكفر من قام به في الظاهر دون الباطن، وفوضوا أمره في الآخرة إلى علام الغيوب، فلو كان مصدقا في الباطن نجا، وإلا هلك. وأما الذين قد تبنوا قول الجهمية اليوم في هذا الأمر - وورثوه وورّثوه - فقد قطعوا بالنجاة لفاعل الشرك الأكبر جاهلاً في الظاهر والباطن، وفي الدنيا والآخرة!! وإنا لله وإنا إليه راجعون. - وهناك من يقول: ليس لدينا باب إلى التكفير ألبتة، حتى نعلم القصد إليه وإرادة موجبة. والجواب: لا بد في هذا المقام من التفريق بين إرادتين وقصدين: فمن قال لا نحكم بالكفر حتى يقوم بصاحبه إرادة المعنى المؤثر فيه، مع قصد التلفظ به، أو فعله اختياراً. فهذا حق لا ريب فيه. مثال لذلك: من قال: نحن نؤمن بالديمقراطية ظناً منه أنها مرادفة للشورى ومساوية لها. فهذا لا يكفر لعدم علمه بالمعنى المؤثر في الكفر لتلك اللفظة، ومن ثم عدم إرادة موجبه المتمثل في: حكم الشعب نفسه بنفسه وتنحية شرع الله، ورفض حكمه وقضائه. وأما من قالها مع إدراكه لمعناها فهذا يكفر، ولو لم يقصد الكفر لإرادته المعنى المؤثر فيه مع قصده للتلفظ بلفظه اختياراً.

قال ابن تيمية: "وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرا. إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله" (¬1). وسئل محمد بن عبد الوهاب عمن: نطق بكلمة كفر ولم يعلم معناها فلا يكفر بذلك. هل المعنى: نطق بها ولم يعرف شرحها، أو نطق بها ولم يعلم أنها تكفره؟ فأجاب: "إذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه، وأما كونه أنه لا يعرف أنها تكفره فيكفي فيه قوله تعالى: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (¬2). فهم يعتذرون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظانين أنها لا تكفرهم؛ والعجب ممن يحملها على هذا - أي أن الكفر لا يكون إلا مع العلم - وهو يسمع قوله تعالى (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (¬3) و (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (¬4) و (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (¬5). أيظن أن هؤلاء ليسوا كفاراً؟ لكن لا تستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل لأجل غربتها" (¬6). فلو لم يكن ذلك كذلك لوجدنا أنفسنا مضطرين أن نلتزم بعدم تكفير عوام أهل الكتاب الذين ما زالوا في ظنهم على الجادة والصواب، وأكبر دليل على ذلك: الحرب الدينية التي يخوضونها مع المسلمين في كافة بقاع الأرض. - وهنا قد يقول أحدهم: قدسية الكلمة - أي: "لا إله إلا الله" - ¬

(¬1) الصارم المسلول على شاتم الرسول /154. (¬2) سورة التوبة، الآية: 66. (¬3) سورة الكهف، الآية: 104. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 30. (¬5) سورة الزخرف، الآية: 37. (¬6) تاريخ نجد - المسألة (16) / 452 بتصرف بسيط.

تشفع لمن قالها أياً كان حاله. والجواب: هل النطق بالشهادتين وحده يكفي لتحقق النحاة؟ فمن قال: نعم فقد سوغ إيمان المنافقين، ومن شهد بها من أهل الكتاب مع إقامتهم على شركهم وتبديلهم. ومن قال: لا. نقول له: لِمَ؟ والجواب المعلوم قبل إجابته: أنهم فقدوا شرطاً من شروطها. إذاً فقد ثبت بإقراركم أن للشهادتين شروطاً لا تتحقق بالنجاة إلا بوجودها حال التلفظ بها. قال الشوكاني: وأما من تكلم بكلمة التوحيد، وفعل أفعالاً تخالف التوحيد كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم: خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتوحيد. ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجباً للدخول في الإسلام والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو ما يخالفه، لكانت نافعة لليهود مع أنهم يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى مع أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين، ويقولون: بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذا الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد" (¬1). - ومنهم من يقول: لا نستطيع أن نكفر من هذا شأنه لسبق عقد الإسلام له. والجواب: أو ليس قد ثبت عقد الإسلام يوماً لجماهير أهل الكتاب، ثم مرقت العامة منهم من الملة - بسبب افتراء وتبديل أحبارهم ورهبانهم - مع اعتقادهم وجزمهم بأنهم ما زالوا على الجادة والصواب. قال تعالى في حقهم: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ ¬

(¬1) الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد /42.

نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) (¬1) وقال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (¬2). وهنا قد يصيح أحد الإخوة المخالفين قائلاً: لقد كفر هؤلاء لعدم إيمانهم بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم - وعدم قبولهم لشرائعه. والجواب: فماذا كان حكمهم قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزول القرآن؟ - وقد يقول بعضهم: أنى لنا بتكفير من آمن بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، مع إتيانه بعلم من أعلام الشرك الأكبر جاهلاً ومتأولاً؟ والجواب: إن الذي يسوغ الإيمان لعبد من هذه الأمة بتلك الأصول الاعتقادية، مع تلبسه بعلم من أعلام الشرك الأكبر، يلزمه: الحكم بالإيمان لعوام اليهود والنصارى بتلك الأصول ذاتها لادعائهم الإيمان بها مع تلبسهم بعلم من أعلام الشرك الأكبر سواء بسواء. - فقد يدلي أحدهم بوصف مفرّق - بزعمه - فيقول: الفرق بينهما يظهر في إيمان الأول بكافة النبيين والمرسلين، وفي كفر الثاني بخاتمهم أجمعين صلى الله عليه وسلم. والجواب: أن عامة جمهور الثاني قد كفروا بسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - من باب الجهل والتأويل فقد افترى لهم أحبارهم ورهبانهم - الذين هم محل الثقة الدينية لديهم: أنه كاهن، أو ساحر، أو كاذب، وقومه وعشيرته وأقرب الناس به نسباً، وأقرهم به عيناً هم الذين قاتلوه وأخرجوه، وهم أعلم حالاً به، أو يزعمون الإيمان بنبوته للعرب خاصة إلا أن أتباعه حرفوا تراثه، وادعوا عموم رسالته، ويقولون: بيننا وبينهم كتابه الناطق بـ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 111. (¬2) سورة البقرة، الآية: 78.

رَسُولاً مِنْهُمْ) (¬1) ولقوله تعالى (لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ). ونحن قد أنذر آباؤنا ... والذي يعذر بالجهل في الكفر بالإله يلزمه لا محالة قبوله في الكفر بالرسالة من باب أولى. - وقد يقول بعضهم نحن لا يلزمنا شيء من تلك اللوازم لأننا لا نعذر بالجهل في الشرك الأكبر لدى الأمم السابقة إلا أننا نقول به لهذه الأمة خاصة، دون من سبقها من الأمم. والجواب: قد مرت علينا عموم حجج التوحيد لكافة البشر، وسائر العبيد، ولم يأت فيها الاستثناء لأي واحد من الذرية كان محلاً لإبرام تلك الحجج والمواثيق. والرخص التي يتمتع بها أهل القبلة، لا تكون إلا لعبد موحد، متحنف، تارك للشرك على بصيرة وقصد، ومنخلع منه إلى توحيد ربه في ربوبيته وألوهيته، مع إيمانه برسالة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقبوله واتباعه لكافة أحكامه. قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (¬2). قال القرطبي: (فَإِنْ تَابُوا) أي: عن الشرك، والتزموا أحكام الإسلام قال ابن عباس - رضي الله عنهما - حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة" (¬3). فهذا وصف أهل القبلة: الانخلاع من الشرك مع التزام الشرائع، فهذا هو الذي يترخص برخص أهل القبلة، أما المشرك فقد بان عن وصف أهل القبلة فلا يتمتع برخصها. قال ابن تيمية في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها ¬

(¬1) سورة الجمعة، الآية: 2. (¬2) سورة التوبة، الآية: 11. (¬3) الجامع لأحكام القرآن: (8/ 81).

أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به". والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد، - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان. فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث، لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، في الحقيقة، ويكون بمنزلة المنافقين، فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله. وهذا فرق بيّن يدل عليه الحديث، وبه تأتلف الأدلة الشرعية. وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان كما دل عليه الكتاب والسنة. فمن صح إيمانه عفي له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس كما يخرجون من النار، بخلاف من ليس معه الإيمان، فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه" (¬1). أ. هـ. ثم أتى لقلب واحد أن يجمع بين النقيضين: الإسلام والشرك في آن واحد؟!! قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين؛ ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر. وكم هلك بسبب قصور العلم، وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة. مثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ والجهل ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10/ 760).

بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيراً من الناس في الشرك، وعبادة الصالحين لعدم معرفة الحقائق وتصورها" (¬1). وقال يحيى بن معاذ الرازي "اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول فلكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية" (¬2). أ. هـ. وأرى الآن أن المقام سيحتم على البعض الهرولة إلى قضايا الأعيان والجواب: من المعلوم جلياً لدى المنصفين والمخلصين، الين تجردوا من حظوظ النفس وأهوائها ونجوا من تلبيس الشياطين: أن قضايا الأعيان لا تنهض على معارضة القواعد العامة، والأصول الكلية المقررة من استقراء أدلة كثيرة تفوت الحصر - قد ساقها الشارع متضافرة لبناء قاعدة كلية تحفظ بها دعائم الدين، ويفرق بها بين أهل السنة والمبتدعين في مناهج النظر، ويلجأ إليها الفقيه لاستنباط الأحكام، وتفريع الفروع، واستخراج العلل، وتنقيح المناطات، ورد الجزئيات لكلياتها. فالشارع الحكيم لم ينص على قضايا الأعيان إلا مع الحفاظ على القواعد الكلية، وعدم نقضها بإلغاء ما تقرر من مقاصدها. قال الشاطبي: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان، ولا حكايات الأحوال. والدليل على ذلك أمور ... (الثالث) أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات، ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات. ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص" (¬3). أ. هـ. ¬

(¬1) منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس /12. (¬2) الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 91). (¬3) الموافقات: (3/ 262).

وسوف أسوق مثالاً واحداً من قضايا الأعيان التي هي جل رأس مال المخالفين، ليتبين به بطلان ما أصلوه، وصحة ما ذهبنا إليه وقررناه ولله الحمد والمنة. حديث القدرة: أخرج الإمام مسلم في صحيحه (¬1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له". واستدل الإخوة المخالفون بهذا الحديث على محل النزاع ظناً منهم أن الرجل قد جهل قدرة الله وعذر بجهله. والرد على هذا الاستدلال الخاطئ من وجوه: الوجه الأول: أن هذا الدليل من قضايا الأعيان التي ليست بمحل صحيح لاستنباط الأحكام لكثرة وجوه الاحتمال التي تعود بالفساد على دلالتها. الوجه الثاني: أن هذا الدليل خارج عن محل النزاع، فهو في جهل الصفات، والجهل بالصفات لا يستلزم الجهل بالذات إلا أن يكون تصور الذات متوقفاً على العلم بها. ونحن الآن بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن نقول: إن الرجل قد جهل صفة يكون العلم بالذات متوقفاً عليها؛ ومن قال بهذا نلزمه بإعذار من جهل صفة الوجود، أو صفة الحياة، أو صفة العلم، أو صفة الإرادة، مع القطع بالنجاة له؛ ويتبع هذا الإلزام سؤال آخر: أيهما أكفر من قال: إن الله ثالث ¬

(¬1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 70: 74).

ثلاثة، أو أثبت له الولد جاهلاً، أم من قال إن الله ميت، أو غير موجود، أو جاهل، أو منزوع الإرادة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وأترك للمخالفين حرية الاختيار في الرد. وإما أن يكون الرجل قد وقع في جهل صورة من صور القدرة لا يستلزم الجهل بها الجهل بالذات. وعلى هذا يكون الاستدلال بالحديث خارجاً عن محل النزاع. الوجه الثالث: أن للحديث تفسير على ظاهره وقد تحتم المصير إليه لدى طائفة من العلماء - فراراً من التأويل0 يخرج به هذا الرجل عن: الجهل بالقدرة، وعن الشك في المعاد. قال الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي بعد أن ذكر تأويلات العلماء لظاهر هذا الحديث: قلت: والأوجه عندي أنه حسب أن الله عز وجل لو وجده في حاله لعذبه شديداً لكنه إذا وجده محترفاً مفترقا فلعله رحمه، لتحمله تلك المشاق والشدائد كما هو دأب الموالي الكرماء فإنهم إذا وجد أحدهم عبده المسيء في مرض أو شدة رحم عليه، وإن كان قبل ذلك غضبان عليه. ثم رأيت أن الطحاوي ذكر نحوه في مشكله وكذا النووي في شرح مسلم" (¬1). الوجه الرابع: تأويل عامة العلماء لظاهر هذا الحديث يدل بيقين على مصادمة ظاهره لقاعدة كلية مقررة لديهم؛ وإلا لقالوا: هذا الرجل شك في قدرة الله، وفي البعث، وكان جاهلاً فعذر بجهله، وكفونا وأنفسهم مؤنة التأويل التي لا يذهبون إليها إلا في حالة الضرورة عندما يستحيل عليهم الجمع بين النصوص. ¬

(¬1) أوجز المسالك إلى موطأ مالك: (4/ 302).

- وقد يقول قائل: أين مستندك على ما نسبته لجماهير العلماء من فرارهم إلى التأويل لظاهر هذا الحديث. والجواب: مستندي في هذا مراجعة: صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 70: 74)، وفتح الباري (6/ 604)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 1084)، وشرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي (2/ 27: 38)، والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (18/ 40: 47) .... قال أبو عمر بن عبد البر تعليقاً على حديث القدرة: "روي من حديث أبي رافع، عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: قال رجل لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد. وهذه اللفظة إن صحت. رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل، فهي صحيحة من جهة المعنى؛ والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها؛ لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون - وهم كفار، (¬1) لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافراً، وهذ ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة؛ وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث: لم يعمل حسنة قط، أو لم يعمل خيراً قط لم يعذبه - إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير؛ وهذا سائغ في لسان العرب، جائز في لغتها أن يؤتى بلفظ الكل، والمراد البعض؛ والدليل على أن الرجل كان مؤمناً، قوله حين قيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: من خشيتك يا رب؛ والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم - كما قال الله عز وجل: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). قالوا: كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به، وهذا ¬

(¬1) فقد يقول قائل: مقصد الشيخ هنا في عدم المغفرة مقصور على الكفار العالمين بكفرهم، دون غيرهم. وهذا التقييد باطل كل البطلان، إذ لو كان كذلك لما اضطر ابن عبد البر إلى تقييد نفي عمل الخير باستثناء التوحيد.

واضح لمن فهم وألهم رشده" (¬1). - وأختم هذه المناقشة بسؤال محدد المعالم، واللوازم وهو: هل من نطق الشهادتين بنية الدخول في الإسلام، ثم وقع في عبادة غير الله جاهلاً يكون قد حقق شرط الكفر بما يعبد من دون الله أم لا؟ فمن قال: نعم/ فقد سوغ الشرك بالله، وعليه يصبح التوحيد قضية هلامية غير محددة المعالم والمعاني، وتكون بحسب ما يكيفها كل إنسان في نفسه. فهذا نصراني: أنزلها في قلبه وعقله على أن المسيح ابن الله، وهذا صوفي: كيفها على أن عبادة الأموات قربة إلى الله، وذاك إباحي: فصلها على الانخلاع من ربقة العبودية والتكاليف، لغنى الخالق عن عبادة المخلوقين!! وعدم انتفاعه بإيمان الطائعين، ولا تضرره بكفر العاصين .... وأما من قال: لا لم يحقق شرط الكفر بما يعبد من دون الله. فتقول له: تبقى الإجابة على آخر سؤال: هل يكون هذا العبد من زمرة المسلمين الموحدين؟؛ أم من المسلمين المشركين؟! أم من المشركين المشركين؟!! وأخيراً: نحب أن نلفت نظر القارئ إلى أننا قد تجاوزنا في هذا المناقشة عن كثير من الشبهات التي لا يزال يثيرها البعض، واعتبرناها نوعاً من الشغب والتهويش، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد. لا بشرع صحيح، ولا بعقل صريح. فإذا كان البعض لا يزال يصر على أنه لا يصح في الأذهان شيء، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين التوحيد والشرك، وبين الطيبات والخبائث - لعدم قيام حجج عليها - إلا بالرسالة والبلاغ. ¬

(¬1) التمهيد: (18/ 40: 41).

فإننا في المقابل نُصرّ على أن أرباب هذا القول لا يملكون في الحقيقة الفرقان والبرهان على صحة التوحيد، والرسالة، والبعث: إمكاناً ووقوعاً، وأنه يلزمهم إلزاماً لا محيد عنه: التسوية بين الموحدين والمشركين قبل الرسالة، لأن كلاً منهما قد عبد الله بغير برهان، ويلزمهم مساواة التوحيد للتثليث في العقول، وكذا إثابة بعض المشركين على شركهم بعد بلوغ الرسالة. فهذا عبد يظهر الانتساب إلى: دين سماوي، وكتاب رباني، ورسول إلهي، ثم جاءه بعض خواص أهل العلم - في ظنه - من أهل ملته فأخبره أن التوحيد لديهم يتمثل في: عبادة الأموات، والسجود للنيران، والاستغاثة بالنجوم والكواكب ساعة حلول النقم والكرب ... ففعل امتثالاً لأمر نبيه كما أوهموه، ومن أجل التقرب زلفى بين يدي ربه. وبناء على ما تقرر من هذا المعتقد الباطل الساقط يكون هذا الرجل مثاباً لا محالة؛ فهو لم يقع في مخالفة حجة!!! وكلك فالتوحيد يختلف من شريعة إلى شريعة، ومداره على مجرد الخبر فقد جاءه وامتثله!!! وإذا بلغ الأمر هذا الحد فإننا نقول لهم: لا حجة بيننا وبينكم. لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. الله يجمع بيننا وإياكم وإليه المصير * * *

وبعد: فليعلم القاصي والداني أن الباعث من وراء هذه الرسالة: - إزالة الجهالة المضروبة عمداً على الشعوب لتكون مطية لمن يمتطيها من الطواغيت والفراعنة. - إسقاط اللافتات المزيفة، والطعن في الشهادات المزوة، وكشف النقاب عن الوجوه الخبيثة التي تستتر بالأقنعة الوسيمة، مع إقامة الفرقان، وتعرية البطلان. - توقيف الناس على الحد المنجي على الحقيقة من قبل لحوق الخسران والمكث في دار البوار. - جلاء قضية التوحيد، وبيان حججها، مع التحذير والتنبيه من خطر الوقوع في توهينها، والطعن في حججها من أجل البحث والتنقيب عن التماس الأعذار الواهية لتبرير أسلمة المشركين، وتصحيح انتساب مزيف لهم. - التركيز على رصيد الفطرة لحث الدعاة لإكمال المسيرة، واليقين بأن الجولة الحاسمة ستكون لهذا الدين المنبثق من الرصيد الهائل لفطر الخلائق. - تذكير الدعاة والمربين بحقيقة أولية يقوم عليها، وينبثق منها: العود المنشود لهذا الدين، ألا وهي: وجوب تجريد العبودية لله، وتحرير الولاء له، مع حتمية الكفر والانخلاع من: كل العلائق والوشائج لكافة الأرباب والطواغيت والأنداد المعبودة من دونه. ويكون هذا هو الطريق الوحيد لإعداد وتربية الأمة عليه، حتى يتسنى لنا إعمار قلوبها بالاستعلاء الإيماني المفقود لدى أبنائها - الذي هو بداية الانخلاع من ربقة الهيمنة الغربية، والكفر بالريادة الصليبية، والتحلل من السيطرة اليهودية، ومن ثم رجوع الثقة والطمأنينة لأبناء هذه الأمة بمنبع عزهم، ومصدر وجودهم المتمثل في: الاعتصام بربهم وكتابهم وهدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.

- إعلام الناس بأن الله قد خلق الجنة والنار، وجعل لكل منهم أهلاً وأعمالاً. فأعمال أهل الجنة تتمثل في: الالتزام بالتوحيد، وفعل الطاعات وفاءاً بالعهود والمواثيق التي كان العباد محلاً لإبرامها. وحجتهم في ذلك تنبثق من: براهين الميثاق، والفطرة، والعقل، والآيات الكونية، والتي جاءت الشرائع لتؤكد صحة دلائلها ومقتضياتها، وتشهد بخروجها جميعاً من مشكاة واحدة. وأما أعمال أهل النار فتتمثل في: نقض التوحيد بالشرك، تلك الجريمة الكبرى الخارقة لكافة الحجج، وشتى العهود، وسائر المواثيق. وهذا الطريق المؤدي إلى سخط الرحمن، والخلود في النيران يتميز بالانسلاخ والتعري من كافة الحجج الربانية، وسائر البراهين الإلهية، فرأس مال بضاعته المزجاة: الكذب، والإفك، والبهتان ... ومن هنا انفتق سر المسألة: فالذي بين صراط أهل الجنة، وسبل أهل النار كالذي ما بين السماء والأرض، والبعد بينهما كبعد المشرقين، لا يلتقيان ولا يتقاربان ما دامت السماوات والأرض. وبذلك يظهر جلياً: علة عدم مغفرة الشرك إلا بالتوبة والمآب إلى التوحيد والإخلاص من براثن الشرك ومخالب الإلحاد. فلو لم يكن كذلك لاختلطت أعلام الطريقين، واشتبهت منارات السبيلين، وبطل الفرقان بينهما، وذابت حدودهما، ولزم المساواة بين نهايتهما. والآن قد آن لنا أن نلجم القلم عن الاسترسال، فقد ظهر الصبح لذي عينين. وعلى الناصح لنفسه أن ينظر الراجح من المرجوح في كل مسألة من المسائل بعد أن يخلع الهوى الذي يعمي ويصم، وألا يعبأ بصوت المهاترات - الفاقدة للحجة والبرهان - وإن علا ضجيجها أياً كان الفم المهاتر بها،

والأيدي المصفقة لها، وأن يجعل نصب عينيه الدليل الصحيح الصريح من الكتاب والسنة، ثم يتفطن لوجه الاستدلال - المقرر بضوابطه - من كلام أهل العلم، ثم عليه بعد ذلك أن ينطرح بنفسه بين يدي ربه داعيا: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كتبه أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج.

فهرس المراجع

فهرس المراجع - القرآن الكريم. - جامع اليبان في تفسير القرآن لأبي جعفر بن جرير الطبري. دار الجيل بيروت - جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر بن جرير بتحقيق أحمد ومحمود محمد شاكر. تراث الإسلام الطبعة الثانية. - الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. دار الكتاب الإسلامي. - معالم التنزيل لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي بتحقيق محمد عبد الله النمر. دار طيبة. - تفسير القرآن العظيم. للحافظ ابن كثير، بتحقيق عبد العزيز غنيم. دار الشعب - عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير. لأحمد محمد شاكر. تراث الإسلام. - لباب التأويل في معاني التنزيل. لعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم الشهير بالخازن. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية. - تفسير البحر المحيط. لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان. دار الكتاب الإسلامي الطبعة الثانية. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور. للحافظ جلال الدين السيوطي. مكتبة ابن تيمية. - فتح البيان في مقاصد القرآن. للشيخ صديق حسن خان. أم القرى للطباعة والنشر - القاهرة -. - فتح القدير الجامع بين فني الراوية والدراية من علم التفسير. لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني. دار إحياء التراث العربي، بيروت. - تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل. لمحمد جمال الدين القاسمي. دار إحياء الكتب العربية. - التفسير الكيبر أو مفاتيح الغيب. لفخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية. - بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم. جمعه يسرى السيد أحمد. دار ابن الجوزي الطبعة الأولى. - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. لمحمد الأمين بن محمد الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار المدني. - الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال بحاشية تفسير الكشاف للزمخشري لأحمد بن محمد بن المنير المالكي، مطبعة الحلبي.

- التفسير القيم للإمام ابن القيم. جمعه محمد أويس الندوي حققه محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت. - دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب. لمحمد أمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية. - مسند الإمام أحمد بن حنبل. للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، مؤسسة قرطبة. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري. للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث. - صحيح مسلم بشرح النووي. للإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار الكتب العلمية بيروت. - صحيح مسلم. لمحمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة ابن تيمية. - المستدرك على الصحيحين. لأبي عبد الله محمد بن محمد الحاكم النيسابوري. - مشكاة المصابيح. لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة. - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها لمحمد ناصر الدين الإلباني، مكتبة المعارض بالرياض. - تدريب الواوي في شرح تقريب النواوي. للحافظ جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية. - زاد المعاد في هدى خير العباد. للإمام ابن القيم الجوزية بتحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة. - درء تعارض العقل والنقل. لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية بتحقيق د. محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية الطبعة الأولى. - النبوات. أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار الكتب العلمية بيروت. - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد. للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي بتحقيق عمر بن محمود، مكتبة ابن القيم الطبعة الثانية. - عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين. جمع عبد الله بن سعد الغامدي، (مجموعة رسائل في التوحيد). - إيثار الحق على الخلق. لأبي عبد الله محمد بن المرتضى اليماني المشهور بابن الوزير، دار الكتب العلمية الطبعة الثانية. - الدين الخالص. للشيخ صديق حسن خان، مكتبة دار التراث القاهرة - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل. للإمام ابن القيم الجوزية، دار الفكر. - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. للإمام ابن القيم الجوزية بتحقيق د. علي بن محمد دار العاصمة الطبعة الثانية. - مجموع الفتاوى. لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية. - البداية والنهاية. للحافظ ابن كثير، دار أم القرى الطبعة الأولى.

- تاريخ نجد. لحسين بن غنام. - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، دار الكتب العلمية. - أحكام أهل الذمة. للإمام ابن القيم الجوزية بتحقيق د. صبحي الصالح. - مفتاح دار السعادة. للإمام ابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية. - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي. للإمام ابن القيم الجوزية، بتحقيق حسين عبد الحميد دار القبلتين - الطبعة الأولى. - طريق الهجرتين وباب السعادتين. للإمام ابن القيم الجوزية بتحقيق سيد إبراهيم صادق، دار الحديث القاهرة. - مدارج السالكين شرح منازل السائرين بين "إياك نعبد وإياك نستعين". للإمام ابن القيم الجوزية، دار الكتاب العربي. - إعلام الموقعين عن رب العالمين. لابن القيم الجوزية. بتحقيق عبد الرحمن الوكيل، الناشر ابن تيمية. - قواعد الأحكام في مصالح الأنام. لأبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، أم القرى للطباعة والنشر. - شرح معاني الآثار. لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الطحاوي الحنفي، بتحقيق محمد زهري النجار، دار الكتب العلمية. - فتح المجيد شرك كتاب التوحيد. لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. - الصارم المسلول على شاتم الرسول. لتقي الدين بن تيمية. - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد. لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني. - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس. لعبد اللطف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. الطبعة الثانية - دار الهداية للطبع والنشر والترجمة. - الموافقات في أصول الأحكام. لأبي إسحاق إبراهيم اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي. - أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك. لمحمد زكريا الكاندهلوي - دار الفكر، بيروت. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر. - الاعتصام. لأبي إسحاق إبراهيم اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي. بتحقيق/ محمد رشيد رضا - دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت - لبنان.

§1/1