آثار البلاد وأخبار العباد

القزويني ، زكريا

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الكتاب العز لك، والجلال لكبريائك، والعظمة لثنائك، والدوام لبقائك، يا قديم الذات ومفيض الخيرات. أنت الأول لا شيء قبلك، وأنت الآخر لا شيء بعدك، وأنت الفرد لا شريك لك. يا واهب العقول وجاعل النور والظلمات، منك الابتداء وإليك الانتهاء، وبقدرتك تكونت الأشياء، وبإرادتك قامت الأرض والسموات، أفض علينا أنوار معرفتك، وطهر نفوسنا عن كدورات معصيتك، وألهمنا موجبات رحمتك ومغفرتك، ووفقنا لما تحب وترضى من الخيرات والسعادات، وصل على ذوي الأنفس الطاهرات والمعجزات الباهرات، خصوصاً على سيد المرسلين وإمام المتقين، وقايد الغر المحجلين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، أفضل الصلوات، وعلى آله وأصحابه الطيبين والطيبات، وعلى الذين اتبعوهم بإحسان من أهل السنة والجماعات. يقول العبد زكرياء بن محمد بن محمود القزويني، تولاه الله بفضله، بعد حمد الله حمداً يرضيه، ويوجب مزيد فضله وأياديه: إني قد جمعت في هذا الكتاب ما وقع لي وعرفته، وسمعت به وشاهدته من لطايف صنع الله تعالى، وعجايب حكمته المودعة في بلاده وعباده؛ فإن الأرض جرم بسيط متشابه الأجزاء، وبسبب تأثير الشمس فيها، ونزول المطر عليها، وهبوب الرياح بها، ظهرت فيها آثار عجيبة، وتختص كل بقعة بخاصية لا توجد في غيرها: فمنها ما صار حجراً صلداً، ومنها ما صار طيناً حراً، ومنها ما صار طينة سبخة. ولكل واحد

منها خاصية عجيبة وحكمة عجيبة وحكمة بديعة، فإن الحجر الصلد يتولد فيه الجواهر النفيسة كاليواقيت والزبرجد وغيرهما، والطين الحر ينبت الثمار والزروع بعجيب ألوانها وأشكالها وطعومها وروايحها، والطينة السبخة يتولد منها الشبوب والزاجات والاملاح بفوايدها، وكذلك الإنسان حيوان متساوي الآحاد بالحد والحقيقة، لكن بواسطة الالطاف الإلهية تختلف آثارهم، فصار أحدهم عالماً محققاً، والآخر عابداً ورعاً، والآخر صانعاً حاذقاً. فالعالم ينفع الناس بعلمه، والعابد ببركته، والصانع بصنعته؛ فذكرت في هذا الكتاب ما كان من البلاد مخصوصاً بعجيب صنع الله تعالى، ومن كان من العباد مخصوصاً بمزيد لطفه وعنايته، فإنه جليس أنيس يحدثك بعجيب صنع الله تعالى، ويعرفك أحوال الأمم الماضية، وما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومآثر الآداب، ويفصح بأحوال البلاد كأنك تشاهدها، ويعرب عن أخبار الكرام كأنك تجالسهم: جليسٌ أنيسٌ يأمن الناس شرّه ... ويذكر أنواع المكارم والنّهى ويأمر بالإحسان والبرّ والتّقى ... وينهى عن الطّغيان والشرّ والأذى ومن انتفع بكتابي هذا وذكرني بالخير، جعله الله من الأبرار ورفع درجاته في عقبى الدار. وأسأل الله تعالى العفو عما طغى به القلم أو هم أو سها بذلك أو لم، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. ولنقدم على المقصود مقدمات لا بد منها، لحصول تمام الغرض، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

المقدمة الاولى

المقدمة الاولى في الحاجة الداعية إلى إحداث المدن والقرى اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده كساير الحيوانات، بل يضطر إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعية التي يتوقف عليها المطعم والملبس، فإنهما موقوفان على مقدمات كثيرة لا يمكن لكل واحد القيام بجميعها وحده. فإن الشخص الواحد كيف يتولى الحراثة فإنها موقوفة على آلاتها، وآلاتها تحتاج إلى النجار، والنجار يحتاج إلى الحداد، وكيف يقوم بأمر الملبوس وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف والغزل والنسج، وتهيئة آلاتها، فاقتضت الحكمة الإلهية الهيئة الاجتماعية، وألهم كل واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدمات، حتى ينتفع بعضهم ببعض، فترى الخباز يخبز الخبز، والعجان يعجنه، والطحان يطحنه، والحراث يحرثه، والنجار يصلح آلات الحراث، والحداد يصلح آلات النجار، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على البعض. وعند حصول كلها يتم الهيئة الاجتماعية، ومتى فقد شيء من ذلك فقد اختلت الهيئة الاجتماعية، كالبدن إذا فقد بعض أعضائه فيتوقف نظام معيشة الإنسان. ثم عند حصول الهيئة الاجتماعية لو اجتمعوا في صحراء لتأذوا بالحر والبرد والمطر والريح، ولو تستروا بالخيام والخرقاهات لم يأمنوا مكر اللصوص والعدو، ولو اقتصروا على الحيطان والأبواب كما ترى في القرى التي لا سور لها، لم يأمنوا صولة ذي البأس، فألهمهم الله تعالى اتخاذ السور والخندق والفصيل،

فحدثت المدن والأمصار والقرى والديار. ثم إن الملوك الماضية لما أرادوا بناء المدن، أخذوا آراء الحكماء في ذلك، فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في البلاد، وأفضل مكان في الناحية، وأعلى منزل في المكان من السواحل والجبال ومهب الشمال، لأنها تفيد صحة أبدان أهلها وحسن أمزجتها، واحترزوا من الآجام والجزائر وأعماق الأرض، فإنها تورث كرباً وهرماً. واتخذوا للمدن سوراً حصيناً مانعاً، وللسور أبواباً عدة حتى لا يتزاحم الناس بالدخول والخروج، بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه. واتخذوا لها قهندزاً لمكان ملك المدينة والنادي لاجتماع الناس فيه، وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمامات، ومراكض الخيل، ومعاطن الإبل، ومرابض الغنم، وتركوا بقية مساكنها لدور السكان، فأكثر ما بناها الملوك العظماء على هذه الهيئة، فترى أهلها موصوفين بالأمزجة الصحيحة والصور الحسنة والأخلاق الطيبة، وأصحاب الآراء الصالحة والعقول الوافرة، واعتبر ذلك بمن مسكنه لا يكون كذلك مثل الديالم والجيل والأكراد، والتركمان وسكان البحر في تشويش طباعهم وركاكة عقولهم واختلاف صورهم. ثم اختصت كل مدينة لاختلاف تربتها وهوائها بخاصية عجيبة، وأوجد الحكماء فيها طلسمات غريبة، ونشأ بها صنف من المعادن والنبات والحيوان لم يوجد في غيرها، وأحدث بها أهلها عمارات عجيبة، ونشأ بها أناس فاقوا أمثالهم في العلوم والأخلاق والصناعات، فلنذكر ما وصل إلينا من خاصية بقعة بقعة، إن شاء الله تعالى.

المقدمة الثانية

المقدمة الثانية في خواص البلاد وفيها فصلان الفصل الأول في تأثير البلاد في سكانها قالت الحكماء: إن الأرض شرق وغرب وجنوب وشمال، فما تناهى في التشريق وتحج منه نور المطلع فهو مكروه لفرط حرارته وشدة إحراقه، فإن الحيوان يحترق بها، والنبات لا ينبت، وما تناهى في التغريب أيضاً مكروه لموازاته التشريق في المعنى الذي ذكرناه، وما تناهى في الشمال أيضاً مكروه لما فيه من البرد الشديد الذي لا يعيش الحيوان معه، وما تناهى في الجنوب أيضاً كذلك لفرط الحرارة، فإنها أرض محترقة لدوام مسامتة الشمس إياها. فالذي يصلح للسكنى من الأرض قدر يسير هو أوساط الإقليم الثالث والرابع والخامس، وما سوى ذلك فأهلها معذبون، والعذاب عادة لهم، وقالوا أيضاً: المساكن الحارة موسعة للمسام، مرخية للقوى، مضعفة للحرارة العريزية، محللة للروح، فتكون أبدان سكانها متخلخلة ضعيفة، وقلوبهم خائفة، وقواهم ضعيفة لضعف هضمهم. وأما المساكن الباردة فإنها مصلبة للبدن مسددة للمسام مقوية للحرارة العزيزية، فتكون أبدان سكانها صلبة، وفيهم الشجاعة وجودة القوى والهضم الجيد. فإن استيلاء البرد على ظاهر أبدانهم يوجب احتقان الحرارة العزيزية في باطنهم. وأما المساكن الرطبة فلا يسخن هواؤهم شديداً ولا يبرد شتاؤهم قوياً، وسكانها موصوفون بالسحنة الجيدة، ولين الجلود وسرعة قبول الكيفيات والاسترخاء في الرياضات وكلال القوى.

الفصل الثاني

وأما المساكن اليابسة فتسدد المسام وتورث القشف والنحول ويكون صيفها حاراً وشتاؤها بارداً، وأدمغة أهلها يابسة لكن قواهم حادة. وأما المساكن الحجرية فهواؤها في الصيف حار وفي الشتاء بارد، وأبدان أهلها صلبة، وعندهم سوء الخلق والتكبر والاستبداد في الأمور، والشجاعة في الحروب. وأما المساكن الآجامية والبحرية فهي في حكم المساكن الرطبة وأنزل حالاً وقد جرى ذكر المساكن الرطبة. الفصل الثاني في تأثير البلاد في المعادن والنبات والحيوان أما المعادن فالذهب لا يتكون إلا في البراري الرملة والجبال الرخوة، والفضة والنحاس والرصاص والحديد لا يتكون إلا في الأحجار المختلطة بالتراب اللين، والكبريت لا يتكون إلا في الأراضي النارية، والزيبق لا يتكون إلا في الأراضي المائية، والأملاح لا تنعقد إلا في الأراضي السبخة، والشبوب والزاجات لا تتكون إلا في التراب العفص، والقار والنفط لا يتكون إلا في الأراضي الدهنة، أما تولد الأحجار التي لها خواص فلا يعلم معادنها وسببها إلا الله تعالى. وأما النبات فإن النخل والموز لا ينبتان إلا بالبلاد الحارة، وكذلك الأترج والنارنج والرمان والليمون، وأما الجوز واللوز والفستق فلا ينبت إلا بالبلاد الباردة، والقصب على شطوط الأنهار، وكذا الدلب والمغيلان بالأراضي الصلبة والبراري القفار، والقرنفل لا ينبت إلا بجزيرة بأرض الهند، والنارجيل والفلفل والزنجبيل لا ينبت إلا بالهند، وكذلك الساج والآبنوس والورس لا ينبت إلا باليمن، والزعفران بأرض الجبال بروذراورد، وقصب الذريرة بأرض نهاوند، والترنجبين يقع على شوك بخراسان. وأما الحيوان فإن الفيل لا يتولد إلا في جزائر البحار الجنوبية، وعمرها بأرض الهند أطول من عمرها بغير أرض الهند، وأنيابها لا تعظم مثل ما تعظم بأرضها، والزرافة لا تتولد إلا بأرض الحبشة، والجاموس لا يتولد إلا بالبلاد

الحارة قرب المياه، ولا يعيش بالبلاد الباردة، وعير العانة ليس له سفاد في غير بلاده كما يكون ذلك في بلاده، ويحتاج أن يؤخذ من حافره ولا كذلك في بلاده، والسنجاب والسمور وغزال المسك لا يتولد إلا في البلاد الشرقية الشمالية، والصقر والبازي والعقاب لا يتفرخ إلا على رؤوس الجبال الشامخة، والنعامة والقطا لا يفرخان إلا في الفلوات، والبطوط وطيور الماء لا تفرخ إلا في شطوط الأنهار والبطائح والآجام، والفواخت والعصافير لا تفرخ إلا في العمارات، والبلابل والقنابر لا تفرخ إلا في البساتين، والحجل لا يفرخ إلا في الجبال، هذا هو الغالب فإن وقع شيء على خلاف ذلك فهو نادر. والله الموفق للصواب.

المقدمة الثالثة

المقدمة الثالثة في أقاليم الأرض قال أبو الريحان الخوارزمي: إذا فرضنا أن دائرة معدل النهار تقطع كرة الأرض بنصفين: يسمى أحد النصفين جنوباً، والآخر شمالاً. وإذا فرضنا دائرة تعبر عن قطبي معدل النهار وتقطع الأرض، صارت كرة الأرض أربعة أرباع: ربعان جنوبيان، وربعان شماليان، فالربع الشمالي المكشوف يسمى ربعاً مسكوناً، والربع المسكون مشتمل على البحار والجزائر والأنهار والجبال والمفاوز والبلدان والقرى، على أن ما بقي منها تحت قطب الشمال قطعة غير مسكونة من افراط البرد وتراكم الثلوج، وهذا الربع المسكون قسموه سبعة أقسام، كل قسم يسمى إقليماً، كأنه بساط مفروش من الشرق إلى الغرب طولاً، ومن الجنوب إلى الشمال عرضاً، وإنها مختلفة الطول والعرض، فأطولها وأعرضها الإقليم الأول، فإن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ثلاثة آلاف فرسخ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من مائة وخمسين فرسخاً، وأقصرها طولاً وعرضاً الإقليم السابع، فإن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ألف وخمسمائة فرسخ، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من خمسين فرسخاً. وأما سائر الأقاليم فمختلف طولها وعرضها، وعلى الصفحة المقابلة صورة كرة الأرض بأقاليمها. وهذه القسمة ليست قسمة طبيعية، لكنها خطوط وهمية وضعها الأولون الذين طافوا بالربع المسكون من الأرض، ليعلموا بها حدود الممالك والمسالك، مثل افريدون النبطي واسكندر الرومي واردشير الفارسي، وإذا جاوزوا الأقاليم

السبعة فمنعهم من سلوكها البحار الزاخرة والجبال الشامخة، والأهوية المفرطة التغير في الحرب والبرد، والظلمة في ناحية الشمال تحت مدار بنات النعش، فإن البرد هناك مفرط جداً، لأن ستة أشهر هناك شتاء وليل، فيظلم الهواء ظلمة شديدة ويجمد الماء لشدة البرد، فلا حيوان هناك ولا نبات. وفي مقابلتها من ناحية الجنوب تحت مدار سهيل يكون ستة أشهر صيفاً نهاراً كله، فيحمى الهواء ويصير ناراً سموماً يحرق كل شي، فلا نبات ولا حيوان هناك.

وأما جانب المغرب فيمنع البحر المحيط السلوك فيه لتلاطم الأمواج. وأما جانب المشرق فيمنع البحر والجبال الشامخة، فإذا تأملت وجدت الناس محصورين في الأقاليم السبعة، وليس لهم علم بحال بقية الأرض. فلنذكر ما وصل إلينا بقعة بقعة في إقليم إقليم، مرتبة على حروف المعجم، والله الموفق للسداد والهادي إلى سواء الصراط.

الاقليم الاول

الاقليم الاول فجنوبيه ما يلي بلاد الزنج والنوبة والحبشة، وشماليه الإقليم الثاني، وأوله حيث يكون الظل نصف النهار إذا استوى الليل والنهار قدماً واحدة ونصفاً وعشراً وسدس عشر قدم، وآخره حيث يكون ظل الاستواء فيه نصف النهار قدمين وثلاثة أخماس قدم. وقد يبتديء من أقصى المشرق من بلاد الصين، ويمر على ما يلي الجنوب من الصين جزيرة سرنديب، وعلى سواحل البحر في جنوب الهند، ويقطع البحر إلى جزيرة العرب ويقطع بحر قلزم إلى بلاد الحبشة، ويقطع نيل مصر وأرض اليمن إلى بحر المغرب؛ فوقع في وسطه من أرض صنعاء وحضرموت، ووقع طرفه الذي يلي الجنوب أرض عدن، ووقع في طرفه الذي يلي الشمال بتهامة قريباً من مكة. ويكون أطول نهار هؤلاء اثنتي عشرة ساعة ونصف الساعة في ابتدائه، وفي وسطه ثلاث عشرة ساعة، وفي آخره ثلاث عشرة ساعة وربع الساعة. وطوله من المشرق إلى المغرب تسعة آلاف ميل وسبعمائة واثنان وسبعون ميلاً وإحدى وأربعون دقيقة، وعرضه أربعمائة ميل واثنان وأربعون ميلاً واثنتان وعشرون دقيقة وأربعون ثانية، ومساحته مكسراً أربعة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وعشرون ألف ميل وثمانمائة وسبعة وسبعون ميلاً وإحدى وعشرون دقيقة، ولنذكر بعض بلادها مرتباً على حروف المعجم. إرم ذات العماد بين صنعاء وحضرموت، من بناء شداد بن عاد، روي أن شداد بن عاد كان جباراً من الجبابرة، لما سمع بالجنة وما وعد الله فيها أولياءه من قصور

الذهب والفضة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار، والغرف التي فوقها غرف، قال: إني متخذ في الأرض مدينة على صفة الجنة، فوكل بذلك مائة رجل من وكلائه، تحت يد كل وكيل ألف من الأعوان، وأمرهم أن يطلبوا أفضل فلاة من أرض اليمن، ويختاروا أطيبها تربة. ومكنهم من الأموال ومثل لهم كيفية بنائها، وكتب إلى عماله في سائر البلدان أن يجمعوا جميع ما في بلادهم من الذهب والفضة والجواهر؛ فجمعوا منها صبراً مثل الجبال، فأمر باتخاذ اللبن من الذهب والفضة، وبنى المدينة بها، وأمر أن يفضض حيطانها بجواهر الدر والياقوت والزبرجد، وجعل فيها غرفاً فوقها غرف، أساطينها من الزبرجد والجزع والياقوت. ثم أجرى إليها نهراً ساقه إليها من أربعين فرسخاً تحت الأرض فظهر في المدينة، فأجرى من ذلك النهر سواقي في السكك والشوارع، وأمر بحافتي النهر والسواقي فطليت بالذهب الأحمر، وجعل حصاه أنواع الجواهر الأحمر والأصفر والأخضر، ونصب على حافتي النهر والسواقي أشجاراً من الذهب، وجعل ثمارها من الجواهر واليواقيت. وجعل طول المدينة اثني عشر فرسخاً وعرضها مثل ذلك، وصير سورها عالياً مشرفاً، وبنى فيها ثلاثمائة ألف قصر، مفضضاً بواطنها وظواهرها بأصناف الجواهر. ثم بنى لنفسه على شاطيء ذلك النهر قصراً منيفاً عالياً، يشرف على تلك القصور كلها، وجعل بابه يشرع إلى واد رحيب، ونصب عليه مصراعين من ذهب مفضض بأنواع اليواقيت. وجعل ارتفاع البيوت والسور ثلاثمائة ذراع. وجعل تراب المدينة من المسك والزعفران. وجعل خارج المدينة مائة ألف منظرة أيضاً من الذهب والفضة لينزلها جنوده. ومكث في بنائها خمسمائة عام، فبعث الله تعالى إليه هوداً النبي، عليه السلام، فدعاه إلى الله تعالى، فتمادى في الكفر والطغيان. وكان إذ ذاك تم ملكه سبعمائة سنة، فأنذره هود بعذاب الله تعالى وخوفه بزوال ملكه، فلم يرتدع عما كان

عليه. وعند ذلك وافاه الموكلون ببناء المدينة وأخبروه بالفراغ منها، فعزم على الخروج إليها في جنوده، وخرج في ثلاثمائة ألف رجل من أهل بيته، وخلف على ملكه مرثد بن شداد ابنه، وكان مرثد، فيما يقال، مؤمناً بهود، عليه السلام. فلما انتهى شداد إلى قرب المدينة بمرحلة جاءت صيحة من السماء، فمات هو وأصحابه وجميع من كان في أمر المدينة من القهارمة والصناع والفعلة، وبقيت لا أنيس بها فأخفاها الله، لم يدخلها بعد ذلك إلا رجل واحد في أيام معاوية يقال له عبد الله بن قلابة، فإنه ذكر في قصة طويلة ملخصها أنه خرج من صنعاء في طلب إبل ضلت، فأفضى به السير إلى مدينة، صفتها ما ذكرنا، فأخذ منها شيئاً من المسك والكافور وشيئاً من الياقوت، وقصد الشام وأخبر معاوية بالمدينة، وعرض عليه ما أخذه من الجواهر، وكانت قد تغير بطول الزمان. فأحضر معاوية كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال: هذا إرم ذات العماد التي ذكرها الله تعالى في كتابه، بناها شداد بن عاد، لا سبيل إلى دخولها ولا يدخلها إلا رجل واحد صفته كذا وكذا. وكانت تلك الصفة صفة عبد الله ابن قلابة؛ فقال له معاوية: أما أنت يا عبد الله فأحسنت النصح، ولكن لا سبيل لها. وأمر له بجائزة. وحكي أنهم عرفوا قبر شداد بن عاد بحضرموت، وذلك أنهم وقعوا في حفيرة، وهي بيت في جبل منقورة مائة ذراع في أربعين ذراعاً، وفي صدره سرير عظيم من ذهب، عليه رجل عظيم الجسم، وعند رأسه لوح فيه مكتوب: اعتبر يا أيّها المغرور بالعمر المديد أنا شدّاد بن عادٍ صاحب القصر المشيد وأخو القوّة والبأساء والملك الحسيد دان أهل الأرض طرّاً لي من خوف وعيدي فأتى هودٌ وكنّا في ضلالٍ قبل هود

البجة

فدعانا لو قبلناه ... إلى الأمر الرّشيد فعصيناه ونادينا: ... ألا هل من محيد؟ فأتتنا صيحةٌ تهوي ... من الأفق البعيد فشوينا مثل زرعٍ ... وسط بيداءٍ حصيد والله الموفق للصواب. البجة بلاد متصلة بأعلى عيذاب في غرب منه، أهلها صنف من الحبش، بها معادن الزمرذ، يحمل منها إلى سائر الدنيا، ومعادنه في جبال هناك، وزمرذها أحسن أصناف الزمرذ الأخضر السلقي الكثير المائية، يسقى المسموم منه فيبرأ، وإذا نظرت الأفعى إلي سالت حدقتها. بكيل مخلاف باليمن؛ قال عمارة في تاريخه: بهذا المخلاف نوع من الشجر لأقوام معينين في أرض لهم، وهم يشحون به ويحفظونه من غيرهم مثل شجر البلسان بأرض مصر؛ وليس ذلك الشجر إلا لهم يأخذون منه سماً يقتل به الملوك، وذكر أن ملوك بني نجاح ووزراءهم أكثرهم قتلوا بهذا السم. بلاد التبر هي بلاد السودان في جنوب المغرب؛ قال ابن الفقيه: هذه البلاد حرها شديد جداً. أهلها بالنهار يكونون في السراديب تحت الأرض، والذهب ينبت في رمل هذه البلاد كما ينبت الجزر بأرضنا، وأهلها يخرجون عند بزوغ الشمس ويقطفون الذهب، وطعامهم الذرة واللوبيا، ولباسهم جلود الحيوانات،

وأكثر ملبوسهم جلد النمر، والنمر عندهم كثير. ومن سجلماسة إلى هذه البلاد ثلاثة أشهر، والتجار من سجلماسة يمشون إليها بتعب شديد، وبضايعهم الملح وخشب الصنوبر وخشب الأرز، وخرز الزجاج والاسورة والخواتيم منه، والحلق النحاسية. وعبورهم على براري معطشة، فيها سمايم بماء فاسد لا يشبه الماء إلا في الميعان، والسمايم تنشف المياه في الأسقية، فلا يبقى الماء معهم إلا أياماً قلائل. فيحتالون بأن يستصحبوا معهم جمالاً فارغة من الأحمال، ويعطشونها قبل ورودهم الماء الذي يدخلون منه في تلك البراري، ثم أوردوها على الماء نهلاً وعللاً حتى تمتلي أجوافها، ويشدون أفواهها كي لا تجتر فتبقى الرطوبة في أجوافها، فإذا نشف ما في أسقيتهم واحتاجوا إلى الماء، نحروا جملاً جملاً وترمقوا بما في بطونها، وأسرعوا بالسير حتى يردوا مياهاً أخرى، وحملوا منها في أسقيتهم. وهكذا ساروا بعناء شديد حتى قدموا الموضع الذي يحجز بينهم وبين أصحاب التبر، فعند ذلك ضربوا طبولاً ليعلم القوم وصول القفل. يقال: انهم في مكان وأسراب من الحر وعراة كالبهائم لا يعرفون الستر. وقيل: يلبسون شيئاً من جلود الحيوان، فإذا علم التجار أنهم سمعوا صوت الطبل أخرجوا ما معهم من البضائع المذكورة، فوضع كل تاجر بضاعته في جهة منفردة عن الأخرى وذهبوا وعادوا مرحلة فيأتي السودان بالتبر، ووضعوا بجنب كل متاع شيئاً من التبر وانصرفوا. ثم يأتي التجار بعدهم فيأخذ كل واحد ما وجد بجنب بضاعته من التبر ويترك البضاعة، وضربوا بالطبول وانصرفوا، ولا يذكر أحد من هؤلاء التجار أنه رأى أحداً منهم.

بلاد الحبشة

بلاد الحبشة هي أرض واسعة شمالها الخليج البربري، وجنوبها البر، وشرقها الزنج، وغربها البجة. الحر بها شديد جداً، وسواد لونهم لشدة الاحتراق، وأكثر أهلها نصارى يعاقبة، والمسلمون بها قليل. وهم من أكثر الناس عدداً وأطولهم أرضاً، لكن بلادهم قليلة وأكثر أرضهم صحارى لعدم الماء وقلة الأمطار، وطعامهم الحنطة والدخن، وعندهم الموز والعنب والرمان، ولباسهم الجلود والقطن. ومن الحيوانات العجيبة عندهم: الفيل والزرافة. ومركوبهم البقر، يركبونها بالسرج واللجام مقام الخيل، وعندهم من الفيلة الوحشية كثير وهم يصطادونها. فأما الزرافة فإنها تتولد عندهم من الناقة الحبشية والضبعان وبقر الوحش، يقال لها بالفارسية اشتركاوبلنك رأسها كرأس الإبل، وقرنها كقرن البقر، وأسنانها كأسنانه، وجلدها كجلد النمر، وقوائمها كقوائم البعير، وأظلافها كأظلاف البقر، وذنبها كذنب الظباء، ورقبتها طويلة جداً، ويداها طويلتان ورجلاها قصيرتان. وحكى طيماث الحكيم أنه بجانب الجنوب، قرب خط الاستواء في الصيف، تجتمع حيوانات مختلفة الأنواع على مصانع الماء من شدة العطش والحر، فيسفد نوع غير نوعه فتولد حيوانات غريبة مثل الزرافة، فإنها من الناقة الحبشية والبقرة الوحشية والضبعان، وذلك أن الضبعان يسفد الناقة الحبشية فتأتي بولد عجيب من الضبعان والناقة، فإن كان ذلك الولد ذكراً ويسفد البقرة الوحشية أتت بالزرافة. ولهم ملك مطاع يقال له أبرهة بن الصباح. ولما مات ذو يزن، وهو آخر الأدواء من ملوك اليمن، استولى الحبشة على اليمن، وكان عليها أبرهة من قبل النجاشي، فلما دنا موسم الحج رأى الناس يجهزون للحج، فسأل عن ذلك، فقالوا: هؤلاء يحجون بيت الله بمكة. قال: فما هو؟ قالوا: بيت من حجارة.

قال: لأبنين لكم بيتاً خيراً منه! فبنى بيتاً من الرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة ورصعه بالجواهر، وجعل أبوابه من صفائح من ذهب، وجعل للبيت سدنة ودنه بالمندلي، وأمر الناس بحجه وسماه القليس، وكتب إلى النجاشي: إني بنيت لك كنيسة ما لأحد من الملوك مثلها! أريد أصرف إليه حج العرب. فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة، انتهز الفرصة حتى وجدها خالية، فقعد فيها ولطخها بالنجاسة. فلما عرف ابرهة ذلك اغتاظ وآلى أن يمشي إلى مكة، ويخرب الكعبة غيظاً على العرب. فجمع عساكره من الحبشة ومعه اثنا عشر فيلاً، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالتأهب والغارة، فأصابوا مائتي إبل لعبد المطلب، جد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وبعث أبرهة رسولاً إلى مكة يقول: إني ما جئت لقتالكم إلا أن تقاتلوني! وإنما جئت لخراب هذا البيت والانصراف عنكم! فقال عبد المطلب، وهو رئيس مكة إذ ذاك: ما لنا قوة قتالك وللبيت رب يحفظه، هو بيت الله ومبنى خليله! فذهب عبد المطلب إليه، فقيل له: إنه صاحب عير مكة وسيد قريش، فأدخله، وكان عبد المطلب رجلاً وسيماً جسيماً، فلما رآه أكرمه فقال له الترجمان: الملك يقول ما حاجتك؟ فقال: حاجتي مائتا بعير أصابها. فقال ابرهة للترجمان: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، وقد زهدت فيك لأني جئت لهدم بيت هو دينك ودين آبائك! جئت ما تكلمت فيه وتكلمت في الإبل! فقال عبد المطلب: أنا رب هذه العير، وللبيت رب سيمنعه! فرد إليه إبله، فعاد عبد المطلب وأخبر القوم بالحال، فهربوا وتفرقوا في شعاب الجبال خوفاً فأتى عبد المطلب الكعبة وأخذ بحلقة الباب وقال: جرّوا جميع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك! عمدوا حماك بجهلهم ... كيداً وما رقبوا حلالك لاهمّ إنّ المرء يم ... نع حلّه فامنع حلالك

بلاد الزنج

لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبداً محالك إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمرٌ ما بدا لك! وترك عبد المطلب الحلقة وتوجه مع قومه في بعض الوجوه، فالحبش قاموا بفيلهم قاصدين مكة، فبعث الله من جانب البحر طيراً أبابيل مثل الخطاف، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره على شكل الحمص. فلما غشين القوم أرسلنها عليهم فلم تصب أحداً إلا هلك، فذلك قوله تعالى: وارسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. ومنها النجاشي الذي كان في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واسمه أصحمة، كان ولياً من أولياء الله يبعث إلى رسول الله الهدايا، والنبي، صلى الله عليه وسلم، يقبلها. وفي يوم مات أخبر جبرائيل، عليه السلام، رسول الله بذلك مع بعد المسافة، وكان ذلك معجزة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، في يوم موته، صلى عليه الصلاة مع أصحابه وهو ببلاد الحبشة. بلاد الزنج مسيرة شهرين، شمالها اليمن وجنوبها الفيافي، وشرقها النوبة وغربها الحبشة، وجميع السودان من ولد كوش بن كنعان بن حام، وبلاد الزنج شديدة الحر جداً، وحلكة سوادهم لاحتراقهم بالشمس. وقيل: إن نوحاً، عليه السلام، دعا على ابنه حام فاسود لونه، وبلادهم قليلة المياه قليلة الأشجار، سقوف بيوتهم من عظام الحوت. زعم الكماء أنهم شرار الناس ولهذا يقال لهم سباع الإنس. قال جالينوس: الزنج خصصوا بأمور عشرة: سواد اللون وفلفلة الشعر وفطس الأنف وغلظ الشفة وتشقق اليد والكعب، ونتن الرائحة وكثرة الطرب وقلة العقل وأكل

بعضهم بعضاً، فإنهم في حروبهم يأكلون لحم العدو، ومن ظفر بعدو له أكله. وأكثرهم عراة لا لباس لهم، ولا يرى زنجي مغموماً، الغم لا يدور حولهم والطرب يشملهم كلهم؛ قال بعض الحكماء: سبب ذلك اعتدال دم القلب، وقال آخرون: بل سببه طلوع كوكب سهيل عليهم كل ليلة فإنه يوجب الفرح. وعجائب بلادهم كثيرة منها كثرة الذهب، ومن دخل بلادهم يحب القتال، وهواؤهم في غاية اليبوسة، لا يسلم أحد من الجرب حتى يفارق تلك البلاد. والزنوج إذا دخلوا بلادنا وآنقهم هذه البلاد استقامت أمزجتهم وسمنوا. ولهم ملك اسمه اوقليم، يملك سائر بلاد الزنج في ثلاثمائة ألف رجل. ودوابهم البقر يحاربون عليها بالسرج واللجم، تمشي مشي الدواب، ولا خيل لهم ولا بغال ولا إبل، وليس لهم شريعة يراجعونها، بل رسوم رسمها ملوكهم وسياسات. وفي بلادهم الزرافة والفيل كثيرة وحشية في الصحارى يصطادها الزنوج. ولهم عادات عجيبة، منها أن ملوكهم إذا جاروا قتلوهم وحرموا عقبة الملك، ويقولون: الملك إذا جار لا يصلح أن يكون نائب ملك السموات والأرض. ومنها أكل العدو إذا ظفر به. وقيل: إن عادة بعضهم ليس عادة الكل. ومنها اتخاذ نبيذ من شربها طمس عقله؛ قيل: إنها مأخوذة من النارجيل يسقون منها من أرادوا الكيد به. ومنها التحلي بالحديد مع كثرة الذهب عندهم، يتخذون الحلي من الحديد كما يتخذ غيرهم من الذهب والفضة، يزعمون أن الحديد ينفر الشيطان ويشجع لابسه. ومنها قتالهم على البقر وانها تمشي كالخيل، قال المسعودي: رأيت من هذا البقر وانها حمر العيون يبرك كالإبل بالحمل ويثور بحمله. ومنها اصطيادها الفيل وتجاراتهم على عظامها، وذلك لأن الفيل الوحشية ببلاد الزنج كثيرة، والمستأنسة أيضاً كذلك، والزنج لا يستعملونها في الحرب ولا في العمل، بل ينتفعون بعظامها وجلودها ولحومها، وذاك أن

بلاد السودان

عندهم ورقاً يطرحونها في الماء، فإذا شرب الفيل من ذلك الماء اسكره فلا يقدر على المشي، فيخرجون إليه ويقتلونه، وعظام الفيل وأنيابها تجلب من أرض الزنج، وأكثر أنيابه خمسون مناً إلى مائة من، وربما يصل إلى ثلاثمائة من. بلاد السودان هي بلاد كثيرة وأرض واسعة، ينتهي شمالها إلى أرض البربر، وجنوبها إلى البراري، وشرقها إلى الحبشة، وغربها إلى البحر المحيط. أرضها محترقة لتأثير الشمس فيها، والحرارة بها شديدة جداً لأن الشمس لا تزال مسامتة لرؤوسهم، وأهلها عراة لا يلبسون من شدة الحر، منهم مسلمون ومنهم كفار. أرضهم منبت الذهب، وبها حيوانات عجيبة: كالفيل والكركدن والزرافة. وبها أشجار عظيمة لا توجد في غيرها من البلاد. وحدثني الفقيه علي الجنحاني المغربي أنه شاهد تلك البلاد، ذكر أن أهلها اتخذوا بيوتهم على الأشجار العظيمة من الأرضة، وان الأرضة بها كثيرة جداً، ولا يتركون شيئاً من الأثاث والطعام على وجه الأرض إلا وأفسده الارضة، فجميع قماشهم وطعامهم في البيوت التي اتخذوها على أعالي الأشجار. وذكر، رحمه الله، انه أول ما نزل بها نام في طرف منها فما استيقظ إلا والارضة قرضت من ثيابه ما كان يلاقي وجه الأرض. بلاد النوبة أرض واسعة في جنوبي مصر وشرقي النيل وغربيه. هي بلاد واسعة، وأهلها أمة عظيمة نصارى بعامتهم، ولهم ملك اسمه كابيل يزعمون أنه من نسل حمير؛ قال، صلى الله عليه وسلم: خير سبيكم النوبة. وقال أيضاً: من لم يكن له أخ فليتخذ أخاً نوبياً. ومن عاداتهم تعظيم الملك الذي اسمه كابيل، وهو يوهم أنه لا يأكل،

تغارة

ويدخلون الطعام عليه سراً، فإن عرف ذلك أحد من الرعية قتلوه لوقته، ويشرب شراباً من الذرة مقوى بالعسل، ولبسه الثياب الرفيعة من الصوف والخز والديباج، وحكمه نافذ في رعيته، ويده مطلقة يسترق من شاء ويتصرف في أموالهم، وهم يعتقدون أنه يحيي ويميت ويصح ويمرض. وجرى ذكر ملك النوبة في مجلس المهدي أمير المؤمنين، فقال بعض الحاضرين إن له مع محمد بن مروان قصة عجيبة، فأمر المهدي بإحضار محمد بن مروان، وسأله عما جرى بينه وبين ملك النوبة، فقال: لما التقينا أبا مسلم بمصر وانهزمنا وتشتت جمعنا، وقعت أنا بأرض النوبة، فأحببت أن يمكنني ملكهم من المقام عنده زماناً، فجاءني زائراً، وهو رجل طويل أسود اللون، فخرجت إليه من قبتي وسألته أن يدخلها، فأبى أن يجلس إلا خارج القبة على التراب. فسألته عن ذلك فقال: إن الله تعالى أعطاني الملك فحق علي أن أقابله بالتواضع. ثم قال لي: ما بالكم تشربون النبيذ وانها محرمة في ملتكم؟ قلت: نحن ما نفعل ذلك وإنما يفعله بعض فساق أهل ملتنا! فقال: كيف لبست الديباج ولبسه حرام في ملتكم؟ قلت: إن الملوك الذين كانوا قبلنا، وهم الأكاسرة، كانوا يلبسون الديباج، فتشبهنا بهم لئلا تنقص هيبتنا في غير الرعايا. فقال: كيف تستحلون أخذ أموال الرعايا من غير استحقاق؟ قلت: هذا شيء لا نفعله نحن ولا نرضى به، وإنما يفعله بعض عمالنا السوء! فأطرق وجعل يردد مع نفسه: يفعله بعض عمالنا السوء! ثم رفع رأسه وقال: إن لله تعالى فيكم نعمة ما بلغت غايتها، اخرج من أرضي حتى لا يدركني شؤمك! ثم قام ووكل بي حتى ارتحلت من أرضه، والله الموفق. تغارة بلدة في جنوبي المغرب بقرب البحر المحيط، حدثني الفقيه علي الجنحاني أنه دخلها فوجد سور المدينة من الملح، وكذلك جميع حيطانها، وكذلك السواري

تكرور

والسقوف، وكذلك الأبواب فإنها من صفائح ملحية مغطاة بشيء من جلد الحيوان كي لا يتشعب أطرافها. وذكر أن جميع ما حول هذه المدينة من الأراضي سبخة وفيها معدن الملح والشب، وإذا مات بها شيء من الحيوان يلقى في الصحراء فيصير ملحاً، والملح بأرض السودان عزيز جداً، والتجار يجلبونه من تغارة إلى سائر بلادهم يبتاع كل وقر بمائة دينار. ومن العجب أن هذه المدينة أرضها سبخة جداً، ومياه آبارهم عذبة، وأهلها عبيد مسوفة، ومسوفة قبيلة عظيمة من البربر. وأهل تغارة في طاعة امرأة من إماء مسوفة، شغلهم جمع الملح طول السنة. يأتيهم القفل في كل سنة مرةً يبيعون الملح ويأخذون من ثمنه قدر نفقاتهم، والباقي يؤدونه إلى ساداتهم من مسوفة، وليس بهذه المدينة زرع ولا ضرع، ومعاشهم على الملح كما ذكرنا. تكرور مدينة في بلاد السودان عظيمة مشهورة، قال الفقيه علي الجنحاني المغربي: شاهدتها وهي مدينة عظيمة لا سور لها، وأهلها مسلمون وكفار، والملك فيها للمسلمين، وأهلها عراة رجالهم ونساؤهم، إلا أشراف المسلمين فإنهم يلبسون قميصاً طولها عشرون ذراعاً، ويحمل ذيلهم معهم خدمهم للحشمة، ونساء الكفار يسترن قبلهن بخرزات العقيق، ينظمنها في الخيوط ويعلقنها عليهن، ومن كانت نازلة الحال فخرزات من العظم. وذكر أيضاً أن الزرافة بها كثيرة، يجلبونها ويذبحونها مثل البقر، والعسل والسمن والأرز بها رخيص جداً. وبها حيوان يسمى لبطى، يؤخذ من جلده المجن يبتاع كل مجن بثلاثين ديناراً، وخاصيته أن الحديد لا يعمل فيه البتة. وحكى أنه لما كان بها إذ ورد قاصد من بعض عمال الملك يقول: قد دهمنا سواد عظيم لا نعرف ما هو. فاستعد الملك للقتال وخرج بعساكره، فإذا فيلة كثيرة جاوزت العد والحصر، فجاءت حتى ترد الماء بقرب تكرور،

جابرسا

فقال الملك: احشوها بالنبل. فلم يكن يعمل فيها شيء من النبال، وكانت تخفي خراطيمها تحت بطنها لئلا يصيبها النبل، وإذا أصاب شيئاً من بدنها أمرت عليها الخرطوم ورمتها، فشربت الماء ورجعت. والله الموفق. جابرسا مدينة بأقصى بلاد المشرق، عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: إن بأقصى المشرق مدينة اسمها جابرس، أهلها من ولد ثمود، وبأقصى المغرب مدينة اسمها جابلق أهلها من ولد عاد، ففي كل واحد بقايا من الأمتين. يقول اليهود: إن أولاد موسى، عليه السلام، هربوا في حرب بخت نصر، فسيرهم الله تعالى وأنزلهم بجابرس، وهم سكان ذلك الموضع لا يصل إليهم أحد ولا يحصى عددهم. وعن ابن عباس، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، في ليلة أسري به قال لجبريل، عليه السلام: إني أحب أن أرى القوم الذين قال الله تعالى فيهم: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، فقال جبريل، عليه السلام: بينك وبينهم مسيرة ست سنين ذاهباً وست سنين راجعاً، وبينك وبينهم نهر من رمل يجري كجري السهم، لا يقف إلا يوم السبت، لكن سل ربك، فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم، وأمن جبريل، عليه السلام، فأوحى الله إلى جبريل أن أجب إلى ما سأل، فركب البراق وخطا خطوات، فإذا هو بين أظهر القوم، فسلم عليهم فسألوه: من أنت؟ فقال: أنا النبي الامي! فقالوا: نعم، أنت الذي بشر بك موسى، عليه السلام، وإن أمتك لولا ذنوبها لصافحتها الملائكة، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رأيت قبورهم على باب دورهم فقلت لهم: لم ذاك؟ قالوا: لنذكر الموت صباحاً ومساء، وإن لم نفعل ذلك ما نذكر إلا وقتاً بعد وقت! فقال، صلى الله عليه وسلم: ما لي أرى بنيانكم مستوياً؟ قالوا: لئلا يشرف بعضنا على بعض،

ولئلا يسد بعضنا الهواء عن بعض. فقال، صلى الله عليه وسلم: ما لي لا أرى فيكم سلطاناً ولا قاضياً؟ فقالوا: أنصف بعضنا بعضاً، وأعطينا الحق من أنفسنا. فلم نحتج إلى أحد ينصف بيننا، فقال، صلى الله عليه وسلم: ما لأسواقكم خالية؟ فقالوا: نزرع جميعاً ونحصد جميعاً، فيأخذ كل رجل منا ما يكفيه ويدع الباقي لأخيه. فقال، صلى الله عليه وسلم: ما لي أرى هؤلاء القوم يضحكون؟ قالوا: مات لهم ميت! قال: ولم يضحكون؟ قالوا: سروراً بأنه قبض على التوحيد! قال، صلى الله عليه وسلم: وما لهؤلاء يبكون؟ قالوا: ورد لهم مولود وهم لا يدرون على أي دين يقبض. قال، صلى الله عليه وسلم: إذا ولد لكم مولود ذكر ماذا تصنعون؟ قالوا: نصوم لله شهراً شكراً. قال: وإن ولدت لكم انثى؟ قالوا: نصوم لله شهرين شكراً، لأن موسى، عليه السلام، أخبرنا أن الصبر على الأنثى أعظم أجراً من الصبر على الذكر. قال، صلى الله عليه وسلم: أفتزنون؟ قالوا: وهل يفعل ذلك أحد إلا حصبته السماء من فوقه، وخسفت به الأرض من تحته؟ قال: افتربون؟ قالوا: إنما يربي من لا يؤمن رزق الله! قال: أفتمرضون؟ قالوا: لا نذنب ولا نمرض وإنما تمرض أمتك ليكون كفارة لذنوبهم. قال، صلى الله عليه وسلم: أفلكم سباع وهوام؟ قالوا: نعم تمر بنا ونمر بها فلا تؤذينا. فعرض عليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، شريعته، فقالوا: كيف لنا بالحج وبيننا وبينه مسافة بعيدة؟ فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: تطوى لهم الأرض حتى يحج من يحج منهم مع الناس. قال: فلما أصبح النبي، صلى الله عليه وسلم، أخبر من حضر من قومه، وكان فيهم أبو بكر، رضي الله عنه، قال: إن قوم موسى بخير، فعلم الله تعالى ما في قلوبهم فأنزل: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. فصام أبو بكر شهراً واعتق عبداً، إذ لم يفضل الله أمة موسى على أمة محمد، صلى الله عليه وسلم.

جاوة

جاوة هي بلاد على ساحل بحر الصين مما يلي بلاد الهند، وفي زماننا هذا لا يصل التجار من أرض الصين إلا إلى هذه البلاد، والوصول إلى ما سواها من بلاد الصين متعذر لبعد المسافة واختلاف الأديان، والتجار يجلبون من هذه البلاد العود الجاوي والكافور والسنبل والقرنفل والبسباسة، والغضائر الصيني منها يجلب إلى سائر البلاد. جزاير الخالدات ويقال لها أيضاً جزاير السعادات، وانها في البحر المحيط في أقصى المغرب كان بها مقام جمع من الحكماء بنوا عليها ابتداء طول العمارات، قال أبو الريحان الخوارزمي: هي ست جزاير واغلة في البحر المحيط، قريبات من مائتي فرسخ، وإنما سميت بجزاير السعادات لأن غياطها أصناف الفواكه والطيب من غير غرس وعمارة، وأرضها تحمل الزرع مكان العشب، وأصناف الرياحين العطرة بدل الشوك. قالوا: في كل جزيرة صنم طوله مائة ذراع كالمنار ليهتدى بها، وقيل: إنما عملوا ذلك ليعلم أن ليس بعد ذلك مذهب فلا يتوسط البحر المحيط، والله أعلم بذلك. جزيرة الرامني في بحر الصين؛ قال محمد بن زكرياء الرازي: بها ناس عراة لا يفهم كلامهم لأنه مثل الصفير، طول أحدهم أربعة أشبار، شعورهم زغب أحمر، يتسلقون على الأشجار، وبها الكركدن وجواميس لا أذناب لها، وبها من الجواهر والافاويه ما لا يحصى، وبها شجر الكافور والخيزران والبقم وعروق هذا

جزيرة زانج

البقم دواء من سم الأفاعي، وحمله شبه الخرنوب وطعمه طعم العلقم. وقال ابن الفقيه: بها ناس عراة رجال ونساء على أبدانهم شعور تغطي سوآتهم، وهم أمة لا يحصى عددها، مأكولهم ثمار الأشجار، وإذا اجتاز بهم شيء من المراكب يأتونه بالسباحة مثل هبوب الريح، وفي أفواههم عنبر يبيعونه بالحديد. جزيرة زانج إنها جزيرة عظيمة في حدود الصين مما يلي بلاد الهند، بها أشياء عجيبة ومملكة بسيطة، وملك مطاع يقال له المهراج؛ قال محمد بن زكرياء: للمهراج جباية تبلغ كل يوم مائتي من ذهباً، يتخذها لبنات ويرميها في الماء، والماء بيت ماله، وقال أيضاً: من عجائب هذه الجزيرة شجر الكافور وانه عظيم جداً، يظل مائة إنسان وأكثر، يثقب أعلى الشجر فيسيل منه ماء الكافور عدة جرار، ثم يثقب أسفل من ذلك وسط الشجرة فينساب منها قطع الكافور وهو صمغ تلك الشجرة، غير أنه في داخلها، فإذا أخذت ذلك منه يبست الشجرة. وحكى ماهان بن بحر السيرافي قال: كنت في بعض جزاير زانج فرأيت بها ورداً كثيراً أحمر وأصفر وأزرق وغير ذلك، فأخذت ملاءة حمراء وجعلت فيها شيئاً من الورد الأزرق، فلما أردت حملها رأيت ناراً في الملاءة واحترق ما فيها من الورد ولم تحترق الملاءة، فسألت عنها فقالوا: إن في هذا الورد منافع كثيرة لكن لا يمكن إخراجها من هذه الغيطة. وقال ابن الفقيه: بهذه الجزيرة قوم على صورة البشر، إلا أن أخلاقهم بالسباع أشبه، يتكلم بكلام لا يفهم ويطفر من شجرة إلى شجرة. وبها صنف من السنانير لها أجنحة كأجنحة الخفافيش من الأذن إلى الذنب، وبها وعول كالبقر الجبلية، ألوانها حمر منقطة ببياض، وأذنابها كأذناب الظباء ولحومها حامضة، وبها دابة الزباد وهي شبيهة بالهر يجلب منها الزباد، وبها فارة المسك.

جزيرة سكسار

وبها جبل النصبان، وهو جبل فيه حيات عظام تبلع البقر والجاموس، ومنها ما يبلغ الفيل، وبها قردة بيض كأمثال الجواميس والكباش، وبها صنف آخر بيض الصدر سود الظهر. وقال زكرياء بن محمد بن خاقان: بجزيرة زانج ببغاء بيض وصفر وحمر، يتكلم بأي لغة يكون، وبها طواويس رقط وخضر، وبها طير يقال له الحوارى دون الفاختة، أبيض البطن أسود الجناحين أحمر الرجلين أصفر المنقار، وهو أفصح من الببغاء، والله الموفق للصواب. جزيرة سكسار جزيرة بعيدة عن العمران في بحر الجنوب، حكى يعقوب بن إسحاق السراج قال: رأيت رجلاً في وجهه خموش، فسألته عن ذلك، فقال: خرجنا في مركب فألقتنا الريح إلى جزيرة لم نقدر أن نبرح عنها، فأتانا قوم وجوههم وجوه الكلاب وسائر بدنهم كبدن الناس، فسبق إلينا واحد ووقف الآخرون فساقنا إلى منازلهم، فإذا فيها جماجم الناس وأسوقهم وأذرعهم، فأدخلنا بيتاً فإذا فيه إنسان أصابه مثل ما أصابنا، فجعلوا يأتوننا بالفواكه والمأكول، فقال لنا الرجل: إنما يطعمونكم لتسمنوا فمن سمن أكلوه، قال: فكنت أقصر في الأكل حتى لا أسمن، فأكلوا الكل وتركوني وذاك الرجل لأني كنت نحيفاً والرجل كان عليلاً، فقال لي الرجل: قد حضر لهم عيد يخرجون إليه بأجمعهم ويمكثون ثلاثاً، فإن أردت النجاة فانج بنفسك! وأما أنا فقد ذهبت رجلاي لا يمكنني الذهاب. واعلم أنهم أسرع شيء طلباً وأشد اشتياقاً وأعرف بالاثر، إلا من دخل تحت شجرة كذا فإنهم لا يطلبونه ولا يقدرون عليه. قال: فخرجت أسير ليلاً وأكمن النهار تحت الشجرة، فلما كان اليوم الثالث رجعوا، وكانوا يقصون أثري، فدخلت تحت الشجرة فانقطعوا عني ورجعوا فأمنت. حكى الرجل المخموش وقال: بينا أنا أسير في تلك الجزيرة إذ رفعت لي

جزيرة القصار

أشجار كثيرة فانتهيت إليها، فإذا بها من كل الفواكه، وتحتها رجال كأحسن ما يكون صورة، فقعدت عندهم لا أفهم كلامهم ولا يفهمون كلامي، فبينا أنا جالس معهم إذ وضع أحدهم يده على عاتقي، فإذا هو على رقبتي ولوى رجليه علي وأنهضني، فجعلت أعالجه لأطرحه فخمشني في وجهي، فجعلت أدور به على الأشجار وهو يقطف ثمرها يأكل ويرمي إلى أصحابه وهم يضحكون، فبينا أنا أسير به في وسط الأشجار إذ أصاب عينيه عيدان الأشجار فعمي، فعمدت إلى شيء من العنب وأتيت نقرة في صخرة عصرته فيها، ثم أشرت إليه أن اكرع فكرع منها، فتحللت رجلاه فرميت به، فأثر الخموش من ذلك في وجهي. جزيرة القصار حدث يعقوب بن إسحاق السراج قال: رأيت رجلاً من أهل رومية قال: خرجت في مركب فانكسر وبقيت على لوح، فألقتني الريح إلى بعض الجزائر، فوصلت بها إلى مدينة فيها أناس قاماتهم قدر ذراع وأكثرهم عور، فاجتمع علي جماعة وساقوني إلى ملكهم فأمر بحبسي، فانتهوا بي إلى شيء مثل قفص الطير، أدخلوني فيه فقمت فكسرته وصرت بينهم، فآمنوني فكنت أعيش فيهم. فإذا في بعض الأيام رأيتهم يستعدون للقتال، فسألتهم عن ذلك فأومأوا إلى عدو لهم يأتيهم في هذا الوقت، فلم تلبث أن طلعت عليهم عصابة من الغرانيق، وكان عورهم من نقر الغرانيق أعينهم، فأخذت عصاً وشددت على الغرانيق فطارت ومشت، فأكرموني بعد ذلك إلى أن وجدت جذعين وشددتهما بلحاء الشجر وركبتهما، فرمتني الريح إلى رومية. وقد حكى أرسطاطاليس في كتاب الحيوان تصحيح ما ذكر وقال: إن الغرانيق تنتقل من خراسان إلى ما بعد مصر، حيث يسيل ماء النيل، وهناك تقاتل رجالاً قاماتهم قدر ذراع.

جزيرة النساء

جزيرة النساء في بحر الصين فيها نساء لا رجل معهن أصلاً، وإنهن يلقحن من الريح ويلدن النساء مثلهن، وقيل: إنهن يلقحن من ثمرة شجرة عندهن يأكلن منها فيلقحن ويلدن نساء. حكى بعض التجار أن الريح ألقته إلى هذه الجزيرة قال: فرأيت نساء لا رجال معهن ورأيت الذهب في هذه الجزيرة مثل التراب، ورأيت من الذهب قضباناً كالخيزران، فهممن بقتلي فحمتني امرأة منهن وحملتني على لوح وسيبتني في البحر، فألقتني الريح إلى بلاد الصين، فأخبرت صاحب الصين بحال الجزيرة وما فيها من الذهب، فبعث من يأتيه بخبرها، فذهبوا ثلاث سنين ما وقعوا بها فرجعوا. جزيرة واق واق إنها في بحر الصين وتتصل بجزائر زانج والمسير إليها بالنجوم، قالوا: إنها ألف وستمائة جزيرة، وإنما سميت بهذا الاسم لأن بها شجرة لها ثمرة على صور النساء معلقات من الشجرة بشعورها، وإذا أدركت يسمعمنها صوت واق واق، وأهل تلك البلاد يفهمون من هذا الصوت شيئاً يتطيرون به. قال محمد بن زكرياء الرازي: هي بلاد كثيرة الذهب حتى ان أهلها يتخذون سلاسل كلابهم وأطواق قرودهم من الذهب، ويأتون بالقمصان المنسوجة من الذهب. وحكى موسى بن المبارك السيرافي أنه دخل هذه البلاد وقد ملكتها امرأة، وأنه رآها على سرير عريانةً، وعلى رأسها تاج وعندها أربعة آلاف وصيفة عراة أبكاراً.

جوف

جوف واد بأرض عاد، كان ذا ماء وشجر وعشب وخيرات كثيرة، منها حمار بن مويلع، كان له بنون خرجوا يتصيدون فأصابتهم صاعقة فماتوا عن آخرهم، فكفر حمار كفراً عظيماً وقال: لا أعبد رباً فعل بي هذا! ودعا قومه إلى الكفر، فمن عصاه قتله، وكان يقتل من مر به من الناس، فأقبلت نار من أسفل الجوف فأحرقته ومن فيه، وغاض ماؤه فضربت العرب به المثل وقالوا: أكفر من حمار! وقالوا أيضاً: أخلى من جوف حمار. وقال شاعرهم: ولشؤم البغي والغشم قديماً ... ما خلا جوفٌ ولم يبق حمار حرث أرض واسعة باليمن كثيرة الرياض والمياه، طيبة الهواء عذبة الماء منها ذو حرث الحميري واسمه مثوب؛ قال هشام بن محمد الكلبي: كان ذو حرث من أهل بيت الملك يعجبه سياحة البلاد، فأوغل في بعض أوقاته في بلاد اليمن، فهجم على أرض فيحاء كثيرة الرياض، فأمر أصحابه بالنزول وقال: يا قوم إن لهذه الأرض شأناً، لما رأى من مياهها ورياضها ولم ير بها أنيساً، فأوغل فيها حتى هجم على عين عظيمة نظيفة، بها غاب ويكتنفها ثلاث آكام عظام، فإذا على شريعتها بيت صنم من الصخر، حوله من مسوك الوحش وعظامها تلال. فبينا هو كذلك إذ أبصر شخصاً كالفحل المقرم قد تجلل بشعره وذلاذله تنوش على عطفه، وبيده سيف كاللجة الخضراء، فنكصت منه الخيل وأصرت بآذانها ونفضت بأبوالها، فقلنا: من أنت؟ فأقبل يلاحظنا كالقرم الصؤوم، ووثب وثبة الفهد على ادنانا فضربه ضربة، فقط عجز فرسه، وثنى بالفارس جزله جزلتين. فقال القيل: ليلحق فارسان برجالنا ليأتينا عشرون رامياً. فلم يلبث أن أقبلت الرماة ففرقهم على الآكام الثلاث وقال: احشوه بالنبل

حضرموت

وان طلع عليكم فدهدهوا عليه الصخر، وليحمل عليه الخيل من ورائه، ففرقنا الخيل للحلمة وإنها تشمئز عنه، فأقبل يدنو ويختل، وكلما خالطه سهم أمر عليه ساعده وكسره في لحمه، فضرب فارساً آخر فقطع فخذه بسرجه وما تحت السرج من فرسه، فصاح به القيل: ويلك! من أنت؟ فقال بصوت الرعد: أنا حرث لا أراع ولا ألاع! فمن أنت؟ قال: أنا مثوب، قال: إنك لهو؟ قال: نعم. فقهقر وقال: اليوم انقضت المدة وبلغت نهايتها العدة، لك كانت هذه السرارة ممنوعة. ثم جلس وألقى سيفه وجعل ينزع النبل من بدنه، فقلنا للقيل: قد استسلم؟ قال: كلا لكنه اعترف دعوة فإنه ميت، فقال: عهد عليكم لتحفرنني! فقال القيل: آكد عهد، ثم كبا لوجهه فأقبلنا إليه فإذا هو ميت، فأخذنا سيفه فلم يقدر أحد منا يحمله على عنقه، فأمر مثوب فحفر له اخدود ألقي فيه، واتخذ مثوب تلك الأرض منزلاً وسماها حرث، وسمي مثوب ذا حرث. ووجد على أكمة صخرة مكتوب عليها: باسمك اللهم، إله من سلف ومن غبر، إنك الملك الكبار الخالق الجبار ملكنا هذه المدة، وحمى لنا أقطارها وأصبارها وأسرابها وحيطانها وعيونها وصيرانها إلى انتهاء عدة وانقضاء مدة، ثم يظهر علينا غلام ذو الباع الرحب والمضاء العضب، فيتخذها معمراً أعصراً ثم يجوز كما بدا، وكل محتوم آت وكل مترقب قريب، ولا بد من فقدان الموجود وخراب المعمور. حضرموت ناحية باليمن مشتملة على مدينتين، يقال لاحداهما شبام وللأخرى تريم، وهي بقرب البحر في شرقي عدن، وانها بلاد قديمة. حكى رجل من حضرموت قال: وجدنا بها فخاراً فيه سنبلة حنطة وامتلأ

الظرف منها، وزناها كانت مناً، وكل حبة منها كبيضة دجاجة. وكان في ذلك الوقت شيخ له خمسمائة سنة، وله ولد له أربعمائة سنة، وولد ولد له ثلاثمائة سنة؛ فذهبنا إلى ابن الابن قلنا: إنه أقرب إلى الفهم والعقل، فوجدناه مقيداً لا يعرف الخير والشر. فقلنا: إذا كان هذا حال ولد الولد فكيف حال الأب والجد؟ فذهبنا إلى صاحب الأربعمائة سنة فوجدناه أقرب إلى الفهم من ولده، فذهبنا إلى صاحب الخمسمائة سنة فوجدناه سليم العقل والفهم، فسألناه عن حال ولد ولده فقال: انه كانت له زوجة سيئة الخلق لا توافقه في شيء أصلاً، فأثر فيه ضيق خلقها ودوام الغم بمقاساتها، وأما ولدي فكانت له زوجة توافقه مرة وتخالفه أخرى، فلهذا هو أقرب فهماً منه. وأما أنا فلي زوجة موافقة في جميع الأمور مساعدة، فلذلك سلم فهمي وعقلي! فسألناه عن السنبلة فقال: هذا زرع قوم من الأمم الماضية كانت ملوكهم عادلة، وعلماؤهم أمناء، وأغنياؤهم أسخياء، وعوامتهم منصفة. منها القاضي الحضرمي، رحمه الله، لما ولي القضاء أتى عليه سنتان لم يتقدم إليه خصمان، فاستعفى الملك وقال: إني آخذ معيشة القضاء ولا خصومة لأحد فالأجرة لا تحل لي! فاستبقاه الملك وقال: لعل الحاجة تحدث، إلى أن تقدمه خصيمان فقال أحدهما: اشتريت منه أرضاً فظهر فيها كنز قل له حتى يقبضها! وقال الآخر: إني بعت الأرض بما فيها والكنز له! فقال القاضي: هل لكما من الأولاد؟ قالا: نعم. فزوج بنت البائع من ابن المشتري، وجعل الكنز لولديهما وصالحا على ذلك. وبها القصر المشيد الذي ذكره الله في القرآن، بناه رجل يقال له صد ابن عاد وذلك أنه لما رأى ما نزل بقوم عاد من الريح العقيم، بنى قصراً لا يكون للريح عليه سلطان من شدة إحكامه، وانتقل إليه هو وأهله، وكان له من القوة ما كان، يأخذ الشجرة بيده فيقلعها بعروقها من الأرض، ويأكل من الطعام مأكول عشرين رجلاً من قومه، وكان مولعاً من النساء، تزوج بأكثر من سبعمائة

عذراء وولد له من كل واحدة ذكر وأنثى، فلما كثر أولاده طغى وبغى، وكان يقعد في أعالي قصره مع نسائه، لا يمر به أحد إلا قتله كائناً من كان، حتى كثر قتلاه فأهلكه الله تعالى مع قومه بصيحة من السماء، وبقي القصر خراباً لا يجسر أحد على دخوله لأنه ظهر فيه شجاع عظيم، وكان يسمع من داخله أنين كأنين المرضى، وقد أخبر الله تعالى عنهم وأمثالهم بقوله: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد، والبئر المعطلة كانت بعدن، سنذكرها إن شاء الله تعالى. وبها قبر هود النبي، عليه السلام؛ قال كعب الأحبار: كنت في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في خلافة عثمان، رضي الله عنه، فإذا برجل قد رمقه الناس لطوله، فقال: أيكم ابن عم محمد؟ قالوا: أي ابن عمه؟ قال: ذاك الذي آمن به صغيراً، فأومأوا إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال علي: ممن الرجل؟ فقال: من اليمن من بلاد حضرموت. فقال علي: أتعرف موضع الأراك والسدرة الحمراء التي يقطر من أوراقها ماء في حمرة الدم؟ فقال الرجل: كأنك سألتني عن قبر هود، عليه السلام؟ فقال علي: عنه سألتك فحدثني، فقال: مضيت في أيام شبابي في عدة من شبان الحي نريد قبره، فسرنا إلى جبل شامخ فيه كهوف ومعنا رجل عارف بقبره حتى دخلنا كهفاً، فإذا نحن بحجرين عظيمين قد أطبق أحدهما على الآخر، وبينهما فرجة يدخلها رجل نحيف، وكنت أنا أنحفهم، فدخلت بين الحجرين فسرت حتى وصلت إلى فضاء، فإذا أنا بسرير عليه ميت وعليه أكفان كأنها الهواء، فمسست بدنه فكان علباً، وإذا هو كبير العينين مقرون الحاجبين واسع الجبهة أسيل الخد طويل اللحية، وإذا عند رأسه حجر على شكر لوح عليه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، أنا هود بن الحلود بن عاد رسول الله إلى بني عاد بن عوض ابن سام بن نوح، جئتهم بالرسالة وبقيت فيهم مدة عمري فكذبوني، فأخذهم

دلان ودموران

الله بالريح العقيم فلم يبق منهم أحد، وسيجيء بعدي صالح بن كالوة فيكذبه قومه فتأخذهم الصيحة؛ قال له علي، رضي الله عنه: صدقت، هكذا قبر هود، عليه السلام. وبها بئر برهوت وهي التي قال النبي، صلى الله عليه وسلم: ان فيها أرواح الكفار والمنافقين، وهي بئر عادية قديمة عميقة في فلاة عميقة في فلاة وواد مظلم. وعن علي، رضي الله عنه، قال: ابغض البقاع إلى الله تعالى وادي برهوت بحضرموت فيه بئر ماؤها أسود منتن يأوي إليه أرواح الكفار. وذكر الأصمعي عن رجل حضرمي انه قال: إنا نجد من ناحية برهوت رائحة منتنة فظيعة جداً فيأتينا الخبر أن عظيماً من عظماء الكفار مات. وحكى رجل أنه بات ليلة بوادي برهوت قال: فكنت أسمع طول الليل يا دومه يا دومه، فذكرت ذلك لبعض أهل العلم فقال: إن الملك الموكل بأرواح الكفار اسمه دومه. وبها ماء الخنوثة؛ قال ابن الفقيه: بحضرموت ماء بينها وبين النوب، من شربه يصير مخنثاً. دلان ودموران قريتان بقرب ذمار من أرض اليمن. قالوا: ليس بأرض اليمن أحسن وجهاً من نساء هاتين القريتين. وقالوا: الفواجر بهما كثيرة يقصدهما الناس من الأماكن البعيدة للفجور! قالوا: إن دلان ودموران كانا ملكين أخوين، وكل واحد بنى قرية وسماها باسمه، وكانا مشغوفين بالنساء وينافسان في الحسن والجمال، والناس يجلبون من الأطراف البعيدة ذوات الجمال لهما، فمن هناك أتى أهل القريتين الجمال، وإلا فالجمال بأرض اليمن كالسمك على اليبس، والله الموفق.

دنقلة

دنقلة مدينة عظيمة ببلاد النوبة، ممتدة على ساحل النيل، طولها مسيرة ثمانين ليلة وعرضها قليل، وهي منزل ملكهم كابيل، وأهلها نصارى يعاقبة، أرضهم محترقة لغاية الحرارة عندهم، ومع شدة احتراقها ينبت الشعير والحنطة والذرة. ولهم نخل وكرم ومقل وأراك. وبلادهم أشبه شيء باليمن، وبيوتهم أخصاص كلها، وكذلك قصور ملكهم. وأهلها عراة مؤتزرون بالجلود، والنمر عندهم كثيرة، يلبسون جلودها، والزرافة أيضاً وهي دابة عجيبة منحنية إلى خلفها لطول يديها وقصر رجليها، وعندهم صنف من الإبل صغيرة الخلق قصيرة القوائم. ذات الشعبين مخلاف باليمن، وقال محمد بن السائب: حكى لنا رجل من ذي الكلاع أن سيلاً أقبل باليمن، فخرق موضعاً فأبدى عن أزج، فإذا فيه سرير عليه ميت عليه جباب وشي مذهبة، وبين يديه محجن من ذهب في راسه ياقوتة حمراء، وإذا لوح فيه مكتوب: بسم الله رب حمير، أنا حسان بن عمرو القيل، حين لا قيل إلا الله، مت زمان خرهيد وماهيد هلك فيه اثنا عشر ألف قيل، وكنت آخرهم قيلاً، فأتيت ذات الشعبين ليجيرني فأجفرني، قالوا: لعل كان ذلك وقت الطاعون، فمات من مات لفساد الهواء، فأتى حسان ذات الشعبين ليكون الهواء فيه أصح، بسبب هبوبها من الشعبين، فيسلم من الطاعون وما سلم. ذمار مدينة ببلاد اليمن، حكى أبو الربيع سليمان الزنجاني: انه شاهد ذمار، ورأى على مرحلة منها آثار عمارة قديمة، قد بقي منها ستة أعمدة من رخام،

سبأ

وفوق أربعة منها أربعة أعمدة، ودونها مياه كثيرة جارية، قال: ذكر لي أهل تلك البلاد أن أحداً لا يقدر على خوض تلك المياه إلى تلك الأعمدة، وما خاض أحد إلا عدم، وأهل تلك البلاد متفقون على أنها عرش بلقيس. سبأ مدينة كانت بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام، بناها سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، كانت مدينة حصينة كثيرة الأهل طيبة الهواء عذبة الماء، كثيرة الأشجار لذيذة الثمار كثيرة أنواع الحيوان، وهي التي ذكرها الله تعالى: لقد كان لسبإ في مسكنهم آية، جنتان عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور؛ ما كان يوجد بها ذباب ولا بعوض ولا شيء من الهوام كالحية والعقرب ونحوهما. وقد اجتمعت في ذلك الموضع مياه كثيرة من السيول، فيمشي بين جبلين ويضيع في الصحارى، وبين الجبلين مقدار فرسخين، فلما كان زمان بلقيس الملكة بنت بين الجبلين سداً بالصخر والقار، وترك الماء العظيم خارج السد، وجعلت في السد مثاعب أعلى وأوسط وأسفل ليأخذوا من الماء كل ما احتاجوا إليه، فجفت داخل السد ودام سقيها، فعمرها الناس وبنوا وغرسوا وزرعوا، فصارت أحسن بلاد الله تعالى وأكثرها خيراً، كما قال الله تعالى: جنتان عن يمين وشمال. وكان أهلها اخوة وبنو عم بنو حمير وبنو كهلان، فبعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم، فسلط الله تعالى الجرذ على سدهم. منها عمران بن عامر، وكانت سيادة اليمن لولد حمير ولولد كهلان، وكان كبيرهم عمران بن عامر، وكان جواداً عاقلاً، وله ولأقربائه من الحدائق ما لم يكن لأحد من ولد قحطان. وكانت عندهم كاهنة اسمها طريفة، قالت لعمران: والظلمة والضياء والأرض والسماء ليقبلن إليكم الماء كالبحر إذا طما، فيدع أرضكم خلاءً

يسفي عليها الصبا! فقالوا لها: فجعتنا بأموالنا فبيني مقالتك! فقالت: انطلقوا إلى رأس الوادي لتروا الجرذ العادي يجر كل صخرة صيخاد بأنياب حداد وأظفار شداد! فانطلق عمران في نفر من قومه حتى أشرفوا على السد، فإذا هم بجرذ أحمر فيقلع الحجر الذي لا يستقله رجال ويدفعه بمخاليب رجليه إلى ما يلي البحر ليفتح السد. فلما رأى عمران ذلك علم صدق قول الكاهنة فقال لأهله: اكتموا هذا القول من بني عمكم بني حمير لعلنا نبيع حدائقنا منهم ونرحل عن هذه الأرض، ثم قال لابن أخيه حارثة: إذا كان الغد واجتمع الناس أقول لك قولاً خالفني، وإذا شتمتك ردها علي، وإذا ضربتك فاضربني مثله! فقال: يا عم كيف ذلك؟ فقال عمران: لا تخالف فإن مصلحتنا في هذا. فلما كان الغد واجتمع عند عمران أشراف قومه وعظماء حمير ووجوه رعيته، أمر حارثة أمراً فعصاه فضربه بمخصرة كانت بيده، فوثب حارثة عليه واطمه، فأظهر عمران الغضب وأمر بقتل ابن أخيه فوقع في حقه الشفاعات. فلما أمسك عن قتله حلف أن لا يقيم في أرض امتهن بها، وقال وجوه قومه: ولا نقيم بعدك يوماً! فعرضوا ضياعهم على البيع واشتراها بنو حمير بأعلى الأثمان، فارتحل عن أرض اليمن فاء السيل بعد رحيلهم بمدة يسيرة، وخربت البلاد كما قال تعالى: فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. فتفرقوا في البلاد، ويضرب بهم المثل فيقال: تفرقوا أيادي سبا. وكانوا عشرة أبطن: ستة تيامنوا وهم كندة والأشعريون والأزد ومذحج وانمار وحمير، وأربعة تشاءموا وهم عامرة وجذام ولخم وغسان، وكانت هذه الواقعة بين مبعث عيسى ونبينا، صلى الله عليهما وسلم.

سجلماسة

سجلماسة مدينة في جنوب المغرب في طرف بلاد السودان، في مقطع جبل درن في وسط رمل، بها نهر كبير غرسوا عليه بساتين ونخيلاً مد البصر. حدثني بعض الفقهاء من المغاربة وقد شاهدها: ان مزارعها اثنا عشر فرسخاً من كل جانب لكن لا يزرع في كل سنة إلا خمسها، ومن أراد الزيادة على ذلك منعوه، وذلك لأن الريع إذا كثر لا يبقى له قيمة فلا يشتري من الظناء بشيء. وبها أصناف العنب والتمر وأما تمرها فستة عشر صنفاً ما بين عجوة ودقل. ولنسائها يد صناع في غزل الصوف، ويعمل منه كل عجيب حسن بديع من الأزر التي تفوق القصب، ويبلغ ثمن الازار ثلاثين ديناراً وأربعين كأرفع ما يكون من القصب ويتخذن من عقارات يبلغ ثمنها مثل ذلك مصبوغة بأنواع الألوان، وأهل هذه المدينة من أغنى الناس وأكثرهم مالاً لأنها على طريق غانة التي هي معدن الذهب، ولأهلها جرأة على دخول تلك البرية مع ما ذكر من صعوبة الدخول فيها، وهي في بلاد التبر يعرف منها، والله الموفق. سرنديب جزيرة في بحر هركند بأقصى بلاد الصين؛ قال محمد بن زكرياء: هي ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً، لها ثلاثة ملوك كل واحد عاص على الآخر. ومن عاداتهم أن يأخذوا من الجاني سبعة دراهم على جنايته، والمديون إذا تقاعد عن اداء الدين بعث الملك إليه من يخط حوله خطاً أي مكان وجده، فلا يجسر أن يخرج من الخط حتى يقضي الدين أو يحصل رضاء الغريم. فإن خرج من الخط بغير إذن، أخذ الملك منه ثلاثة أضعاف الدين، ويسلم ثلثه إلى المستحق ويأخذ الملك ثلثيه. وإذا مات الملك يجعل في صندوق من العود والصندل ويحرق بالنار،

وترافقه زوجته حتى يخترقا معاً. وبها أنواع العطر والافاويه والعود والنارجيل ودابة المسك، وأنواع اليواقيت ومعدن الذهب والفضة ومغاص اللؤلؤ. وعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خير بقعة ضربت إليها آباط الإبل مكة ومسجدي هذا والمسجد الأقصى، وجزيرة سرنديب فيها نزل أبونا آدم، عليه السلام، بها جبل أهبط عليه آدم، عليه السلام، وهو ذاهب في السماء يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم، عليه السلام، وهي قدم واحدة مغموسة في الحجر. ويرى على هذا الجبل كل ليلة مثل البرق من غير سحاب وغيم ولا بد له كل يوم من مطر يغسل موضع قدم آدم، عليه السلام. ويقال إن الياقوت الأحمر يوجد على هذه الجبال يحدره السيل منها إلى الحضيض وقطاع الماس أيضاً والبلور. وقالوا: أكثر أهل سرنديب مجوس وبها مسلمون أيضاً، ودوابها في غاية الحسن لا تشبه دوابنا إلا بالنوع، وبها كبش له عشرة قرون. منها الشيخ الظريف سديد الدين السرنديبي، ورد قزوين وأهل قزوين تبركوا به. وكان قاضي قزوين يدخل مع الولاة في الأمور الديوانية والعوام يكرهون ذلك، فربما عملوا غوغاة ونهبوا دار القاضي وخربوها، فلما كن السرنديبي قزوين وتبرك القوم به، كلما كرهوا من القاضي شيئاً ذهبوا إلى السرنديبي وقالوا: قم ساعدنا على القاضي! فإذا خرج السرنديبي تبعه ألوف، فالقاضي لقي من السرنديبي التباريح. فطلبه ذات يوم، فلما دخل عليه تحرك له وانبسط معه وسأله عن حاله ثم قال: إني أرى في هذه المدينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متروكاً، ولست أرى من لا يأخذه في الله لومة لائم غيرك. وأخرج من داره قميصاً غسل مراراً وعمامة عتيقة، وأركبه على دابة وغلمان الاحتساب في خدمته،

سفالة

وكل من سمع بهذا استحسن وصار السرنديبي محتسباً. فإذا في بعض الأيام جاء شخص إلى السرنديبي وقال: في موضع كذا جماعة يشربون. فقام بأصحابه وذهب إليهم فأراق خمورهم وكسر ملاهيهم. وكان القوم صبياناً جهالاً قاموا إليه وضربوه وضربوا أصحابه ضرباً وجيعاً، فجاء السرنديبي إلى القاضي وعرفه ذلك، فالقاضي غضب وحولق وقال: ابصروا من كانوا أولئك، فقالوا: ما نعرف منهم أحداً. ثم بعد أيام قالوا للسرنديبي: في بستان كذا جماعة يشربون، فذهب إليهم بأصحابه وأراق خمورهم وكسر ملاهيهم، فقاموا وقتلوا أصحاب السرنديبي وجرحوه، فعاد السرنديبي إلى بيته وأخذ القميص والعمامة وذهب إلى القاضي وقال: اخلع هذا على غيري فإني لست أهلاً لذلك، فقال القاضي: لا تفعل يا سديد الدين ولا تمنع الثواب! فقال له: دع هذا الكلام، أنت غرضك اني أقتل وأجرح على يد غيرك، وإني قد عرفت المقصود ولا أنخدع بعد ذلك. سفالة آخر مدينة تعرف بأرض الزنج، بها معدن الذهب، والحكاية عنها كما مر في بلاد التبر من أن التجار يحملون إليها الأمتعة، ويضعونها في أرض قريبة منهم ويرجعون. ثم ان أهل سفالة وهم سودان يأتون ويتركون ثمن كل متاع بجنبه، والذهب السفالي معروف عند تجار الزنج. وبها الحواي وهو صنف من الطير يعيد ما سمع بصوت رفيع ولفظ صحيح أصح من الببغاء، ولا يبقى أكثر من سنة، وبها ببغاء بيض وحمر وخضر، وقال محمد بن الجهم: رأيت قوماً يأكلون الذباب ويزعمون أنه دافع للرمد ولا يرمدون شيئاً البتة.

سلوق

سلوق مدينة بأرض اليمن؛ قال ابن الحايك: كانت مدينة عظيمة ولها آثار عظيمة باقية، يوجد بها قطاع الذهب والفضة والحلي، وكان بها صناع الدروع المحكمة النسج؛ قال الشاعر: نقل السّلوقيّ المضاعف نسجه ... ويوقد بالصّفّاح نار الحباحب وبها الكلاب الضواري، وذاك لأن الكلاب بها يسفدها الذئاب، فتأتي بالكلاب السلوقية وهي أخبث الكلاب؛ قال الشاعر: منهم ضوارٍ من سلوق كأنّها ... حصنٌ تجول تجرّر الأرسانا سمهر قرية بالحبشة، بها صناع الرماح السمهرية، وهي أحسن الرماح؛ قاله الصولي، وقال غيره: إن هذه القرية في جوف النيل يأتيها من أرض الهند على رأس الماء كثير من القنا، يجمعها أهل هذه القرية يستوقدون رذاله ويثقفون جيده ويبيعونه، وهو بأرض الحبشة معروف يحمل منها إلى سائر البلاد، والله الموفق. سندابل قصبة بلاد الصين ودار المملكة، يشقها نهر أحد شقيه للملك والشق الآخر للعامة؛ قال مسعر بن مهلهل: دخلتها وهي مدينة عظيمة قطرها مسيرة يوم، ولها ستون شارعاً، كل شارع ينفذ إلى دار الملك، ولها سور ارتفاعه تسعون ذراعاً، وعلى رأس السور نهر عظيم يتفرق ستين جزءاً، كل جزء ينزل على

باب من أبوابها، تلقاه رحىً يصب إليها ثم إلى غيرها حتى يصب في الأرض. ثم يخرج نصفه تحت السور يسقي البساتين، ويدخل نصفه المدينة ويدور في الشوارع كلها، وكل شارع فيه نهران: داخل يسقيهم، وخارج يخرج بفضلاتهم. وفيها من الزروع والبقول والفواكه والخيرات وأنواع الطيب كالقرنفل والدارصيني. وبها أنواع الجواهر كاليواقيت ونحوها والذهب الكثير. وأهلها حسان الوجوه قصار القدود عظام الرؤوس، لباسهم الحرير وحليهم عظام الفيل والكركدن، وأبوابهم آبنوس، وفيهم عبدة الأوثان والمانوية والمجوس ويقولون بالتناسخ. ومنها خاقان، ملك الصين الموصوف بالعدل والسياسة، له سلسلة من ذهب أحد طرفيها خارج القصر، والطرف الآخر عند مجلس الملك ليحركها المظلوم فيعلم الملك. ومن عادته ركوب الفيل كل جمعة والظهور للناس، ومن كان مظلوماً يلبس ثوباً أحمر، فإذا وقعت عليه عين الملك يحضره ويسأله عن ظلامته. ومن ولد في رعيته أو مات يكتب في ديوان الملك لئلا يخفى عليه أحد. وبها بيت عبادة عظيم، فيه أصنام وتماثيل، ولأهلها يد باسطة في الصناعات الدقيقة، يعبدون الأوثان ولا يذبحون الحيوان، ومن فعل أنكروا عليه. ولهم آداب حسنة للرعية مع الملك وللولد مع الوالد: فإن الوالد لا يقعد في حضور أبيه ولا يمشي إلا خلفه ولا يأكل معه. قال ابن الفقيه: أهل الصين يقولون بالتناسخ ويعملون بالنجوم، ولهم كتب يشتغلون بها، والزنا عندهم مباح، ولهم غلمان وقفوهم للواطة، كما أن الهند وقفوا الجواري على البد للزنا، وذلك عند سفلتهم لا عند أهل التمييز. والملك وكل بالصناع ليرفع إلى الملك جميع المعمول، فما أراد من ذلك اشتراه لخزانته، وإلا يباع في السوق، وما فيه عيب يمزقه. وحكي أنه ارتفع ثوب إلى الملك فاستحسنه المشايخ كلهم إلا واحداً، فسئل عن عيبه فقال إن هذا الثوب عليه صورة الطاووس، وقد حمل قنو موز،

الشحر

والطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز، فلو بعث الملك هذا الثوب هدية إلى بعض الملوك يقولون: أهل الصين ما يعرفون أن الطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز. الشحر ناحية بين عدن وعمان على ساحل البحر. ينسب إليها العنبر الشحري لأنه يوجد في سواحلها. وبها غياض كثيرة يوجد بها النسناس. حكى بعض العرب قال: قدمت الشحر فنزلت عند بعض رؤسائها وسألت عن النسناس فقال: إنا لنصيده ونأكله، وهو دابة كنصف بدن الإنسان له يد واحدة ورجل وادة، وكذلك جميع الأعضاء، فقلت: أنا أحب أن أراه، فقال لغلمانه: صيدوا لنا شيئاً منه. فلما كان من الغد جاءوا بشيء له وجه كوجه الإنسان إلا أنه نصف الوجه، وله يد واحدة في صدره، وكذلك رجل واحدة، فلما نظر إلي قال: أنا بالله وبك. فقلت لهم: خلوا عنه. فقالوا: لا تغتر بكلامه فإنه مأكولنا، فلم أزل بهم حتى أطلقوه فمر مسرعاً كالريح. فلما جاء الرجل الذي كنت عنده قال لغلمانه: أما قلت لكم صيدوا لنا شيئاً؟ فقالوا: فعلنا لكن ضيفك خلى عنه. فضحك وقال: خدعك والله! ثم أمرهم بالغدو إلى الصيد، فغدوا بالكلاب وكنت معهم فصرنا إلى غيضة في آخر الليل، فإذا واحد يقول: يا أبا مجمر إن الصبح قد أسفر والليل قد أدبر والقيض قد حضر فعليك بالوزر. فقال الآخر: كلي ولا تراعي، فأرسلوا الكلاب عليهم، فرأيت أبا مجمر وقد اعتوره كلبان وهو يقول: الويل لي ممّا به دهاني ... دهري من الهموم والأحزان قفا قليلاً أيّها الكلبان ... واسمعا قولي وصدّقاني إنّكما حين تحارباني ... ألفيتماني خضلاً عناني لوبي شبابي ما ملكتماني ... حتى تموتا أو تركتماني

شعب

فالتقياه وأخذاه، فلما حضر الرجل على عادته أتوا بأبي مجمر مشوياً وذكر خبر النسناس في وبار أبسط من هذا. شعب جبل باليمن فيه بلاد وقرى، يقال لأهلها الشعبيون، قتل بها الشنفرى فقال تأبط شراً وهو خال الشنفرى: إنّ بالشّعب من دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطلّ منها أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي، كان عالماً ورعاً فريد دهره، ولي القضاء من قبل عبد الملك بن مروان، بعثه إلى الروم رسولاً فأدخلوه على الملك من باب لص حتى ينحني للدخول، فيقولون: خدم للملك، فعرف الشعبي ذلك فدخله من خلفه، فلما رأى صاحب الروم كمال عقله وحسن جوابه وخطابه قال له: أمن بيت الخلافة أنت؟ قال: لا، أنا رجل من العرب. فكتب إلى عبد الملك: عجبت من قوم عندهم مثل هذا الرجل وولوا غيره أمرهم! فقال عبد الملك للشعبي: حسدني عليك أراد أن أقتلك! فقال الشعبي: إنما كهر أمير المؤمنين لأنه لم يرك! فقال: لله درك ما عدا ما في نفسي. وحكي أن الشعبي جلس يوماً للقضاء فاحتكم إليه زوجان، وكانت المرأة من أجمل النساء، فأظهرت المرأة حجتها. فقال للزوج: هل لك ما تدفع هذه؟ فأنشأ يقول: فتن الشّعبيّ لمّا ... رفع الطّرف إليها فتنته بدلالٍ ... وتخطّى حاجبيها قال للجوّار قرّب ... ها وقرّب شاهديها فقضى جوراً على الخص ... م ولم يقض عليها

شمخ

قال الشعبي: دخلت على عبد الملك بن مروان، فلما نظر إلي تبسم وقال: فتن الشّعبيّ لمّا ... رفع الطرّف إليها ثم قال: ما فعلت بقائل هذا؟ قلت: أوجعت ظهره ضرباً يا أمير المؤمنين لما هتك حرمتي! فقال: أحسنت والله وأجملت! وحكي أن الشعبي دخل على قوم وهم يذكرونه بالسوء فقال: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت وسبه رجل فقال: يا هذا إن كنت صادقاً غفر الله لي، وإن كنت كاذباً غفر الله لك! توفي سنة أربع ومائة عن اثنتين وثمانين سنة. شمخ قرية بأرض اليمن، من عجائبها أن بها شقاً ينفذ إلى الجانب الآخر، فمن لم يكن ولد رشدة لا يقدر على النفوذ فيه. حكى رجل من مراد قال: وليت صدقات، فبينا أنا أقسمها إذ قال لي رجل: ألا أريك عجباً؟ قلت: نعم. فأدخلني شعب جبل، فإذا أنا بسهم من سهام عاد كأكبر ما يكون من رماحنا مفوقاً، تشبث بذروة الجبل وعليه مكتوب: ألا هل إلى أبيات شمخٍ بذي اللوى ... لوى الرّمل من قبل الممات معاد بلادٌ بها كنّا وكنّا نحبّها ... إذ النّاس ناسٌ والبلاد بلاد ثم أخذ بيدي إلى الساحل، فإذا بحجر يعلوه الماء طوراً ويظهر أخرى، وعليه مكتوب: يا ابن آدم، يا عبد ربه، اتق الله ولا تعجل في رزقك،

شيلا

فإنك لن تسبق رزقك، ولن ترزق ما ليس لك، ومن لم يصدق فلينطح هذا الحجر حتى ينفجر! شيلا بلدة من أواخر بلاد الصين في غاية الطيب، لا يرى بها ذو عاهة من صحة هوائها وعذوبة مائها وطيب تربتها. أهلها أحسن الناس صورة وأقلها أمراضاً، وذكر أن الماء إذا رش في بيوتها تفوح منه رائحة العنبر، وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتل إنسان في غيرها ثم نقل إليها زالت علله. قال محمد بن زكرياء الرازي: من دخلها استوطنا ولا يخرج عنها لطيبها ووفور خيراتها وكثرة ذهبها. والله الموفق. صنعاء قصبة بلاد اليمن، أحسن مدنا بناء وأصحها هواء وأعذبها ماء، وأطيبها تربة وأقلها أمراضاً، ذكر أن الماء إذا رش في بيوتها تفوح منه رائحة العنبر، وهي قليلة الآفات والعلل، قليلة الذباب والهوام. إذا اعتل إنسان في غيرها ونقل إليها يبرأ، وإذا اعتلت الإبل وأرعيت في مروجها تصح، واللحم يبقى بها أسبوعاً لا يفسد. بناها صنعاء بن ازال بن عنير بن عابر بن شالح، شبهت بدمشق في كثرة بساتينها، وتخرق مياهها وصنوف فواكهها. قال محمد بن أحمد الهمذاني: أهل صنعاء في كل سنة يشتون مرتين ويصيفون مرتين، فإذا نزلت الشمس نقطة الحمل صار الحر عندهم مفرطاً، فإذا نزلت أول السرطان زالت عن سمت رؤوسهم، فيكون شتاء، فإذا نزلت أول الميزان يعود الحر إليهم مرة ثانية فيكون صيفاً، وإذا صارت إلى الجدي شتوا مرة ثانية، غير أن شتاءهم قريب من الصيف في كيفية الهواء.

قال عمران بن أبي الحسن: ليس بأرض اليمن بلد أكبر من صنعاء، وهو بلد بخط الاستواء، بها اعتدال الهواء لا يحتاج الإنسان إلى رحلة الشتاء والصيف وتتقارب ساعات نهارها. وكان من عجائب صنعاء غمدان الذي بناه التبابعة؛ قالوا: بانيه ليشرخ ابن يحصب؛ قال ابن الكلبي: اتخذه على أربعة أوجه: وجه أحمر ووجه أبيض ووجه أصفر ووجه أخضر، وبنى في داخله قصراً على سبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً، فكان ظله إذا طلعت الشمس يرى على ماء بينهما ثلاثة أميال، وجعل في أعلاه مجلساً بناه بالرخام الملون، وجعل سقفه رخامة واحدة، وصير على كل ركن من أركانه تمثال أسد، إذا هبت الريح يسمع منها زئير الأسد، وإذا أسرجت المصابيح فيه ليلاً كان سائر القصر يلمع من ظاهره كما يلمع البرق، وفيه قال ذو جدن الهمداني: وغمدان الذي حدّثت عنه ... بناه مشيّداً في رأس نيق بمرمرةٍ وأعلاه رخامٌ ... تحامٌ لا يعيّب بالشّقوق مصابيح السّليط يلحن فيه ... إذا أمسى كتوماض البروق فأضحى بعد جدّته رماداً ... وغيّر حسنه لهب الحريق وقال أمية بن أبي الصلت يمدح سيف بن ذي يزن في قصيدة آخرها: فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماء فصارا بعد أبوالا وذكر أن التبابعة إذا قعدوا على هذا القصر وأشعلوا شموعهم يرى ذلك على مسيرة أيام. حكي أن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، لما أمر بهدم غمدان قالوا له: إن الكهنة يقولون هادم غمدان مقتول! فأمر بإعادته، فقالوا له: لو أنفقت

عليه خراج الارض ما أعدته كما كان، فتركه، ولما خربه وجد على خشبة من أخشابها مكتوباً: اسلم غمدان، هادمك مقتول. فهدمه عثمان بن عفان فقتل. ووجد على حائط ايوان من مجالس تبع مكتوباً: صبراً الدّهر نال منك فهكذا مضت الدهور فرحٌ وحزنٌ بعده لا الحزن دام ولا السّرور وبصنعاء جبل الشب وهو جبل على رأسه ماء يجري من كل جانب وينعقد حجراً قبل أن يصل إلى الأرض، وهو الشب اليماني الأبيض الذي يحمل إلى الآفاق. ومن عجائب صنعاء ما ذكر أنه كان بها قبة عظيمة من جمجمة رجل. وبها نوع البر حبتان منه في كمام، ليس في شيء من البلاد غيرها، وبها الورس وهو نبت له خريطة كالسمسم، زرع سنة يبقى عشرين سنة. وحكي أن أمير اليمن لما آل إلى الحبشة، بنى أبرهة بن الصبا بها كنيسة لم ير الناس أحسن منها، وسماها القليس، وزينها بالذهب والفضة والجواهر، وكتب إلى النجاشي: إني بنيت لك كنيسة ليس لأحد مثلها من الملوك، وأريد أصرف إليها حج العرب. فسمع ذلك بعض بني مالك بن كنانة فأتاها وأحدث فيها، فسأل أبرهة عنه، فقالوا: إنه من أهل البيت الذي يحج إليه العرب. فغضب وآلى ليسيرن إلى الكعبة ويهدمنها، ثم جاء بعسكره وفيلته، فأرسله الله تعالى عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. وبها الجنة التي أقسم أصحابها لنصرمنها مصبحين، وهي على أربعة فراسخ من صنعاء، وكانت تلك الجنة لرجل صالح ينفق ثمراتها على عياله، ويتصدق على المساكين، فلما مات الرجل عزم أصحابه على أن لا يعطو للمساكين شيئاً، فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، فلما رأوها قالوا

الصين

إنا لضالون، يعني ما هذا طريق بستاننا، فلما رأوا الجنة محترقة قالوا: بل نحن محرومون. ويسمى ذاك الوادي الضروان، وهو واد ملعون، حجارته تشبه أنياب الكلاب، لا يقدر أحد أن يطأها، ولا ينبت شيئاً ولا يستطيع طائر أن يطير فوقه، فإذا قاربه مال عنه؛ قالوا: كانت النار تتقد فيها ثلاثمائة سنة. الصين بلاد واسعة في المشرق ممتدة من الإقليم الأول إلى الثالث، عرضها أكثر من طولها، قالوا: نحو ثلاثمائة مدينة في مسافة شهرين. وانها كثيرة المياة كثيرة الأشجار كثيرة الخيرات وافرة الثمرات، من أحسن بلاد الله وأنزهها، وأهلها أحسن الناس صورة وأحذقهم بالصناعات الدقيقة، لكنهم قصار القدود عظام الرؤوس، لباسهم الحرير، وحليهم عظام الفيل والكركدن، ودينهم عبادة الأوثان. وفيهم مانوية ومجوس، ويقولون بالتناسخ ولهم بيوت العبادات. من عجائب الصين الهيكل المدور؛ قال المسعودي: هذا الهيكل بأقصى بلاد الصين وله سبعة أبواب، في داخله قبة عظيمة البنيان عالية السمك، وفي أعلى القبة شبه جوهرة كرأس عجل يضيء منها جميع أقطار الهيكل، وان جمعاً من الملوك حاولوا أخذ تلك الجوهرة فما تمكنوا من ذلك، فمن دنا منها قدر عشرة أذرع خر ميتاً، وإن حاول أخذها بشيء من الآلات الطوال، فإذا انتهت إليها هذا المقدار انعكست. وكذلك إن رمى إليها شيئاً، وإن تعرض أحد لهدم الهيكل مات، وفي هذا الهيكل بئر واسعة الرأس، من أكب عليها وقع في قعرها، وعلى رأس البئر شبه طوق مكتوب عليه: هذه البئر مخزن الكتب التي هي تاريخ الدنيا وعلوم السماء والأرض، وما كان فيها وما يكون، وفيها خزائن الأرض لكن لا يصل إليها إلا من وازن علمه علمنا، فمن قدر عليه علمه كعلمنا، ومن عجز فليعلم أنه دوننا في العلم. والأرض التي عليها هذا الهيكل أرض حجرية عالية كجبل شامخ لا يرام

قلعه، ولا يتأتى نقبه، وإذا رأى الناظر إلى تلك الهيكل والقبة والبئر وحسن بنيتها، مال قلبه إليها وتأسف على فساد شيء منها. ومن عجائب الصين ما ذكر صاحب تحفة الغرائب ان بها طاحونة يدور حجرها التحتاني، والفوقاني ساكن، ويخرج من تحت الحجر دقيق لا نخالة فيه، ونخالة لا دقيق فيها، كل واحد منهما منفرد عن الآخر. وبها قرية عندها غدير فيه ماء في كل سنة يجتمع أهل القرية ويلقون فرساً في ذلك الغدير، والناس يقفون على أطرافه، كلما أراد الفرس الخروج من الماء منعوه، وما دام الفرس في الماء يأتيهم المطر، فإذا أمطروا قدر كفايتهم وامتلأ الغدير، أخرجوا الفرس وذبحوه على قلة جبل، وتركوه حتى يأكله الطير، فإن لم يفعلوا ذلك في شيء من السنين لم يمطروا. وبأرض الصين الذهب الكثير والجواهر واليواقيت في جبل من جبالها، وبها من الخيرات الكثيرة من الحبوب والبقول والفواكه والسكر، وفي جزائرها أشجار الطيب كالقرنفل والدارصيني ونحوها، قالوا: القرنفل تأتي بها السيول من جبال شامخة لا وصول إليها وبها من الهوام والحشرات والحيات والعقارب شيء كثير، ولا تظهر بالصيف لأنها ملتفة بأشجارها، تأكل من ثمارها وأوراقها وتظهر في الشتاء. ولأهل الصين يد باسطة في الصناعات الدقيقة، ولا يستحسنون شيئاً من صناعات غيرهم، وأي شيء رأوا أخذوا عليه عيباً، ويقولون: أهل الدنيا، ما عدانا، عمي إلا أهل كابل، فإنهم عور! وبالغوا في تدقيق صنعة النقوش حتى انهم يصورون الإنسان الضاحك والباكي، ويفصلون بين ضحك السرور والخجالة والشماتة، وإذا أراد ملكهم شيئاً من المتاع، يعرضه على أرباب الخبرة ولا يتركه في خزائنه إلا إذا وافقوا على جودته. وحكي أن صانعاً اتخذ ثوباً ديباجاً عليه صورة النابل وقعت عليها العصافير، فعرضها الملك على أرباب الخبرة واستحسنوها إلا صانع واحد؛ قال: العصافير

ظفار

إذا وقعت على السنابل أمالتها، وهذا المصور عملها قائمة لا ميل فيها. فصدقه الحاضرون وتعجبوا من دقة نظره في الصنعة. ومن خواص بلاد الصين انه قلما يرى بها ذو عاهة كالأعمى والزمن ونحوهما، وان الهرة لا تلد بها. وقال محمد بن أبي عبد الله: رأيت في غياض الصين إنساناً يصيح صياح القردة، وله وبر كوبر الرد، ويداه تنالان ساقيه إذا بسطهما قائماً. ويكون على الأشجار يثب من شجرة إلى شجرة وبينهما عشرة أذرع. وقال ابن الفقيه: بالصين دابة المسك، وهي دابة تخرج من الماء في كل سنة في وقت معلوم، فيصطاد منها شي كثير، وهي شديدة الشبه بالظباء، فتذبح ويؤخذ الدم من سرتها، وهو المسك، ولا رائحة له هناك حتى يحمل إلى غيرها من الأماكن. وبها الغضائر الصيني التي لها خواص، وهي بيضاء اللون شفافة وغير شفافة، لا يصل إلى بلادنا منها شيء، والذي يباع في بلادنا على أنه صيني معمول بلاد الهند، بمدينة يقال لها كولم، والصيني أصلب منه وأصبر على النار، وخزف الصين أبيض؛ قالوا: يترشح السم منه، وخزف كولم أدكن. وطرائف الصين كثيرة: الفرند الفائق والحديد المصنوع الذي يقال له طاليقون، يشترى بأضعافه فضة، ومناديل الغمر من جلد السمندل، والطواويس العجيبة، والبرادين الغرة التي لا نظير لها في البلاد. ظفار مدينة قرب صنعاء، كان بها مسكن ملوك حمير، وفيها قيل: من دخل ظفار حمر أي تكلم بالحميرية، وسببه أنه دخل رجل من العرب على ملك من ملوك حمير، وهو على موضع عال، فقال له الملك: ثب، فوثب الرجل من العلو فانكسرت رجله، ومعنى ثب بالحميرية اقعد، فقال الملك: ليس عندنا

عمان

عربية، من دخل ظفار حمر. ينسب إليها الجزع الظفاري الجيد، وحكي انه مكتوب على سور ظفار على حجر منها بقلم الأوائل: يوم شيدت ظفار قيل لمن أنت؟ قالت: لحمير الأخيار! ثم سئلت بعد ذلك، فقالت: للأحبش الأشرار! ثم سئلت بعد ذلك، فقالت: للفرس الأخيار! ثم سئلت بعد ذلك فقالت: لقريش التجار! ثم سئلت بعد ذلك فقالت: لحمير سنجار، وقليلاً ما يلبث القوم فيها ثم يأتيهم البوار، من أسود يلقيهم في البحر ويشعل النار في أعلى الديار. وبها اللبان الذي لا يوجد في الدنيا إلا في جبالها، وانه غلة لسلطانها، وانه من شجر ينبت في تلك المواضع مسيرة ثلاثة أيام في مثلها فيأتيها أهل ظفار ويجرحون أشجارها بالسكين فيسيل منها اللبان، فيجمعونه ويحملونه إلى ظفار، فيأخذ السلطان قسطه ويعطيهم الباقي. عمان كورة على ساحل بحر اليمن في شرقي هجر، تشتمل على مدن كثيرة، سميت بعمان بن بغان بن إبراهيم الخليل، عليه السلام، والبحر الذي يليه منسوب إليه يقال بحر عمان. روى ابن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إني لأعلم أرضاً من أرض العرب يقال لها عمان على شاطيء البحر، الحجة منها أفضل أو خير من حجتين من غيرها. وعن الحسن البصري هو المراد من قوله تعالى: يأتين من كل فج عميق، يعني من عمان، وعن النبي، صلى الله عليه وسلم: من تعذر عليه الرزق فعليه بعمان. وأما حرها فمما يضرب به المثل. بها اجتماع الخوارج الإباضية في زماننا هذا، وليس بها من غير هذا المذهب إلا غريب، وهم أتباع عبد الله بن اباض الذي ظهر في زمن مروان

غانة

ابن محمد، آخر بني أمية، وقد قتل وكفي شره. وحكى ابن الأثير في تاريخه: إنه في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة خرج بعمان طائر من البحر أكبر من فيل، ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال ولسان فصيح: قد قرب! قد قرب! قد قرب! ثم غاص في البحر، فعل ذلك ثلاثة أيام ثم غاب ولم ير بعد ذلك. غانة مدينة كبيرة في جنوب بلاد المغرب، متصلة ببلاد التبر، يجتمع إليها التجار ومنها يدخلون بلاد التبر، ولولاه لتعذر عليهم ذلك، وهي أكثر بلاد الله ذهباً لأنها بقرب معدنها، ومنها يحمل إلى سائر البلاد، وبها من النمور شيء كثير، وأكثر لباس أهلها جلد النمر. وحكى الفقيه أبو الربيع الملتاني أن في طريق غانة من سجلماسة إليها أشجاراً عظيمة مجوفة، يجتمع في تجاويفها مياه الأمطار فتبقى كالحياض، والمطر في الشتاء بها كثير جداً، فتبقى المياه في تجاويف تلك الأشجار إلى زمان الصيف، فالسابلة يشربونها في مرورهم إلى غانة، ولولا تلك المياه لتعذر عليهم المرور إليها، ويتخذون أقتاب البعران من خشب الصنوبر، فإن مات البعير فقتب رحله يفيء بثمنه. غدامس مدينة بالمغرب في جنوبيه ضاربة في بلاد السودان، يجلب منها الجلود الغدامسية، وهي من أجود الدباغ لا شيء فوقها في الجودة، كأنها ثياب الخز في النعومة. بها عين قديمة يفيض الماء منها، ويقسمها أهل البلد قسمة معلومة، فإن أخذ أحد زائداً غاض ماؤها، وأهل المدينة لا يمكنون أحداً يأخذ زائداً خوفاً من النقصان. وأهلها بربر مسلمون صالحون.

قاع

قاع برية بين عمان وحضرموت، من العجائب أن التاجر يمر بها إلى عمان بسلعته ليبيعها، فيسمع في تلك البرية: فلان بن فلان معه سلعة تساوي كذا ديناراً أو درهماً! فيدخل عمان لم يزد على ذلك شيء أصلاً، والله الموفق. قلعة الشرف قلعة حصينة باليمن قرب زبيد لا يمكن استخلاصها قهراً لأنها بين جبال لا يوصل إليها إلا في مضيق لا يسمع إلا رجلاً واحداً مسيرة يوم وبعض يوم، ودونه غياض، أوى إليه علي بن المهدي الحميري المستولي على زبيد سنة خمسين وخمسمائة. والله الموفق. كاكدم مدينة بأقصى المغرب جنوبي البحر متاخمة لبلاد السودان، منها صناع أسلحة. منها الرماح والدرق اللمطية من جلد حيوان يقال له اللمط، لا يوجد إلا هناك، وهو شبه الظباء أبيض اللون، إلا أنه أعظم خلقاً، يدبغ جلده في بلادهم باللبن وقشر بيض النعام سنة كاملة، لا يعمل فيه الحديد أصلاً، إن ضرب بالسيوف نسبت عنه، وإن أصابه خدش أو بتر يبل بالماء ويمسح باليد فيزول عنه، يتخذ منه الدرق والجواشن قيمة كل واحد منها ثلاثون ديناراً، وحكى الفقيه علي الجنحاني: انه مر بقرب كاكدم بل عال، والناس يقولون من صعد هذا التل اختطفه الجن، وعنده مدينة النحاس التي اشتهر ذكرها، وسيأتي ذكرها في موضعه إن شاء الله تعالى.

كله

كله بلدة بأرض الهند في منتصف الطريق بين عمان والصين، موقعها في المعمورة في وسط خط الاستواء، إذا كان منتصف النهار لا يبقى لشيء من الأشخاص ظل البتة. بها منابت الخيزران، منها يحمل إلى سائر البلاد. كنام قال عبد الله بن عمرو بن العاص: هي أرض بين الصين والهند من عجائب الدنيا، بها بطة من نحاس على عمود من نحاس أيضاً، فإذا كان يوم عاشوراء نشرت البطة جناحيها ومدت رقبتها فيفيض من الماء ما يكفيهم لزروعهم ومواشيهم إلى القابل. كوار ناحية من بلاد السودان جنوبي فزان، بها عين الفرس، قيل: إن عقبة ابن عامر ذهب إلى كوار غازياً، فنزل ببعض منازلها فأصابهم عطش حتى أشرفوا على الهلاك، فقام عقبة وصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فجعل فرس عقبة يبحث في الأرض حتى كشف عن صفاة فانفجر منها الماء، وجعل الفرس يمصه، فرأى عقبة ذلك فنادى في الناس أن احتفروا، فحفروا وشربوا فسمي ذلك الماء ماء الفرس، وافتتح كوار وقبض على ملكها، ومن عليه وفرض عليه مالاً. لنجوية جزيرة عظيمة بأرض الزنج، بها سرير ملك الزنج، وإليها تقصد المراكب من جميع النواحي، من عجائبها كروم بها تطعم في كل سنة ثلاث مرات، كلما انتهى أحدها أخرج الآخر.

مأرب

مأرب كورة بين حضرموت وصنعاء، لم يبق بها عامراً إلا ثلاث قرى يسمونها الدروب، كل قرية منسوبة إلى قبيلة من اليمن، وهم يزرعونها على الماء الذي جاء من ناحية السد، يسقون أرضهم سقية واحدة ويزرعون عليه ثلاث مرات في كل عام، فيكون بين زرع الشعير وحصاده في ذلك الموضع نحو شهرين. وكان بها سيل العرم الذي جرى ذكره في سبأ. ذكروا أن مياه جبالها تجتمع هناك وسيول كثيرة، ولها مخرج واحد؛ فالأوائل قد سدوا ذلك المخرج بسد محكم، وجعلوا لها مثاعب يأخذون منها قدر الحاجة، فاجتمعت المياه بطول الزمان وصار بحراً عظيماً خارج السد، وداخله عمارات وبساتين ومزارع، فسلط الله تعالى الجرذ على السد يحفره بأنيابه ويلعه بمخاليبه، حتى سد الوادي الذي نحو البحر وفتح مما يلي السد، فغرقت البلاد حتى لم يبق إلا ما كان على رؤوس الجبال، وذهبت الحدائق والجنان والضياع والدور والقصور، وجاء السيل بالرمل فطمها، وهي على ذلك إلى اليوم، كما أخبر الله تعالى، فجعلهم الله أحاديث ومزقهم كل ممزق. والعرم المسناة بنتها ملوك اليمن بالصخر والقار حاجزاً بين السيول والضياع، ففجرته فأرة ليكون أظهر في الأعجوبة؛ قال الأعشى: ففي ذلك للمؤتسي أسوةٌ ... ومأرب عفّى عليها العرم رخامٌ بنته لهم حميرٌ ... إذا ما نأى ماؤهم لم يرم فأروى الحروث وأعنابها ... على سعةٍ ماؤهم إن قسم فكانوا بذلكم حقبةً ... فمال بهم جارفٌ منهدم

مذيخرة

مذيخرة قلعة حصينة قرب عدن، على قلة جبل لا سبيل للفكر إلى استخلاصها إذ لا مصير إليها إلا من طريق واحد، وهو صعب جداً، وفيها عين عظيمة على رأس الجبل تسقي عدة قرى. قال الاصطخري: أعلى هذا الجبل نحو من عشرين فرسخاً، فيها مزارع ومياه كثيرة، ونباتها الورس، تغلب عليها محمد بن الفضل القرمطي الذي خرج من اليمن، وقصته مشهورة، والله الموفق. مرباط مدينة بين حضرموت وعمان، وهي فرضة ظفار، لأن ظفار مرساها غير جيد، بها اللبان يحمل منها إلى سائر البلدان وهو غلة للملك. أهلها عرب موصوفون بقلة الغيرة، وذلك ان كل ليلة نساؤهم يخرجن إلى خارج المدينة، ويسامرن الرجال الأجانب، ويجالسنهم ويلاعبنهم إلى نصف الليل، فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وهي تلاعب آخر وتحادثه فيعرض عنها ويمشي إلى زوجة غيره يحادثها. وقال صاحب معجم البلدان: رأيت بجزيرة قيس رجلاً عاقلاً أديباً من مرباط، فقلت له: بلغني منكم حديث أنكرته. فقال: لعلك تقول عن السمر؟ فقلت: نعم أخبرني أصحيح أم لا؟ فقال: إنه صحيح! وبالله أقسم إنه لقبيح، ولكن على ذلك نشأنا، ولو استطعنا لأزلناه ولكن لا سبيل إلى إزالته!

مسور

مسور مخلاف باليمن، بها قرى كثيرة ومزارع وأودية كثيرة من خواصها العجيبة أن البر والشعير والذرة يبقى بها مدة طويلة لا يتغير، وذكر أنهم ادخروا حنطة، فرأوها بعد ثلاثين سنة ولم يتغير منها شيء. مقدشو مدينة في أول بلاد الزنج، في جنوبي اليمن على ساحل البحر. وأهلها عرباء لا سلطان لهم، ويدبر أمرهم المتقدمون على الاصطلاح، وحكى التجار أنهم يرون بها القطب الجنوبي مقارباً لوسط السماء وسهيلاً، ولا يرون القطب الشمالي البتة، وانهم يرون هناك شيئاً مقدار جرم القمر شبه قطعة غيم بيضاء، لا يغيب أبداً ولا يبرح مكانه، يحمل منها الصندل والآبنوس والعنبر والعاج إلى غيرها من البلاد. مقرى قرية على مرحلة من صنعاء، بها معدن العقيق ونيله من أجود أنواع العقيق، حكى معالجوه أنهم يجدون قطعة نحو عشرين مناً، فيكسر ويلقى في الشمس عند شدة الحر، ثم يسجر له التنور بأبعار الإبل، ويجعلونه في شيء يكنه عن ملامسة النار، فسير منه ماء يجري في مجرى وضعوه له، ثم يستخرجونه لم يبق منه إلا الجوهر وما عداه صار رماداً. مهرة أرض باليمن؛ قال ابن الفقيه: بها شجرة إذا كانت الأشهر الحرم هطل منها الماء، فيمتليء منه الحياض والمصانع، وإذا مرت الأشهر الحرم انقطع الماء.

وبار

منها النجائب المهرية، وانها كريمة جداً، ذكر أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله باليمن ليشتري له نجائب مهرية، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، فقدم رجل من بجيلة على جمل عظيم الهامة، فساوموه فقال: لا أبيعه فقالوا: لا نغصبك ولا ندعك، لكن نحبسك ونكاتب أمير المؤمنين حتى يأتينا أمره! فقال: هلا خيراً من هذا؟ قالوا: وما هو؟ قال: معكم نجائب كرام وخيل سبق، دعوني حتى أركب جملي واتبعوني، فإن لحقتموني فهو لكم بغير ثمن، ثم قال: تأهبوا. فصاح في أذنه ثم أثاره. فوثب وثبة شديدة فتبعوه فلم يدركوه. وبار قال الليث: هو أرض بين اليمن وجبال يبرين من محال عاد، فلما أهلكوا أورث الله أرضهم الجن فلا يتقاربها أحد من الناس. قال أهل لاسير: هي مسماة بوبار بن ارم بن سام بن نوح، عليه السلام، وهي ما بين الشحر إلى صنعاء زهاء ثلاثمائة فرسخ في مثلها. قال أحمد بن محمد الهمذاني: وبار كانت أكثر الأرضين خيراً وأخصبها ضياعاً وأكثرها شجراً ومياهاً وثمراً، فكثرت بها القبائل وعظمت أموالهم، وكانوا ذوي أجسام فأشروا وبطروا لم يعرفوا حق نعم الله تعالى عليهم، فبدل الله تعالى خلقهم وصيرهم نسناساً، لأحدهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، فخرجوا يرعون في تلك الغياض على شاطيء البحر كما ترى البهائم، وهم فيما بين وبار وأرض الشحر وأطراف اليمن، يفسدون الزرع فيصيدهم أهل تلك الديار بالكلاب، ينفرونهم عن زروعهم وحدائقهم. حكى ابن الكيس النمري قال: كنا في رفقة أضللنا الطريق، فوقعنا في غيضة على ساحل البحر لا يدرك طرفاه، فإذا أنا بشيخ طويل كالنخلة، له

نصف رأس ونصف بدن وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، فأسرع مثل حضر الفرس العتيق وهو يقول: فررت من جور الشّراة شدّا ... إذ لم أجد من الفرار بدّا قد كنت دهراً في شبابي جلدا ... فها أنا اليوم ضعيفٌ جدّا زعم العرب أن سكان أرض وبار جن، ولا يدخلها إنسي أصلاً، فإن دخلها غالظاً أو عامداً حثوا في وجهه التراب، فإن أبى إلا الدخول خبلوه أو قتلوه، أو ضل فيها ولا يعرف له خبر، ولهذا قال الفرزدق: ولقد ضللت أباك تطلب دارماً ... كضلال ملتمسٍ طريق وبار لا تهتدي به أبداً ولو بعثت به ... بسبيل واردةٍ ولا آثار منها الإبل الحوشية، تزعم العرب أنها التي ضربها إبل الجن، وهي إبل لم ير أحسن منها؛ قال الشاعر: كأني على حوشيّةٍ أو نعامةٍ ... لها نسبٌ في الطّير أو هي طائر حكي أن رجلاً من أهل اليمن يوماً رأى في إبله فحلاً كأنه كوكب بياضاً وحسناً، فأقره فيها تى ضرب إبله، فلما لقحها لم يره حتى كان العام المقبل، وقد نتجت النوق أولاداً لم ير أحسن منها، وهكذا في السنة الثانية والثالثة. فلما ألقحها وأراد الانصراف هدر فاتبعه سائر ولده، فتبعها الرجل حتى وصل إلى أرض وبار، فرأى هناك أرضاً عظيمة وبها من الإبل الحوشية والبقر والحمير والظباء ما لا يحصى كثرةً، ورأى نخلاً كثيراً حاملاً وغير حامل، والتمر ملقى حول النخل قديماً وحديثاً بعضه على بعض، ولم ير أحداً من الناس، فبينا هو كذلك إذ أناه آت من الجن وقال له: ما وقوفك ها هنا؟ فقص عليه قصته وما كان من الإبل، فقال له: لو كنت فعلت ذلك على معرفة لقتلتك!

ورور

وإياك والمعاودة، فإن ذاك لفحل من إبلنا، عمد إلى أولاده فجاء بها. وأعطاه جملاً، وقال: انج بنفسك وهذا الجمل لك. قالوا: إن النجائب المهرية من نسل ذلك الجمل. ورور حصن منيع في جبال صنعاء، من استولى عليه يختل دماغه، يدعي نبوة أو خلافة أو سلطنة، ولما استولى عليه عبد الله بن حمزة الزيدي ادعى الإمامة، وأجابه خلق من اليمن، زعم أنه من ولد أحمد بن الحسين بن القاسم بن إسمعيل ابن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ورواة الأنساب يقولون: ان أحمد لم يعقب، وكان ذا لسان وبلاغة، وله تصانيف في مذهب الزيدية، وله أشعار منها: لا تحسبوا أنّ صنعا جلّ مأربتي ... ولا ذمار إذا أشمتّ حسّادي واذكر إذا شئت تشجيني وتطريبي ... كرّ الجياد على أبواب بغداد اليمن بلاد واسعة من عمان إلى نجران، تسمى الخضراء لكثرة أشجارها وزروعها، تزرع في السنة أربع مرات، ويحصد كل زرع في ستين يوماً، وتحمل أشجارهم في السنة مرتين. وأهلها أرق الناس نفوساً وأعرفهم للحق، سماهم الله تعالى الناس حيث قال: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، وقال، صلى الله عليه وسلم: إني لأجد نفس الرحمن من صوب اليمن. أراد به نصرة الأوس والخزرج. وقال أيضاً: الإيمان يمان والحكمة يمانية. قال الأصمعي: أربعة أشياء قد ملأت الدنيا ولا تكون إلا باليمن: الورس والكندر والخطر والعقيق.

وبها الأحقاف وهي الآن تلال من الرمل بين عدن وحضرموت، وكانت مساكن عاد أعمر بلاد الله وأكثرها عمارة وزرعاً وشجراً، فلما سلط الله تعالى عليهم الريح طمها بالرمل، وهي إلى الآن تحت تلك الأحقاف، جعلها الله تعالى عبرة للناظرين وخبرة للغابرين، كما قال تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أكثر منهم وأشد قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وبها قصران من قصور عاد، ولما بعث معاوية عبد الرحمن بن الحكم إلى اليمن والياً، بلغه أن بساحل عدن قصرين من قصور عاد وان في بحرها كنزاً، فطمع فيه وذهب في مائة فارس إلى ساحل عدن إلى أقرب القصرين فرأى ما حولهما من الأرض سباخاً بها آثار الآبار، ورأى قصراً مبنياً بالصخر والكلس، وعلى بعض أبوابه صخرة عظيمة بيضاء مكتوب عليها: غنينا زماناً في عراضة ذا القصر ... بعيشٍ رخيٍّ غير ضنكٍ ولا نزر يفيض علينا البحر بالمدّ زاخراً ... وأنهارنا بالماء مترعةٌ تجري خلال نخيلٍ باسقاتٍ نواضرٍ ... تأنّق بالقسب المجزّع والتّمر ونصطاد صيد البرّ بالخيل والقنا ... وطوراً نصيد النّون من لجج البحر ونرفل في الخزّ المرقّم تارةً ... وفي القزّ أحياناً وفي الحلل الخضر يلينا ملوكٌ يبعدون عن الخنا ... شديدٌ على أهل الخيانة والغدر يقيم لنا من دين هودٍ شرائعاً ... ويؤمن بالآيات والبعث والنّشر إذا ما عدوّ حلّ أرضاً يريدنا ... برزنا جميعاً بالمثقّفة السّمر نحامي على أولادنا ونسائنا ... على الشّهب والكمت المعانيق والشّقر نقارح من يبغي علينا ويعتدي ... بأسيافنا حتى يولّون بالدّبر ثم مضى إلى القصر الآخر وبينهما أربعة فراسخ، فرأى حوله آثار الجنان

والبساتين. قال: فدنونا من القصر فإذا هو من حجارة وكلس غلب عليه ماء البحر ورأينا على بابه صخرة عظيمة عليها مكتوب: غنينا بهذا القصر دهراً فلم يكن ... لنا همّةٌ إلاّ التّلذّذ والقصف يروح علينا كلّ يومٍ هنيدةٌ ... من الإبل يعشو في معاطنها الطّرف وأضعاف تلك الإبل شاءٌ كأنّها ... من الحسن آرامٌ أو البقر القطف فعشنا بهذا القصر سبعة أحقبٍ ... بأطيب عيشٍ جلّ عن ذكره الوصف فجاءت سنونٌ مجدباتٌ قواحلٌ ... إذا ما مضى عامٌ أتى آخرٌ يقفو فظلنا كأن لم تغن في الخير لمحةٌ ... فماتوا ولم يبق خفٌّ ولا ظلف كذلك من لم يشكر الله لم تزل ... معالمه من بعد ساحته تعفو قال: فعجبنا من ذلك، ثم مضينا إلى الساحل الذي ذكر أن فيه كنزاً، فأمرنا الغواصين فغاصوا وأخرجوا جراراً من صفر مطبقة بصفر، فلم نشك انه مال حتى جمعت جرار كثيرة، ففتحنا بعضها فخرج منها شيطان وقال: يا ابن آدم إلى متى تحبسنا؟ فبينا نحن نتعجب من ذلك إذ رأينا سواداً عظيماً أقبل من جزيرة قريبة من الساحل، ففزعنا فزعاً فاقتحم الماء وأقبل نحونا، فإذا هي قردة قد اجتمع منها ما لا يعلم عددها إلا الله. وكانت تلك الجزيرة مأواها، وأمامها قرد عظيم في عنقه لوح حديد معلق بسلسلة، فأقبل إلينا ورفع اللوح نحونا، فأخذنا اللوح من عنقه فإذا فيه كتابة بالسريانية، وكان معنا من يحسن قراءتها فقرأها فإذا هي: بسم الله العظيم الأعظم. هذا كتاب من سليمان بن داود رسول الله لمن في هذه الجزيرة من القردة، إني قد أمرتهم بحفظ هؤلاء الشياطين، المحبسين في هذه الناحية في هذه الجرار الصفر، وجعلت لهن أماناً من جميع الجن والإنس، فمن أرادهن أو عرض لهن فهو بريء مني، وأنا بريء منه في الدنيا والآخرة.

فأردنا أن نمضي باللوح إلى معاوية لينظر إليه، فلما ولينا وقفت القردة كلها أمامنا وحاصرتنا، وضجت ضجة فرددنا اللوح إليها، فأخذته واقتحمت الماء وعادت إلى الجزيرة. ومن عجائب اليمن ما ذكر ابن فنجويه أن بأرض عاد تمثالاً على هيئة فارس. ومياه تلك الأرض كلها ملحة، فإذا دخلت الأشهر الحرم يفيض من ذلك التمثال ماء كثير عذب، لا يزال يجري إلى انقضاء الأشهر الحرم، وقد تطفحت حياضهم من ذلك الماء فيكفيهم إلى تمام السنة؛ قال الشاعر: وبأرض عادٍ فارسٌ يسقيهم ... بالعين عذباً كالفرات السّائح في الأشهر الحرم العظيمة قدرها ... يغنون عن شرب الزّعاق المالح فإذا انقضى الشّهر الحرام تطفّحت ... تلك الحياض بماء عين السّافح وبها جبل الشب، وعلى رأس هذا الجبل ماء يجري من كل جانب، وينعقد حجراً قبل أن يصل إلى الأرض، والشب اليماني الأبيض من ذلك. وبها جبل شبام؛ قال محمد بن أحمد بن إسحاق الهمذاني: إنه جبل عظيم بقرب صنعاء، بينها وبينه يوم واحد، وهو صعب المرتقى ليس إليه إلا طريق واحد، وذروته واسعة فيها ضياع كثيرة مزارع وكروم ونخيل، والطريق إليها في دار الملك، وللجبل باب واحد مفتاحه عند الملك، فمن أراد النزول إلى السهل استأذن الملك حتى يأذن بفتح الباب له، وحول تلك الضياع والكروم جبال شاهقة لا تسلك ولا يعلم أحد ما وراءها إلا الله. ومياه هذا الجبل تنسكب إلى سد هناك، فإذا امتلأ السد ماء فتح ليجري إلى صنعاء ومخاليفها. وبها جبل كوكبان، إنه بقرب صنعاء عليه قصران مبنيان بالجواهر يلمعان بالليل كالكوكبين ولا طريق إليهما. قيل: إنهما من بناء الجن. وبها نهر اليمن؛ قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض اليمن نهر عند طلوع الشمس يجري من المشرق إلى المغرب، وعند غروبها من المغرب إلى المشرق.

وبها العلس، وهو نوع من الحنطة حبتان منه في كمام لا يوجد إلا باليمن، وهو طعام أهل صنعاء. وبها الورس، وهو نبت له خريطة كما للسمسم، ذكروا انه يزرع سنة ويبقى عشرين سنة. وبها الموز وهي ثمرة شبيهة بالعنب إلا أنه حلو دسم، لا تحمل شجرتها إلا مرة واحدة. وبها نوع من الكمثرى، من أكل منها واحدة يطلق عشر مرات، وان أكل اثنتين يطلق عشرين مرة، وإن أكل ثلاثاً يطلق ثلاثين. ويتخذ منه عسل يلعق منه صاحب القولنج فينفتح في الحال. ويجلب منها سيوف ليس في شيء من البلاد مثلها، ويجلب منها البرود اليمانية، وقرودها أخبث القرود وأسرع قبولاً للتعليم. وبها الغدار، وهو نوع من المتشيطنة يوجد بأكناف اليمن، يلحق الإنسان ويقع عليه، فإذا أصيب الإنسان منه يقول أهل تلك النواحي: أمنكوح هو أم مذعور؟ فإن قالوا منكوح أيسوا منه، وإن كان مذعوراً سكن روعه وشجع، ومن الناس من لم يكترث به لشجاعة نفسه. وحكي عن الشافعي أنه قال: دخلت بلدة من بلاد اليمن فرأيت فيها إنساناً من وسطه إلى أسفله بدن امرأة، ومن وسطه إلى فوقه بدنان متفرقان بأربع أيد ورأسين ووجهين، وهما يتلاطمان مرة ويصطلحان أخرى، ويأكلان ويشربان. ثم غبت عنهما سنين ورجعت، فسألت عنها فقيل لي: أحسن الله عزاءك في أحد الجسدين! توفي فربط من أسفله بحبل حتى ذبل ثم قطع، والجسد الآخر تراه في السوق ذاهباً وجائياً. ومنها أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان اليماني افتخار اليمن، كان من أعلم الناس بالحلال والحرام، له نسل بقزوين مشايخ وعلماء إلى الآن، وهو جدي من قبل الأم، ذكر يوسف بن اسباط أن طاووساً مر بنهر سلطاني، فهمت

بغلته أن تشرب منه فمنعها. وذكر بشر بن عبد الله أن طاووساً مر بالسوق فرأى رؤوساً مشوية بارزة الأسنان فلم ينعس تلك الليلة، وقال إن الله تعالى يقول: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون. وقال منعم بن ادريس: صلى طاووس اليماني صلاة الفجر بوضوء العتمة أربعين سنة. توفي سنة ست ومائة بمكة قبل يوم التروية عن بضع وتسعين سنة. وكان الناس يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حج أربعين حجة وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وهو خليفة حج تلك السنة. ومنها أويس بن عامر القرني. روى أبو هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن لله تعالى من خلقه الأصفياء الأحفياء، الشعثة شعورهم الغبرة وجوههم الخمصة بطونهم، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذنوا، وإن خطبوا المنعمات لم ينكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا. قالوا: يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟ قال: ذاك أويس القرني! قالوا: وما أويس القرني؟ قال: أشهل ذو صهوبة بعيد ما بين الكتفين معتدل القامة، آدم شديد الأدمة، ضارب بذقنه إلى صدره، رام ببصره إلى موضع سجوده، واضع بيمينه على شماله، يتلو القرآن، يبكي على نفسه، ذو طمرين لا يؤبه له، متزر بإزار صوف ورداء صوف، مجهول في أهل الأرض معروف في أهل السماء، لو أقسم على الله لأبر قسمه! الا وان تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء، الا وانه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد: ادخلوا الجنة، وقيل لأويس: قف واشفع! يشفعه الله، عز وجل، في مثل عدد ربيعة ومضر. يا عمرو ويا علي إذا أنتما لقيتماه فاطلبا إليه أن يستغفر لكما. فكانا يطلبانه عشرين سنة، فلما كان سنة هلك فيها عمر قام على أبي قبيس ونادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج من اليمن، أفيكم أويس؟ فقام شيخ كبير وقال: إنا لا ندري ما أويس، لكن لي ابن أخ يقال له أويس، هو أخمل ذكراً وأقل

مالاً وأهون أمراً من أن نرفعه إليك! وإنه ليرعى إبلنا حقين بين أظهرنا! فقال له عمر: إن ابن أخيك هذا عزمنا! قال: نعم. قال: فأين يصاب؟ قال: بأراك عرفات. فركب عمر وعلي سراعاً إلى عرفات فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة والإبل حوله ترعى، فأقبلا إليه وقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته! فرد عليهما جواب السلام. قالا له: من الرجل؟ قال: راعي إبل وأجير قوم! قالا: ما اسمك؟ قال: عبد الله. قالا: اسمك الذي سمتك أمك به؟ قال: يا هذان ما تريدان إلي؟ قالا: وصف لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أويساً القرني وقد عرفنا الصهوبة والشهولة، أخبرنا أن تحت منكبك الأيسر لمعة بيضاء أوضحها لنا. فأوضح منكبه، فإذا اللمعة فابتدرا يقبلانه وقالا: نشهد أنك أويس القرني! فاستغفر لنا يغفر الله لك! فقال: ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحداً من ولد آدم، ولكنه من في البحر والبر من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. يا هذان، قد شهر الله لكما حالي وعرفكما أمري فمن أنتما؟ قال علي: أما هذا فعمر أمير المؤمنين، وأما أنا فعلي بن أبي طالب! فاستوى أويس وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وعليك يا علي بن أبي طالب، فجزاكما الله عن هذه الأمة خيراً! قالا: وأنت جزاك الله عن نفسك خيراً! فقال له عمر: مكانك يرحمك الله، حتى أدخل مكة وآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي، هذا المكان ميعاد بيني وبينك. فقال: يا أمير المؤمنين لا ميعاد بيني وبينك، لا أراك بعد اليوم تعرفني، ما أصنع بالنفقة وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى علي إزاراً ورداء من صوف متى تراني أبليهما؟ أما ترى أني أخذت رعائي أربعة دراهم متى تراني آكلها؟ يا أمير المؤمنين، إن بيتي يدي ويديك عقبة كؤوداً لا يجاوزها إلا ضامر مخف مهزول! فلما سمع عمر ذلك ضرب بدرته الأرض ثم قال بأعلى صوته: يا ليت عمر لم تلده أمه! يا ليتها كانت عاقراً لم تعالج حملها! قال: يا أمير

المؤمنين خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا؛ فولى عمر نحو ناحية مكة وساق أويس إبله، فأتى القوم بإبلهم وخلى الرعاية وأقبل على العبادة. وحكي أن أويساً إذا خرج يرميه الصبيان بالحجارة، وهو يقول: إن كان لا بد فبالصغار حتى لا تدموا ساقي فتمنعوني من الصلاة. وحدث عبد الرحمن ابن أبي ليلى أنه نادى يوم صفين رجل من أهل الشام: أفيكم أويس القرني؟ قلنا: نعم! ما تريد منه؟ قال: إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أويس القرني خير التابعين بإحسان. وعطف دابته ودخل مع أصحاب علي فنادى مناد في القوم: أويس! فوجد في قتلى علي، كرم الله وجهه. ومنها أبو عبد الله وهب بن منبه، وكان الغالب عليه قصص الأنبياء وأخبار القرون الماضية والوعظ؛ قال: قرأت في بعض الكتب أن منادياً ينادي من السماء الرابعة كل صباح: أبناء الأربعين زرع قد دنا حصاده! أبناء الخمسين ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ أبناء الستين لا عذر لكم! ليت الخلق لم يخلقوا وإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا. قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم؛ قال منعم بن ادريس: إن وهب بن منبه صلى أربعين سنة صلاة الفجر بوضوء العشاء. مات سنة أربع عشرة ومائة. هذا آخر ما عرفناه من الإقليم الأول.

الاقليم الثاني

الاقليم الثاني هو حيث يكون ظل الاستواء، في أوله نصف النهار إذا استوى الليل والنهار قدمين وثلاثة أخماس قدم، وآخره حيث يكون ظل الاستواء فيه نصف النهار ثلاثة أقدام ونصف وعشر سدس قدم، يبتديء من المشرق فيمر على بلاد الصين وبلاد الهند والسند، ويمر بملتقى البحر الأخضر، ويقطع جزيرة العرب في أرض نجد وتهامة والبحرين، ثم يقطع بحر القلزم ونيل مصر إلى أرض المغرب. ويكون أطول نهار هؤلاء في أول الإقليم ثلاث عشرة ساعة وربع الساعة، وآخره ثلاث عشرة ساعة ونصف وربع، وأوسطه ثلاث عشرة ساعة ونصف، وطوله من المشرق إلى المغرب تسعة آلاف وثلاثمائة واثنا عشر ميلاً واثنتان وأربعون دقيقة، وعرضه أربعمائة ميل وميلان واحدى وخمسون دقيقة، ومساحتها مكسراً ثلاثة آلاف الف وستمائة ألف ميل، وتسعون ألف ميل، وثلاثمائة وأربعون ميلاً وأربع وخمسون دقيقة، وأما المدن الواقعة فيها فسنذكرها مرتبة على حروف المعجم، ما انتهى خبرها إلينا، والله المستعان. الأبلق حصن السموأل بن عاديا اليهودي الذي يضرب به مثل الوفاء، والحصن يسمى الابلق الفرد، لأنه كان في بنائه بياض وحمرة، وهو بين الحجاز والشام على تل من تراب، والآن بقي على التل آثار الأبنية القديمة، بناه أبو السموأل عاديا اليهودي. يقال: أوفى من السموأل. وكان من قصته أن امرأ القيس بن حجر الكندي، لما قتل أبوه مر إلى قيصر

أجأ وسلمى

يستنجده على قتلة أبيه، وكان اجتيازه على الأبلق الفرد، فرآها قلعة حصينة ذاهبة نحو السماء، وكان معه أدراع تركها عند السموأل وديعة وذهب. فبلغ هذا الخبر الحرث بن ظالم الغساني، فسار نحو الأبلق لأخذ الدروع، فامتنع السموأل من تسليمها إليه، فظفر بابن السموأل وكان خارج الحصن يتصيد، فجاء به إلى أسفل الحصن وقال: إن دفعت الدروع إلي وإلا قتلت ابنك! فقال السموأل: لست أخفر ذمتي فاصنع ما شئت! فذبحه والسموأل ينظر إليه وانصرف الملك على يأس! فضرب العرب المثل في الوفاء. وقال السموأل: بنى لي عاديا حصناً حصيناً ... وماءً كلّما شئت استقيت رفيعاً تزلق العقبان عنه ... إذا ما نابني ضيمٌ أبيت وأوصى عاديا قدماً بأن لا ... تهدّم يا سموأل ما بنيت وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوامٌ وفيت أجأ وسلمى جبلان بأرض الحجاز، وبها مسكن طيء وقراهم. موضع نزه كثير المياه والشجر. قيل: أجأ اسم رجل وسلمى اسم امرأة كانا يألفان عند امرأة اسمها معروجا، فعرف زوج سلمى بحالهما فهربا منه، فذهب خلفهما وقتل سلمى على جبل سلمى وأجأ على جبل أجأ، ومعروجا على معروجا، فسميت المواضع بهم، وقال الكلبي: كان على أجأ أنف أحمر كأنه تمثال إنسان يسمونه فلساً، كان طيء يعبدونه إلى عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الإسلام بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب في مائة وخمسين من الأنصار، فكسروا فلساً وهدموا بيته وأسروا بنت حاتم. ينسب إليها أبو سليمان داود بن نصير الطائي الزاهد العابد؛ قيل إنه سمع

امرأة عند قبر تقول: مقيمٌ إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى وأنت قريب تزيد بلىً في كلّ يومٍ وليلةٍ ... وتبقى كما تبلى وأنت حبيب كان ذلك سبب توبته. وقيل: إنه ورث من أبيه أربعمائة درهم، أنفها ثلاثين سنة، وصام أربعين سنة، ما علم أهله أنه صائم. وكان حرازاً يأخذ أول النهار غداءه معه إلى الدكان، ويتصدق به في الطريق، ويرجع آخر النهار يتعشى في بيته، ولا يعلم أهله أنه كان صائماً. وكان له داية قالت: يا أبا سليمان أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية بين أكل الخبز وشرب القنيت أقرأ خمسين آية! وقال حفص بن عمر الجعفي: إن داود الطائي مر بآية يذكر فيها النار فكررها في ليلة مراراً، فأصبح مريضاً، فوجدوه مات ورأسه على لبنة، سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي. وينسب إليها أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، الشاعر المفلق، فاق على كل من كان بعده بفصاحة اللفظ وجزالة المعنى؛ قيل إنه أنشد قصيدته في مدح المعتصم: ما في وقوفك ساعةً من باس ... تقضي ذمام الأربع الدّرّاس فلما انتهى إلى المديح قال: إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ ... في حلم أحنف في ذكاء إياس قال بعض الحاضرين: مه! من هؤلاء حتى تشبه الخليفة بهم؟ فأطرق أبو تمام هنيةً ثم رفع رأسه وقال: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في النّدى والباس فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلاً من المشكاة والنّبراس

فتعجب الخليفة والحاضرون من قدرته على الكلام فولاه الموصل. وحكى البحتري أنه دخل على بعض الولاة، ومدحه بقصيدة قرأها عليه، قال: فلما تممتها قال رجل من الحاضرين: يا هذا أما تستحي تأتي بشعري وتنشده بحضوري؟ قلت: تعني أن هذه القصيدة لك؟ قال: خذها! وجعل يعيدها إلى آخرها. قال: فبقيت لا أرى بعيني شيئاً واسود وجهي، فقمت حتى أخرج فلما شاهد مني تلك الحالة قام وعانقني وقال: الشعر لك وأنت أمير الشعراء بعدي! فسألت عنه، قالوا: هو أبو تمام الطائي. وينسب إليها حاتم الطائي، وكان جواداً شاعراً شجاعاً، إذا قاتل غلب وإذا غنم نهب وإذا سئل وهب، وكان أقسم بالله أن لا يقتل واحد أمه، وكان يقول لعبده يسار إذا اشتد كلب الشتاء: أوقد فإنّ اللّيل ليلٌ قرٌّ ... والرّيح يا واقد ريحٌ صرّ عسى يرى نارك من يمرّ ... إن جاءنا ضيفٌ فأنت حرّ وقالوا: لم يكن يمسك إلا فرسه وسلاحه. وحكي أنه اجتاز في سفره على عترة، فرأى فيهم أسيراً، فاستغاث بحاتم، فاشتراه من العتريين وقام مقامه في القد حتى أدى فكاكه. ومن العجب ما ذكر أن قوماً نزلوا عند قبر حاتم، وباتوا هناك وفيهم رجل يقال له أبو الخيبري، يقول طول ليله: يا حفر اقر أضيافك! فقيل له: مهلاً ما تكلم من رمة بالية! فقال: إن طيئاً يزعم أنه لم ينزل به أحد إلا قراه! فلما نام رأى في نومه كأن حاتماً جاء ونحر راحلته، فلما أصبح جعل يصيح: وا راحلتاه! فقال أصحابه: ما شأنها؟ قال: عقرها حاتم بسيفه والله وأنا أنظر إليها حتى عقرها! فقالوا: لقد قراك! فظلوا يأكلونها واردفوه، فاستقبلهم في اليوم الثاني راكب قارن جملاً، فإذا هو عدي بن حاتم فقال: أيكم أبو الخيبري؟ قالوا: هذا. فقال: إن أبي جاني في النوم وذكر شتمك

ارام

إياه، وأنه قد قرى براحلتك أصحابك، وقال في ذلك أبياتاً وهي هذه: أبا الخيبريّ وأنت امرؤ ... حسود العشيرة شامها لماذا عمدت إلى رمّةٍ ... بدوّيّةٍ صخبٍ هامها تبغي أذاها وإعسارها ... وحولك غوثٌ وأنعامها وإنّا لنطعم أضيافنا ... من الكوم بالسّيف نعتامها وأمرني ببعير لك فدونكه! فأخذه وركبه وذهب مع أصحابه. وقال ابن دارة لما مدح عدياً: أبوك أبو سفّانة الخير لم يزل ... لدن شبّ حتّى مات في الخير راغبا به تضرب الأمثال في النّاس ميتّاً ... وكان له إذ كان حيّاً مصاحبا قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبرٌ قبله قطّ راكبا ارام مدينة بأرض هند، فيها هيكل فيه صنم مضطجم، يسمع منه في بعض الأوقات صفير فيرى قائماً، فإذا فعل ذلك كان دليلاً على الرخص والخصب في تلك السنة، وإن لم يفعل يدل على الجدب، والناس يمتارون من المواضع البعيدة، ذكره صاحب تحفة الغرائب. البحرين ناحية بين البصرة وعمان على ساحل البحر، بها مغاص الدر، ودره أحسن الأنواع، وينتقل إليها قفل الصدف في كل سنة من مجمع البحرين، يحمل الصدف بالدر بمجمع البحرين، ويأتي إلى البحرين ويستوي خلقه ها هنا، وإذا وصل قفل الصدف يهنيء الناس بعضهم بعضاً، وليس لأحد من الملوك مثل

بدر

هذه الغلة، ومن سكن بالبحرين يعظم طحاله وينتفخ بطنه، ولهذا قال الشاعر: ومن سكن البحرين يعظم طحاله ... ويعظم فيها بطنه وهو جائع وبها نوع من البسر، من شرب من نبيذه وعليه ثوب أبيض صبغه عرقه حتى كأنه ثوب أحمر. ينسب إليها القرامطة أبو سعيد وأبو طاهر، خالفوا ملة الإسلام وقتلوا الحجاج ونهبوا سلب الكعبة، وخروجهم سنة خمس وسبعين ومائتين في عهد المعتمد بن المتوكل، وقلعوا الحجر الأسود وأخذوه، وبعث إليهم الخليفة العباس بن عمرو الغنوي في عسكر كثيف قتلوا الجميع، وأسروا العباس ثم أطلقوه وحده حتى يخبر الناس بما جرى عليهم، والحجر الأسود بقي عندهم سنين حتى اشتراه المطيع بالله بأربعة وعشرين ألف دينار ورده إلى مكانه. حكي أن بعض القرامطة قال لبعض علما الإسلام: عجبت من عقولكم! بذلتم مالاً كثيراً في هذا الحجر، فما يؤمنكم انا ما أمسكناه ورددنا إليكم غيره؟ فقال العالم: لنا في ذلك علامة وهي أنه يطفو على الماء ولا يرسب! فألقمه الحجر. بدر موضع بين مكة والمدينة، بها الواقعة المباركة التي كانت بين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمشركين، وحضر فيها الملائكة والجن والانس والمسلمون كلهم. وبها بئر ألقي فيها قتلى المشركين، فدنا منها رسول الله، عليه السلام، وقال: يا عتبة يا شيبة هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل: يا رسول الله هل يسمعون كلامنا؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم. والذي نفسي بيده، لستم بأسمع منهم إلا أنهم لا يقدرون على رد الجواب!

تبت

تبت بلاد متاخمة للصين من إحدى جهاته وللهند من أخرى، مقدار مسافتها مسيرة شهر، بها مدن وعمارات كثيرة، ولها خواص عجيبة في هوائها ومائها وأرضها من سهلها وجبلها، ولا تحصى عجائب أنهارها وثمارها وآبارها. وهي بلاد تقوى بها طبيعة الدم، فلهذا الغالب على أهلها الفرح والسرور، فلا يزال الإنسان بها ضاحكاً فرحاً لا يعرض له الهم والحزن، ولا يكاد يرى بها شيخ حزين أو عجوز كئيبة، بل الطرب في الشيوخ والكهول والشبان عام، حتى يرى ذلك في وجه بهائمهم أيضاً، وفي أهلها رقة طبع وبشاشة وأريحية تبعث على كثرة استعمال الملاهي وأنواع الرقص، حتى ان أحدهم لو مات لا يدخل أهله كثير حزن. وبها معدن الكبريت الأحمر الذي في الدنيا قليل من ظفر به فقد ظفر بمراده. وبها جبل السم، وهو جبل من مر به يضيق نفسه، فإما يموت أو يثقل لسانه. وبها ظباء المسك وانها في صورة ظباء بلادنا، إلا أن لها نابين كنابات الخنازير، وسرتها مسك ولكن مسك ظباء تبت أحسن أنواع المسك، لأن ظباءها ترعى النسبل، وأهل تبت لا يتعرضون للمسك حتى ترميه الغزال، وذلك أنه يجتمع الدم في سرتها مثل الخراج، فإذا تم ذلك الخراج تأخذ الغزال شبه الحكة، فإذا رأت حجراً حاداً تحك به سرتها والدم ينفجر منها، والغزال تجد بذلك لذة فتحك حتى تنصب المادة كلها من السرة وتقع على ذلك الحجر، وأهل تبت يتبعون مراعيها، فإذا وجدوا تلك المادة المنفجرة على الحجر أخذوها وأودعوها النوافج، فإنها أحسن أنواع المسك لبلوغ نضجه، وإن ذلك يكون عند ملوكهم يتهادون به قل ما يقع منه بيد التجار. وبها فارة المسك، وهي دويبة تصاد وتشد سربها شداً وثيقاً، فيجتمع

تكناباذ

فيها الدم ثم يذبحونها ويقورون سرتها ويدفنونها في وسط الشعير أياماً، فيجمد الدم فيها فيصير مسكاً ذكياً بعدما كان نتن الرائحة، وهي أحسن أنواع المسك وأعزها، وأيضاً في بيوتهم جرذان سود لها رائحة المسك ولا يحصل من سرتها شيء ينتفع به. وأهل تبت ترك من نسل يافث بن نوح، عليه السلام، وبها قوم من حمير من نسل من حملهم إليها في زمن التبابعة. تكناباذ ناحية من أعمال قندهار، في جبالها حجر إذا ألقي على النار ونظر إليه شيء من الحيوان، ينتفخ بدنه حتى يصير ضعف ما كان. حكى لي الأمير حسام الدين أبو المؤيد نعمان أن تلك الخاصية في المرة الأولى كراكب البحر، فإنه في المرة الأولى يغشاه الدوار والغشيان، وبعد ذلك لا يكون شيء من ذلك. وقال الأمير أبو المؤيد: حضرت عند بعض الأمراء بتلك الديار، فأحضر عندنا مجمرة عليها عود، فرأيت وجه من كان قاعداً عندي انتفخ وشخصت عيناه وتغير عليه الحال وتهوع، فأمر أم المثوى بإزالة المجمرة متبسماً فرجع صاحبي إلى حاله! قلت له: ما الذي دهمك، فإني رأيت منك على صفة كذا؟ فقال لي: وأنا أيضاً رأيت منك مثل ما رأيت مني! فأخبرتنا أم المثوى أن هذا من خاصية هذا الحجر، وأنا أردت أن أريكم شيئاً عجيباً. جاجلى مدينة بأرض الهند حصينة جداً، على رأس جبل مشرف نصفها على البحر ونصفها على البر. قالوا: ما امتنع على الإسكندر شيء من بلاد الهند إلا هذه المدينة.

جزيرة برطاييل

قال مسعر بن المهلهل: أهل هذه المدينة كلها من الكواكب، يعظمون قلب الأسد، ولهم بيت رصد وحساب ومعرفة بعلم النجوم. وعمل الوهم في طباعهم إذا أرادوا حدوث حادث صرفوا همتهم إليه، وما زالوا به حتى حدث. حكي أن بعض ملوكهم بعث إلى بعض الأكاسرة هدايا فيها صندوقان مقفلان، فلما فتحوهما كان في كل صندوق رجل، قيل: من أنتما؟ قالا: نحن إذا أردنا شيئاً صرفنا همتنا إليه فيكون. فاستنكروا ذلك، فقالا: إذا كان للملك عدو لا يندفع بالسيف فنحن نصرف همتنا إليه فيموت! فقالوا لهما: اصرفا همتكما إلى موتكما. قالا: اغلقوا علينا الباب، فأغلقوا ثم عادوا إليهما فوجدوهما ميتين، فندموا على ذلك وعلموا أن قولهما صحيح. وبهذه المدينة شجرة الدارصيني وهي شجر حر لا مالك له. وأهل هذه المدينة لا يذبحون الحيوان ولا يأكلون السمك ومأكولهم البر والبيض. جزيرة برطاييل جزيرة قريبة من جزائر الزانج، قال ابن الفقيه: سكانها قوم وجوههم كالمجان المطرقة، وشعورهم كأذناب البراذين، وبها الكركدن، وبها جبال يسمع منها بالليل صوت الطبل والدف والصياح المزعجة، والبحريون يقولون: إن الدجال فيها ومنها يخرج. وبها القرنفل ومنها يجلب، وذلك أن التجار ينزلون عليها ويضعون بضائعهم وأمتعتهم على الساحل، ويعودون إلى مراكبهم ويلبثون فيها، فإذا أصبحوا ذهبوا إلى أمتعتهم فيجدون إلى جانب كل شيء من البضاعة شيئاً من القرنفل، فإن رضيه أخذه وترك البضاعة، وإن أخذوا البضاعة والقرنفل لم تقدر مراكبهم على السير حتى يردوا أحدهما إلى مكانه، وإن طلب أحدهم الزيادة فترك البضاعة فترك البضاعة والقرنفل فيزاد له فيه.

جزيرة جابة

وحكى بعض التجار أنه صعد هذه الجزيرة فرأى فيها قوماً مرداً وجوههم كوجوه الأتراك، وآذانهم مخرمة ولهم شعورهم على زي النسا، فغابوا عن بصره، ثم إن التجار بعد ذلك أقاموا يترددون إليها ويتركون البضائع على الساحل، فلم يخرج إليهم شيء من القرنفل، فعلموا أن ذلك بسبب نظرهم إليهم، ثم عادوا بعد سنين إلى ما كانوا عليه. ولباس هذا القوم ورق شجر يقال له اللوف، يأكلون ثمرتها ويلبسون ورقها. ويأكلون حيواناً يشبه السرطان، وهذا الحيوان إذا أخرج إلى البر صار حجراً صلداً، وهو مشهور يدخل في الاكحال، ويأكلون السمك والموز والنارجيل والقرنفل، وهذا القرنفل من أكله رطباً لا يهرم ولا يشيب شعره. جزيرة جابة جزيرة في بحر الهند، فيها قوم شقر وجوههم على صدورهم. وبها جبل عليه نار عظيمة بالليل ودخان عظيم بالنهار، ولا يقدر أحد على الدنو منه، وبها العود والنارجيل والموز وقصب السكر. جزيرة سقطرى جزيرة عظيمة فيها مدن وقرى توازي عدن، يجلب منها الصبر ودم الأخوين، أما الصبر فصمغ شجرة لا توجد إلا في هذه الجزيرة، وكان أرسطاطاليس كاتب الإسكندر يوصيه في أمر هذه الجزيرة لأجل هذا الصبر، الذي فيه منافع كثيرة سيما في الايارجات، فأرسل الإسكندر جمعاً من اليونانيتين إلى هذه الجزيرة، فغلبوا من كان فيها من الهند وسكنوها. فلما مات الإسكندر وظهر المسيح، عليه السلام، تنصروا وبقوا على التنصر إلى هذا الوقت، وهم نسل الحكماء اليونانيين، وليس في الدنيا والله أعلم قوم من نسل اليونانيتين يحفظون أنسابهم غير أولئك، ولا يداخلون فيها

جزيرة السلامط

غيرهم. وطول هذه الجزيرة نحو ثمانين فرسخاً، وفيها عشرة آلاف مقاتل نصارى. جزيرة السلامط جزيرة في بحر الهند يجلب منها الصندل والسنبل والكافور. وبها مدن وقرى وزروع وثمار، وفي بحرها سمكة إذا أدركت ثمار أشجار هذه الجزيرة تصعد السمكة أشجارها وتمص ثمارها مصاً ثم تسقط كالسكران، فيأتي الناس يأخذونها. وحكى صاحب تحفة الغرائب: أن بهذه الجزيرة عيناً فوارة يفور الماء منها وينزل في ثقبة بقربها، فما يبقى من الرشاشات على أطرافها ينعقد حجراً صلداً، فما كان من الرشاشات في اليوم يصير حجراً أبيض، وما كان في الليل يصير حجراً أسود. جزيرة سيلان جزيرة عظيمة بين الصين والهند. دورتها ثمانمائة فرسخ، وسرنديب داخل فيها، وبها قرى ومدن كثيرة وعدة ملوك لا يدين بعضهم لبعض، والبحر عندها يسمى شلاهط، ويجلب منها الأشياء العجيبة. وبها الصندل والسنبل والدارصيني والقرنفل والبقم وسائر العقاقير، وقد يوجد من العقاقير ما لا يوجد في غيرها، وقيل: بها معادن الجواهر، وانها جزيرة كثيرة الخير. جزيرة الشجاع جزيرة عامرة واسعة، بها قرى ومدن وجبال وأشجار، ولبلدانها أسوار عالية، ظهر فيها شجاع عظيم يتلف مواشيهم، وكان الناس منه في شدة شديدة، فجعلوا له كل يوم ثورين وظيفة ينصبونهما قريباً من موضعه، وهو

جزيرة القصر

يقبل كالسحاب الأسود، وعيناه تقدان كالبرق الخاطف، والنار تخرج من فيه فيبلع الثورين ويرجع إلى مكانه، وإن لم يفعلوا ذلك قصد بلادهم وأتلف من الناس والمواشي والمال ما شاء الله، فشكا أهل هذه الجزيرة إلى الإسكندر، فأمر بإحضار ثورين وسلخهما وحشا جلدهما زفتاً وكبريتاً وكلساً وزرنيخاً وكلاليب حديد، وجعلهما مكان الثورين على العادة، فجاء الشجاع وابتلعهما واضطرم الكلس في جوفه، وتعلقت الكلاليب بأحشائه، فرأوه ميتاً فاتحاً فاه، ففرح الناس بموته. جزيرة القصر في بحر الهند، ذكروا أن فيها قصراً أبيض يتراءى للمراكب، فإذا رأوا ذلك تباشروا بالسلامة والربح. قيل: إنه قصر شاهق لا يدرى ما في داخله، وقيل: فيها أموات وعظام كثيرة، وقيل: إن بعض ملوك العجم سار إليها فدخل القصر بأتباعه، فوقع عليهم النوم وخدرت أجسامهم، فبادر بعضهم إلى المراكب وهلك الباقون. وحكي أن ذا القرنين رأى في بعض الجزائر أمة رؤوسهم رؤوس الكلاب، وأنيابهم خارجة من فيهم. خرجوا إلى مراكب ذي القرنين وحاربوها، فرأى نوراً ساطعاً فإذا هو قصر مبني من البلور الصافي، وهؤلاء يخرجون منه، فأراد النزول عليه فمنعه بهرام الفيلسوف الهندي، وعرفه ان من دخل هذا القصر يقع عليه النوم والغشي، ولا يستطيع الخروج فيظفر به هؤلاء، والبحر لا تحصى عجائبه. الحجاز حاجز بين اليمن والشام وهو مسيرة شهر، قاعدتها مكة، حرسها الله تعالى، لا يستوطنها مشرك ولا ذمي، كانت تقام للعرب بها أسواق في الجاهلية

كل سنة، فاجتمع بها قبائلهم يتفاخرون ويذكرون مناقب آبائهم وما كان لهم من الأيام، ويتناشدون أشعارهم التي أحدثوا. وكانت العرب إذا أرادت الحج أقامت بسوق عكاظ شهر شوال، ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يوماً من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجار فتقيم فيه إلى الحج، والعرب اجتمعوا في هذه المواسم، فإذا رجعوا إلى قومهم ذكروا لقومهم ما رأوا وما سمعوا. عن ابن عباس، رضي الله عنه، ان وفد اياد قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أيكم يعرف قس بن ساعدة؟ قالوا: كلنا نعرفه. قال: ما فعل؟ قالوا: هلك! فقال، صلى الله عليه وسلم: ما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام على حمل أورق وهو يخطب الناس ويقول: أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبراً: سحائب تمور ونجوم تغور في فلك يدور. ويقسم قس قسماً ان لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا! ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ ارضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا؟ ثم قال: أيكم يروي شعره؟ فقال أبو بكر: أنا أحفظه يا رسول الله؛ فقال: هات، فأنشد: في الذّاهبين الأوّلين من القرون لنا بصائر لمّا رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها تمضي الأكابر والأصاغر أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر لا يرجع الماضي ولا يبقى من الباقين غابر قال ابن عباس، رضي الله عنه: ذكر قس بين يدي النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: رحم الله قساً، إني لأرجو أن يأتي أمة واحدة.

حكى رجل من ثقيف انه رأى بسوق عكاظ رجلاً قصير القامة، على بعير في حجم شاة، وهو يقول: أيها الناس هل فيكم من يسوق لنا تسعاً وتسعين ناقة، ينطلق بها إلى أرض وبار فيؤديها إلى حماله صبار؟ قال: فاجتمع الناس عليه يتعجبون منه ومن كلامه وبعيره. فلما رأى ذلك عمد إلى بعيره وارتفع في الهواء، ونحن ننظر إليه إلى أن غاب عن أعيننا. ويكثر لأهل الحجاز الجذام لفرط الحرارة، يحرق أخلاطهم فيغلب على مزاجهم السوداء، سوى أهل مكة فإن الله كفاهم ذلك. وبها أشجار عجيبة كالدوم، وهو شجر المقل، قيل: إنها شجر النارجيل في غير الحجاز والعنم، ولها ثمرة طويلة حمراء تشبه أصابع العذارى، والاسحل شجر المساويك والكنهبل والبشام؛ قالوا: هو شجر البلسان بمصر والرتم والضال والسمر والسلع. وبها جبل الحديد وهو في ديار بجيلة، ويسمى جبل الحديد إما لصلابة حجره أو لأنه معدن الحديد. أسرت بجيلة تأبط شراً فاحتال عليهم حيلة عجيبة، وذاك أن تأبط شراً وعمرو بن براق والشنفرى خرجوا يرون بجيلة، فبدرت بهم بجيلة فابتدر ستة عشر غلاماً من سرعانهم وقعدوا على ما لهم، وأنذر تأبط شراً بخروج القوم لطلبة، فشاور صاحبيه فرجعوا إلى قلة هذا الجبل، وإنه شاهق مشمخر، وأقاموا حتى يضجر القوم وينصرفوا، فلما كان اليوم الثالث قالا لتأبط شراً: رد بنا وإلا هلكنا عطشاً! فقال لهما: البثا هذا اليوم فما للقوم بعد اليوم مقام. فأبيا وقالا له: هلكنا فرد بنا وفينا بقية. قال: هبطا. فلما قربوا من الماء أصغى تأبط شراً وقال لصاحبيه: إني لأونس وحبيب قلوب الرصد على الماء! قالا: وجيب قلبك يا تأبط! قال: كلا ما وجب وما كان وجاباً، ولكن رد يا عمرو واستنقض الموضع وعد إلينا. فورد وصدر ولم ير أحداً، فقال: ما على الماء أحد. فقال تأبط شراً. بلى ولكنك غير مطلوب. ثم قال: رد

يا شنفرى واستنقض الموضع وعد. فورد الشنفرى وشرب وصدر وقال: ما رأيت على الماء أحداً. قال تأبط شراً: بلى ما يريد القوم غيري! فسر يا شنفرى حتى تكون من خلفهم بحيث لا يرونك وأنت تراهم، فإني سأرد فأؤخذ وأكون في أيديهم فابدلهم يا عمرو حتى يطمعوا فيك، فإذا اشتدوا عليك ليأخذوك وبعدوا عني فابدر يا شنفرى حل عني، وموعدنا قلة جبل الحديد حيث كنا، وورد تأبط شراً وشرب الماء فوثب عليه القوم وأخذوه وشدوا وثاقه، فقال تأبط شراً: يا بجيلة إنكم لكرام فهل لكم أن تمنوا علي بالفداء وعمرو بن براق فتى فهم وجميلها على أن تأسرونا أسر الفداء وتؤمنونا من القتل، ونحن نحالفكم ونكون معكم على أعدائكم، وينشر هذا من كرمكم بين أحياء العرب؟ قالوا: أين عمرو؟ قال: ها هو معي قد أخره الظمأ وخلفه الكلال! فلم يلبث حتى أشرف عمرو في الليل، فصاح به تأبط شراً: يا عمرو إنك لمجهود فهل لك أن تمكن من نفسك قوماً كراماً يمنون عليك بالفداء؟ قال عمرو: أما دون أن أجرب نفسي فلا. ثم عدا فلا ينبعث، فقال تأبط شراً: يا بجيلة دونكم الرجل فإنه لا بصر له على السعي، وله ثلاث لم يطعم شيئاً! فعدوا في أثره فأطمعهم عمرو عن نفسه حتى أبعدهم، وخرج الشنفرى وحل تأبط شراً وخرجا يعدوان ويصيحان: يعاط يعاط! وهي شعار تأبط شراً، فسمع عمرو أنه نجا، واستمر عدواً وفات أبصارهم واجتمعوا على قلة الجبل ونجوا ثم عادوا إلى قومهم، فقال تأبط شراً في تلك العدوة: يا طول ليلك من همٍّ وإبراق ... ومرّ طيف على الأهوال طرّاق تسري على الأين والحبّاب مختفياً ... أحبب بذلك من سارٍ على ساق لتقرعنّ عليّ السّنّ من ندمٍ ... إذا تذكّرن مني بعض أخلاق نجوت فيها نجاتي من بجيلة إذ ... رفعت للقوم يوم الرّوع أرفاقي

لمّا تنادوا فأغروا بي سراعهم ... بالعيلتين لدى عمرو بن برّاق لا شيء أسرع مني ليس ذا عذرٍ ... ولا جناح دوين الجوّ خفّاق أو ذي حيودٍ من الأروى بشاهقةٍ ... وأمّ خشفٍ لدى شثٍّ وطبّاق حتى نجوت ولمّا يأخذوا سلبي ... بوالهٍ من قنيص الشّدّ غيداق وقلّةٍ كشباة الرّمح باسقةٍ ... ضحيانةٍ في شهور الصّيف مخراق بادرت قلتّها صحبي وقد لعبوا ... حتى نميت إليها قبل إشراق ولا أقول إذا ما خلّةٌ صرمت: ... يا ويح نفسي من جهدي وإشفاقي! لكنّما عولي إن كنت ذا عولٍ ... على ضروبٍ بحدّ السّيف سبّاق سبّاق عاديةٍ فكّاك عانيةٍ ... قطّاع أوديةٍ جوّاب آفاق! وبها جبل رضوى، وهو جبل منيف ذو شعاب وأودية يرى من البعد أخضر، وبه مياه وأشجار كثيرة، زعم الكيسانية أن محمد بن الحنفية مقيم به، وهو حي بين يدي أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، ويعود بعد الغيبة يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وهو المهدي المنتظر، وإنما عوقب بهذا الحبس لخروجه على عبد الملك بن مروان، وقلبه على يزيد بن معاوية، وكان السيد الحميري على هذا المذهب، ويقول في أبيات: ألا قل للوصيّ: فدتك نفسي! ... أطلت بذلك الجبل المقاما ومن جبل رضوى يقطع حجر المسن ويحمل إلى البلاد. وبها جبل السراة؛ قال الحازمي: إنها حاجزة بين تهامة واليمن، وهي عظيمة الطول والعرض والامتداد، ولهذا قال الشاعر: سقوني وقالوا: لا تغنّ! ولو سقوا ... جبال السّراة ما سقيت لغنّت قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الناس أهل السروات، أولها هذيل ثم

بجيلة ثم الأزد أزد شنوءة. وإنها كثيرة الأهل والعيون والأنهار والأشجار، وبأسفلها أودية تنصب إلى البحر، وكل هذه الجبال تنبت القرظ، وفيها الأعناب وقصب السكر والاسحل، وفيه معدن البرام يحمل منه إلى سائر البلاد. وبها جبل قنا، وهو جبل عظيم شامخ، سكانه بنو مرة من فزارة وحظ صاحبة قنا مشهور؛ قال الشاعر: أصبت ببرّةٍ خيراً كثيراً ... كأخت قنا به من شعر شاعر وهو ما ذكر أن نصيباً الشاعر اجتاز بقنا، ووقف على باب يستسقي، فخرجت إليه جارية بلبن أو ماء وسقته، وقالت له: شبب بي! فقال لها: ما اسمك؟ قالت: هند. فأنشأ يقول: أحبّ قناً من حبّ هندٍ ولم أكن ... أبالي أقرباً زاده الله أم بعدا؟ أروني قناً أنظر إليه فإنّني ... أحبّ قناً إنّي رأيت به هندا! فشاع هذا الشعر وخطبت الجارية وأصابت خيراً بسبب شعر نصيب. وبها جبل يسوم في بلاد هذيل قرب مكة، لا يكاد أحد يرتقيه ولا ينبت غير النبع والشوحط، تأوي إليه قرود تفسد قصب السكر في جبال السراة، وأهل جبال السراة من تلك القرود في بلاء وشدة عظيمة، لا يمكنهم دفعها لأن مساكنها لا تنال. وفي الأمثال: الله أعلم بمن حطها عن رأس يسوم؛ قيل: إن رجلاً نذر ذبح شاة، فمر بيسوم فرأى فيه راعياً فاشترى منه شاةً وأنزلها من الجبل، وأمر الراعي بذبحها وتفريقها عنه وولى. فقيل له: إن الراعي يذبحها لنفسه! فقال: الله اعلم بمن حطها عن رأس يسوم. وبها عين ضارج، عين في برية مهلكة بين اليمن والحجاز في موضع لا مطمع للماء فيه. حدث إبراهيم بن إسحاق الموصلي أن قوماً من اليمن

الحجر

أقبلوا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فضلوا الطريق ومكثوا ثلاثاً لم يجدوا ماء وأيسوا من الحياة، إذ أقبل راكب على بعير له، وكان بعضهم ينشد: ولما رأت أن الشّريعة همّها ... وأنّ البياض من فرائصها دامي تيمّمت العين التي عند ضارجٍ ... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي فقال الراكب: من قائل هذا الشعر؟ قالوا: امرؤ القيس. قال: والله ما كذب! هذا ضارج، وأشار إليه فحثوا على ركبهم فإذا ماء عذب وعليه العرمض والظل يفيء عليه، فشربوا ريهم وحملوا ما اكتفوا، فلما أتوا رسول الله قالوا: يا رسول الله أحيانا الله ببيتين من شعر امريء القيس، وأنشدوا فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة ومعه لواء الشعراء إلى النار. وبها عين المشقق. المشقق: اسم واد بالحجاز، وكان به وشل يخرج منه ماء يروي الراكبين أو الثلاثة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك: من سبقنا الليلة إليه فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتيه. فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه النبي، عليه السلام، لم ير فيه شيئاً، فقال: أولم أنهكم أن تستقوا منه شيئاً؟ ثم تزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده من الماء فنضحه به ومسحه بيده المباركة، ودعا بما شاء أن يدعو ربه فانخرق من الماء ما سمع له حس كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم، فقال، صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي أحد منكم ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخضر، ما بين يديه وما خلفه، وكان كما قال، صلى الله عليه وسلم. الحجر ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام، قال الاصطخري: هي قرية من وادي القرى على يوم بين جبال، بها كانت منازل ثمود الذين قال الله تعالى

خط

فيهم: وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين. قال: رأيتها بيوتاً مثل بيوتنا في جبال تسمى الاثالث، وهي جبال إذا رآها الرائي من بعد ظنها متصلة، فإذا توسطها رأى كل قطعة منها منفردة بنفسها، يطوف بكل قطعة منها الطائف وحواليها رمل لا يكاد يرتقى ذروتها. بها بئر ثمود التي كان شربها بين القوم وبين الناقة، ولما سار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى تبوك أتى على منازل ثمود، وأرى أصحابه الفج الذي كانت الناقة منه ترد الماء، وأراهم ملتقى الفصيل في الجبل، وقال، عليه السلام، لأصحابه: لا يدخلن أحدكم القرية ولا يشربن من مائها ولا يتوضأ منه، وما كان من عجين فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرج الليلة أحد إلا مع صاحبه. ففعل الناس ذلك إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لطلب بعير له والآخر لقضاء حاجته، فالذي خرج لحاجته أصابه جنون، والذي خرج لطلب البعير احتملته الريح، فأخبر بهما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد إلا مع صاحبه؟ فدعا لمن أصابه جنون فشفي، وأما الذي احتملته الريح فأهدته طيء إلى رسول الله، عليه السلام، بعد عوده إلى المدينة. فأصبح الناس بالحجر ولا ماء معهم، فشكوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا الله تعالى فأرسل سحابة فأمطرت حتى روي الناس. خط قرية باليمن يقال لها خط هجر، تنسب إليها الرماح الخطية، وهي أحسن أنواع خفةً وصلابةً وتثقيفاً، تحمل إليها من بلاد الهند، والصناع بها يثقفونها أحسن التثقيف.

خيبر

خيبر حصون على ثمانية برد من المدينة لمن أراد الشام، ذات مزارع ونخيل كثيرة، وهي موصوفة بكثرة الحمى ولا تفارق الحمى أهلها. وكان أهلها يهوداً يزعمون ان من أراد دخول خيبر على بابها يقف على أربعه، وينهق نهيق الحمار عشر مرات لا تضره حمى خيبر، ويسمى ذلك تعشيراً، والمعنى فيه أن الحمى ولوع بالناس واني حمار. وحكى الهيثم بن عدي ان عروة الصعاليك وأصحابه قصدوا خيبر يمتارون بها، فلما وصلوا إلى بابها عشروا خوفاً من وباء خيبر، وأبى عروة الصعاليك أن يعشر وقال: وقالوا: أجب وانهق لا يضرّك خيبرٌ ... وذلك من دين اليهود ولوع لعمري إن عشّرت من خشية الرّدى ... نهاق الحمير إنّني لجزوع فكيف وقد ذكيّت واشتدّ جانبي ... سليمى وعندي سامعٌ ومطيع لسانٌ وسيفٌ صارمٌ وحفيظةٌ ... وراءٌ كآراء الرّجال صروع يخوّفني ريب المنون وقد مضى ... لنا سلفٌ قيسٌ لنا وربيع وحكي ان اعرابياً قدم خيبر بعيال كثير فقال: قلت لحمّى خيبرٍ استعدّي ... هناك عيالي فاجهدي وجدّي وباكري بصالبٍ وورد ... أعانك الله على ذا الجند فحم ومات وبقي عياله. رحا بطان موضع بالحجاز، زعم تأبط شراً انه لقي الغول هناك ليلاً، وجرى بينه وبينها محاربة، وفي الأخير قتلها وحمل رأسها إلى الحي، وعرضها عليهم حتى

زغر

عرفوا شدة جأشه وقوة جنانه، وهو يقول: ألا من مبلغٌ فتيان فهمٍ ... بما لاقيت عند رحا بطان فإني قد لقيت الغول تهوي ... بسهبٍ كالصّحيفة صحصحان فقلت لها: كلانا نضو دهرٍ ... أخو سفرٍ فخلّي لي مكاني فشدّت شدّةً نحوي فأهوى ... لها كفّي بمصقولٍ يمان فأضربها بلا دهشٍ فخرّت ... صريعاً لليدين وللجران فقالت: عد! فقلت لها: رويداً ... مكانك إنّني ثبت الجنان فلم أنفكّ متّكئاً لديها ... لأنظر مصبحاً ماذا أتاني إذا عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأس الهرّ مشقوق اللّسان وساقا مخدجٍ وشواة كلبٍ ... وثوبٌ من عباءٍ أو شنان زغر قرية بينها وبين بيت المقدس ثلاة أيام في طرف البحيرة المنتنة، وزغر اسم بنت لوط، عليه السلام، نزلت بهذه القرية فسميت باسمها، وهي في واد وخم ردي في أشأم بقعة، يسكنها أهلها بحب الوطن، ويهيج بهم الوباء في بعض الأعوام فيفني جلهم. بها عين زغر وهي العين التي ذكر أنها تغور في آخر الزمان، وغورها من اشراط الساعة، جاء ذكرها في حديث الجساسة؛ قال البشاري: زغر قتالة للغرباء، من أبطأ عليه ملك الموت فليرحل إليها، فإنه يجده بها قاعداً بالرصد، وأهلها سودان غلاظ، ماؤها حميم وهواؤها جحيم، إلا أنها البصرة الصغرى والمتجر المربح، وهي من بقية مدائن قوم لوط، وإنما نجت لأن أهلها لم يكونوا آتين بالفاحشة.

زويلة

زويلة مدينة بإفريقية غير مسورة في أول حدود السودان، ولأهلها خاصية عجيبة في معرفة آثار القدم، ليس لغيرهم تلك الخاصية، حتى يعرفون أثر قدم الغريب والبلدي، والرجل والمرأة، واللص والعبد الآبق والأمة، والذي يتولى احتراس المدينة يعمد إلى دابة يشد عليها حزمة من جرائد النخل، بحيث ينال سعفه الأرض ثم يدور به حول المدينة، فإذا أصبح ركب ودار حول المدينة، فإن رأى أثراً خارجاً تبعه حتى أدركه أينما توجه. وقد بنى عبد الله المهدي، جد خلفاء مصر، إلى جانب زويلة مدينة أخرى سماها المهدية، بينهما غلوة سهم. كان يسكن هو وأهله بالمهدية، وأسكن العامة في زويلة، وكانت دكاكينهم وأموالهم بالمهدية، وبزويلة مساكنهم، فكانوا يدخلون بالنهار زويلة للمعيشة، ويخرجون بالليل إلى أهاليهم، فقيل للمهدي: إن رعيتك في هذا في عناء! فقال: لكن أنا في راحة لأني بالليل أفرق بينهم وبين أموالهم، وبالنهار أفرق بينهم وبين أهاليهم، فآمن غائلتهم بالليل والنهار! السند ناحية بين الهند وكرمان وسجستان؛ قالوا: السند والهند كانا أخوين من ولد توقير بن يقطن بن حام بن نوح، عليه السلام. بها بيت الذهب؛ قال مسعر بن مهلهل: مشيت إلى بيت الذهب المشهور بها فإذا هو من ذهب في صحراء، يكون أربعة فراسخ لا يقع عليها الثلج ويثلج ما حولها، وفي هذا البيت ترصد الكواكب، وهو بيت تعظمه الهند والمجوس، وهذه الصحراء تعرف بصحراء زردشت نبي المجوس، ويقول أهل تلك الناحية: متى يخرج منه إنسان يطلب دولة لم يغلب ولا يهزم له عسكر حيث أراد.

سومناة

وحكي أن الإسكندر لما فتح تلك البلاد ودخل هذا البيت أعجبه، فكتب إلى أرسطاطاليس وأطنب في وصف قبة هذا البيت فأجابه أرسطو: إني رأيتك تتعجب من قبة عملها الآدميون، وتدع التعجب من هذه القبة المرفوعة فوقك، وما زينت به من الكواكب وأنوال الليل والنهار! وسأل عثمان بن عفان عبد الله بن عامر عن السند فقال: ماؤها وشل، وتمرها دقل، ولصها بطل! إن قل الجيش بها ضاعوا وإن كثروا جاعوا! فترك عثمان غزوها. وبها نهر مهران، وهو نهر عرضه كعرض دجلة أو أكثر، يقبل من المشرق آخذاً إلى الجنوب متوجهاً نحو المغرب، ويقع في بحر فارس أسفل السند؛ قال الاصطخري: نهر مهران يخرج من ظهر جبل يخرج منه بعض أنهار جيحون، ثم يظهر بناحية ملتان على حد سمندور، ثم على المنصورة ثم يقع في البحر شرقي الديبل، وهو نهر كبير عذب جداً، وان فيه تماسيح كما في نيل مصر، وقيل: إن تماسيح نهر السند أصغر حجماً وأقل فساداً. وجري نهر السند كجري نهر النيل، يرتفع على وجه الأرض ثم ينصب، فيزرع عليه كما يزرع بأرض مصر على النيل. سومناة بلدة مشهورة من بلاد الهند على ساحل البحر بحيث تغلبه أمواجه. كان من عجائبها هيكل فيه صنم اسمه سومناة، وكان الصنم واقفاً في وسط هذا البيت لا بقائمة من أسفله تدعمه، ولا بعلاقة من أعلاه تمسكه، وكان أمر هذا الصنم عظيماً عند الهند، من رآه واقفاً في الهواء تعجب، مسلماً كان أو كافراً، وكانت الهند يحجون إليه كل ليلة خسوف، يجتمع عنده ما يزيد على مائة ألف إنسان، وتزعم الهند أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه وهو ينشئها في من شاء، كما هو مذهب أهل التناسخ، وان المد والجزر عبادة

البحر له. وكانوا يحملون إليه من الهدايا كل شيء نفيس، وكان له من الوقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية. ولهم نهر يعظمونه، بينه وبين سومناة مائتا فرسخ، يحمل ماؤها إلى سومناة كل يوم ويغسل به البيت، وكانت سدنته ألف رجل من البراهمة لعبادته وخدمة الوفود، وخمسمائة أمة يغنين ويرقصن على باب الصنم، وكل هؤلاء كانت أرزاقهم من أوقاف الصنم، وأما البيت فكان مبنياً على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وكانت قبة الصنم مظلمة وضوءها كان من قناديل الجوهر الفائق، وعنده سلسلة ذهب وزنها مائتا من، كلما مضت طائفة من الليل حركت السلسلة فتصوت الأجراس فتقوم طائفة من البراهمة للعبادة. حكي أن السلطان يمين الدولة، محمود بن سبكتكين، لما غزا بلاد الهند سعى سعياً بليغاً في فتح سومناة وتخريبها، طمعاً بدخول الهند في الإسلام، فوصل إليها منتصف ذي القعدة سنة ست عشرة وأربعمائة، فقاتل الهنود عليها أشد القتال، وكان الهند يدخلون على سومناة ويبكون ويتضرعون، ثم يخرجون إلى القتال فقوتلوا حتى استوعبهم الفناء، وزاد عدد القتلى على خمسين ألفاً، فرأى السلطان ذلك الصنم وأعجبه أمره وأمر بنهب سلبه وأخذ خزانته، فوجدوا أصناماً كثيرة من الذهب والفضة وستوراً مرصعة بالجواهر، كل واحد منها بعث عظيم من عظماء الهند. وكانت قيمة ما في بيوت الأصنام أكثر من عشرين ألف دينار. ثم قال السلطان لأصحابه: ماذا تقولون في أمر هذا الصنم ووقوفه في الهواء بلا عماد وعلاقة؟ فقال بعضهم: إنه علق بعلاقة وأخفيت العلاقة عن النظر، فأمر السلطان شخصاً أن يذهب إليه برمح، ويدور به حول الصنم وأعلاه وأسفله، ففعل وما منع الرمح شيء. وقال بعض الحاضرين: إني أظن أن القبة من حجر المغناطيس، والصنم من الحديد، والصانع بالغ في تدقيق صنعته، وراعى تكافؤ قوة المغناطيس من الجوانب، بحيث لا تزيد قوة جانب على الجانب الآخر، فوقف

صنف

الصنم في الوسط، فوافقه قوم وخالفه آخرون. فقال للسلطان: ائذن لي برفع حجرين من رأس القبة ليظهر ذلك، فأذن له فلما رفع حجرين اعوج الصنم ومال إلى أحد الجوانب، فلم يزل يرفع الأحجار والصنم ينزل حتى وقع على الأرض. صنف موضع بالهند أو الصين ينسب إليه العود الصنفي، وهو أردأ أصناف العود، ليس بينه وبين الحطب إلا فرق يسير. صيمور مدينة بأرض الهند قريبة بناحية السند لأهلها حظ وافر في الجمال والملاحة لكونهم متولدين من الترك والهند، وهم مسلمون ونصارى ويهود ومجوس، ويخرج إليها تجارات الترك، وينسب إليها العود الصيموري. بها بيت الصيمور، وهو هيكل على رأس عقبة عظيمة عندهم، ولها سدنة وفيها أصنام من الفيروزج والبيجاذق يعظمونها. وفي المدينة مساجد وبيع وكنائس وبيت النار، وكفارها لا يذبحون الحيوان ولا يأكلون اللحم ولا السمك ولا البيض، وفيهم من يأكل المتردية والنطيحة دون ما مات حتف أنفه. أخبر بذلك كله مسعر بن مهلهل، صاحب عجائب البلدان، وانه كان سياحاً دار البلاد وأخبر بعجائبها. الطائف بليدة على طرف واد، بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخاً، طيبة الهواء شمالية، ربما يجمد الماء بها في الشتاء. قال الأصمعي: دخلت الطائف وكأني أبشر وقلبي ينضح بالسرور، ولم أجد لذلك سبباً إلا انفساح جوها وطيب نسيمها.

بها جبل عروان يسكنه قبائل هذيل، وليس بالحجاز موضع أبرد من هذا الجبل، ولهذا اعتدال هواء الطائف، ويجمد الماء به وليس في جميع الحجاز موضع يجمد الماء به إلا جبل عروان. ويشق مدينة الطائف واد يجري بينها يشقها، وفيها مياه المدابغ التي يدبغ فيها الأديم، والطير تصرع إذا مرت بها من نتن رائحتها. وأديمها يحمل إلى سائر البلدان، ليس في شيء من البلاد مثله. وفي أكنافها من الكروم والنخيل والموز وسائر الفواكه، ومن العنب العدي ما لا يوجد في شيء من البلاد، وأما زبيبها فيضرب بحسنه المثل. بها وج الطائف، وإنها واد نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن أخذ صيدها واختلاء حشيشها. بها حجر اللات تحت منارة مسجدها، وهو صخرة كان في قديم الزمان يجلس عليه رجل يلت السويق للحجيج، فلما مات قال عمرو بن لحي: إنه لم يمت لكن دخل في هذه الصخرة! وأمر قومه بعبادة تلك الصخرة، وكان في اللات والعزى شيطانان يكلمان الناس، فاتخذت ثقيف اللات طاغوتاً وبنت لها بيتاً وعظمته وطافت به، وهي صخرة بيضاء مربعة، فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا سفيان بن حرب ومغيرة بن شعبة فهدماه، والحجر اليوم تحت منارة مسجد الطائف. وبها كرم الرهط، كرم كان لعمرو بن العاص معروشاً على ألف ألف خشبة، شري كل خشبة درهم، فلما حج سليمان بن عبد الملك أحب أن ينظر إليه، فلما رآه قال: ما رأيت لأحد مثله لولا أن هذه الحرة في وسطه! قالوا: ليس بحرة بل مسطاح الزبيب. وكان زبيبه جمع في وسطه ليجف، فرآه من بعيد فظنه حرة. وبها سجن عارم، وهو الحبس الذي حبس فيه عبد الله بن الزبير محمد ابن الحنفية، يزوره الناس ويتبركون به سيما الشيعة، سيما الكيسانية؛ قال

كثير يخاطب ابن الزبير: يخبّر من لاقيت أنّك عائدٌ ... بل العائد المحبوس في سجن عارم ومن يلق هذا الشّيخ بالخيف من منى ... من النّاس يعلم أنّه غير ظالم سميّ النبيّ المصطفى وابن عمّه ... وفكّاك أغلالٍ وقاضي مغارم أبى هو لا يشري هدىً بضلالةٍ ... ولا يتّقي في الله لومة لائم فما نعمة الدّنيا بباقٍ لأهله ... ولا شدّة البلوى بضربة لازم وينسب إليها الحجاج بن يوسف الثقفي من فحول الرجال، كان أول أمره معلماً لوشاقية سليمان بن نعيم، وزير عبد الملك بن مروان، وكان فصيحاً شاطراً، قال عبد الملك لوزيره: إني إذا ترحلت يتخلف مني أقوام، أريد شخصاً يمنع الناس عن التخلف. فاختار الوزير الحجاج لذلك، فرأى في بعض الأيام أن الخليفة قد رحل وتخلف عنه قوم من أصحاب الوزير، فأمرهم بالرحيل فامتنعوا وشتموه في أمه وأخته، فأخذ الحجاج النار وأضرمها في رحل الوزير، فانتهى الخبر إلى عبد الملك فأحضر الحجاج وقال: لم أحرقت رحل الوزير؟ فقال: لأنهم خالفوا أمرك! فقال للحجاج: ما عليك لو فعلت ذلك بغير الحرق؟ فقال الحجاج: وما عليك لو عوضته من ذلك ولا يخالف أحد بعد هذا أمرك! فأعجب الخليفة كلامه وما زال يعلو أمره حتى ولي اليمن واليمامة، ثم استعمل على العراق سنة خمس وسبعين. وكان أهل العراق كل من جاءهم والياً استخفوا به وضحكوا منه، وإذا صعد المنبر رموه بالحصاة؛ فبعث عبد الملك إليهم الحجاج، فلما صعد المنبر متلثماً وكان قصير القامة ضحكوا منه، فعرف الحجاج ذلك فأقبل عليهم وقال: أنا ابن جلا وطلاّع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني إن أمير المؤمنين نثل كنانته فوجدني أصلبها عوداً فرماكم بي، واني أرى

رؤوساً دنا أوان حصادها، وأنا الذي أحصدها. فدخل القوم منه رعب، فما زال بهم حتى أراهم الكواكب بالنهار. ولما بنى واسط عد في حبسه ثلاثة وثلاثون ألف إنسان، حبسوا بلا دم ولا تبعة ولا دين، ومات في حبسه واحد وعشرون ألفاً صبراً، ومن قتله بالسيف فلا يعد ولا يحصى! وقال يوماً على المنبر في خطبته: أتطلبون مني عدل عمر ولستم كرعية عمر؟ وإنما مثلي لمثلكم كثير، لبئس المولى ولبئس العشير! وكان في مرض موته يقول: يا ربّ قد زعم الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنّني من ساكني النّار أيحلفون على عمياء؟ ويحهم ... ما علمهم بعظيم العفو غفّار؟ وحكى عمر بن عبد العزيز أنه رأى الحجاج في المنام بعد مدة من موته، قال: فرأيته على شكل رماد على وجه الأرض، فقلت له: أحجاج؟ قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل من قتلته مرةً مرةً، وبسعيد بن جبير سبعين مرة، وأنا أرجو ما يرجوه الموحدون! وينسب إلى الطائف سعيد بن السائب، كان من أولياء الله وعباد الله الصالحين، نادر الوقت عديم النظير، وكان الغالب عليه الخوف من الله تعالى لا يزال دمعه جارياً، فعاتبه رجل على كثرة بكائه فقال له: إنما ينبغي أن تعاتبني على تقصيري وتفريطي لا على بكائي! وقال له صديق له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أنتظر الموت على غير عدة! وقال سفيان الثوري: جلسنا يوماً نحدث ومعنا سعيد بن السائب، وكان يبكي حتى رحمه الحاضرون، فقلت له: يا سعيد لم تبكي وأنت تسمع حديث أهل الخير؟ فقال: يا سفيان ما ينفعني إذا ذكرت أهل الخير وأنا عنهم بمعزل؟

طيفند

طيفند قلعة في بلاد الهند منيعة، على قلة جبل ليس لها إلا مصعد واحد، وعلى رأس الجبل مياه ومزارع وما احتاجوا إليه، غزاها يمين الدولة محمود بن سبكتكين سنة أربع عشرة وأربعمائة، وحاصرها زماناً وضيق على أهلها، وكان عليها خمسمائة قيل فطلبوا الأمان فآمنهم، وأقر صاحبها فيها على خراج، فأهدى صاحب القلعة إلى السلطان هدايا كثيرة، منها طائر على هيئة القمري، خاصيته إذا أحضر الطعام وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء وتحجر، فإذا تحجر سحق وجعل على الجراحات الواسعة الحمها، وهذا الطائر لا يوجد إلا في ذلك الموضع ولا يتفرج إلا فيه. عدن مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، سميت بعدن بن سنان بن إبراهيم، عليه السلام، لا ماء بها ولا مرعى، شربهم من عين بينها وبين عدن مسيرة يوم، وكان عدن فضاء في وسط جبل على ساحل البحر، والفضاء يحيط به الجبل من جميع الجوانب، فقطع لها باب بالحديد في الجبل فصار طريقاً إلى البر. وإنها مرفأ مراكب الهند وبلدة التجار ومرابح الهند، فلهذا يجتمع إليها الناس ويحمل إليها متاع الهند والسند والصين والحبشة وفارس والعراق، وقال الاصطخري: بها مغاص اللؤلؤ. بها جبل النار وهو جبل أحمر اللون جداً في وسط البحر؛ قالوا: هو الجبل الذي تخرج منه النار التي هي من اشراط الساعة، وسكان عدن يزعمون أنهم من نسل هارون، عليه السلام، وهم المربون. وبها البئر المعطلة التي ذكرها الله تعالى في القرآن. ومن حديثها أن قوم

فاس

صالح، عليه السلام، بعد وفاته تفرقوا بفلسطين، فلحقت فرقة منهم بعدن، وكانوا إذا حبس عنهم المطر عطشوا وحملوا الماء من أرض بعيدة، فأعطاهم الله بئراً فتعجبوا بها وبنوا عليها أركاناً على عدد القبائل، كان لكل قبيلة فيها دلو. وكان لهم ملك عادل يسوسهم، فلما مات حزنوا عليه فمثل لهم الشيطان صنماً على صورة ذلك الملك، وكلم القوم من جوف الصنم: إني ألبسني ربي ثوب الالهية والآن لا آكل ولا أشرب، وأخبركم بالغيوب فاعبدوني فإني أقربكم إلى ربكم زلفى! ثم كان الصنم يأمرهم وينهاهم فمال إلى عبادة الصنم جميعهم، فبعث الله إليهم نبياً فكذبوه، فقال لهم نبيهم: إن لم تتركوا عبادة الصنم يغور ماء بئركم! فقتلوه فأصبحوا لم يجدوا في البئر قطرة ماء. فمضوا إلى الصنم فلم يكلمهم الشيطان لما عاين نزول ملائكة العذاب، فأتتهم صيحة فأهلكوا، فأخبر الله تعالى عنهم وعن أمثالهم: وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد. والقصر المشيد بحضرموت وقد مر ذكره، ويقال: إن سليمان بن داود، عليه السلام، حبس المردة مصفدين في هذه البئر وهي محبسهم. فاس مدينة كبيرة مشهورة في بلاد بربر على بر المغرب بين ثنيتين عظيمتين، والعمارة قد تصاعدت حتى بلغت مستواها، وقد تفجرت كلها عيوناً تسيل إلى قرارة إلى نهر منبسط إلى الأرض ينساب إلى مروج خضر، وعليها داخل المدينة تمائة رحىً، ولها قهندز في أرفع موضع منها، ويسقيها نهر يسمى المفروش. قال أبو عبيد البكرى: فاس منقسمة قسمين، وهي مدينتان مسورتان، يقال لإحداهما عدوة القروبيين وللأخرى عدوة الأندلسيين، وفي كل دار جدول ماء وعلى بابها رحىً وبستان، وهي من أكثر بلاد المغرب ثماراً وخيراً

فيصور

وأكثر بلاد المغرب يهوداً، منها يختلفون إلى سائر الآفاق، بها تفاح حلو يعرف بالاطرابلسي حسن الطعم جداً، يصلح بعدوة الأندلسيين ولا يصلح بعدوة القروبيين، وسميذ عدوة الأندلسيين أطيب من سميذ عدوة القروبيين، ورجال الأندلسيين أشجع من رجال القروبيين، ونساؤهم أجمل، ورجال القروبيين أحمد من رجال الأندلسيين؛ قال إبراهيم الأصيلي: دخلت فاساً وبي شوقٌ إلى فاس ... والجبن يأخذ بالعينين والرّاس فلست أدخل فاساً ما حييت ولو ... أعطيت فاساً وما فيها من النّاس فيصور بلاد بأرض الهند يجلب منها الكافور القيصوري وهو أحسن أنواعه. وذكروا أن الكافور يكثر في سنة فيها رعود وبروق ورجف وزلازل، وان قل ذلك كان نقصاً في وجوده. قبا قرية على ميلين من مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. بها مسجد التقوى وهو المسجد الذي ذكره الله تعالى: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين. ولما قدم رسول الله، عليه السلام، قبا مهاجراً يريد المدينة، أسس هذا المسجد ووضع بيده الكريمة أول حجر في محرابه، ووضع أبو بكر، رضي الله عنه، حجراً، ثم أخذ الناس في البناء وهو عامر إلى زماننا هذا، وسئل أهله عن تطهرهم فقالوا: إنا نجمع بين الحجر والماء. وبها مسجد الضرار ويتطوع الناس بهدمه، وبها بئر غرس كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستطيب ماءها وبصق فيها، وقال: إن فيها عيناً من عيون الجنة.

قزدار

قزدار ناحية بأرض الهند. قال أبو الحسن المتكلم: كنت مجتازاً بناحية قزدار، فدخلت قرية من قراه فرأيت شيخاً خياطاً في مسجد فأودعت ثيابي عنده ومضيت. ثم رجعت من الغد فرأيت باب المسجد مفتوحاً والرزمة يشدها في المحراب، فقلت: ما أجهل هذا الخياط! فجلست أفتحها وأرى شيئاً فشيئاً إذ دخل الخياط، فقلت له: كيف تركت ثيابي ههنا؟ فقال: افتقدت منها شيئاً؟ قلت: لا. قال: فما سؤالك؟ فأقبلت أخاصمه وهو يضحك. قال: أنتم نشأتم في بلاد الظلم، وتعودتم أخلاق الأراذل التي توجب السرقة والخيانة وانها لا تعرف ههنا، ولو بقيت ثيابك في المحراب حتى بليت ما مستها أحد! وإذا وجدنا شيئاً من ذلك في مدد متطاولة نعلم أنه كان من غريب اجتاز بنا، فنركب خلفه ولا يفوتنا، فندركه ونقتله. فسألت عن غيره سيرة أهل البلد فقال كما ذكره الخياط. وكانوا لا يغلقون الأبواب بالليل، وما كان لأكثرهم أبواب بل شيء يرد الوحش والكلاب. قشمير ناحية بأرض الهند متاخمة لقوم من الترك، فاختلط نسل الهند بالترك، فأهلها أكثر الناس ملاحةً وحسناً. ويضرب بحسن نسائهم المثل، لهن قامات تامة وصور مستوية وملاحة كثيرة وشعور طوال غلاظ، وهذه الناحية تحتوي على نحو ستين ألفاً من المدن والضياع، ولا سبيل إليها إلا من جهة واحدة، ويغلق على جميعها باب واحد. وحواليها جبال شوامخ لا سبيل للوحش أن يتسلق إليها فضلاً عن الانس. وفيها أودية وعرة وأشجار ورياض وأنهار. قال مسعر بن مهلهل: شاهدتها وهي في غاية المنعة. ولأهلها أعياد في رؤوس

قمار

الاهلة وفي نزول النيرين شرقهما، ولهم رصد كبير في بيت معمول من الحديد الصيني، لا يعمل فيه الزمان، ويعظمون الثريا ولا يذبحون الحيوان ولا يأكلون البيض. قمار مدينة مشهورة بأرض الهند. قال ابن الفقيه: أهلها على خلاف سائر الهنود ولا يبيحون الزنا ويحرمون الخمر، وملكها يعاقبهم على شرب الخمر، فيحمي الحديدة بالنار وتوضع على بدن الشارب ولا تترك إلى أن تبرد، فربما يفضي إلى التلف! وينسب إليها العود القماري وهو أحسن أنواع العود. كلبا مدينة بأرض الهند؛ قال في تحفة الغرائب: بها عمود من النحاس وعلى رأس العمود تمثال بطة من النحاس، وبين يدي العمود عين. فإذا كان يوم عاشوراء في كل سنة ينشر البط جناحيه ويدخل منقاره العين ويعب ماءها، فيخرج من العمود ماء كثير يكفي لأهل المدينة سنتهم، والفاضل يجري إلى مزارعهم. كله مدينة عظيمة منيعة عالية السور في بلاد الهند كثيرة البساتين، بها اجتماع البراهمة حكماء الهند؛ قال مسعر بن مهلهل: إنها أول بلاد الهند مما يلي الصين، وانها منتهى مسير المراكب إليها ولا يتهيأ لها أن تجاوزها وإلا غرقت. بها قلعة يضرب بها السيوف القلعية وهي الهندية العتيقة، لا تكون في سائر الدنيا إلا في هذه القلعة، وملكها من قبل ملك الصين، وإليه قبلته وبيت عبادته

كنزة وقران

ورسومه رسوم صاحب الصين، ويعتقدون أن طاعة ملك الصين عليهم مباركة ومخالفته شؤم، وبينه وبين الصين ثلاثمائة فرسخ. كنزة وقران موضعان باليمامة، بهما نخل كثير ومواش، قال أبو زياد الكلابي: نزل بهم رجل من بني عقيل كنيته أبو مسلم كان يصطاد الذئاب، قالوا له: إن ههنا ذئباً لقينا منه التباريح، إن أنت اصطدته فلك في كل غنم شاة! فنب له الشبكة وحبله وجاء به يقوده، وقال: هذا ذئبكم فأعطوني ما شرطتم. فأبوا وقالوا: كل ذئبك! فشد في عنق الذئب قطعة حبل وخلى سبيله وقال: ادركوا ذئبكم! فوثبوا عليه وأرادوا قتله، فقال: لا عليكم ان وفيتم لي رددته! فخلوه ليرده، فذهب وهو يقول: علّقت في الذّئب حبلاً ثمّ قلت له ... الحق بأهلك واسم أيّها الذّئب! إن كنت من أهل قرّانٍ فعد لهم ... أو أهل كنزة فاذهب غير مطلوب المخلفين لما قالوا وما وعدوا ... وكلّ ما يلفظ الإنسان مكتوب سألته في خلاءٍ: كيف عيشته؟ ... فقال: ماض على الأعداء مرهوب لي الفصيل من البعران آكله ... وإن أصادفه طفلاً فهو مصقوب والنّخل أفسده ما دام ذا رطبٍ ... وإن شتوت ففي شاء الأعاريب يا أبا مسلم أحسن في أسيركم ... فإنّني في يديك اليوم مجنوب كولم مدينة عظيمة بأرض الهند، قال مسعر بن مهلهل: دخلت كولم وما رأيت بها بيت عبادة ولا صنماً وأهلها يختارون ملكاً من الصين، إذا مات ملكهم. وليس للهند طبيب إلا في هذه المدينة، عماراتهم عجيبة، أساطين بيوتهم من

مدينة يثرب

خرز أصلاب السمك، ولا يأكلون السمك ولا يذبحون الحيوان، ويأكلون الميتة، وتعمل بها غضائر تباع في بلادنا على انه صيني وليس كذلك، لأن طين الصين أصلب من طين كولم وأصبر على النار، وغضائر كولم لونها أدكن وغضائر الصين أبيض وغيره من الألوان. بها منابت الساج المفرط الطول ربما جاوز مائة ذراع وأكثر. وبها البقم والخيزران والقنا بها كثير جداً، وبها الراوند وهو قرع ينبت هناك، ورقه الساذج الهندي العزيز الوجود لأجل أدوية العين، ويحمل إليها أصناف العود والكافور واللبان، والعود يجلب من جزائر خلف خط الاستواء، لم يصل إلى منابته أحد ولا يدرى كيف شجره، وإنما الماء يأتي به إلى جانب الشمال. وبها معدن الكبريت الأصفر ومعدن النحاس ينعقد دخانه توتياء جيداً. مدينة يثرب هي مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهي في حرة سبخة مقدار نصف مكة. من خصائصها أن من دخلها يشم رائحة الطيب، وللعطر فيها فضل رائحة لم توجد في غيرا، وأهلها أحسن الناس صوتاً. قيل لبعض المدنيين: ما بالكم أنتم أطيب الناس صوتاً؟ فقال: مثلنا كالعيدان خلت أجوافنا فطاب صوتنا. بها التمر الصيحاني لم يوجد في غيرها من البلاد. وبها حب البان يحمل منها إلى سائر البلاد. وعن ابن عباس ان النبي، عليه السلام، حين عزم الهجرة قال: اللهم إنك قد أخرجتني من أحب أرضك إلي فأنزلني أحب أرضك إليك! فأنزله المدينة، ورأى النبي، صلى الله عليه وسلم، بلال بن حمامة وقد هاجر فاجتوى المدينة وهو يقول: ألا ليت شعري! هل ابيتنّ ليلةً ... بفخٍّ وحولي إذخرٌ وجليل؟ وهل أردن يوماً مياه مجنّةٍ؟ ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل؟

فقال، صلى الله عليه وسلم: خفت يا ابن السوداء! ثم قال: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة وأشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها إلى خيبر والجحفة. وعن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: إن إبراهيم عبد الله وخليله وأنا عبد الله ورسوله، وان إبراهيم حرم مكة واني حرمت المدينة ما بين لابتيها عضاهها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تقطع منها شجرة إلا لعلف البعير. وعن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم: من صبر على لأواء المدينة وشدتها كنت له يوم القيامة شفيعاً أو شهيداً. والمدينة مسورة، ومسجد النبي، عليه السلام، في وسطها وقبره في شرقي المسجد، وبجنبه قبر أبي بكر وبجنب قبر أبي بكر قبر عمر. وكتب الوليد بن عبد الملك إلى صاحب الروم يطلب منه صناعاً لعمارة مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه أربعين رجلاً من صناع الروم وأربعين من صناع القبط، ووجه معهم أربعين ألف مثقال ذهباً وأحمالاً من الفسيفساء. فجاء الصناع وخمروا النورة سنة للفسيفساء، وجعلوا أساسها بالحجارة، وجعلوا أسطوانات المسجد من حجارة مدورة في وسطها أعمدة حديد، وركبوها بالرصاص، وجعلوا سقفها منقشة مزوقة بالذهب، وجعلوا بلاط المحراب مذهباً، وجعلوا وجه الحائط القبلي من داخله بازار رخام من أساسه إلى قدر قامة، وفي وسط المحراب مرآة مربعة ذكروا أنها كانت لعائشة، والمنبر كان للنبي قد غشي بمنبر آخر، وقال، عليه السلام: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة. بها بئر بضاعة. روي أن النبي، عليه السلام، توضأ بمائها في دلو ورد الدلو إلى البئر، وشرب من مائها وبصق فيها، وكان إذا مرض المريض في أيامه يقول: اغسلوه بماء بضاعة، فإذا غسل فكأنما أنشط من عقال. وقالت أسماء

بنت أبي بكر: كنا نغسل المرضى من بئر بضاعة ثلاثة أيام فيعافون. بها بئر ذروان، ويقال لها بئر كملى هي البئر المشهورة. عن ابن عباس: طب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى مرض مرضاً شديداً، فبينا هو بين النائم واليقظان رأى ملكين أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما وجعه؟ فقال: طب! قال: ومن طبه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: وأين طبه؟ قال: في كربة تحت صخرة في بئر كملى، وهي بئر ذروان. فانتبه النبي، صلى الله عليه وسلم، وحفظ كلام الملكين، فبعث علياً وعماراً مع جمع من الصحابة إلى البئر فنزحوا ماءها حتى انتهوا إلى الصخرة فقلبوها ووجدوا الكربة تحتها، وفيها وتر فيها إحدى عشرة عقدة، فأحرقوا الكربة بما فيها فزال عنه، عليه السلام، ما كان به وكأنه أنشط من عقال. فأنزل الله تعالى عليه المعوذتين إحدى عشرة آية على عدد عقده. بها بئر عروة، تنسب إلى عروة بن الزبير؛ قال الزبير بن بكار: ماء هذه البئر من مر بالعقيق يأخذه هدية لأهله، ورأيت أبي يأمر به فيغلى ثم يأخذه في قوارير يهديه إلى الرشيد وهو بالرقة، وقال السري بن عبد الرحمن الأنصاري: كفّنوني إن متّ في درع أروى ... واجعلوا لي من بئر عروة مائي سخنةٌ في الشّتاء باردة الصّي ... ف سراجٌ في اللّيلة الظّلماء وأهل المدينة الأنصار، عليهم الرحمة والرضوان، ان الله تعالى أكثر من الثناء عليهم في القرآن. وقد خص بعضهم بخاصية لم توجد في غيرهم، منهم حمي الدبر وهو عاصم بن الأفلح، رضوان الله عليه، استشهد وأراد المشركون أن يمثلوا به فبعث الله الزنابير أحاطت به ومنعت المشركين الوصول إليه.

المشقر

ومنهم بليع الأرض وهو حبيب بن ثابت، رضوان الله عليه، صلبه المشركون فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من يأخذه ويدفنه، فأخذوه وقبل دفنه فقدوه وبلعته الأرض. ومنهم غسيل الملائكة وهو حنظلة بن راهب، رضوان الله عليه، استشهد يوم أحد فبعث الله تعالى فوجاً من الملائكة، رفعوه من بين القتلى وغسلوه فسمي غسيل الملائكة ومنهم ذو الشهادتين وهو خزيمة بن ثابت، رضوان الله عليه، اشترى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرساً من أعرابي، والاعرابي أنكر الشراء، فقال رسول الله، عليه السلام، إني اشتريت منك! فقال الاعرابي: من يشهد بذلك؟ فقال خزيمة بن ثابت: إني أشهد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اشترى منك. فقال له رسول الله، عليه السلام: كيف تشهد وما كنت حاضراً؟ فقال: يا رسول الله إني أصدقك في أخبار السموات والاخبار عن الله تعالى فما أصدقك في شراء فرس! فأمر الله تعالى نبيه، عليه السلام، أن يجعل شهادته مكان شهادتين. ومنهم من اهتز العرش لموته وهو سعد بن معاذ، رضوان الله عليه، سيد الأوس؛ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اهتز العرش لموت سعد ابن معاذ. المشقر حصن بين نجران والبحرين على تل عال، يقال انه من بناء طسم، يقال له فج بني تميم لأن المكعبر عامل كسرى غدر بني تميم فيه، وسببه أن وهرز عامل كسرى على اليمن بعت أموالاً وطرفاً إلى كسرى، فلما كانت ببلاد بني تميم وثبوا عليها وأخذوها؛ فأخبر كسرى بذلك فأراد أن يبعث إليهم جيشاً، فأخبر أن بلادهم بلاد سوء قليلة الماء.

مغمس

فأشير إليه بأن يرسل إلى عامله بالبحرين أن يقتلهم، وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة، فأمر العامل أن ينادي: لا تطلق الميرة إلا لبني تميم! فأقبل إليه خلق كثير فأمرهم بدخول المشقر، وأخذ الميرة والخروج من باب آخر، فيدخل قوم بعد قوم فيقتلهم حتى قتلوا عن آخرهم، وبعث بذراريهم في السفن إلى فارس. مغمس موضع بين مكة والطائف به قبر أبي رغال، مر به النبي، صلى الله عليه وسلم، فأمر برجمه، فصار ذلك سنة من مر به يرجمه. قيل: إن أبا رغال اسمه زيد بن محلف، كان ملكاً بالطائف يظلم رعيته، فمر بامرأة ترضع يتيماً بلبن ماعز لها، فأخذ الماعز منها فبقي اليتيم بلا لبن فمات، وكانت سنة مجدبة فرماه الله تعالى بقارعة أهلكته. وقيل: إن أبرهة بن الصباح لما عزم هدم الكعبة مر بالطائف بجنوده وفيوله، فأخرج إليه أبو مسعود الثقفي في رجال ثقيف سامعين مطيعين، فطلب أبرهة منهم دليلاً يدله على مكة، فبعثوا معه رجلاً يقال له أبو رغال حتى نزل المغمس، فمات أبو رغال هناك، فرجم العرب قبره؛ وفيه قال جرير ابن الخطفى: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال مراكش مدينة من أعظم مدن بلاد المغرب، واليوم سرير ملك بني عبد المؤمن، وهي في البر الأعظم، بينها وبين البحر عشرة أيام في وسط بلاد البربر. وإنها كثيرة الجنان والبساتين ويخرق خارجا الخلجان والسواقي، ويأتيها الارزاق من الأقطار والبوادي، مع ما فيها من جني الأشجار والكروم التي يتحدث

مكة

بطيبها في الآفاق. والمدينة ذات قصور ومبان محكمة. بها بستان عبد المؤمن بن علي أبي الخلفاء، وهو بستان طوله ثلاثة فراسخ، وكان ماؤه من الآبار فجلب إليها ماء من أعماق تسير تسقي بساتين لها. وحكى أبو الربيع سليمان الملتاني ان دورة مراكش أربعون ميلاً. ينسب إليها الشيخ الصالح سني بن عبد الله المراكشي، وكان شيخاً مستجاب الدعوة، ذكر أن القطر حبس عنهم في ولاية يعقوب بن يوسف فقال: ادع الله تعالى ان يسقينا. فقال الشيخ: ابعث إلي خمسين ألف دينار حتى أدعو الله تعالى أن يسقيكم في أي وقت شئتم! فبعث إليه ذلك، ففرقها على المحاويج، ودعا فجاءهم غيث مدرار أياماً، فقالوا له: كفينا ادع الله أن يقطعه! فقال: ابعث إلي خمسين ألف دينار حتى أدعو الله أن يقطعه. ففعل ذلك ففرق المال على المحاويج، ودعا الله تعالى فقطعه. والله الموفق. مكة هي البلد الأمين الذي شرفه الله تعالى وعظمه وخصه بالقسم وبدعاء الخليل، عليه السلام: رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات. واجعله مثابة للناس، وأمناً للخائف، وقبلةً للعباد، ومنشأ لرسول الله، صلى الله عليه وسلم. وعن رسول الله، عليه السلام: من صبر على حر مكة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة عام، وتقربت منه الجنة مائتي عام! إنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كان بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من نهار، ثم هي حرام لا يعضد شجرها ويحتش خلاها ولا يلتقط ضالتها إلا لمنشد. وعن ابن عباس: ما أعلم على الأرض مدينة يرفع فيها حسنة مائةً إلا مكة، ويكتب لمن صلى ركعة مائة ركعة إلا مكة، ويكتب لمن نظر إلى بعض بنيانها عبادة الدهر إلا مكة، ويكتب لمن يتصدق بدرهم ألف درهم إلا مكة!

وهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جوانبها، وبناؤها حجارة سود ملس وبيض أيضاً. وهي طبقات مبيضة نظيفة حارة في الصيف جداً، إلا أن ليلها طيب وعرضها سعة الوادي وماؤها من السماء، ليس بها نهر ولا بئر يشرب ماؤها، وليس بجميع مكة شجر مثمر، فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار ومزارع ونخيل، وميرتها تحمل إليها من غيرها بدعاء الخليل، عليه السلام: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع، إلى قوله من الثمرات. وأما الحرم فله حدود مضروبة بالمنار قديمة، بينها الخليل، عليه السلام، وحده عشرة أميال في مسيرة يوم، وما زالت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام. فلما بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقر قريشاً على ما عرفوه، فما كان دون المنار لا يحل صيده ولا يختلى خشيشه، ولا يقطع شجره ولا ينفر طيره، ولا يترك الكافر فيه. ومن عجيب خواص الحرم ان الذئب يتبع الظبي، فإذا دخل الحرم كف عنه! وأما المسجد الحرام فأول من بناه عمر بن الخطاب في ولايته، والناس ضيقوا على الكعبة، وألصقوا دورهم بها فقال عمر: إن الكعبة بيت الله ولا بد لها من فناء. فاشترى تلك الدور وزادها فيه واتخذ للمسجد جداراً نحو القامة، ثم زاد عثمان فيه، ثم زاد عبد الله بن الزبير في اتقانه، وجعل فيها عمداً من الرخام وزاد في أبوابه وحسنه. ثم زاد عبد الملك بن مروان في ارتفاع حيطانها وحمل السواري إليها من مصر في الماء إلى جدة، ومن جدة إلى مكة على العجل، وأمر الحجاج فكساها الديباج، ثم الوليد بن عبد الملك زاد في حلى البيت لما فتح بلاد الأندلس، فوجد بطليطلة مائدة سليمان، عليه السلام، كانت من ذهب ولها أطواق من الياقوت والزبرجد، فضرب منها حلى الكعبة والميزاب، فالأولى المنصور وابنه المهدي زادوا في اتقان المسجد وتحسين هيئته، والآن طول المسجد الحرام ثلاثمائة ذراع وسبعون ذراعاً، وعرضه ثلاثمائة ذراع وخمس عشرة ذراعاً، وجميع أعمدة المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثون

عموداً، وأما الكعبة زادها الله شرفاً فإنها بيت الله الحرام. إن أول ما خلق الله تعالى في الأرض مكان الكعبة، ثم دحا الأرض من تحتها، فهي سرة الأرض ووسط الدنيا وأم القرى؛ قال وهب: لما أهبط آدم، عليه السلام، من الجنة حزن واشتد بكاؤه، فعزاه الله بخيمة من خيامها وجعلها موضع الكعبة، وكانت ياقوتة حمراء، وقيل درة مجوفة من جواهر الجنة، ثم رفعت بموت آدم، عليه السلام، فجعل بنوه مكانها بيتاً من حجارة فهدم بالطوفان وبقي على ذلك ألفي سنة، حتى أمر الله تعالى خليله ببنائه، فجاءت السكينة كأنها سحابة فيها رأس يتكلم، فبنى الخليل وإسمعيل، عليهما السلام، على ما ظللته. وأما صفة الكعبة فإنها في وسط المسجد مربع الشكل، بابه مرتفع على الأرض قدر قامة، عليه مصراعان ملبسان بصفائح الفضة طليت بالذهب، وطول الكعبة أربعة وعشرون ذراعاً وشبر، وعرضها ثلاثة وعشرون ذراعاً وشبر، وذرع دور الحجر خمسة وعشرون ذراعاً، وارتفاع الكعبة سبعة وعشرون ذراعاً. والحجر من جهة الشام يصب فيه الميزاب، وقد ألبست حيطان الحجر مع أرضه الرخام، وارتفاعه حقو، وحول البيت شاذروان مجصص ارتفاعه ذراع في عرض مثله، وقاية للبيت من السيل. والباب في وجهها الشرقي على قدر قامة من الأرض، طوله ستة أذرع وعشر أصابع، وعرضه ثلاثة أذرع وثماني عشرة إصبعاً. والحجر الأسود على رأس صخرتين، وقد نحت من الصخر مقدار ما دخل فيه الحجر. والحجر الأسود حالك على الركن الشرقي عند الباب في الزاوية، وهو على مقدار رأس إنسان، وذكر بعض المكيين حديثاً رفعوا على مشايخهم انهم نظروا إلى الحجر الأسود عند عمارة ابن الزبير البيت، فقدروا طوله ثلاثة أذرع وهو ناصع البياض إلا وجهه الظاهر، وارتفاع الحجر من الأرض ذراعان وثلث ذراع، وما بين الحجر والباب الملتزم، سمي بذلك لالتزامه الدعاء. كانت العرب في الجاهلية تتحالف هناك، فمن دعا على ظالم

هناك أو حلف اثماً عجلت عقوبته، وداخل البيت في الحائط الغربي الجزعة، على ستة أذرع من قاع البيت، وهي سوداء مخططة ببياض طولها اثنا عشر في مثل ذلك، وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع، ذكر أن النبي، عليه السلام، جعلها على حاجبه الأيمن. والميزاب متوسط على جدار الكعبة بارز عنه قدر أربعة أذرع، وسعته وارتفاع حيطانه كل واحد ثماني أصابع، وباطنه صفائح الذهب، والبيت مستر بالديباج ظاهره وباطنه، ويجدد لباسه كل سنة عند الموسم. فإذا كثرت الكسوة خفف عنه وأخذها سدنة البيت، وهم بنو شيبة. وهذه صفة الكعبة والمسجد الحرام حولها، ومكة حول المسجد، والحرم حول مكة، والأرض حول الحرم هكذا.

روي عن النبي، عليه السلام، ان الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف، فإن نقصوا كملهم بالملائكة، وان الكعبة كالعروس المزفوفة، وكل من حجها متعلق بأستارها يسعون معها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها. وعن علي: ان الله تعالى قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فغضب عليهم وأعرض عنهم. فطافوا بعرش الله سبعاً كما يطوف الناس بالبيت اليوم يسترضونه، يقولون: لبيك اللهم لبيك! ربنا معذرة إليك! نستغفرك ونتوب إليك! فرضي عنهم وقال: ابنوا في الأرض بيتاً يطوف به عبادي، من غضبت عليه أرضى عنه كما رضيت عنكم. وأما خصائص البيت وعجائبه فإن أبرهة بن الصباح قصده وأراد هدمه، فأهلكه الله تعالى بطير أبابيل. وذكر أن اساف بن عمرو ونائلة بنت سهيل زنيا في الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجرين نصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة ليعتبر بهما الناس. فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام، عبدا معها إلى أن كسرهما رسول الله فيهما كسر من الأصنام. ومن عجائب البيت أن لا يسقط عليه حمام إلا إذا كان عليلاً، وإذا حاذى الكعبة عرقة من طير تفرقت فرقتين ولم يعلها طائر منها. وإذا أصاب المطر أحد جوانبها يكون الخصب في تلك السنة في ذلك الجانب، فإذا عم المطر جميع الجوانب عم الخصب جميع الجوانب، ومن سنة أهل مكة ان من علا الكعبة من عبيدهم يعتقونه، وفي مكة من الصلحاء من لم يدخل الكعبة تعظيماً لها. وعن يزيد بن معاوية: ان الكعبة كانت على بناء الخليل، عليه السلام، إلى أن بلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، خمساً وثلاثين سنة، فجاءها سيل عظيم هدمها، فاستأنفوا عمارتها، وقريش ما وجدوا عندهم مالاً لعمارة الكعبة إلى أن رمى البحر بسفينة إلى جدة، فتحطمت فأخذوا خشبها واستعانوا

بها على عمارتها، فلما انتهوا إلى موضع الركن اختصموا وأراد كل قوم أن يكونوا هم الذين يضعونه في موضعه، وتفاقم الأمر بينهم حتى تناصفوا على أن يجعلوا ذلك لأول طالع، فطلع عليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فاحتكموا إليه فقال: هلموا ثوباً! فأتي به فوضع الركن فيه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ففعلوا ذلك حتى إذا رفعوه إلى موضعه أخذ النبي، عليه السلام، الحجر بيده ووضع في الركن. وعن عائشة قالت: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم. قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ فقال، صلى الله عليه وسلم: إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعلوا ذلك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية أخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت اني أدخل الحجر في البيت. فأدخل عبد الله بن الزبير عشرة من الصحابة حتى سمعوا منها ذلك، ثم هدم البيت وبناها على ما حكت عائشة. فلما قتل الحجاج ابن الزبير ردها على ما كان، وأخذ بقية الأحجار وسد بها الغربي ورصف الباقي في البيت، فهي الآن على بناء الحجاج. وأما الحجر الأسود فجاء في الخبر انه ياقوتة من يواقيت الجنة، وانه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لمن استلمه بحق وصدق. روي أن عمر بن الخطاب قبله وبكى حتى علا نشيجه، فالتفت فرأى علياً فقال: يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات، واعلم انه حجر لا يضر ولا ينفع! ولولا اني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقبله ما قبلته! فقال علي: بلى هو يضر وينفع يا عمر، لأن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتاباً وألقمه هذا الحجر، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء وعلى الكافر بالجحود، وذلك قول الناس عند الاستلام: اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاءً بعهدك.

قال عبد الله بن عباس: ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة ولولا مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى. ولم يزل هذا الحجر محترماً في الجاهلية والإسلام يقبلونه إلى أن دخلت القرامطة مكة سنة سبع عشرة وثلاثمائة عنوة، فنهبوها وقتلوا الحجاج وأخذوا سلب البيت وقلعوا الحجر الأسود، وحملوه إلى الاحساء من أرض البحرين حتى توسط فيه الشريف أبو علي عمر بن يحيى العلوي، بين الخليفة المطيع لله وبين القرامطة، سنة خمس وثلاثين فأخذوا مالاً عظيماً وردوه. فجاءوا به إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من أساطين الجامع ثم حملوه على مكانه. وحكي أن رجلاً من القرامطة قال لبعض علماء الكوفة وقد رآه يقبل الحجر ويتمسح به: ما يؤمنكم انا غيبنا ذلك الحجر وجئنا بمثله؟ فقال: ان لنا فيه علامةً وهي انا إذا طرحناه في الماء يطفو، فجاءوا بماء وألقي فيه فطفا. وأما المقام فإنه الحجر الذي وقف عليه الخليل، عليه السلام، حين أذن في الناس بالحج. وذرع المقام ذراع وهو مربع سعة أعلاه أربع عشرة إصبعاً في مثلها، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه طوق من ذهب وما بين الطرفين بارز لا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تسع أصابع وعرضه عشر أصابع، وعرضه من نواحيه إحدى وعشرون إصبعاً، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع، وبين القدمين من الحجر إصبعان، ووسطه قد استدق من التمسح. وهو في حوض مربع حوله رصاص، وعليه صندوق ساج، في طرفه سلسلتان يقفل عليهما قفلان. قال عبد الله بن شعيب بن شيبة: ذهبنا نرفع المقام في عهد المهدي فانثلم وهو حجر رخو، فخشينا أن يتفتت، فكتبنا به إلى المهدي فبعث إلينا ألف دينار فصببناها في أسفله وأعلاه، وهو الذي عليه اليوم. وبها جبل أبي قبيس، وهو جبل مطل على مكة تزعم العوام ان من أكل

عليه الرأس المشوي يأمن من وجع الرأس، وكثير من الناس يفعلون ذلك، والله أعلم بصحته. وبها الصفا والمروة وهما جبلان ببطحاء مكة. قيل: ان الصفا اسم رجل والمروة اسم امرأة زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجراً، فوضعا كل واحد على الجبل المسمى باسمه لاعتبار الناس. وجاء في الحديث: ان الدابة التي هي من اشراط الساعة تخرج من الصفا، وكان عبد الله بن عباس يضرب عصاه على الصفا ويقول: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذا. والواقف على الصفا يكون بحذاء الحجر الأسود، والمروة تقابل الصفا. وبها جبل ثور أطحل، وهو جبل مبارك بقرب مكة، يقصده الناس لزيارة الغار الذي كان فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، مع أبي بكر، حين خرج من مكة مهاجراً. وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز: إذ أخرجه الذين كفروا الآية يزوره الناس متبركين به. وبها ثبير، وهو جبل عظيم بقرب منى، يقصده الناس زائرين متبركين به لأنه أهبط عليه الكبش الذي جعله الله فداء لإسمعيل، عليه السلام، وكان قرنه معلقاً على باب الكعبة إلى وقت الغرق قبل المبعث بخمس سنين. رآه كثير من الصحابة ثم ضاع بخراب الكعبة بالغرق. وتقول العرب: أشرق ثبير كيما نغير، إذا أرادوا استعجال الفجر. وبها جبل حراء وهو جبل مبارك على ثلاثة أميال من مكة، يقصده الناس زائرين. وكان النبي، عليه السلام، قبل أن يأتيه الوحي حبب إليه الخلوة، وكان يأتي غاراً فيه. وأتاه جبرائيل، عليه السلام، في ذلك الغار، وذكر ان النبي، صلى الله عليه وسلم، ارتقى ذروته ومعه نفر من أصحابه فتحرك فقال عليه السلام: اسكن حرا فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد! فسكن. وبها قدقد، وهو من الجبال التي لا يوصل إلى ذروتها، وفيه معدن البرام يحمل إلى سائر بلاد الدنيا.

وبها بئر زمزم وهي البئر المشهورة المباركة بقرب الكعبة؛ قال مجاهد: ماء زمزم إن شربت منه تريد شفاءً شفاك الله، وان شربته لظمإ أرواك الله، وان شربته لجوع أشبعك الله. قال محمد بن أحمد الهمذاني: كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها أربعين ذراعاً، وفي قعرها ثلاث عيون: عين حذاء الركن الأسود، وأخرى حذاء أبي قبيس، وقل ماؤها في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، فحفروا فيها تسعة أذرع فزاد ماؤها، ثم جاء الله تعالى بالأمطار والسيول في سنة خمس وعشرين ومائتين فكثر ماؤها، وذرعها من رأسها إلى الجبل المنقور فيه إحدى عشرة ذراعاً وهو مطوي، والباقي وهو تسع وعشرون ذراعاً منقور في الحجر، وذرع تدويرها إحدى عشرة ذراعاً، وسعة فمها ثلاث أذرع وثلثا ذراع، وعليها ميلان ساج مربعة فيها اثنتا عشرة بكرة يستقى عليها. وأول من عمل الرخام عليها وفرش به أرضها المنصور. وعلى زمزم قبة مبنية في وسط الحرم عند باب الطواف تجاه باب الكعبة. في الخبر: ان الخليل، عليه السلام، ترك إسمعيل وأمه عند الكعبة وكر راجعاً. قالت له هاجر: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: حسبنا الله! فأقامت عند ولدها حتى نفد ماؤها فأدركتها الحنة على ولدها، فتركت إسمعيل بموضعه وارتقت إلى الصفا تنظر هل ترى عيناً أو شخصاً، فلم تر شيئاً فدعت ربها واستسقته، ثم نزلت حتى أتت المروة ففعلت مثل ذلك، ثم سمعت صوت السباع فخشيت على ولدها، فأسرعت نحو إسمعيل فوجدته يفحص الماء من عين قد انفجرت من تحت خده، وقيل بل من تحت عقبه، فلما رأت هاجر الماء يسري جعلت تحوطه بالتراب لئلا يسيل، قيل: لو لم تفعل ذلك لكان عيناً جارية. قالوا: وتطاولت الأيام على ذلك حتى عفتها السيول والأمطار ولم يبق لها أثر. وعن علي، كرم الله وجهه: ان عبد المطلب بينا هو نائم في الحجر إذ

ملتان

أمر بحفر زمزم. قال: وما زمزم؟ قالوا: لا تنزف ولا تهدم يسقي الحجيج الأعظم عند نقرة الغراب الأعصم. فغدا عبد المطلب ومعه الحرث ابنه، فوجد الغراب ينقر بين أساف ونائلة، فحفر هناك، فلما بدا الطي كبر، فاستشركه قريش وقالوا: انه بئر أبينا إسمعيل ولنا فيه حق! فتحاكموا إلى كاهنة بني سعد باشراف الشام وساروا حتى إذا كانوا ببعض الطريق نفد ماؤهم وظمئوا وأيقنوا بالهلاك، فانفجرت من تحت خف عبد المطلب عين ماء فشربوا منها وعاشوا. وقالوا: قد والله قضي لك علينا لا نخاصمك فيها أبداً، إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم! فانصرفوا فحفر عبد المطلب زمزم، فوجد فيها غزالين من ذهب وأسيافاً قلعية كانت جرهم دفنتها فيها وقت خروجهم من مكة، فضرب الغزالين بباب الكعبة وأقام سقاية الحاج بمكة، والله الموفق. وينسب إلى مكة المهاجرون الذين أكثر الله تعالى عليهم من الثناء في كتابه المجيد، وخص بعضهم بمزيد فضيلة وهم المبشرة العشرة، ذكر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: إنهم في الجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، رضوان الله عليهم أجمعين. ملتان هي آخر مدن الهند مما يلي الصين، مدينة عظيمة منيعة حصينة جليلة عند أهل الصين والهند، وانها بيت حجهم ودار عبادتهم كمكة لنا. وأهلها مسلمون وكفار. والمدينة في دولة المسلمين، وللكفار بها القبة العظمى والبد الأكبر، والجامع مصاقب لهذه القبة، والإسلام بها ظاهر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شامل؛ كل ذلك عن مسعر بن مهلهل. وقال الاصطخري: مدينة حصينة منيعة، دار الملك ومجمع العسكر،

والملك مسلم لا يدخل المدينة إلا يوم الجمعة، يركب الفيل ويدخل المدينة لصلاة الجمعة. بها صنم يعظمه الهند ويحج إليه من أقصى بلاد الهند، ويتقرب إليه كل سنة بأموال عظيمة، لينفق على بيت الصنم والمعتكفين منهم. وبيت الصنم قصر مبني في أعمر موضع بين سوق العاجنين وسوق الصفارين، وفي وسط القصر قبة فيها الصنم. قال مسعر بن مهلهل: سمك القبة في الهواء ثلاثمائة ذراع، وطول الصنم عشرون ذراعاً، وحول القبة بيوت يسكنها خدم الصنم والعاكفون عليه، وليس في ملتان عباد الصنم إلا في هذا القصر. وصورة الصنم إنسان جالس مربعاً على كرسي، وعيناه جوهرتان، وعلى رأسه إكليل ذهب، ماد ذراعيه على ركبتيه، منهم من يقول من خشب، ومنهم من يقول من غير خشب، ألبس بدنه مثل جلد السختيان الأحمر، إلا أن يديه لا تنكشفان وجعل أصابعه من يديه كالقابض أربعة في الحساب، وملك ملتان لا يبطل ذلك الصنم لأنه يحمل إليه أموالاً عظيمة يأخذها الملك، وينفق على سدنة الصنم شيئاً معلوماً. وإذا قصدهم الهند محاربين أخرج المسلمون الصنم ويظهرون كسره أو إحراقه فيرجعون عنهم. حكى ابن الفقيه أن رجلاً من الهند أتى هذا الصنم، وقد اتخذ لرأسه تاجاً من القطن ملطخاً بالقطران ولأصابعه كذلك، وأشعل النار فيها، ووقف بين يدي الصنم حتى احترق. وينسب إليها هارون بن عبد الله مولى الأزد، كان شجاعاً شاعراً، ولما حارب الهند المسلمين بالفيل لم يقف قدام الفيل شيء، وقد ربطوا في خرطومه سيفاً هذاماً طويلاً ثقيلاً، يضرب به يميناً وشمالاً لا يرفعه فوق رأس الفيالين على ظهره ويضرب به، فوثب هارون وثبة أعجله بها عن الضرب ولزق بصدر الفيل، وتعلق بأنيابه، فجال به الفيال جولة كاد يحطمه من شدة ما جال به.

مليبار

وكان هارون شديد الخلق رابط الجأش فاعتمد في تلك الحالة على نابيه، وأصلهما مجوف، فانقلعا من أصلهما وأدبر الفيل وبقي النابان في يد هارون، وكان ذلك سبب هزيمة الهند، وغنم المسلمون، فقال هارون في ذلك: مشيت إليه رادعاً متمهّلاً ... وقد وصلوا خرطومه بحسام فقلت لنفسي: إنّه الفيل ضارباً ... بأبيض من ماء الحديد هذام فإن تنكإي منه فعذرك واضحٌ ... لدى كلّ منخوب الفؤاد عبام ولمّا رأيت السّيف في رأس هضبةٍ ... كما لاح برقٌ من خلال غمام فعافسته حتى لزقت بصدره ... فلمّا هوى لازمت أيّ لزام وعذت بنابيه وأدبر هارباً ... وذلك من عادات كلّ محامي مليبار ناحية واسعة بأرض الهند تشتمل على مدن كثيرة، بها شجرة الفلفل وهي شجرة عالية لا يزول الماء من تحتها، وثمرتها عناقيد إذا ارتفعت الشمس واشتد حرها تنضم على عناقيدها أوراقها، وإلا أحرقتها الشمس قبل إدراكها، وشجر الفلفل مباح إذا هبت الريح سقطت عناقيدها على وجه الماء، فيجمعها الناس، وكذلك تشنجها، ويحمل الفلفل من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وأكثر الناس انتفاعاً به الفرنج يحملونه في بحر الشام إلى أقصى المغرب. منىً بلدة على فرسخ من مكة طولها ميلان، وهي بين جبلين مطلين عليها، بها مصانع وآبار وخانات وحوانيت تعمر أيام الموسم، وتخلو بقية السنة إلا ممن يحفظها. من عجائبها أن الجمار التي ترمى منذ حج الناس إلى زماننا هذا لا يظهر بها

مندورفين

من غير أن تكسحها السيول أو يأخذها الناس، ولولا الآية الأعجوبة التي فيها لكان ذلك الموضع كالجبال الشاهقة. وبها مسجد الخيف ومسجد الكبش، وقل أن يكون في الإسلام بلد إلا ولأهله مضرب. مندورفين مدينة بأرض الهند؛ قال مسعر بن مهلهل: بها غياض هي منابت القنا، ومنها يحمل الطباشير، والطباشير رماد هذا القنا، وذلك انها إذا جفت وهبت بها الرياح احتك بعضها ببعض واشتدت فيها الحرارة، فانقدحت فيها نار ربما أحرقت مسافة خمسين فرسخاً، فرماد هذا القنا هو الطباشير يحمل إلى سائر البلاد. مندل مدينة بأرض الهند يكثر بها العود حتى يقال للعود المندل، وليس هي منبته، فإن منابته لا يصل إليها أحد، قالوا: ان منابت العود جزائر وراء خط الاستواء ويأتي به الماء إلى جانب الشمال، فما انقلع رطباً فإذا أصابته ريح الشمال يبقى رطباً وهو الذي يقال له القامروني، وما جف ورمته يابساً فإنه المندلي الثقيل المصمت، فإن رسب في الماء فهو غاية جداً ليس فوقه خير منه. المنصورة مدينة مشهورة بأرض السند كثيرة الخير، بناها المنصور أبو جعفر الثاني من خلفاء بني العباس، وفيها ينزل الولاة، لها خليج من نهر مهران يحيط بالمدينة، وهي في وسطه كالجزيرة إلا أنها شديدة الحر كثيرة البق. بها ثمرتان لا توجدان في مدينة غيرها: إحداهما الليمو على قدر التفاح،

مهيمة

والأخرى الانبج على شبه الخوخ. وأهل المدينة موافقون على أنهم لا يشترون شيئاً من المماليك السندية، وسببه أن بعض رؤسائها من آل مهلب ربى غلاماً سندياً، فلما بلغ رآه يوماً مع زوجته فجبه ثم عالجه حتى هدأ، وكان لمولاه ابنان: أحدهما بالغ، والآخر طفل، فأخذ الغلام الصبيين وصعد بهما إلى أعالي سور الدار ثم قال لمولاه: والله لئن لم تجب نفسك الآن لأرمين بهما! فقال الرجل: الله الله في وفي ولدي! فقال: دع عنك هذا، والله ما هي إلا نفس، وإني لأسمح بها من شربة ماء! وأهوى ليرمي بهما فأسرع الرجل وأخذ مديةً وجب نفسه، فلما رأى الغلام ذلك رمى بالصبيين وقال: فعلت بك ما فعلت بي وزيادة قتل الولدين. فقتل الغلام بأفظ العذاب وأخرج من المدينة جميع المماليك السندية، فكانوا يتداولون في البلاد ولا يرغب أحد بالثمن اليسير في شرائهم. بها نهر مهران عرضه كعرض دجلة أو أكثر، يقبل من المشرق آخذاً جهة الجنوب متوجهاً إلى المغرب حتى يقع في بحر فارس أسفل السند؛ قال الاصطخري: مخرجه من ظهر جبل يخرج منه بعض أنهار جيحون، ويظهر بملتان على حد سمندور ثم على المنصورة، ثم يقع في البحر، وهو نهر كبير عذب جداً يقال فيه تماسيح كما في النيل، وجريه مثل جريه، يرتفع على الأرض ثم ينصب ويزرع عليه مثل ما يزرع على النيل بأرض مصر. وقال الجاحظ: ان تماسيح نهر مهران أصغر حجماً من تماسيح النيل وأقل ضرراً، وذكر أنه يوجد في هذا النهر سبائك الذهب، والله الموفق. مهيمة قرية بين مكة والمدينة على ميل من الأبواء. بها ماء مهيمة، وهو ماء ساكن لا يجري إذا شربته الإبل يأخذها الهيام، وهو حمي الإبل، لا تعيش الإبل بها. والقرية موبأة لفساد مائها.

نجران

نجران من مخاليف اليمن من ناحية مكة، بناها نجران بن زيدان بن سبا بن يشجب، قال، صلى الله عليه وسلم: القرى المحفوظة أربع: مكة والمدينة وإيليا ونجران، وما من ليلة إلا وينزل على نجران سبعون ألف ملك، يسلمون على أصحاب الأخدود ثم لا يعودون إليها أبداً. كان بها كعبة نجران، بناها عبد المدان بن الريان الحرثي مضاهاة للكعبة، وعظموها وسموها كعبة نجران، وكان بها أساقفة مقيمون، وهم الذين جاءوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للمباهلة. قال هشام بن الكلبي: انها كانت قبة من أدم من ثلاثمائة جلد، إذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت حاجته، أو مسترفد أرفد. وكانت القبة على نهر يستغل عشرة آلاف دينار تستغرق القبة جميعها. ينسب إليها عبد الله بن النامر، سيد شهداء نجران؛ قال محمد بن القرطي: كان أهل نجران أهل الشرك، وكان عندهم ساحر يعلم صبيانهم السحر، فنزل بهم رجل صالح وابتنى خيمة بجنب قرية الساحر، فجعل أهل نجران يبعثون أولادهم إلى الساحر لتعلم السحر، وفيهم غلام اسمه عبد الله، وكان ممره على خيمة الرجل الصالح، فأعجبه عبادة الرجل، فجعل يجلس إليه ويسمع منه أمور الدين حتى أسلم، وتعلم منه الشريعة والاسم الأعظم. فقال له الرجل الصالح: عرفت الاسم الأعظم فاحفظ على نفسك، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله إذا رأى أحداً من أصحاب العاهات يقول له: إن دخلت في ديني فإني أدعو الله ليعافيك! فيقول: نعم. فيدخل فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد ذو ضربة، فرفع أمره إلى الملك فأحضره وقال: أفسدت على أهل نجران وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك! فقال عبد الله: أنت لا تقدر على ذلك! فجعل يلقيه من شاهق فيقوم سليماً ويرميه في ماء مغرق

الندهة

فيخرج سليماً! فقال له عبد الله: لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بمن آمنت به. فوحد الله ودخل في دينه ثم ضربه بعصاً كانت في يده فشجه شجة يسيرة، فمات عليها. فلما رأى أهل نجران ذلك قالوا: آمنا برب عبد الله. فحفر الملك اخدوداً وملأها حطباً وأضرم فيه النار وأحضر القوم، فمن رجع عن دينه تركه، ومن لم يرجع ألقاه في النار؛ فذلك قوله تعالى: قتل أصحاب الأخدود. وذكر أن عبد الله بن النامر أخرج في زمن عمر بن الخطاب وإصبعه على شجته، كما وضعها عليها حين قتل. الندهة أرض واسعة بالسند بها خلق كثير إلا أنهم كالزط. وبها خير كثير، وأكثر زروعهم الرز. وبها الموز والعسل والنارجيل. وبها الجمل الفالج ذو السنامين، وهذا الصنف من الإبل لا يوجد إلا هناك، يجلب منها إلى خراسان وفارس، ويجعل فحلاً للنوق العربية فتولد منهما البخاتي. الهند هي بلاد واسعة كثيرة العجائب. تكون مسافتها ثلاثة أشهر في الطول وشهرين في العرض، وهي أكثر أرض الله جبالاً وأنهاراً، وقد اختصت بكريم النبات وعجيب الحيوان، ويحمل منها كل طرفة إلى سائر البلاد مع أن التجار لا يصلون إلا إلى أوائلها. وأما أقصاها فقلما يصل إليها أهل بلادنا لأنهم كفار يستبيحون النفس والمال. والهند والسند كانا أخوين من ولد توقير بن يقطن بن حام بن نوح، عليه السلام، وهم أهل ملل متلفة: منهم من يقول بالخالق دون النبي، وهم البراهمة، ومنهم من لا يقول بهما، ومنهم من يعبد الصنم، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يبيح الزنا.

بها من المعدنيات جواهر نفيسة، ومن النبات أشياء غريبة، ومن الحيوانات حيوانات عجيبة ومن العمارة رفيعة؛ قال أبو الضلع السندي يذكر بلاد الهند وما يجلب منها: لقد أنكر أصحابي وما ذلك بالأمثل إذا ما مدح الهند وسهم الهند في المقتل لعمري إنّها أرضٌ إذا القطر بها ينزل يصير الدّرّ والياقوت والدّرّ لمن يعطل فمنها المسك والكافور والعنبر والمندل وأصنافٌ من الطّيب ليستعمل من يتفل وأنواع الأفاويه وجوز الطّيب والسّنبل ومنها العاج والسّاج ومنها العود والصّندل وإنّ التّوتيا فيها كمثل الجبل الأطول ومنها الببر والنّمر ومنها الفيل والدّغفل ومنها الكرك والببغاء والطّاووس والجوزل ومنها شجر الرّانج والسّاسم والفلفل سيوفٌ ما لها مثلٌ قد استغنت عن الصّيقل وأرماحٌ إذا ما هزّت اهتزّ بها الجحفل فهل ينكر هذا الفضل إلاّ الرّجل الأخطل ومن عجائب الهند حجر موسى، فإنه يوجد بالليل ولا يوجد بالنهار، يكسر كل حجر ولا يكسره حجر. ومن عجائبها شجرة كسيوس فإنها شجرة حلوة الثمرة تقع الحمام عليها وتأكل من ثمرتها فيغشى على الحمام فتأتي الحية لقصد الحمام، فإن كان على

غصن الشجرة أو ظلها لا تقدر الحية أن تقربها. ومن عجائبها البيش، وهو نبت لا يوجد إلا بالهند، سم قاتل، أي حيوان يأكل منه يموت، ويتولد تحته حيوان يقال له فأرة البيش، يأكل منه ولا يضره، ومما ذكر أن ملوك الهند إذا أرادوا الغدر بأحد عمدوا إلى الجواري إذا ولدن، وفرشوا من هذا النبت تحت مهودهن زماناً، ثم تحت فراشهن زماناً، ثم تحت ثيابهن زماناً، ثم يطعمونهن منه في اللبن، حتى تصير الجارية إذا كبرت تتناول منه ولا يضرها، ثم بعثوا بها مع الهدايا إلى من أرادوا الغدر به من الملوك فإنه إذا غشيها مات. وبها غنم لها ست ألايا: إحداها على المكان المعهود، والثانية على الصدر، والثالثة والرابعة على الكتفين، والخامسة والسادسة على الفخذين، رأيت واحدة منها حملت إلى بلادنا. وبها حيات إذا لسعت إنساناً يبقى كالميت، فيشدونه على لوح ويلقونه في الماء، والماء يذهب به إلى موضع فيه مارستان، وعلى الماء من يترصد الملسوعين فيأخذهم ويعالجونهم، فيرجع بعد مدة إلى أهله سالماً. وبها طير عظيم الجثة جداً؛ قالوا: إنه في بعض جزائرها إذا مات نصف منقاره يتخذ مركباً يركب الناس فيه في البحر، وعظم ريشه يتخذ آزون الطعام ويسع الواحد منه أحمالاً كثيرة. ومن عجائبها مدينة إذا دخلها غريب لم يقدر على المجامعة أصلاً، ولو أقام بها ما أقام، فإذا خرج عنها زال عنه المانع ورجع إلى حاله. قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض الهند بحيرة مقدار عشرة فراسخ في مثلها، ماؤها ينبع من أسفلها لا يأتيها شيء من الأنهار. وفي تلك البحيرة حيوانات على صورة الإنسان، إذا كان الليل يخرج منها عدد كثير يلعبون على ساحل البحر ويرقصون ويصفقون باليدين، وفيهم جوار حسناوات. ويخرج منها أيضاً حيوانات على غير صورة الإنسان عجيبة الأشكال، والناس في الليلة

القمراء يقعدون من البعد وينظرون إليهم، وكلما كان النظار أكثر كان الخارجون أكثر. وربما جاءوا بالفواكه الكثيرة أكلوها وتركوا ما فضل منها على الساحل، وإن مات منهم أحد أخرجوه من البحيرة وستروا سوأته بالطين، والناس يدفنونه، وما دام يبقى على الساحل لا يخرج من الماء أحد البتة. قال صاحب عجائب الأخبار: بأقصى بلاد الهند أرض رملها مخلوط بالذهب، وبها نوع من النمل عظام، وهي أسرع عدواً من الكلب! وتلك الأرض شديدة الحرارة جداً، فإذا ارتفعت الشمس واشتدت الحرارة تهرب النمل إلى أسراب تحت الأرض وتختفي فيها إلى أن تنكسر سورة الحر فتأتي الهند بالدواب عند اختفاء النمل ويحمل من ذلك الرمل، ويسرع في المشي مخافة أن يلحقهم النمل فيأكلهم. قال المسعودي: بأرض الهند هيكل عظيم عندهم يقال له بلاذري، ليس لهم هيكل أعظم منه، له بلد قد وقف عليه، وحوله ألف مقصورة فيها جوار موقوفة على الصنم لمن جاءه زائراً. ومن جاء سجد له وأقام في ضيافته ثلاثاً وبات عند جارية من جواريه ثم رجع. بها جبل؛ قال صاحب تحفة الغرائب: على هذا الجبل صورة أسدين يخرج من فمهما ماء كثير يصير ساقيتين، عليهما شرب قريتين، علي كل ساقية قرية، فوقعت بين القريتين خصومة فكسروا فم أحدهما فانقطع ماؤه، فأصلح المكسور ليرجع إلى حاله فما أفاد شيئاً. وبها نهر كبك، وهو نهر عظيم، وللهند فيه اعتقاد عظيم، من مات من عظمائهم يلقون عظامه في هذا النهر، ويقولون إنها تساق إلى الجنة، وبين هذا النهر وسومناة مائتا فرسخ، يحمل كل يوم من مائه إلى سومناة ليغسلوا به بيوت الأصنام وغيرها يتبركون به. وبها عين العقاب؛ قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض الهند جبل فيه عين ماء إذا هرمت العقاب تأتب بها أفراخها هذه العين وتغسلها فيها، ثم تضعها في الشمس

يترب

فإن ريشها يتساقط عنها وينبت لها ريش جديد، ويزول عنها الضعف وترجع إلى القوة والشباب. حكي انه ذكر في مجلس كسرى أنوشروان أن بأرض الهند جبلاً فيه شجر ثمرتها تحيي الموتى، فبعث رجلاً إلى بلاد الهند ليأتيه بصحة هذا الكلام، فذهب إلى بلاد الهند يسأل عن الجبل حتى اجتمع ببعض البراهمة، فقال له: هذا الكلام مرموز من كلام الحكماء، أرادوا بالجبل الرجل العالم، وبالشجرة علمه، وبثمرتها فائدة علمه، وبالحياة حياة الآخرة. فقال كسرى: صدق عالم الهند؛ الأمر كما ذكر. يترب قرية من قرى اليمامة كثيرة النخل؛ قال ابن الكلبي: كان بها رجل من العمالقة يقال له عرقوب، فأتاه أخ له مستميحاً، فقال له عرقوب: إذا أطلعت نحلي فلك طلعها. فلما أطلعت قال: دعها حتى تصير بلحاً؛ فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهواً، ثم حتى تصير بسراً، ثم حتى تصير رطباً ثم تمراً. فلما أتمرت عمد إليها ليلاً فجدها، فصار مثلاً في الخلف؛ قال الأصمعي: وعدت وكان الخلف منك سجيّةً ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيترب اليمامة ناحية بين الحجاز واليمن، أحسن بلاد الله وأكثرها خيراً ونخلاً وشجراً. كانت في قديم الزمان منازل طسم وجديس، وهما من ولد لاوذ بن ارم بن لاوذ بن سام بن نوح، عليه السلام. أقاموا باليمامة فكثروا بها وملك عليهم رجل من طسم يقال له عمليق بن حياش، وكان جباراً ظلوماً يحكم بينهم بما شاء. حكي انه احتكم إليه رجل وامرأة في مولود بينهما، فقال الزوج واسمه قابس: أيها الملك أعطيتها المهر كاملاً ولم أصب منها طائلاً إلا ولداً جاهلاً، فافعل

ما كنت فاعلاً! فقالت الزوجة واسمها هزيلة: أيها الملك هذا ولدي حملته تسعاً ووضعته دفعاً وأرضعته شبعاً، ولم أنل منه نفعاً، حتى إذا تمت فصاله واشتدت أوصاله أراد زوجي أخذه كرهاً وتركي ولهى! فقال الزوج: إني حملته قبل أن تحمله وكفلت أمه قبل أن تكفله! فقالت الزوجة: إنه أيها الملك حمله خفاً وأنا حملته ثقلاً، ووضعه شهوةً وأنا وضعته كرهاً! فلما رأى عمليق متانة حجتها تحير، ورأى أن يجعل الغلام في جملة غلمانه حتى يتبين له الرأي فيه، فقالت له هزيلة: أتينا أخا طسمٍ ليحكم بيننا ... فأظهر حكماً في هزيلة ظالما ندمت وكم أندم وأنّى بعثرتي ... وأصبح بعلي في الحكومة نادما فلما سمع عمليق ذلك غضب على نساء جديس، وأمر أن لا تزوج بكر من نساء جديس حتى تدخل عليه فيكون هو مفترعها! فلقوا من ذلك ذلاً حتى تزوجت غفيرة بنت غفار، أخت الأسود بن غفار سيد جديس، فلما كانت ليلة الزفاف أخرجت لتحمل إلى الملك والقينات حولها يضربن بمعازفهن ويقلن: ابدي بعمليق وقومي واركبي ... وبادري الصّبح بأمرٍ معجب! فسوف تلقين الذي لم تطلبي ... وما لبكرٍ دونه من مهرب! فأدخلت على عمليق فامتنعت عليه، وكانت أيدة فافترعها بحديدة وأدماها، فخرجت ودمها يسيل على قدميها فمرت باكية إلى أخيها وهو في جمع عظيم، وهي تقول: لا أحدٌ أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس؟ فقال أخوها: ما شأنك؟ فأنشأت تقول:

أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم رجالٌ فيكم عدد الرّمل؟ أيجمل تمشي في الدّماء فتاتكم ... صبيحة زفّت في العشاء إلى بعل؟ فلو أنّنا كنّا رجالاً وكنتم ... نساءً لكنّا لا نقرّ على الذّلّ! فدبّوا إليهم بالصّوارم والقنا ... وكلّ حسامٍ محدث الأمر بالصّقل ولا تجزعوا للحرب قومي فإنّما ... يقوم رجالٌ للرّجال على رجل! فلما سمعت جديس ذلك امتلأت غيظاً، قال الأسود لجديس: يا قوم اتبعوني فإني عبر الدهر! فقال القوم: إنا لك مطيعون لكن عرفت أن القوم أكثر منا عدداً وعدداً! فقال الأسود: اني أرى أن أتخذ للملك طعاماً، فإذا حضروا أنا أقوم إلى الملك وكل واحد منكم إلى رئيس من رؤسائهم ونقتلهم! فصنع الأسود طعاماً وأمر أن يدفن كل واحد سيفه تحت الرمل مكان جلوسه، فلما جاءهم الملك وقومه وجلسوا للأكل قتل الأسود الملك، وقتل كل واحد منهم شريفاً من أشراف طسم، فلما فرغوا منهم شرعوا في بقايا طسم فهرب واحد منهم اسمه رياح بن مرة حتى لحق بحسان بن تبع الحميري وقال له: عبيدك ورعيتك قد اعتدى علينا جديس، فقال له: ما شأنك؟ فرفع عقيرته ينشد: أجبني إلى قوم دعونا لغدرهم ... إلى قتلهم فيها لك الأجر فإنّك لن تسمع بيومٍ ولن ترى ... كيوم أباد الحيّ طسماً به المكر أتيناهم في أزرنا ونعالنا ... علينا الملاء الحمر والحلل الخضر بصرنا طعوماً بالعراء وطعمةً ... ينازع فينا الطّير والذّئب والنّمر فدونك قوماً ليس لله فيهم ... ولا لهم منه حجابٌ ولا ستر فأجابه حسان إلى سؤاله ووعده بنصره ثم سار في جيوشه إليهم، فصبحهم واصطلمهم، فهرب الأسود بن غفار بأخته في نفر منهم وقتل البقية وسباهم. وينسب إليها زرقاء اليمامة، وانها كانت ترى الشخص من مسيرة يوم

وليلة، ولما سار حسان نحو جديس قال له رياح بن مرة: أيها الملك إن لي أختاً مزوجة في جديس واسمها الزرقاء، وانها زرقاء ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة، أخاف أن ترانا فتنذر القوم بنا. فمر أصحابك ليقطعوا أغصان الأشجار وتستروا بها لتشبهوا على اليمامة. وساروا بالليل فقال الملك: وفي الليل أيضاً؟ فقال: نعم! ان بصرها بالليل أنفذ! فأمر الملك أصحابه أن يفعلوا ذلك، فلما دنوا من اليمامة ليلاً نظرت الزرقاء وقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشجراء وجاءتكم أوائل خيل حمير. فكذبوها فأنشأت تقول: خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم ... فليس ما قد أرى مل أمر يحتقر إني أرى شجراً من خلفها بشرٌ ... لأمرٍ اجتمع الأقوام والشّجر فلما دهمهم حسان قال لها: ماذا رأيت؟ قالت: الشجر خلفها بشر! فأمر بقلع عينيها وصلبها على باب جو، وكانت المدينة قبل هذا تسمى جواً، فسماها تبع اليمامة وقال: وسمّيت جوّاً باليمامة بعدما ... تركت عيوناً باليمامة همّلا نزعت بها عيني فتاةٍ بصيرةٍ ... رعاماً ولم أحفل بذلك محفلا تركت جديساً كالحصيد مطرّحاً ... وسقت نساء القوم سوقاً معجّلا أدنت جديساً دين طسمٍ بفعلها ... ولم أك لولا فعلها ذاك أفعلا وقلت خذيها يا جديس بأختها! ... وأنت لعمري كنت في الظّلم أوّلا! فلا تدع جوّاً ما بقيت بإسمها ... ولكنّها تدعى اليمامة مقبلا وينسب إليها مسيلمة الكذاب الذي يقال له رحمن اليمامة، ادعى النبوة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه المعجزة فأخرجه قارورة ضيقة الرأس فيها بيضة، فآمن به بعضهم، وهم بنو حنيفة أقل الناس عقلاً،

فاستخف قومه فأطاعوه! وبنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية صنماً من العسل والسمن يعبدونه، فأصابتهم في بعض السنين مجاعة فأكلوه، فضحك على عقولهم الناس وقالوا فيهم: أكلت حنيفة ربّها ... زمن التّقحّم والمجاعه لم يحذروا من ربّهم ... سوء العواقب والتّباعه والبيضة إذا تركت في الخل زماناً لانت، فأدخلها في القارورة ثم صب عليها فعادت إلى حالها، وكان ظهوره في السنة العاشرة من الهجرة، وحكي انه كتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك! أما بعد فإني أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، لكن قريشاً يعتدون؛ وانفذه مع رسولين فكتب إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى! أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. قتل مسيلمة خالد بن الوليد في زمن أبي بكر. وحكي أنه رأى حمامة مقصوصة الجناح فقال: لم تعذبون خلق الله؟ لو أراد الله من الطير غير الطيران ما خلق لها جناحاً، وإني حرمت عليكم قص جناح الطائر! فقال بعضهم: سل الله الذي أعطاك آية البيض أن ينبت له جناحاً! فقال: إن سألت فانبت له جناحاً فطار تؤمنون بي؟ قالوا: نعم. فقال: إني أريد أناجي ربي، فأدخلوه معي هذا البيت حتى أخرجه وافي الجناح حتى يطير. فلما خلا بالطائر أخرج ريشاً كان معه وأدخل في قصبة كل ريشة مقطوعة ريشة مما كان معه، فأخرجه وأرسله فطار فآمن به جمع كثير. وحكي أنه قال في ليلة منكرة الرياح مظلمة: إن الملك ينزل إلي الليلة ولأجنحة الملائكة صلصلة وخشخشة، فلا يخرجن أحدكم فإن من تأملهم اختطف بصره. ثم اتخذ صورة من الكاغد لها جناحان وذنب، وشد فيها

الجلاجل والخيوط الطوال فأرسل تلك الصورة وحملتها الريح، والناس بالليل يرون الصورة ويسمعون صوت الجلاجل ولا يرون الخيط. فلما رأوا ذلك دخلوا منازلهم خوفاً من أن تختطف أبصارهم، فصاح بهم صائح: من دخل منزله فهو آمن! فأصبحوا مطبقين على تصديقه؛ قال الهذلي: ببيضة قارورٍ وراية شادنٍ ... وتوصيل مقصوصٍ من الطير جازف فلما سمع سورة والذاريات قال: وقد أنزل علي مثلها، وهي: والزارعات زرعاً. فالحاصدات حصداً. فالطاحنات طحناً. فالخابزات خبزاً. فالآكلات أكلاً! فقال بعض أهل المجون: قل والخاريات خرياً! ولما سمع سورة الفيل قال: قد أنزل علي مثلها، وهي: الفيل. وما أدراك ما الفيل! له ذنب طويل ومشفر وثيل، وان ذلك من خلق ربنا النبيل! ولما سمع سورة الكوثر قال: قد أنزل علي مثلها، وهي: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وهاجر، ان شانئك هو الكافر! فسبحان من أظهر إعجاز القرآن، فلو كان من عند غير الله لكان مثل هذا.

الاقليم الثالث

الاقليم الثالث أوله حيث يكون الظل نصف النهار إذا استوى الليل والنهار ثلاثة أقدام ونصف وعشر وسدس عشر قدم، وآخره حيث يكون ظل الاستواء فيه نصف النهار أربعة أقدام ونصفاً وعشرين وثلاثة عشر قدماً. وهو يبتديء من المشرق فيمر على شمال بلاد الصين ثم الهند ثم السند، ثم كابل وكرمان وسجستان وفارس والاهواز، والعراقين والشام ومصر والاسكندرية وبرقة وإفريقية، وينتهي إلى حد البحر المحيط. وأطول نهار هؤلاء في أول الإقليم ثلاث عشرة ساعة ونصف وربح، وفي وسطه أربع عشرة ساعة، وفي آخره أربع عشرة ساعة وربع، وطوله من المشرق إلى المغرب ثمانمائة ألف وسبعمائة وأربعة وسبعون ميلاً وخمس وأربعون دقيقة، وتكسيره مساحة ثلاثمائة ألف ألف وستة آلاف وأربعمائة وثمانية وخمسون ميلاً وتسع وعشرون دقيقة، ولنذكر بعض بلاده مرتباً على حروف المعجم. أبرقوه بلدة مشهورة بأرض فارس. هم يسمونها دركوه يعني قرب الجبل، لأن بها تلاً عظيماً. حكي في أخبار الفرس أن سعدى بنت تبع كانت زوجة كيكاوس، ملك الفرس، عشقت ابن زوجها سياوش وراودته عن نفسه، فامتنع عليها فأخبرت أباه أنه راودها كذباً عليه. فغضب الملك على ابنه فأجج سياوش ناراً عظيمة بأبرقوه ليدخلها، فإن كان بريئاً لا تعمل فيه النار، وإن كان خائناً يحترق، وكان هذا يمينهم، فدخلها سياوش وخرج منها سالماً فانتفت

أبسوج

منه التهمة، فتأذى من أبيه وفارقه، وذهب إلى افراسياب ملك الترك فأكرمه وزوجه ببنته، ثم قيل لافراسياب: انه يريد الغدر بك، فأخذه وقتله، فوقعت الخصومة بين الفرس والترك إلى هذا الوقت، فذكر أن التل العظيم بأبرقوه رماد نار سياوش. ومن عجائب ابرقوه أن المطر لا يقع في داخلها إلا قليلاً، وإنما يقع في حواليها دون السور، ويزعمون أن ذلك بدعاء الخليل، عليه السلام، وزعموا أن الخليل، عليه السلام، منعهم عن استعمال البقر في الزرع، وهم لا يستعملونها مع كثرتها بها. أبسوج قرية بمصر في غربي النيل، بها بيعة خاصيتها دفع الفأر، وذاك على بابها صورة فأرة في جحر، والناس يأخذون طين النيل ويطبعونه على صورة الفأرة التي في الجحر، ويحملونه إلى بيوتهم، وتهرب الفأر عن بيوتهم. وذكر أهل القرية أن مركباً كان فيه شعير وقف تحت هذه القرية، فقصد صبي من المركب وأخذ شيئاً من طين النيل وطبع به الفأرة، ونزل المركب بالطين المطبوع فتبادرت فأر المركب ترمي نفسها في الماء. فتعجب الناس من ذلك وجربوه في البيوت أيضاً، وكان أي طابع حصل في دار لم تب فيها فأرة إلا خرجت، فتقتل أو تفلت إلى موضع لا طابع فيه. فأخذ أكثر الناس الطابع وتركوه في بيتهم. أبيار مدينة بقرب الإسكندرية. بها معدن النطرون. من عجائبه أن كل شيء يقع فيه يصير نطروناً حتى لو وقع فيه ثور يصير نطروناً بجميع أجزائه، والنطرون نوع من البورق يستعمل في الأدوية.

أجر

أجر قرية في إفريقية بقرب القيروان، لها حصن وقنطرة عجيبة في موضع زعر كثيرة الحجارة، من عجائبها ان الريح العاصف دائمة الهبوب بها، وأرضها مأسدة، الأسود بها كثيرة، فلا تخلو من الريح العاصف والأسد القاصف. إخميم بلدة صغيرة عامرة بالنخيل والزروع على النيل الشرقي. من عجائبها الجبل الذي في غربيها، من أصغى إليه سمع صوتاً كخرير الماء ولغطاً شبيهاً بكلام، ولم تعرف حقيقة ذلك. وبها البرابي التي هي من عجائب مصر. والبربا عبارة عن بيت عمل فيه شجر أو طلسم. وبربا اخميم بيت فيه صور ثابتة في الحجارة بادية إلى الآن موجود. ذكر في كتاب أخبار مصر انه لما أغرق الله تعالى فرعون وجنوده في البحر، خلت مصر عن الرجال الأجناد. وكانت امرأة من بيت الفراعنة يقال لها دلوكة أرادت أن يبقى عليها اخميم، لا يطمع فيها الملوك لعدم الأجناد. وكان في زمانها ساحرة يقدمها سحرة مصر في علم السحر، يقال لها تدورة، فقالت لها دلوكة: احتجنا إليك في شيء تصنعينه يكون حرزاً لبلادنا ممن يرومه من الملوك، إذ بقينا بغير رجال. فأجابتها إلى ما أرادت وصنعت لها بربا، وهو بيت له أربعة أبواب إلى أربع جهات، وصورت فيها السفن والرجال والخيل والبغال والحمير وقالت: قد عملت لك شيئاً يغنيك عن الرجال والسلاح والحصن، فإن من أتاكم من البر يكون على الخيل والبغال والحمير، وان من أتاكم من البحر يكون في السفن، فعند ذلك تحركت الصور التي هي مثلهم وتشاكلهم فما فعلتم بالصور أصابهم مثل ذلك في أنفسهم. فكان بعد ذلك إذا أتاهم عدو تحركت الصور فقطعوا سوق الدواب، وفقأوا عيون الرجال وبقروا بطونهم

فيصيبهم مثل ذلك. وهذه الحكاية وإن كانت شبه الخرافات لكنها في جميع كتب أخبار مصر مكتوبة والبيت باق إلى الآن. وينسب إليها أبو الفيض ذو النون المصري ابن إبراهيم الاخميمي. انه كان أوحد وقته علماً وورعاً وأدباً. وله حالات عجيبة أعجب من البرابي، حكى سالم بن عبد الله المغربي قال: سألت ذا النون عن سبب توبته فقال: انه عجيب لا تطيقه! فقلت: وحق معبودك الا أخبرتني! فقال: خرجت من مصر أريد بعض القرى، فنمت في بعض الطريق ففتحت عيني، فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض فخرجت منها سكرجتان إحداهما ذهب والأخرى فضة، وفي إحداهما سمسم وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا، فقلت: حبي لزمت الباب حتى قبلني. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. وحكى يوسف بن الحسين قال: بلغني أن ذا النون يعرف اسم الله الأعظم، فقصدت مصر وخدمته سنة ثم قلت له: أيها الأستاذ أثبت عليك حق الخدمة، أريد أن تعرفني اسم الله الأعظم ولا تجد له موضعاً مثلي. فسكت حتى أتى على هذا ستة أشهر، ثم أخرج لي يوماً طبقاً ومكنةً مشدوداً في منديل، وكان ذو النون بالجيزة، قال لي: أتعرف صديقنا فلاناً بالفسطاط؟ قلت: نعم. قال: أريد أن تؤدي إليه هذا. قال: فأخذت الطبق وامشي طول الطريق وأتفكر في ذلك، فلم أصبر حتى حللت المنديل ورفعت المكنة، فإذا فأرة على الطبق أفلتت ومرت فاغتظت من ذلك وقلت له: إنه يسخر بي! فرجعت إليه مغتاظاً، فلما رآني عرف ما في وجهي فقال: يا أحمق ائتمنتك على فأرة فخنتني! أفآتمنك على اسم الله الأعظم؟ مر عني لا أراك.

أرجان

أرجان مدينة مشهورة بأرض فارس، بناها قباذ بن فيروز والد أنوشروان العادل؛ قال ابن الفقيه: من عجائبها كهف في حبل ينبع منه ماء شبيه بعرق يترشح من حجارته، يكون منه الموميا الجيد الأبيض، وعلى هذا الكهف باب حديد وحفظة، يغلق ويختم بختم السلطان إلى يوم من السنة يفتح فيه ويحضر القاضي ومشايخ البلد ويدخل الكهف رجل عريان، فيجمع ما قد اجتمع فيه من الموميا ويجعله في قارورة، فيكون مقدار مائة مثقال أو دونها، ثم يغلق الباب ويختم إلى القابل. وخاصيته أن الأنسان إذا سقي منه مقدار عدسة وقد انكسر من أعضائه شيء أو انهشم ينرل كما يشربه إلى الكسر والهشم ويصلحه. وبها قنطرة عجيبة على نهر طاب، وهي قوس واحدة سعة ما بين القائمتين ثمانون خطوة، وارتفاعها مقدار ما يخرج منها راكب الجمل وبيده أطول الأعلام. وبها بئر صاهك. ذكر أهل ارجان: أنهم امتحنوا قعرها بالمثقلات والارسان فلم يقفوا منها على قرار. يفور الدهر كله منها ماء رحى يسقي تلك القرية. وإليها ينسب الفضل بن علان من أعيان أرجان، كان به حمى الربع. قيل له: ان النعمان بن عبد الله يقدم غداً والوجه أن تتلقاه. فقال: كيف ذلك وغداً نوبة الحمى؟ لكن يا غلام هات اللحاف حتى أحم اليوم، وغداً أتلقى الرجل! الأردن ناحية بأرض الشام في غربي الغوطة وشماليها، وقصبتها طبرية، بينها وبين بيت المقدس ثلاثة أيام، بها البحيرة المنتنة التي يقال لها بحيرة طبرية. ودورة البحيرة ثلاثة أيام، والجبال تكتنفها فلا ينتفع بهذه البحيرة ولا يتولد فيها حيوان، وقد يهيج في بعض الأعوام فيهلك أهل القرى الذين هم حولها

أريحا

كلهم حتى تبقى خالية مدة، ثم يأتي يسكنها من لا رغبة له في الحياة. وان وقع في هذه البحيرة شيء لا يبقى منتفعاً به، حتى الحطب إذا وقع فيها لا تعمل النار فيه البتة، وذكر ابن الفقيه أن الغريق فيها لا يغوص بل يبقى طافياً إلى أن يموت، ويخرج من هذه البحيرة حجر على شكل البطيخ يقال له الحجر اليهودي، ذكره الفلاسفة واستعمله الأطباء لحصاة المثانة، وهو نوعان: ذكر وأنثى، فالذكر للرجال والأنثى للنساء. وبها منزل يعقوب النبي، عليه السلام، وبها جب يوسف الصديق، وإلى الآن باق، والناس يزورونها ويتبركون بها. وينسب إليها الحواريون القصارون؛ قال لهم عيسى، عليه السلام: من انصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. أريحا مدينة بقرب بيت المقدس من أعمال الأردن بالغور. ذات نخل وموز وسكر كثير، وهي قرية الجبارين التي أمر الله موسى، عليه السلام، بدخولها، فقال موسى لبني إسرائيل: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، يعني أرض الشام، فخرج موسى من مصر بستمائة ألف مقاتل عازماً للشام، فلما وصلوا إلى البرية التي بين مصر والشام، بعث موسى اثني عشر نقيباً من كل سبط واحداً رسولاً إلى الجبارين، ليعرفوا حالهم، فلما قربوا من أريحا تلقاهم رجل من العمالقة، سألهم عن حالهم فقالوا: إنا رسل موسى رسول الله إليكم. فجعلهم في كمه كما يجعل أحدنا في كمه العصافير، وذهب بهم إلى ملك العمالقة ونفضهم بين يديه، وقال: هؤلاء الذين يريدون قتالنا! أتأذن لي أن أطأهم بقدمي أفسخهم؟ فقال الملك: لا، اتركهم حتى يرجعوا إلى قومهم يعرفونهم حالنا وقوتنا وضعفهم. فرجع النقباء وذكروا للقوم ما شاهدوا، فامتنع القوم عن دخول الشام وقالوا: إن فيها قوماً جبارين. وكان

الإسكندرية

من النقباء يوشع بن نون ابن عم موسى وكالب بن يوفنا زوج أخت موسى، قالا: يا قوم ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون! وجد موسى وهارون جداً عظيماً، فقالوا: إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فينا فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. فحبسهم الله تعالى في التيه أربعين سنة فماتوا كلهم سوى يوشع وكالب، وأوحى الله تعالى إلى يوشع فدخل الشام بأولاد الممتنعين وفتحها، فأمرهم الله تعالى أن يدخلوا مدينة أريحا سجداً لله تعالى شكراً قائلين: حطة! أي سؤالنا حط ذنوبنا. وكانوا يدخلونها على استاههم قائلين حنطة، فسخط الله عليهم ورماهم بالطاغين، فهلك منهم آلاف مؤلفة وذلك قوله تعالى: فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون. الإسكندرية وهي المدينة المشهورة بمصر، على ساحل البحر. اختلف أهل السير في بانيها: فمنهم من ذهب إلى أن بانيها الإسكندر الأول، وهو ذو القرنين اشك بن سلوكوس الرومي، الذي جال الأرض وبلغ الظلمات ومغرب الشمس ومطلعها، وسد على يأجوج ومأجوج كما أخبر الله تعالى عنه، وكان إذا بلغ موضعاً لا ينفذ اتخذ هناك تمثالاً من النحاس ماداً يمناه مكتوباً عليها: ليس ورائي مذهب. ومنهم من قال بناها الإسكندر بن دارا ابن بنت الفيلسوف الرومي، شبهوه بالإسكندر الأول لأنه ذهب إلى الصين والمغرب ومات وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، والأول كان مؤمناً والثاني كان على مذهب أستاذه أرسطاطاليس، وبين الأول والثاني دهر طويل. قيل: إن الإسكندر لما هم ببناء الإسكندرية، وكانت قديماً من بناء شداد بن عاد كان بها آثار العمارة والأسطوانات الحجرية، ذبح ذبائح كثيرة للقرابين، ودخل هيكلاً كان لليونانيين وسأل ربه أن يبين له أمر

هذه المدينة هل يتم أم لا؟ فرأى في منامه قائلاً يقول له: إنك تبني هذه المدينة ويذهب صيتها في الآفاق، ويسكنها من الناس ما لا يحصى عددهم، وتختلط الرياح الطيبة بهوائها ويصرف عنها السموم، ويطوى عنها شدة الحر والزمهرير ويكعم عنها الشرور حتى لا يصيبها من الشياطين خبل، وان جلبت الملوك إليها جنودهم لا يدخلها ضرر. فأتى الإسكندر موضعها وشاهد طيب هوائها وآثار العمارة القديمة وعمداً كثيرة من الرخام، فأمر بحث الصناع من البلاد وجمع الآلة واختيار الوقت لبنائها، فاختاروا وقتاً وعلقوا جرساً حتى إذا حرك الجرس الصناع، يضعون البناء من جميع أطرافها في وقت واحد، فإذا هم مترقبون طار طير وقع على الجرس فحركه فوضعوا البناء. قيل ذلك للاسكندر فقال: أردت طول بقائها وأراد الله سرعة خرابها، ولا يكون إلا ما أراد الله فلا تنقضوها. فلما ثبت أساسها وجن الليل خرجت من البحر دابة وخربت ما بنوا، فلم يزل يحكمها كل يوم ويوكل بها من يحفظها، فأصبحوا وقد خربت. فأمر الإسكندر باتخاذ عمد عليها طلسم لدفع الجن، فاندفع عنها أذيتهم. قال المسعودي: الأعمدة التي للطلسم عليها صور وأشكال وكتابة باقية إلى زماننا، كل عمود طوله ثمانون ذراعاً، عليها صور وأشكال وكتابة، فبناها الإسكندر طبقات تحتها قناطر بحيث يسير الفارس تحتها مع الرمح. وكان عليها سبعة أسوار، وهي الآن مدينة كثيرة الخيرات، قال المفسرون: كانت هي المراد من قوله تعالى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً. وكان بها يوم الزينة واحتجاج موسى والسحرة. وكان موسى قبل الإسكندر بأكثر من ألف سنة. بها مجلس سليمان، عليه السلام؛ قال الغرناطي: إنه خارج الإسكندرية، بنته الجن منحوتاً من الصخر بأعمدة الرخام لا مثل لها، كل عمود على قاعدة

من الرخام وعلى رأسه مثل ذلك، والرخام أبيض منقط بحمرة وسواد مثل الجزع اليماني، طول كل عمود ثلاثون ذراعاً ودورته ثمانية أذرع، وله باب من الرخام وعتبته وعضادتاه أيضاً من الرخام الأحمر الذي هو أحسن من الجزع، وفي هذا المجلس أكثر من ثلاثمائة عمود كلها من جنس واحد وقد واحد، وفي وسط هذا المجلس عمود من الرخام على قاعدة رخامية، طوله مائة وإحدى عشرة ذراعاً ودوره خمسة وأربعون شبراً، إني شبرتها بشبري. ومن عجائبها عمود يعرف اليوم بعمود السواري قريب من باب الشجرة من أبواب الإسكندرية، فإنه عظيم جداً كأنه منارة عظيمة، وهو قطعة واحدة منتصب على قاعدة من حجر عظيم مربع، وعلى رأسه حجر آخر مثل القاعدة كأنه بيت، فإن تحت ذلك من مقطعه وانتصابه ورفع الحجر الفوقاني على رأسه يدل على أن فاعليه كانوا في قوة شديدة، وكانوا بخلاف أهل زماننا. ومن عجائبها ما ذكر أبو الريحان في الآثار الباقية ان بالإسكندرية اسطوانة متحركة، والناس يقولون إنها تتحرك بحركة الشمس، وإنما قالوا ذلك لأنها إذا مالت يوضع تحتها شيء، فإذا استوت لا يمكن أخذها، وإن كان خزفاً أو زجاجاً يسمع تقريعه، وكانت الإسكندرية مجمع الحكماء، وبها كان معاريجهم مثل الدرج، يجلس عليها الحكماء على طبقاتهم فكان أوضعهم علماً الذي يعمل الكيمياء، فإن موضعه كان على الدرجة السفلى. ومن عجائبها المنارة أسفلها مربع من الصخر المنحوت، وفوق ذلك منارة مثمنة، وفوق المثمنة منارة لطيفة مدورة، طول الأولى تسعون ذراعاً، والمثمنة مثل ذلك، وطول اللطيفة المدورة ثلاثون ذراعاً، وعلى أعلى المنارة مرآة وعليها موكل ينظر إليها كل لحظة، فإذا خرج العدو من بلاد الروم وركب البحر، يراه الناظر في المرآة ويخبر القوم بالعدو فيستعدون لدفعه. وكانت المرآة باقية إلى زمن الوليد بن عبد الملك بن مروان، فأنفذ ملك الروم شخصاً من خواصه ذا دهاء، فجاء إلى بعض الثغور وأظهر أنه هارب من ملك الروم ورغب في

الإسلام، وأسلم على يد الوليد بن عبد الملك واستخرج له دفائن من أرض الشام. فلما صارت تلك الأموال إلى الوليد شرهت نفسه فقال له: يا أمير المؤمنين إن ههنا أموالاً ودفائن للملوك الماضية. فسأله الوليد عن مكانه فقال: تحت منارة الإسكندرية، فإن الإسكندر احتوى على أموال شداد بن عاد وملوك مصر والشام فتركها في آزاج وبنى عليها المنارة. فبعث الوليد معه قوماً لاستخراجها فهم نقضوا نصف المنارة وأزيلت المرآة، فضجت الناس من أهل الإسكندرية. فلما رأى العلج ذلك وعلم أن المرآة أبطلت هرب بالليل في مركب نحو الروم وتمت حيلته. والمنارة في زماننا حصن عال على نيق جبل مشرف على البحر في طرف جزيرة، بينها وبين البر نحو شوط فرس، ولا طريق إليها إلا في البحر المالح، وهي مربعة ولها درج واسعة يصعدها الفارس بفرسه. وقد سقفت الدرج بحجارة طوال مركبة على الحائطين المكتنفين للدرجة، فترتقي إلى طبقة عالية مشرفة على البحر بشرفات محيطة، وفي وسطه حصن آخر يرتقى إليه بدرجة أخرى فيصعد إلى طبقة أخرى لها شرفات، وفي وسطها قبة لطيفة كأنها موضع الديدبان. وحكي أن عبد العزيز بن مروان لما ولي مصر جمع مشايخها وقال: إني أريد أن أعيد بناء الإسكندرية إلى ما كانت. فقالوا: انظرنا حتى نتفكر. فقال: أعينوني بالرجال وأنا أعينكم بالمال. فذهبوا إلى ناووس وأخرجوا منه رأس آدمي وحملوه على عجلة ووزنوا سناً من أسنانه فوجودها عشرين رطلاً على ما بها من

أسيوط

النخر والقدم، فقالوا: جئنا بمثل هؤلاء الرجال حتى نعيدها إلى ما كانت. فسكت. بها عين مشهورة بعين الإسكندرية، فيها نوع من الصدف يوجد في كل وقت لا يخلو منه في شيء من الأوقات، يطبخ وتشرب مرقته تبريء من الجذام. والله الموفق. أسيوط مدينة في غربي النيل من نواحي الصعيد في مستوى، كثيرة الخيرات عجيبة المتنزهات، وعجائب عماراتها وصورها مما يرى لا مما يذكر. ولما صورت الدنيا للرشيد لم يستحسن غير كورة اسيوط، لكثرة ما بها من الخيرات والمتنزهات. فيها سبع وخمسون كنيسة للنصارى. ومن عجائبها ان بها ثلاثين ألف فدان، ينشر ماؤها في جميعها وإن كان قليلاً لاستواء سطح أرضها، ويصل الماء إلى جميع أقطارها. وبها الأفيون المصري الذي يحمل إلى سائر البلاد، وهو عصارة ورق الخشخاش الأسود والخس. وبها سائر أنواع السكر ومنها يحمل إلى جميع الدنيا. وبها مناسج الديبقي والثياب اللطيفة التي لا يوجد مثلها في شيء من البلاد. إصطخر مدينة بأرض فارس قديمة لا يدرى من بناها، كان سليمان، عليه السلام، يتغدى بأرض الشام ببعلبك ويتعشى بإصطخر. بها بيت نار عظيم للمجوس ويقولون إنه كان مسجد سليمان، عليه السلام؛ قال المسعودي: إنه خارج المدينة، دخلته فرأيت بنياناً عجيباً وأساطين صخر عجيبة على أعلاها صور من الصخر عظيمة الأشكال. ذكر أهل الموضع أنها صور الأنبياء، وهو في سفح جبل وهو هيكل عظيم، من عجائبه أن الريح

إفريقية

لا تفارق ذلك الهيكل ليلاً ولا نهاراً، ولا تفتر عن الهبوب ساعة، يقولون: ان سليمان، عليه السلام، حبس الريح فيه. وذكر ابن الأثير الجزري في تاريخه: أن السلطان الب أرسلان لما فتح قلعة اصطخر وجد بها قدح فيروزج اسم جمشيد الملك مكتوب عليه. ومن عجائبه تفاح بعضه حلو وبعضه حامض، قال الاصطخري: حدث بذلك الأمير مرداس بن عمرو فأنكر الحاضرون، فأحضر حتى رأوه وزال إنكارهم. وينسب إليها الاصطخري صاحب كتاب الأقاليم، فإنه ذكر في كتابه النواحي المعمورة وذكر بلادها وقراها والمسافات بينها وخواص موضع ان كان له خاصية، وما قصر في جميع ذلك الكتاب. إفريقية مدينة كبيرة كثيرة الخيرات طيبة التربة وافرة المزارع والأشجار والنخل والزيتون، وكانت افريقية قديماً بلاداً كثيرة، والآن صحارى مسافة أربعين يوماً بأرض المغرب. بها برابر وهم مزاتة ولواتة وهوارة وغيرهم. وماء أكثر بلادها من الصهاريج. وبها معادن الفضة والحديد والنحاس والرصاص والكحل والرخام. ومن عجائبها بحيرة بنزرت، حدثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني: انه يظهر في كل شهر من السنة فيها نوع من السمك يخالف النوع الذي كان قبله، فإذا انتهت السنة يستأنف الدور فيرجع النوع الأول، وهكذا كل سنة. وكذلك نهر شلف فإنه في كل سنة في زمان الورد يظهر فيه صنف من السمك يسمى الشهبوق، وهو سمك طوله ذراع، ولحمه طيب إلا أنه كثير الشوك ويبقى شهرين. ويكثر صيدها في هذا الوقت ويرخص ثمنها ثم ينقطع إلى القابل، فلا يوجد في النهر شيء منها إلى السنة القابلة أوان الورد.

أفيق

وذكر أبو الحسن علي الجزري في تاريخه: انه نشأت بافريقية في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وأربعمائة سحابة شديدة الرعد والبرق، فأمطرت حجارة كثيرة وأهلكت كل من أصابته. أفيق قرية من قرى مصر. ذكر بعض الصالحين انه رأى في نومه ملكاً نزل من السماء وقال له: أتريد أن تغفر ذنوبك؟ قال الرجل: منيتي ذلك! فقال: قل مثل ما يقوله مؤذن افيق. قال: فذهبت إلى افيق فرأيت المؤذن لما فرغ من الأذان قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. بها أشهد مع الشاهدين، وأحملها مع الجاحدين، وأعدها ليوم الدين. وأشهد أن الرسول كما أرسل، والكتاب كما أنزل، والقضاء كما قدر، وان الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور، على ذلك أحيا وأموت وأبعث إن شاء الله تعالى. أنصنا مدينة قديمة على شرقي النيل بأرض مصر؛ قال ابن الفقيه: أهل هذه المدينة مسخوا حجراً! فيها رجال ونساء مسخوا حجراً على أعمالهم: فالرجل نائم مع زوجته، والقصاب يقطع لحمه، والمرأة تخمر عجينها، والصبي في المهد، والرغفان في التنور كلها انقلبت حجراً صلداً. وبأنصنا شجر اللبخ وهو عود ينشر لألواح السفينة، ربما أرعف ناشره فيكون له قيمة، وإذا شد لوح بلوح وترك في الماء سنة صار لوحاً واحداً، فإذا اتخذ منها سفينة وبقي في الماء مدة صار كأن السفينة قطعة واحدة، فلعل عزتها من هذه الجهة، ولشجرته ثمرة تشبه البلح في لونه وشكله وطعمه.

أنطاكية

أنطاكية مدينة عظيمة من أعيان المدن على طرف بحر الروم بالشام. موصوفة بالنزاهة والحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء، وفي داخلها مزارع وبساتين. وانها بنتها انطاكية بنت الروم بن اليقن بن سام بن نوح، عليه السلام، ذات سور وفصيل. ولسورها ثلاثمائة وستون برجاً، يطوف عليها أربعة آلاف حارس من عند صاحب القسطنطينة، يضمنون حراستها سنةً ويستبدل بهم في السنة الثانية، وسورها مبني على السهل والجبل من عجائب الدنيا. دورتها اثنا عشر ميلاً. وكل برج من أبراجها منزل بطريق فسكنه بخدمه وخوله، وجعل كل برج طبقات أسفله مرابط الخيل، وأوسطه منزل الرجال، وأعلاه موضع البطريق. وكل برج كحصن عليه أبواب حديد، وفيها ما لا سبيل إلى قطعه من الخارج. والمدينة دائرة نصفها سهلي ونصفها جبلي، وقطر الدائرة فاصلة بين السهلي والجبلي. ولها قلعة عالية جداً تتبين من بعد بعيد تستر الشمس عن المدينة، فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية. وبها بيعة القسيان، وهو الملك الذي أحيا ولده رئيس الحواريين فطرس، كما جاء في القصة في قوله تعالى: واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون. وعلى باب بيعة القسيان صحنان لساعات الليل والنهار، يعمل كل واحد اثنتي عشرة ساعة، وفي بيعة القسيان من الخدم والمسترزقة ما لا يحصى، ولها ديوان فيه بضعة عشر كاتباً. والمدينة خمس طبقات، على الطبقة الخامسة الحمامات والبساتين ومناظر حسنة، وسبب ذلك أن الماء ينزل من الجبل المطل عليها، وقد عملوا على الماء الحمامات والبساتين. وفيها من الكنائس ما لا يعد، كلها معمولة بالفص المذهب والزجاج الملون والبلاط المجزع. وحماماتها

أنطرطوس

أطيب الحمامات لأن ماءها العذب السيح ووقودها الآس. قال المسعودي: رأيت فيها من الماء ما يستحجر في مجاريها المعمولة من الخزف. وحكي أنه كان بأنطاكية إذا أخرج الإنسان يده إلى خارج السور وقع عليه البق، وإذا جذبها إلى داخل لا يبقى عليه شيء من البق، إلى أن كسروا عموداً من رخام، فوجدوا في أعلاه حقة من النحاس فيها بق من نحاس مقدار كف، فبطلت تلك الخاصية من ذلك الوقت، فالآن يعم البق جميع المدينة. وبها نوع من الفأر يعجز السنور عنه. وبها مسجد حبيب النجار صاحب يونس، رحمة الله عليه، الذي قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى بصيحة، وكان بأنطاكية مؤمنون وكفار، فالصيحة ما أيقظت المؤمنين عن نومهم، وأهلكت الكفار كما قال تعالى: ان كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون. ومسجد حبيب في وسط سوق انطاكية، فيه قبره يزور الناس، وبها قبر يحيى بن زكرياء، عليه السلام. أنطرطوس حصن على بحر الروم لأهل حمص، وهو ثغر به مصحف عثمان بن عفان يذهب الناس إليه تبركاً به. أورم الجوز قرية من نواحي حلب، بها بنية كأنها كانت في القديم معبداً، يرى المجاورون لها من أهل القرى بالليل منها ضوء نار ساطعاً، فإذا جاؤوها لم يروا شيئاً البتة، وفي هذه البنية ثلاثة ألواح من حجارة عليها مكتوب بلفظ القديم ما استخرج وفسر، وكان ما على اللوح القبلي، الاله واحد، كملت هذه البنية في تاريخ ثلاثمائة وعشرين لظهور المسيح، عليه السلام، وعلى اللوح الذي

الأهواز

على وجه الباب: سلام على من كمل هذه البنية. واللوح الشمالي: هذا الضوء المشرق الموهوب من الله لنا في أيام البربرة في الدور الغالب، المتجدد في أيام الملك اناوس الحرين المنقولين وقلاسس وحنا وقاسوس وبلانيا في شهر أيلول في الثاني عشر من التاريخ المتقدم، والسلام على شعوب العالم والوقت الصالح. الأهواز ناحية بين البصرة وفارس، ويقال لها خوزستان، بها عمارات ومياه وأودية كثيرة، وأنواع الثمار والسكر والرز الكثير لكنها في صيفها لا يفارق الجحيم. ومن محنها شدة الحر وكثرة الهوام الطيارة والحشرات القتالة؛ قالوا: ذبابها كالزنبور وطنينها كصوت الطنبور، لا ترى بها شيئاً من العلوم والآداب ولا من الصناعات الشريفة. وأهلها ألأم الناس. لا ترى بها وجنة حمراء. وهواؤها قتال خصوصاً للغرباء، لا تنقطع حماها ولا ينكشف وباؤها البتة، وأهلها في عذاب اليم. وحكى مشايخ الأهواز انهم سمعوا القوابل ان المولود ربما يولد فنجده محموماً تلك الساعة. ومن تمام محنهم أن مأكول أهلها الرز، وهم يخبزونه كل يوم لأنه لا يطيب إلا مسخناً، فيسجر كل يوم في ذلك الحر الشديد خمسون ألف تنور، فيجتمع حر الهواء وحر النيران ودخانها والبخار المتصاعد من سباخها ومناقعها ومسايل كنفها ومياه أمطارها، فإذا طلعت الشمس ارتفعت بخاراتها واختلطت بهوائها الذي وصفناه، فيفسد الهواء أي فساد ويفسد بفساده كل ما اشتمل عليه. وتكثر الأفاعي في أراضيها، والجرارات من العقارب التي لا ترفع ذنبها كسائر العقارب بل تجره. ولو كان في العالم شيء شراً من الأفاعي والجرارات لما قصرت قصبة الاهواز عن توليده، وإذا حمل إلى الاهواز الطيب تذهب

أيلة

رائحته ولا يبقى منتفعاً به. ينسب إليها أبو الحسن الاهوازي المنشيء صاحب الكلام المرصع، له رسالة حسنة في ذلك الأسلوب وهو متفرد به. أيلة مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، كانت مدينة جليلة في زمن داود، عليه السلام، والآن يجتمع بها حجيج الشام ومصر من جاء بطريق البحر، وهي القرية التي ذكرها الله تعالى حاضرة البحر. كان أهلها يهوداً حرم الله تعالى عليهم يوم السبت صيد السمك، وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاً سماناً كأنها الماخض حتى لا يرى وجه الماء لكثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم. فكانوا على ذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان وسوس إليهم وقال: إنما نهيتم عن صيدها يوم السبت فاتخذوا حياضاً حول البحر، وسوقوا إليها الحيتان يوم السبت، فتبقى فيها محصورة واصطادوا يوم الأحد، وفي غير يوم السبت لا يأتيهم حوت واحد، ففعلوا ما أمرهم الشيطان خائفين. فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم أخذوا وأكلوا وملحوا وباعوا. وكان أهل القرية نحواً من سبعين ألفاً فصاروا أثلاثاً: ثلث ينهون القوم عن الذنب، وثلث قالوا: لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم؟ وثلث يباشرون الخطيئة. فلما تنبهوا قال الناهون: نحن لا نساكنكم. فقسموا القرية للناهين باب وللمتعدين باب، ولعنهم داود، عليه السلام. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم لم يروا من المتعدين أحداً، فقالوا: إن للقوم شأناً، لعل الخمر غلبتهم! فعلوا الجدار ونظروا فإذا هم قردة فدخلوا عليهم، والقردة تعرف أنسابها والأنساب لا يعرفونها. فجعلت القردة تأتي نسيبها من الانس فتشم ثيابه وتذرف دمعة، فيقول نسيبها: ألم أنهك عن السوء؟ فتشير القردة برأسها يعني نعم. ثم ماتت بعد ثلاثة أيام.

باميان

باميان ناحية بين خراسان وأرض الغور، ذات مدن وقرى وجبال وأنهار كثيرة من بلاد غزنة. بها بيت ذاهب في الهواء وأساطين نقش عليها صور الطير، وفيه صنمان عظيمان من الحجر: يسمى أحدهما سرج بت، والآخر خنك بت، وما عرف خاصية البيت ولا خاصية الصنم. قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض باميان ضيعة غير مسكونة، من نام فيها يزبنه أخذ برجله، فإذا انتبه لا يرى أحداً، فإن نام يفعل به ذلك مرة أخرى حتى يخرج منها. بها معادن الزئبق ذكره يعقوب البغدادي. قال في تحفة الغرائب: بأرض باميان عين ينبع منها ماء كثير ولها صوت وغلبة ويشم من ذلك الماء رائحة الكبريت، من اغتسل به يزول جربه، وإذا رفع من ذلك الماء شيء في ظرف وشد رأسه شداً وثيقاً وترك يوماً يبقى الماء في الظرف خاثراً مثل الخمير، وإذا عرضت عليه شعلة النار يشتعل. ينسب إليها الحكيم أفضل البامياني. كان حكيماً فاضلاً عارفاً أنواع الحكمة. طلبه صاحب فارس أتابك سعد بن زنكي وأكرمه وأحسن إليه وقال له: أريد أن تحكم على مولودي. فقال أفضل: الأحكام النجومية لا يوثق بها، قد تصيب وتخطيء، لكني أفعل ذلك لسنة أو سنتين من الماضي، فإن وافق عملت للمستقبل. فلما فعل ذلك قال الملك: ما أخطأت شيئاً منها! وكان عنده حتى مات. بداً قرية بتهامة على ساحل البحر مما يلي الشام، وهي قرية يعقوب النبي، عليه السلام، كان بها مسكنه في أيام فراق يوسف، عليه السلام، ويقال لهذه القرية بيت الأحزان، لأن يعقوب كان بها حزيناً مدة طويلة، ومنها سار إلى

براق

مصر إلى يوسف، عليه السلام. فجاءت الفرنج في زمن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد عمروها، وجعلوا لها حصناً حصيناً؛ قال بعض الشعراء: هلاك فرنجٍ أتى عاجلاً ... وقد آن تكسير صلبانها ولو لم يكن حينها قد أنى ... لما عمرت بيت أحزانها وكان الأمر كما قال الشاعر. قصدها الملك صلاح الدين وفتحها وخربها وكسر صلبانها. براق قرية من قرى حلب. حدث غير واحد من أهل حلب أن بها معبداً يقصده المرضى والزمنى، يبيتون فيه فيرى المريض من يقول له: شفاؤك كذا وكذا! وربما يرى شخصاً يمسحه بيده فتزول منه الآفة. وهذا شيء مستفاض في أهل حلب. البشمور كورة بمصر، بها قرى وريف وغياض، بها كباش ليس في جميع البلاد مثلها عظماً وحسناً وكبر ألايا، حتى لا يستطيع حملها، فيتخذ لآليته عجلة تحمل عليها أليته، وتشد العجلة بحبل إلى عنقه، فيظل يرعى ويجر العجلة التي عليها أليته، فإذا نزعت العجلة سقطت الالية على الأرض وربض الكبشة ولم يمكنه القيام، ولا يوجد مثل هذا الصنف في شيء من البلاد.

بعلبك

بعلبك مدينة مشهورة بقرب دمشق، وهي قديمة كثيرة الأشجار والمياه والخيرات والثمرات، ينقل منها الميرة إلى جميع بلاد الشام. وبها أبنية وآثار عجيبة وقصور على أساطين الرخام لا نظير لها. قيل: انها كانت مهر بلقيس! وبها قصر سليمان بن داود، عليه السلام، وقلعتها مقام الخليل، عليه السلام، وبها دير الياس النبي، عليه السلام. قالوا: إن ذلك الموضع يسمى بك في قديم الزمان حتى عبد بنو إسرائيل بها صنماً اسمه بعل، فاضافوا الصنم إلى ذلك الموضع، ثم صار المجموع اسماً للمدينة، وأهلها على عبادة هذا الصنم، فبعث الله إليهم الياس النبي، عليه السلام، فكذبوه، فحبس عنهم القطر ثلاث سنين. فقال لهم نبي الله: استسقوا أصنامكم، فإن سقيتم فأنتم على الحق، وإلا فإني أدعو الله تعالى ليسقيكم، فإن سقيتم فآمنوا بالله وحده! فأخرجوا أصنامهم واستسقوا وتضرعوا فما أفادهم شيئاً، فرجعوا إلى نبي الله فخرج ودعا فظهر من جانب البحر سحابة شبه ترس، وأقبلت إليهم. فلما دنا منهم طبق الآفاق وأغاثهم غيثاً مريعاً أخصب البلاد وأحيا العباد، فما ازدادوا إلا شركاً، فسأل الله تعالى أن يريحه منهم فأوحى الله تعالى إليه: ان اخرج إلى مكان كذا. فخرج ومعه اليسع فرأى فرساً من نار فوثب عليه وسار الفرس به، ولم يعرف بعد ذلك خبره. بلقاء كورة بين الشام ووادي القرى، بها قرية الجبارين ومدينة الشراة. وبها الكهف والرقيم فيما زعم بعضهم. وحديث الرقيم ما روى عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار، فدخلوا فانحدرت صخرة من الجبل

وسدت عليهم الغار، فقالوا: لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم! قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا ولداً، فباتا في ظل شجر يوماً فلم أبرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا ولداً، فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر، والصبية يتضاغون، فاستيقظا وشربا غبوقهما! اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة! فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه. وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت من أحب الناس إلي، فراودتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بنا سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه! فتخرجت من الوقوع عليها وانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجراً فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فنمت أجرته حتى كثرت منه الأموال. فجاءني بعد حين وقال: يا عبد الله هات أجرتي! فقلت له: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق من أجرتك! فقال: يا عبد الله لا تستهزيء بي! فقلت: لا أستهزيء! فاستاق كله ولم يترك منه شيئاً. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.

بلينا

بلينا مدينة بصعيد مصر على شاطيء النيل. قالوا: إن بها طلسماً لا يمر بها تمساح إلا ينقلب على ظهره. والتمساح إذا انقلب على ظهره لا يقدر على الانقلاب إلى بطنه، فيبقى كذلك حتى يموت أو يصطاد. بلرم مدينة بجزيرة صقلية في بحر المغرب؛ قال ابن حوقل الموصلي: بها هيكل عظيم سمعت أن أرسطاطاليس فيه في شيء من الخشب معلق، والنصارى تعظم قبره وتستسقي به لاعتقاد اليونانيين به، قال: ورأيت فيها من المساجد أكثر ما رأيت في شيء من البلاد، حتى رأيت على مقدار غلوة هم أكثر من عشرة مساجد، ورأيت بعضها تجاه بعض. فسألت عن ذلك فقالوا: القوم لانتفاخ أدمغتهم لا يرضى أحدهم أن يصلي في مسجد غيره، ويكون له مسجد لا يصلي فيه غيره. بنارق قرية بين بغداد والنعمانية مقابل دير قنى على دجلة، والآن خراب، ذكر أبو بكر النحوي البنارقي أن عساكر السلجوقية كثرت بطرقهم على قريتنا، والقرية لا سور لها، كلما جاؤوا دخلوا وثقلوا علينا، فأجمعنا على مفارقتها والعسكر قريب منا وتهيأنا لذلك إلى الليل لنعبر دجلة ونلتحق بدير قنى، فإنها كانت ذات سور، فاستصحبنا من أمتعتنا ما خف على الأكتاف ولدواب، فإذا نيران عظيمة ملأت البرية، فظنناها نار العسكر وندمنا على الخروج، وقلنا الآن يأخذون جميع ما معنا! ونحن في هذا الحديث والنيران قد دهمتنا، فإذا هي سائرة بنفسها ولا حامل لها، وسمعنا من خلالها أصواتاً حزينة كالنياحة،

بنزرت

يقول بعضهم: فلا ثقبهم ينسدّ ولا ماؤهم يجري ... وخلّوا منازلهم وساروا مع الفجر فعلمنا أنهم الجن، وكان الأمر كما قالوا، فإن الأنهار فسدت، وما يفرغ الملوك لإصلاحها، وبقيت القرى إلى الآن خراباً، وذلك في سنة خمس وأربعين وخمسمائة. بنزرت مدينة بافريقية على ساحل البحر، يشقها نهر كبير كثير السمك، لها قلاع حصينة يأوي إليها أهل النواحي إذا خرج الروم غزاة، وبها رباطات للصالحين، وانفردت بنزرت ببحيرة تخرج من البحر الكبير إلى مستقر تجاهها، يخرج منها في كل شهر صنف من السمك لا يشبه الصنف الذي كان في الشهر الماضي إلى تمام السنة، ثم يعود الدور إلى الأول، والسلطان مضنه باثني عشر ألف دينار. بيت لحم قرية على فرسخين من بيت المقدس، كان بها مولد عيسى، عليه السلام. وبها كنيسة فيها قطعة من النخل، زعموا أنها النخلة التي أكلت منها مريم لما قيل لها: وهزي إليك بجذع النخلة. بها الماء الذي يقال له المعبودية، وهو ماء ينبدي من حجر، وإنه عظيم القدر عند النصارى. بيت المقدس هي المدينة المشهورة التي كانت محل الأنبياء وقبلة الشرايط ومهبط الوحي. بناها داود وفرغ منها سليمان، عليه السلام؛ وعن أبي بن كعب: ان الله تعالى

أوحى إلى داود: ابن لي بيتاً. فقال: يا رب أين؟ قال: حيث ترى الملك شاهراً سيفه! فرأى داود ملكاً على الصخرة بيده سيف، فبنى هناك، ولما فرغ سليمان من بنائها أوحى الله تعالى إليه: سلني أعطك! فقال: يا رب أسألك أن تغفر لي ذنبي! فقال: لك ذلك! قال: وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد! فقال: لك ذلك! قال: وأسألك لمن جاءه فقيراً أن تغنيه! قال: ولك ذلك! قال: وأسألك إن جاءه سقيماً أن تشفيه! قال: ولك ذلك. وعن ابن عباس: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، وما فيه موضع شبر إلا وصلى فيه نبي أو قام فيه ملك. واتخذ سليمان فيها أشياء عجيبة: منها قبة، وهي قبة كانت فيها سلسلة معلقة ينالها المحق ولا ينالها المبطل حتى اضمحلت بالحيلة المعروفة، ومنها أنه بنى فيها بيتاً وأحكمه وصقله، فإذا دخله الورع والفاجر كان خيال الورع في الحائط أبيض، وخيال الفاجر أسود. ومنها أنه نصب في زاوية عصا آبنوس، من زعم صادقاً أنه من أولاد الأنبياء ومسها لم يضره، وإن لم يكن من أولاد الأنبياء إذا مسها احترقت يده. ثم ضرب الدهر ضربانه واستولت عليها الجبابرة وخربوها، فاجتاز بها عزير، عليه السلام، فرآها خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وقد عمرها ملك من ملوك الفرس اسمه كوشك، فصارت أعمر مما كانت وأكثر أهلاً، والتي عليها الآن أرضها وضياعها جبال شاهقة، وليس بقربها أرض وطئة، وزروعها على أطراف الجبال بالفؤوس لأن الدواب لا عمل لها هناك. وأما نفس المدينة ففي فضاء في وسط ذلك، وأرضها كلها حجر، وفيها عمارات كثيرة حسنة، وشرب أهلها من ماء المطر. ليس فيها دار إلا وفيها صهريج. مياهها تجتمع من الدروب، ودروبها حجرية ليست كثيرة الدنس، لكن مياهها

رديئة. وفيها ثلاث برك: بركة بني إسرائيل، وبركة سليمان، وبركة عياض. قال محمد بن أحمد البشاري المقدسي، وله كتاب في أخبار بلدان الإسلام: إنها متوسطة الحر والبرد، وقلما يقع بها ثلج، ولا ترى أحسن من بنيانها ولا أنظف ولا أنزه من مساجدها! قد جمع الله فيها فواكه الغور والسهل والجبل والأشياء المتضادة: كالأترج واللوز والرطب والجوز والتين والموز، إلا أن بها عيوباً منها ما ذكر في التوراة: انها طست ذهب مملوء عقارب، ثم لا يرى أقذر من حماماتها ولا أثقل مونة منها! وهي مع ذلك قليلة العلماء كثيرة النصارى، وفيهم جفاء على الرحبة والفنادق والضرائب ثقال على ما يباع فيها، وليس لمظلوم ناصر وليس بها أمكن من الماء والأذان. بها المسجد الأقصى الذي شرفه الله تعالى وعظمه وقال: إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله. وقال، صلى الله عليه وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا. وهو في طرف الشرق من المدينة، أساسه من عمل داود، عليه السلام. طول كل حجر عشرة أذرع، وفي قبلته حجر أبيض عليه مكتوب: محمد رسول الله، خلقة لم يكتبه أحد. وصحن المسجد طويل عريض طوله أكثر من عرضه، وهو في غاية الحسن والإحكام، مبني على أعمدة الرخام الملونة، والفسيفساء الذي ليس في شيء من البلاد أحسن منه. وفي صحن المسجد مصطبة كبيرة في ارتفاع خمسة أذرع، يصعد إليه من عدة مواضع بالدرج، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة مثمنة على أعمدة رخام مسقفة برصاص، منمقة من داخل وخارج بالفسيفساء، مطبقة بالرخام الملون. وفي وسطها الصخرة التي تزار، وعلى طرفها أثر قدم النبي، عليه السلام، وتحتها مغارة ينزل إليها بعدة درج يصلى فيها. ولهذه القبة أربعة أبواب، وفي شرقيها خارج القبة قبة أخرى على أعمدة حسنة يقولون: انها قبة السلسلة. وقبة المعراج أيضاً على المصطبة، وكذلك قبة النبي، عليه

السلام. كل ذلك على أعمدة مطبقة أعلاها بالرصاص، وذكر أن طول قبة الصخرة كان اثني عشر ميلاً في السماء، وكان على رأسها ياقوتة حمراء كان في ضوئها تغزل نساء أهل بلقاء. وبها مربط البراق الذي ركبه النبي، عليه السلام، تحت ركن المسجد. وبها محراب مريم، عليها السلام، الذي كانت الملائكة تأتيها فيه بفاكهة الشتاء في الصيف وبفاكهة الصيف في الشتاء. وبها محراب زكرياء، عليه السلام، الذي بشرته الملائكة بيحيى. عليه السلام، وهو قائم يصلي في المحراب. وبها كرسي سليمان الذي كان يدعو الله عليه. وعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى أرسل ملك الموت إلى موسى، عليه السلام، فصكه، فرجع إلى ربه وقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! فقال: ارجع إليه وقل له حتى يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعر سنة. قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: ثم الموت! فسأل الله تعالى أن يقبره من الأرض المقدسة رمية حجر، فلو كنت ثمة لأريتكم قبره إلى جنب الطريق تحت الكثيب الأحمر. أما المسجد فطوله سبعمائة ذراع وأربعة وثمانون ذراعاً، وعرضه أربعمائة وخمسة وخمسون ذراعاً، وعدة ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون، وداخل الصخرة ثلاثون عموداً، وقبة الصخرة ملبسة بصفائح الرصاص، عليها ثلاثة آلاف صفيحة واثنتان وتسعون، ومن فوق ذلك الصفائح النحاس مطلية بالذهب، وفي سقوف المسجد أربعة آلاف خشبة، وعلى السقوف خمسة وأربعون ألف صفيحة رصاص. حجر الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعاً في سبعة وعشرين، والمغارة التي تحت الصخرة تسع تسعاً وستين نفساً. ويسرج في المسجد ألف وخمسمائة قنديل، ويسرج في الصخرة أربعمائة وأربعة وستون قنديلاً. وكانت وظيفته كل شهر مائة قسط زيتاً، وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصيراً، وكان له من الخدم

بلاد بربر

مائتان وثلاثون مملوكاً، أقامهم عبد الملك بن مروان من خمس الأسارى، ولذلك يسمون الأخماس، كان رزقهم من بيت المال. وبها قمامة، وهي كنيسة عظيمة للنصارى في وسط البلد، لا ينضبط صفتها حسناً وعمارة وتنميقاً وكثرة مال. في موضع منها قنديل يزعمون أن نوراً من السماء ينزل في يوم معلوم ويشعله، وهذا أمر مشهور عندهم. حكي أن بعض أصحاب السلطان ذهب إليها ذلك اليوم وقال: إني أريد أن أشاهد نزول هذا النور، فقال له القس: إن مثل هذه الأمور لا تخفى على أمثالك! لا تبطل ناموسنا فإنا نشبه على أصحابنا لتمشية أمرنا، فتجاوز عنه! وبها عين سلوان يتبرك بها الناس؛ قال ابن البشار: سلوان محلة في ربض بيت المقدس، تحتها عين غزيرة تسقي جناناً كثيرة، وقفها عثمان بن عفان على ضعفاء بيت المقدس. قالوا: إن ماءها يفيد السلو إذا شربه الحزين، ولهذا قال رؤبة: لو أشرب السلوان ما سلوت. بلاد بربر بلاد واسعة من برقة إلى آخر بلاد المغرب والبحر المحيط. سكانها أمة عظيمة يقال إنهم من بقية قوم جالوت، لما قتل هرب قومه إلى المغرب فحصلوا في جبالها، وهم أحفى خلق الله وأكثرهم بطشاً، وأسرعهم إلى الفتنة وأطوعهم لداعية الضلالة! ولهم أحوال عجيبة واصطلاحات غريبة، سول لهم الشيطان الغوايات وزين لهم أنواع الضلالات. عن أنس بن مالك قال: جئت إلى رسول الله، عليه السلام، ومعي وصيف، فقال، صلى الله عليه وسلم: يا أنس ما جنس هذا الغلام؟ قلت: بربري يا رسول الله! فقال: بعه ولو بدينار! قلت: ولم يا رسول الله؟ قال: إنهم أمة بعث الله إليهم رسولاً فذبحوه وطبخوه، وأكلوا لحمه وبعثوا مرقه إلى نسائهم! قال الله تعالى: لا اتخذت منكم نبياً ولا بعثت إليكم رسولاً.

البيضاء

وعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ولأن أتصدق بعلاقة سوطي في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق رقبة بربرية! ولكثرة ما تخالف حالاتهم وعاداتهم سائر الناس قال بعض المغاربة: رأيت آدم في نومي فقلت له: ... أبا البريّة إنّ النّاس قد حكموا أنّ البرابر نسلٌ منك؛ قال: أنا! ... حوّاءٌ طالقةٌ إن صحّ ما زعموا ومن عاداتهم العجيبة ما حكى ابن حوقل الموصلي التاجر وقد طاف بلادهم: إن أكثر البربر يضيفون المارة ويكرمون الضيف ويطعمون الطعام ولا يمنعون أولادهم الذكور من طالب التبديل، لو طلب هذا المعنى ممن هو أكبرهم قدراً وأكثرهم حمية وشجاعة لم يمتنع عليه. وقد شاهدهم أبو عبد الله الشعبي على ذلك حتى بلغ بهم أشد مبلغ فما تركوه. ومن العجب أنهم يرون ذلك كرماً والامتناع عنه لؤماً ونقصاً، ونسأل الله السلامة! وحكي أيضاً أن أحدهم إذا أحب امرأة وأراد التزوج بها ولم يكن كفؤاً لها، عمد إلى بقرة حامل من بقر أبيها، ويقطع من ذنبها شيئاً من الشعر ويهرب، فإذا أخبر الراعي أهل المرأة بذلك خرجوا في طلبه، فإن وجدوه قتلوه، وان لم يظفروا به يمضي هو على وجهه، فإن وجد أحداً قطع ذكره وأتى القوم به قبل أن تلد البقرة، ظفر بالجارية وزوجوها منه ولا يمكنهم الامتناع البتة، وإن ولدت البقرة ولم يأت بالذكر المقطوع بطل عمله ولم يمكنه الرجوع إليهم، وإن رجع قتلوه، وترى في تلك البلاد كثيراً من المجبوبين يكون جبهم بهذا السبب، فإذا حصلوا في بلاد المغرب التمسوا القرآن والزهد. البيضاء مدينة كبيرة بأرض فارس، بناها العفاريت من الحجر الأبيض لسليمان عليه السلام، فيما يقال. وبها قهندز يرى من بعد بعيد لشدة بياضه. وهي

مدينة طيبة كثيرة الخيرات وافرة الغلات صحيحة الهواء عذبة الماء طيبة التربة، لا تدخلها الحيات والعقارب ولا شيء من الحيوانات المؤذية. من عجائبها ما ذكر أنه في رستاقها عنب كل حبة منها عشرة مثاقيل، وتفاح دورته شبران. ينسب إليها الحسين بن منصور الحلاج، صاحب الآيات والعجائب. فمن المشهور أنه كان يركب الأسد ويتخذ الحية سوطاً، وكان يأتي بفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء ويعيدها مملوءة دراهم احدية: قل هو الله أحد، مكتوب عليها. ويخبر الناس بما في ضمائرهم وبما فعلوا. وحكي أنه خرج يوماً من الحمام، فلقيه بعض من ينكره صفعه في قفاه صفعة قوية، فقال له: يا هذا لم صفعتني؟ قال: الحق أمرني بذلك! فقال: بحق الحق أردفها بأخرى! فلما رفع يده للصفع يبست! فلما ظهر قوله أنا الحق أنكره الناس وتكلموا فيه، وقالوا: قل أنا على الحق! فقال: ما أقول إلا أنا الحق! وسمع منه أشعار مثل قوله: أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا ومثل قوله: عجبت منك ومنّي ... أفنيتني بك عنّي أدنيتني منك حتّى ... ظننت أنّك أنّي فلما سمع أمثال هذه بعض الناس أساؤوا الظن فيه. حكى أبو القاسم بن كج أن جمعاً من الصوفية ذهبوا إلى الحسين بن منصور

وهو بتستر، وطلبوا منه شيئاً، فذهب بهم إلى بيت نار المجوس فقال الديراني: ان الباب مغلق ومفتاحه عند الهربد! فجهد الحسين فلم يجبه، فنفض الحسين كمه نحو القفل فانفتح، فدخلوا البيت، فرأوا قنديلاً مشتعلاً لا ينطفيء ليلاً ولا نهاراً، فقال: انها

من النار التي ألقي فيها الخليل، عليه السلام. نحن نتبرك بها وتحمل المجوس منها إلى جميع بلادهم. فقال له: من يقدر على إطفائها؟ قال: قرأنا في كتابنا أنه لا يقدر على إطفائها إلا عيسى بن مريم، عليه السلام. فأشار الحسين إليها بكمه فانطفت، فقامت على الديراني القيامة وقال: الله الله! قد انطفت في هذه الساعة جميع نيران المجوس شرقاً وغرباً! فقال له: من يقدر على ردها؟ فقال: قرأنا في كتابنا أنه يقدر على ردها من يقدر على إطفائها! فلم يزل يتضرع إلى الحسين ويبكي فقال له: هل عندك شيء تدفعه إلى هذه المشايخ وأردها؟ وكان عنده صندوق من دخل البيت من المجوس طرح فيه ديناراً، ففتحه وسلم ما فيه إلى المشايخ وقال: ما ها هنا غير هذا. فأشار الحسين بكمه إليها، فاشتعلت وقال: دنيا تخادعني كأني لست أعرف حالها حظر المليك حرامها فأنا اجتنيت حلالها مدّت إلي يمينها فرددتها وشمالها فمتى طلبت زواجها حتى أردت وصالها ورأيتها محتاجةً فوهبت جملتها لها! ومن ظريف ما نقل عنه أنه قال له بعض منكريه: إن كنت صادقاً فيما تدعيه فامسخني قرداً! فقال: لو هممت بذلك لكان نصف العمل مفروغاً عنه. فلما تكلم الناس في حقه بقوله أنا الحق قال: سقوني وقالوا: لا تغنّ! ولو سقوا ... جبال سراةٍ ما سقيت لّغنّت! تمنّت سليمى أن أموت بحبّها ... وأسهل شيءٍ عندنا ما تمنّت! وحكى أبو عبد الله محمد بن خفيف قال: دخلت على الحسين بن منصور وهو في الحبس مقيداً. فلما حضر وقت الصلاة رأيته نهض، فتطايرت منه القيود وتوضأ وهو على طرف المحبس، وفي صدر ذلك المحبس منديل. وكان بينه وبين المنديل مسافة، فوالله ما أدري أن المندير قدم إليه أو هو إلى المنديل! فتعجبت من ذلك وهو يبكي بكاء فقلت له: لم لا تخلص نفسك؟ فقال: ما أنا محبوس! أين تريد يا ابن خفيف؟ قلت: نيسابور! فقال: غمض عينيك! فغمضتهما. ثم قال: افتحهما. ففتحت فإذا أنا بنيسابور في محلة أردتها. فقلت: ردني. فردني وقال: والله لو حلف العشّاق أنّهم ... موتى من الحبّ أو قتلى لما حنثوا قومٌ إذا هجروا من بعد ما وصلوا ... ماتوا وإن عاد وصلٌ بعده بعثوا ترى المحبّين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا ثم قال: يا ابن خفيف، لا يكون الحزن إلا لفقد محبوب أو فوت مطلوب! والحق واضح والهوى فاضح. والخلق كلهم طلاب وطلبهم على قدر هممهم، وهممهم على قدر أحوالهم، وأحوالهم مطبوعة على علم الغيب، وعلم الغيب غائب عنهم، والخلق كلهم حيارى. وأنشأ يقول: أنين المريد لشوقٍ يزيد ... أنين المريض لفقد الطّبيب قد اشتدّ حال المريدين فيه ... لفقد الوصال وبعد الحبيب ثم قال: يا ابن خفيف، حججت إلى زيارة القديم فلم أجد لقوم موضعاً من كثرة الزائرين، فوقفت وقوف البهيت، فنظر إلي نظرة فإذا أنا متصل به، ثم قال: من عرفني ثم أعرض عني فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين. وجعل يقول: عذابه فيك عذبٌ ... وبعده منك قرب

وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحبّ وأنت للعين عينٌ ... وأنت للقلب قلب حتى من الحبّ إني ... لما تحبّ أحبّ وحكي أن حبسه كان في عهد المقتدر بالله، وكان الوزير حامد بن العباس سيء الظن فيه، فأحضر عند الوزير وقاضي القضاة أبي عمرو وقالوا له: بلغنا أنك قلت: من كان له مال يتصدق به على الفقراء خير من أن يحج به! فقال الحسين: نعم! أنا قلت ذلك! فقالوا له: من أين قلت هذا؟ فقال: من الكتاب الفلاني! فقال القاضي: كذبت يا زنديق! ذلك الكتاب سمعناه فما وجدنا فيه هذا! فقال الوزير للقاضي: اكتب انه زنديق! فأخذ خط القاضي وبعث إلى الخليفة فأمر الخليفة بصلبه، ولما أخرج استدعى بعض الحجاب وقال: إني إذا أحرقت يأخذ ماء دجلة في الزيادة حتى تكاد تغرب بغداد، فإذا رأيتم ذلك خذوا شيئاً من رمادي واطرحوه في الماء ليسكن! وكان ينشد هذين البيتين: اقتلوني يا ثقاتي، إنّ في موتي حياتي ... ومماتي في حياتي، وحياتي في مماتي والذي حيّ قديمٌ غير مفقود الصّفات ... وأنا منه رضيعٌ في حجور المرضعات وحكي أن بعض من كان ينكره لما صلب وقف بإزائه يقول: الحمد لله الذي جعلك نكالاً للعالمين وعبرة للناظرين! فإذا هو بالحسين ورآه واضعاً يديه على منكبيه يقول: ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم! فلما صلب وأحرق أخذ الماء في الزيادة حتى كادت تغرق بغداد! فقال الخليفة: هل سمعتم من الحلاج فيه شيئاً؟ قال الحاجب: نعم يا أمير المؤمنين إنه قال كذا وكذا. فقال: بادروا إلى ما قال! فطرحوا رماده في الماء فصار رماده على وجه الماء على شكل الله مكتوباً وسكن الماء. وكان ذلك في سنة تسع وثلاثمائة، والله الموفق.

تاهرت

تاهرت اسم مدينتين مقابلتين بأقصى المغرب، يقال لإحداهما تاهرت القديم، وللأخرى الحديث، وهما كثيرتا الأشجار وافرتا الثمار. سفرجلهما يفوق سفرجل الآفاق طعماً وحسناً، وبهما كثرة الأمطار والانداء والضباب وشدة البرد، قلما ترى الشمس بها. وذكر أن اعرابياً دخلها، وتأذى من شدة بردها فخرج منها إلى أرض السودان، فأتى عليه يوم شديد الحر فنظر إلى الشمس راكدة على قمم رؤوسهم، فقال مشيراً إلى الشمس: والله لئن عززت في هذا المكان لطالما رأيتك ذليلة بتاهرت! وأهلها موصوفون بالحمق، حكي انه رفع إلى قاضيهم جناية فما وجدها في كتاب الله، فجمع الفقهاء والمشايخ فقالوا بأجمعهم: الرأي للقاضي! فقال القاضي: اني أرى أن أضرب المصحف بعضه ببعض ثم أفتحه، فما خرج عملنا به. فقالوا: وفقت افعل! ففعل ذلك فخرج: سنسمه على الخرطوم؛ فجدع أنفه. تدمر مدينة بأرض الشام قديمة، أبنيتها من أعجب الأبنية، موضوعة على العمد الرخام. زعموا أنها مما بنته الجن لسليمان، عليه السلام؛ قال النابغة الذبياني: إلاّ سليمان قد قال الإله له: ... قم بالبريّة فاحددها عن الفند وخيّس الجنّ إني قد أمرتهم ... يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد حكى إسماعيل بن محمد بن خالد التستري قال: كنت مع مروان بن محمد،

تستر

آخر ملوك بني أمية، حين هدم حائط تدمر، فأفضى الهدم إلى خرق عظيم، فكشفوا عنه صخرة فإذا بيت مجصص كأن اليد قد رفعت عنه، وإذا سرير عليه امرأة مستلقية على ظهرها عليها سبعون حلة، ولها غدائر مشدودة بخلخالها، قال: فكانت قدمها ذراعاً من غير أصابع، وفي بعض غدائرها صفيحة ذهب فيها مكتوب: باسمك اللهم! أنا تدمر بنت حسان أدخل الله الذل على من يدخل علي! فأمر مروان بالخرق فأعيد كما كان، ولم يأخذ شيئاً من حليها! قال: فوالله ما مكثنا بعد ذلك إلا أياماً حتى أقبل عبد الله بن علي وحارب مروان وفرق جيوشه، وأزال الملك عن بني أمية. وبها تصاوير كثيرة، منها صورة جاريتين من حجارة نمق الصانع في تصويرهما، مر بهما أوس بن ثعلبة فقال: فتاتي أهل تدمر خبّراني ... ألمّا تسأما طول المقام قيامكما على غير الحشايا ... على حبلٍ أصمّ من الرّخام فكم قد مرّ من عدد اللّيالي ... لعصركما وعام بعد عام وإنّكما على مرّ اللّيالي ... لأبقى من فروع ابني شمام فسمع هذه الأبيات يزيد بن معاوية فقال: لله در أهل العراق! هاتان الصورتان فيكم أهل الشام، لم يذكرهما أحد منكم، فمر بهما هذا العراقي وقال ما قال! تستر مدينة مشهورة قصبة الاهواز، الماء يدور حولها. بها الشاذروان الذي بناه شابور. وهو من أعجب البناء وأحكمها، امتداده يقرب من ميل حتى يرد الماء إلى تستر، وهي صنعة عجيبة مبنية بالحجارة المحكمة وأعمدة الحديد ملاط الرصاص. وإنما رجع الماء إلى تستر بسبب هذا الشاذروان، وإلا لامتنع

لأنه على نشز من الأرض. وإنها مدينة آهلة كثيرة الخيرات وافرة الغلات، وغزا بعض الأكاسرة الروم وحمل الأسارى إلى تستر وأسكنهم فيها فظهرت فيها صنائع الروم وبقيت في أهلها إلى زماننا هذا. يجلب منها أنواع الديباج والحرير والخز والستور والبسط والفرش. وحكي أن أبا موسى الأشعري لما فتح تستر وجد بها ميتاً في آبزون من نحاس، معه دراهم من احتاج إلى تلك الدراهم أخذها، فإذا قضى حاجته ردها، فإن حبسها مرض. فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب في جوابه: ان ذلك دانيال النبي! أخرجه وغسله وكفنه وصل عليه وادفنه. وينسب إليها سهل بن عبد الله التستري، صاحب الكرامات الظاهرة، من جملتها إذا مس مريضاً عافاه الله، وقد سمع من كثير من أهل تستر أن في منزل سهل بيتاً يسمى بيت السباع، كانت السباع تأتيه وهو يضيفها فيه، حكى سهل ابتداء أمره قال: قال لي خالي محمد بن سوار: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ قلت: كيف أذكره؟ فقال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي! الله ناظر إلي! الله شاهدي! قلت ذلك ثلاث ليال ثم أعلمته. قال: قل ذلك كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته. فقال: قل كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلت ذلك ثم أعلمته، فوقع في قلبي حلاوة. فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه حتى تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة! فبقيت على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سري، ثم قال لي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده لا يعصي! إياك والمعصية! قال: كنت أشتري بدرهم شعيراً فيخبز لي منها أفطر كل سحر على قدر أوقية منها بغير ملح ولا ادام، فيكفيني الدرهم سنة، ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال وأفطر ليلة ثم خمساً ثم سبعاً ثم خمساً وعشرين. بقيت على ذلك عشرين سنة. توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.

تلمسان

وحكى الأستاذ أبو علي الدقاق: أن يعقوب بن ليث الصفار مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء عن معالجته، فقيل له: إن في ولايتك رجلاً يدعو الله تعالى للمرضى فيشفون، فلو دعا الله لك ترجو العافية. فطلب سهلاً وسأله أن يدعو له فقال له سهل: أنى يستجاب دعائي لك وعلى بابك مظلومون! فأمر برفع الظلامات وإخراج المحبسين، فقال سهل: يا رب كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة! ومسح بطنه بيده فعافاه الله، فعرض على سهل مالاً كثيراً فأبى أن يأخذ منه شيئاً، فقالوا له لما خرج: لو قبلت وفرقت على الفقراء! فقال له: انظر إلى الأرض. فنظر فرأى كل مكان وضع قدمه عليه صار ترابه دنانير. فقال: من أعطاه الله هذا أي حاجة له إلى مال يعقوب؟ وقال: دخلت يوم الجمعة على سهل بن عبد الله فرأيت في بيته حية فتوقفت، فقال لي: ادخل، لا يتم إيمان أحد ويتهم شيئاً على وجه الأرض. فدخلت فقال لي: هل لك في صلاة الجمعة؟ قلت: بيننا وبين الجامع مسيرة يوم. فأخذ بيدي، فما كان إلا قليلاً حتى كنا في الجامع فصلينا صلاة الجمعة، فرأى الخلق الكثير فقال: أهل لا إله إلا الله كثير، لكن المخلصون قليل. تلمسان قرية قديمة بالمغرب. ذكروا أن القرية التي ذكرها الله تعالى في قصة الخضر وموسى: فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه. قيل: إنه كان جداراً عالياً عريضاً مائلاً، فمسحه الخضر، عليه السلام، بيده فاستقام. وحدثني بعض المغاربة أنه رأى بتلمسان مسجداً يقال له مسجد الجدار، يقصده الناس للزيارة.

تنس

تنس مدينة بافريقية حصينة، ولها قهندز صعب المرتقى، ينفرد بها العمال لحصانتها خوفاً من الرعية، هواؤها وبي وماؤها ردي، وماؤهم من واد يدور حول المدينة، وإليه مذهب مياه حشوشهم وشربهم منه، والحمى لا تفارق أهلها في أكثر الأوقات. وبها ذئب كثير يأكل أهلها، وبرغوث كثير، وهم في عذاب من الذئب والبراغيث؛ قال بعض من دخلها وفارقها: لا سقى الله بلدةً كنت فيها! ... البراغيث كلّهم أكلوني! قرصوني حتّى تنمّر جلدي ... لو خلعت الثّياب لم تعرفوني إن صعدت السّطوح لم يتركوني ... وأراهم على الدّرج يسبقوني تونس مدينة بأرض المغرب كبيرة على ساحل البحر، قصبة بلاد افريقية. اصلح بلادها هواء وأطيبها ماء وأكثرها خيراً! وبها من الثمار والفواكه ما لا يوجد في غيرها من بلاد المغرب حسناً وطعماً: فمن ذلك لوز عجيب يفرك باليد، وأكثرها في كل لوزة حبتان. وبها الرمان الذي لا عجم له مع صدق الحلاوة، والأترج الذكي الرائحة البديع المنظر، والتين الحازمي الأسود الكبير الرقيق القشر الكثير العسل، لا يكاد يوجد فيه بزر، والسفرجل الكبير جداً العطر الرائحة، والعناب الكبير كل حبة منه على حجم جوزة، والبصل العلوري على حجم الأترج مستطيل صادق الحلاوة. وبها أنواع من السمك عجيبة لا ترى في غيرها، يرى في كل شهر نوع من السمك خالفاً لما كان قبله، فيملح ويبقى سنين صحيح الجرم طيب الطعم.

التيه

ومنها نوع يقال له البقونس، يقولون: لولا البقونس لم تخالف أهل تونس. وأهلها موصوفون باللؤم ودناة النفس والبخل الشديد، والشغب والخروج على الولاة؛ قال بعض ولاتهم وقد خرجوا عليه ولقي منهم التباريح فقال: لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها ... ولكنّني ألفيتها وهي توحش وبين تونس والقيروان ثلاثة أيام، بينهما موضع يقال له محقة، بها أمر عجيب، وهو أنه إذا كان أوان الزيتون قصدته الزرازير، وقد حمل كل طائر معه زيتونتين في مخلبيه يلقيهما هناك، ويحصل من ذلك غلة قالوا: تبلغ سبعين ألف درهم! التيه هو الموضع الذي ضل فيه موسى، عليه السلام، مع بني إسرائيل، بين ايلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً لما امتنعوا من دخول الأرض المقدسة، حبسهم الله تعالى في هذا التيه أربعين سنة، كانوا يسيرون في طول نهارهم، فإذا انتهى النهار نزلوا بالموضع الذي رحلوا عنه، وكان مأكولهم المن والسلوى، ومشروبهم من ماء الحجر الذي كان مع موسى، عليه السلام، ينفجر منه اثنتا عشرة عيناً، على عدد الأسباط، كل سبط يأخذ منه ساقية، ويبعث الله تعالى سحابة تظلهم بالنهار وعموداً من النور يستضيئون به بالليل. هذا نعمة الله تعالى عليهم، وهم عصاة مسخوطون، فسبحان من عمت رحمته البر والفاجر! قيل: لما خرج بنو إسرائيل من مصر عازمين الأرض المقدسة كانوا ستمائة ألف، وما كان فيهم من عمره فوق الستين ولا دون العشرين، فمات كلهم في أربعين سنة. ولم يخرج ممن دخل مع موسى إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وهما الرجلان اللذان كانا يقولان: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، فدخل يوشع، عليه السلام، بعقبهم وفتح أرض الشام.

الجابية

الجابية قرية من قرى دمشق، بها تل يسمى تل الجابية، بها حيات صغار نحو الشبر كثيرة النكاية، يسمونها أم الصويت لأنها إذا نهشت صوت اللديغ صوتاً خفياً ومات لوقته، وروي عن ابن عباس أنه قال: أرواح المؤمنين بالجابية بأرض الشام، وأرواح الكفار ببرهوت بأرض حضرموت، وقد مر ذكرها في حضرموت. جاشك جزيرة آهلة بقرب جزيرة قيس، لأهلها جلادة وخبرة في حرب البحر وعلاج السفن، جلادة ليس لغيرهم مثلها، حتى إن الواحد منهم يسبح في الماء أياماً ويجالد بالسيف مجالدة من هو على الأرض. ويقول أهل قيس: ان بعض ملوك الهند أهدى إلى بعض الملوك جواري، فلما وصل المركب إلى جاشك خرج الجواري يتفسحن، فاختطفهن الجن وافترشوهن، فولدن الذين بها، فلهذا يأتون بما عجز عنه غيرهم. جالطة جزيرة على مرسى طبرقة من أرض افريقية، طولها ثمانية أميال وعرضها خمسة أميال. بها ثلاث أعين عذبة الماء، وبها مزارع وآثار قديمة. وبها من الايل ما لا يحصى. حدثني الفقيه سليمان الملتاني أن بها عنزاً كثيرة إنسية توحشت، إذا قصدها قاصد أهوت نفسها من جبال شاهقة، ووقفت على قوائمها بخلاف الايل فإنها تقف على قرونها.

جزيرة تنيس

جزيرة تنيس جزيرة قريبة من البر بين فرماء ودمياط في وسط بحيرة منفردة عن البحر الأعظم، بينها وبين البحر الأعظم بر مستطيل، وهو جزيرة بين البحرين، وأول هذا البر قرب الفرماء. وهناك فوهة يدخل منها ماء البحر الأعظم إلى بحر تنيس في موضع يقال له القرباج، وهو يحول بين البحر الأعظم وبحيرة تنيس. يسار في ذلك البر ثلاثة أيام إلى قرب دمياط، وهناك فوهة أخرى تأخذ الماء من البحر الأعظم إلى بحيرة تنيس، وبقرب تلك الفوهة النيل ينصب إلى بحيرة تنيس، والبحيرة مقدار إبلاغ يوم في عرض نصف يوم، ويكون ماؤها أكثر السنة ملحاً لدخول ماء البحر إليه عند هبوب الشمال، فإذا انصرف نيل مصر عند دخول الشتاء وهبوب الرياح الغربية خلت البحيرة وخلا سيف البحر الملح مقدار بريدين، وعند ذلك تكامل النيل وغلبت حلاوته ماء البحيرة، فصارت البحيرة حلواً. فحينئذ تذخر أهل تنيس المياه في صهاريجهم ومصانعهم لشرب سنتهم وهذه صورتها:

أنواع الطيور التي توجد بجزيرة تنيس

ذكروا انه ليس بجزيرة تنيس شيء من الهوام المؤذية، لأن أرضها سبخة شديدة الملوحة، وقد صنف في أخبار تنيس كتاب ذكر فيه انها بنيت في سنة ثلاثين ومائتين بطالع الحوت اثنتا عشرة درجة حد الزهرة، وشرفها والمشتري فيها وهو صاحب البيت، فلذلك كان مجمعاً للصلحاء وخيار الناس، قال يوسف بن صبيح: رأيت بها خمسمائة صاحب محبرة يكتبون الحديث، ولم يملكها أعجمي ولا كافر قط، لأن الزهرة تدل على الإسلام، تجلب منها الثياب النفيسة الملونة والفرش الحسن والثياب الابوقلمون. ولها موسم يكون عنده من أنواع الطير ما لا يوجد في موضع آخر وهي مائة ونيف وثلاثون نوعاً. أنواع الطيور التي توجد بجزيرة تنيس السلوى، البقح المملوح، النصطفير، الزرزور، الباز الرومي، الصفري، الدبسي، البلبل، السقاء، القمري، الفاخت، النواج، الزريق، الهوني، الزاغ، الهدهد، الحسيني، الجرادي، الابلق، الراهب، الحساف، البرين، السلسلة، دردراي، الشماس، البصبص، الأخضر، الأبهق، الأزرق، الحضير، أبو الحناء، أبو كلب، أبو دينار، وارية الليل، برقع أم علي، برقع أم حبيب، الدوري، الزنجي، وارية النهار، الشامي، شقرق، صدر النحاس، البلطين، الخضراء السئة، السوداء السئة، الأطروش، الخرطوم، ديك الكرم، الضريس، الحمراء الرقشة، الزرقاء الرقشة، جوز الكسر، ابن السمان، ابن المرعة، النوسية، السن، الوروار، الصردة، الحمراء الحصية، القبرة، المطوق، السقسق، السلار، المرغ، السكسكة، الأرجوحة، الخوخة، فرد قفص، الاورث، السلونية، السكة البيضاء، اللبس، العروس، الوطواط، عصفور، الزوب، اللقاب، الجوين، القليلة، العسر، الأحمر، الأزرق، الشرير، البون، البرك، البرسي، الحصاري، الرجاحي، البح، الحمر، الرومي، الملاعقي، البط الصيني، العراق، الاقرح، البلبو،

ويعرف بها من السمك تسعة وسبعون نوعا

الشطرف، البشروش، وز الفرط، أبو قلمون، أبو قير، أبو منجل، البجع، الكركي، الغطاس، اللجوبة، البطميس، البحبوبة، الرقادة، الكروان البحري، أبو مسكة، الكروان الحرحي، القرلي، الخروطة، الحلف، الارميل، الفلفوس، الازد، العقعق، البوم، الورشان، القطا، الدراج، الحجل، البازي، الصردي، الصقر، الهام، الغراب، الأبهق، الباشق، الشاهين، العقاب، الحداء، الرخمة، سبحان من خلق الذي نعلم والذي لا نعلم. ويعرف بها من السمك تسعة وسبعون نوعاً البوري، البلمو، البرو، اللبت، البلس، السكسا، الأران، الشموس، النسا، الطوبار، اليقشمار، الاحناش، الانكليس، المعية، البني، الابليل، الفويص، الدونيس، المرتنو، الاسقلموس، النفط، الجبال، البلطي، الحجف، القلارية، الرحض، العبر، النون، اللت، القجاج، القروص، الكليس، الأكلس، الفراخ، القرقاح، الزليخ، اللاج، الاكلت، الماضي، الجلاء، السلاء، البرقش، الصد، البلك، المشط، القفا، السور، حوت الحجر، البشين، الشربوت، النساس، الرعاد، الشعور، المحبرة، اللبس، السطور، الراس، الريف، اللبيس، الأبرميس، الأبونس، اللباء، العميان، المناقير، القلميدس، الحلبوة، الرقاص، القرندس، الجتر، هوكبارة، القبج، المجزع الدليس، الاشبالة، البسال الأبيض، الرقروق، أم عبيد، البلو، أم الإنسان، الانسارية، اللجاه. جزيرة الجساسة في بحر القلزم، قالوا: ان الدجال محبوس في هذه الجزيرة. والجساسة دابة تجس الأخبار وتأتي بها الدجال. روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقت الظهيرة وخطبنا وقال:

جزيرة الكنيسة

إني لا أجمعكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن بحديث حدثنيه تميم الداري، فمنعني سروره القائلة. حدثني أن نفراً من قومه أقبلوا في البحر فأصابتهم ريح عاصف ألجأتهم إلى جزيرة، فإذا هم بدابة قالوا لها: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة! قالوا: أخبرينا الخبر. قالت: إن أردتم الخبر فعليكم بهذا الدير، فإن فيه رجلاً بالأسواق إليكم. قال: أتيناه فقال: أنى تبعتم؟ فأخبرناه فقال: ما فعلت بحيرة طبرية؟ قلنا: تدفق بين أجوافها. قال: ما فعلت نخل عمان؟ قلنا: يجتنيها أهلها! قال: ما فعلت عين زغر؟ قلنا: يشرب منها أهلها. فقال: لو يبست أنفذت من وثاقي فوطئت بقدمي كل منهل إلا مكة والمدينة. جزيرة الكنيسة في بحر المغرب؛ قال أبو حامد الأندلسي: على البحر الأسود من ناحية أندلس جبل عليه كنيسة منقورة من الصخر في الجبل، وعليها قبة كبيرة، وعلى القبة غراب مفرد لا يبرح من أعلى القبة. وفي مقابلة الكنيسة مسجد يزوره الناس ويقولون: إن الدعاء فيه مستجاب. وقد شرط على القسيسين الذين يسكنون تلك الكنيسة ضيافة كل مسلم يقصد ذلك المسجد. فكلما وصل أحد إلى ذلك المسجد أدخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبة، ويصيح بعدد كل رجل صيحة، فيخرج الرهبان بالطعام إلى أهل المسجد ما يكفيهم. وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب، وزعم القسيسون أنهم ما زالوا يرون غراباً على تلك الكنيسة ولا يدرون من أين مأكله! جفار أرض بين فلسطين ومصر مسير سبعة أيام، كلها رمال سائلة نبض فيها قرى ومزارع ونخل كثير. وأهلها يعرفون آثار الأقدام في الرمل حتى يعرفون وطء الشباب من الشيخ، والرجل من المرأة، والبكر من الثيب، ومع كثرة

جنابة

بساتينهم لا حاجة لهم إلى النواطير، لأن أحدهم لا يقدر أن يعدو على غيره، لأن الرجل إذا أنكر شيئاً من بستانه يمشي على آثار القدم، ويلحق سارقه ولو سار يوماً أو يومين. بها نوع من الطير يأتيهم من بلاد الروم يسمى المرغ، يشبه السلوى، يأتي في وقت معين يصيدون منها ما شاء الله ويملحونها، ويأتيهم أيضاً من بلاد الروم على البحر في وقت من السنة جوارح كثيرة الشواهين والصقور والبواشق. وقلما يقدرون على البازي، وما سواه يصيدونها وينتفعون بها. جنابة بليدة على ساحل بحر فارس سيئة الهواء رديئة الماء، لا زرع بها ولا ضرع لأن أرضها سبخة، وماءها ملح، رأيتها، ذكروا أنهم إذا أرادوا ماء عذباً بها حفروا حفيرة كبيرة وطموها بالطين الحر يأتون به من غير أرضهم، فإذا طموا الحفرة بالطين الحر حفروها بئراً فيها يكون ماؤها طيباً. وأهلها لفيف متفرق من الجور والبد والفسق، والفجور فيها أظهر من الصلاة والأذان في غيرها. ينسب إليها أبو الحسن القرمطي الجنابي، خرج إلى البحرين ودعا العرب إلى نحلته، فاجتمع عليه خلق كثير وكسر عسكر الخليفة وقتل على فراشه، فقام ابنه سليمان وقتل حجاج بيت الله الحرام، ونهب على الكعبة وقلع الحجر الأسود ونقله إلى الاحساء وبقي عندهم إحدى وعشرين سنة، ثم ردوه بمال عظيم. وظهر في أول رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة غلام فاجر، يقال له ابن أبي زكرياء الطمامي، دعا الناس إلى ربوبيته، وذاك الغلام الفاجر يأمر بعبادة النار وقطع يد من أطفأ ناراً أو لسان من أطفأها بالنفخ. وأمر الغلمان بطاعة طلابهم ومن امتنع أمر بذبحه، ثم سلط الله عليه من تولى إظهاره فذبحه ورجع عن القرمطة.

جور

جور مدينة نزهة بأرض فارس كثيرة المياه والبساتين؛ قال الاصطخري: ان الرجل يسير من كل جانب منها نحو فرسخ في بساتين وقصور. بناها أردشير بابك. وفي وسط المدينة بناء عال يسمى الطربال. والإنسان إذا علا ذلك البناء أشرف على المدينة وعلى رساتيقها وبنى في أعلاها بيت نار. وبحذاء المدينة جبل استنبط منه الماء وعلاه إلى رأس الطربال. وبها البئر العجيبة التي ليس في شيء من البلاد مثلها، وهي على باب المدينة مما يلي شيراز، وقد أكبوا على قعرها قدراً من نحاس، يخرج من ثقبة ضيقة في ذلك القدر ماء حاد جداً ويصل إلى صفة البئر بنفسه، ولا يحتاج إلى استقاء الماء منها. وبها الورد الجوري وهو ورد أحمر صافي اللون من أجود أنواع الورد، يتمثل بطيب رائحته؛ قال الشاعر: أطيب ريحاً من نسيم الصّبا ... جاءت بريّا الورد من جور وحكى أحمد بن يحيى بن جابر أن جور نزل عليها المسلمون سنين، فعجزوا عن فتحها حتى نزل عليها عبد الله بن عامر. وكان بعض أجناد المسلمين قام بالليل يصلي وإلى جانبه جراب فيه خبز ولحم، فجاء كلب جره وعدا به حتى دخل المدينة من مدخل خفي لها، فدخل المسلمون من ذلك المدخل، فأصبح أهل جور والمدينة ممتلئة من المسلمين، ملكوها قهراً. جيرفت مدينة كبيرة بكرمان، آهلة كثيرة الخيرات وافرة الثمرات؛ قال الاصطخري: بها نخل كثير، ولأهلها سنة وهي أنهم لا يرفعون شيئاً من

جيزة

الثمرات التي أسقطتها الريح بل يتركونها للضعفاء، فربما كثرت الريح في بعض السنين فيحصل للضعفاء أكثر مما يحصل للملاك. جيزة ناحية بمصر؛ قال أبو حامد الأندلسي: بها طلسم للرمل وهو صنم والرمل خلفه إلى ناحية المغرب مثل البحر، تأتي به الرياح من أرض المغرب، فإذا وصل إلى ذلك الصنم لا يتعداه، والقرى والرساتيق والمزارع والبساتين بين يدي ذلك الصنم والرمل العظيم خلفه. وكان مكان ذلك الرمل مدن وقرى علاها الرمل وغطاها، وتظهر رؤوس الأعمدة الرخام والجدر العظام في وسط ذلك الرمل، ولا يمكن الوصول إليها؛ قال: وكنت أصعد بعض تلال الرمل بالغداة إذا تلبد الرمل بالطل في الليل، فرأيت الرمل مثل البحر لا يتبين آخره البتة، ورأيت مدينة فرعون يوسف، عليه السلام، مدينة عظيمة بنيانها وقصورها أعظم وأحكم من مدينة فرعون موسى، عليه السلام، والرمل قد غطى أكثرها فظهرت رؤوس الأعمدة التي كانت في القصور. وهناك سجن يوسف، عليه السلام، في جوف حائط باب قصر الملك، والحائط منحوت من الصخر، فصعدت في درج في نفس الحائط كدرجات المنبر من الصخر إلى غرفة في نفس الجدار مشرفة على النيل، وسطح تلك الغرفة وسقفها من ألواح الصخر المنحوتة مثل الخشب. وفي الغرفة باب يفضي إلى بيت عظيم تحت الغرفة، هو سجن يوسف، عليه السلام، وعلى جدار الغرفة مكتوب: ههنا عبر يوسف الرؤيا حيث قال: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.

حلب

حلب مدينة عظيمة كثيرة الخيرات طيبة الهواء صحيحة التربة. لها سور حصين وقلعة حصينة. قال الزجاجي: كان الخليل، عليه السلام، يحلب غنمه بها ويتصدق بلبنها يوم الجمعة فيقول الفقراء: حلب، فسميت بذلك، ولقد خص الله تعالى هذه المدينة ببركة عظيمة من حيث يزرع في أرضها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكرم والمشمش والتفاح والتين عذياً يسقى بماء المطر، فياتي غضاً روياً يفوق ما يسقى بالسيح في غيرها من البلاد؛ قال كشاجم: أرتك يد الغيث آثارها ... وأخرجت الأرض أزهارها وما منعت جارها بلدةٌ ... كما منعت حلبٌ جارها هي الخلد يجمع ما تشتهي ... فزرها، فطوبى لمن زارها والمدينة مسورة بحجر أسود، وفي جانب السور قلعة حصينة لأن المدينة في وطاء من الأرض. وفي وسطها جبل مدور مهندم والقلعة عليه. ولها خندق عظيم وصل حفره إلى الماء، وفي وسطه مصانع للماء المعين وجامع وبساتين وميدان ودور كثيرة، وفيها مقامان للخليل، عليه السلام، يزاران إلى الآن. وفيها مغارة كان يجمع الخليل فيها غنمه. وفي المدينة مدارس ومشاهد وبيع، وأهلها سنية وشيعية. وبها حجر بظاهر باب اليهود على الطريق، ينذر له ويصب عليه الماورد المسلمون واليهود والنصارى؛ يقولون: تحته قبر نبي من الأنبياء، وفي مدرسة الحلاوى حجر على طرف بركتها كأنه سرير، ووسطه منقور قليلاً يعتقد الفرنج فيه اعتقاداً عظيماً، وبذلوا فيه أموالاً فلم يجابوا إليه. ومن عجائبها سوق الزجاج، فإن الإنسان إذا اجتاز بها لا يريد أن يفارقها،

حمص

لكثرة ما يرى فيها من الطرائف العجيبة والآلات اللطيفة تحمل إلى سائر البلاد للتحف والهدايا. وكذلك سوق المزوقين ففيها آلات عجيبة مزوقة. ولهم لعب كل سنة أول الربيع يسمونه الشلاق، وهو انهم يخرجون إلى ظاهر المدينة وهم فرقتان تتقاتلان أشد القتال، حتى تنهزم إحدى الفرقتين فيقع فيهم القتل والكسر والجرح والوهي ثم يعودون مرة أخرى. ومن عجائبها بئر في بعض ضياعها إذا شرب منها من عضه الكلب الكلب بريء، وهذا مشهور، قال بعض أهل هذه القرية: شرطه أن العض لم يجاوز أربعين يوماً، فإن جاوز أربعين يوماً لم يبرأ! وذكر أنه أتاهم ثلاثة أنفس من المكلوبين وشربوا منه فسلم اثنان لم يجاوزا الأربعين، ومات الثالث وقد جاوز الأربعين. وهذه بئر منها شرب أهل الضيعة. وحكى بعضهم أنه ظهر بأرض حلب سنة أربع وعشرين وستمائة تنين عظيم بغلظ منارة وطول مفرط، ينساب على الأرض يبلع كل حيوان يجده، ويخرج من فمه نار تحرق ما تلقاه من شجر أو نبات، واجتاز على بيوت أحرقها والناس يهربون منه يميناً ويساراً حتى انساب قدر اثني عشر فرسخاً، فأغاث الله تعالى الخلق منه بسحابة نشأت ونزلت إليه فاحتملته، وكان قد لف ذنبه في كلب فيرفع الكلب رفعة والكلب يعوي في الهواء والسحاب يمشي به، والناس ينظرون إليه إلى أن غاب عن الأعين؛ قال الحاكي: رأيت الموضع الذي انساب فيه كأنه نهر. حمص مدينة بأرض الشام حصينة، أصح بلاد الشام هواء وتربة. وهي كثيرة المياه والأشجار ولا يكاد يلدغ بها عقرب أو تنهش حية. ولو غسل ثوب بماء حمص لا يقرب عقرب لابسه إلى أن يغسل بماء آخر. ومن عجائبها الصورة التي على باب المسجد الذي إلى جانب البيعة، وهي

حوران

صورة إنسان نصفها العلى، ونصفها الأسفل صورة عقرب. يؤخذ الطين الحر ويطبع به على تلك الصورة وتلقى في الماء حتى يشرب الملدوغ فيبرأ في الحال. وأهلها موصوفون بالجمال المفرط والبلاهة؛ قال الجاحظ: مرت بمص عنز تبعها جمل، فقال رجل لآخر: هذا الجمل من هذا العنز! فقال الآخر: كلا إنه يتيم في حجره. ومن العجب أنهم كانوا أشد الناس على علي، رضي الله عنه، فلما انقضت تلك الأيام صاروا من غلاة الشيعة، حتى ان في أهلها كثيراً ممن يرى مذهب النصيرية وأصلحهم الامامية السبابة. وأما حكومة قاضي حمص فمشهورة: ذكر أنه تحاكم إليه رجل وامرأة، فقالت المرأة: هذا رجل أجنبي مني وقد قبلني، فقال القاضي: قومي إليه وقبليه كما قبلك! فقالت: عفوت عنه! فقال لها: مري راشدةً. وبها قبر خالد بن الوليد، رضي الله عنه، مات بها وهو يقول في مرض موته: تباً للجبناء! ما على بدني قدر شبر إلا وعليه طعنة أو ضربة، وها أنا أموت على الفراش موت العير! حوران قرية من نواحي دمشق، قالوا: انها قرية أصحاب الاخدود، وبها بيعة عظيمة عامرة حسنة البناء، مبنية على عمد الرخام منمقة بالفسيفساء، يقال لها النجران، ينذر لها المسلمون والنصارى، ذكروا أن النذر لها مجرب، ولنذره قوم يدورون في البلاد ركاب الخيل، ينادون: من نذر للنجران المبارك؟ وللسلطان عليها عطية يؤدونها كل عام.

الحيرة

الحيرة بلدة قديمة كانت على ساحل البحر بقرب أرض الكوفة، وكان هناك في قديم الزمان بحر. والآن ليس بها أثر البحر ولا المدينة، بل هي دجلة وآثار طامسة. وكانت الحيرة منزل ملوك بني لخم، وهم كانوا ملوك العرب في قديم الزمان، وإياهم أراد الأسود بن يعفر في قوله: ماذا أؤمّل بعد آل محرّقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسّدير وبارقٍ ... والقصر ذي الشّرفات من سنداد نزلوا بأنقرةٍ يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد أرضٌ يخيلها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أمّ ذواد جرت الرّياح على محلّ ديارهم ... فكأنّهم كانوا على ميعاد ولقد عنوا فيها بأنعم عيشةٍ ... في ظلّ ملكٍ ثابت الأوتاد فإذا النّعيم وكلّ ما يلهى به ... يوماً يصير إلى بلىً ونفاد وبنى النعمان بن امريء القيس بن عمرو بن عدي قصراً بظاهر الحيرة في ستين سنة اسمه الخورنق، بناه رجل من الروم يقال له سنمار، وكان يبني السنتين والثلاث ويغيب الخمس، فيطلب فلا يوجد. وكان يبني على وضع عجيب لم يعرف أحد أن يبني مثله. ثم إذا وجد يحتج بحجة فلم يزل يفعل هذا ستين سنة. فلما فرغ من بنائه كان قصراً عجيباً لم يكن للملوك مثله. فرح به النعمان فقال له سنمار: اني لأعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله، فقال له النعمان: هل يعرفها أحد غيرك؟ قال: لا! فأمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطعت أوصاله، فاشتهر ذلك حتى ضرب العرب به المثل فقال الشاعر: جزاني جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء سنمّارٍ وما كان ذا ذنب

خبيص

سوى رمّة البنيان ستّين حجّةً ... يعلى عليه بالقراميد والسّكب فلمّا رأى البنيان تمّ شهوقه ... وآض كمثل الطّود الشّامخ الصّعب وظنّ سنمّارٌ به كلّ حبوةٍ ... وفاز لديه بالمودّة والقرب فقال: اقذفوا بالعلج من فوق رأسه ... فهذا لعمر الله من أعجب الخطب فصعد النعمان قلته ونظر إلى البحر تجاهه وإلى البر خلفه والبساتين حوله، ورأى الظبي والحوت والنخل فقال لوزيره: ما رأيت أحسن من هذا البناء قط! فقال له وزيره: له عيب عظيم! قال: وما ذلك؟ قال: انه غير باق! قال النعمان: وما الشيء هو باق؟ قال: ملك الآخرة! قال: فكيف تحصيل ذلك؟ قال: بترك الدنيا! قال: فهل لك أن تساعدني في طلب ذلك؟ فقال: نعم. فترك الملك وتزهد هو ووزيره، والله الموفق. خبيص مدينة كبيرة بكرمان. ذكر ابن الفقيه أن باطنها لم يمطر أبداً وإنما تكون الأمطار حواليها. وقال: ربما أخرج الرجل يده من السور، فيقع المطر عليها ولا يقع على بقية بدنه الداخل في المدينة، وهذا عجيب! خربة الملك مدينة بمصر على شرق النيل؛ قال أحمد بن واضح: ان معدن الزمرذ في هذا الموضع في جميع الأرض، وان هناك جبلين يقال لأحدهما العروس وللآخر الخصوم، بهما معدن الزمرذ، ربما وقعت بهما قطعة تساوي ألف دينار. الخليل اسم بلدة بها حصن وعمارة بقرب بيت المقدس. فيه قبر الخليل، عليه السلام، في مغارة تحت الأرض، وهناك مشاهد وقوام، وفي الموضع ضيافة للزوار،

دارا

وهو موضع طيب نزه آثار البركة ظاهرة عليه، حكى السلفي أن رجلاً أتى زيارة الخليل وأهدى لقيم الموضع هدية، وسأله أن يمكنه من النزول إلى مغارة الخليل، فقال القيم: إن أقمت إلى انقطاع الزوار فعلت! فأقام فقطع بلاطة وأخذ معه مصباحاً فنزل سبعين درجة إلى مغارة واسعة، وبها دكة عليها الخليل وعليه ثوب أخضر والهواء يحرك شيبته، وإلى جانبه إسحاق ويعقوب، عليهما السلام، ثم أتى حائط المغارة، يقال: إن سارة، عليها السلام، خلف ذلك الحائط، فهم أن ينظر إلى ما وراء الحائط فإذا هو بصوت يقول: إياك والحرم! فعاد من حيث نزل. دارا قرية من قرى دمشق، ينسب إليها أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداري. كان فريد وقته في الزهد والورع، قال: نمت ليلة بعد وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟ وقال: كنت ليلة باردة في المحراب فأقلقني البرد، فخبأت إحدى يدي من البرد وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيناي فإذا قائل يقول: يا أبا ليمان قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى مثلها لوضعنا فيها! فآليت على نفسي أن لا أدعو إلا ويداي خارجتان، برداً كان أو حراً. دارابجرد كورة بفارس نفيسة، عمرها داراب بن فارس؛ قال الاصطخري: بها كهف الموميا، وقال ابن الفقيه: انه بأرجان، وقد مضى ذكرها في أرجان. وزاد الاصطخري: ان الخالص منه يحمل إلى شيراز ثم يغسل الموضع ويعجن بمائه شيء، ويخرج على أنه الموميا، فجميع ما ترى في أيدي الناس من المعجون، وأما الخالص فلا يوجد إلا في خزانة الملك. وقال أيضاً: بناحية دارابجرد

دمشق

جبال من الملح الأبيض والأصفر والأخضر والأحمر والأسود، ينحت منها الموائد والصحون والغضائر وغيرها من الظروف، وتهدى إلى سائر البلاد. وبها معدن الزئبق. دمشق قصبة بلاد الشام وجنة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة، ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار. قال أبو بكر الخوارزمي: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيت كلها فأفضلها غوطة دمشق، وأهل السير يقولون: إن آدم، عليه السلام، كان ينزل في موضع بها يقال له الآن بيت الأبيات، وحواء في بيت لهيا، وهابيل في مقرى وقابيل في قنينة. وكان في الموضع الذي يعرف الآن بباب الساعات عند الجامع صخرة عظيمة كانت القرابين توضع عليها، فما قبل نزلت نار أحرقته، وما لم يقبل بقي على حاله، وقتل قابيل هابيل على جبل قاسيون، وهو جبل على باب دمشق. وهناك حجر عليه مثل أثر الدم يزعم أهل دمشق انه الحجر الذي رض به قابيل رأس هابيل، وعند الحجر مغارة يقال لها مغارة الدم لذلك. والمدينة الآن عظيمة حصينة ذات سور وخندق وقهندز، والعمارات مشبكة من جميع جوانبها، والبساتين محيطة بالعمارات فراسخ وقلما ترى بها داراً أو مسجداً أو رباطاً أو مدرسة أو خاناً إلا وفيها ماء جار. ومن عجائبها الجامع وصفه بعض أهل دمشق قال: هو أحد العجائب كامل المحاسن جامع الغرائب، بسط فرشه بالرخام وألف على أحسن تركيب وانتظام. فصوص أقداره متفقة وصنعته مؤتلفة، وهو منزه عن صور الحيوان إلى صور النبات، وفنون الأغصان تجنى ثمرتها بالأبصار، ولا يعتريها حوائج الأشحار. والثمار باقية على طول الزمان مدركة في كل حين وأوان، لا يمسها

عطش مع فقدان القطر، ولا يصيبها ذبول مع تصاريف الدهر. عمره الوليد بن عبد الملك، وكان ذا همة في أمر العمارات وبناء المساجد. أنفق على عمارته خراج المملكة سبع سنين، وحمل عليه الدساتير بما أنفق عليه على ثمانية عشر بعيراً فلم ينظر إليها، وأمر بإبعادها وقال: هو شيء أخرجناه لله فلا نتبعه! قالوا: من عجائب الجامع لو أن أحداً عاش مائة سنة، وكان يتأمله كل يوم، لرأى في كل يوم ما لم يره من حسن الصنعة ومبالغة التنميق. وحكي أنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصناع ستين ألف دينار، فضج الناس استعظاماً لما أنفق فيه، وقالوا: أنفقت أموال المسلمين فيما لا فائدة لهم فيه! فقال: ان في بيت مالكم عطاء ثماني عشرة سنة، إن لم يدخل فيه حبة قمح! فسكت الناس، فلما فرغ أمر بتسقيفها من الرصاص، وإلى الآن سقفها من الرصاص، ورأيت الصانع يرقمها بالرصاص المذاب. قالوا: ان طيراً يذرق على الرصاص يحرقه فيحتاج إلى الإصلاح لدفع ماء المطر. قال موسى بن حماد: رأيت في جامع دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفوراً سورة ألهاكم التكاثر ورأيت جوهرة حمراء نفيسة ملصقة في قاف المقابر، فسألت عن ذلك فقالوا: ماتت للوليد بنت كانت هذه الجوهرة لها، فأمرت أمها أن تدفن هذه الجوهرة معها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر، وحلف لأمها أنه أودعها المقابر. والمسجد مبني على أعمدة رخام طبقتين: التحتانية أعمدة كبار، والفوقانية أعمدة صغار، في خلال ذلك صور المدن والأشجار بالفسيفساء والذهب والألوان. ومن العجب العمودان الحجريان اللذان على باب الجامع، وهما في غاية الإفراط طولاً وعرضاً، قيل: وهما من عمل عاد إذ ليس في وسع أبناء زماننا قطعهما ولا نقلهما ولا إقامتهما، وفي الجانب الغربي بالجامع عمودان على الطبقة العليا من الأعمدة الصغار، يقولون: انهما من الحجر الدهنج، وفي جدار الصحن

القبلي حجر مدور شبه درقة منقطة بأبيض وأحمر، قالوا: بذل الفرنج فيه أموالاً فلم يجابوا إليه. وللجامع أوقاف كثيرة وديوان عظيم، وعليها أرزاق كثير من الناس، منهم صناع يعملون القسي والنبال للجامع ويذخرونها ليوم الحاجة، ذكروا أن دخل الجامع كل يوم ألف ومائتا دينار، يصرف المائتان إلى مصالح الجامع والباقي ينقل إلى خزانة السلطان. وأهل دمشق أحسن الناس خلقاً وخلقاً وزياً، وأميلهم إلى اللهو واللعب، ولهم في كل يوم سبت الاشتغال باللهو واللعب. وفي هذا اليوم لا يبقى للسيد على المملوك حجر، ولا للوالد على الولد، ولا للزوج على الزوجة، ولا للأستاذ على التلميذ، فإذا كان أول النهار يطلب كل واحد من هؤلاء نفقة يومه، فيجتمع المملوك بإخوانه من المماليك، والصبي بأترابه من الصبيان، والزوجة باخواتها من النساء، والرجل أيضاً بأصدقائه، فأما أهل التمييز فيمشون إلى البساتين ولهم فيها قصور ومواضع طيبة، وأما سائر الناس فإلى الميدان الأخضر، وهو محوط فرشه أخضر صيفاً وشتاء من نبت فيه، وفيه الماء الجاري. والمتعيشون يوم السبت ينقلون إليه دكاكينهم. وفيها حلق المشعبذين والمساخرة والمغنين والمصارعين والفصالين. والناس مشغولون باللعب واللهو إلى آخر النهار، ثم يفيضون منها إلى الجامع ويصلون بها المغرب ويعودون إلى أماكنهم. بها جبل ربوة، جبل على فرسخ من دمشق؛ قال المفسرون: إنها هي المذكورة في قوله تعالى: وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين. وهو جبل عال عليه مسجد حسن في وسط البساتين، ولما أرادوا إجراء ماء بردى وقع هذا الجبل في الوسط، فنقبوا تحته وأجروا الماء فيه، ويجري على رأسه نهر يزيد، وينزل من أعلاه إلى أسفله. وفي المسجد الذي على أعلى الماء الجاري. وله مناظر إلى البساتين، وفي جميع جوانبه الخضرة والأشجار والرياحين. ورأيت في المسجد في بيت صغير حجراً كبيراً ذا ألوان عجيبة، حجمه كحجم صندوق مدور، وقد انشق بنصفين وبين شقيه مقدار ذراع، لم ينفصل

دمندان

أحد الشقين عن الآخر بل متصل به كرمان مشقوق، ولأهل دمشق في ذلك الحجر أقاويل كثيرة. وينسب إليها إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل في الذكاء. طلب من رجل حقاً عند القاضي، وهو إذ ذاك يتيم، فقال له القاضي: اسكت إنك صبي! فقال: إذا سكت من يتكلم عني؟ فقال القاضي: والله لا تقول حقاً! فقال إياس: لا إله إلا الله! وحكي أن امرأتين تحاكمتا إليه في كبة غزل، فأفرد كل واحدة منهما وسألها: على أي شيء كببت غزلك؟ فقالت إحداهما: على كسرة خبز! وقالت الأخرى: على طرقة. فنقض الكبة فإذا هي على كسرة خبز. فسمع بذلك ابن سيرين فقال: ويحه ما أفهمه! وحكي انه تحاكم إليه رجلان فقال أحدهما: إني دفعت إليه مالاً. فجحد الآخر، فقال للمدعي: أين سلمت هذا المال إليه؟ فقال: عند شجرة في الموضع الفلاني! فقال المدعى عليه: انا ذلك الموضع ما رأيت قط. فقال: انطلقوا بالمدعي إلى ذلك المكان وابصروا هل فيه شجرة أم لا؟ فلما ذهبوا إليه قال بعد زمان للمدعى عليه: ترى وصلوا إلى ذلك المكان؟ قال: لا، بعد! فقال له: قم يا عدو الله، إنك خائن! فقال: أقلني أقالك الله! واعترف به. دمندان مدينة كبيرة بكرمان، قال ابن الفقيه: بها معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والتوتيا والنوشاذر في جبل شاهق يقال له دنباوند. وفي هذا الجبل كهف عظيم يسمع من داخله دوي شبه خرير الماء، ويرتفع منه شبه دخان ويلتصق بحواليه، فإذا كثف وكثر خرج إليه أهل المدينة يقلعونه، وهو النوشاذر الجيد الذي يحمل إلى الآفاق، وقد وكل السلطان به قوماً حتى إذا جمع كله أخذ السلطان خمسه.

دمياط

دمياط مدينة قديمة بين تنيس ومصر مخصوصة بالهواء الطيب، وهي من ثغور الإسلام، عندها يصب ماء النيل في البحر، وعرض النيل هناك نحو مائة ذراع، وعليه من جانبيه برجان، بينهما سلسلة حديد عليها جرس، لا يدخل مركب في البحر ولا يخرج إلا بإذن، وعلى سورها مدارس ورباطات كثيرة. عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انه قال لعمر بن الخطاب: يا عمر سيفتح على يديك ثغران: الإسكندرية ودمياط، أما الإسكندرية فخرابها من البربر، وأما دمياط فهم صفوة شهداء من رابطها ليلة كان معي في حظيرة القدس. وحكى الحسن بن محمد المهلبي قال: من طريف أمر دمياط ان الحاكة بها يعملون الثياب الرفيعة، وهم قبط من سفلة الناس، أكثر أكلهم السمك المملوح والطري، فإذا أكلوا عادوا إلى الصنعة من غير غسل الأيدي، وينشطون بها ويعملون في غزلها، فإذا قطع الثوب لا يشك من يقلبه انه بخر بالند! وقال أيضاً: من طريف أمر دمياط ان في قبليها على الخريج غرفاً تعرف بالمعامل، يستأجرها الحاكة لعمل ثياب الشرب فيها، فلا تكاد تنجب إلا بها، فإن عمل بها ثوب وبقي منها شبر ونقل إلى غير هذه الغرف علم بذلك السمسار المبتاع للثوب، وينقص من ثمنه لاختلاف جوهر الثوب، وتبلغ قيمة الثوب الأبيض بدمياط وليس فيه ذهب ثلاثمائة دينار، ولا تشارك تنيس في شيء من عملها، وبينهما مسيرة نصف نهار. ولا يعمل بدمياط مصبوغ ولا بتنيس أبيض وهما حاضرتا البحر. وبها أنواع الطير والسمك ذكرناها في تنيس لا نعيدها. وبها الفرش القلموني من كل لون. وبها سمكة يقال لها الدلفين، وهي في خلقة زق، زعموا أنها تنجي الغريق، وبها سمكة أخرى من أكلها يرى

دندرة

منامات هائلة. وحكي أن الفرنج في زمان الملك الكامل اتخذوا مركباً بعلو سور دمياط، وشحنوه من الرجال والسلاح وأجروه في البحر إلى أن يصل بسور دمياط، فوثبوا من المركب إلى السور وفتحوا دمياط بهذه الحيلة، فلما علم الملك الكامل ذلك شق عليه وجاء محاصراً لها، فصعب عليه استخلاصها فبنى بجنبها مدينة بالأسواق والحمامات، وما زال يحاصرها حتى فتحها، وأسر من كان فيها من الفرنج ومن على أمرائهم. دندرة مدينة على غربي النيل من نواحي الصعيد طيبة، ذات مياه وأشجار ونخل وكرم، فيها من البرابي كثير، والبربا بيت فيه صور لطلسم أو سحر، من جملتها بربا فيه مائة وثمانون كوة، تدخل الشمس كل يوم من كوة واحدة بعد واحدة، حتى تنتهي إلى آخرها، ثم تكر إلى الموضع الذي بدأت منه. دورق بليدة بخوزستان؛ قال مسعر بن مهلهل: في أعمالها معادن كثيرة. وبها آثار قديمة لقباذ بن دارا. وبها صيد كثير ويجتنب بعض مواضعها لا يرعى قالوا انه لطلسم. وبها الكبريت الأصفر البحري، ولا يوجد هذا الكبريت إلا بها، وإن حمل منها إلى غيرها لا يسرج، وإذا أتي بالنار من غير دورق أحرقته ونار دورق لا تحرقه، وهذا من ظريف الأشياء. وبها هوام قتالة لا يبل سليمها. منها حية شبرية تسمى ذات الرأسين، وهذه الحية توجد بين دورق والباسيان، تكون في الرمل، فإذا أحست بشيء من الحيوان وثبت أذرعاً ونهشت بإحدى رأسيها وتثقل عليه، فيموت الحيوان في ساعته.

دورقستان

دورقستان جزيرة بين بحر فارس ونهر عسكر مكرم خمسة فراسخ في خمسة فراسخ، ترفأ إليها مراكب البحر التي تقدم من ناحية الهند، لا طريق لها إلا إليها، وبها الجزر والمد في كل يوم مرتين. وماؤها عذب، فإذا ورد المد عليها يبقى ملحاً كثيراً. وفي وسطها قلعة كان في أيام الخلفاء يحمل إليها المنفيون من بغداد، فمن كانت جريمته عظيمة يحبس في القلعة، ومن كان دون ذلك يرسل في الجزيرة. وبها عمارات وبيوت يسكنها قوم من النوتية الذين يعملون في البحر. وبها مد وجزر آخر بحسب زيادة نور القمر ونقصانه، فيزداد كل يوم إلى منتصف الشهر ثم ينقص كل يوم إلى آخر الشهر. ورأيت بها شاباً أسمر نحيفاً كانوا يقولون انه يصطاد الظبي، وحكى بعضهم ان ذئباً قد أكل شاة لهذا الرجل بدورقستان، فقام يعدو خلفه، والذئب لا يقدر على الخروج من الجزيرة، فلم يزل يسعى خلفه حتى أدركه. دير أبي هور ذكر الشابستي انه بسرياقوس من أعمال مصر، وهي بيعة عامرة كثيرة الرهبان. وفيها أعجوبة، وهي ان من يكون به خنازير يقصد هذا الموضع للتعالج، فيضجعه رئيس الموضع ويجيء بخنزير يرسله إلى موضع العلة، فيأكل الخنزير الغدة ولا يتعدى إلى الموضع الصحيح. فإذا تنظف الموضع ذر عليه شيئاً من رماد خنزير فعل هذا الفعل من قبل ودهنه بزيت قنديل البيعة فيبرأ. ثم يذبح ذلك الخنزير ويحرق ويعد رماده لمثل هذا العلاج.

دير أتريب

دير أتريب بأرض مصر، يعرف بمارت مريم، عليها السلام. له عيد وانه في الخامس عشر من آب، والحادي والعشرين من بؤونه من أشهر القبط. يذكرون أن حمامة بيضاء تأتيهم ولا يرونها إلا يوم مثله، تدخل المذبح ولا يدرون من أين جاءت. دير أيوب قرية من نواحي دمشق. بها كان منزل أيوب، عليه السلام، وبها ابتلاه الله. وبها العين التي ظهرت من ركضه حين أمره الله تعالى به عند انتهاء ابتلائه، فقال عز وعلا: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، والصخرة التي كانت عليها وبها قبره، عليه السلام. دير سمعان دير بناحية دمشق في موضع نزه، محدقة بالبساتين والدور والقصور، وكان بها حبيس مشهور، منقطع عن الخلق جداً، وكان يخرج رأسه من كوة في كل سنة يوماً معلوماً، فكل من وقع عليه بصره من المرضى والزمنى عوفي. فسمع به إبراهيم بن أدهم، فذهب إليه حتى يشاهد ذلك، قال: رأيت عند الدير خلقاً كثيراً من الواقفين حذاء تلك الكوة، يترقبون خروج رأس الحبيس، فلما كان ذلك اليوم أخرج رأسه ونظر إليهم يميناً وشمالاً، فكل من وقع نظره عليه قام سليماً معافى ثم رجع إلى مكانه! قال: فتعجبت من ذلك وبقيت متفكراً فيه، ثم مضيت ودعوته فأجابني وسألته عن حاله فأعطاني سبع حمصات وقال: هذه تطلب منك لا تبعها إلا بثمن بالغ! قال: فانصرفت عنه فاشتهر بين النصارى أن الحبيس أعطى لهذا الحنيفي شيئاً، فاجتمعوا علي وقالوا: ماذا تصنع بهذه

دير طور سينا

الحمصات؟ بعها منا! فما زالوا يزيدون في ثمنها حتى بلغ سبعمائة دينار، فبعتها ثم انصرفت وعبوري على دير سمعان، فأخرج الحبيس رأسه وقال: أيها الحنيفي قد بعت الحمصات بسبعمائة دينار، ولو طلبت سبعة آلاف لأعطوك، وكل حمصة لي قوت يوم، فانظر من يكون قيمة قوته كل يوم ألف دينار كم تكون قيمته؟ ثم أدخل رأسه. دير طور سينا على قلة طور سينا، وهو الجبل الذي تجلى فيه النور لموسى، عليه السلام، وخر موسى صعقاً هناك. والدير مبني بالحجر الأسود، وفي غربيه باب لطيف قدامه حجر، إذا أرادوا رفعه رفعوه وإذا قصدهم قاصد أرسلوه فانطبق على الموضع، ولم يعرف مكان الباب، وفي داخلها عين ماء. وزعم النصارى أن بها ناراً من النار التي كانت ببيت المقدس، وهي نار بيضاء ضعيفة الحر لا تحرق، وتقوى إذا أوقد منها السرج، وهو عامر بالرهبان والناس يقصدونه؛ قال فيه ابن عاصم: يا راهب الدّير ماذا الضّوء والنّور ... وقد أضاء بما في ديرك الطّور؟ هل حلّت الشّمس فيه دون أبرجها ... أم غيّب البدر عنه فهو مستور؟ دير الطير بأرض مصر على شاطيء النيل، بقرب الجبل المعروف بجبل الكهف. وفي هذا الجبل شق، فإذا كان يوم عيد هذا الدير يأتي صنف من الطير يقال له بوقير، لم يبق منها واحد إلا جاء ذلك الشق، ويشتد عنده صياحها. ولا يزال الواحد بعد الواحد يجعل رأسه في ذلك الشق ويصيح إلى أن يتشبث رأس أحدها بالشق فيضطرب حتى يموت، وعند ذلك تنصرف البقية إلى السنة القابلة، ولا يبقى هناك منها طائر؛ هكذا ذكر الشابشتي، وهذا دليل الخصب في تلك السنة، وربما تشبث على طيرين فيكون الخصب بالغاً جداً.

دير نهيا

دير نهيا بالجيزة من أرض مصر. من أحسن الديارات وأنزهها وأطيبها موضعاً وأجلها موقعاً، عامر بالرهبان، وله في النيل منظر عجيب لأن الماء محيط به من جميع جهاته. فإذا انصرف الماء وزرعت أظهرت أنواع الأزهار وأصناف الأنوار، فتشبه الديباج المنقش، لا يريد الإنسان ان يفارقها، وله خليج تجتمع فيه الطيور فهو متصيد أيضاً؛ ولابن البصري فيه: أيا دير نهيا إن ذكرت فإنّني ... أسعى إليك على الخيول السّبّق أوما ترى وجه الرّبيع وقد زهت ... أنواره بنهاره المتألّق؟ وتجاوبت أطياره وتبسّمت ... أشجاره من ثغر زهرٍ مؤنق والبدر في وسط السّماء كأنّه ... وجهٌ مضيءٌ في قناعٍ أزرق وإذا سئلت عن الطّيور وصيدها ... وجنوسها فاصدق وإن لم تصدق فالغرّ فالكروان فالفارور إذ ... يشجيك في طيرانه المتحلّق أشهدت حرب الطّير في غيطانه ... لمّا تجوّق منه كلّ مجوّق الرصافة مدينة في البرية بقرب الرقة. رأيتها لها سور محكم من الحجر المنحوت. أحدثها هشام بن عبد الملك لما وقع الطاعون بأرض الشام. ليس بها نهر ولا عين، وآبارهم بعيدة العمق رشاؤها مائة وعشرون ذراعاً وهي ملح. وشربهم من الصهاريج داخل المدينة، وقد تفرغ الصهاريج في أثناء الصيف، فيأخذون الماء من الفرات، وبينهما أربعة فراسخ. ولبني خفاجة عليهم مال يؤدونه صاغرين. وصنعة أهلها عمل الأكسية والجوالق والمخالي، منها تحمل إلى سائر البلاد. وكان هشام بن عبد الملك يفزع إليها من البق في شاطيء الفرات.

الرقادة

ومن عجيب هذه البلدة أن ليس بها زرع ولا ضرع ولا ماء، ولا أمن ولا تجارة ولا صنعة مرغوبة! وأهلها يسكنونها، ولولا حب الوطن لخربت. الرقادة بلدة طيبة بافريقية بقرب القيروان، كثيرة البساتين، ليس بافريقية أعدل هواء ولا أطيب نسيماً منها ولا أصح تربة! حتى إن من دخلها لم يزل مستبشراً من غير أن يعلم لذلك سبباً. وحكي أن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب مرض وشرد عنه النوم، فعالجه إسحق المتطبب الذي نسب إليه الاطريفل الاسحقي، فأمره بالتردد. فلما وصل إلى هذا الموضع نام فسماه رقادة، واتخذ به دوراً وقصوراً فصارت من أحسن بلاد الله. وكان يمنع بيع النبيذ بالقيروان ولا يمنع بالرقادة، فقال طرفاء القيروان: يا سيّد النّاس وابن سيّدهم ... ومن إليه الرّقاب منقاده ما حرّم الشّرب في مدينتنا ... وهو حلالٌ بأرض رقّاده؟ زكندر مدينة بالمغرب من بلاد بربر، بينها وبين مراكش ست مراحل، حدثني الفقيه علي بن عبد الله المغربي الجنحاني أنها مدينة كبيرة مسورة، كثيرة الخيرات والثمرات، أهلها برابر مسلمون، بها معادن الفضة عامة، كل من أراد يعالجها. وهي غيران تحت الأرض، فيها خلق كثير يعملون أبداً. ومن عادة أهل المدينة أن من جنى جناية أو وجب عليه حق فدخل شيئاً من تلك الغيران، سقط عنه الطلب حتى يخرج منها. وفيها أسواق ومساكن، فلعل الخائف يعمل فيها مدة وينفق ولا يخرج حتى يسهل الله أمره. وذكر أنهم إذا نزلوا عشرين ذراعاً نزل الماء فالسلطان ينصب عليها

سابور

الدواليب ويسقي ماؤها ليظهر الطين، فيخرجه الفلعة إلى ظاهر الأرض ويغسلونها. وإنما يفعل ذلك ليأخذ خمس النيل، وماؤها يسقي ثلاث دفعات، لأن من وجه الأرض إلى الماء عشرين ذراعاً، فينصب دولاباً في الغار على وجه الماء، فيستقي ويصب في حوض كبير، وينصب على ذلك الحوض دولاباً آخر فيستقي ويصب في حوض آخر، ثم ينصب إلى ذلك الحوض دولاباً ثالثاً فيستقي ويجري على وجه الأرض إلى المزارع والبساتين. وذكروا أن هذه المعاملة لا تصح إلا من صاحب مال كثير له آلاف يقعد على باب الغار ويكري الصناع والعملة، فيخرجون الطين ويغسلونه بين يديه، حتى إذا تم العمل أخرج خمس السلطان وسلم الباقي له، فربما يكون أصغر مما أنفق، وربما يكون دونه على قدر جد الرجل. سابور مدينة بأرض فارس، بناها سابور بن أردشير، من دخلها لم يزل يشم روائح طيبة حتى يخرج منها لكثرة رياحينها وأزهارها وكثرة أشجارها. قال البشاري: مدينة سابور نزهة جداً، بها ثمار الجروم والصرود من النخل والزيتون والاترج والجوز واللوز والعنب وقصب السكر. وأنهارها جارية وثمارها دانية. وقراها مشتبكة، يمشي السائر أياماً تحت ظل الأشجار كصغد سمرقند، وعلى كل فرسخ بقال وخباز. ينسب إليها أبو عبد الله السابوري. كان من أولياء الله تعالى، قال الأستاذ أبو علي الدقاق: إن أبا عبد الله كان صياداً، فإذا نزلنا به أطعمنا من لم الصيد ثم ترك ذلك. فسألناه عن سببه فقال: كنت أنصب شبكتي على عين ماء، فالظباء كانت تأتي لتشرب فتتعلق بالشبكة. فنصبتها في بعض الأيام فإذا أنا بظبية معها غزلان ثلاثة في انتصاف النهار عند شدة الحر، فقصدت الماء لتشرب، فلما رأت الشبكة نفرت عنها وذهبت وقد غلبها وغزلانها العطش، ثم عادت

سبتة

ودنت من الماء، فلما رأت الشبكة جعلت تنظر إليها وترفع رأسها نحو السماء حتى فعلت ذلك مراراً. فما كان إلا قليل حتى ظهرت سحابة سترت الآفاق وأمطرت مطراً سالت منه المياه في الصحراء. فلما شاهدت تلك الحالة تركت الاصطياد. سبتة بلدة مشهورة من قواعد بلاد المغرب على ساحل البحر في بر البربر. وهي ضاربة في البحر داخلة فيه. قال أبو حامد الأندلسي: عندها الصخرة التي وصل إليها موسى وفتاه يوشع، عليه السلام، فنسيا الحوت المشوي وكانا قد أكلا نصفه فأحيا الله تعالى النصف الآخر فاتخذ سبيله في البحر عجباً. وله نسل إلى الآن في ذلك الموضع، وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر وأحد جانبيها صحيح، والجانب الآخر شوك وعظام وغشاء رقيق على أحشائها. وعينها واحدة ورأسها نصف رأس، فمن رآها من هذا الجانب استقذرها ويحسب أنها مأكولة ميتة، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى المحتشمين، واليهود يقددونها ويحملونها إلى البلاد البعيدة للهدايا. سجستان ناحية كبيرة واسعة تنسب إلى سجستان بن فارس. أرضها كلها سبخة رملة، والرياح فيها لا تسكن أبداً حتى بنوا عليها رحيهم، وكل طحنهم من تلك الرحي. وهي بلاد حارة بها رحي على الريح ونخل كثير، وشدة الريح تنقل الرمل من مكان إلى مكان، ولولا أنهم يحتالون في ذلك لطمست على المدن والقرى. وإذا أرادوا نقل الرمل من مكان إلى مكان من غير أن يقع على الأرض التي إلى جانب الرمل، جمعوا حول الرمل مثل الحائط من حطب وشوك وغيرهما، وفتحوا من أسفله باباً فتدخله الريح وتطير الرمل إلى أعلاه مثل الزوبعة، فيرتفع

سخا

ويقع على مد البصر في بعد من ذلك الموضع. ولا يصاد في أرضهم قنفذ ولا سلحفاة لأن أرضهم كثيرة الأفاعي وانها تقتل الأفعى. قال ابن الفقيه: لا يرى بسجستان بيت إلا وتحته قنفذ. وأهلها من خيار الناس، قال محمد بن بحر الذهبي: لم تزل سجستان مفردة بمحاسن لم تعرف لغيرها من البلدان، وما في الدنيا سوقة أصح معاملة ولا أكثر مجاملة منهم، ثم مسارعتهم إلى إغاثة اللهيف ومؤاساة الضعيف، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولو كان فيه جدع الأنوف، وأجل من هذا كله أنهم امتنعوا على بني أمية أن يلعنوا علي بن أبي طالب على منبرهم. ومن عادتهم أن لا تخرج المرأة من منزلها أبداً، فإن أرادت زيارة أهلها فبالليل. ينسب إليها رستم الشديد، كان بالغاً في الشجاعة والفروسية إلى حد قال الفردوسي في شاه نامه: جهان آفرين تا جهان آفريد ... سواري جو رستم نيامد بديد ذكر عنه أنه كان يجعل الرمح في قرنه ويرفعه من ظهر فرسه، وإذا كان في ألف فارس يغلب ألفين: ألف في مقابلة ألف، وألف في مقابلة رستم. سخا مدينة بأسفل مصر، وهي قصبة الكورة الغربية. في جامعها حجر أسود عليه علامة: إذا أخرج من الجامع دخلت العصافير إليه، وإن أعيد إلى الجامع خرجت عنه! سدوم قصبة قرى قوم لوط. وهي بين الحجاز والشام. كانت أحسن بلاد الله وأكثرها مياهاً وأشجاراً وحبوباً وثماراً، والآن عبرة للناظرين. وتسمى الأرض

سمنود

المقلوبة لا زرع بها ولا ضرع ولا حشيش، وبقيت بقعة سوداء فرشت فيها حجارة، ذكر أنها الحجارة التي أمطرت عليهم وعلى عامتها كالطابع؛ قال أمية بن أبي الصلت: ثمّ لوطٌ أخو سدومٍ أتاها ... إذ أتاها برشدها وهداها راودوه عن ضيفه ثمّ قالوا: ... قد نهيناك أن تقيم قراها عرض الشّيخ عند ذاك بناتٍ ... كظباءٍ بأجرعٍ ترعاها غضب القوم عند ذاك وقالوا: ... أيّها الشّيخ خطبةٌ نأباها! عزم القوم أمرهم وعجوزٌ ... خيّب الله سعيها ورجاها أرسل الله عند ذاك عذاباً ... جعل الأرض سفلها أعلاها ورماها بحاصبٍ ثمّ طينٍ ... ذي حروفٍ مسوّمٍ إذ رماها سمنود بلدة قديمة بنواحي مصر على ضفة النيل. كان بها بربا من إحدى العجائب؛ قال عمر الكندي: رأيت ذلك البربا وقد اتخذه بعض العمال مخزن القت، فرأيت الجمل إذا دنا من بابه وأراد دخوله سقط عنه كل دبيب عليه، ولم يدخل منه شيء إلى البربا. وكان على ذلك إلى أن خرب في شهور، سنة خمسين وثلاثمائة. سنجل قرية من نواحي فلسطين بين نابلس وطبرية. على أربعة فراسخ من طبرية مما يلي دمشق. قال الاصطخري: كان منزل يعقوب، عليه السلام، بنابلس من أرض فلسطين، والجب الذي ألقي فيه يوسف الصديق، عليه السلام، بين نابلس وبين قرية يقال لها سنجل، ولم تزل تلك البئر مزاراً للناس يتبركون بزيارتها ويشربون من مائها.

سنون

سنون قرية بأرض كرمان؛ قال صاحب تحفة الغرائب: بها حصار في وسطها لا ترى الفأر فيه أبداً، ولو حملت إليها ماتت إذا أصابت أرضها! سوبلا بلجة بأرض البربر قرب مراكش. أهلها من شرار البربر، وبربر من شرار الناس. ذكر أن أبا يعقوب بن يوسف ملك المغرب اجتاز بها، فخرج مشايخها إليه للتلقي والخدمة، فلما رآهم قال: من أنتم؟ قالوا: مشايخ سوبلا! فقال: لا حاجة إلى اليمين، إنا نعرفكم! فتعجب الناس من سرعة جوابه كأنهم قالوا: نحن مشايخ سوء بالله، واللفظان واحد في كلام المغاربة. سيراف مدينة شريفة طيبة البقعة كثيرة البساتين، والعيون تأتيها من الجبال، واسعة البقعة والدور. ينسب إليها أبو الحسن السيرافي شارح كتاب سيبويه عشرين مجلداً، كان فريد عصره. سيرجان قصبة بلاد كرمان، بلدة طيبة كثيرة العلم حسنة الرسم، ذات بساتين ومياه كثيرة، أبهى من شيراز وأوسع وبينهما ثلاث مراحل يقال لهما القصران. ماؤها عذب وهواؤها صحيح وأديمها فسيح. بها دور عضد الدولة لم يوجد مثلها في شيء من البلاد. وقد ش بها عمرو وطاهر ابنا الليث بن طاهر الصفار السجستاني قناتين.

سيلون

ماؤها يدور في البلد ويدخل دورهم. بها الفانيد وقصب السكر، وبها نخل كثير، ولهم سنة حسنة وهي أنهم لا يرفعون من تمورهم شيئاً أسقطته الريح ويتركونها للضعفاء، فربما كثرت الرياح في بعض الأوقات فيحصل للفقراء أكثر مما يحصل للملاك. والكمون يحمل منها إلى الآفاق. سيلون من قرى نابلس. بها مسجد السكينة وحجر المائدة. ويقال: ان سيلون كانت منزل يعقوب، عليه السلام، وان إخوة يوسف، عليه السلام، أخرجوه منها لما أرادوا إلقاءه في الجب، والجب بقرية سنجل اتخذه الناس مزاراً. الشام هي من الفرات إلى العريش طولاً، ومن جبلي طيء إلى بحر الروم عرضاً؛ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الشام صفوة الله من بلاده وإليها يجتبي صفوته من عباده. عن عبد الله بن عمرو بن العاص انه قال: قسم الخير عشرة أقسام، جعلت تسعة في الشام وقسم في سائر الأرض، وقسم الشر عشرة أعشار، جزء منها بالشام والباقي في جميع الأرض. والشام هي الأرض المقدسة التي جعلها الله منزل الأنبياء ومهبط الوحي ومحل الأنبياء والأولياء. هواؤها طيب وماؤها عذب وأهلها أحسن الناس خلقاً وخلقاً وزياً ورياً؛ قال البحتري: عنيت بشرق الأرض قدماً وغربها ... أجوّب في آفاقها وأسيرها فلم أر مثل الشّام دار إقامةٍ ... لراحٍ أغاديها وكأسٍ أديرها مصحّة أبدانٍ ونزهة أعينٍ ... ولهو نفوسٍ دائمٌ وسرورها

مقدّسةٌ جاد الرّبيع بلادها ... ففي كلّ أرضٍ روضةٌ وغديرها ومن خواص الشام أن لا تخلو عن الأولياء الأبدال الذين يرحم الله ويعفو بدعائهم، لا يزيدون على السبعين ولا ينقصون عنها، كلما مات واحد منهم قام من الناس بدله، ولا يسكنون إلا جبل اللكام! ومن خواصها الطاءات الثلاث: الطعن والطاعون والطاعة. أما طاعونها فنعوذ بالله منه، وأما طعنها فمشهور أن أجنادها شجعان، وأما طاعتها للسلطان فمما يضرب به المثل حتى قيل: إنما تمشى الأمر لمعاوية لأنه كان في أطوع جند، وعلي كان في أعصى جند وهم أهل العراق! وبالشام من أنواع الفواكه في غاية الحسن والطيب، وتفاحها كان يحمل إلى العراق لأجل الخلفاء. وكذلك الزيت الركابي فإنه في عاية الصفاء، وأهل الشام ينسبون إلى الجلافة وقلة الفطنة! حكى ابن أبي ليلى أنه كان يساير رجلاً من وجوه أهل الشام، فمر بحمال معه سلة رمان فأخذ منها رمانة جعلها في كمه، فتعجبت من ذلك ثم رجعت إلى نفسي وكذبت بصري حتى مر بسائل فقير، فأخرجها من كمه وأعطاه، فعلمت أني رأيتها وسألته عن ذلك، فقال: أما علمت أن الأخذ سيئة واحدة والإعطاء عشر حسنات فكسبت تسعة؟ قال صاحب تحفة الغرائب: في بادية الشام شجرة إذا نظر الناظر إليها رأى أوراقها كالسرج المشعولة، وكلما كان الليل أظلم كان الضوء أشد. وإذا هش الورق لا يرى شيء من الضوء. وحكى عبد الرحمن القشيري أن امرأة شريك بن خباسة قالت: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى الشام، فنزلنا موضعاً يقال له القليب، فذهب شريك ليستقي فوقعت دلوه في البئر، فلم يقدر على أخذها لزحمة الناس فأخر إلى الليل وأبطأ، فأخبر عمر فأقام ثلاثاً، فإذا شريك أقبل ومعه ورقة خضراء فقال:

يا أمير المؤمنين، إني وجدت في القليب سرباً، فأتاني آت فأخرجني إلى أرض لا تشبه أرضكم وبساتين لا تشبه بساتينكم، فتناولت منه شيئاً فقال لي: ليس هذا أوان ذلك! فأخذت هذه الورقة فإذا هي يواريها الكف ويشتمل بها الرجل من شجرة التين. فدعا عمر كعب الأحبار وقال: هل وجدت في شيء من الكتب أن رجلاً من أمتنا يدخل الجنة ثم يخرج؟ قال: نعم وإن كان أنبأتك به! فقال: هو في القوم! فتأملهم ثم أشار إليه، فجعل شعار بني نمير أخضر من ذلك اليوم. بها جبل السماق، وهو جبل عظيم من أعمال حلب، يشتمل على مدن وقرى أكثرها للاسماعيلية. وانه منبت السماق وهو مكان طيب نزه. من عجائبه أنه ذو بساتين ومزارع كلها عذي، فينبت جميع الفواكه والحبوب في الحسن والطراوة كالمسقوي حتى المشمش والقطن والسمسم. وحكي أن نور الدين صاحب الشام أنكر ملك الإسماعيلية في وسط بلاده، فجاءه قاصداً أخذه، فلما نزل عليه في ليلته الأولى أصبح فرأى عند رأسه رقعة وسكيناً، وكان في الرقعة: إن لم ترحل الليلة الآتية تكون هذه السكين في بطنك! فارتحل عنه. وبها طور سينا بين الشام ووادي القريتين بقرب مدين، وقال بعضهم: بقرب أيلة. كان عليه الخطاب الثاني لموسى، عليه السلام، عند خروجه من مصر ببني إسرائيل. وكان موسى إذا جاءه ينزل عليه غمام فيدخل في ذلك الغمام ويكلمه ربه، وهو الجبل الذي ذكره الله تعالى حيث قال: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً. وانه لا يخلو من الصلحاء، وحجارته كيف كسرت خرج منها صورة شجر العليق. طور هارون في قبلي بيت المقدس، وإنما سمي طور هارون لأن موسى، عليه السلام، بعد قتل عبدة العجل أراد المضي إلى مناجاة ربه، فقال له هارون،

شرشال

عليه السلام: احملني معك فإني لست آمن أن يحدث ببني إسرائيل بعدك حدث، فتغضب علي مرة أخرى! فحمله معه، فلما كانا ببعض الطريق إذا هما برجلين يحفران قبراً، فوقفا عليهما وقالا: لمن تحفران هذا القبر؟ فقالا: لأشبه الناس بهذا الرجل! وأشارا إلى هارون ثم قالا له: بحق إلهك الا نزلت وأبصرت هل هو واسع؟ فنزع هارون ثيابه ودفعها إلى موسى ونزل ونام فيه، فقبض روحه من ساعته وانضم القبر! فانصرف موسى باكياً حزيناً، فاتهمه بنو إسرائيل بقتله، فدعا الله تعالى موسى حتى أراهم هارون في فضاء على رأس ذلك الجبل، ثم غاب عنهم فسمي طور هارون. وبها جبل لبنان وهو مطل على حمص، به أنواع الفواكه والزروع من غير أن يزرعها أحد، يأوي إليه الابدال لا يخلو عنهم أبداً لما فيه من القوت الحلال، وفي تفاحه أعجوبة وهي انه يحمل إلى الشام وليست له رائحة حتى يتوسط نهر الثلج، فإذا توسط النهر فاحت رائحته. وبها نهر الذهب، يزعم أهل حلب انه وادي بطنان، ومن عجائبه ان أوله يباع بالميزان وآخره بالكيل. ومعنى هذا الكلام أن أوله يزرع عليه القطن وسائر الحبوب، وآخره وهو ما فضل من الزروع ينصب إلى بطيحة طولها فرسخان في عرض مثله، فيجمد هناك ويصير ملحاً يمتار منه أكثر نواحي الشام فيباع كيلاً. شرشال مدينة بالمغرب من أعمال بجاية على ساحل البحر. حدثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني أنه رأى بها أربع أسطوانات مفرطة الطول: ثلاث منها قوائم، والرابعة ساقطة، طول كل واحدة نحو خمسين ذراعاً، وعرضها لا يحوطها باع رجلين. وانها في غاية الملاسة والحسن والهندام كأنها جعلت في الخرط، وعلى كل أسطوانتين جائزة حجرية أحد رأسيها على هذه، والأخرى على

شطا

هذه، وقد هندمت الجائزة أيضاً مربعة مفرطة الطول والأسطوانات زرق، والجوائز بيض وقد سقط بسقوط إحدى القوائم جائزتان وبقي على القوائم الثلاث جائزتان، فلو اجتمع أهل زماننا على إقامة الأسطوانة الساقطة ووضع الجائزتين الساقطتين عليهما، لا يمكنهم إلا ان يشاء الله. وقد اشتهر بين أهل تلك الديار أنها أثر قصر بناه بعض الملوك لابن له، وقد حكم المنجمون انه تصيبه لذعة من عقرب يخاف منها عليه التلف، فبنى هذا القصر من الحجر لئلا يتولد العقرب فيه لحجريته، ولا يصعد إليه لملاسة أسطواناته، فاتفق انه حمل إلى القصر سلة عنب كان فيها عقرب، فهم ابن الملك أن يتناول العنب من السلة فلذعته ومات منها. شطا من بلاد مصر تنسب إليها الثياب الشطوية. قال الحسن بن محمد المهلبي: هي على صفة البحر بقرب دمياط، يعمل بها الشرب الرفيع الذي تبلغ قيمة الثوب منه ثلاثمائة درهم ولا ذهب فيه. شعب بوان أرض بفارس بين ارجان والنوبندجان. وهي أحد متنزهات الدنيا المعروفة بالحسن والطيب والنزاهة وكثرة الأشجار وتدفق المياه وأنواع الأطيار. قالوا: جنان الدنيا أربع: صغد سمرقند وغوطة دمشق وشعب بوان ونهر الأبلة. وقال أحمد بن محمد الهمذاني: من النوبندجان إلى ارجان ستة وعشرون فرسخاً، بينهما شعب بوان. ومن حسنها أن جميع أشجار الفواكه نابتة على الصخر، وقد أجاد المتنبي في وصفه حين ذهب إلى عضد الدولة فقال: مغاني الشّعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الرّبيع من الزّمان!

شيراز

ولكنّ الفتى العربيّ فيها ... غريب الوجه واليد واللسان ملاعب جنّةٍ لو سار فيها ... سليمانٌ لسار بترجمان طبت فرساننا والخيل حتى ... خشيت وإن كرمن من الحران غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان فسرت وقد حجبن الحرّ عني ... وجئن من الضّياء بما كفاني وألقى الشّرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفرّ من البنان لها ثمرٌ يسير إليك منه ... بأشربةٍ وقفن بلا أوان وأمواهٌ يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني منازل لم يزل منها خيالٌ ... يشيّعني إلى النّوبندجان إذا غنّى الحمام الورق فيها ... أجابته أغانيّ القيان وما بالشّعب أحوج من حمامٍ ... إذا غنّى وناح إلى البيان وقد يتقارب الوصفان جدّاً ... وموصوفاهما متباعدان يقول بشعب بوّانٍ حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطّعان؟ أبوكم آدمٌ سنّ المعاصي ... وعلمّكم مفارقة الجنان شيراز مدينة صحيحة الهواء عذبة الماء كثيرة الخيرات، وافرة الغلات، قصبة بلاد فارس. سميت بشيراز بن طهمورث، وأحكم بناءها سلطان الدولة كاليجار بن بويه. زعموا أن من أقام بشيراز سنة يطيب عيشه من غير سبب يعرفه. من عجائبها شجرة تفاح، نصف تفاحها في غاية الحلاوة ونصفها حامض في غاية الحموضة. وبها القشمش منها يحمل إلى سائر البلاد، وبها أنواع الادهان الريحانية: كدهن الورد والبنفسج والنيلوفر والياسمين، وأنواع الأشربة الريحانية، كان في قديم الزمان يتخذ بها الأكاسرة. ولأهلها يد باسطة في صنعة ثياب الحرير

سقيا لدشت الأرزن الطوال!

والوقايات الرقاع، وكذلك في عمل السكاكين والنصول والأقفال الجيدة تحمل منها إلى سائر البلاد، وبقربها دشت الأرزن الذي يقول فيه المتنبي: سقياً لدشت الأرزن الطوّال! به من الصيد ما لا يعد ولا يحصى. كان متصيد عضد الدولة. ومن خواصه انه ينبت عصياً صلبة الخشب ارزنية لا توجد تلك الخشبة إلا بها، وهي مشهورة تسمى خشبة الأرزن. ينسب إليها قاضيها أبو العباس أحمد بن سريج، أحد المجتهدين على مذهب الإمام الشافعي، يقال له البازي الأشهب، مصنفاته تزيد على أربعمائة، ينصر مذهب الشافعي، وكان يناظر أبا بكر محمد بن داود فقال له أبو بكر: بلعني ريقي! فقال له: ابلعتك دجلة! وقال له يوماً آخر: امهلني ساعة! فقال: أمهلتك إلى قيام الساعة! وقال له يوماً: أكلمك من الرجل وتجيبني من الرأس! فقال: هكذا البقر إذا حفيت أظلافها دهن قرنها! وذكر الوليد بن حسان قال: كنا في مجلس القاضي أبي العباس أحمد بن سريج، فقام إليه رجل من أهل العلم وقال: ابشر أيها القاضي! فإن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة من يجدد دينه، وان الله قد بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائتين محمد بن إدريس الشافعي، وبعثت على رأس الثلاثمائة، وأنشأ يقول: اثنان قد مضيا فبورك فيهما: ... عمر الخليفة ثمّ نجل السؤدد والشّافعيّ الألمعيّ محمّدٌ ... إرث النّبوّة وابن عمّ محمّد ابشر أبا العبّاس! إنّك ثالثٌ ... من بعدهم، سقياً لتربة أحمد وحكي أن أبا العباس أحمد بن سريج رأى في مرض موته كأن القيامة قد قامت، وإذا الجبار سبحانه يقول: أين العلماء؟ فجاؤوا بهم. فقال: ماذا عملتم بما علمتم؟ فقالوا: يا رب قصرنا وأسألنا! فأعاد السؤال مرة أخرى كأنه

أراد جواباً آخر فقلت: يا رب أما أنا فليس صحيفتي الشرك، وقد وعدت أن تغفر ما دونها! فقال: اذهبوا فقد غفرت لكم! وفارق الدنيا بعد ذلك بثلاثة أيام. وينسب إليها أبو نصر بن أبي عبد الله الخياط، كان فقيهاً أصولياً أديباً مناظراً، أخذ العلم من أبيه وله مصنفات كثيرة، وأخذ الفقيه منه أهل شيراز، وهو الذي يقول في كتاب المزني: هذا الذي كنت أطويه وأنشره ... حتى بلغت به ما كنت آمله فدم عليه وجانب من يجانبه ... فالعلم أنفس شيءٍ أنت حامله وحكي أنه أو اباه استدل يوماً في مسألة، فأعجب الحاضرين كلامه فقالوا للقاضي أبي سعيد بشر بن الحسين الداودي قاضي القضاة بفارس والعراق وجميع أعمال عضد الدولة: هذا الكلام لا يجاب عنه حتى يلج الجمل في سم الخياط، فقال القاضي: وحتّى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليبٌ لوائل وينسب إليها أبو عبد الله محمد بن خفيف، شيخ وقته وأوحد زمانه، قال: دخلت بغداد وفي رأسي نخوة الصوفية، ما أكلت أربعين يوماً ولا دخلت على الجنيد! وكنت على عزم الحج، فلما وصلت إلى زبالة رأيت ظبية تشرب من بئر، وكنت عطشان، فمشيت إليها فولت الظبية ورأيت الماء في أسفل البئر فقلت: يا رب ما لي محل هذه الظبية؟ فنوديت من خلفي: جربناك ما تصبر، ارجع خذ الماء! فلما رجعت رأيت البئر ملآنة، فأخذت منه وشربت وتوضأت فسمعت هاتفاً يقول: إن الظبية جاءت بلا دلو ولا حبل وأنت جئت بالدلو والحبل! فلما رجعت إلى بغداد قال لي الجنيد: لو صبرت لنبع الماء من تحت رجليك.

الصعيد

الصعيد ناحية بمصر في جنوبي الفسطاط. يكتنفها جبلان والنيل يجري بينهما. والمدن والقرى شارعة على النيل من جانبيه، والجنان عليه مشرفة، والرياض بجوانبه محدقة، أشبه بشيء بما بين واسط والبصرة من أرض العراق. وبالصعيد آثار قديمة: منها أن في جبالها مغاور مملوءة من الموتى، الناس والطيور والسنانير والكلاب جميعهم مكفنون بأكفان غليظة من الكتان، شبيهة بالاعدال التي يجلب منها القماش من مصر، والكفن على هيئة قماط المولود ملفوف على الميت، وعليه أدوية لا تبلى، فإذا حللت الكفن عن الحيوان تجده لم يتغير منه شيء؛ قال الهروي: رأيت جويرية أخذوا كفنها وفي يدها ورجلها أثر خضاب الحناء. وبلغني أن أهل الصعيد إذا حفروا الآبار فربما وجدوا قبوراً منقورة في الحجارة كالحوض مغطاة بحجر آخر، فإذا كشف عنه يضربه الهواء فيتبدد بعد ان كان قطعة واحدة، ويزعمون ان المومياء المصري يوجد من رؤوس هؤلاء الموتى وهو أجود من المعدني الفارسي، وبها حجارة كأنها الدنانير المضروبة كأنها رباعيات عليها كالسكة، وهي كبيرة جداً، يزعمون أنها دنانير فرعون وقومه التي مسخها الله تعالى بدعاء موسى، عليه السلام: ربنا اطمس على أموالهم. صفت قرية من حوف مصر قرب بلبيس؛ قال الهروي: بها بيعت بقرة بني إسرائيل التي أمر الله تعالى بذبحها لظهور القاتل. وفيها قبة موجودة إلى الآن تعرف بقبة البقرة يزورها الناس.

صفين

صفين قرية قديمة البوار من بناء الروم، بقرب الرقة على شاطيء الفرات من الجانب الغربي، وما يليها غيضة ملتفة ذات بزور طولها نحو فرسخين، وليس في ذينك الفرسخين طريق إلى الماء إلا طريق واحد مفروش بالحجارة، وسائر ذلك عزب وخلاف ملتفة. ولما سمع معاوية أن علياً عبر الفرات بعث إلى ذلك الطريق أبا الأعور في عشرة آلاف ليمنع أصحاب علي من الماء، فبعث علي صعصعة بن صوحان فقال: إنا سرنا إليكم لنعذر إليكم قبل القتال، فإن أتيتم كانت العاقبة أحب إلينا! وأراك قد حلت بيننا وبين الماء، فإن كان أعجب إليك أن ندع ما جئنا له تقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا. فقال معاوية لصعصعة: ستأتيكم رايتي. فرجع إلى علي وأخبره بذلك، فغم علي غماً شديداً لما أصاب الناس في يومهم وليلتهم من العطش. فلما أصبحوا ذهب الأشعث بن قيس والأشتر بن الأشجع، ونحيا أبا الأعور عن الشريعة حتى صارت في أيديهم، فأمر علي أن لا يمنع أحد من أهل الشام عن الماء، فكانوا يسقون منه ويختلط بعضهم ببعض، وكان ذلك سنة سبع وثلاثين غرة صفر. وكان علي في مائة وعشرين ألفاً، ومعاوية في تسعين ألفاً. وقتل من الجانبين سبعون ألفاً: من أصحاب علي خمسة وعشرون ألفاً، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً. وفي قوم علي قتل خمسة وعشرون صحابياً بدرياً منهم عمار بن ياسر. وكانت مدة المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام، وكانت الوقائع تسعين وقعة، وكانت الصحابة متوقفين في هذا الأمر لأنهم كانوا يرون علياً وعلو شأنه، ويرون قميص عثمان على الرمح ومعاوية يقول: أريد دم ابن عمي! إلى أن قتل عمار بن ياسر والصحابة سمعوا أن النبي قال له: تقتلك

صقلية

الفئة الباغية! فعند ذلك ظهر للناس بغي معاوية، فبذل قوم علي جهدهم في القتال حتى ضيقوا على قوم معاوية، فعند ذلك رفعوا المصاحف وقالوا: رضينا بكتاب الله! فامتنع قوم علي عن القتال. فقال علي: كلمة حق أريد به باطل! فما وافقوا، فقال علي عند ذلك: لا رأي لغير مطاع! فآل الأمر إلى الحكمين، والقصة مشهورة. صقلية جزيرة عظيمة من جزائر أهل المغرب مقابلة لافريقية. وهي مثلثة الشكل بين كل زاوية والأخرى مسيرة سبعة أيام. وهي حصينة كثيرة البلدان والقرى، كثيرة المواشي جداً من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والحيوانات الوحشية. ومن فضلها أن ليس بها عاد بناب أو برثن أو إبرة، وبها معدن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد، وكذلك معدن الشب والكحل والزاج ومعدن النوشاذر، ومعدن الزئبق. وبها المياه والأشجار والمزارع وأنواع الفواكه على اختلاف أنواعها، لا تنقطع شتاء ولا صيفاً. وأرضها تنبت الزعفران. وكانت قليلة العمارة خاملة الذكر إلى أن فتح المسلمون بلاد افريقية، فهرب أهل افريقية إليها وعمروها حتى فتحت في أيام بني الأغلب في ولاية المأمون، فبقيت في يد المسلمين مدة، ثم ظهر عليها الكفار وهي الآن في أيديهم. وبهذه الجزيرة جبال شامخة وعيون غزيرة وأنهار جارية ونزهة عجيبة، وقال ابن حمديس وهو يشتاق إليها: ذكرت صقلّيّة والهوى ... يهيّج للنّفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنةٍ ... فإني أحدّث أخبارها ذكر أن دورها مسيرة ستة عشر يوماً، وقطرها مسيرة خمسة أيام،

وهي مملوءة من الخيرات والمياه والأشجار والمزارع والفواكه. بها جبل يقال له قصر يانه وهو من عجائب الدنيا. على هذا الجبل مدينة عظيمة شامخة، وحولها مزارع وبساتين كثيرة، وهي شاهقة في الهواء، وكل ذلك يحويه باب المدينة، لا طريق إليها إلا بذلك الباب، والأنهار تنفجر من أعلاها. وبها جبل النار، ذكر أبو علي الحسن بن يحيى أنه جبل مطل على البحر، دورته ثلاثة أيام بقرب طبرمين، فيه أشجار كثيرة وأكثرها البندق والصنوبر والارزن، وفيه أصناف الثمار، وفي أعلاه منافس النار يخرج منه النار والدخان، وربما سالت النار منه إلى جهة تحرق كل ما مرت به، وتجعل الأرض مثل خبث الحديد لا تنبت شيئاً ولا تمر الدابة بها، ويسميه الناس الاخباث. وفي أعلى هذا الجبل السحاب والثلوج والأمطار دائمة، لا تكاد تقلع عنه في صيف ولا شتاء، والثلج لا يفارق أعلاه في الصيف. وأما في الشتاء فيعم الثلج أوله وآخره. وزعمت الروم أن كثيراً من الحكماء يرحلون إلى جزيرة صقلية للنظر إلى عجائب هذا الجبل واجتماع النار والثلج فيه، فترى بالليل نار عظيمة تشعل على قلته، وبالنهار دخان عظيم لا يستطيع أحد الدنو إليها، فإن اقتبس منها طفئت إذا فارقت موضعها. وبها البركان العظيم؛ قال أحمد بن عمر العذري: ليس في الدنيا بركان أشنع منه منظراً ولا أعجب مخبراً! فإذا هبت الريح سمع له دوي عظيم كالرعد القاصف، ويقطع من هذا البركان الكبريت الذي لا يوجد مثله. وقال أيضاً: بها آبار ثلاث يخرج منها من أول الربيع إلى آخره زيت النفط، فينزل في هذه الآبار على درج ويتقنع النازل ويسد منخره، فإن تنفس في أسفلها هلك من ساعته، يغترف ماءها ويجعله في اجانات، فما كان نفطاً علا فيجمع ويجعل في القوارير.

صور

صور مدينة مشهورة على طرف بحر الشام، استدار حائطها على مبناها استدارة عجيبة، بها قنطرة من عجائب الدنيا وهي من أحد الطرفين إلى الآخر على قوس واحد. ليس في جميع البلاد قنطرة أعظم منها. ومثلها قنطرة طليطلة بالأندلس إلا أنها دون قنطرة صور في العظم، ينسب إليها الدنانير الصورية التي يتعامل عليها أهل الشام والعراق. طبرستان ناحية بين العراق وخراسان بقرب بحر الخزر ذات مدن وقرى كثيرة. من مفاخرها القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، أستاذ الشيخ أبي إسحق الشيرازي. والقاضي أبو الطيب عاش مائة سنة ولم يختل منه عقله ولا فهمه، وكان يفتي إلى آخر عمره ويقضي بين الناس ويناظر الفقهاء. وله مصنفات كثيرة في الفقه والأصول، منها تعليقة الطبري مائة مجلد ثم كتاب في مذهب الشافعي؛ قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي صاحب المهذب: لازمت حلقة درسه بضع عشرة سنة، رتبني في حلقته وسألني أن أجلس في مجلس التدريس ففعلت ذلك. وانه ولي القضاء بكرخ، وكان رأى النبي، عليه السلام، في المنام فقال له: يا فقيه! ففرح بذلك فرحاً شديداً. يقول: سماني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقيهاً. مات سنة خمس وأربعمائة ببغداد عن مائة سنة وسنتين، وصلى عليه الخليفة أبو الحسن المهتدي. طبرية مدينة بقرب دمشق بينهما ثلاثة أيام، مطلة على بحيرة معروفة ببحيرة طبرية، وجبل الطور مطل عليها. وهي مستطيلة على البحر نحو فرسخ. بناها

ملك من ملوك الروم اسمه طبارى. بها عيون جارية حارة بنيت عليها حمامات لا تحتاج إلى الوقود، وهي ثمانية حمامات؛ قال أبو بكر بن علي الهروي: أما حمامات طبرية التي قالوا إنها من عجائب الدنيا فليست التي على باب طبرية إلى جانب بحيرتها، فإن مثل هذه كثيرة، والتي هي من عجائب الدنيا في موضع من أعمال طبرية يقال له الحسنية، وهي عمارة قديمة يقال انها من بناء سليمان بن داود، عليه السلام. وهو هيكل يخرج الماء من صدره، وقد كان يخرج من اثنتي عشرة عيناً، كل عين مخصوصة بمرض إذا اغتسل فيها صاحب هذا المرض عوفي بإذن الله تعالى، والماء شديد الحرارة جداً، عذب صاف طيب الرائحة يقصده المرضى يستشفون به. وبينها وبين بيسان حمة سليمان، عليه السلام، يزعمون أنها نافعة لكل داء. وبها بحيرة عشرة أميال في ستة أميال غؤورها علامة خروج الدجال. وهي كبركة أحاطت بها الجبال ينصب إليها فضلات أنهار تأتي من حمة بانياس. وبها معدن المرجان. وحولها قرى كثيرة كبيرة، وتخيل في وسط هذه البحيرة صخرة منقورة طبقت بصخرة أخرى، تظهر للناظرين من بعيد، يزعم أهل النواحي انها قبر سليمان، عليه السلام. وبطبرية قبر لقمان الحكيم، عليه السلام، من زاره أربعين يوماً يظهر منه الحكمة. وبها عقارب قتالة كعقارب الاهواز. وقال صاحب تحفة الغرائب: بطبرية نهر عظيم، والماء الذي يجري فيه نصفه حار ونصفه بارد، ولا يمتزج أحدهما بالآخر. فإذا أخذ من النهر في إناء يبقى خارج النهر بارداً. وبأرض طبرية موضع به سبع عيون، ينبع الماء منه سبع سنين متواليات وييبس سبع سنين متواليات ينسب إليها سليمان بن أحمد بن يوسف الطبراني، أحد الأئمة المعروفين والحفاظ المكثرين والمشايخ المعمرين؛ من تصانيفه المعجم الكبير في أسماء الصحابة، لم ينصف مثله. ذكر أبو الحسن أحمد بن فارس صاحب المجمل

طرسوس

قال: سمعت الأستاذ ابن العميد وزير آل بويه يقول: كنت أظن لا حلاوة في الدنيا فوق الرئاسة حتى شاهدت مذاكرة سليمان الطبراني وأبي بكر الجعابي، فكان الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه، والجعابي يغلب الطبراني بزيادة فطنته، حتى ارتفعت أصواتهما ولا يكاد يغلب أحدهما الآخر، إلى أن قال الجعابي: عندي حديث ليس عند أحد! فقال الطبراني: هاته! فقال: حدثني أبو خليفة قال: حدثنا سليمان بن أيوب. وذكر الحديث فقال الطبراني: أنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة فاسمعه مني حتى يعلو اسنادك! فخجل الجعابي؛ قال ابن العميد: فوددت أن الوزارة للطبراني وانا الطبراني وفرحت له كما فرح هو. قيل: ان الطبراني ورد أصفهان وأقام بها سبعين سنة، وتوفي سنة ستين ومائتين عن مائة سنة. طرسوس مدينة بين انطاكية وحلب. مدينة جليلة سميت بطرسوس بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح، عليه السلام؛ قالوا: لما وصل الرشيد إليها جدد عماراتها وشق نهرها. ولها سور وخندق. قال محمد بن أحمد الهمذاني: لم تزل طرسوس موطن الزهاد والصالحين لأنها كانت بين ثغور المسلمين، إلى أن قصدها فغفور ملك الروم سنة أربع وخمسين وثلاثمائة في عسكر عظيم، وكان فيها رجل من قبل سيف الدولة يقال له ابن الزيات عجز عن مقاومة الروم، سلم إليهم على الأمان على شرط أن من خرج منها متاعه لم يتعرض، ومن أراد المقام مع اداء الجزية فعل. فلما دخل الكفار المدينة خربوا مساجدها، وأخذوا من السلاح والأموال ما كان جمع فيها من أيام بني أمية، وأخذ كل واحد من النصارى دار رجل من المسلمين، ولم يطلق لصاحبها إلا حمل الخف، واحتوى على جميع ما فيها، وتقاعد

العباسة

بالمسلمين أمهات أولادهم. فمنهن من منعت الرجل ولده واتصلت بأهلها فيأتي الرجل إلى معسكر الروم ويودع ولده باكياً، ولم تزل طرسوس في أيديهم إلى هذه الغاية. بها موضع زعموا أنه من حمى الجن، نزل به المأمون لما غزا الروم. وكان هناك عين ماؤها في غاية الصفاء، وكان المأمون جالساً على طرفها فرأى في الماء سمكة مقدار ذراع فأمر بإخراجها، فأخرجوها فإذا هي سمكة في غاية الحسن بيضاء مثل الفضة، فوثبت وعادت إلى الماء فوقعت رشاشات الماء على ثياب المأمون، فغضب وأمر بإخراجها مرة أخرى فأخرجوها والمأمون ينظر إليها ويقول: الساعة نشويك! ثم أمر بشيها فأتى المأمون على المكان قشعريرة، فأتى صاحب طبخه بالمكة مشوية وهو لم يقدر على تناول شيء منها، واشتد الأمر به حتى مات. قال الشاعر: هل رأيت النّجوم أغنت عن المأ ... مون في عزّ ملكه المأسوس غادروه بعرصتي طرسوس ... مثل ماغادروا أباه بطوس العباسة بليدة بأرض مصر في غاية الحسن والطيب، سميت بعباسة بنت أحمد بن طولون، كان خمارويه زوج ابنته من المعتضد بالله، وانه خرج بها من مصر إلى العراق فعملت عباسة في هذا الموضع قصراً، وبرزت إليه لوداع بنت أخيها قطر الندى، ثم زيدت في عمارته حتى صارت بليدة طيبة كثيرة المياه والأشجار من متنزهات مصر. وبها مستنقع يأوي إليه من الطير ما لم ير في شيء من المواضع غيرها، والصيد بها كثير جداً. وكان الملك الكامل يكثر الخروج إليها للتنزه والصيد.

العريش

العريش مدينة جليلة من أعمال مصر. هواؤها صحيح طيب وماؤها عذب حلو. قيل: ان اخوة يوسف، عليه السلام، لما قصدوا مصر في القحط لامتيار الطعام، فلما وصلوا إلى موضع العريش، وكان ليوسف، عليه السلام، حراس على أطراف البلاد من جميع نواحيها، فسكنوا هناك وكتب صاحب الحرس إلى يوسف: ان أولاد يعقوب الكنعاني قد وردوا يريدون البلد للقحط الذي أصابهم، فإلى أن أذن لهم عملوا عريشاً يستظلون به فسمي الموضع العريش. فكتب يوسف، عليه السلام، يأذن لهم، فدخلوا مصر، وكان من قصتهم ما ذكره الله تعالى. وبها من الطير الجوارح والمأكول والصيد شيء كثير، والرمان العريشي يحمل إلى سائر البلدان لحسنه، وبها أصناف كثيرة من التمر. وغدر دهقانها يضرب به المثل. يقال: أغدر من دهقان العريش! وذاك أن علياً لما سمع أن معاوية بعث سراياه إلى مصر وقتل بها محمد بن أب بكر، ولى الأشتر النخعي مصر وأنفذه إليها في جيش كثيف، فبلغ معاوية ذلك فدس إلى دهقان كان بالعريش وقال: احتل بالسم في الأشتر، فإني أترك خراجك عشرين سنة! فلما نزل الأشتر العريش سأل الدهقان: أي طعام أعجب إليه؟ قالوا: العسل! فأهدى إليه عسلاً، وكان الأشتر صائماً فتناول منه شربة فما استقر في جوفه حتى تلف، فأتى من كان معه على الدهقان وأصحابه وأفنوهم. عزاز بليدة بقرب حلب، لها قهندز ورستاق، وهي طيبة الهواء عذبة الماء صحيحة التربة. من عجائبها أنه لا يوجد بها عقرب أصلاً، وترابها إذا ذر على العقرب ماتت، وليس بها شيء من الهوام أصلاً.

عسقلان

عسقلان مدينة على ساحل بحر الشام من أعمال فلسطين، كان يقال لها عروس الشام لحسنها. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أبشركم بالعروسين، غزة وعسقلان! افتتحت في أيام عمر بن الخطاب على يد معاوية بن أبي سفيان، ولم تزل في يد المسلمين إلى أن استولى الفرنج عليها سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. حكى بعض التجار أن الفرنج اتخذوا مركباً علوه قدر سور عسقلان، وشحنوه رجالاً وسلاحاً واجروه حتى لصق بسور عسقلان، ووثبوا منه على السور وملكوها قهراً، وبقيت في يدهم خمساً وثلاثين سنة إلى أن استنقذها صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم عاد الفرنج وفتحوا عكة وساروا نحو عسقلان، فخشي أن يتم عليها ما تم على عكة فخربها في سنة سبع وثمانين وخمسمائة. بها مشهد رأس الحسين، عليه السلام، وهو مشهد عظيم مبني بأعمدة الرخام. وفيه ضريح الرأس والناس يتبركون به، وهو مقصود من جميع النواحي وله نذر كثير. عسكر مكرم مدينة مشهورة بأرض الاهواز، بناها مكرم بن معاوية بن الحرث بن تميم، وكانت قرية قديمة، بعث الحجاج مكرم بن معاوية لقتال خورزاد لما عصى وتحصن بقلعة هناك، فنزل مكرم هناك وطال حصاره فلم يزل يزيد بناء حتى صارت مدينة. بها عقارب جرارات عظيمة يعالج بلذعها المفلوجون؛ حكى الفقيه عبد الوهاب بن محمد العسكري أن مفلوجاً من أصفهان حمل إلى عسكر مكرم ليعالج بلذع العقارب، فطرح على باب خان من الجانب الشرقي، وقد فزعت

عكة

وهجرت لكثرة ما بها من الجرارات، فرأيت العليل طريحاً بها لا يمكنه أن ينقلب من جنب إلى جنب ولا أن يتكلم، فبات بها ليلة، فلما كان من الغد وجدوه جالساً يتكلم فصيحاً وقام ومشى. فقال له الطبيب: انتقل الآن من هذا المكان، فإنه لذعتك واحدة ابرأتك وقام بحرارتها برد الفالج، فإن لذعتك أخرى تقتلك! فانتقل من هذا الموضع وصلح حاله. عكة مدينة على ساحل بحر الشام من عمل الأردن، من أحسن بلاد الساحل في أيامنا وأعمرها، وفي الحديث: طوبى لمن أرى عكة! قال البشاري: عكة مدينة حصينة على البحر كبيرة، لم تكن على هذه الحصانة حتى قدمها ابن طولون وقد رأى مدينة صور واستدارة الحائط على مبناها، فأحب أن يتخذ لعكة مثل ذلك، فجمع صناع البلاد فقالوا: لا نهتدي إلى البناء في الماء، حتى ذكر عنده جدي أبو بكر البناء، فأحضره وعرض عليه فاستهان ذلك وأمر بإحضار فلق من خشب الجميز غليظة، نصبها على وجه الماء بقدر الحصن البري، وبنى عليها الحجارة والشيد، وجعل كلما بنى عليها خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء، والفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها استقرت على الرمل تركها حولاً حتى أخذت قرارها، ثم عاد فبنى عليها، وكلما بلغ البناء إلى الحائط الذي قبله داخله فيه. وقد ترك لها باباً وجعل عليه قنطرة. فالمراكب في كل ليلة تدخل الميناء وتجر سلسلة بينها وبين البحر الأعظم مثل مدينة صور، فدفع ابن طولون إليه ألف دينار سوى الخلع والمراكب واسمه مكتوب على السور. ولم تزل في أيدي المسلمين حتى أخذها الفرنج في سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وكان عليها زهر الدولة الجيوشي من قبل المصريين، فقاتل أهل عكة حتى عجزوا. فأخذها الفرنج قهراً وقتلوا وسلبوا ولم تزل في أيديهم إلى زمن صلاح الدين، فافتتحها سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وشحنها بالسلاح

عين جارة

والرجال والميرة، فعاد الفرنج ونزلوا عليها فأتاهم صلاح الدين وأزاحهم عنها، وقاتل الفرنج أشد القتال، وقتل خلق كثير حول عكة وثارت روائح الجيف وتأذى المسلمون منها وظهرت فيهم الأمراض، ومرض صلاح الدين أيضاً فأمر الأطباء بمفارقة ذلك الموضع ففارقه، فجاء الفرنج وتمكنوا من حوالي عكة وخندقوا دونهم، فكان الفرنج محيطين بالمدينة والخندق محيطاً بالفرنج، فعاودهم صلاح الدين وأقام حذاءهم ثلاث سنين حتى استعادها الفرنج سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وقتلوا فيها المسلمين وهي في أيديهم إلى الآن. بها عين البقر وهي بقرب عكة يزورها المسلمون واليهود والنصارى، يقولون: إن البقر الذي ظهر لآدم، عليه السلام، فحرث عليه خرج منها، وعلى العين مشهد منسوب إلى علي بن أبي طالب. عين جارة ضيعة من أعمال حلب، قال أبو علي التنوخي: إن بين عين جارة وبين الكوبة وهي قرية أخرى حجراً قائماً، فربما وقع بين الضيعتين شر فيكيد أهل الكوبة بأن يلقوا ذلك الحجر القائم، فكلما وقع الحجر خرج نساء عين جارة ظاهرات متبرجات لا يعقلن بأنفسهن في طلب الرجال، ولا يستحين من غلبة الشهوة إلى أن يتبادر رجال عين جارة إلى الحجر يعيدونه إلى حاله، فعند ذلك يتراجع النساء إلى بيوتهن، وقد عاد إليهن العقل والتمييز باستقباح ما كن عليه. وهذه الضيع أقطعها سيف الدولة أحمد بن نصر البار، وكان أحمد يتحدث بذلك، وكتب أيضاً بخطه. عين الشمس مدينة كانت بمصر محل سرير فرعون موسى بالجانب الغربي من النيل، والآن انطمست عمارات فرعون بالرمل وهي بقرب الفسطاط. قالوا: بها قدت

زليخا على يوسف القميص. من عجائبها ما ذكر الحسن بن إبراهيم المصري أن بها عمودين مبنيين على وجه الأرض من غير أساس، طول كل واحد منهما خمسون ذراعاً، فيهما صورة إنسان على دابة وعلى رأسها شبه الصومعتين من نحاس، فإذا جرى النيل رشحتا والماء يقطر منهما ولا تجاوزهما المشمس في الانتهاء، فإذا نزلت أول دقيقة من الجدي وهو أقصر يوم في السنة انتهت إلى العمود الجنوبي، وقطعت على قبة رأسه، فإذا نزلت أول دقيقة من السرطان وهو أطول يوم في السنة انتهت إلى العمود الشمالي وقطعت على قبة رأسه، ثم تطرد بينهما ذاهبة وجائية سائر السنة ويترشح منهما ماء وينزل إلى أسفلهما فينبت العوسج وغيره من الشجر. ومن عجائب عين شمس أن يحمل منذ أول الإسلام حجارتها إلى غيرها من البلاد وما تفنى. وبها زرع البلسان وليس في جميع الدنيا شجرته ويستخرجه منها دهنه. قال أبو حامد الاندلسي: بعين شمس تماثيل عملتها الجن لسليمان، عليه السلام. بها منارة من صخرة واحدة من رخام أحمر منقط بسواد، ومربعه أكثر من مائة ذراع، على رأسها غشاء من النحاس، والوجه الذي إلى مطلع الشمس من ذلك الغشاء فيه صورة آدمي على سرير، وعلى يمينه وشماله صورتان كأنهما خادمان، ويترشح من تحت ذلك الغشاء أبداً ماء على تلك المنارة. ينبت الطحلب الأخضر على موضع مسيله من تلك المنارة وينزل مقدار عشرة أذرع، ولا يتعدى ذلك القدر ولا ينقطع نهاراً ولا ليلاً. قال: وكنت أرى لمعان الماء على تلك الصخرة وأتعجب من ذلك، فإنه ليس بقرب تلك المدينة نهر ولا عين، وإنما كان شربهم من الآبار، والله أعلم بالأمور الخفية

الغريان

الغريان بناءان كالصومعتين كانا بأرض مصر، بناهما بعض الفراعنة وأمر كل من يمر بهما أن يصلي لهما، ومن لم يصل قتل. إلا أنه تقضى له حاجتان إلا النجاة والملك، ويعطى ما تمنى في الحال ثم يقتل! فأتى على ذلك برهة، فأقبل قصار من افريقية معه حمار له وكدين، فمر بهما ولم يصل فأخذه الحرس وجروه إلى الملك فقال له الملك: ما منعك أن تصلي؟ فقال: أيها الملك اني رجل غريب من افريقية، أحببت أن أكون في ظلك وأصيب في كنفك خيراً، ولو عرفت لصليت لهما ألف ركعة! فقال له: تمن كل ما شئت غير النجاة من القتل والملك! فأقبل القصار وأدبر وتضرع وخضع فما أفاده شيئاً، فلما أيس من الخلاص قال: أريد عشرة آلاف دينار وبريداً أميناً! فأحضر، فقال للبريد: أريد أن تحمل هذا إلى افريقية وتسأل عن بيت فلان القصار وتسلمه إلى أهله! قال له: تمن الثانية! قال: اضرب كل واحد منكم بهذا الكدين ثلاث ضربات، إحداها شديدة والثانية وسطاً والثالثة دون ذلك! فمكث الملك طويلاً ثم قال لجلسائه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن لا تقطع سنة آبائك! قالوا: بمن تبدأ؟ قال: بالملك! فنزل الملك عن السرير ورفع القصار الكدين وضرب به قفاه، فأكبه على وجهه وغشي على الملك ثم رجع نفسه إليه وقال: ليت شعري أي الضربات هذه؟ والله إن كانت هينة وجاءت الوسطى لأموتن دون الشديدة! ثم نظر إلى الحرس وقال: يا أولاد الزنا كيف تزعمون انه لم يصل واني رأيته صلى؟ خلوا سبيله واهدموا الغريين. وبنى مثلهما المنذر بن امريء القيس بن ماء السماء بالكوفة، وسيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

غزة

غزة مدينة طيبة بين الشام ومصر على طرف رمال مصر، قال، صلى الله عليه وسلم: أبشركم بالعروسين غزة وعسقلان. فتحها معاوية بن أبي سفيان في أيام عمر بن الخطاب. وكفاها معجزاً انها مولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي. ولد بها سنة خمسين ومائة. انه كان يجعل الليل اثلاثاً: ثلثاً لتحصيل العلم، وثلثاً للعبادة، وثلثاً للنوم. وقال الربيع: كان يختم في رمضان ستين ختمة كل ذلك في الصلاة. وحكي أن عامل اليمن كتب إلى الرشيد: إن ههنا شاباً قرشياً يميل إلى العلوية ويتعصب، فكتب الرشيد إليه: ابعثه إلي تحت الاستظهار. فحمل إلى الرشيد. حدث الفضل بن الربيع وقال: أمرني الرشيد بإحضار الشافعي، وكان غضبان عليه، فأحضرته فدخل عليه وهو يقرأ شيئاً. فلما رآه أكرمه وأمر له بعشرة آلاف درهم، فدخل خائفاً وخرج آمناً. فقلت: يا أبا عبد الله أخبرني بم كنت تقرأ عند دخولك؟ فقال: إنها كلمات حدثني بها أنس بن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انه قرأها يوم الأحزاب؛ فقلت: اذكرها لي. فقال: اللهم اني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة وطارق الجن والانس إلا طارقاً يطرق بخير! اللهم أنت عياذي فبك أعوذ، وأنت ملاذي فبك ألوذ! يا من ذلت له رقاب الجبابرة وخضعت له مقاليد الفراعنة، أعوذ بجلال وجهك وكرم جلالك من خزيك وكشف سترك، ونسيان ذكرك والاضراب عن شكرك! إلهي أنا في كنفك في ليلي ونهاري ونومي وقراري وظعني وأسفاري، ذكرك شعاري وثناؤك دثاري! لا إله إلا أنت تنزيهاً لأسمائك وتكريماً لسبحات وجهك الكريم! أجرنا يا ربنا من خزيك ومن شر عقابك، واضرب علينا سرادقات فضلك وقناسيات عذابك، واعنا بخير منك، وأدخلنا في حفظ عنايتك

يا أرحم الراحمين! وقد جربت هذه الكلمات لا يقولها خائف إلا آمنه الله تعالى، وكان الرشيد يقربه ويكرمه لما عرف فضله وغزارة علمه. وكان القاضي أبو يوسف ومحمد بن حسن رتبا عشرين مسألة وبعثاها على يد حدث من أصحابهما فقال الشافعي له: من حملك على هذا؟ فقال: من أراد حكمها. فقال: متعنت أو متعلم؟ فسكت الغلام، فقال الشافعي: هذا من تعنت أبي يوسف ومحمد! ثم نظر فيها وحفظها ورد الدرج إلى الحدث، فأخبر الخليفة بذلك فأحضر أبا يوسف ومحمداً وسألهما عن حال الدرج فاعترفا به، فأحضر الشافعي وقال: بين أحكامها ولك الفضل. فقال: يا أمير المؤمنين قل لهما يسألاني عن واحدة واحدة ويسمعان جوابها بتوفيق الله. فعجزا عن استحضارها، فقال الشافعي: أنا أكفيهما. سألاني عن رجل ابق له عبد فقال: هو حر ان طعمت طعاماً حتى أجده، كيف الخلاص من ذلك؟ الجواب: يهبه لبعض أولاده ويطعم حتى لا يعتق. وسألاني عن رجلين كانا فوق سطح فوقع أحدهما من السطح ومات فحرمت على الآخر امرأته. الجواب: ان امرأة الحي كانت أمة للميت، وكان الزوج بعض ورثته، فصارت الأمة ملكاً للزوج بحق الارث فحرمت عليه. وسألاني عن رجلين خطبا امرأة في حالة واحدة وانها لم تحل لأحدهما وحلت للآخر. الجواب: لأحد الرجلين أربع وهي خامسة فلا تحل له، والآخر ما كان كذلك فحلت له. وسألاني عن رجل ذبح شاة في منزله وخرج لحاجة ورجع، قال لأهله: كلوا فإنها حرمت علي، فقال له أهله: ونحن أيضاً قد حرمت علينا. الجواب: كان الرجل مجوسياً أو وثنياً، فذبح شاة وخرج لحاجة وأسلم وأهله أيضاً أسلموا، فقال لأهله: كلوا فإني أسلمت لا تحل لي ذبيحة المجوس! فقال له أهله: نحن أيضاً قد أسلمنا وحرمت علينا أيضاً.

وسألاني عن امرأة تزوجت في شهر واحد ثلاثة أزواج، كل ذلك حلال غير حرام. الجواب: إن هذه المرأة طلقها زوجها وهي حامل فوضعت. انقضت عدتها بالوضع فتزوجت، ثم ان هذا الزوج خالعها قبل الدخول فلا عدة عليها، فتزوج بها آخر وهكذا ان أردت رابعاً وخامساً وسادساً. وسألاني عن رجل حرمت عليه امرأته سنة من غير حنث أو طلاق أو عدة. الجواب: هذا الرجل وامرأته كانا محرمين فلم يدركا الحج، فلم تزل امرأته تحرم عليه إلى العام القابل، فإذا فرغت من الحج في العام المقبل حلت لزوجها. وسألا عن امرأتين لقيتا غلامين فقالتا: مرحباً بابنينا وابني زوجينا وهما زوجانا! الجواب: إن للمرأتين ابنين، وكل واحدة منهما مزوجة بابن صاحبتها، فكان الغلامان ابنيهما وابني زوجيهما وهما زوجاهما. وسألا عن رجلين شربا الخمر فوجب الحد على أحدهما دون الآخر. الجواب: كان أحدهما غير موصوف بأوصاف وجوب الحدث كالعقل والبلوغ. وسألا عن مسلمين سجدا لغير الله وهما مطيعان في هذه السجدة. الجواب: هذه سجدة الملائكة لآدم، عليه السلام. وسألا عن رجل شرب من كوز بعض الماء وحرم الباقي عليه. الجواب: انه رعف فوقع في باقيه شيء من الدم فحرم عليه. وسألا عن امرأة ادعت البكارة وزوجها يدعي أنه أصابها فكيف السبيل إلى تحقيق هذا الأمر؟ الجواب: تؤمر القابلة بأن تحملها بيضة فإن غابت البيضة كذبت المرأة وإن لم تغب صدقت. وسألا عن رجل سلم إلى زوجته كيساً وقال لها: أنت طالق إن فتحته أو فتقته أو خرقته أو حرقته! وأنت طالق إن لم تفرغيه! الجواب: يكون في الكيس سكر أو ملح أو ما شابههما فيوضع في الماء الحار ليذوب ويفرغ الكيس. وسألا عن امرأة قبلت غلاماً وقالت: فديت من أمه ولدت أمه وأنا امرأة أبيه. الجواب: انها أمه.

وسألا عن خمسة نفر زنوا بامرأة: فعلى أحدهم القتل، وعلى الثاني الرجم، وعلى الثالث الحد، وعلى الرابع نصف الحد، وعلى الخامس لا يجب شيء. الجواب: الأول مشرك زنا بامرأة مسلمة يجب قتله، والثاني محصن فعليه الرجم، والثالث بكر فعليه الحد، والرابع مملوك عليه نصف الحد، والخامس مجنون لا شيء عليه. وسألا عن امرأة قهرت مملوكاً على وطئها وهو كاره لوطئها، فما يجب عليهما؟ الجواب: إن كان المملوك يخشى أن تقتله أو تضربه أو تحبسه فلا شيء عليه، وإلا فعليه نصف الحد. وأما مولاته إن كانت محصنة فعليها الرجم وإلا فالحد، ويباع المملوك عليها. وسألا عن رجل يصلي بقوم فسلم عن يمينه طلقت امرأته، وعن يساره بطلت صلاته، ونظر إلى السماء فوجب عليه ألف درهم. الجواب: لما سلم عن يمينه رأى رجلاً كان زوج امرأته وكان غائباً، فثبت عند القاضي موته فتزوج بامرأته هذا المصلي، فرآه وقد قدم من سفره فحرمت عليه زوجته. ثم سلم عن شماله فرأى على ثوبه دماً فلزم عليه إعادة الصلاة، ونظر إلى السماء فرأى الهلال فحل عليه الدين المؤجل إلى رأس الشهر. وسألا عن رجل ضرب رأس رجل بعصاً وادعى المضروب ذهاب إحدى عينيه وتجفيف الخياشيم والخرس من تلك الضربة، فيوميء بذلك كله إيماء أو يكتب كتابة. الجواب: يقام في مقابل الشمس، فإن لم يطرق رأسه فهو صادق، ويشم الحراق، فإن لم ينفعل فهو صادق، ويغرز لسانه، فإن خرج منه دم فهو صادق. وسألا عن إمام يصلي بقوم وكان وراءه أربعة نفر، فدخل المسجد رجل فصلى عن يمين الإمام، فلما سلم الإمام عن يمينه رآه الرجل الداخل، فله قتل الإمام وأخذ امرأته وجلد الجماعة وهدم المسجد. الجواب: ان الداخل أمير تلك البقعة، وسافر وخلف أخاً مقامه في البلد فقتله المصلي، وشهد الجماعة

أن زوجة الأمير في نكاح القاتل، وأخذ دار الأمير غصباً جعلها مسجداً، فلما سلم رآه الأمير فعرفه فله قتله وأخذ منكوحته منه، وجلد الذين شهدوا زوراً، ورد المسجد داراً كما كانت. فقال الرشيد: لله درك يا ابن ادريس ما أفطنك! وأمر له بألف دينار وخلعة، فخرج الشافعي من مجلس الخليفة يفرق الدنانير في الطريق قبضة قبضة، فلما انتهى إلى منزله لم يبق معه إلا قبضة واحدة أعطاها لغلامه. وحكى أبو عبد الله نصر المروزي قال: كنت قاعداً في مسجد رسول الله، عليه السلام، إذ أغفيت إغفاءة فرأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المنام فقلت له: اكتب يا رسول الله رأي أبي حنيفة؟ قال: لا! قلت: اكتب رأي مالك؟ قال: اكتب ما وافق حديثي! قلت: اكتب رأي الشافعي؟ طأطأ رأسه شبه الغضبان وقال: هو رد على من خالف سنتي! فخرجت في إثر هذه الرؤيا إلى مصر وكتبت كتب الشافعي. وقال الربيع بن سليمان: قال لي الشافعي: رضى الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلحك فإنه لا سبيل إلى رضاهم. واعلم أن من تعلم القرآن جل عند الناس، ومن تعلم الحديث قويت حجته، ومن تعلم النحو هيب، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم الفقه نبل قدره، ومن لم يصن لم ينفعه علمه، وملاك ذلك كله التقوى. قال محمد بن المنصور: قرأت في كتاب طاهر بن محمد النيسابوري بخط الشافعي: إنّ امرأً وجد اليسار فلم يصب ... حمداً ولا شكراً لغير موفّق الجدّ يدني كلّ شيءٍ شاسعٍ ... والجدّ يفتح كلّ بابٍ مغلق وإذا سمعت بأنّ مجدوداً حوى ... عوداً فأثمر في يديه فصدّق وإذا سمعت بأنّ محروماً أتى ... ماءً ليشربه فغاض فحقّق

الغوطة

ومن الدّليل على القضاء وكونه ... بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق قال المزني: دخلت على الشافعي في مرض موته فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً ولكأس المنية شارباً، ولسوء أعمالي ملاقياً وعلى الله وارداً، فلا أدري أصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول: ولمّا قسا قلبي وضاقت مسامعي، ... جعلت الرّجا مني لعفوك سلّما تعاظمني ذنبي، فلمّا قرنته ... بعفوك ربّي، كان عفوك أعظما وما زلت ذا عفوٍ عن الذّنب لم تزل ... بجودك تعفو منّةً وتكرّما ذهب إلى جوار الحق سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة. الغوطة الكورة التي قصبتها دمشق. وهي كثيرة المياه نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار مونقة الأزهار، ملتفة الأغصان خضرة الجنان، استدارتها ثمانية عشر ميلاً، كلها بساتين وقصور. تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها. ومياهها خارجة من تلك الجبال، وتمتد في الغوطة عدة أنهر، وينصب فاضلها في أجمة هناك. والغوطة كلها أنهار وأشجار متصلة قلما يوجد بها مزارع. وهي أنزه بلاد الله وأحسنها؛ قال أبو بكر الخوارزمي: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها فأحسنها غوطة دمشق! فارس الناحية المشهورة التي يحيط من شرقها كرمان، ومن غربها خوزستان، ومن شمالها مفازة خراسان، ومن جنوبها البحر، سميت بفارس بن الأشور

ابن سام بن نوح، عليه السلام، بها مواضع لا تنبت الفواكه لشدة بردها كرستاق اصطخر، وبها مواضع لا يسكنها الطير لشدة حرها كرستاق الاغرسان. وأما أهلها فذكروا أنهم من نسل فارس بن طهمورث، سكان الموضع الذي يسمى ايرانشهر، وهو وسط الاقليم الثالث والرابع والخامس، ما بين نهر بلخ إلى منتى اذربيجان وارمينية إلى القادسية وإلى بحر فارس. وهذه الحدود هي صفوة الأراضي وأشرفها لتوسطها في قلب الأقاليم، وبعدها عما يتأذى به أهل المشرق والمغرب والجنوب والشمال، وأهلها أصحاب العقول الصحيحة والآراء الراجحة والأبدان السليمة والشمائل الظريفة والبراعة في كل صناعة، فلذلك تراهم أحسن الناس وجوهاً وأصحهم أبداناً وأحسنهم ملبوساً وأعذبهم أخلاقاً وأعرفهم بتدبير الأمور! جاء في التواريخ: ان الفرس ملكوا أمر العالم أربعة آلاف سنة: كان أولهم كيومرث وآخرهم يزدجرد بن شهريار الذي قتل في وقعة عمر بن الخطاب بمرو، فعمروا البلاد وأنعشوا العباد. وجاء في الخبر: ان الله تعالى أوحى إلى داود أن يأمر قومه أن لا يسبوا العجم، فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي. وحسن سيرة ملوك الفرس مدون في كتب العرب والعجم، ولا يخفى أن المدن العظام القديمة من بنائهم وأكثرها مسماة بأسمائهم. وأخبار عدلهم وإحسانهم في الدنيا سائرة، وآثار عماراتهم إلى الآن ظاهرة. زعم الفرس أن فيهم عشرة أنفس لم يوجد في شيء من الأصناف مثلهم ولا في الفرس أيضاً: أولهم افريدون بن كيقباذ بن جمشيد، ملك الأرض كلها وملأها من العدل والإحسان بعدما كانت مملوءة من العسف والجور من ظلم الضحاك بيوراسب، وما أخذه الضحاك من أموال الناس ردها إلى أصحابها، وما لم يجد له صاحباً وقفه على المساكين، وذكر بعض النساب أن افريدون هو ذو القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، لأنه ملك المشرق والمغرب

وأمر بعبادة الله تعالى وكان ذا عدل وإحسان. وثانيهم اسكندر بن دارا بن بهمن، كان ملكاً عظيماً حكيماً حصل العلوم وعرف علم الخواص، وتلمذ لارسطاطاليس واستوزره وكان يعمل برأيه، وانقاد له ملوك الروم والصين والترك والهند، ومات وعمره اثنتان وثلاثون سنة وسبعة أشهر. وثالثهم أنوشروان بن قباذ كسرى الخير، كثرت جنوده وعظمت مملكته وهادنته ملوك الروم والصين والهند والخزر، وروي عن النبي، عليه السلام، أنه قال: ولدت في زمن الملك العادل! ومن عدله ما ذكر أنه علق سلسلة فيها جرس على بابه ليحركها المظلوم، ليعلم الملك حضوره من غير واسطة فأتى عليها سبع سنين ما حركت. ورابعهم بهرام بن يزدجرد ويقال له بهرام جور. كان من أحذق الناس بالرمي، لم يعرف رام مثله. ذكر أنه خرج متصيداً وكان معه جارية من أحظى جواريه، فظهر لهم سرب من الظباء فقال لها: كيف تريدين أن أرمي ظبية منها؟ قالت: أريد أن تلصق ظلفها بأذنها! فأخذ الجلاهق ورمى بندقة أصابت أذنها، فرفعت ظلفها تحك بها أذنها، فرمى نشابة وخاط ظلفها بأذنها. وخامسهم رستم بن زال الشديد، ذكروا أنه لم يعرف فارس مثله. كان من أمره أنه إذا لاقى في ألف فارس ألفين غلبهم، وإذا لاقى في خمسة آلاف فارس عشرة آلاف غلبهم، وإذا دعا إلى البراز وخرج إليه القرن يرفعه برمحه من ظهر الفرس ويرميه إلى الأرض. وسادسهم جاماسب المنجم. كان وزيراً لكشتاسف بن لهراسب، لم يعرف منجم مثله حكم على القرانات وأخبر بالحوادث التي تحدث، وأخبر بخروج موسى وعيسى ونبينا، عليه السلام، وزوال الملة المجوسية، وخروج الترك ونهبهم وقتلهم، وخروج شخص يقهرهم وكثير من الحوادث بعدهم، كل ذلك في كتاب يسمى أحكام جاماسب بلعجمية. وله بعد موته خاصية عجيبة،

فرغانة

وهي ان قبره على تل بأرض فارس، وقدام التل نهر فمن زار قبره من الولاة راكباً يعزل، وأكثر الناس عرفوا تلك الخاصية فإذا وصلوا إلى ذلك النهر نزلوا. وسابعهم بزرجمهر بن بحتكان، كان وزير الأكاسرة، وكان ذا علم وعقل ورأي وفطنة، كان بالغاً في الحكم الخطابية، ولما وضع الهند الشطرنج بعثوا به هدية إلى كسرى ولم يذكروا كيفية اللعب به، فاستخرجه بزرجمهر ووضع في مقابلته النرد وبعث به إلى الهند. وثامنهم بلهبد المغني، فاق جميع الناس في الغناء، وكان مغنياً لكسرى ابرويز، فإذا أراد أحد أن يعرض أمراً على كسرى وخاف غضبه ألقى ذلك الأمر إلى بلهبد، وبذل له حتى جعل لذلك المغني شعراً وصوتاً، ويغني به بين يديه فعرف كسرى ذلك الأمر. وتاسعهم صانع شبديز وسيأتي ذكره ودقة صنعته في قرميسين في الإقليم الرابع. وعاشرهم فرهاذ الذي تحت ساقية قصر شيرين، وهي باقية إلى الآن. وأراد أن ينقب جبل بيستون، وسيأتي ذكره مبسوطاً هناك إن شاء الله تعالى. وبأرض فارس جمع يقال لهم آل عمارة لهم مملكة عريضة على سيف البحر. وهم من نسل جلندى بن كركر، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه المجيد: وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً. زعموا أن ملكهم كان قبل موسى، عليه السلام، وإلى زماننا هذا لهم بأس ومنعة وارصاد البحر وعشور السفن. فرغانة ناحية مشتملة على بلاد كثيرة بعد ما وراء النهر، متاخمة لبلاد الترك. أهلها من أتم الناس أمانة وديانة على مذهب أبي حنيفة، وأحسن الناس صورة!

الفسطاط

كانت ذات خيرات وغلات وثمرات، وخربت في محاربة خوارزمشاه محمد، والخطأ لأنها كانت على ممر العساكر فخربت تلك البلاد الحسنة وفارقها أهلها قبل خروج التتر إلى ما وراء النهر وخراسان. وسمعت أن من عاداتهم قطع الآذان حزناً على موت الأكابر. ينسب إليها الشيخ عمر الملقب برشيد الدين الفرغاني، رأيته كان شيخاً فاضلاً كاملاً مجمع الفضائل الأدب والفقه والأصول والحكمة، والكلام البليغ واللفظ الفصيح والخط الحسن والخلق الطيب والتواضع. كان مدرساً بسنجار، تأذى من الملك الأشرف فارق سنجار فلم يلتفت إلى مفارقته، فطلبه المستنصر لتدريس المستنصرية. فلما ولاه التدريس بعث صاحب الروم بطلبه، وجاء رسول من عنده إلى بغداد طالباً له فقال المستنصر: اخبروا الملك انه مدرسنا، فإن طلبه بعد ذلك بعثناه إليه! قبض في سنة إحدى وثلاثين وستمائة. الفسطاط هي المدينة المشهورة بمصر، بناها عمرو بن العاص؛ قيل: انه لما فتح مصر عزم الإسكندرية في سنة عشرين، وأمر بفسطاطه أن يقوض فإذا يمامة قد باضت في أعلاه فقال: تحرمت بجوارنا، اقروا الفسطاط حتى ينقف وتطير فراخها، ووكل به من يحفظه ومضى نحو الإسكندرية وفتحها، فلما فرغ من القتال قال لأصحابه: أين تريدون تنزلون؟ قالوا: يا أيها الأمير نرجع إلى فسطاطك لنكون على ماء وصحراء! فرجعوا إليها وخط كل قوم بها خطأ بنوا فيها وسمي بالفسطاط. وبنى عمرو بن العاص الجامع في سنة إحدى وعشرين، يقال: قام على اقامة قبلته ثمانون صحابياً، منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة ابن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري. وهذا الجامع باق في زماننا. كتب القرآن جميعه على ألواح من الرخام الأبيض بخط كوفي بين في حيطانه

فيروزاباد

من أعلاها إلى أسفلها، وجعل أعشار القرآن وآياته وأعداد السور بالذهب واللازورد، فيقرأ الإنسان جميع القرآن منها وهو قاعد، ثم استولى الفرنج عليها وخربوها. فلما كانت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة قدم صلاح الدين وأمر ببناء سور على الفسطاط والقاهرة، فذرع دورتها فكانت فرسخين ونصفاً، وكان بها طلسم للتماسيح؛ قال أبو الريحان الخوارزمي: كان بجبال الفسطاط طلسم للتماسيح، وكانت لا تستطيع الإضرار حولها، وكان إذا بلغ حولها استلقى وانقلب على ظهره، وكان يلعب به الصبيان فكسر ذلك الطلسم وبطل حكمه. وبالفسطاط محلة تسمى الجزيرة، لأن النيل إذا زاد أحاط الماء بها وحال بينها وبين معظم الفسطاط فاستقلت هي بنفسها. وبها أسواق وجامع وبساتين وهي من متنزهات مصر؛ قال الساعاتي الدمشقي: ما أنس لا أنس الجزيرة ملعباً ... للأنس تألفها الحسان الخرّد يجري النّسيم بغصنها وغديرها ... فيهزّ رمحٌ أو يسلّ مهنّد ويريك دمع الطّلّ كلّ سفيقةٍ ... كالخدّ دبّ به عذارٌ أسود فيروزاباد قرية من قرى شيراز، بناها فيروز ملك الفرس فيما أظنه. ينسب إليها الشيخ الإمام أبو إسحق إبراهيم الفيروزابادي. كان عالماً ورعاً زاهداً، له تصانيف في الفقه. ولما صنف كتاب التنبيه صلى بكل مسألة فيها ركعتين ودعا لمن يشتغل به. وهو كتاب مبارك سهل الضبط والحفظ. ومن ورعه انه سلم إلى شخص رغيفين وأمره أن يشتري بكل واحدة حاجة، فاشتبه على الوكيل فاشترى كيف اتفق، فعلم الشيخ بذلك ودفعهما وقال: خالفت الوكالة لا يحل المشتري. وذكر أنه كان يمشي مع أصحابه فكان على طريقهم كلب فصاح على الكلب

الفيوم

بعض أصحابه فقال الشيخ: أليست الطريق مشتركة بيننا؟ وحكي انه لما بنى نظام الملك المدرسة النظامية ببغداد طلب الشيخ للتدريس، فسمع الشيخ من صبي قال: ان أرضها مغصوب! فامتنع عن التدريس حتى بينوا له أن الأمر ليس كذلك فقبلها. وحكي انه كتب جواب مسألة فعرض على ابن الصباغ صاحب الشامل فقال للمستفتي: ارجع إلى الشيخ وقل له انظر فيها مرة أخرى، فلما رآه الشيخ كتب: الحق ما قاله الشيخ وأبو إسحق مخطيء. فارق الدنيا ولم يترك ديناراً ولا درهماً سنة ست وسبعين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة. الفيوم ناحية في غربي مصر في منخفض من الأرض والنيل مشرف عليها. ذكر ان يوسف الصديق، عليه السلام، لما ولي مصر ورأى ما لقي أهلها من القحط، وكان الفيوم يومئذ بطيحة تجتمع فيها فضول ماء الصعيد، أوحى الله تعالى إليه أن احفر ثلاثة خلج: خليجاً من أعلى الصعيد، وخليجاً شرقياً، وخليجاً غربياً، كل واحد من موضع كذا إلى موضع كذا. فأمر يوسف العمال بها فخرج ماؤها من الخليج الشرقي وانصب في النيل، وخرج من الخليج الغربي وانصب في الصحراء ولم يبق في الجوبة ماء، ثم أمر الفعلة بقطع ما كان بها من القصب والطرفاء فصارت الجوبة أرضاً نفية، ثم ارتفع ماء النيل فدخل خليجها فسقاها من خليج أعلى الصعيد، فصارت لجة من النيل، كل ذلك في سبعين يوماً. فخرج وأصحابه فرأوا ذلك وقالوا: هذا عمل ألف يوم، فسمي الموضع الفيوم. ثم صارت تزرع كما تزرع أرض مصر. بنى بالفيوم ثلاثمائة وستين قرية، وقدر أن كل قرية تكفي أهل مصر يوماً واحداً، على أن النيل إن لم يزد اكتفى أهلها بما يحصل من زراعتها وجرى الأمر على هذا. وزرعوا بها النخيل والأشجار فصار أكثرها حدائق، فتعجب الناس مما فعل يوسف الصديق، عليه السلام، فقال للملك: عندي من الحكمة

القادسية

غير ما رأيت، انزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت، وأمر كل أهل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية، وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر، فإذا فرغوا من البناء صير لكل قرية من الماء قدر ما يصير لها من الأرض، لا زائداً ولا ناقصاً. صير لكل قرية شرباً في زمان لا ينالهم الماء إلا فيه، وصير مطأطئاً للمرتفع ومرتفعاً للمطأطيء بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وصير لها قدراً معلوماً فلا يأخذ أحد دون حقه ولا زائداً عليه، فقال له فرعون: هذا من ملكوت السماء؟ فقال: نعم. فلما فرغ منها تعلم الناس وزن الأرض والماء واتخاذ موازينها. وحدث يومئذ هندسة استخراج المياه، والله الموفق. القادسية بليدة بقرب الكوفة على سابلة الحجاج. سميت بقادس هراة وهو دهقانها، بعثه كسرى أبرويز إلى ذلك الموضع لدفع العرب؛ قال هشام عن ابيه: ان ثمانية آلاف من ترك الخزر ضيقوا على كسرى بلاده من كثرة النهب والفساد. فبعث دهقان هراة إلى كسرى: إن كفيتك أمر هؤلاء تعطيني ما احتكم؟ قال: نعم. فبعث الدهقان إلى أهل القرى يقول: إني سأنزل عليك الترك فافعلوا بهم ما آمركم؟ وبعث إلى الترك وقال: تشتون في أرضي العام. فنزلوا عنده. بعث إلى كل قرية طائفة وقال: ليذبح كل رجل منكم نزيله في الليلة الفلانية ويأتني بسبلته! فذبحوهم عن آخرهم وذهبوا إليه بسبلاتهم، فنظمها في خيوط وبعث بها إلى كسرى، فبعث إليه كسرى شكر سعيه وقال: اقدم إلي واحتكم! فقدم إليه وقال: أريد أن تجعل لي سريراً مثل سريرك وتاجاً مثل تاجك، وتنادمني من غدوة إلى الليل. فاستدل كسرى باحتكامه على ركاكة عقله، ففعل ذلك ثم قال: لا ترى هراة أبداً، فيجلس ويتحدث بما جرى وأنزله هذا الموضع، فبنى هذه البلدة وسكنها.

القاهرة

القاهرة هي المدينة المشهورة بجنب الفسطاط بمصر يجمعها سور واحد. وهي اليوم المدينة العظمى، وبها دار الملك، أحدثها جوهر غلام المعز سعد بن إسماعيل الملقب بالمنصور. وهي أجل مدينة بمصر لاجتماع أسباب الخيرات، منها تجلب الطرائف المنسوبة إلى مصر. بها قصران عظيمان يقصر الوصف دونهما عن يمين السوق وشماله، وليس في شيء من البلاد مثلهما. كان يسكنها ملوكها العلوية الذين انقرضوا، وبها موضع يسمى الفراقة. وبها أبنية جليلة ومواضع واسعة وسوق قائم ومشاهد للصالحين. وهي من متنزهات أهل القاهرة والفسطاط سيما في المواسم. وبها مدرسة الشافعي وفيها قبره. وبالقرافة باب للمحلة التي بها مدرسة الشافعي، في عتبته حجر كبير إذا احتبس بول الدابة تمشي على ذلك الحجر مراراً فينفتح بولها. وبظاهر القرافة مشهد صخرة موسى، عليه السلام، وفيه اختفى من فرعون لما خافه، وعلى باب درب الشعارين مسجد ذكر ان يوسف الصديق، عليه السلام، بيع هناك. قبرس جزيرة بقرب طرسوس، دورها مسيرة ستة عشر يوماً؛ قال أحمد بن محمد بن عمر العذري: يجلب منها اللادن الجيد ولا يجمع في غيرها، والذي يجمع من الشجر يحمل إلى ملك القسطنطينية لأنه يعادل العود الطيب وسائر ما يجمع على وجه الأرض هو الذي يستعمله الناس. والزاج القبرسي مشهور كثير المنافع جداً، عزيز الوجود أفضل الزاجات كلها.

قرية صاهك

قرية صاهك من كورة ارجان. بها بئر ذكر ان أهلها امتحنوا قعرها بالمثقلات والأرسان، فلم يقفوا منها على عمق، يغور الدهر كله، منها ماء بقدر ما يدير الرحى يسقي تلك القرية. قرية عبد الرحمن بأرض فارس. عمقها قامات كثيرة جافة القعر عامة السنة، حتى إذا كان الوقت المعلوم عندهم في السنة نبع ماء يرتفع على وجه الأرض، قدر يدير الرحى ويجري وينتفع به في سقي الزروع ثم يغور. قفط مدينة بأرض مصر بالصعيد الأعلى، كثيرة البساتين والمزارع، وبها النخل والاترج والليمون، قال صاحب عجائب الأخبار: بها بيت عجيب تحت سقفه ثلاثمائة وستون عموداً، كل عمود قطعة واحدة من حجارة، على رأس العمود صورة رجل عليه قلنسوة، والسقف حجارة كله، قد وضعت أطراف الحجر على زواياه وعلى أرباع رؤوس الأساطين، ثم ألحمت الحاماً لا يرى فيها فصل، يحسبها الناظر قطعة واحدة. يقولون: إن تلك الصور صور أهل تلك الدولة، وعلى كل عمود كتابة لا يدرى ما هي ولا يحسن أحد في زماننا قراءتها. قلعة النجم قلعة حصينة مطلة على الفرات، وعندها جسر الفرات يعبر عليه قوافل الشام والعراق والروم، وتحتها ربض به طائفة يتعاطون أنواع القمار، فإذا رأوا غريباً أظهروا أنهم مرمدون ويلعبون لعباً دوناً ليظن الغريب أنهم في طبقة

القيروان

نازلة يطمع فيهم، ويخرجون المال إذا قمروا من غير اكتراث فتتوق نفس الغريب أن يلعب معهم، فكلما جلس لا يتركونه يقوم ومعه شيء حتى سراويله، وربما استرهنوا نفسه ومنعوه من الذهاب، حتى يأتي أصحابه ويؤدوا عنه ويخلصوه. القيروان مدينة عظيمة بافريقية، مصرت في أيام معاوية، وذلك انه لما ولي عقبة بن نافع القرشي افريقية ذهب إليها وفتحها وأسلم على يده كثير من البربر، فجمع عقبة أصحابه وقال: ان أهل افريقية قوم إذا غصبهم السيف أسلموا، وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى دينهم، ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأياً، لكن رأيت أن أبني ههنا مدينة يسكنها المسلمون. فجاؤوا إلى موضع القيروان، وهي أجمة عظيمة وغيضة لا تشقها الحيات من تشابك شجرها، فقالوا: هذه غيضة كثيرة السباع والهوام، وكان عقبة مستجاب الدعوة فجمع من كان في عسكره من الصحابة، وكانوا ثمانية عشر نفساً، ونادى: أيتها السباع والحشرات، نحن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنا فإنا نازلون فمن وجدناه بعد قتلناه! فرأى الناس ذلك اليوم عجباً لم يروه قبل ذلك، وكان السبع يحمل أشباله، والذئب اجراءه، والحية أولادها وهي خارجة سرباً سرباً، فحمل ذلك كثيراً من البربر على الإسلام. ثم بنى المدينة فاستقامت في سنة خمس وخمسين. ذكر الجيهاني ان بالقيروان أسطوانتين لا يردى جوهرهما ما هو، وهما تترشحان ماء كل يوم جمعة قبل طلوع الشمس، وموضع العجب كونه يوم الجمعة. وقد قيل: ان ملوك الروم طلبوهما بثمن بالغ، فقال أهل القيروان: لا نخرج أعجوبة من العجائب من بيت الله إلى بيت الشيطان!

قيس

قيس جزيرة في بحر فارس دورها أربعة فراسخ، ومدينتها حسنة مليحة المنظر، ذات سور وأبواب وبساتين وعمارات، وهي مرفأ مراكب الهند والفرس ومنقلب التجارة ومتجر العرب والعجم. شربها من الآبار ولخواص الناس صهاريج. وحولها جزائر كلها لصاحب قيس، لكنها في الصيف أشبه شيء ببيت حمام حار شديدة السخونة، وفي هذا الوقت يطول جلد خصي الناس حتى يصير ذراعاً، فيرى كل أحد يتخذ كيساً فيه عفص مسحوق وقشر رمان ويترك خصيتيه فيه حتى لا تطول صفته. يجلب منها كل أعجوبة وقعت في بلاد الهند. وكان ملكها في قوم ورثوها إلى أن ملك منهم ظالم يظلمهم، فخامروه وبعثوا إلى صاحب هرمز فطلبوه، فجاء الهرمزي ملكها وكان يظلم أفحش من ظلم القيسي، فخامروه وبعثوا إلى صاحب شيراز فطلبوه، فجهز عسكراً بعثهم في مراكب وخرج عسكر الهرمزي لقتالهم في مراكب، فنزلوا في سيرهم على نشز للاستراحة، فوصلت مراكب الفرس وهم على النشز فاضرموا النار في مراكب الهرامزة وساروا نحو قيس وملكوها بأسهل طريق، وكانت الهرامزة أقوى من الفرس وأعرف بقتال البحر إلا أن جدهم قعد بهم. كابل مدينة مشهورة بأرض الهند. بها ما يوجد من الجروم إلا النخل ويقع بنواحيها الثلج ولا يقع بها. وأهلها مسلمون وكفار. وزعمت الهند ان الشاهية لا تنعقد إلا بكابل، وإن كان بغيرها فلا يصير واجب الطاعة حتى يصير إليها ويعقد له الملك هنا. يجلب منها النوق البخاتي وهي أحسن أنواع الإبل.

كاريان

كاريان بليدة بأرض فارس بها بيت نار معظم عند المجوس تحمل ناره إلى بيوت النار في الآفاق. قال الاصطخري: من القلاع التي لم تفتح قط عنوةً قلعة كاريان، وهي على جبل من طين، حوصرت مراراً ولم يظفر بها قط. كازرون مدينة بفارس عامرة حصينة كثيرة الغلات وافرة الثمرات، كلها قصور وبساتين ونخيل ممتدة عن يمين وشمال؛ قال الاصطخري: ليس بأرض فارس أصح هواءً وتربةً من كازرون. يقال لها دمياط العجم لأنه تنسج بها ثياب الكتان على عمل القصب والشطوى وإن لم يكن رقاعاً. ومعظم دورها والجامع على تل، والأسواق وقصور التجار تحت التل. بنى عضد الدولة بها داراً جمع فيها السماسرة كان دخلها كل يوم عشرة آلاف درهم. بها تمر يقال له الجيلان، لا يوجد في غير كازرون، يحمل إلى العراق للهدايا مع كثرة تمر العراق. كدال ولاية في جبال افريقية. ذكر بعض أهلها أن الحنطة بها تريع ريعاً مفرطاً، حتى ان أحدهم ربما يزرع مكوكاً يحصل منه خمسمائة مكوك وأكثر. كرد فناخسرو مدينة بناها عضد الدولة بقرب شيراز، وساق إليها نهراً كبيراً من مسيرة يوم أنفق عليه مالاً عظيماً، وجعل إلى جنبها بستاناً سعته نحو فرسخ. ولما

فرغ من شق النهر ووصول الماء إليها، كان لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، جعل هذا اليوم عيداً في كل سنة، يجتمع فيه الناس من النواحي للهو ويقيمون سبعة أيام. ونقل إليها الصناع الخز والديباج والصوف وأمرهم بكتابة اسمه على طرزها، واتخذ قواده بها دوراً وقصوراً فكثرت عماراتها. وبقاضيها يضرب المثل في الخيانة، وذلك ما حكي أن بعض الناس أودعه مالاً كثيراً، فلما استرده جحد، فاجتمع المودع بعضد الدولة وقال: أيها الملك اني ابن فلان التاجر، ورثت من أبي خمسين ألف دينار أودعت عشرين ألف دينار في قمقمتين عند هذا القاضي للاستظهار، وكنت أتصرف بالباقي، فوقعت في بعض أسفاري في أسر كفار الروم، وبقيت في الأسر أربع سنين حتى مرض ملك الروم وخلى الأسارى، فتخلصت وأنا رخي البال استظهاراً بالوديعة، فلما طلبتها جحد وأظهر أنه لم يعرفني، وكررت الطلب فقال لي: انك رجل استولت السوداء على دماغك وأطعموك شيئاً، وإني ما رأيتك إلا الآن! دع عنك هذا الجنون وإلا حملتك إلى المارستان وأدخلتك في السلسلة! فبكى عضد الدولة وقال: أنا ظلمتك لما وليت مثل هذا! أعطاه مائتي دينار وبعثه إلى أصبهان، وكتب إلى عامل أصبهان إن يحسن إليه وقال له: لا ترجع تذكر هذا الأمر لأحد وأقم في اصبهان حتى يأتيك أمري. وصبر عضد الدولة على ذلك شهراً ثم طلب القاضي يوماً عند الظهيرة بالخلوة وأكرمه وقال له: أيها القاضي ان لي سراً ما وجدت في جميع مملكتي له محلاً غيرك، لما فيك من كمال العلم ووفور العقل والدين، وهو ان لي أولاداً ذكوراً واناثاً. أما الذكور فلست أهتم بأمرهم، وأما الاناث فعندهن التقاعد عن الأمور وأنا أخشى عليهن، فأردت أن تتخذ في دارك موضعاً صالحاً لوديعة لا يعلم بها أحد غير الله، تدفعها إلى بناتي بعد موتي. ودفع إلى القاضي مائتي دينار وقال: اصرفها إلى عمارة ازج قعير يتسع لمائتين وأربعين قمقمة، وإذا تم أخبرني حتى أبعث القماقم على يد

كركويه

بعض من يستحق القتل ثم اقتله. فقال القاضي: سمعاً وطاعة! وقام من عنده فرحاً يقول في نفسه: ذهبت بألفي ألف دينار أتمتع بها أنا وأولادي وأحفادي، وإذا مات عضد الدولة من يطالب بالمال ولا حجة ولا شاهد؟ واشتغل بعمل الازج وبعث عضد الدولة إلى أصبهان لإحضار الفتى المظلوم. فلما أخبر القاضي عضد الدولة بإتمام الازج قال عضد الدولة للفتى المظلوم: اذهب إلى القاضي وطالبه بالوديعة وهدده برفع الأمر إلى عضد الدولة! فذهب إليه وقال: أيها القاضي ساء حالي وطال ظلمك علي. لآخذن غداً بلجام عضد الدولة! فقام القاضي ودخل الحجرة وطلب الفتى وعانقه وقال: يا ابن الأخ ان أباك كان صديقي واني ما حبست حقك إلا لمصلحتك، لأني سمعت أنك أتلفت مالاً كثيراً فأخرت وديعتك إلى أن أعرف رشدك، والآن عرفت رشدك، خذ حقك بارك الله لك فيها! وأخرج القمقمتين وسلمهما إليه، فأخذهما الفتى ومضى إلى عضد الدولة بهما. فأحضر القاضي وقال: أيها الشيخ القاضي اني أجريت عليك رزقك لتقطع طمعك عن أموال الناس، ولولا أنك شيخ لجعلتك عبرةً للناس، وصح عندي أن جميع ما تتقلب فيه حرام من أموال الناس! فختم على جميع ما كان له وعزله، ورد مال الفتى إليه وقال: الحمد لله الذي وفقني لإزالة ظلم هذا الظالم! كركويه مدينة بسجستان قديمة. بها قبتان عظيمتان زعموا أنهما من عهد رستم الشديد، وعلى رأس القبتين قرنان قد جعل ميل كل واحد منهما إلى الآخر، تشبيهاً بقرني الثور، بقاؤهما من عهد رستم إلى زماننا هذا من أعجب الأشياء؛ وتحت القبتين بين نار للمجوس تشبيهاً بأن الملك يبني قرب داره معبداً يتعبد

كرمان

فيه، ونار هذا البيت لا تطفأ أبداً. ولها خدم يتناوبون في إشعال النار، يقعد الموسوم مع الخدمة على بعد النار عشرين ذراعاً ويغطي فمه وأنفاسه، ويأخذ بكلبتين من فضة عوداً من الطرفاء نحو الشبر يقلبه في النار. وكلما همت النار بالخبو يلقي خشبة خشبة، وهذا البيت من أعظم بيوت النار عند المجوس. كرمان ناحية مشهورة، شرقها مكران وغربها فارس وشمالها خراسان وجنوبها بحر فارس. تنسب إلى كرمان بن فارس بن طهمورث. وهي بلاد واسعة الخيرات وافرة الغلات من النخل والزرع والمواشي. وبها ثمرات الصرود والجروم والجوز والنخل. وبها معدن التوتيا، يحمل منها إلى جميع الدنيا، بها خشب لا تحرقه النار ولو ترك فيها أياماً، ينبت في بعض جبالها، يأخذه الطرقيون ويقولون: انه من الخشب الذي صلب عليه المسيح. وشجر القطن بكرمان يبقى سنين حتى يصير مثل الأشجار الباسقة، وكذلك شجر الباذنجان والشاهسفرم. وبها شجر يسمى كادي، من شمه رعف، ورقه كورق الصبر إن ألقي في النار لا يحترق. ومن عجائب الدنيا أرض بين كرمان وجاريح إذا احتك بعض أحجارها بالبعض يأتي مطر عظيم، وهذا شيء مشهور عندهم، حتى ان من اجتاز بها يتنكب عنها كيلا تحتك تلك الحجارة بعضها ببعض فيأتي مطر يهلك الناس والدواب! وبها معدن الزاج الذهبي يحمل من كرمان إلى سائر الآفاق. وحكى ابن الفقيه أن بعض الملوك غضب على جمع من الفلاسفة، فنفاهم إلى أرض كرمان لأنها كانت أرضاً يابسة بيضاء، لا يخرج ماؤها إلا من خمسين ذراعاً. فهندسوا حتى أخرجوا الماء على وجه الأرض وزرعوا عليه وغرسوا فصارت كرمان أحسن بلاد الله، ذات شجر وزرع. فلما عرف

كفرطاب

الملك ذلك قال: اسكنوهم جبالها، فعملوا الفوارات وأظهروا الماء على رؤوس جبالها، فقال الملك: اسجنوهم، فعملوا في السجن الكيميا وقالوا: هذا علم لا نخرجه إلى أحد! وعملوا مقدار ما يكفيهم مدة عمرهم، وأحرقوا كتبهم وانقطع علم الكيميا. وبأرض كرمان في رساتيقها جبال بها أحجار تشتعل بالنار مثل الحطب. وينسب إلى كرمان الشيخ أبو حامد أحمد الكرماني الملقب بأوحد الدين. كان شيخاً مباركاً صاحب كرامات، وله تلامذة، وكان صاحب خلوة يخبر عن المغيبات، وله أشعار بالعجمية في الطريقة، كان صاحب اربل معتقداً به، بقي عنده مدة ثم تأذى منه وفارقه وهو يقول: با دل كفتم خدمت شاهي كم كير ... جون سر نهاده كلاهي كم كير دل كفت مرا ازين سخن كمتر كو ... كردي ودهي وخانقاهي كم كير مات سنة خمس وثلاثين وستمائة ببغداد. كفرطاب بلدة بين حلب والمعرة في برية معطشة أعز الأشياء عند أهلها الماء، ذكر أنهم حفروا ثلاثمائة ذراع لم ينبط لهم ماء، وليس لها إلا ما يجمعونه من مياه الأمطار، وقال سنان الخفاجي: بالله يا حادي المطايا ... بين حناك وأرضايا عرّج على أرض كفرطاب ... وحيّها أحسن التّحايا واهد لها الماء فهي ممّن ... يفرح بالماء في الهدايا ومن العجب إقامة جمع من العقلاء بأرض هذا شأنها.

كفرمندة

كفرمندة قرية بالأردن بين مكة والطبرية. قيل: انها مدين المذكور في القرآن، وكان منزل شعيب، عليه السلام. وبها قبر بنت شعيب صافورا زوجة موسى، عليه السلام. وبها الجب الذي قلع موسى الصخرة عن رأسه وسقى مواشي شعيب، والصخرة باقية إلى الآن. كفرنجد قرية كبيرة من أعمال حلب في جبل السماق، بها عين ماء حار. لها خاصية عجيبة، وهي ان من تشبث بحلقه العلق من الحيوانات شرب من مائها ودار حولها فألقاها، بإذن الله، حدث بهذا بعض سكانها. كلز قرية من نواحي عزاز بين حلب وانطاكية، جرى في أواخر ربيع الأول سنة تسع عشرة وستمائة بها أمر عجيب، وشاع ذلك بحلب، وكتب عامل كلز إلى حلب كتاباً بصحة ذلك، وهو أنهم رأوا هناك تنيناً عظيماً غلظه شبه منارة، أسود اللون ينساب على الأرض، والنار تخرج من فيه ودبره، فما مر على شيء إلا أحرقه، حتى أحرقت مزارع وأشجار كثيرة. وصادف في طريقه بيوت التركمان وخرقاهاتهم فأحرقها بما فيها من الناس والمواشي، ومر نحو عشرة فراسخ كذلك والناس يشاهدونه من البعد، حتى أغاث الله أهل تلك النواحي بسحابة أقبلت من البحر وتدلت حتى اشتملت عليه ورفعته نحو السماء، والناس يشاهدونه حتى غاب عن أعين الناس، ولقد لف ذنبه على كلب والكلب ينبح في الهواء.

كوزا

كوزا قلعة بطبرستان من عجائب الدنيا؛ قال الأبي: هي تناطح النجوم ارتفاعاً وتحكيها امتناعاً حتى لا تعلوها الطير في تحليقها، ولا السحب في ارتفاعها، فتحتف بها الغمام وتقف دون قلتها، ولا تسمو عليها، فيمطر سفحها دون أعلاها، والفكر قاصر عن ترتيب مقدمات استخلاصها. الكوفة هي المدينة المشهورة التي مصرها الإسلاميون بعد البصرة بسنتين، قال ابن الكلبي: اجتمع أهل الكوفة والبصرة وكل قوم يرجع بلده فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين، إن لي بالبلدين خبراً؛ قال: هات غير متهم! قال: أما الكوفة فبكر عاطل لا حلي لها ولا زينة، وأما البصرة فعجوز شمطاء بخراء دفراء أوتيت من كل حلي وزينة! فاستحسن الحاضرون وصفه إياهما. قال ابن عباس الهمداني: الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء بعذوبة وبرودة، والبصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغيره وفساده. ولمسجدها فضائل كثيرة، منها ما روى حبة العرني قال: كنت جالساً عند علي فجاءه رجل وقال: هذا زادي وهذه راحلتي أريد زيارة بيت المقدس! فقال له: كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد، يريد مسجد الكوفة، ففي زاويته فار التنور، وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم، وفيه عصا موسى وشجرة اليقطين ومصلى نوح، عليه السلام. ووسطه على روضة من رياض الجنة، وفيه ثلاث أعين من الجنة، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبواً. بها مسجد السهلة؛ قال أبو حمزة الثمالي: قال لي جعفر بن محمد الصادق: يا أبا حمزة، أتعرف مسجد السهلة؟ قلت: عندنا مسجد يسمى مسجد السهلة. قال: لم أرد سواه! لو ان زيداً أتاه وصلى فيه واستجار فيه بربه من القتل

لأجاره! ان فيه موضع البيت الذي كان يخيط فيه ادريس، عليه السلام، ومنه رفع إلى السماء، ومنه خرج إبراهيم إلى العمالقة، وهو موضع مناخ الخضر، وما أتاه مغموم إلا فرج الله عنه. كان بها قصر اسمه طمار يسكنه الولاة. أمر عبيد الله بن زياد بإلقاء مسلم ابن عقيل بن أبي طالب من أعلاه قبل مقتل الحسين، وكان بالكوفة رجل اسمه هانيء يميل إلى الحسين، فجاء مسلم إليه فأرادوا إخراجه من داره فقاتل حتى قتل؛ قال عبد الله بن الزبير الأسدي: إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانيءٍ في السّوق وابن عقيل إلى بطلٍ قد عفّر السّيف وجهه ... وآخر يلقى من طمار قتيل وكان في هذا القصر قبة ينزلها الأمراء، فدخل عبد الملك بن عمير على عبد الملك بن مروان وهو في هذه القبة على سرير، وعن يمينه ترس عليه رأس مصعب بن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت في هذه القبة عجباً! فقال: ما ذاك؟ قال: رأيت عبيد الله بن زياد على هذا السرير، وعن يمينه ترس عليه رأس الحسين، ثم دخلت على المختار بن عبيد وهو على هذا السرير، وعن يمينه ترس عليه رأس عبيد الله بن زياد، ثم دخلت على مصعب بن الزبير وهو على هذا السرير، وعن يمينه ترس عليه رأس المختار، ثم دخلت عليك يا أمير المؤمنين وأنت على هذا السرير، وعن يمينك ترس عليه رأس مصعب! فوثب عبد الملك عن السرير وأمر بهدم القبة. زعموا أن من أصدق ما يقوله الناس في أهل كل بلدة قولهم: الكوفي لا يوفي! ومما نقم على أهل الكوفة أنهم طعنوا الحسن بن علي ونهبوا عسكره، وخذلوا الحسين بعد أن استدعوه، وشكوا من سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقالوا: انه ما يحسن الصلاة! فدعا عليهم سعد أن لا يرضيهم الله عن وال ولا يرضي والياً عنهم، ودعا علي عليهم وقال:

اللهم أمرهم بالغلام الثقفي! يعني الحجاج. وادعى النبوة منهم كثيرون. ولما قتل مصعب بن الزبير، أرادت زوجته سكينة بنت الحسين الرجوع إلى المدينة، فاجتمع عليها أهل الكوفة وقالوا: حسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله! فقالت: لا جزاكم الله عني خيراً ولا أحسن إليكم الخلافة! قتلتم أبي وجدي وعمي وأخي! أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرةً! تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال: ما علمت من عمالي أعدل وأقوم بأمر الرعية منه! فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين ليس أحد أولى بالعدل والانصاف منك! فإن كان هو بهذه الصفة فعلى الأمير أن يوليه بلداً بلداً ليلحق كل بلدة من عدله ما لحقناه، فإذا فعل الأمير ذلك لا يصيبنا أكثر من ثلاث سنين! فضحك المأمون وأمر بصرفه. ينسب إليها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، كان عابداً زاهداً خائفاً من الله تعالى. ودعي أبو حنيفة إلى القضاء فقال: إني لا أصلح لذلك! فقيل: لم؟ فقال: إن كنت صادقاً فلا أصلح لها، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء. وأراد عمر بن هبيرة أبا حنيفة للقضاء فأبى، فحلف ليضربنه بالسياط على رأسه وليحبسنه، ففعل ذلك حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب، فقال: الضرب بالسياط في الدنيا أهون من مقامع الحديد في الآخرة! قال عبد الله بن المبارك: لقد زان البلاد ومن عليها ... إمام المسلمين أبو حنيفه بآثار رفقه في حديثٍ ... كآيات الزّبور على الصّحيفه فما إن بالعراق له نظيرٌ ... ولا بالمشرقين ولا بكوفه وحكي أن الربيع صاحب المنصور كان لا يرى أبا حنيفة، فقال له يوماً:

يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يخالف جدك عبد الله بن عباس، فإن جدك يقول إذا حلف الرجل واستثنى بعد يوم أو يومين جاز، وأبو حنيفة يقول: لا يجوز! فقال أبو حنيفة: هذا الربيع يقول ليس لك في رقاب جندك بيعة! قال: كيف؟ قال: يحلفون عندك ويرجعون إلى منازلهم يستثنون فتبطل اليمين! فضحك المنصور وقال: يا ربيع لا تتعرض لأبي حنيفة، فلما خرج من عند المنصور قال له الربيع: أردت أن تشط بدمي! قال: لا، ولكنك أردت أن تشط بدمي فخلصتك وخلصت نفسي! وحكى قاضي نهروان أن رجلاً استودع رجلاً بالكوفة وديعةً ومضى إلى الحج. فلما عاد طلبها، فأنكر المودع وكان يجالس أبا حنيفة، فجاء المظلوم وشكا إلى أبي حنيفة فقال له: اذهب لا تعلم أحداً بجحوده! ثم طلب الظالم وقال: إن هؤلاء بعثوا إلي يطلبون رجلاً للقضاء فهل تنشط لها؟ فتمانع الرجل قليلاً ثم رغب فيها. فعند ذلك بعث أبو حنيفة إلى المظلوم وقال: مر إليه وقل له: أظنك نسيت، أليس كان في يوم كذا وفي موضع كذا؟ فذهب المظلوم إليه وقال ذلك، فردها إليه. فجاء الظالم إلى أبي حنيفة يريد القضاء فقال: نظرت في قدرك أريد أن أرفعه بأجل من هذا. وذكر أن أبا العباس الطوسي كان سيء الرأي في أبي حنيفة، وأبو حنيفة يعلم ذلك. فرآه يوماً عند المنصور فقال: اليوم اقتل أبا حنيفة! فقال له: يا أبا حنيفة، ما تقول في أن أمير المؤمنين يدعو أحداً إلى قتل أحد، ولا ندري ما هو، أيسع لنا أن نضرب عنقه؟ قال أبو حنيفة: يا أبا العباس، الأمير يأمر بالحق أو بالباطل؟ قال: بالحق! قال: انفذ الحق حيث كان ولا تسأل عنه! ثم قال لمن كان بجنبه: هذا أراد أن يوبقني فربطته! توفي سنة خمسين ومائة عن اثنتين وسبعين. ينسب إليها أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري منسوب إلى ثور أطحل، كان من أكثر الناس علماً وورعاً. وكان إماماً مجتهداً، وجنيد البغدادي يفتي على

مذهبه، كان يصاحب المهدي، فلما ولي الخلافة انقطع عنه، فقال له المهدي: إن لم تصاحبني فعظني! قال: إن في القرآن سورة، أولها: ويل للمطففين! والتطفيف لا يكون إلا شيئاً نزراً فكيف من يأخذ أموالاً كثيرة؟ وحكي أن المنصور رآه في الطواف فضرب يده على عاتقه فقال: ما منعك أن تأتينا؟ قال: قول الله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار! فالتفت المنصور إلى أصحابه وقال: القينا الحب إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا! ثم قال له: سلني حاجتك يا أبا عبد الله! فقال: وتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: حاجتي أن لا ترسل إلي حتى آتيك، وأن لا تعطيني شيئاً حتى أسألك. وخرج ليلة أراد العبور على دجلة فوجد شطيها قد التصقا، فقال: وعزتك لا أعبر إلا في زورق! وكان في مرض موته يبكي كثيراً، فقال له: أراك كثير الذنوب! فرفع شيئاً من الأرض وقال: ذنوبي أهون علي من هذا وإنما أخاف سلب الإيمان قبل أن أموت. وقال حماد بن سلمة: لما حضر سفيان الوفاة كنت عنده، قلت: يا أبا عبد الله ابشر فقد نجوت مما كنت تخاف، وإنك تقدم على رب غفور! فقال: يا أبا سلمة، أترى يغفر الله لمثلي؟ قلت: إي والذي لا إله إلا هو! فكأنما سري عنه. توفي سنة إحدى وستين ومائة عن ست وستين سنة بالبصرة. وينسب إليها أبو أمية شريح بن الحرث القاضي، يضرب به المثل في العدل وتدقيق الأمور، بقي في قضاء الكوفة خمساً وسبعين سنة، استقضاه عمر وعلي، واستعفى من الحجاج فأعفاه، ذكر أن امرأة خاصمت زوجها عنده وكانت تبكي بكاء شديداً فقال له الشعبي: أصلح الله القاضي! أما ترى شدة بكائها؟ فقال: أما علمت أن اخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة؟ الحكم إنما يكون بالبينة لا بالبكاء. وشهد رجل عنده شهادة فقال: ممن الرجل؟ قال: من بني فلان. قال:

أتعرف قائل هذا الشعر: ماذا أؤمّل بعد آل محرّقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إياد قال: لا! فقال: توقف يا وكيل في شهادته فإن من كان في قومه رجل له هذه النباهة وهو لا يعرفه أظنه ضعيفاً. وكتب مسروق بن عبد الله إلى القاضي شريح، وقد دخل زياد ابن أبيه في مرض موته ومنعوا الناس عنه، وكتب إليه: أخبرنا عن حال الأمير فإن القلوب لبطء مرضه مجروحة، والصدور لنا حزينة غير مشروحة! فأجابه القاضي: تركت الأمير وهو يأمر وينهى! فقال: أما تعلمون أن القاضي صاحب تعريض؟ يقول: تركته يأمر الوصية وينهى عن الجزع! وكان كما ظن. والقاضي شريح توفي سنة اثنتين وثمانين عن مائة وعشرين سنة. وينسب إليها أبو عبد الله سعيد بن جبير، كان الناس إذا سألوا بالكوفة ابن عباس يقول: أتسألونني وفيكم سعيد بن جبير؟ وكان سعيد ممن خرج على الحجاج وشهد دير الجماجم، فلما انهزم ابن الأشعث لحق سعيد بمكة، وبعد مدة بعثه خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً على مكة من قبل الوليد ابن عبد الملك، إلى الحجاج تحت الاستظهار، وكان في طريقه يصوم نهاراً ويقوم ليلاً، فقال له الموكل به: إني لا أحب أن أحملك إلى من يقتلك، فاذهب أي طريق شئت! فقال له سعيد: انه يبلغ الحجاج أنك خليتني وأخاف أن يقتلك! فلما دخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: سعيد بن جبير! قال: بل أنت شقي بن كسير! قال: سمتني أمي! قال: شقيت! قال: الغيب يعلمه غيرك! فقال له الحجاج: لأبدلنك من دنياك ناراً تتلظى! فقال سعيد: لو علمت أن ذاك إليك ما اتخذت إلهاً غيرك! قال: ما تقول في الأمير؟ قال: إن كان محسناً فعند الله ثواب إحسانه، وإن كان مسيئاً فلن يعجز الله! قال: فما تقول في؟ قال: أنت أعلم بنفسك! فقال: تب في علمك! فقال: اذم

أسوءك ولا أسرك. قال: تب! قال: ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله! قال: والله لأقطعنك قطعاً قطعاً ولأفرقن أعضاءك عضواً عضواً! قال: فإذن تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك والقصاص أمامك! قال: الويل لك من الله! قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار! فقال: اذهبوا به واضربوا عنقه. فقال سعيد: اني أشهدك اني أشهد ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لتستحفظه حتى ألقاك بها يوم القيامة! فذهبوا به فتبسم، فقال الحجاج: لم تبسمت؟ فقال: لجرأتك على الله تعالى! فقال الحجاج: اضجعوه للذبح! فأضجع. فقال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض. فقال الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة. قال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله! قال: كبوه على وجهه. فقال: مها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى! فذبح من قفاه، فبلغ ذلك الحسن البصري فقال: الله يا قاصم الجبارة اقصم الحجاج. وعن خالد بن خليفة عن أبيه قال: شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله مرتين والثالثة لم يتمها، وعاش الحجاج بعده خمسة عشر يوماً، وقع الدود في بطنه، وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي! وتوفي سعيد سنة خمس وتسعين عن سبع وخمسين سنة. وينسب إليها أبو الطيب أحمد المتنبي. كان نادر الدهر شاعراً مفلقاً فصيحاً بليغاً، أشعاره تشتمل على الحكم والأمثال، قال ابن جني: سمعت أبا الطيب يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي: ما مقامي بأرض نخلة إلاّ ... كمقام المسيح بين اليهود أنا في أمّةٍ، تداركها اللّ ... هـ، غريبٌ كصالحٍ في ثمود وكان لا يمدح إلا الملوك العظماء، وإذا سمع قصيدة حفظها بمرة واحدة،

وابنه يحفظها بمرتين، وغلامه يحفظها بثلاث مرات، فربما قرأ أحد على ممدوح قصيدة بحضوره فيقول: هذا الشعر لي! ويعيدها ثم يقول: وابني أيضاً يحفظها، ثم يقول: وغلامي أيضاً يحفظها. اتصل بسيف الدولة وقرأ عليه: أجاب دمعي وما الدّاعي سوى طلل فلما انتهى إلى قوله: أقل أنل اقطع احمل سلّ علّ أعد ... زد هشّ بشّ تفضّل ادن سرّ صل أمر سيف الدولة أن يفعل جميع هذه الأوامر التي ذكرها فيقول المتنبي: أمرّ إلى إقطاعه في ثيابه ... على طرفه من داره بحسامه حكى ابن جني عن أبي علي النسوي قال: خرجت من حلب فإذا أنا بفارس متلثم قد أهوى نحوي برمح طويل سدده في صدري، فكدت أرمي نفسي من الدابة، فثنى السنان وحس لثامه فإذا المتنبي يقول: نثرت رؤساً بالأحيداب منهم ... كما نثرت فوق العروس دراهم ثم قال: كيف ترى هذا البيت أحسن هو؟ قلت: ويحك قتلني! قال ابن جني: حكيت هذا بمدينة السلام لأبي الطيب فضحك. وحكى الثعالبي أن المتنبي لما قدم بغداد ترفع عن مدح الوزير المهلبي، ذهاباً بنفسه إلى أنه لا يمدح غير الملوك، فشق ذلك على الوزير فأغرى به شعراء بغداد في هجوه، ومنهم ابن سكرة الهاشمي والحاتمي وابن لنكك، فلم يجبهم بشيء وقال: اني قد فرغت عن جوابهم بقولي لمن هو أرفع طبقة منهم في الشعر:

اللاذقية

أفي كلّ يوم تحت ضبني شويعرٌ ... ضعيفٌ يقاويني قصيرٌ يطاول لساني بنطقي صامتٌ عنه عادلٌ ... وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازل وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل وما التّيه طبّي فيهم غير أنّني ... بغيضٌ إليّ الجاهل المتعاقل وفارق بغداد قاصداً عضد الدولة بفارس ومدحه بقصائده المذكورة في ديوانه، وربحت تجارته عند عضد الدولة، وبقي عنده مدة، ووصل إليه من مبراته أكثر من مائتي ألف درهم، فاستأذن في المسير ليقضي حوائجه فأذن له وأمر له بالخلع والصلات، فقرأ عليه قصيدته الكافية وكأنه نعى فيها نفسه ويقول: ولو أني استطعت حفظت طرفي ... ولم أبصر به حتّى أراكا وفي الأحباب مختصٌّ بوجدٍ ... وآخر يدّعي معه اشتراكا إذا اجتمع الدّموع على خدودٍ ... تبيّن من بكى ممّن تباكى وأنّى شئت يا طرقي فكوني ... أذاةً أو نجاةً أو هلاكا وهذه الأبيات مما يتطير بها، وجعل قافية آخر شعره هلاكا فهلك. ولما ارتحل من شيراز بحسن حال ووفور مال، فلما فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمر كما كانت في أعمال عضد الدولة، فخرج عليه سرية من الأعراب فحاربهم حتى انكشفت الوقعة عن قتله، وقتل ابنه محسد، ونفر من غلمانه في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. اللاذقية مدينة من سواحل بحر الشام عتيقة، سميت باسم بانيها رومية، وفيها أبنية قديمة، ولها مرقاة جيدة وقلعتان متصلتان على تل مشرف على ربضها، ملكها

اللجون

الفرنج فيما ملكوه من بلاد الساحل في حدود سنة خمسمائة. وللمسلمين بها جامع وقاض وخطيب، فإذا أذن المسلمون ضرب الفرنج بالناقوس غيظاً، قال المعري: باللاّذقيّة فتنةٌ ... ما بين أحمد والمسيح هذا يعالج دلبه ... والشّيخ من حنقٍ يصيح! أراد بالدلب الناقوس وبالصياح الأذان. قال ابن رطلين: رأيت باللاذقية أعجوبة، وذلك أن المحتسب يجمع الفواجر والغرباء المؤثرين للفجور في حلقته، وينادي على واحدة ويتزايدون، حتى إذا وقف سلمها إلى صاحبها مع ختم المطران. وهو يأخذها إلى الفنادق، فإذا وجد البطريق إنساناً لم يكن معه ختم المطران ألزمه جناية، فلما كانت سنة أربع وثمانين وخمسمائة استرجعها صلاح الدين يوسف، وهي إلى الآن في يد المسلمين. اللجون مدينة بالأردن. في وسطها صخرة كبيرة مدورة، وعلى الصخرة قبة مزار يتبركون بها. حكي أن الخليل، عليه السلام، دخل هذه المدينة ومعه غنم له، وكانت المدينة قليلة الماء، فسألوه أن يرتحل لقلة الماء، فضرب بعصاه هذه الصخرة فخرج منها ماء كثير اتسع على أهل المدينة، حتى كانت قراهم ورساتيقهم تسقى من هذا الماء، والصخرة باقية إلى الآن. ماردين قلعة مشهورة على قلة جبل بالجزيرة، ليس على وجه الأرض قلعة أحسن منها ولا أحكم ولا أعظم، وهي مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين، وقدامها

ماسبدان

ربض عظيم فيه أسواق وفنادق ومدارس وربط. وضعها وضع عجيب ليس في شيء من البلدان مثلها، وذلك أن دورهم كالدرج كل دار فوق أخرى، وكل درب منها مشرف على ما تحته، وعندهم عيون قليلة، جل شربهم من الصهاريج المعدة في دورهم. وقال بعض الظرفاء: في ماردين، حماها الله، لي سكنٌ ... لولا الضّرورة ما فارقتها نفسا لأهلها ألسنٌ لان الحديد لها ... وقلبهم جبليٌّ قد قسا وعسا ماسبدان مدينة مشهورة بقرب السيروان، كثيرة الشجر كثيرة الحمات والكباريت والزاجات والبوارق والاملاح. بها عين عجيبة، من شرب منها قذف اخلاطاً كثيرة، لكنه يضر بأعصاب الرأس، وإن احتقن بمائها أسهل إسهالاً عظيماً. مجانة بلدة بإفريقية تسمى قلعة بسر لأن بسر بن أرطاة فتحها. أرضها أرض طيبة ينبت بها زعفران كثير، بها معادن الفضة والحديد والمرتك والرصاص والكحل، وفي جنوبيها جبل تقطع منه أحجار الطواحين وتحمل إلى سائر بلاد العرب. محجة من قرى حوران. بها حجر يزوره الناس، وزعموا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، جلس عليه.

مدين

مدين مدينة قوم شعيب، عليه السلام. بناها مدين بن إبراهيم الخليل جد شعيب، وهي تجارة تبوك بين المدينة والشام. بها البئر التي استقى منها موسى، عليه السلام، لماشية شعيب؛ قيل: إن البئر مغطاة وعليها بيت يزوره الناس. وقيل: مدين هي كفرمندة من أعمال طبرية، وبها البئر وعندها الصخرة التي قلعها موسى، وهي باقية إلى الآن، وقد مر ذكره في كفرمندة. مرسى الخرز بليدة على ساحل بحر افريقية، عندها يستخرج المرجان وليس للسلطان فيه حصة، فيجتمع بها التجار ويستأجرون أهل تلك النواحي على استخراج المرجان من قعر البحر، حكى من شاهد كيفية استخراجه أنهم يتخذون خشبتين، طول كل واحدة ذراع، ويجعلونهما صليباً ويشدون فيه حجراً ثقيلاً، ويصلونه بحبل ويركب صاحبه في قارب، ويتوسط البحر نحو نصف فرسخ ليصل إلى منبت المرجان. ثم يرسل الصليب إلى البحر حتى ينتهي إلى قرار البحر، ويمر بالقارب يميناً وشمالاً ومستديراً ليتعلق المرجان في ذوائب الصليب، ثم يقلعه بالقوة ويرقيه فيخرج جسم أغبر اللون، فيحك قشره فيخرج أحمر اللون حسناً. المرقب بلدة وقلعة حصينة مشرفة على سواحل بحر الشام، قال أبو غالب المغربي في تاريخه: عمر المسلمون حصن المرقب في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، فجاء في غاية الحصانة والحسن حتى يتحدث الناس بحسنه وحصانته، فطمع الروم فيه وطمع المسلمون في الحيلة بالروم بسببه، فما زالوا حتى بيع الحصن منهم بمال عظيم. وبعثوا شيخاً وولديه إلى انطاكية لقبض المال وتسليم الحصن،

مريسة

فبعثوا المال مع ثلاثمائة رجل لتسلم الحصن وأخروا الشيخ عندهم. فلما وصل المال إلى المسلمين قبضوه وقتلوا بعض الرجال وأسروا آخرين، وباعوهم بمال آخر وبالشيخ وولديه، وحصل الحصن والمال للمسلمين وقتل كثير من الروم. مريسة قرية بمصر من ناحية الصعيد. تجلب منها الحمر المريسية، وهي من أجود حمر مصر وأمشاها وأحسنها صورة وأكبرها، تحمل إلى سائر البلاد للتحف، ليس في شيء من البلاد مثلها، والبلاد الباردة لا توافقها فتموت فيها سريعاً. وينسب إليها بشر المريسي المعتزلي. كان في زمن المأمون وزعم انه يبين ان القرآن مخلوق وكل من شاء يناظره فيه. وكان دليله أن القرآن لا يخلو اما أن يكون شيئاً أو لم يكن، لا جائز أن يقال إن القرآن ليس بشيء لأنه كفر، فتعين أن يكون شيئاً، وقد قال تعالى: الله خالق كل شيء. فيكون خالقاً للقرآن أيضاً. وقد غلب الناس بهذا وقبلوا منه وصاروا على هذا، فاتصل هذا الخبر إلى مكة إلى عبد العزيز المكي، فقام قاصداً لبغداد لدفع هذه الغمة، وسأل المأمون أن يجمع بينه وبين بشر بن غياث، فجمع بينهما وجرى بينهما مناظرات حاصلها أن عبد العزيز قد حجه بدليله وقال: الالهية شيء أو ليس بشيء، لا جائز أن يقال ليس بشيء لأنه كفر، فتعين أن يكون شيئاً؛ قال الله تعالى لبلقيس: وأوتيت من كل شيء، ينبغي أن تؤتى الالهية فدليلك يدل على أن بلقيس إلاهة، فما ظنكم بدليل يدل على أن المخلوق إله؟ فقيل لعبد العزيز: هذا نقض حسن، فما معنى قوله تعالى: الله خالق كل شيء؟ قال: معناه الله خالق كل شيء قابل للخلق والايجاد، والقديم غير قابل للخلق والايجاد، وكذلك قوله تعالى: وأوتيت من كل شيء، معناه كل شيء يحتاج إليه الملوك. فترى أوتيت الالهية والنبوة والذكورة كلها أشياء. فاستحسن المأمون ذلك ورجع القوم عن الاعتقاد الفاسد، وقام المريسي محجوجاً خائباً.

مريوط

وحكى عبد الله الثقفي قال: لما مات المريسي رأيت زبيدة في المنام فقلت لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لي بأول معول ضربت في طريق مكة، وأنا حفرت في طريق مكة آباراً كثيرة. فقلت لها: اني أرى في وجهك صفرة! قالت: قد حمل إلينا بشر المريسي فزفرت جهنم زقرة لقدومه، هذه الصفرة من اثرها. مريوط قرية بمصر قرب الإسكندرية. من عجائبها طول عمر سكانها، قال ابن زولاق: كشف الطوال الأعمار فلم يوجد أطول عمراً من سكان مريوط. المزة قرية كبيرة غناء في وسط بساتين دمشق، على نصف فرسخ منها. من جميع جهاتها أشجار ومياه وخضر، وهي من أنزه أرض الله وأحسنها. يقال لها مزة كلب، يقصدها أرباب البطالة للهو والطرب؛ قال قيس بن الرقيات: حبّذا ليلتي بمزّة كلبٍ ... غال عني بها الكوانين غول بتّ أسقى بها وعندي حبيبٌ ... إنّه لي وللكرام خليل عندنا المشرفات من بقر الإن ... س هواهنّ لابن قيسٍ دليل مصر ناحية مشهورة، عرضها أربعون ليلة في مثلها. طولها من العريش إلى اسوان وعرضها من برقة إلى ايلة. سميت بمصر بن مصرايم بن حام بن نوح، عليه السلام، وهي أطيب الأرض تراباً وأبعدها خراباً، ولا يزال فيها بركة ما دام على وجه الأرض إنسان. ومن عجائبها انه إن لم يصبها مطر زكت بخلاف سائر النواحي، وإن أصابها

ضعف زكاؤها. ووصف بعض الحكماء مصر فقال: إنها ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء. قال كشاجم: أما ترى مصر كيف قد جمعت ... بها صنوف الرّياحين في مجلس السّوسن الغضّ والبنفسج وال ... ورد وصفّ البهار والنّرجس كأنّها الأرض ألبست حللاً ... من فاخر العبقريّ والسّندس كأنّها الجنّة التي جمعت ... ما تشتهيه العيون والأنفس ومن عجائبها زيادة النيل عند انتقاص جميع المياه في آخر الصيف، حتى يمتليء منه جميع أرض مصر، فإذا زاد اثني عشر ذراعاً ينادي المنادي كل يوم: زاد الله في النيل المبارك كذا وكذا. وفي وسط النيل مسجد بناه المأمون لما ذهب إلى مصر، وخلف المسجد صهريج، وفي وسط الصهريج عمود من الرخام الأبيض طوله أربعة وعشرون ذراعاً، وكتب على كل ذراع علامة، وقسم كل ذراع أربعاً وعشرين إصبعاً، وكل إصبع ستة أقسام. وللصهريج منفذ إلى النيل يدخل إليه الماء، فأي مقدار زاد في النيل عرف من العمود، وعلى العمود قوم أمناء يشاهدون ذلك ويخبرون عن الزيادة، فإذا بلغ ستة عشر ذراعاً وجب الخراج على أهل مصر، فإذا زاد على ذلك يزيد في الخصب والخير إلى عشرين، فإن زاد على ذلك يكون سبباً للخراب. واليوم الذي بلغ الماء فيه ستة عشر ذراعاً يكون يوم الزينة، يخرج الناس بالزينة العظيمة لكسر الخلجان فتصير أرض مصر كلها بحراً واحداً. والماء يخرج الفئران والثعابين من جحرتها، فتدخل على الناس في القرى ويأكلها الكلاب والزيغان، ويبقى ماء النيل على وجه الأرض أربعين يوماً ثم يأخذ في الانتقاص. وكلما ظهر شيء من الأرض يزرعها الاكرة وتمشي عليها الأغنام لغيب البذر في الطين، ويرمون بذراً قليلاً فيأتي بريع كثير لأن الله تعالى جعل فيه البركة.

وبها نهر النيل؛ قالوا: ليس على وجه الأرض نهر أطول من النيل لأن مسيره شهر في بلاد الإسلام، وشهران في بلاد النوبة، وأربعة أشهر في الخراب إلى أن يخرج ببلاد القمر خلف خط الاستواء. وليس في الدنيا نهر يصب من الجنوب إلى الشمال، ويمد في شدة الحر عند انتقاص المياه والأنهار كلها، ويزيد بترتيب وينقص بترتيب إلا النيل. قال القضاعي: من عجائب مصر النيل، جعله الله تعالى سقياً يزرع عليه ويستغنى عن المطر به في زمان القيظ، إذا نضبت المياه. وسبب مده ان الله تعالى يبعث ريح الشمال فيقلب عليه البحر الملح، فيصير كالسكر فيزيد حتى يعم الربى والعوالي ويجري في الخليج والمساقي، فإذا بلغ الحد الذي هو تمام الري وحضرت أيام الحراثة، بعث الله ريح الجنوب فأخرجته إلى البحر الملح وانتفع الناس بما أروى من الأرض. ولهم مقياس ذكرنا قبل يعرفون به مقدار الزيادة ومقدار الكفاية. قال القضاعي: أول من قاس النيل بمصر يوسف، عليه السلام، وبنى مقياسه بمنف، وذكر أن المسلمين لما فتحوا مصر جاء أهلها إلى عمر بن العاص حين دخل بؤونه من شهر القبط وقالوا: أيها الأمير إن لبلدنا سنة لا يجري النيل إلا بها، وذلك انه إذا كان لاثنتي عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر، فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل ليجري. فقال لهم عمرو: إن هذا في الإسلام لا يكون، وإن الإسلام يهدم ما قبله! فأقاموا بؤونه وابيب ومسرى وهو لا يجري قليلاً ولا كثيراً حتى هم الناس بالجلاء. فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بذلك، فكتب عمر إليه: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله! وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في داخل النيل. وإذا في الكتاب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك! فألقى

عمرو بن العاص البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء لأن مصالحهم لا تقوم إلا بالنيل، فأصبحوا وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة. وأما أصل مجراه فإنه يأتي من بلاد الزنج، فيمر بأرض الحبشة حتى ينتهي إلى بلاد النوبة، ثم لا يزال جارياً بين جبلين بينهما قرى وبلدان، والراكب فيه يرى الجبلين عن يمينه وشماله حتى يصب في البحر. وقيل: سبب زيادته في الصيف أن المطر يكثر بأرض الزنجبار، وتلك البلاد ينزل الغيث بها كأفواه القرب ويصب السيول إلى النيل من الجهات، فإلى أن يصل إلى مصر ويقطع تلك المفاوز يكون القيظ ووقت الحاجة إليه. من عجائب النيل التمساح لا يوجد إلا فيه، وقيل بنهر السند أيضاً يوجد، إلا أنه ليس في عظم النيلي، وهو يعض الحيوان، وإذا عض اشتبكت أسنانه واختلفت فلم يتخلص منها الذي يقع فيها حتى يقطعه. ويحترز الإنسان من شاطيء النيل لخوف التمساح؛ قال الشاعر: أضمرت للنّيل هجراناً ومقليةً ... مذ قيل لي: إنّما التّمساح في النّيل فمن رأى النّيل رأي العين عن كثبٍ ... فما أرى النّيل إلاّ في البواقيل والبواقيل: كيزان يشرب منها أهل مصر. وبها شجرة تسمى باليونانية موقيقوس، تراها بالليل ذات شعاع متوهج يغتر برؤيتها كثير من الناس، يحسبها نار الرعاة، فإذا قصدها كلما زاد قرباً زادت خفاء حتى إذا وصل إليها انقطع ضوؤها. وبها حشيشة يقال لها الدلس، يتخذ منها حبال السفن وتسمى تلك الحبال القوقس. تؤخذ طعة من هذا الحبل وتشعل فتبقى مشتعلة بين أيديهم كالشمع، ثم تطفأ وتمكث طول الليل، فإذا احتاجوا إلى الضوء أخذوا بطرفه وأداروه ساعة كالمخراق فيشتعل من نفسه.

وبها نوع من البطيخ الهندي تحمل اثنتان منه على جمل قوي، وهي حلوة طيبة. وبها حمير في حجم الكباش ملمعة بشبه البغال، ليس مثلها في شيء من البلاد، إذا أخرجت من موضعها لم تعش. وبها طير كثير أسود البدن أبيض الرأس يقال له عقاب النيل، إذا طار يقول: الله فوق الفوق! بصوت فصيح يسمعه الناس، يعيش من سمك النيل لا يفارق ذلك الموضع. والبرغوث لا ينقطع بمصر شتاءً ولا صيفاً، وتولد الفأر بها أكثر من تولدها في سائر البلاد، فترى عند زيادة النيل تسلط الماء على جحرتها، فلا يبقى في جميع ممر الماء فأرة ثم تتولد بعد ذلك بأدنى زمان. ومن عجائب مصر الدويبة التي يقال لها النمس؛ قال المسعودي: هي دويبة أكبر من الجرذ وأصغر من ابن عرس، أحمر أبيض البطن، إذا رأت الثعبان دنت منه فينطوي عليها الثعبان ليأكلها، فإذا حصلت في فمه ترخي عليه ريحاً فينقطع الثعبان من ريحها، وهذه خاصية هذه الدويبة، قالوا ينقطع الثعبان من شدته قطعتين، فإنها لأهل مصر كالقنافذ لأهل سجستان. ومن عجائب مصر الهرمان المحاذيان للفسطاط؛ قال أبو الصلت: كل واحد منهما جسم من أعظم الحجارة، مربع القاعدة مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلاثمائة ذراع وسبعة عشر ذراعاً، يحيط بها أربعة سطوح مثلثات متساويات الأضلاع، كل ضلع منها أربعمائة ذراع وستون ذراعاً، وهو مع هذا العظم من أحكم الصنعة واتقان الهندام وحسن التقدير، لم يتأثر من تضاعف الرياح وهطل السحاب وزعزعة الزلازل. وذكر قوم أن على الهرمين مكتوباً بخط المسند: إني بنيتهما فمن يدعي قوة في ملكه فليهدمهما، فإن الهدم أيسر من البناء، قود كسوناهما بالديباج فمن استطاع فليكسهما بالحصير. وقال ابن زولاق: لا نعلم في الدنيا حجراً على حجر أعلى ولا أوسع منهما،

طولهما في الأرض أربعمائة ذراع وارتفاعهما كذلك، وقال أبو عبد الله بن سلامة القضاعي في كتاب مصر: إنه وجد في قبر من قبور الأوائل صحيفة، فالتمسوا لها قارئاً فوجدوا شيخاً في دير قلمون يقرأها، فإذا فيها: إنا نظرنا فيها تدل عليه النجوم فرأينا أن آفة نازلة من السماء وخارجة من الأرض، ثم نظرنا فوجدناه مفسداً للأرض ونباتها وحيوانها، فلما تم الهرم الغربي بنى لابن أخيه الهرم المؤزر وكتبنا في حيطانها أن آفة نازلة من أقطار العالم، وذلك عند نزول قلب الأسد أول دقيقة من رأس السرطان، وتكون الكواكب عند نزولها إياها في هذه المواضع من الفلك، الشمس والقمر في أول دقيقة من الحمل، وزحل في درجة وثمان وعشرين دقيقة من الحمل، والمشتري في تسع وعشرين درجة وعشرين دقيقة من الحمل، والمريخ في تسع وعشرين درجة وثلاث دقائق من الحوت، والزهرة في ثمان وعشرين درجة من الحوت، وعطارد في تسع وعشرين درجة من الحوت، والجوزهر في الميزان، وأوج القمر في خمس درجات ودقائق من الأسد. فلما مات سوريل دفن في الهرم الشرين ودفن أخوه هرجيت في الهرم الغربي، ودفن ابن أخيه كرورس في الهرم الذي أسفله. ولهذه الأهرام أبواب في ازج تحت الأرض، طول كل ازج منها مائة وخمسون ذراعاً. فأما باب الهرم الشرقي فمن الناحية الشرقية، وأما باب الهرم الغربي فمن الناحية الغربية، وأما باب الهرم المؤزر فمن الناحية الشمالية. وفي الأهرام من الذهب ما لا يحتمله الوصف. ثم ان المترجم لهذا الكلام من القبطي إلى العربي أجمل التاريخات إلى سنة خمس وعشرين ومائتين من سني الهجرة، فبلغت أربعة آلاف وثلاثمائة وإحدى وعشرين سنة شمسية، ثم نظر كم مضى من الطوفان إلى وقته هذا فوجده ثلاثة آلاف وتسعمائة وإحدى وأربعين سنة، فألقها من الجملة الأولى، فبقي ثلاثمائة وتسع وتسعون سنة، فعلم أن تلك الصحيفة كتبت قبل الطوفان بهذه المدة. وقال بعضهم: حسرت عقول ذوي النّهى الأهرام ... واستصغرت لعظيمها الأحلام

ملسٌ منبّقة البناء شواهقٌ ... قصرت لغالٍ دونهنّ سهام لم أدر حين كبا التّفكر دونها ... واستوهمت لعجيبها الأوهام أقبور أملاك الأعاجم هنّ أم ... طلّسم رملٍ كنّ أم أعلام وزعم بعضهم أن الأهرام بمصر قبور ملوك عظام بها، آثروا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم، كما تميزوا عنهم في حياتهم، وأرادوا أن يبقى ذكرهم بسبب ذلك على تطاول الدهور. وذكر محمد بن العربي الملقب بمحيي الدين: ان القوم كانوا على دين التناسخ، فاتخذوا الأهرام علامة لعلهم عرفوا مدة ذهابهم ومجيئهم إلى الدنيا بعلامة ذلك. ومن الناس من يزعم أن هرمس الأول الذي يسميه اليونانيون أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم، عليه السلام، وهو ادريس، علم بطوفان نوح إما بالوحي أو بالاستدلال على ذلك من أحوال الكواكب، فأمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم إشفاقاً عليها من الدروس، واحتياطاً عليها وحفظاً لها. ومن عجائب مصر أبو الهول. وهو صورة آدمي عظيمة مصنعة، وقد غطى الرمل أكثره. يقال: انه طلسم للرمل لئلا يغلب على كورة الجيزة، فإن الرمال هناك كثيرة شمالية متكاثفة، فإذا انتهت إليها لا تتعداه، والمرتفع من الرمل رأسه وكتفاه. وهو عظيم جداً، وصورته مليحة كأن الصانع الآن فرغ منه. وقد ذكر من رأى أن نسراً عشش في أذنه وهو مصبوغ بالحمرة؛ قال ظافر الإسكندري: تأمّل بنية الهرمين وانظر ... وبينهما أبو الهول العجيب كمثل عمارتين على رحيلٍ ... لمحبوبين بينهما رقيب وماء النّيل تحتهما دموعٌ ... وصوت الرّيح عندهما نحيب

ولما وصل المأمون إلى مصر، نقب أحد الهرمين المحاذيين للفسطاط بعد جهد شديد وعناء طويل، فوجد في داخله مراقي ومهادي هائلة يعسر السلوك فيها، ووجد في أعلاه بيتاً مكعباً طول كل ضلع منه ثمانية أذرع، وفي وسطه حوضاً رخاماً مطبقاً، فلما كشف غطاؤه لم يوجد فيه غير رمة بالية، فأمر المأمون بالكف عن نقب ما سواه. وقال بعضهم: ما سمعت بشيء عظيم فجئته إلا رأيته دون صفته إلا الهرمين، فإني لما رأيتهما كانت رؤيتهما أعظم من صفتهما. ومن عجائب مصر حوض لعين ماء منقور في حجر عظيم، يسيل الماء إلى الحوض من تلك العين من جبل بجنب كنيسة، فإذا مس ذلك الماء جنب أو حائض انقطع الماء السائل من ساعته، وينتن الماء الذي في الحوض فيعرف الناس سببه، فينزفون الماء الذي في الحوض وينظفونه، فيعود إليه الماء على حالته الأولى. وقد ذكر أمر هذا الحوض أبو الريحان الخوارزمي في كتابه الآثار الباقية، وان هذا الحوض يسمى الطاهر. وبها جبل المقطم، وهو جبل مشرف على القرافة ممتد إلى بلاد الحبشة على شاطيء النيل الشرقي، وعليه مساجد وصوامع، لا نبت فيه ولا ماء غير عين صغيرة تنز في دير للنصارى، يقولون انه معدن الزبرجد، وسأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فكتب عمرو بن العاص إلى عمر ابن الخطاب، فكتب إليه: ان استخبره لأي شيء بذل ما بذل؟ فقال المقوقس: إننا نجد في كتبنا انه غراس الجنة! فقال عمر: غراس الجنة لا نجد إلا للمؤمنين. فأمره أن يتخذه مقبرة؛ قالوا: ان الميت هناك لا يبلى! وبها موتى كثيرون بحالهم ما بلي منهم شيء، وبها قبر روبيل بن يعقوب وقبر إليع، عليه السلام. وبها قبر عمران بن الحصين صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ومن عجائبها عين الناطول، وناطول اسم موضع بمصر فيه غار، وفي الغار عين ينبع الماء منها ويتقاطر على الطين فيصير ذلك الطين فأراً؛ قال صاحب تحفة الغرائب: حكى لي رجل أنه رأى من ذلك الطين قطعة انقلب بعضها فأراً

المطرية

والبعض الآخر طين بعد. ومن عجائبها نهر سنجة؛ قال الأديبي: هو نهر عظيم يجري بين حصن المنصور وكيسوم من ديار مصر، لا يتهيأ خوضه لأن قراره رمل سيال، إذا وطئه واطيء غاص به، وعلى هذا النهر قنطرة من عجائب الدنيا، وهي طاق واحد من الشط إلى الشط، وتشتمل على مائتي خطوة، وهي متخذة من حجر مهندم طول الحجر عشرة أذرع في ارتفاع خمسة أذرع، وحكي ان عندهم طلسماً على لوح إذا عاب من القنطرة موضع أدلى ذلك اللوح على موضع العيب، فينعزل عنه الماء حتى يصلح ثم يرفع اللوح فيعود الماء إلى حاله. ومن عجائبها جبل الطير. وهو بصعيد مصر في شرقي النيل قرب انصنا، وإنما سمي بذلك لأن صنفاً من الطير الأبيض يقال له البوقير يأتي في كل عام في وقت معلوم، فتعكف على هذا الجبل، وفيه كوة يأتي كل واحد من هذه الطيور ويدخل رأسه في تلك الكوة، ثم يخرجه ويلقي نفسه في النيل فيعوم، ويذهب من حيث شاء إلى أن يدخل واحد رأسه فيقبض عليه شيء في تلك الكوة، فيضطرب ويبقى معلقاً منها إلى أن يتلف، فيسقط بعد مدة. فإذا كان ذلك انصرف الباقي لوقته فلا يرى شيء من هذا الطير في هذا الجبل إلى مثل ذلك الوقت من العام القابل. وذكر بعض أعيان مصر: ان السنة إذا كانت مخصبة قبضت الكوة على طائرين، وإن كانت متوسطة على واحد، وإن كانت مجدبة لم تقبض شيئاً. المطرية قرية من قرى مصر، عندها منبت شجر البلسان، وبها بئر يسقى منها، قيل: إنه من خاصية البئر لأن المسيح، عليه السلام، اغتسل فيها. حدث من رآها أن شجر البلسان يشبه شجر الحنا أو شجر الرمان، أول ما ينشا، وأرضها نحو مد البصر في مثله محوط عليه، ولها قوم يخرجون شجرتها من سوقها،

معرة النعمان

ويتخذون منها ماءً لطيفاً في آنية زجاج ويجمعونه بجد واجتهاد عظيم، فيحصل في العام نحو مائتي رطل بالمصري. وهناك رجل نصراني يطبخه بصناعة يعرفها لا يطلع عليها أحد، ويصفي منها الدهن، وقد اجتهد الملوك أن يعلمهم فأبى وقال: لو قتلت ما علمت أحداً ما بقي لي عقب. قال الحاكي: شربت من هذه البئر وهي عذبة فيها نوع دهنية لطيفة، وقد استأذن الملك الكامل أباه الملك العادل أن يزرع شيئاً من شجر البلسان، فأذن له، فغرم غرامات وزرعه فلم ينجح ولا حصل منه دهن البتة، فسأل أباه أن يجري لها ساقية من البئر المذكورة، فأذن له ففعل وأنجح، فعلموا أن ذلك من خاصية البئر. وليس في جميع الدنيا موضع ينبت شجر البلسان وينجع دهنه إلا هناك، ورأى رجل من أهل الحجاز شجر البلسان فقال: انه شجر البشام بعينه إلا أنا ما علمنا استخراج الدهن منه. معرة النعمان بليدة بين حلب وحماة، كثيرة التين والزيتون. ينسب إليها أبو العلاء أحمد ابن عبد الله المعري الضرير المشهور بالذكاء. ومن عجيب ما ذكر عنه أنه أخذ حمصة وقال: هذا يشبه رأس البازي! وهذا تشبيه عجيب من أولي الأبصار فضلاً عن الأكمه، وقد ذكر البعير عنده أنه حيوان يحمل حملاً ثقيلاً فينهض به فقال: ينبغي أن تكون رقبته طويلة ليمتد نفسه فتقدر على النهوض به! وكان له سرير يجلس عليه فجعلوا في غيبته تحت قوائمه أربعة دراهم، تحت كل قائمة درهماً، فقال: ان الأرض قد ارتفعت عن مكانها شيئاً يسيراً والسماء نزلت! ومن العجائب انه مع ذكائه اختفت عليه الموجودات التي ليست بمجسمة كالجواهر الروحانية، فاعتقد ان كل موجود يكون مجسماً حتى قال: قالوا: إلهٌ لنا قديمٌ! ... قلت لهم: هكذا يقول

مكران

قالوا: قديمٌ بلا مكانٍ ... قلت: أين هو؟ فقولوا! هذا الكلام لنا خفاءٌ ... معناه: ليست لنا عقول وقال أيضاً: يدٌ بخمس ماءٍ من عسجدٍ قرنت ... ما بالها قطعت في ربع دينار؟ وقال الرضي الموسوي: صيانة النّفس أغلتها وأرخصها ... صيانة المال فانظر حكمة الباري وذكر أنه في آخر عمره تاب عن أمثال هذه واستغفر، وحسن إسلامه. مكران ناحية بين أرض السند وبلاد تيز، ذات مدن وقرى كبيرة، ومن عجائبها ما ذكره صاحب تحفة الغرائب أن بأرض مكران نهراً عليه قنطرة من الحجر قطعة واحدة، من عبر عليها يتقيأ جميع ما في بطنه بحيث لا يبقى فيها شيء، ولو كانوا ألوفاً هذا حالهم، فمن أراد من الناس القيء عبر على تلك القنطرة. مليانة مدينة كبيرة بالمغرب من أعمال بجاية مستندة إلى جبل زكار، وهي كثيرة الخيرات وافرة الغلات، مشهورة بالحسن والطيب وكثرة الأشجار وتدفق المياه. حدثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني أن جبل زكار مطل على المدينة، وطول الجبل أكثر من فرسخ، ومياه المدينة تتدفق من سفحه، وهذا الجبل لا يزال أخضر صيفاً وشتاء، وأعلى الجبل مسطح يزرع، وبقرب المدينة حمامات لا يوقد عليها ولا يستقى ماؤها، بنيت على عين حارة عذبة الماء يستحم بها من شاء.

منبج

منبج مدينة بأرض الشام كبيرة ذات خيرات كثيرة وأرزاق واسعة وذات مدارس وربط. عليها سور بالحجارة المهندسة حصينة جداً. شربهم من قني تسيح على وجه الأرض. ينسب إليها عبد الملك بن صالح الهاشمي المشهور بالبلاغة، قيل: لما قدم الرشيد منبج قال لعبد الملك: أهذا منزلك؟ قال: هو لك يا أمير المؤمنين ولي بك! قال: كيف صفتها؟ قال: طيبة الهواء قليلة الادواء! قال: كيف ليلها؟ قال: كله سحر! قال: صدقت إنها طيبة! قال: طابت بك يا أمير المؤمنين! وأين تذهب بها عين الطيب برها حمراء وسنبلها صفراء وشجراء، في فياف فيح بين قيصوم وشيح. فأعجب الرشيد كلامه. منف مدينة فرعون موسى، قيل: إنها أول مدينة عمرت بمصر بعد الطوفان، وهي المراد بقوله تعالى: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها. وهي بقرب الفسطاط. كان فيها أربعة أنهار تخلط مياهها في موضع سرير فرعون ولهذا قال: وهذه الأنهار تجري من تحتي! حكى من رأى منف قال: رأيت فيها دار فرعون ودرت في مجالسها ومشاربها وغرفها، فإذا جميع ذلك حجر واحد منقور، ما رأيت فيها مجمع حجرين ولا ملتقى صخرتين. وآثار هذه المدينة بمصر باقية وحجارة قصورها إلى الآن ظاهرة. قال ابن زولاق: سمعت بعض علماء مصر يقول: إن منف كانت ثلاثين ميلاً بيوتاً متصلة، وفيها قصر فرعون قطعة واحدة، وسقفه وفرشه وحيطانه حجر أخضر. وقال أيضاً: دخلت منف فرأيت عثمان بن صالح جالساً على باب كنيسة، فقال لي: أتدري ما هذا المكتوب على هذا الباب؟ قلت: لا! قال:

منية هشام

عليه مكتوب: لا تلوموني على صغرها فإني اشتريت كل ذراع بمائتي دينار لشدة العمارة. وقال أيضاً: على باب هذه الكنيسة وكر موسى، عليه السلام، القبطي فقضى عليه. ومن عجائبها كنيسة الأسقف وهي من عجائب الدنيا، لا يعرف طولها وعرضها مسقفة بحجر واحد. منية هشام قرية بأرض طبرية، حكى الثعالبي أن بها عيناً يجري ماؤها سبع سنين دائماً، ثم ينقطع سبع سنين هكذا على وجه الدهر، وانه مشهور عندهم. موتة قال الجيهاني: مؤتة من أعمال البلقاء من حدود الشام، أرضها لا تقبل اليهود ولا يتهيأ أن يدفنوا بها. ومن عجائبها أن لا تلد بها عذراء، فإذا قربت المرأة ولادتها خرجت منها، فإذا وضعت عادت إليها. والسيوف المشرفية منسوبة إليها لأنها من مشارف الشام؛ قال الشاعر: أبى الله للشّمّ الأنوف كأنّهم ... صوارم يجلوها بمؤتة صيقل مورجان من أعمال فارس. بها جبل فيه كهف يقطر الماء من سقفه، زعموا أن عليه طلسماً، إن دخل ذلك الكهف واحد خرج من الماء ما يكفيه، وإن خرج ألف خرج قدر حاجة الألف، والله الموفق.

المهدية

المهدية مدينة بافريقية بقرب القيروان، اختطها المهدي المتغلب على تلك البلاد في سنة ثلاثمائة. قيل: إنه كان يرتاد موضعاً يبني فيه مدينة حصينة، خوفاً من خارجي يخرج عليه، حتى ظفر بهذا الموضع. وكانت جزيرة متصلة بالبر كهيئة كف متصلة بزند، فوجد فيها راهباً في مغارة فسأله عن اسم الموضع فقال: هذه تسمى جزيرة الخلفاء. فأعجبه هذا الاسم فبنى بها بناء وجعلها دار مملكة، وحصنها بسور عال وأبواب حديد، وبنى بها قصراً عالياً. فلما فرغ من إحكامها قال: الآن آمنت على الفاطميات! يعني بناته. وحكي انه لما فرغ من البناء أمر رامياً أن يرمي سهماً إلى جهة المغرب، فرمى فانتهى إلى موضع المصلى فقال: إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار! يعني أبا يزيد الخارجي لأنه يركب حماراً. فقالوا: ان الأمر كان كما قال، وان أبا يزيد وصل إلى موضع السهم ووقف ساعة، ثم رجع ولم يظفر، ثم أمر بعمارة مدينة أخرى إلى جانب المهدية وجعل بين المدينتين طول ميدان، وأفردها بسور وأبواب وسماها زويلة، وأسكن أرباب الصناعات والتجارات فيها، وأمر أن تكون أموالهم بالمهدية وأهاليهم بزويلة. قال: إن أرادوني بكيد بزويلة فأموالهم عندي بالمهدية، وإن أرادوني بالمهدية خافوا على أهاليهم بزويلة، فإني آمن منهم ليلاً ونهاراً! وشرب أهلها من الصهاريج، ولهم ثلاثمائة وستون صهريجاً على عدة أيام السنة، يكفيهم كل يوم صهريج إلى تمام السنة ومجيء مطر العام المقبل. ومرساها منقورة في حجر صلد تسع مائتي مركب، وعلى طرف المرسى برجان بينهما سلسلة حديد إذا أريد إدخال سفينة أرسل الحراس أحد طرفي السلسلة لتدخل الخارجة ثم يمدها. ثم تناقصت حال ملوكها مع حصانة الموضع حتى استولى عليها الفرنج سنة

نابلس

ثلاث وأربعين وخمسمائة، وبقيت في يدهم اثنتي عشرة سنة حتى قدم عبد المؤمن افريقية سنة خمس وخمسين وخمسمائة واستعادها. وهي في يد بني عبد المؤمن إلى الآن. نابلس مدينة مشهورة بأرض فلسطين بين جبلين مستطيلة لا عرض لها، وبها اجتماع السامرة، وهم طائفة من اليهود، واليهود بعضهم يقول: انهم مبتدعة ملتنا! ومنهم من يقول: انهم كفار ملتنا! ذكر بعض مشايخ نابلس انه ظهر هناك تنين عظيم فتوسل الناس في هلاكه، وكان شيئاً هلائلاً له ناب عظيم، فعلقوا نابه هناك ليتعجب الناس من عظمها وليس باصطلاحهم التنين، فعرف الموضع بها وقيل نابلس. بظاهر المدينة مسجد يقولون: ان آدم، عليه السلام، سجد لربه هناك. وبها جبل يقول اليهود ان الخليل، عليه السلام، أمر بذبح ولده عليه، لأن في اعتقادهم أن الذبيح كان إسحق، عليه السلام. وبها عين تحت كهف تعظمه السامرة. وبها بيت عبادة للسامرة يسمى كزيرم. ناصرة قرية بقرب طبرية، قيل: اسم النصارى مشتق منها لأنهم كانوا من ناصرة. وأهلها عيروا مريم، عليها السلام، فهم قوم إلى هذه الغاية يعتقدون انه لا تلد بكر من غير زوج. من عجائبها شجرة الأترج، ثمرتها على هيئة النساء، لها ثديان وما يشبه اليدين والرجلين وموضع القبل مفتوح، وهذا أمر مشهور عندهم.

نفزاوة

نفزاوة مدينة بافريقية قرب القيروان؛ قال البكري: هي على نهر وهي كثيرة الأشجار والنخيل والثمار. وبها عين عجيبة لا يدرك قعرها البتة، ومنها يسير السائر إلى قسطنطينة في أرض لا يهتدى إلى الطريق فيها إلا بأخشاب منصوبة، فإن أخذ يميناً أو شمالاً غرق في أرض دهسة تشبه الصابون في الرطوبة وقد هلك؛ قالوا: في تلك الأرض جماعات وعساكر ممن دخلها ولم يعرف حالهم. وادي الرمل واد بأرض المغرب بعد بلاد الأندلس. قال صاحب عجائب الأخبار: لما ملك أبو ناشر ينعم سار نحو المغرب حتى انتهى إلى وادي الرمل، وأراد العبور فيه فلم يجد مجازاً لأنه رمل يجري كالماء، وسمع أن الرمل يسكن يوم السبت دون سائر الأيام، فأرسل نفراً من أصحابه يوم السبت وأمرهم أن يقطعوه ويقيموا بالجانب الآخر إلى السبت الآخر، فساروا يومهم ذلك ونجم الرمل عليهم بالليل قبل أن يقطعوه فغرقوا. فلما أيس من رجوعهم أمر بصنم ونصبه على حافة الوادي، وهو صورة رجل على فرس من نحاس، وكتب على جبهته: ليس ورائي مذهب فلا يتكلفن أحد المضي إلى الجانب الآخر. ثم انصرف؛ قال الشاعر: أبو ناشر الأنعام قد رام خطّةً ... علت فوق خطّات الملوك الأقادم إلى الجانب الغربيّ يهوي بجحفلٍ ... يجرّون أطراف القنا والصّوارم فلمّا دنا وادٍ خبيثٍ مسيله ... برملٍ تراه كالجبال الرّواكم أشار بتمثالٍ وخطّ مترجمٍ ... بأن ليس من بعدي مرورٌ لقاحم

وادي موسى

وادي موسى في قبلي بيت المقدس، واد طيب كثير الزيتون. نزل به موسى، عليه السلام، وعلم بقرب أجله فعمد إلى الحجر الذي يتفجر منه اثنتا عشرة عيناً، سمره في جبل هناك فخرجت منه اثنتا عشرة عيناً، وتفرقت إلى اثنتي عشرة قرية، كل قرية لسبط من الأسباط، ثم قبض موسى، عليه السلام، وبقي الحجر هناك. وذكر القاضي أبو الحسن علي بن يوسف انه رأى الحجر هناك، وانه في حجر رأس عنز، وانه ليس في جميع ذلك الجبل حجر يشبهه. وادي النمل بين جبرين وعسقلان. مر به سليمان، عليه السلام، يريد غزو الشام إذ نظر إلى كراديس النمل مثل السحاب، فأسمعته الريح كلام النملة تقول: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده! فأخذت النمل تدخل مساكنها والنملة تناديهم: الوحى الوحى! قد وافتكم الخيل! فصاح بها سليمان وأراها الخاتم، فجاءت خاضعة، فسألها سليمان عن قولها فقالت: يا نبي الله لما رأيت موكبك أمرت النمل بدخول مساكنها لئلا يحطمها جندك، فإني أدركت ملوكاً قبلك كانوا إذا ركبوا الخيل أفسدوا! فقال، عليه السلام: لست كأولئك، إني بعثت بالاصلاح! أخبريني كم عددكم وأين تسكنون وما تأكلون ومتى خلقتم؟ فقالت: يا نبي الله لو أمرت الجن والشياطين بحشر نمل الأرض لعجزوا عن ذلك لكثرتها، فما على وجه الأرض واد ولا جبل ولا غاية إلا وفي أكنافها مثل ما في سلطاني. ونأكل رزق ربنا ونشكره، وخلقنا قبل أبيك آدم بألفي عام. وإن النملة الواحدة منا لا تموت حتى تلد كراديس النمل، وليس على وجه الأرض ولا في بطنها حيوان أحرص من النمل، فإنها تجمع في صيفها ما يملأ

واقصة

بيتها وتظن أنها لا تشبع به. ولها تسبيح وتقديس تسأل بهما ربها أن يوسع الرزق على خلقه. فتعجب سليمان من كثرتها وهدايتها وعجائب صفاتها. واقصة منزل بطريق مكة. بها منارة من قرون الوحش وحوافرها. كان السلطان ملكشاه بن الب أرسلان السلجوقي خرج بنفسه يشيع الحاج في بعض سني ملكه، فلما رجع اصطاد من الوحوش شيئاً كثيراً، فبنى من قرونها وحوافرها منارة هناك كما فعله سابور، والمنارة باقية إلى الآن. ودان قال البكري: مدينة في جنوبي افريقية لها قلعة حصينة، وهي مشتملة على مدينتين فيهما قبيلتان من العرب: سهميون وحضرميون. تسمى مدينة السهميين لباك، ومدينة الحضرميين توصي، وبابهما واحد. وبين القبيلتين قتال، وبقربهم صنم من حجارة منصوب على ربوة يسمى كرزة، وحواليها قبائل البربر يستسقون بالصنم، ويقربون له القرابين إلى زماننا هذا. هجر مدينة كبيرة قاعدة بلاد البحرين، ذات خيرات كثيرة من النخل والرمان والتين والأترج والقطن. وبقلالها شبه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نبق الجنة، وكذلك قال، صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً. أراد بهما قلال هجر سعتهما خمسمائة رطل. من عجائبها: من سكنها عظم طحاله.

هراة

هراة مدينة بفارس قرب إصطخر، كثيرة البساتين والخيرات؛ قالوا: ان نساءها يغتلمن إذا زهرت الغبيراء كما تغتلم السنانير. هنديجان من قرى خوزستان. يتبرك بها المجوس ويعظمونها، وبنو بها بيوت النار؛ قال مسعر بن مهلهل: سببه ان الهند غزت الفرس، فالتقى الجمعان بهذا المكان وكان الظفر للفرس وهزمتهم هزيمة قبية، فتبركوا بهذا الموضع. والآن بها آثار عجيبة وأبنية عادية. وتثار منها الدفائن كما تثار من أرض مصر. هنديان قرية بأرض فارس بين جبلين. بها بئر يعلو منها دخان لا يتهيأ لأحد أن يقربها، وإذا طار طائر فوقها سقط محترقاً. هيت بليدة طيبة على الفرات ذات أشجار ونخيل وخيرات كثيرة، وطيب الهواء والتربة وعذوبة الماء ورياض مؤنقة؛ قال أبو عبد الله السنبسي شاعر سيف الدولة: فمن لي بهيت وأبياتها ... فأنظر رستاقها والقصورا؟ فيا حبّذا تيك من بلدةٍ ... ومنبتها الرّوض غضّاً نضيرا وبرد ثراها إذا قابلت ... رياح السّمائم فيها الهجيرا أحنّ إليها على نأيها ... وأصبر عن ذاك قلباً ذكورا حنين نواعيرها في الدّجى ... إذا قابلت بالضّجيج السّكورا ولو أنّ ما بي بأعوادها ... منوطٌ لأعجزها أن تدورا

يابسة

يابسة جزيرة طويلة في البحر المتوسط الشامي، طولها خمسة وأربعون ميلاً، وعرضها خمسة عشر ميلاً. بها مدن وقرى والغالب عليها الجبال. وفيها شجر الصنوبر. وليس بها شيء من السباع لا صغيرها ولا كبيرها إلا القط البري، ولا حية ولا عقرب. وذكر أهلها انه إن حمل إليها سبع أو حية أو عقرب لم يلبث إلا ريثما يستنشق هواءها يفوت على المقام. وانها جزيرة كثيرة الفواكه والأعناب وزبيبها في غاية الحسن. وبها حجل كثير يفرخ في جبالها، وفراخ البزاة الجيدة والنخل بها كثير جداً. ياقد قرية من أعمال حلب. كانت بها امرأة تزعم أن الوحي يأتيها، وآمن بها أبوها وكان يقول في أيمانه: وحق بنتي النبية، فهزأ أبو سنان الخفاجي بها وقال: بحياة زينب يا ابن عبد الواحد ... وبحقّ كلّ نبيّةٍ في ياقد ما صار عندك روشن بن محسّنٍ ... فيما يقول الناس أعدل شاهد نسخ التّغافل عنه خلط عمارةٍ ... وافاه في هذا الزّمان البارد يزد مدينة بأرض فارس آهلة كثيرة الخيرات والغلات والثمرات. بها صناع الحرير السندس في غاية الحسن والصفاقة، يحمل منها إلى سائر البلاد. والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

الاقليم الرابع

الاقليم الرابع أوله حيث يكون الظل إذا استوى الليل والنهار نصف النهار أربعة أقدام وثلاثة أخماس قدم وثلث خمس قدم، وآخره حيث يكون الظل نصف النهار عند الاستواء خمسة أقدام وثلاثة أخماس قدم وثلث خمس قدم. يبتديء من أرض الصين والتبت والختن وما بينهما، ويمر على جبال قشمير وبلور وأرجان وبذخشان وكابل وغور وخراسان وقومس وجرجان وطبرستان وقوهستان وآذربيجان، وأدنى العراق والجزيرة ورودس وصقلية إلى البحر المحيط من الأندلس. وطول نهار هؤلاء في أول الإقليم أربع عشرة ساعة وربع، وأوسطه أربع عشرة ساعة ونصف، وآخره أربع عشرة ساعة ونصف وربع ساعة. وطوله من المشرق إلى المغرب ثمانية آلاف ومائتان وأربعة عشر ميلاً وأربع عشرة دقيقة، وعرضه مائتا ميل وتسعة وتسعون ميلاً وأربع دقائق، وتكسيره ألفا ألف وأربعمائة ألف وثلاثة وسبعون ألفاً وستمائة واثنان وسبعون ميلاً واثنتان وعشرون دقيقة. ولنذكر بعض ما فيه من المدن والقرى مرتبة على حروف المعجم، والله المستعان وعليه التكلان: آبه بليدة بقرب ساوة طيبة إلا أن أهلها شيعة غالية جداً، وبينهم وبين أهل ساوة منافرة لأن أهل ساوة كلهم سنية وأهل آبه كلهم شيعة، قال القاضي أبو نصر الميمندي:

آذربيجان

وقائلةٍ: أتبغض أهل آبه ... وهم أعلام نظمٍ والكتابه؟ فقلت: إليك عني إنّ مثلي ... يعادي كلّ من عادى الصّحابه بينها وبين ساوة نهر عظيم سيما وقت الربيع. بنى عليه أتابك شيركير، رحمه الله قنطرة عجيبة، وهي سبعون طاقاً ليس على وجه الأرض مثلها. ومن هذه القنطرة إلى ساوة أرض طينها الأزب، يمتنع على السابلة المرور عليها عند وقع المطر عليها، فاتخذ عليها أتابك جادة من الحجارة المفروشة مقدار فرسخين لتمشي عليها السابلة من غير تعب. آذربيجان ناحية واسعة بين قهستان واران. بها مدن كثيرة وقرى وجبال وأنهار كثيرة. بها جبل سبلان؛ قال أبو حامد الأندلسي: انه جبل بآذربيجان بقرب مدينة أردبيل من أعلى جبال الدنيا. روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انه قال: من قرأ: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، إلى قوله تخرجون، كتب له من الحسنات بعدد كل ورقة ثلج تسقط على جبل سبلان! قيل: وما سبلان يا رسول الله؟ قال: جبل بين أرمينية وآذربيجان، عليه عين من عيون الجنة، وفيه قبر من قبور الأنبياء. وقال أيضاً: على رأس الجبل عين عظيمة ماؤها جامد لشدة البرد، وحول الجبل عيون حارة يقصدها المرضى، وفي حضيض الجبل أشجار كبيرة وبينها حشيشة لا يقربها شيء من البهائم، فإذا قرب شيء منها هرب، وإن أكل منها مات. وفي سفح الجبل قرية اجتمعت بقاضيها أبي الفرج بن عبد الرحمن الأردبيلي قال: ما هي إلا قرية يحميها الجن! وذكر أنهم بنوا مسجداً في القرية فاحتاجوا إلى قواعد لأعمدة المسجد، فأصبحوا وعلى باب المسجد قواعد من الصخر المنحوت أحسن ما يكون.

وبها نهر الرس، وهو نهر عظيم شديد جري الماء. وفي أرضه حجارة كبيرة لا تجري السفن فيه، وله أجراف هائلة وحجارة كبيرة. زعموا أن من عبر نهر الرس ماشياً إذا مسح برجله ظهر امرأة عسرت ولادتها وضعت، وكان بقزوين شيخ تركماني يقال له الخليل يفعل ذلك وكان يفيد. حكى ديسم بن إبراهيم صاحب اذربيجان قال: كنت أجتاز على قنطرة الرس مع عسكري، فلما صرت في وسط القنطرة رأيت امرأة حاملة صبياً في قماط، فرمحها بغل محمل طرحها وسقط الطفل من يدها في الماء، فوصل إلى الماء بعد زمان طويل لطول مسافة ما بين القنطرة وسطح الماء، فغاص وطفا بعد زمان يسير وجرى به الماء، وسلم من الحجارة التي في النهر. وكان للعقبان أوكار في اجراف النهر، فحين طفا الطفل رآه عقاب فانقض عليه وشبك مخالبه في قماطه، وخرج به إلى الصحراء، فأمرت جماعة أني ركضوا نحو العقاب ومشيت أيضاً، فإذا العقاب وقع على الأرض واشتغل بخرق القماط، فأدركه القوم وصاحوا به، فطار وترك الصبي، فلحقناه فإذا هو سالم يبكي فرددناه إلى أمه. وبها نهر زكوير بقرب مرند لا يخوضه الفارس، فإذا وصل إلى قرب مرند يغور ولا يبقى له أثر، ويجري تحت الأرض قدر أربعة فراسخ ثم يظهر على وجه الأرض، أخبر به الشريف محمد بن ذي العقار العلوي المرندي. وبها نهر ذكر محمد بن زكرياء الرازي عن الجيهاني، صاحب المسالك المشرقية، ان باذربيجان نهراً ماؤه يجري فيستحجر ويصير صفائح حجر! وقال صاحب تحفة الغرائب: باذربيجان نهر ينعقد ماؤه صخراً صلداً كبيراً وصغيراً. وبها عين؛ قال صاحب تحفة الغرائب: باذربيجان عين يجري الماء عنها وينعقد حجراً، والناس يملأون قالب اللبن من ذلك الماء ثم يتركونه يسيراً، فالماء في القالب يصير لبناً حجرياً.

آرشت وناشقين

آرشت وناشقين ضيعتان من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها. من عجائبهما أن الحديد ينطبع بآرشت ولا ينطبع بناشقين، ولو أوقدوا عليه ما أوقدوا، وقدر الصباغ يستوي بناشقين ولا يستوي بارشت، ولو أوقدوا تحتها ما أوقدوا، فلا يكون بآرشت صباغ ولا بناشين حداد أصلاً. وإذا تحول أحد الصانعين إلى الموضع الآخر لم ينجع عمله، وهذا شيء مشهور يعرفه أهل تلك البلاد. آمل مدينة بطبرستان مشهورة. حدثني الأمير أبو المؤيد حسام الدين بن النعمان أنه إذا دخلها شيء من الضائنة، وإن كانت من أسمن ما يكون، تهزل بها جداً بهزل لا يقال إلى هزال المعز. وذكر أنه أخبر بذلك فأمر أن يساق عدة رؤوس من الضائنة. قال: رأيتها بعد ستة أشهر عظاماً مغشية بجلود، وبقيت الألايا كالأذناب. أبلة كورة بالبصرة طيبة جداً، نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار متدفقة الأنهار، مؤنقة الرياض والأزهار، لا تقع الشمس على كثير من أراضيها، ولا تبين القرى من خلال أشجارها. قالوا: جنان الدنيا أربع: أبلة البصرة، وغوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوان. والأبلة جانبان: شرقي وغربي، أما الشرقي فيعرف بشاطيء عثمان قديماً وهو عثمان بن ابان بن عثمان بن عفان، وهو العامر الآن بها الأشجار والأنهار والقرى والبساتين وهو على دجلة. وأنهارها مأخوذة من دجلة. وبها أنواع الأشجار وأجناس الحبوب وأصناف الثمار، لا تكاد تبين قراها

أبهر

في وسطها من التفاف الأشجار. وبها مشهد كان مسلحة لعمر بن الخطاب، وكانت بها شجرة سدر عظيمة كل غصن منها كنخلة ودورة ساقها سبعة أذرع، والناس يأخذون قشرها ويتبخرون به لدفع الحمى، وكان ينجع وذكروا انه قلما يخطيء. فلما ولي بابكين البصرة أشاروا إليه بقطعها لمصلحة، وكان قد ولي البصرة مدة طويلة وحسنت سيرتهم، وكان هو في نفسه رجلاً خيراً، فلما قطعها أنكر الناس فعزل عن قريب عن البصرة. وأما الجانب الغربي من الابلة فخراب، غير ان فيه مشهداً يعرف بمشهد العشار وهو مشرف على دجلة، وهو موضع شريف قد اشتهر بين الناس ان الدعاء فيه مستجاب. وكان في قديم الزمان بهذا الجانب بنيان مشرف على دجلة وبساتين وقصور في وسطها، وكان الماء يجري في دورها وقصورها وقد امتحقت الآن آثارها، فسبحان من لا يعتريه التغير والزوال! أبهر مدينة بأرض الجبال كثيرة المياه والأشجار، بناها سابور ذو الأكتاف. قالوا: كانت عيوناً كلها فسدها سابور بالصوف والجلود، وبنى المدينة عليها، وهي في غاية النزاهة من طيب الهواء وكثرة المياه والبساتين، وخارجها أطيب من داخلها. بها بساتين يقال لها بهاء الدين اباد، لم ير أكبر منها طولاً وعرضاً. وهي عامة ينزل فيها القفل والعساكر لا يمنع أحد منها. ولها قهندز يتحصن بها من خالف صاحب البلاد فبطلوها، والآن قالوا يأوي إليها السباع لا يجسر أحد أن يأتيها. بها عين كل نصل يسقى من مائها يبقى حاداً قطاعاً جداً. والمدينة كلها مشتملة على طواحين تدور على الماء، وأكثر ثمارها العنب والجوز ونوع من الكمثرى مدورة في حجم النارنج، يقال لها العباسي، لذيذة جداً ما في البلاد شيء

مثلها، وعندهم من ذلك كثير جداً، يحملونها إلى البلاد للبيع ويعلقونها حتى يأكلوها طول شتائهم يتفكهون بها. وأهلها أحسن الناس صورة كلهم أهل السنة، لا يوجد فيهم إلا كذلك. وفيهم أدباء وفضلاء، ولهم اجتماع كلمة على دفع ظلم الولاة، لا يغلبم وال، أي وقت رأوا منه خلاف عادة قاموا كلهم قيام رجل واحد لدفعه. ينسب إليها الشيخ أبو بكر الطاهري كان من الابدال، معاصر الشبلي. وله بأبهر رباط ينسب إليه، وفي رباطه سرداب يدخل فيه كل جمعة، ويخرج بأرض دمشق ويصلي الجمعة بجامع دمشق، وهذا حديث مشهور عندهم. وذكروا أن رجلاً تبعه ذات يوم فإذا هو بأرض لم يرها أبداً، والناس مجتمعون لصلاة الجمعة، فسأل بعضهم عن ذلك الموضع فضحك وقال: أنت في دمشق وتسأل عنها! فقام طالع المدينة فلما عاد لم يجد الشيخ هناك، فجعل ينادي ويقول للناس ما جرى له، فلا يصدقه أحد إلا رجل صالح قال له: دع عنك هذا الجزع، وانتظره يوم الجمعة المستقبلة، فإذا حضر الشيخ ارجع معه! فلما حضر الشيخ في الجمعة الأخرى تمسك بذيله فقال له: لا تذكر هذا لأحد وأنا آخذك معي! ثم أخذه معه وعاد به إلى مكانه، وهذه حكاية مشهورة عنه بأبهر. وتنسب إليها سكينة الابهرية، كانت في زمن الشيخ أبي بكر. وينسب إليها الوزير الفاضل الكامل أبو عمرو، الملقب بكمال الدين، كان حاله شبيهاً بحال إبراهيم بن أدهم، وكان وزيراً بقزوين، وكان رجلاً لطيفاً فطناً شاعراً بالعربية والعجمية، محباً لأهل الخير في زمان وزارته. فإذا في بعض الأيام ركب في موكبه ومماليكه وحواشيه، فلما خرج عن المدينة قال لمماليكه: أنتم أحرار لوجه الله! ونزل عن الدابة ولبس اللباد وذهب إلى بيت المقدس، وكان يحمل الحطب على ظهره، ثم عاد إلى الشام، وكان بها إلى أن توفي في سنة تسعين وخمسمائة.

أبيورد

أبيورد مدينة بخراسان بقرب سرخس، بناها باورد بن جودرز، وانها مدينة وبيئة رديئة الماء، من شرب من مائها يحدث به العرق المديني، أما الغريب فلا يفوته البتة، وأما المقيم ففي أكثر أوقاته مبتلى به. ينسب إليها أبو علي الفضيل بن غياض، كان أول أمره يقطع الطريق بين سرخس وأبيورد حتى كان في بعض الربط في بعض الليالي وفي الرباط قفل، فيقول بعضهم: قوموا لنرحل! فيقول البعض الآخر: اصبروا فإن الفضيل في الطريق، فقال لنفسه: أنت غافل والناس يفزعون منك، أعود بالله من هذه الحالة! فتاب وذهب إلى مكة وأقام بها إلى أن مات. وحدث سفيان بن عيينة: لما حج الرشيد ذهب إلى زيارة الفضيل ليلاً، فلما دخل عليه قال لي: يا سفيان أيهم أمير المؤمنين؟ فأومأت إليه وقلت: هذا! فقال: أنت الذي تقلدت أمر هذا الخلق بأحسن الوجه، لقد تقلدت أمراً عظيماً! فبكى الرشيد وأمر له بألف دينار فأبى أن يقبلها، فقال: أبا علي ان لم تستحلها فأعطها ذا دين واشبع بها جائعاً واكس بها عارياً! فأبى، فلما خرج الرشيد قلت له: أخطأت، لو أخذت وصرفت في شيء من أبواب البر! فأخذ بلحيتي وقال: أبا محمد، أنت فقيه البلد وتغلط مثل هذا الغلط؟ لو طابت لأولئك لطابت لي! وحكي أن الفضيل رؤي يوم عرفة على عرفات يبكي إلى آخر النهار ثم أخذ بلحيته وقال: واخجلتاه وإن غفرت! ومضى. وحكي انه كان في جبل من جبال منى فقال: لو أن ولياً من أولياء الله أمر هذا الجبل أن يمتد لامتد! فتحرك الجبل فقال الفضيل: اسكن لم أردك لهذا! فسكن الجبل. ولد الفضيل بسمرقند، ونشأ بأبيورد، ومات بمكة سنة سبع وثمانين ومائة.

إربل

إربل مدينة بين الزابين، لها قلعة حصينة لم يظفر بها التتر، مع أنهم ما فاتهم شيء من القلاع والحصون، بها مسجد يسمى مسجد الكف، فيه حجر عليه أثر كف إنسان، ولأهل إربل فيه أقاويل كثيرة ولا ريب انه شيء عجيب. ينسب إليها الملك مظفر الدين كوكوبري بن زين الدين علي الصغير. كان ملكاً شجاعاً جواداً غازياً، له نكايات في الفرنج يتحدث الناس بها، وكان معتقداً في أهل التصوف، بنى لهم رباطاً لم يزل فيه مائتا صوفي، شغلهم الأكل والرقص في كل ليلة جمعة. وكل من جاءه من أهل التصوف آواه وأحسن إليه، وإذا أراد السفر أعطاه ديناراً. ومن أتاه من أهل العلم والخير والصلاح أعطاه على قدر رتبته. وفي العاشر من ربيع الأول كان له دعوات وضيافات، وفي هذا الوقت يجتمع عنده خلق كثير من الأطراف. وفي اليوم الثاني عشر مولد النبي، عليه السلام، كان له دعوة عظيمة يحضرها جميع الحاضرين ويرجع كل واحد بخير. وكان يبعث إلى الفرنج أموالاً عظيمة يشترى بها الأسارى. عمر عمراً طويلاً ومات سنة تسع وعشرين وستمائة. اردبهشتك قرية من قرى قزوين على ثلاثة فراسخ منها. من عجائبها عين ماء من شرب منها انطلق انطلاقاً عظيماً، ويقصدها الناس من الأطراف في فصل الربيع لتنقية الباطن، وبينها وبين قزوين نهر إذا جاوزوا بمائها ذلك النهر تبطل خاصيته، وقد حمل من ذلك الماء إلى قزوين في جرار واستعمل ولم يعمل شيئاً. ومن خاصية هذا الماء ان أحداً يقدر أن يشرب منه خمسة أرطال أو ستة بخلاف غيره.

أردبيل

أردبيل مدينة بآذربيجان حصينة طيبة التربة، عذبة الماء، لطيفة الهواء، في ظاهرها وباطنها أنهار كثية، ومع ذلك فليس بها شيء من الأشجار التي لها فاكهة. والمدينة في فضاء فسيح وأحاط بجميع ذلك الفضاء الجبال بينها وبين المدينة من كل صوب مسيرة يوم. ومن عجائبها أنه إذا غرس في ذلك الفضاء لا يفلح الغرس، وذلك لأمر خفي لا اطلاع عليه. بناها فيروز الملك وهي من البحر على يومين بينهما دخلة شعراء عظيمة، كثيرة الشجر جداً يقطعون منها الخشب الذي منه الأطباق وقصاع الخلنج. وفي المدينة صناع كثير لإصلاحها. ومن عجائبها ما ذكره أبو حامد الأندلسي قال: رأيت خارج المدينة في ميدانها حجراً كبيراً كأنه معمول من حديد أكبر من مائتي رطل، إذا احتاج أهل المدينة إلى المطر حملوا ذلك الحجر على عجلة ونقلوه إلى داخل المدينة، فينزل المطر ما دام الحجر فيها، فإذا أخرج منها سكن المطر. والفأر بها كثير جداً بخلاف سائر البلاد، وللسنانير بها عزة ولها سوق تباع فيه ينادون عليها انها سنورة صيادة مؤدبة لا هرابة ولا سراقة، ولها تجار وباعة ودلالون، ولها راضة وناس يعرفون. قال سندي بن شاهك وهو من الحكماء المشهورين: ما أعناني سوقة كما أعناني أصحاب السنانير، يعمدون إلى سنور يأكل الفراخ والحمام، ويكسر قفص القماري والحجل والوراشين، ويجعلونه في بستوقة يشدون رأسها ثم يدحرجونها على الأرض حتى يأخذه الدوار، فيجعلونه في القفص مع الفراخ، فيشغله الدوار عن الفراخ. فإذا رآه المشتري رأى عجيباً وظن انه ظفر بحاجته، فيشتريه بثمن جيد، فإذا مضى به إلى البيت وزال دواره يبقى شيطاناً يأكل جميع طيوره وطيور جيرانه، ولا يترك في البيت شيئاً إلا سرق وأفسد وكسر

أرسلان كشاد

فيلقى منه التباريح. وأهل أردبيل مشهورون بكثرة الأكل؛ حكى بعض التجار قال: رأيت بها راكباً وقدامه طبول وبوقات، سألت عن شأنه فقالوا: إنه تراهن على أكل تسعة أرطال أرز ورأس بقر، وقد فعل، ورطل أردبيل ألف وأربعون درهماً، وأرزهم إذا طبخ يصير ثلاثة أضعاف، فإنه قد غلب. أرسلان كشاد قلعة كانت على فرسخين من قزوين على قلة جبل. ذكر أن الإسماعيلية في سنة خمس وتسعين وخمسمائة جاؤوا بالآلات على ظهر الدواب إليها في ليلة، فلما أصبح أهل قزوين سدت مسالكها فصعب عليهم ذلك، فشكوا إلى ملوك الأطراف فما أفادهم ذلك شيئاً حتى قال الشيخ علي اليوناني، وكان صاحب كرامات وعجائب: أنا أكشف عنكم هذه الغمة! فكتب إلى خوارزمشاه تكش بن ايل ارسلان بن اتسز: بعلامة انك كنت في ليلة كذا وكذا، كنت وحدك تفكر في كذا وكذا، انهض لدفع هذا الشر عن أهل قزوين، وإلا لتصابن في ملكك ونفسك! فلما قرأ خوارزمشاه كتابه قال: هذا سر ما اطلع عليه غير الله! فجاء بعساكره وحاصر القلعة وأخذها صلحاً، وشحنها بالسلاح والرجال وسلمها إلى المسلمين وعاد. وكانت الباطنية قد نقبوا طريقاً من القلعة إلى خارجها وأخفوا بابها، فدخلوا من ذلك النقب ليلاً، فلما أصبحوا كانت القلعة تموج من الرجال الباطنية، فقتلوا المسلمين وملكوا القلعة، فبعث الشيخ إلى خوارزمشاه مرة أخرى، فجاء بنفسه وحاصرها بعساكره وأهل قزوين شهرين، والباطنية عرفوا أن السلطان لا يرجع دون العرض، فاختاروا تسليمها على أمان من فيها، فأجابهم السلطان إلى ذلك. قالوا: نحن ننزل عن القلعة دفعتين، فإن لم تتعرضوا للفرقة الأولى تنزل الثانية والقلعة لكم، وإن تعرضتم للفرقة الأولى فالفرقة الثانية تمنعكم عن القلعة.

أرمية

فلما نزلوا خدموا للسلطان وذهبوا كلهم، فانتظر المسلمون نزول الفرقة الثانية فما كان فيها أحد نزلوا كلهم دفعة، فأمر السلطان بتخريبها وابطال حصانتها، وهي كذلك إلى زماننا هذا، والله الموفق. أرمية بلدة حصينة بآذربيجان كثيرة الثمرات واسعة الخيرات، بقربها بحيرة يقال لها بحيرة أرمية، وهي بحيرة كريهة الرائحة لا سمك فيها. وفي وسط البحيرة جزيرة بها قرى وجبال وقلعة حصينة، حولها رساتيق لها مزارع، واستدارة البحيرة خمسون فرسخاً يخرج منها ملح يجلو شبه التوتيا، وعلى ساحلها مما يلي الشرق عليون ينبع الماء منها، وإذا أصابه الهواء يستحجر. ومن عجائبها ما ذكر صاحب تحفة الغرائب: ان في بطائح بحر ارمية سمكة تتخذ من دهنها ومن الموم شمعة، وتنصب على طرف سفينة فارغة تخلى على وجه الماء، فإن السمك يأتي بنور ذلك الشمع، ويرمي نفسه في السفينة حتى تمتليء السفينة من السمك، ولتكن سفينة مقعرة حتى لا يفلت السمك منها. أستوناوند قلعة مشهورة بدنباوند من أعمال الري. وهي من القلاع القديمة والحصون الحصينة، عمرت منذ ثلاثة آلاف سنة لم يعرف انها أخذت قهراً إلى أن تحصن بها ابن خوارزمشاه ركن الدين غورسايحي عند ورود التتر، سنة ثماني عشرة وستمائة، وقد عرض عليه استوناوند وأردهن فترجح استوناوند في نظره مع حصانة أردهن. قالوا: لو كان على اردهن رجل واحد لم تؤخذ منه قهراً أبداً إلا إذا أعوزته الميرة، فتحصن بها فعلم التتر به ونزلوا عليها، وجمعوا حطباً كثيراً جعلوه حولها ثم أضرموا في النار، فانصدع صخرها وتفتت وزالت حصانتها ثم صعدوا، وابن خوارزمشاه قاتل حتى قتل.

أسفجين

أسفجين قرية من قرى همذان من ناحية يقال لها ونجر بها منارة الحوافر، وهي منارة عالية من حوافر حمر الوحش، حكى أحمد بن محمد بن إسحق الهمذاني أن شابور بن أردشير الملك حكم منجموه انه يزول الملك عنه ويشقى، ثم يعود إليه، فقال لهم: ما علامة عود الملك؟ قالوا: إذا أكلت خبزاً من الذهب على مائدة من الحديد! فلما ذهب ملكه خرج وحده تخفضه أرض وترفعه أخرى، إلى أن صار إلى هذه القرية فأجر نفسه من شيخ القرية يزرع له نهاراً ويطرد الوحش عن الزرع ليلاً، فبقي على ذلك مدة وكانت نفسه نفس الملوك، فرأى شيخ القرية منه أمانة وجلادة فزوج بنته منه، فلما تم على ذلك أربع سنين وانقضت أيام بؤسه اتفق ان كان في القرية عرس اجتمع فيه رجالهم ونساؤهم، وكانت امرأة شابور تحمل إليه كل يوم طعامه، فكانت في ذلك اليوم اشتغلت عنه إلى ما بعد العصر. فلما ذكرت عادت إلى بيتها فما وجدت إلا قرصين من الدخن، فحملتهما إليه فوجدته يسقي الزرع وبينها وبينه ساقية. فمد المسحاة إليها فجعلت القرصين عليها، فقعد يأكلهما فتذكر قول المنجمين: أكل خبز الذهب على مائدة الحديد. فعرف أن أيام البؤس انقضت، فظهر للناس واجتمع عليه العساكر وعاد إلى ملكه. فقالوا: ما أشد شيء عليك في أيام البؤس؟ قال: طرد الوحوش عن الزرع بالليل! فصادوا في ذلك الموضع من حمر الوحش ما لا يحصى، وأمر أن يبنى من حوافرها منارة، فبنوا منارة ارتفاعها خمسون ذراعاً ودورتها ثلاثون مصمتة بالكلس والحجارة، وحوافر الوحش حولها مسمرة بالمسامير، والمنارة مشهورة في هذا الموضع إلى زماننا.

أسفرايين

أسفرايين بلدة بأرض خراسان مشهورة، أهلها أهل الخير والصلاح. من مفاخرها أبو الفتوح محمد بن الفضل الاسفراييني. كان إماماً فاضلاً عالماً زاهداً أسرع الناس عند السؤال جواباً، وأسكتهم عند الايراد خطاباً، مع صحة العقيدة والخصال الحميدة، وقلة الالتفات إلى الدنيا وذويها. سكن بغداد مدة فلما اعتزم العود إلى خراسان شكا إليه أصحابه من مفارقته فقال: لعل الله أراد أن تكون تربتي في جوار رجل صالح! فلما وصل إلى بسطام فارق الدنيا ودفن بجنب الشيخ أبي يزيد البسطامي. وحكى شيخ الصوفية ببسطام وهو عيسى بن عيسى قال: رأيت أبا يزيد في النوم يقول: يصل إلينا ضيف فأكرموه! فوصل في تلك الأيام الشيخ أبو الفتح وفارق الدنيا. وكنت جعلت لنفسي موضعاً عند تربة الشيخ أبي يزيد، فآثرت الشيخ أبا الفتح به، ودفنته بجنب أبي يزيد. اشتروين ضيعة كبيرة من ضياع قزوين على مرحلتين منها. انها كانت قرية غناء كثيرة الخيرات وافرة الغلات. نزل بها الشيخ نور الدين محمد بن خالد الجيلي، وكان رجلاً عظيم الشأن صاحب الآيات والكرامات، اتخذها وطناً وتزوج بها فحلت بها البركة، وصارت أعمر مما كانت وأوفر ريعاً وأكثر أهلاً. وكان الشيخ يزرع بها شيئاً يسيراً فيحصل منه ريع كثير يفي بنفقته أهله وضيافة زواره. وكان الشيخ كثير الزوار يقصده الناس من الأطراف. ومن العجب انه وقع بتلك الأرض في بعض السنين جراد ما ترك رطبها ولا يابسها، وما تعرضت لزرع الشيخ بسوء. وكانت تلك القرية محط الرحال ومحل البركة بوجود هذا الشيخ، إلى أن جهلت سفهاؤها نعم الله تعالى عليهم بجوار هذا الشيخ،

أصفهان

فقالوا: ان زروعنا تيبس بسبب زرع الشيخ لأن الماء يقصر عن زروعنا بسبب زرعه! فلما سمع الشيخ ذلك فارق تلك القرية وتحول بأهله إلى قزوين في سنة أربع عشرة وستمائة. فلما خرج الشيخ منها كانت كبيت نزع عماده وانهارت قبابها، وانقطع الماء الذي كانوا يبخلون به على الشيخ، فأخرج دهاقينها أموالاً كثيرة لعمارة القناة فما أفادهم شيئاً. وإلى الآن هي خراب. أصفهان مدينة عظيمة من أعلى المدن ومشاهيرها، جامعة لأشتات الأوصاف الحميدة من طيب التربة وصحة الهواء وعذوبة الماء، وصفاء الجو وصحة الأبدان، وحسن صورة أهلها وحذقهم في العلوم والصناعات حتى قالوا: كل شيء استقصى صناع أصفهان في تحسينها عجز عنها صناع جميع البلدان؛ قال الشاعر: لست آسى من أصفهان على شي ... ءٍ سوى مائها الرّحيق الزّلال ونسيم الصّبا ومنخرق الرّي ... ح وجوٍّ صافٍ على كلّ حال يبقى التفاح بها غضاً سنةً، والحنطة لا تتسوس بها، واللحم لا يتغير أياماً. المدينة القديمة تسمى جي؛ قالوا: إنها من بناء الإسكندر. والمدينة العظمى تسمى اليهودية، وذاك أن بختنصر أخذ أسارى بيت المقدس أهل الحرف والصناعات، فلما وصلوا إلى موضع أصفهان وجدوا ماءها وهواءها وتربتها شبيهة ببيت المقدس، فاختاروها للوطن وأقاموا بها وعمروها. وهي مدينة ترابها كحل وحشيشها زعفران وونيم ذبابها عسل. من عجائبها أمر تفاحها فإنها ما دامت في أصفهان لا يكون لها كثير رائحة، فإذا أخرجت منها فاحت رائحتها حتى لو كانت تفاحة في قفل لا يبقى في القفل أحد إلا يحس برائحتها. وبها نوع من الكمثرى يقال له ملجي ليس في شيء من البلاد مثله. وإذا وصلوا شجرة الكمثرى بشجرة الخلاف تأتي بثمر لذيذ جداً.

ولصناعها يد باسطة في تدقيق الصناعات، لا ترى خطوطاً كخطوط أهل أصفهان ولا تزويقاً كتزويقهم، وهكذا صناعهم في كل فن فاقوا جميع الصناع، حتى ان نساجها ينسج خماراً من القطن أربعة أذرع وزنها أربعة مثاقيل. والفخار يعمل كوزاً وزنه أربعة مثاقيل يسع ثمانية أرطال ماء، وقس على هذا جميع صناعاتهم. وأما أرباب العلوم كالفقهاء والأدباء والمنجمين والأطباء فأكثر من أهل كل مدينة، سيما فحول الشعراء أصحاب الدواوين، فاقوا غيرهم بلطافة الكلام وحسن المعاني وعجيب التشبيه وبديع الاقتراح، مثل رفيع فارسي دبير وكمال زياد وشرف شفروه وعز شفروه وجمال عبد الرزاق وكمال إسماعيل ويمن مكي. فهؤلاء أصحاب الدواوين الكبار لا نظير لهم في غير أصفهان. وينسب إليها الأديب الفاضل أبو الفرج الأصفهاني، صاحب كتاب الأغاني، ذكر في ذلك أخبار العرب وعجائبها وأحسن أشعارهم. كتاب في غاية الحسن كثير الفوائد لم يسبقه في ذلك أحد. وينسب إليها الأستاذ أبو بكر بن فورك، كان أشعرياً لا تأخذه في الله لومة لائم، درس ببغداد مدة. وكان جامعاً لأنواع العلوم، صنف أكثر من مائة مجلد في الفقه والتفسير وأصول الدين. ثم ورد نيسابور فبنوا له داراً ومدرسة؛ قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: حكى أبو بكر بن فورك قال: حملت إلى شيراز مقيداً لفتنة في الدين، فوافينا البلد ليلاً فلما أسفر النهار ورأيت في مسجد على محرابه مكتوباً: أليس الله بكاف عبده؟ فعلمت أن الأمر سهل وطبت به نفساً، وكان الأمر كذلك، ثم دعي إلى غزنة وجرت له بها مناظرات مع الكرامية. فلما عاد سم في الطريق ودرج ودفن بنيسابور، ومشهده ظاهر بها يستسقى به ويجاب الدعاء فيه. وينسب إليها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، واحد عصره وفريد دهره. هو صاحب حلية الأولياء، وله تصانيف كثيرة، وله كرامات: حكي أن أهل

أصفهان تعصبوا عليه ومنعوه من الجامع، فبعث السلطان محمود إليهم والياً فوثبوا إليه وقتلوه، فذهب السلطان إليهم بنفسه وآمنهم حتى اطمأنوا ثم قصدهم يوم الجمعة، وأخذ أبواب الجامع وقتل فيهم مقتلة عظيمة. فمن كان في الجامع قتل والحافظ أبو نعيم كان ممنوعاً من الجامع فسلم. وينسب إليها صدر الدين عبد اللطيف الخجندي. كان رئيساً مطاعاً في أصفهان عالماً واعظاً شاعراً، يهابه السلاطين ويتبعه مائة ألف مسلح: محمد بن ايلدكز أتابك السلجوقية أخذه معه لا يخليه يرجع إلى أصفهان مدة مديدة، لأنه ما أراد أن يقبض عليه ظاهراً، ولا أن يخليه لأنه يخاف شره، فكان يستصحبه فاتخذ يوماً مجلس الوعظ وأتابك حاضر في ملجس وعظه، وله ابنان صغيران واقفان بين يديه، فصدر الدين شاهد ذلك على المنبر فاتخذ الفرصة وأنشد: شاه با بندكان جفا نكند ... وركند رحمتش رها نكند عدل خسرو كجا بديد آيد ... در جهان كركسي خطا نكند هر كرا طفلكان خرد بود ... بدر از طفلكان جدا نكند بكى أتابك بكاء شديداً، وكان ملكاً عادلاً رحيماً، رحمه الله. وتوفي صدر الدين في شوال سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة. ذكر أن أهل أصفهان موصوفون بالشح. نقل عن الصاحب أبي القاسم بن عباد، وزير مجد الدولة من آل بويه، انه كان يقول لأصحابه إذا أراد دخول أصفهان: من له حاجة فليسأل قبل دخول أصفهان، فإني إذا دخلتها وجدت في نفسي شحاً لم أجد في غيرها! حكى رجل أنه تصدق برغيف على ضرير بأصفهان فقال الضرير: أحسن الله غربتك! فقال الرجل: كيف عرفت غربتي؟ قال: لأني منذ ثلاثين سنة ما أعطاني أحد رغيفاً صحيحاً!

أفشنة

وحدث الأمير حسام الدين النعمان: أن البقر بأصفهان يقوى حتى لو حصل فيها أعجف ما يكون، بعد مدة يسيرة يبقى قوياً سميناً حتى يعصي ولا ينقاد. بها مسجد يسمى مسجد خوشينه. زعموا أن من حلف كاذباً في هذا المسجد تختل أعضاؤه، وهذا أمر مستفيض عند أهل أصفهان. بها نهر زرنروذ، وهو موصوف بعذوبة الماء ولطافته، يغسل الغزل الخشن بهذا الماء فيبقى ليناً ناعماً مثل الحرير، مخرجه من قرية يقال لها بناكان، ويجتمع إليه مياه كثيرة فيعظم أمره ويمتد، ويسقي بساتين أصفهان ورساتيقها، ثم يمر على مدينة أصفهان ويغور في رمال هناك. ويخرج بكرمان على ستين فرسخاً من الموضع الذي يغور فيه فيسقي مواضع بكرمان ثم يصب في بحر الهند. ذكر أنهم أخذوا قصبة وعلموها بعلائم وأرسلوها في الموضع الذي يغور فيه، فوجدوها بعينها بأرض كرمان، فاستدلوا بذلك على أنه نهر زرنروذ. أفشنة قرية من ناحية خرميثن من ضياع بخارى، قال أبو عبيد الجوزجاني: حدثني أستاذي أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا أن أباه كان من بلخ، انتقل إلى بخارى في زمن نوح بن نصر الساماني، وتصرف في الأعمال وتزوج بأفشنة فولدت بها، وطالعي السرطان والمشتري والزهرة فيه، والقمر وعطارد في السنبلة، والمريخ في العقرب، والشمس في الأسد، وكان المشتري في السرطان على درجة الشرف والشعرى مع الرأس على درجة الطالع، فكانت الكواكب كلها في الحظوظ؛ قال: فلما بلغت سن التمييز سلمني إلى معلم القرآن ثم إلى معلم الأدب، فكان كل شيء قرأه الصبيان على الأديب احفظه، والذي كلفني أستاذي كتاب الصفات وكتاب غريب المصنف، ثم أدب الكتاب ثم إصلاح المنطق ثم كتاب العين ثم شعر الحماسة ثم ديوان ابن الرومي، ثم تصريف المازني ثم نحو سيبويه، فحفظت تلك الكتب في سنة ونصف، ولولا تعويق الأستاذ

لحفظتها بدون ذلك، وهذا مع حفظي وظائف الصبيان في المكتب. فلما بلغت عشر سنين كانوا في بخارى يتعجبون مني، ثم شرعت في الفقه، فلما بلغت اثنتي عشرة سنة صرت أفتي في بخارى على مذهب أبي حنيفة، ثم شرعت في علم الطب وصنفت القانون وأنا ابن ست عشرة سنة، فمرض نوح بن نصر الساماني فجمعوا الأطباء لمعالجته فجمعوني أيضاً معهم، فرأوا معالجتي خيراً من معالجات كلهم، فصلح على يدي، فسألت أن يوصي لخازن كتبه أن يعيرني كل كتاب طلبت ففعل، فرأيت في خزانته كتب الحكمة من تصانيف أبي نصر بن طرخان الفارابي، فاشتغلت بتحصيل الحكمة ليلاً ونهاراً حتى حصلتها. فلما انتهى عمري إلى أربع وعشرين كنت أفكر في نفسي أنه لا شيء من العلوم لا أعرفه. إلى ههنا نقل الجوزجاني عن الشيخ الرئيس. وحكى غيره أن دولة السامانية لما انقرضت صارت مملكة ما وراء النهر لبني سبكتكين، فلما ولي السلطان محمود سعى الحساد إلى السلطان في حق أبي علي، فهرب من بخارى إلى خراسان واجتمع بصاحب نسا فإنه كان ملكاً حكيماً، فأكرمه فعرف أعداؤه السلطان أنه عند صاحب نسا؛ فقال لوزيره: اكتب إلى صاحب نسا ان ابعث إلينا رأس أبي علي! فكتب إلى صاحب نسا: ان كان أبو علي عندك فابعده سريعاً! وكتب بعد يوم على يد قاصد آخر ان ابعث إلينا رأس أبي علي. فلما وصل القاصد الأول أبعده، فلما وصل الثاني قال: إنه كان عندنا فمشى منذ مدة! فعزم أبو علي طبرستان خدمة شمس المعالي قابوس بن وشمكير، وكان ملكاً فاضلاً حكيماً، فلما ورد طبرستان كان قابوس محبوساً في قلعة، فأتى ارض الجبال مملكة آل بويه خائفاً، فورد همذان وقصد فصاداً يفصد الناس. فطلب يوماً لفصد امرأة فلما رآها قال: الفصد لا يصلح لها، وأبى. فطلبوا غيره فلما فصدها غشي عليها فقالوا لأبي علي: كنت أنت مصيباً فدبر أمرها. فوصف شيئاً من المقويات فصلحت، فتعجبوا من ذكائه وقالوا: إنه طبيب جيد. ومرضت امرأة من بنات الملوك وعجز الأطباء عن علاجها، فرآها أبو علي

الموت

وقال: مرضها العشق! فأنكرت المرأة. قال أبو علي: إن شئتم أعين لكم من تعشقه! اذكروا أسامي من يكون صالحاً لذلك، وأنا أجس نبضها! فلما ذكروا اسم معشوقها اضطرب نبضها وتغير حالها، فعرف ذلك منها. قالوا: فما علاجها؟ قال: ان العشق تمكن منها تمكناً شديداً، إن لم تزوجوها تتلف! فاشتهر عند أهل همذان انه طبيب جيد، حتى جاء ناس من بخارى خدموا لأبي علي خدمة الملوك. فسأل أهل همذان عنهم فقالوا: هذا أبو علي بن سينا. فعرف بهمذان، وذكروا أن شمس الدولة صاحب همذان كان مبتلى بالقولنج، فعالجه أبو علي، فاستوزره شمس الدولة فبقي في وزارته مدة، وكانت دولة آل بويه متزلزلة بين أولاد الأعمام يحارب بعضهم بعضاً، فلقي من الوزارة تعباً شديداً حتى نهب داره وكتبه. فلما مات شمس الدولة وجلس ابنه مكانه، استعفى أبو علي عن الوزارة واتصل بعلاء الدولة صاحب أصفهان، وكان ملكاً حكيماً أكرم مثواه، وكان عنده إلى أن فارق الدنيا سنة ثمان وعشرين وأربعمائة عن ثمان وخمسين سنة ودفن بهمذان. الموت قلعة حصينة من ناحية روذبار بين قزوين وبحر الخزر على قلة جبل، وحولها وهاد لا يمكن نصب المنجنيق عليها ولا النشاب يبلغها. وهي كرسي ملك الإسماعيلية؛ قيل: ان بعض ملوك الديلم أرسل عقاباً للصيد وتبعها، فرآها وقعت على هذا الموضع فوجده موضعاً حصيناً، فاتخذه قلعة وسماها إله أموت أي تعليم العقاب بلسان الديلم. ومنهم من قال: اسم القلعة بتاريخها لأنها بنيت في سنة ست وأربعين وأربعمائة وهي م وت. ينسب إليها حسن الصباح داعي الباطنية، وكان عارفاً بالحكمة والنجوم والهندسة والسحر، ونظام الملك كان يكرمه لفضله، فقال يوماً بطريق الفراسة: عما قريب يصل هذا جمعاً من ضعفاء العوام! فذهب الصباح إلى مصر ودخل

إيذج

على المستنصر واستأذن منه أن يدعو الناس إلى بيعته، وكان خلفاء مصر يزعمون أنهم من نسل محمد بن إسماعيل بن جعفر، فعاد الصباح إلى بلاد العجم حتى وصل إلى ناحية روذبار، فرأى شخصاً على غصن شجرة وهو يضرب أصل الغصن بالفأس، فقال في نفسه: لا أجد قوماً أجهل من هؤلاء! فألقى جرانه هناك وأظهر النسك، وكان كوتوال الموت رجلاً علوياً حسن الظن في الصباح، فأحكم الصباح أمره مع الناس وأخرج العلوي من القلعة. وكان معه صبي قال هو من نسل محمد بن إسماعيل، والإمامة كانت لأبيه والآن له، واحكم أساس دعوته فيهم وقال للقوم: لا بد للناس من معلم، ومعلمكم هذا الصبي، وطاعة هذا المعلم واجب عليكم، فإذا رضي عنكم سعدتم في الدنيا والآخرة، ولا حاجة بكم إلى شيء سوى طاعة المعلم. فاستخف قومه فأطاعوه حتى صاروا يفدون أنفسهم له، فلما عرف علماء الإسلام اعتقادهم وإخلالهم بأركان الدين افتوا بإلحادهم، وجعلوا يغزونهم ويسبون منهم فقتلوا جمعاً من العظماء على يد الفداية، منهم: الخليفة المسترشد ونظام الملك وبكتمر صاحب أرمن، وانقلمس صاحب العراق. فخاف منهم ملوك جميع الأطراف. وفي زمن المستعصم ظهر شخص باليمن يدعي الخلافة، فاجتمع عليه قوم بعثوا إليه فقتلوه، وكانت شوكتهم باقية إلى أن قتلوا واحداً من عظماء التتر، فحاصروهم سبع سنين فتلفوا على القلاع جوعاً وهلكوا، ومنهم من نزل فقتلوهم عن آخرهم واندفع شرهم. إيذج مدينة بين أصفهان وخوزستان كثيرة الزلازل، بها معادن كثيرة، من عجائبها ضرب من القاقلى عصارتها دواء عجيب للنقرس، وبها بحيرة تعرف بفم البواب، ماؤها دائر إذا وقع فيها شيء من الحيوان لا يغوص بل يدور فيها حتى يموت، ثم يقذف إلى الشط.

إيراوه

وبها قنطرة من عجائب الدنيا يقال لها قنطرة خره زاد، وهي أم أردشير الملك، مبنية على واد يابس لا ماء فيه إلا أوان المدود من الأمطار، فإنه حينئذ يصير بحراً عجاجاً وفسحته على وجه الأرض أكثر من ألف ذراع، وعمقه مائة وخمسون ذراعاً، وقد ابتديء بعمل هذه القنطرة من أسفلها إلى أن بلغ بها وجه الأرض بالرصاص والحديد. وكلما علا البناء ضيق، وجعل بينه وبين جنب الوادي حشو من خبث الحديد، وصب عليه الرصاص حتى صار بينه وبين وجه الأرض نحو من أربعين ذراعاً، فعقدت القنطرة عليه حتى استوى أعلاها على وجه الأرض، وحشي ما بينها وبين جنبي الوادي بالرصاص المخلوط بنحاتة النحاس. وهذه القنطرة طاق واحد عجيب الصنعة محكم العمل، وقد كان المسمعي قد قطعها فمكث دهراً لم يتسع لأحد أن يقوم بإصلاحها، فأضر ذلك بالسابلة. وقد صار إليها أقوام ممن يقربها واحتالوا في قلع الرصاص من حشوها بالجهد الشديد، حتى أعادها أبو عبد الله محمد بن أحمد القمي وزير الحسن بن بويه. فإنه جمع الصناع والمهندسين واستفرغ الوسع في أمرها، فكان الرجال يحطون إليها في الزنابيل بالبكر والحبال، ولم يمكنهم عقد الطاق إلا بعد سنين، فإنه أنفق على ذلك سوى أجرة الفعلة، فإن أكثرهم كانوا من رستاق إيذج وأصفهان مسخرين، ثلاثمائة ألف وخمسون ألف دينار. والآن في مشاهدتها والنظر إليها عبرة للناظرين. إيراوه قرية على قلة جبل بقرب طبس، كثيرة المياه والأشجار والبساتين والفواكه. ولها قلعة حصينة ينسب إليها الشيخ أبو نصر الإيراوي، رحمه الله. كان صاحب كرامات ظاهرة: ذكر أن أهل القرية سألوه أن يستسقي لهم في محل أصابهم، فسد لله ودعا، فنبعت عين من الصخر الصلد وتدفقت بماء صاف عذب، وفار فوراناً شديداً، فوضع الشيخ يديه عليه وقال: اسكن بإذن الله! فسكن.

ايلابستان

أخبر بهذا كله الحافظ ابن النجار شيخ المحدثين ببغداد وقال: شاهدت العين وشربت من مائها، وزرت مشهد الشيخ هناك فوجدت روحاً تاماً. ايلابستان قرية بين اسفرايين وجرجان، من عجائبها ما ذكره صاحب تحفة الغرائب ان بها مغارة يخرج منها ماء كثير ينبع من عين فيها، فربما ينقطع ذلك الماء في بعض السنين أشهراً، فإذا دام انقطاعه يخرج أهل القرية من الرجال بأحسن ثيابهم والدفوف والشبابات والملاهي إلى تلك العين، ويرقصون عندها ويلعبون، فإن الماء ينبع من العين ويجري بعد ساعة، وهو ماء كثير بقدر ما يدير رحى. بابل اسم قرية كانت على شاطيء نهر من أنهار الفرات بأرض العراق في قديم الزمان، والآن ينقل الناس آجرها. بها جب يعرف بجب دانيال، عليه السلام، يقصده اليهود والنصارى في أوقات من السنة وأعياد لهم. ذهب أكثر الناس إلى أنها هي بئر هاروت وماروت، ومنهم من ذهب إلى أن بابل أرض العراق كلها. ومن عجائبها ما ذكر أن عمر بن الخطاب سأل دهقان الفلوجة عن عجائب بلادهم فقال: عجائب بابل كثيرة، لكن أعجبها أمر المدن السبع، كانت في كل مدينة أعجوبة. أما المدينة الأولى فكان الملك ينزلها وفيها بيت، في ذلك البيت صورة الأرض بقراها ورساتيقها وأنهارها، فمتى امتنع أهل بلدة من حمل الخراج خرق أنهارهم في تلك الصورة وغرق زروعهم، فحدث بأهل تلك البلدة مثل ذلك حتى رجعوا عن الامتناع، فيسد أنهارهم في الصورة فينسد في بلدهم. والمدينة الثانية كان فيه حوض عظيم، فإذا جمع الملك قومه حمل كل واحد معه شراباً يشربه عند الملك وصبه في ذلك الحوض، فإذا جلسوا للشرب شرب كل واحد منهم شرابه الذي كان معه وحمل من منزله.

والمدينة الثالثة كان على بابها طبل معلق، فإذا غاب إنسان من أهل تلك المدينة والتبس أمره ولم يعلم حي هو أم ميت، دقوا ذلك الطبل على اسمه، فإن كان حياً ارتفع صوته، وإن كان ميتاً لم يسمع منه صوت البتة. والمدينة الرابع كان فيها مرآة من حديد، فإذا غاب رجل عن أهله وأرادوا أن يعرفوا حاله التي هو فيها، أتوا تلك المرآة على اسمه ونظروا فيها فرأوه على الحالة التي هو فيها. والمدينة الخامسة كان على بابها عمود من نحاس وعلى رأسه اوزة من نحاس، فإذا دخلها جاسوس صاحت صيحة سمعها كل أهل المدينة، فعلموا أن جاسوساً دخل عليهم. والمدينة السادسة كان بها قاضيان جالسان على طرف ماء، فإذا تقدم إليهما خصمان قرآ شيئاً وتفلا على رجليهما وأمراهما بالعبور على الماء، فغاص المبطل في الماء دون المحق. والمدينة السابعة كانت بها شجرة كثيرة الأغصان، فإن جلس تحتها واحد أظلته إلى ألف نفس، فإن زاد على الألف واحد صاروا كلهم في الشمس. وروي عن الأعمش أن مجاهداً كان يحب أن يسمع من الأعجايب، ولم يسمع بشيء من الأعاجيب منها إلا صار إليه وعاينه. فقدم أرض بابل فلقيه الحجاج وسأله عن سبب قدومه، فقال: حاجة إلى رأس الجالوت! فأرسله إليه وأمره بقضاء حاجته، فقال له رأس الجالوت: ما حاجتك؟ قال: ان تريني هاروت وماروت! فقال لبعض اليهود: اذهب بهذا وأدخله إلى هاروت وماروت لينظر إليهما. فانطلق به حتى أتى موضعاً ورفع صخرة، فإذا شبه سرب، فقال له اليهودي: انزل وانظر إليهما ولا تذكر الله! فنزل مجاهد معه فلم يزل يمشي به اليهودي حتى نظر إليهما، فرآهما مثل الجبلين العظيمين منكوسين على رأسيهما وعليهما الحديد من أعقابهما إلى ركبهما مصفدين، فلما رآهما مجاهد لم يملك نفسه فذكر الله، فاضطربا اضطراباً شديداً حتى كادا يقطعان ما عليهما من

بالس

الحديد، فخر اليهودي ومجاهد على وجههما، فلما سكنا رفع اليهودي رأسه وقال لمجاهد: أما قلت لك لا تفعل ذلك فكدنا نهلك! فتعلق مجاهد به ولم يزل يصعد به حتى خرجا. بالس بليدة على ضفة الفرات من الجانب الغربي، فلم تزل الفرات تشرق عنها قليلاً قليلاً حتى صار بينهما في أيامنا هذه أربعة أميال. بدخشان مدينة مشهورة بأعلى طخارستان. بها معدن البلخش المقاوم للياقوت، وقد حدث من شاهده قال: انه عروق في جبالها يكثر بها إلا أن الجيد قليل. وبها معدن اللازورد ومعدن البيجادق وهو حجر كالياقوت، وبها معدن البلور الخالص. ومن عجائبها حجر الفتيلة وهو يشبه البردي، يحسب العامة انه ريش الطائر لا تحرقه النار، يدهن ويشعل فيتقد مثل الفتيلة، فإذا فني الدهن بقي كما كان ولم يتغير شيء من صفته، وهكذا كلما وضع في الدهن اشتعل، ويتخذ منه قناديل غلاظ للخوان، فإذا اتسخت ألقيت في النار فذهب عنها الدرن وصفا لونها. وبها حجر يترك في البيت المظلم يضيء شيئاً يسيراً، كل ذلك عن البشاري. برقعيد بليدة بين الموصل ونصيبين، كانت قديماً مدينة كبيرة ممر القوافل. يضرب بأهلها المثل في اللصوية. يقال: لص برقعيدي! فكانت القوافل إذا نزلت بهم لقيت منهم الأمرين. حكي أن قفلاً نزل بهم فذهبوا إلى بعض جدرانها

بروجرد

احترازاً من اللصوص، وجعلوا دوابهم تحت الجدار وأمتعتهم حولها، واشتغلوا بحراسة ما تباعد عن الجدار لأمنهم من صوب الجدار. فلما كان الليل صعد البرقعيديون السطح، وألقوا على الدواب كلاليب أنشبوها في براذعها وجذبوها إلى السطح، ولم يدر القوم إلى وقت الرحيل، فطلبوا الدواب فما وجدوها، فذهبوا وتركوها. فلما كثرت منهم أمثال هذه الأفاعيل تجنبتهم القوافل، وجعلوا طريقهم إلى باشزى، وانتقلت الأسواق إلى باشزى وخربت برقعيد. والآن لم يبق بها إلا طائفة صعاليك ضعفى. ينسب إليها المغني البرقعيدي الذي يضرب به المثل في سماجة الوجه وكراهة الصوت، قال: وليلٍ كوجه البرقعيديّ ظلمةً ... وبرد أغانيه وطول قرونه قطعت دياجيه بنومٍ مشرّدٍ ... كعقل سليمان بن فهدٍ ودينه على أولقٍ فيه الهباب كأنّه ... أبو جابرٍ في خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصّباح كأنّه ... سنا وجه قرواشٍ وضوء جبينه بروجرد بلدة بقرب همذان، طيبة خصيبة كثيرة المياه والأشجار والفواكه والثمار. فواكهها تحمل إلى المواضع التي بقربها. وهي قليلة العرض طولها مقدار نصف فرسخ. أرضها تنبت الزعفران. من عجائبها ما ذكر أنه في قديم الزمان نزل على بابها عسكر، فأصبحوا وقد مسخ العسكر حجراً صلداً. وآثارها إلى الآن باقية، وإن كانت التماثيل بطول الزمان تشعبت بنزول الأمطار عليها وهبوب الرياح واحتراقها بحرارة الشمس، لكن لا يخفى أن هذا كان إنساناً وذاك كان بهيمة وغيرها.

بسطام

بسطام مدينة كبيرة بقومس بقرب دامغان. من عجائبها انه لا يرى بها عاشق من أهلها، وإذا دخلها من به عشق فإذا شرب من مائها زال عنه ذلك! وأيضاً لم ير بها رمد قط، وماؤها يزيل البخر إذا شرب على الريق، وإن احتقن به يزيل بواسير الباطن. والعود لا رائحة له بها ولو كان من أجود العود، وتذكو بها رائحة المسك والعنبر وسائر أصناف الطيب، ودجاجها لا يأكل العذرة. وبها حيات صغار وثابات. ينسب إليها سلطان العارفين أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي صاحب العجائب؛ قيل له: ما أشد ما لقيت في سبيل الله من نفسك؟ قال: لا يمكن وصفه. فقيل: ما أهون ما لقيت نفسك منك في سبيل الله؟ قال: أما هذا فنعم. دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة. وحكي أن أبا يزيد رأى في طريق مكة رجلاً معه حمل ثقيل، فقال لأبي يزيد: ما أصنع بهذا الحمل؟ فقال له: احمله على بعيرك واركب أنت فوقه. ففعل الرجل ذلك وفي قلبه شيء، فقال له أبو يزيد: افعل ولا تمار، فإن الله هو الحامل لا البعير! فلم يقنع الرجل بذلك فقال أبو يزيد: انظر ماذا ترى؟ فقال: أرى نفسي والحمل يمشي في الهواء والبعير يمشي فارغاً. فقال له: أما قلت لك إن الله هو الحامل فما صدقت حنى رأيت! وحكي انه سمع أن بعض مريديه شرب الخمر، فقال له: اخرج معي حتى أعلمك شرب الخمر! فخرج معه فأدخله بعض المواخير وشرب جميع ما في دنانها، ثم تنكس فجعل رأسه على الأرض ورجليه نحو الهواء، وقرأ القرآن من أوله إلى آخره وقال للمريد: إذا أردت شرب الخمر فهكذا! مات سنة إحدى وستين ومائتين ببسطام، وكان له هناك مشهد مزار متبرك به، وذكر بعض الصوفية ان من نام في مشهد أبي يزيد، فإذا استيقظ يرى نفسه خارجاً من المشهد.

البصرة

البصرة هي المدينة المشهورة التي بناها المسلمون؛ قال الشعبي: مصرت البصرة قبل الكوفة بسنة ونصف. وهي مدينة على قرب البحر كثيرة النخيل والأشجار، سبخة التربة ملحة الماء لأن المد يأتي من البحر، يمشي إلى ما فوق البصرة بثلاثة أيام. وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماء البحر فيصير ملحاً. وأما نخيلها فكثير جداً؛ قال الأصمعي: سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة! ومن عجائبها أمور ثلاثة: أحدها أن دجلة والفرات يجتمعان قرب البصرة، ويصيران نهراً عظيماً يجري من ناحية الشمال إلى الجنوب، فهذا يسمونه جزراً، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مداً. يفعل ذلك في كل يوم وليلة مرتين، فإذا جزر نقص نقصاً كثيراً بحيث لو قيس لكان الذي ذهب مقدار ما بقي أو أكثر، وينتهي كل أول شهر في الزيادة إلى غايته، ويسقي المواضع العالية والأراضي القاصية ثم يشرع في الانتقاص، فهذا كل يوم وليلة انقص من الذي كان قبله إلى آخر الأسبوع الأول من الشهر، ثم يشرع في الزيادة فهذا كل يوم وليلة أكثر من الذي قبله إلى نصف الشهر، ثم يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثم في الزيادة إلى آخر الشهر، وهكذا أبداً لا ينحل هذا القانون ولا يتغير. وثانيها انك لو التمست ذبابة في جميع بيادرها وربطها المعوذة وغيرها على نخلها في جميع معاصرها، ما وجدت إلا في الفرط، ولو ان معصرة دون الغيط أو تمرة منبوذة دون المسناة لما استبنها من كثرة الذبان، وذكروا أن ذلك لطلسم. وثالثها أن الغربان القواطع في الخريف تسود جميع نخل البصرة وأشجارها، حتى لا يرى غصن إلا وعليه منها، ولم يوجد في جميع الدهر غراب ساقط على نخلة غير مصرومة، ولو بقي عليها عذق واحد. ومناقير الغربان كالمعاول،

والتمر في ذلك الوقت على الأعذاق غير متماسك، فلولا لطف الله تعالى لتساقط، كلها بنقر الغربان ثم تنتظر صرامها، فإذا تم الصرام رأيتها تخللت أصول الكرب فلا تدع حشفة إلا استخرجتها. فسبحان من قدر ذلك لطفاً بعباده! قال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد، فإنهم يلبسون القمص مرة والمبطنات مرة لاختلاف جواهر الساعات. ومن ظريف ما قيل في اختلاف هواء البصرة قول ابن لنكك: نحن بالبصرة في لو ... نٍ من العيش ظريف نحن ما هبّت شمالٌ ... بين جنّاتٍ وريف فإذا هبت جنوبٌ ... فكأنّا في كنيف ومن متنزهاتها وادي القصر؛ ذكر الخليل أن أباه مر بوادي القصر فرأى أرضاً كالكافور وضباً محترشاً وغزالاً وسمكاً، وصيادة وغناء ملاح على سكانه وحداء جمال خلف بعيره فقال: يا وادي القصر نعم القصر والوادي ... في منزلٍ حاضرٍ إن شئت أو بادي ترفا به السّفن والظلمان حاضرةٌ ... والضّبّ والنّون والملاّح والحادي حكي أن عبيد الله بن زياد ابن أبيه بنى بالبصرة داراً عجيبة سماها البيضاء، والناس يدخلونها ويتفرجون عليها، فدخلها اعرابي قال: لا ينتفع بها صاحبها! ودخلها آخر وقال: أتبنون بكل ريع آية تعبثون؟ فقيل ذلك لعبيد الله، قال لهما: لأي شيء قلتم ما قلتم؟ قال الأعرابي: لأني رأيت فيها أسداً كالحاً وكلباً نابحاً وكبشاً ناطحاً! وكان كما قال ما انتفع بها عبيد الله أخرجه أهل البصرة منها. وقال الآخر: آية من كتاب الله عرضت لي قرأتها، فقال: والله لأفعلن بك ما في الآية الأخرى: وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فأمر أن يبنى عليه ركن من أركان قصره.

وينسب إليها أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري أوحد زمانه. سأله الحجاج وقال: ما تقول في عثمان وعلي؟ قال: أقول ما قال من هو خير مني عند من هو شر منك! قال: من هو؟ قال: موسى، عليه السلام، حين سأله فرعون: ما بال القرون الأولى؟ قال: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. علم عثمان وعلي عند الله، فقال: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد! وحكي أن رجلاً قال للحسن: فلان اغتابك! فبعث إلى ذلك الرجل طبق حلاوى وقال: بلغني أنك نقلت حسناتك إلى ديواني فكافيتك بهذا. وحكي ان ليلة وفاته رأى رجل في منامه منادياً ينادي: إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، واصطفى الحسن البصري على أهل زمانه. توفي سنة عشر ومائة عن ثمان وثمانين سنة. وينسب إليها أبو بكر محمد بن سيرين، وهو مولى أنس بن مالك. كان شاباً حسن الوجه بزازاً، طلب منه بعض نساء الملوك ثياباً للشري، فلما حصل في دارها مع ثيابه راودته عن نفسه فقال: أمهليني حتى أقضي حاجتي فإني حاقن! فلما دخل بيت الطهارة لطخ جميع بدنه بالنجاسة وخرج، فرأته على تلك الحالة فنفرت منه وأخرجته. وحكي انه رأى يوسف الصديق، عليه السلام، في نومه فقال له: يا نبي الله حالك عجيب مع أولئك النسوة! فقال له: وحالك أيضاً عجيب! أعطاه الله علم تأويل الرؤيا، جاءه رجل قال: رأيت في نومي كأني أعلق الجواهر على الخنازير! فقال له: تعلم الحكمة لمن ليس أهلاً لها! وجاءه رجل آخر وقال: رأيت كأني أختم أفواه الرجال وفروج النساء! فقال: مؤذن أنت؟ قال: نعم. فقال: تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر. وجاءه رجل آخر وقال: رأيت كأني أصب الزيت في وسط الزيتون. فقال له: عندك جارية؟ قال: نعم. قال: اكشف عن حالها كأنها أمك. توفي ابن سيرين سنة مائة وعشر عن سبع وسبعين سنة.

وينسب إليها عمرو بن عبيد. كان عالماً زاهداً ورعاً. كان بينه وبين السفاح والمنصور قبل خلافتهما معرفة، وكانوا خائفين متواترين، وعمرو بن عبيد يعاودهما في قضاء حاجتهما. فلما صارت الخلافة إلى المنصور عصى عليه أهل البصرة، فجاء بنفسه بخراب البصرة. أهل البصرة تعلقوا بعمرو بن عبيد وسألوه أن يشفع لهم، فركب حماراً وعليه نعلان من الخوص، وذهب إلى المنصور، فلما رآه أكرمه وقبل شفاعته وسأله أن يقبل منه مالاً، فأبى قبول المال، فألح عليه المنصور فأبى، فحلف المنصور أن يقبله فحلف هو أن لا يقبله، وكان المهدي ابن المنصور حاضراً فقال: يا عم أيحلف الخليفة وتحلف أنت؟ فقال: نعم للخليفة ما يكفر به يمينه وليس لعمك ما يكفر به يمينه! وقام من عنده وخرج والمنصور يقول: كلكم يمشي رويد، كلكم يطلب صيد، غير عمرو بن عبيد! وحكي أن رجلاً قال له: فلان لم يزل يذكرك بالسوء! فقال: والله ما راعيت حق مجالسته حين نقلت إلي حديثه، ولا راعيت حقي حين بلغتني عن أخي ما أكرهه! اعلم أن الموت يعمنا والبعث يحشرنا والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا! وحكي أنه مر على قوم وقوف قال: ما وقوفكم! قالوا: السلطان يقطع يد سارق! قال: سارق العلانية يقطع يد سارق السر. وينسب إليها القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني. كان إماماً عالماً فاضلاً. ولما سمع الشيخ أبو القاسم بن برهان كلام القاضي أبي بكر ومناظرته قال: ما سمعت كلام أحد من الفقهاء والخطباء والبلغاء مثل هذا. وتعجب من فصاحته وبلاغته وحسن تقريره. وزعم بعضهم أنه هو المبعوث على رأس المائة الرابعة لتجديد أمر الدين، وله تصانيف كثيرة، وكان مشهوراً بوفور العلم وحسن الجواب؛ حضر بعض محافل النظر وكان أشعري الاعتقاد، فقال ابن المعلم: قد جاء الشيطان! وابن المعلم كان شيخ الشيعة فسمع القاضي أبو بكر ما قاله فقال: ألم تر أنا ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً؟ وحكي أن عضد الدولة أراد أن يبعث رسولاً إلى الروم وقال: ان النصارى

بغداد

يسألون ويناظرون فمن يصلح؟ قالوا: ليس لهم مثل القاضي أبي بكر، فإنه يناظرهم ويغلبهم في كل ما يقولونه. فبعثه إلى قيصر الروم، فلما أراد الدخول عليه علم الرومي انه لا يخدم كما هي عادة الرسل، فاتخذ الباب الذي يدخل منه إلى قيصر باباً قصيراً، من أراد دخوله ينحني، فلما وصل القاضي إلى ذلك عرف الحال فأدار ظهره إلى الباب، ودخل راكعاً ظهره إلى الباب، فتعجب قيصر من فطنته ووقع في نفسه هيبته. فلما أدى الرسالة رأى عنده بعض الرهابين فقال له القاضي مستهزئاً: كيف أنت وكيف الأولاد؟ فقال له قيصر: إنك لسان الأمة ومقدم علماء هذه الملة! أما علمت أن هؤلاء متنزهون عن الأهل والولد؟ فقال القاضي: إنكم لا تنزهون الله عن الأهل والولد وتنزهون هؤلاء، فهؤلاء أجل عندكم من الله تعالى! وقال بعض طاغية الروم للقاضي: اخبرني عن زوجة نبيكم عائشة وما قيل فيها. قال القاضي: قيل في حق عائشة ما قيل في حق مريم بنت عمران، وعائشة ما ولدت ومريم ولدت، وقد برأ الله تعالى كل واحدة منهما! وحكى بعض الصالحين: انه لما توفي القاضي أبو بكر رأيت في منامي جمعاً عليهم ثياب بيض، ولهم وجوه حسنة وروائح طيبة، قلت لهم: من أين جئتم؟ قالوا: من زيارة القاضي أبي بكر الأشعري. قلت: ما فعل الله به؟ قالوا: غفر الله له ورفع درجته. فمشيت إليه فرأيته وعليه ثياب حسنة في روضة خضرة نضرة، فهممت أن أسأله عن حاله فسمعته يقرأ بصوت عال: هاؤم اقرأوا كتابيه. اني ظننت اني ملاق حسابيه. فهو في عيشة راضية. في جنة عالية. بغداد أم الدنيا وسيدة البلاد وجنة الأرض ومدينة السلام، وقبة الإسلام ومجمع الرافدين، ومعدن الظرائف ومنشأ أرباب الغايات، هواؤها ألطف من كل هواء، وماؤها أعذب من كل ماء، وتربتها أطيب من كل تربة، ونسيمها

أرق من كل نسيم! بناها المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولما أراد المنصور بناء مدينة بعث رواداً يرتاد موضعاً، قال له: أرى يا أمير المؤمنين أن تبنى على شاطيء دجلة، تجلب إليها الميرة والأمتعة من البر والبحر، وتأتيها المادة من دجلة والفرات، وتحمل إليها ظرائف الهند والصين، وتأتيها ميرة أرمينية وآذربيجان وديار بكر وربيعة، لا يحمل الجند الكثير إلا مثل هذا الموضع. فأعجب المنصور قوله وأمر المنجمين، وفيهم نوبخت، باختيار وقت للبناء فاختاروا طالع القوس الدرجة التي كانت الشمس فيها، فاتفقوا على أن هذا الطالع مما يدل على كثرة العمارة وطول البقاء، واجتماع الناس فيها وسلامتهم عن الأعداء. فاستحسن المنصور ذلك ثم قال نوبخت: وخلة أخرى يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قال: لا يتفق بها موت خليفة! فتبسم المنصور وقال: الحمد لله على ذلك. وكان كما قال، فإن المنصور مات حاجاً، والمهدي مات بماسبذان، والهادي بعيساباد، والرشيد بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون بطرسوس، والمعتصم والواثق والمتوكل والمستنصر بسامرا. ثم انتقل الخلفاء إلى التاج وتعطلت مدينة المنصور من الخلفاء؛ قال عمارة بن عقيل: أعاينت في طولٍ من الأرض أو عرض ... كبغداد من دارٍ بها مسكن الخفض؟ صفا العيش في بغداد واخضّر عوده ... وعيش سواها غير خفضٍ ولا غضّ قضى ربّها أن لا يموت خليفةٌ ... بها، إنّه ما شاء في خلقه يقضي ذكر أبو بكر الخطيب أن المنصور بنى مدينة بالجانب الغربي، ووضع اللبنة الأولى بيده، وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى فيها قبة فوق ايوان كان علوها ثمانين ذراعاً. والقبة خضراء على رأسها تمثال فارس بيده رمح، فإذا رأوا ذلك التمثال استقبل بعض الجهات ومد رمحه نحوها، فعلموا أن بعض الخوارج

يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى يأتي الخبر ان خارجياً ظهر من تلك الجهة، وقد سقط رأس هذه القبة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة في يوم مطير ريح، وكانت تلك القبة علم بغداد وتاج البلد، ومأثرة بني العباس. وكان بجانبها الشرقي محلة تسمى باب الطاق، كان بها سوق الطير فاعتقدوا ان من تعسر عليه شيء من الأمور فاشترى طيراً من باب الطاق وأرسله، سهل عليه ذلك الأمر. وكان عبد الله بن طاهر طال مقامه ببغداد، ولم يحصل له اذن الخليفة، فاجتاز يوماً بباب الطاق فرأى قمرية تنوح، فأمر بشرائها واطلاقها، فامتنع صاحبها أن يبيعها إلا بخمسمائة درهم، فاشتراها وأطلقها وأنشأ يقول: ناحت مطوّقةٌ بباب الطّاق ... فجرت سوابق دمعي المهراق كانت تغرّد بالأراك وربّما ... كانت تغرّد في فروع السّاق فرمى الفراق بها العراق فأصبحت ... بعد الأراك تنوح في الأشواق فجعت بإفراجٍ فأسبل دمعها ... إنّ الدّموع تبوح بالمشتاق تعس الفراق وتبّ حبل وتينه ... وسقاه من سمّ الأساود ساقي ماذا أراد بقصده قمريّةً ... لم تدر ما بغداد في الآفاق بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي ... من فكّ أسرك أن يحلّ وثاقي! هذه صفة المدينة الغربية، والآن لم يبق منها أثر. وبغداد عبارة عن المدينة الشرقية. كان أصلها قصر جعفر بن يحيى البرمكي، والآن هي مدينة عظيمة كثيرة الأهل والخيرات والثمرات. تجبى إليها لطائف الدنيا وظرائف العالم إذ ما من متاع ثمين ولا عرض نفيس إلا ويحمل إليها، فهي مجمع لطيبات الدنيا ومحاسنها، ومعدن لأرباب الغايات وآحاد الدهر في كل علم وصنعة. وبها حريم الخلافة، وعليه سور ابتداؤه من دجلة وانتهاؤه إلى دجلة كشبه الهلال، وله أبواب: باب سوق التمر باب شاهق البناء عال، أغلق من أول أيام

الناصر واستمر إغلاقه. ذكر أن المسترشد خرج منه فأصابه ما أصابه فتطيروا به وأغلقوه. وباب النوبي وعنده العتبة التي يقبلها الملوك والرسل إذا قدموا بغداد. وباب العامة وعليه باب عظيم من الحديد نقله المعتصم من عمورية لم ير مصراعان أكبر منهما من الحديد. ومن عجائبها دار الشجرة من أبنية المقتدر بالله، دار فيحاء ذات بساتين مؤنقة، وإنما سميت بذلك لشجرة كانت هناك من الذهب والفضة في وسط بركة كبيرة أمام أبوابها، ولها من الذهب والفضة ثمانية عشر غصناً، ولكل غصن فروع كثيرة مكللة بأنواع الجواهر على شكل الثمار. وعلى أغصانها أنواع الطير من الذهب والفضة، إذا هب الهواء سمعت منها الهدير والصفير. وفي جانب الدار عن يمين البركة تمثال خمسة عشر فارساً، ومثله عن يسار البركة، قد ألبسوا أنواع الحرير المدبج مقلدين بالسيوف، وفي أيديهم المطارد يحركون على خط واحد، فيظن أن كل واحد قاصد إلى صاحبه. ومن مفاخرها المدرسة التي أنشأها المستنصر بالله. لم يبن مثلها قبلها في حسن عمارتها ورفعة بنائها، وطيب موضعها على شاطيء دجلة وأحد جوانبها في الماء. لم يعرف موضع أكثر منها أوقافاً ولا أرفه منها سكاناً. وعلى باب المدرسة ايوان ركب في صدره صندوق الساعات على وضع عجيب، يعرف منه أوقات الصلوات وانقضاء الساعات الزمانية نهاراً وليلاً؛ قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي: يا أيّها المنصور يا مالكاً ... برايه صعب اللّيالي يهون! شيّدت لله ورضوانه ... أشرف بنيانٍ يروق العيون إيوان حسنٍ وصفه مدهشٌ ... يحار في منظره النّاظرون! تهدي إلى الطّاعات ساعاته ... النّاس، وبالنّجم هم يهتدون صوّر فيه فلكٌ دائرٌ ... والشّمس تجري ما لها من سكون دائرةٌ من لازوردٍ حلت ... نقطة تبرٍ فيه سرٌّ مصون

فتلك في الشّكل وهذا معاً ... كمثل هاءٍ ركّبت وسط نون فهي لإحياء العلى والنّدى ... دائرةٌ مركزها العالمون وأما أولو الفضل من العلماء والزهاد والعباد والأدباء والشعراء والصناع فلا يعلم عددهم إلا الله. ولنذكر بعض مشاهيرها إن شاء الله. ينسب إليها القاضي أبو يوسف، ذكر أنه كان رآه رجل يهودي وقت الظهيرة يمشي راكباً على بغلة، واليهودي يمشي راجلاً جائعاً ضعيفاً، فقال للقاضي: أليس نبيكم يقول الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ قال: نعم. قال: فأنت في السجن وأنا في الجنة والحالة هذه! فقال القاضي: نعم يا عدو الله، بالنسبة إلى ما أعد الله لي من الكرامة في الآخرة في السجن، وأنت بالنسبة إلى ما أعد الله لك في الآخرة من العذاب في الجنة! وحكي أن الهادي الخليفة اشترى جارية فاستفتى فقال الفقهاء: لا بد من الاستبراء أو الاعتاق والتزويج. فقال القاضي أبو يوسف: زوجها من بعض أصحابك وهو يطلقها قبل الدخول وحلت لك. وحكي أن الرشيد قال لزبيدة: أنت طالق ثلاثاً إن بت الليلة في مملكتي! فاستفتوا في ذلك فقال أبو يوسف: تبيت في بعض المساجد فإن المساجد لله! فولاه القضاء بجميع مملكته. وحكي أن زبيدة قالت للرشيد: أنت من أهل النار. فقال لها: إن كنت من أهل النار فأنت طالق ثلاثاً! فسألوا عنه فقال: هل يخاف مقام ربه؟ قالوا: نعم. قال: فلا يقع الطلاق لأن الله تعالى يقول: ولمن خاف مقام ربه جنتان. وينسب إليها القاضي يحيى بن أكثم. كان فاضلاً غزير العلم ذكي الطبع، لطيفاً حسن الصورة حلو الكلام، كان المأمون يرى له لا يفارقه، ويضرب به المثل في الذكاء. ولي القضاء وهو ابن سبع عشرة سنة فقال بعض الحاضرين في مجلس

الخليفة: أصلح الله القاضي! كم يكون سن عمره؟ فعلم يحيى انه قصد بذلك استحقاره لقلة سنه، فقال: سن عمري مثل سن عمر بن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله، عليه السلام، قضاء مكة! فتعجب الحاضرون من جوابه. وحكي انه كان ناظر الوقوف ببغداد فوقف العميان له وقالوا: يا أبا سعيد اعطنا حقنا! فأمر بحبسهم، فقيل له: لم حبست العميان وقد طلبوا حقهم؟ فقال: هؤلاء يستحقون ابلغ من ذلك، إنهم شبهوني بأبي سعيد اللوطي من مدينة كذا! وكان هذا قصدهم فما فات القاضي ذلك. وحكي انه اجتاز بجمع من مماليك الخليفة صبياناً حساناً فقال لهم: لولا أنتم لكنا مؤمنين. فعرف المأمون ذلك فأمر أن يذهب كل يوم إلى باب داره أربعمائة مملوك حسن الصورة، حتى إذا ركب يمشون في خدمته إلى دار الخلافة ركاباً. وينسب إليها أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. كان أصله من مرو وجيء به حملاً إلى بغداد فنشأ بها. فلما كان أيام المعتصم وقع في محنة المعتزلة، جمع المعتصم بينه وبين المعتزلة وكبيرهم القاضي أبو داود. قالوا: ان القرآن مخلوق! قال لهم أحمد: ما الدليل على ذلك؟ قالوا: قوله تعالى: وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث. فقال لهم أحمد: المراد من الذكر ههنا الذكر عند قوله تعالى: ص والقرآن ذي الذكر. فالذكر مضاف إلى القرآن فيكون غير القرآن، وههنا مطلق وفي ص مقيد، فيجب حمل المطلق على المقيد. فانقطعت حجتهم، فقال المعتصم لأبي داود: ما تقول في هذا؟ فقال القاضي: هذا ضال مضل يجب تأديبه! وعن ميمون بن الإصبع قال: كنت حاضراً عند محنة أحمد، فلما ضرب سوطاً قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال:

لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا! وعن محمد بن إسماعيل قال: سمعت شاباً يقول: ضربت لأحمد ثمانين سوطاً لو ضربت فيلاً لهدته فجرى دمه تحت الخشب! ثم أمر بحبسه فانتشر ذكر ذلك واستقبح من الخليفة، وورد كتاب المأمون من طرسوس يأمر بإشخاص أحمد. فدعا المعتصم عند ذلك أحمد وقال للناس: أتعرفون هذا الرجل؟ قالوا: نعم هو أحمد بن حنبل. قال: انظروا إليه ما به كسر ولا هشم. وسلمه إليهم. وحكى صالح بن أحمد قال: دخلت على أبي وبين يديه كتاب كتب إليه: بلغني أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق، وما عليك من الدين، وقد بعثت إليك أربعة آلاف درهم على يد فلان، لا من زماة ولا من صدقة وإنما هي من إرث أبي! فقال أحمد: قل لصاحب هذا الكتاب: أما الدين فصاحبه لا يرهقنا ونحن نعافيه، والعيال في نعمة من الله. قال: فذهبت إلى الرجل وقلت له ما قاله أبي، والله يعلم ما نحن فيه من الضيق. فلما مضت سنة قال: لو قبلناها لذهبت! وحكى أحمد بن حرار قال: كانت أمي زمنةً عشرين سنة فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل وسله أن يدعو الله لي. فذهبت ودققت الباب فقالوا: من؟ قلت: رجل من ذاك الجانب، وسألتني أمي الزمنة ان أسألك أن تدعو الله لها. فسمعت قائلاً يقول: نحن أحوج إلى من يدعو الله لنا! فوليت منصرفاً فخرجت عجوز من داره وقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله؟ قلت: نعم. قالت: تركته يدعو الله لها. فجئت إلى بيتي ودققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي وقالت: قد وهب الله لي العافية. وذكروا أن أحمد بن حنبل جعله المعتصم في حل يوم قتل بابك الخرمي أو يوم فتح عمورية. وتوفي أحمد سنة إحدى وأربعين ومائتين عن تسع وسبعين سنة. وحكى أبو بكر المروزي قال: رأيت أحمد بن حنبل بعد موته في المنام في روضة، وعليه حلتان خضراوان وعلى رأسه تاج من نور، وهو يمشي مشياً

لم أكن أعرفه. فقلت: يا أحمد ما هذه المشية؟ قال: هذه مشية الخدام في دار السلام! فقلت: ما هذا التاج الذي أراه فوق رأسك؟ فقال: ان ربي أوقفني وحاسبني حساباً يسيراً، وحباني وقربني وأباحني النظر وتوجني بهذا التاج، وقال لي: يا أحمد هذا تاج الوقار توجتك به كما قلت القرآن كلامي غير مخلوق. وينسب إليها أبو علي الحسين بن صالح بن خيران. كان عالماً شافعي المذهب جامعاً بين العلم والعمل والورع. طلبه علي بن عيسى وزير المقتدر لتوليته القضاء، فأبى وهرب فختم بابه بضعة عشر يوماً، قال أبو عبد الله بن الحسن العسكري: كنت صغيراً وعبرت مع أبي على باب أبي علي بن خيران، وقد وكل به الوزير علي بن عيسى، وشاهدت الموكلين على بابه فقال لي أبي: يا بني ابصر هذا حتى تتحدث إن عشت أن إنساناً فعل به هذا فامتنع عن القضاء. ثم إن الوزير عفا عنه وقال: ما أردنا بالشيخ أبي علي إلا خيراً، وأردنا أن نعلم الناس أن في ملكنا رجلاً يعرض عليه قضاء الشرق والغرب وهو لا يقبل. توفي ابن خيران في حدود عشرين وثلاثمائة. وينسب إليها أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. كان عالماً بعلم التفسير والحديث والفقه والأدب والوعظ، وله تصانيف كثيرة في فنون العلوم. وكان أيضاً ظريفاً سئل وهو على المنبر: أبو بكر أفضل أم علي؟ فقال: الذي كانت ابنته تحته! فقالت السنية: فضل أبا بكر! وقالت الشيعة: فضل علياً! وكانت له جارية حظية عنده فمرضت مرضاً شديداً فقال وهو على المنبر: يا إلهي يا إلهي ما لنا شيء إلا هي، قد رمتني بالدواهي والدواهي والدواهي: ونقل أنهم كتبوا على رقعة إليه وهو على المنبر: إن ههنا امرأة بها داء الابنة والعياذ بالله تعالى فماذا تصنع بها؟ فقال: يقولون ليلى في العراق مريضةٌ ... فيا ليتني كنت الطّبيب المداويا توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة.

وينسب إليها الوزير علي بن عيسى وزير المقتدر ووزير ابنه المطيع. ركب يوم الموسم كما كان الوزراء يركبون في موكب عظيم، فرآه جمع من الغرباء قالوا: من هذا؟ وكانت امرأة عجوز تمشي على الطريق قالت: كم تقولون من هذا؟ هذا واحد سقط من عين الله تعالى، فابتلاه الله بهذا كما ترونه! فسمع هذا القول علي بن عيسى، فرجع إلى بيته واستعفى من الوزارة وجاور مكة إلى أن مات. وينسب إليها أبو نصر بشر بن الحرث الحافي. ذكر أيوب العطار انه قال له بشر: ألا أحدثك عن بدو أمري؟ بينا أنا أمشي إذ رأيت قرطاساً على وجه الأرض عليه اسم الله تعالى، فأخذته وكنت لا أملك إلا درهماً واحداً اشتريت به الماورد والمسك، غسلت القرطاس بالماورد وطيبته بالمسك ثم رجعت إلى منزلي ونمت، فأتاني آت يقول: طيبت اسمي لأطيبن ذكرك وطهرته لأطهرن قلبك! وحكت زبيدة أخت بشر أن بشراً دخل علي ليلةً من الليالي، فوضع إحدى رجليه داخل الدار والأخرى خارجها وهو كذلك إلى أن أصبح، فقلت له: في ماذا كنت تفكر؟ قال: في بشر اليهودي وبشر النصراني وبشر المجوسي! ونفسي ما الذي سبق مني خصتني الله تعالى دونهم؟ فتفكرت في تفضيله وحمدته على أن جعلني من خاصته وألبسني أحبائه. وحكي أن بشراً الحافي دعي إلى دعوة، فلما وضع الطعام بين يديه أراد أن يمد يده إليه فما امتدت حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال بعض الحاضرين الذي كان يعرف بشراً: ما كان لصاحب الدعوة حاجة إلى إحضار من أظهر أن طعامه ذو شبهة. وحكي أن أحمد بن حنبل سئل عن مسألة في الورع فقال: لا يحل لي أن أتكلم في الورع وأنا آكل من غلة بغداد! لو كان بشر بن الحرث حاضراً لأجابك فإنه لا يأكل من غلة بغداد ولا من طعام السواد! توفي سنة تسع وعشرين

ومائتين عن خمس وسبعين سنة. وحكى الحسن بن مروان ال: رأيت بشراً الحافي في المنام بعد موته فقلت له: أبا نصر ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ولكل من تبع جنازتي! وكانت جنازته قد رفعت أول النهار، فما وصل إلى القبر إلا وقت العشاء لكثرة الخلق. وقال لي خزيمة: رأيت أحمد بن حنبل في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب! قلت: فما فعل الله ببشر؟ قال: بخ بخ! من مثل بشر تركته بين يدي الخليل وبين يديه مائدة الطعام، والخليل مقبل عليه وهو يقول له: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم! وقال غيره: رأيت بشراً الحافي في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وقال يا بشر أما استجبت مني وكنت تخافني كل ذلك الخوف؟ ورآه غيره فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: قال لي يا بشر لقد توفيتك يوم توفيتك وما على وجه الأرض أحب إلي منك! وينسب إليها أبو عبد الله الحرث بن أسد المحاسبي. كان عديم النظير في زمانه علماً وورعاً وحالاً. كان يقول: ثلاثة أشياء عزيزة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإجابة مع الأمانة، مات أبوه أسد المحاسبي وخلف من المال ألوفاً ما أخذ الحرث منه حبة، وكان محتاجاً إلى دانق، وذاك لأن أباه كان رافضياً. فقال الحرث: أهل ملتين لا يتوارثان! وحكى الجنيد: ان المحاسي اجتاز بي يوماً فرأيت أثر الجوع في وجهه، فقلت: يا عم لو دخلت علينا ساعةً! فدخل فعمدت إلى بيت عمي، وكان عندهم أطعمة فاخرة، فجئت بأنواع من الطعام ووضعته بين يديه. فمد يده وأخذ لقمة رفعها إلى فيه يلوكها ولا يزدردها، ثم قام سريعاً ورمى اللقمة في الدهليز وخرج ما كلمني. فلما كان الغد قلت: يا عم سررتني ثم نغصت علي! فقال: يا بني أما الفاقة فكانت شديدة، وقد اجتهدت أن أنال من الطعام الذي جعلته بين يدي، ولكن بيني وبين الله علامة، وهي أن الطعام إذا لم يكن

مرضياً يرتفع منه إلى أنفي زفر لا تقبله نفسي! توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وينسب إليها أبو الحسن السري بن المغلس السقطي خال أبي القاسم الجنيد وأستاذه وتلميذ معروف الكرخي. دعا له أستاذه معروف وقال له: أغنى الله قلبك! فوضع الله تعالى فيه الزهد. وقيل: ان امرأة اجتازت بالسري ومعها ظرف فيه شيء فسقط من يدها وانكسر، فأخذ السري شيئاً من دكانه وأعطاها بدل ما ضاع عليها، فرأى معروف ذلك فأعجبه وقال له: ابغض الله إليك الدنيا! فتركها وتزهد كما دعا له. وحكي أن امرأة جاءت إلى السري وقالت: يا أبا الحسن، أنا من جيرانك، وإن ابني أخذه الطائف، واني أخشى أن يؤذيه، فإن رأيت أن تجيء معي أو تبعث إليه أحداً. فقام يصلي وطول صلاته فقالت المرأة: أبا الحسن، الله الله في ولدي! إني أخشى أن يؤذيه السلطان! فسلم وقال لها: أنا في حاجتك. فما برحت حتى جاءت امرأة وقالت لها: لك البشرى فقد خلوا عن ابنك! حكى الجنيد قال: دخلت على السري فإذا هو قاعد يبكي وبين يديه كوز مكسور، قلت: ما سبب البكاء؟ قال: كنت صائماً فجاءت ابنتي بكوز ماء فعلقته حتى يبرد فأفطر عليه، فأخذتني عيني فنمت فرأيت جارية دخلت علي من هذا الباب في غاية الحسن، فقلت لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يبرد الماء في الكيزان الخضر! وضربت بكمتها الكوز ومرت وهو هذا. قال الجنيد: فمكثت اختلفت إليه مدة طويلة أرى الكوز المكسور بين يديه. وحكي أن السري كل ليلة إذا أفطر ترك لقمة، فإذا أصبح جاءت عصفورة وأكلت تلك اللقمة من يده. فجاءت العصفورة في بعض الأيام ووقعت على شيء من جدار حجرته ثم طارت وما أكلت اللقمة، فحزن الشيخ لذلك وقال: بذنب مني نفرت العصفورة، حتى تذكر انه اشتهى الخبز بالقديد فأكل، فعلم ان انقطاع العصفورة بسبب ذلك، فعهد أن لا يتناول أبداً شيئاً من الادام فعادت العصفورة.

وحكي انه اشترى كرلوز بستين ديناراً، وكتب في دستوره ثلاثة دنانير ربحه، فارتفع الربح وصار اللوز بتسعين ديناراً. فأتاه الدلال وأخبره انه بتسعين ديناراً فقال: اني عقدت عقداً بيني وبين الله تعالى اني أبيعه بثلاثة وستين لأجله لست أبيعه بأكثر من ذلك! فقال الدلال: واني عقدت عقداً بيني وبين الله تعالى اني لا أغش مسلماً! توفي السري سنة إحدى وخمسين ومائتين. وينسب إليها أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد. أصله من نهاوند ومولده بغداد. كان أبوه زجاجاً وكان هو خرازاً. صحب الحرث المحاسبي وخاله السري السقطي. وكان الجنيد يفتي على مذهب سفيان الثوري. كان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة وثلاثين ألف تسبيحة. وعن جعفر الخلدي أن الجنيد عشرين سنة ما كان يأكل في كل أسبوع إلا مرةً. حكى أبو عمرو الزجاجي قال: أردت الحج فدخلت على الجنيد فأعطاني درهماً شددته في مئزري، فلم أنزل منزلاً إلا وجدت رزقاً فما احتجت إلى إخراج الدرهم؛ فلما عدت إلى بغداد ودخلت عليه مد يده وأخذ الدرهم. وحكى بعض الهاربين عن ظالم قال: رأيت الجنيد واقفاً على باب رباطه فقلت: يا شيخ أجرني أجارك الله! فقال: ادخل الرباط. فدخلت فما كان إلا يسيراً حتى وصل الطالب بسيف مسلول فقال للشيخ: أين مشى هذا الهارب؟ فقال الشيخ: دخل الرباط. فمر على وجهه وقال: تريد أن تقويه علي! قال الهارب: قلت للشيخ كيف دللته علي، أليس لو دخل الرباط قتلني؟ فقال الشيخ: وهل نجوت إلا بقولي دخل الرباط؟ فما زال منا الصدق ومنه اللطف. وحكي أن رجلاً أتى الجنيد بخمسمائة دينار، وكان هو جالساً بين أصحابه، وقال له: خذ هذا وأنفق على أصحابك. فقال له: هل لك غيرها؟ قال: نعم لي دنانير كثيرة! قال: فهل تريد غيرها؟ قال: نعم. قال: خذها إليك فأنت أحوج إليها منا. قال أبو محمد الجزري: لما كان مرض موته كنت على رأسه وهو يقرأ

ويسجد، فقلت: أبا قاسم ارفق بنفسك. فقال: يا أبا ممد هوذا صحيفتي تطوى، وأنا أحوج ما كنت الساعة! ولم يزل باكياً وساجداً حتى فارق الدنيا سنة ثمان وستين ومائتين. وقال جعفر الخلدي: رأيت الجنيد بعد موته في المنام قلت: ما فعل الله بك يا أبا قاسم؟ فقال: طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات، ونفدت تلك العلوم وامحت تلك الرسوم، وما بقينا إلا على الركيعات التي كنا نصليها في جوف الليل! وينسب إليها أبو الحسن علي بن محمد المزين الصغير. كان من المشايخ الكبار صاحب الحالات والكرامات. حكى أبو عبد الله بن خفيف قال: سمعت أبا الحسن بمكة يقول: كنت في بادية تبوك فقدمت إلى بئر لأستقي منها، فزلقت رجلي فوقعت في قعر البئر فرأيت في البئر زاوية، فأصلحت موضعاً وجلست عليه لئلا يفسد الماء ما علي من اللباس، وطابت نفسي وسكن قلبي، فبينما أنا قاعد إذا أنا بشخشخة فتأملت فإذا حية عظيمة تنزل علي، فراجعت نفسي فإذا نفسي ساكنة، فنزلت ولفت ذنبها علي وأنا هاديء السر لا أضطرب شيئاً، وأخرجتني من البئر وحلت عني ذنبها، فلا أدري الأرض ابتلعتها أم السماء رفعتها؟ فقمت ومشيت إلى حاجتي. وحكى جعفر الخلدي: عزمت على السفر فودعت أبا الحسن المزين وقلت: زودني شيئاً. فقال: إن ضاع شيء وأردت وجدانه أو أردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد. رد إلي ضالتي أو اجمع بيني وبين فلان. قال: فما دعوت في شيء إلا استجبت. توفي بمكة مجاوراً سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. وينسب إليها محمد بن إسماعيل، ويعرف بخير النساج، كان من أقران الثوري. عاش مائة وعشرين سنة. كان أسود عزم الحج. أخذه رجل على باب الحرم وقال: أنت عبدي واسمك خير! فمكث على ذلك مدة يستعمله في

نسج الخز ثم عرف أنه ليس عبده ولا اسمه خير، قال له: أنت في حل من جميع ما عملت لك. وفارقه. وحكي أن رجلاً جاءه وقال له: يا شيخ أمس قد بعت الغزل وشددت ثمنه في مئزرك، وأنا جئت خلفك وحللته فقبضت يدي! فضحك الشيخ وأومى إلى يده فحلت وقال: اصرف هذه الدراهم في شيء من حاجتك ولا تعد إلى مثلها. ورئي في المنام بعد موته، قيل له: ما فعل الله بك؟ قال: لا تسألني عن هذا، استرحت من دنياكم الوضرة! وينسب إليها أبو محمد رويم بن أحمد البغدادي. كان من كبار المشايخ وكان عالماً بعلم القراءة والفقه على مذهب داود، وكان يقول: من حكمة الحكيم الشريعة على إخوانه والتضييق على نفسه، لأن حكم الشريعة اتباع العلم وحكم الورع التضييق على نفسه. حكي انه اجتاز وقت الظهيرة بدرب في بغداد وكان عطشان، فاستسقى من بيت فخرجت جارية بكوز ماء فأخذ منها وشرب، فقالت الجارية: صوفي يشرب بالنهار! فما أفطر بعد ذلك. توفي سنة ثلاث وثلاثمائة. وينسب إليها أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز. كان من المشايخ الكبار، صحب ذا النون المصري والسري السقطي وبشراً الحافي، وكان أبو سعيد يمشي بالتوكل. حكى عن نفسه قال: دخلت البادية مرة بغير زاد فأصابني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأن وصلت إلى العمارة ثم فكرت في نفسي اني سلوت، واتكلت على غيري فآليت ألا أدخل المرحلة إلا إذا حملت إليها، فحفرت لنفسي في الرمل حفيرة وواريت جسدي فيها إلى صدري، فلما كان نصف الليل سمعوا صوتاً عالياً: يا أهل المرحلة إن لله ولياً في هذه المرحلة فالحقوه! فجاءت جماعة وأخرجوني وحملوني إلى القرية. وينسب إليها الأستاذ علي بن هلال الخطاط، ويعرف بابن البواب، كان

عديم النظير في صنعته، لم يوجد مثله لا قبله ولا بعده، فإن الكتابة العربية كانت بطريقة الكوفية ثم إن الوزير أبا الحسن بن مقلة نقلها إلى طريقته، وطريقته أيضاً حسنة، ثم إن ابن البواب نقل طريقة ابن مقلة إلى طريقته التي عجز عنها جميع الكتاب من حسنها وحلاوتها وقوتها وصفاتها، ولا يعرف لطافة ما فيها إلا كبار الكتاب، فإنه لو كتب حرفاً واحداً مائة مرة لا يخالف شيء منها شيئاً لأنها قلبت في قالب واحد، والناس كلهم بعده على طريقته. توفي سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة. وينسب إليها أبو نواس الحسن بن هانيء. كان أديباً فصيحاً بليغاً شاعراً أوحد زمانه. حكي أن الرشيد قرأ يوماً: ونادى فرعون في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ فقال: اطلبوا لي شخصاً أنذل ما يكون حتى أوليه مصر. فطلبوا شخصاً مخبلاً كما أراد الخليفة، فولاه مصر وكان اسمه خصيباً. فلما ولي أحسن السيرة وباشر الكرم وانتشر ذكره في البلاد حتى قيل: إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأين لنا أرضٌ سواه نزور فتىً يشتري حسن الثّناء بماله ... ويعلم أنّ الدّائرات تدور فقصده شعراء العراق وأبو نواس معهم وهو صبي، فلما دنوا من مصر قالوا ذات يوم: نحن من أرض العراق وندخل مصر فلا يأخذن علينا المصريون خطأً أو عيباً! ليعرض كل واحد منا شعره حتى نعتبره، فإن كان شيء منها محتاجاً إلى إصلاح أصلحناه. فأظهر كل واحد ما معه على القوم، فقالوا لأبي نواس: هات ما عندك. فقال: عندي هذا: واللّيل ليلٌ والنّهار نهار ... والبغل بغلٌ والحمار حمار والديك ديكٌ والدّجاجة زوجه ... والبطّ بطٌّ والهزار هزار

فضحكوا وقالوا: هذا أيضاً له وجه للمضاحك! فلما دخلوا على الخصيب وضعوا كرسياً كل واحد من الشعراء يقف عليه ويورد شعره حتى أوردوا جميعهم. بقي أبو نواس فقال بعض الشعراء: ارفعوا الكرسي، ما بقي أحد! فقال أبو نواس: اصبروا حتى أورد بيتاً واحداً ثم بعد ذلك إن أردتم فارفعوا، فأنشأ يقول: أنت الخصيب وهذه مصر ... فتشابها فكلاهما بحر! فتحير الشعراء وأنشد قصيدة خيراً من قصائدهم كلها. وحكي أن محمداً الأمين أمر بحبسه وأمر أن لا يترك عنده كاغد ودواة، فحبس في دار، فدخل عليه خادم من خدام الخليفة ونام عنده وعليه جبة سوداء، فأخذ قطعة جص من الحائط وكتب على جبة الخادم: ما قدر عبدك بي نواس ... وهو ليس بذي لباس ولغيره أولى بها ... إن كنت تعمل بالقياس ولئن قتلت أبا نواسك ... قيل من هو بو نواس؟ فقرأوا وفرجوا عنه. وذكر أنه رئي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: قد غفر لي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي؛ فوجدوا تحت وسادته رقعة فيها مكتوب: يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرةً ... فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلاّ المحسن ... فمن الذي يرجوه عبدٌ مجرم أدعوك يا ربّي إليك تضرّعاً ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلةٌ غير الرّجا ... وكريم عفوك ثمّ إني مسلم

بغشور

بغشور مدينة بين هراة ومرو الروذ، ينسب إليها سيد الابدال أبو الحسين الثوري. كان يسكن الخراب ولا يدخل المدينة إلا يوم الجمعة، فإذا أراد الجنيد زيارته أخذ معه شيئاً من الطعام ويدور في الخراب إلى أن يجده. فإذا وجده ألح عليه ليأكل معه ويقول له: إلى كم تسيح؟ فيجيبه: إلى حصول المقصود وهيهات من ذلك! وحكي أن الجنيد بعث إليه شيئاً من الذهب، قطعتان كانتا من الجنيد والباقي كان من غيره. فلما وصل إليه أخذ قطعتي الجنيد ورد الباقي. وحكى عن نفسه قال: كان في نفسي شيء من الكرامات فأردت تجربته، فرأيت الصبيان معهم قصبة في رأسها خيط يصطادون بها السمك، فأخذت قصبة ووقفت بين زورقين فقلت: وعزتك إن لم تخرج لي سمكة فيها ثلاثة أرطال لأغرمن نفسي! فخرجت سمكة فيها ثلاثة أرطال. وحكي أنه وقع ببغداد حريق فوقف تاجر على طرف الحريق يقول: من أخرج هذين الغلامين له ألف دينار! فقالوا: من يجسر أن يقرب إلى هذه النار؟ حتى حضر أبو الحسين الثوري وقال: بسم الله الرحمن الرحيم! وأخرج الغلامين لم يتأذ شعرة منهما. فقيل له: كيف دخلت هذه النار؟ قال: سن الله انه لم يحرق الغلامين، وهما غير مذنبين. وحكي أنه سمع قائلاً يقول: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً ... تتحيّر الألباب عند نزوله فاشتد به الوجد فلم يزل يعدو في أجمة قصب قطعت رؤوسها حتى تقطعت قدمه ومات، عليه رحمه الله. وحكي أن أبا الحسين أحمد بن محمد الثوري دخل يوماً الماء ليغتسل، فجاء لص وأخذ ثيابه، فلما خرج لم يجد ثيابه، فرجع إلى الماء فما كان إلا قليل

بلاد الديلم

وجاء اللص ومعه ثياب أبي الحسين، وقد جفت يده اليمنى، فخرج أبو الحسين من الماء ولبس ثيابه ثم قال: يا سيدي، رد علي ثيابي، رد عليه يده! فرد الله عليه يده. وحكي أن الثوري مرض فجاء الجنيد إليه لعيادته بشيء من الدراهم فردها، ومرض الجنيد فذهب إليه الثوري ووضع يده على جبهته فعوفي من ساعته، وقال للجنيد: إذا عدت إخوانك فأوفهم مثل هذا البر! توفي الثوري سنة خمس وتسعين ومائتين، رحمة الله عليه. وينسب إليها الإمام العالم البارع الورع محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي. كان عديم النظير في علم التفسير وأحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصحابة وأسامي الرواة وعلم الفقه والأدب، وتصانيفه في غاية الحسن والصحة واعتماد أهل الحديث والفقه على تصانيفه، وسموه محيي السنة. كان معاصراً للإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والإمام فخر الإسلام أبي المحاسن الروياني، رحمة الله عليهم أجمعين. بلاد الديلم بأرض الجبال بقرب قزوين، وهي بلاد كلها جبال ووهاد، وفيها خلق كثير من الديلم، وهم أشد الناس حمقاً وجهلاً! بينهم قتال فإذا قتل واحد منهم قتلوا من تلك القبيلة أي واحد كان. وكانوا ملوك بلاد الجبال قديماً. ذكر أن أصلهم من بني تميم، ولذلك ترى أكثرهم يميلون إلى الأدب والعربية. منهم ملوك آل بويه وكانوا كلهم فضلاء أدباء. ينسب إليها شمس المعالي قابوس بن وشمكير. كان ملكاً فاضلاً أديباً. كان أخوه مرداويج صاحب بلاد الجبال، وكان عساكره الديلم والترك وبينهما خصومة. وهو ينصر الديلم لأنهم كانوا أنسابه، فالترك كبسوا عليه في الحمام وقتلوه، فقام قابوس مقامه وتضعضع الملك، فانتزع آل بويه بلاد الجبال منه،

بلخ

فهب إلى طبرستان يستنجد بملوك بني سامان، ويحارب آل بويه إلى أن غدر به ابنه منوجهر وحبسه في بعض القلاع، وملوك الديلم ما كانوا في طاعة الخلفاء. فلما وقع لقابوس ما وقع قال المقتدر بالله: قد قبس القابسات قابوس ... ونجمه في السّماء منحوس! فكيف يرجى الفلاح من رجلٍ ... يكون في آخر اسمه بوس؟ فلما سمع قابوس ذلك قال: يا ذا الذي بصروف الدّهر عيّرنا ... هل عاند الدّهر إلاّ من له خطر؟ أما ترّى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... ويستقرّ بأدنى قعره الدّرر؟ وفي السّماء نجومٌ غير ذي عددٍ ... وليس يكسف إلاّ الشّمس والقمر بلخ مدينة عظيمة من أمهات بلاد خراسان. بناها منوجهر بن ايرج بن افريدون. أهلها مخصوصون بالطرمذة من بين سائر بلاد خراسان. كان بها النوبهار، وهو أعظم بيت من بيوت الأصنام. لما سمع ملوك ذلك الزمان بشرف الكعبة واحترام العرب إياها، بنوا هذا البيت مضاهاة للكعبة، وزينوه بالديباج والحرير والجواهر النفية، ونصبوا الأصنام حوله. والفرس والترك تعظمه وتحج إليه وتهدي إليه الهدايا. وكان طول البيت مائة ذراع في عرض مائة، وأكثر من مائة ارتفاعاً، وسدانته للبرامكة، وملوك الهند والصين يأتون إليه، فإذا وافوا سجدوا للصنم وقبلوا يد برمك. وكان برمك يحكم في تلك البلاد كلها، ولم يزل برمك بعد برمك إلى أن فتحت خراسان في أيام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وانتهت السدانة إلى برمك أبي خالد، فرغب في الإسلام وسار إلى عثمان وضمن المدينة بمال، وفتح عبد الله بن عامر بن كريز

خراسان وبعث إلى النوبهار الأحنف بن قيس بن الهيثم فخربها. ينسب إليها من المشاهير إبراهيم بن أدهم العجلي، رحمه الله، كان من ملوك بلخ، وكان سبب تركه الدنيا انه كان في بعض متصيداته يركض خلف صيد ليرميه، فالتفت الصيد إليه وقال: لغير هذا خلقت يا إبراهيم! فرجع ومر على بعض رعاته ونزل عن دابته، وخلع ثيابه وأعطاها للراعي ولبس ثياب الراعي واختار الزهد. وحكي أنه ركب سفينة في بعض أسفاره، فلما توغل في البحر طالبه الملاح بالأجرة وألح عليه، فقال له إبراهيم: اخرجني إلى هذه الجزيرة حتى أؤدي أجرتك! فأخرجه إليها وذهب معه فصلى إبراهيم ركعتين وقال: إلهي يطلب أجرة السفينة! فسمع قائلاً يقول: خذ يا إبراهيم. فمد يده نحو السماء وأخذ دينارين دفعهما إلى الملاح وقال: لا تذكر هذا لأحد! ورجعا إلى السفينة فهبت ريح عاصف واضطربت السفينة فأشرفت على الهلاك، فقال الملاح: اذهبوا إلى هذا الشيخ ليدعو الله. فذهب القوم إليه وهو مشغول بنفسه في زاوية؛ قالوا: إن السفينة أشرفت على الهلاك، ادع الله تعالى لعله يرحمنا! فنظر إبراهيم بموق عينه نحو السماء وقال: يا مرسل الرياح من علينا بالعاطفة والنجاح! فسكنت الريح في الحال. وحكي أنه مر به بعض رعاته من بلخ فرآه جالساً على طرف ماء يرقع دلقاً، فجلس إليه يعيره بترك الملك واختيار الفقر، فرمى إبراهيم إبرته في الماء وقال: ردوا إلي إبرتي! فأخرج سمك كثير من الماء رؤوسها وفي فم كل واحدة إبرة من الذهب. فقال: لست أريد غير إبرتي! فأخرجت واحدة رأسها بإبرته. فقال للرجل: أي الملكين خير هذا أم ذاك؟ وحكي أنه اجتاز به جندي سأل منه الطريق فأشار إلى المقبرة، فتأذى الرجل الجندي وضربه فشج رأسه. فلما عرف انه إبراهيم جاء إليه معتذراً فقال له: إنك وقت ضربتني دعوت لك لأنك حصلت لي ثواباً فقابلت ذلك بالدعاء.

وحكي أن إبراهيم كان ناطوراً في بستان بأجرة، فإذا هو نائم وحية تروحه بطاقة نرجس. وجاءه رجل جندي يطلب منه شيئاً من الثمرة، وهو يقول: أنا ناطور ما أمرني صاحب البستان ببذل شيء منها! فجعل الجندي يضربه وهو يقول: اضرب على رأس طالما عصى الله تعالى! توفي سنة إحدى وستين ومائة. وينسب إليها أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي من كبار مشايخ خراسان، أستاذ حاتم الأصم. وكان أول أمره رجلاً تاجراً سافر إلى بلاد الهند. دخل بيتاً من بيوت الأصنام فرأى رجلاً حلق رأسه ولحيته يعبد الصنم فقال له: ان لك إلهاً خالقاً رازقاً فاعبده ولا تعبد الصنم، فإنه لا يضر ولا ينفع! فقال عابد الصنم: إن كان كما تقول فلم لا تقعد في بيتك وتتعب للتجارة، فإنه يرزقك في بيتك؟ فتنبه شقيق لقوله وأخذ في طريق الزهد. وحكي أن أهله شكت إليه من الفاقة فقام يظهر أنه يمشي إلى شغل الطين ودخل بعض المساجد وصلى إلى آخر النهار وعاد إلى أهله وقال: عملت مع الملك فقال اعمل أسبوعاً حتى أوفيك أجرتك دفعة واحدة. وكان كل يوم يمشي إلى المسجد ويصلي، فلما كان اليوم السابع قال في نفسه: لو لم يكن اليوم معي شيء تخاصمني أهلي! فأجر نفسه من شخص ليعمل له يومه وأهله تنتظر مجيئه آخر النهار بأجرة الأيام، إذ دق الباب أحد وقال: بعثني الملك بأجرة الأيام التي عمل له فيها شقيق، ويقول لشقيق: ما الذي صدك عنا حتى اشتغلت اليوم بشغل غيرنا؟ فذهبت المرأة إليه فسلم إليها صرة فيها سبعون ديناراً. وحكى حاتم الأصم أن علي بن عيسى بن ماهان كان أمير بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلب من كلابه يوماً، فاتهم به جار شقيق فاستجار به، فدخل شقيق على الأمير وقال: خلوا سبيله فإني أرد لكم كلبكم إلى ثلاثة أيام، فخلوا سبيله فانصرف شقيق مهتماً لما صنع، فلما كان اليوم الثالث كان رجل من أهل بلخ غائباً، وكان من رفقاء شيق، وكان لشقيق فتىً، وهو رفيقه، رأى في الصحراء كلباً في رقبته قلادة فقال: أهديه إلى شقيق. فحلمه إليه فإذا

هو كلب الأمير سلمه إليه. استشهد شقيق في غزوة كولان سنة أربع وتسعين ومائة. وينسب إليها أبو حامد أحمد بن حضرويه من كبار مشايخ خراسان. صحب أبا تراب النخشبي وكان زين العارفين أبو يزيد يقول: أستاذنا أحمد ذكر أنه اجتمع عليه سبعمائة دينار ديناً، فمرض وغرماؤه حضروا عنده فقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقةً لأرباب الأموال وأنت وثيقتي فادعني، فدق بابه أحد وقال: اين غرماء أحمد؟ وقضى عنه جميع ديونه ثم فارق الدنيا، وذلك في سنة أربع ومائتين عن خمس وتسعين سنة. وينسب إليها عبد الجليل بن محمد الملقب بالرشيد، ويعرف بوطواط. كان كاتباً للسلطان خوارزمشاه إتسز. وكان أديباً فاضلاً بارعاً ذا نظم ونثر بالعربية والعجمية، والسلطان يحبه لا يفارقه ساعة لظرافته وحسن مجالسته، فأمر أن يبنى له قصر بحذاء قصر السلطان حتى يحادثه من الروشن، فأخرج الرشيد رأسه مرة من الروشن فقال السلطان: يا رشيد أرى رأس ذئب خارجاً من روشنك! فقال: أيها الملك ما هو رأس الذئب، ذاك سجنجل أنا أخرجته! فضحك السلطان من عجيب جوابه! وحكي أن أحداً من أصحاب الديوان يستعير دوابه كثيراً فكتب إليه: بلغني من النوادر المطربة والحكايات المضحكة أن تاجراً استأجر حماراً من نيسابور إلى بغداد، وكان حماراً ضعيفاً لا يمكنه السير، ولا يرجى منه الخير، إذا حرك سقط، وإذا ضرب ضرط، من مكاري قليل السكون، كثير الجنون، طول الطريق يبكي دماً، ويتنفس الصعداء ندماً، فبعد اللتيا والتي وصل إلى بغداد والحمار ضئيل، ولم يبق من المكاري إلا القليل، إذ سمع صيحةً هائلة تصرع القلوب، وتشق الجيوب، فالتفت المكاري فإذا المحتسب بدرته، وصاحب الشرطة لابس ثوب شرته، فقال المكاري: ماذا حدث؟ قالوا: ههنا تاجر فاجر، أخذ مع غلام الخطيب، كالغصن الرطيب، تواتر عليه

الصفعات المغمية، والضربات المدمية، طلبوا حماراً، وكان حمار المكاري حاضراً، فتعادوا إليه، وأركبوا التاجر عليه، فالمكاري ذهب عنه القرار، وينادي بالويل ويعدو خلف الحمار، إلى أن طيف بجيمع المحال والبلد بغداد، فلما كان المساء ردوا الحمار إلى المكاري جائعاً سلم الطوى إلى التوى، والصدى إلى الردى! فأخذه المكاري مترحماً مد أذنيه، وتفل ما بين عينيه، وزاد في علفه، خوفاً من تلفه. فلما دنا الصباح، وظهر أثر النهار ولاح، قرع سمعه صوت أهول من الصيحة الأمسية، فالتفت المكاري فإذا المحتسب على الباب، وصاحب الشرطة كاشر الناب، فقال المكاري: ماذا حدث؟ قالوا: ذاك التاجر أخذ مرة أخرى مع غلام القاضي، كالسيف الماضي، فأراد المكاري أن يواري الحمار، فسبقت العامة إليه، وأركبوا التاجر عليه، والمكاري يعدو خلفه ويصيح، بعين باكية وقلب جريح، إلى أن طيف به في جميع المحال ثم ردوه إلى المكاري وقد أشرف على الهلاك، ولا يقدر على الحراك، فبات المكاري مسلوب القرار، في مداواة الحمار، فلما انتشرت أعلام الضوء، في أقطار الجو، صكت أذنه من الصيحتين الأوليين، فالتفت فإذا المحتسب في الدرب، وصاحب الشرطة منشمر للضرب، فقال المكاري: ماذا حدث؟ قالوا: ذاك التاجر أخذ مرة أخرى مع غلام الرئيس، كالدر النفيس، والعامة رأت حمار المكاري فعدت إليه فعدا المكاري إلى التاجر وقال: يا خبيث! ان لم تترك صنعتك الشنيعة، ولم ترجع عن فعلتك القبيحة، فاشتر حماراً يركبونك عليه كل يوم فقد أهلكت حماري، وأزلت قراري! وها أنا أقول ما قال المكاري للتاجر، إن أردت أن تكون كاتباً للأمير، فهييء النقس والطرس، وإلا فالزم البيت والعرس.

بلد

بلد قرية من أعمال الموصل يقال لها بلد باشاي. حكى الشيخ عمر التسليمي، وكان من أهل التصوف، قال: وصلت إلى هذه القرية، فلما كان وقت خروج نور الغبيراء اهتاج بنسائها شهوة الوقاع، يستحيين من ذلك لغلبة الشهوة ولا قدرة للرجال على قضاء أوطرهن. فعند ذلك أخرجن إلى واد بقرب الضيعة، وهن بها كالسنانير عند هيجانها، إلى أن انقضت مدتهن ثم تراجعن إلى بيوتهن وقد عاد إليهن التمييز! قال: وسمعت أن كل سنة في هذا الوقت تحدث بهن هذه الحالة. بلور ناحية بقرب قشمير؛ قال صاحب تحفة الغرائب: بها موضع في كل سنة ثلاثة أشهر يدوم فيه الثلج والمطر بحيث لا يرى فيها قرص الشمس. وحكي ان بهذه الأرض بيتاً فيه صنم على صورة امرأة لها ثديان، وكل من طال مرضه وضجر منه يدخل على هذا الصنم ويمسح يده على ثديها، فيتقاطر من ثديها ثلاث قطرات فيمزج تلك القطرات بالماء ويشرب، فإما يزول مرضه أو يموت سريعاً ويستريح من تعب المرض. بنان موضع لست أعرف أرضه. ينسب إليه أبو الخير البناني صاحب العجائب رحمه الله. سمع بفضله إبراهيم بن المولد فذهب إليه، فقام أبو الخير يصلي بالقوم فما أعجب إبراهيم قراءته الفاتحة، فأنكر عليه في باطنه، فعرف أبو الخير ذلك بنور الباطن. فلما فارقه إبراهيم وخرج من عنده اعترضه سبع، وكانت صومعة أبي الخير في غيضة كان فيها سباع، فعاد إلى الشيخ وقال: ان

بوشنج

سبعاً صال علي! فخرج الشيخ وقال للسبع: ما قلت لكم لا تتعرضوا لأضيافي؟ فولى الأسد وذهب، فقال الشيخ: يا إبراهيم اشتغلتم بتقويم الظاهر ونحن اشتغلنا بتقويم الباطن، فخفتم أنتم من السبع وخاف السبع منا! بوشنج مدينة كبيرة من مدن خراسان، ذات مياه وبساتين وأشجار كثيرة. ينسب إليها منصور بن عمار. كان واعظاً عظيماً عجيب الكلام طيب الوعظ مشهوراً؛ حكى سليم بن منصور قال: رأيته في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدناني وقربني وقال: يا شيخ السوء أتدري لم غفرت لك؟ قلت: لا يا رب! قال: انك جلست للناس يوماً فبكيتهم فبكى فيهم عبد من عبادي لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له ووهبت أهل المجلس له ووهبتك فيمن وهبت له. وحكي أن منصور بن عمار وجد رقعة عليها بسم الله الرحمن الرحيم فأخذها فلم يجد لها موضعاً فأكلها. فرأى في نومه قائلاً يقول: فتح الله عليك باب الحكمة باحترامك اسم الله تعالى. وحكى أبو الحسن السعدي قال: رأيت منصور بن عمار في النوم بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال لي: قال أنت منصور بن عمار؟ قلت: نعم يا رب! قال: أنت الذي تزهد في الدنيا وترغب فيها. قلت: قد كان ذلك ولكن ما اتخذت مجلساً إلا بدأت بالثناء عليك، وثنيت بالصلاة على نبيك، وثلثت بالنصيحة لعبادك. فقال: صدق! ضعوا له كرسياً يمجدني في سمائي بين ملائكتي كما مجدني في الأرض بين عبادي. والله الموفق. وحكي أن رجلاً شريفاً جمع يوماً ندماءه للشرب، وسلم إلى غلامه أربعة دراهم ليشتري لهم بها فواكه، فاجتاز الغلام بمجلس منصور بن عمار وكان يطلب لفقير أربعة دراهم، فقال: من يعطي له أربعة دراهم ادعو له

باخرز

أربع دعوات. فدفع إليه الغلام الدراهم فقال منصور: ما الذي تريد من الدعوات؟ فقال: أريد العتق! فقال: اللهم ارزقه العتق! قال: وما الآخر؟ قال: أن يخلف الله علي دراهمي. فدعا له به. قال: وما الآخر؟ قال: ان يتوب الله على سيدي. فدعا له به. قال: وما الآخر؟ قال: أن يغفر الله لي ولك ولسيدي وللحاضرين. فدعا به. فلما رجع إلى سيده قال: ما الذي أبطأ بك؟ فقص عليه القصة فقال: سألت لنفسي العتق. فقال: أنت حر لوجه الله تعالى! قال: وان يخلف علي الدراهم. قال: لك أربعة آلاف درهم. قال: وما الثالث؟ قال: أن يتوب الله عليك. قال: تبت إلى الله عز وجل. قال: وما الرابع؟ قال: أن يغفر الله لي ولك وله وللحاضرين. فقال: هذا ليس إلي! فلما نام رأى في نومه قائلاً يقول له: أنت فعلت ما كان إليك، أترى اني لم أفعل ما إلي؟ قد غفرت لك وللغلام وللحاضرين ولمنصور. باخرز بلدة من بلاد خراسان. ينسب إليها أبو الحسن الباخرزي. كان أديباً فاضلاً بارعاً لطيفاً، أشعاره في غاية الحسن ومعانيه في غاية اللطف. وله ديوان كبير أكثره في مدح نظام الملك وبعض الأدباء. التقط من ديوانه الأبيات العجيبة قدر ألف بيت سماه الأحسن. وكان بينه وبين أبي نصر الكندري مخاشنة في دولة بني سبكتكين، فلما ظهرت الدولة السلجوقية ما كان أحد من العمال يجسر على الاختلاط بهم، فأول من دخل معهم أبو نصر الكندري. استوزره السلطان طغرلبك فصار مالك البلاد. أحضر أبا الحسن الباخرزي وأحسن إليه وقال: إني تفاءلت بهجوك لي. إذا كان أوله أقبل فإن أبا الحسن هجاه بأبيات أولها: اقبل من كندرٍ مسخرةٌ ... للشّؤم في وجهه علامات واقطعوا باخرز لأمير زوج امرأة من نساء بني سلجوق، فرأت أبا الحسن

بيهق

وقالت: أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المنام على هذه الصورة. فصار محظوظاً عندهم، وآخر الأمر قتل بسبب هذه المرأة، وصار حسن صورته وبالاً عليه كريش الطاووس وشعر الثعلب. بيهق بليدة بخراسان. ينسب إليها الإمام أبو بكر أحمد البيهقي. كان أوحد زمانه في الحديث والفقه والأصول، وله السنن الكبير وتصانيف كثيرة. كان على سيرة علماء السلف قانعاً من الدنيا بالقليل الذي لا بد منه. قال إمام الحرمين: ما من أحد من أصحاب الشافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي فإن له على الشافعي منة، لأن تصانيفه كلها في نصرة مذهب الشافعي. حكى الفقيه أبو بكر بن عبد العزيز المروزي: رأيت في المنام تابوتاً يعلو فوقه نور نحو السماء فقلت: ما هذا؟ قالوا: فيه تصانيف أبي بكر البيهقي. وحكى بعض الفقهاء قال: رأيت الشافعي قاعداً على سرير وهو يقول: استفدت من كتاب أحمد البيهقي حديث كذا وحديث كذا. تبريز مدينة حصينة ذات أسوار محكمة. وهي الآن قصبة بلاد آذربيجان. بها عدة أنهر والبساتين محيطة بها. زعم المنجمون أنها لا تصيبها من الترك آفة لأن طالعها عقرب والمريخ صاحبها، فكان الأمر إلى الآن كما قالوا، ما سلم من بلاد آذربيجان مدينة من الترك غير تبريز. وهي مدينة آهل كثيرة الخيرات والأموال والصناعات، وبقربها حمامات كثيرة عجيبة النفع يقصدها المرضى والزمنى ينتفعون بها. وتحمل منها الثياب العتابي والسقلاطون والأطلس والنسج إلى الآفاق. ونقودها ونقود أكثر بلاد آذربيجان الصفر المضروب فلوساً. وقطاع الطنجير والهاون والمنارة إذا أرادوا

تهران

المعاملة عليها اشتروا بها المتاع، فما فضل أخذوا به قطعة صغيرة. ينسب إليها أبو زكرياء التبريزي. كان أديباً فاضلاً كثير التصانيف. فلما بنى نظام الملك المدرسة النظامية ببغداد، جعلوا أبا زكرياء خازن خزانة الكتب. فلما وصل نظام الملك إلى بغداد دخل المدرسة ليتفرج عليها، وفي خدمته أعيان جميع البلاد ووجوهها، فقعد في المدرسة في محفل عظيم والشعراء يقومون ينشدون مدائحه والدعاة يدعون له. فقام رجل ودعا لنظام الملك وقال: هذا خير عظيم قد تم على يدك! ما سبقك بها أحد، وكل ما فيها حسن إلا شيئاً واحداً، وهو أن أبا زكرياء التبريزي خازن خزانة الكتب، وانه رجل به أبنة يدعو الصبيان إلى نفسه! فانكسر أبو زكرياء انكساراً شديداً في ذلك المحفل العظيم. فلما قام نظام الملك قال لناظر المدرسة: كم معيشة أبي زكرياء؟ قال: عشرة دنانير! قال: اجعلها خمسة عشر ان كان كما يقول لا تكفيه عشرة دنانير! فانكسر أبو زكرياء من فضيحة ذلك المتعدي وكفاه ذلك كفارة لجميع ذنوبه، ومن ذلك اليوم ما حضر شيئاً من المحافل والمجامع حياء وخجالة. تهران قرية كبيرة من قرى الري كثيرة البساتين كثيرة الأشجار مؤنقة الثمار. ولهم تحت الأرض بيوت كنافقاء اليربوع، إذا جاءهم قاصد عدو اختبأوا فيها، فالعدو يحاصرهم يوماً أو أياماً ويمشي. فإذا خرجوا من تحت الأرض أكثروا الفساد من القتل والنهب وقطع الطريق. وفي أكثر الأوقات أهلها عصاة على السلاطين، ولا حيلة إلى ضبطهم إلا بالمداراة. وفيها اثنتا عشرة محلة كل محلة تحارب الأخرى، وإذا دخلوا في طاعة السلطان يجتمع عاملها بمشايخ القرية يطالبهم بالخراج، وتوافقوا على اداء الخراج المعهود للسلطان. يأتي أحدهم بديك ويقول: هذا بدينار! والآخ يأتي باجانة ويقول: هذا بدينار! ويؤدون الخراج على هذا الوجه وإلا فلا فائدة منهم

جاجرم

أصلاً. وهم موترصدون للخلاف، ويرضى الوالي منهم بأن يقال: انهم في الطاعة وأدوا الخراج. وانهم لا يزرعون على البقر خوفاً من أنهم إذا خالفوا يؤخذ عواملهم، وإنما يزرعون بالمساحي ولا يقتنون الدواب والمواشي لما ذكرنا أن أعداءهم كثيرون فيأخذون مواشيهم. وفواكههم كثيرة وحسنة جداً، سيما رمانهم فإن مثلها غير موجود في شيء من البلاد. جاجرم مدينة بأرض خراسان مشهورة بقرب اسفرايين. بها عين تنبع قناة بين جاجرم واسفرايين؛ حدثني بعض فقهاء خراسان: من غاص في ماء هذه العين يزول جربه. الجبال ناحية مشهورة يقال لها قهستان. شرقها مفازة خراسان وفارس، وغربها آذربيجان، وشمالها بحر الخزر، وجنوبها العراق وخوزستان. وهي أطيب النواحي هواء وماء وتربة. وأهلها أصح الناس مزاجاً وأحسنهم صورة؛ قالوا: إنها تربة ديلمية لا تقبل العدل والانصاف ومن وليها عصى! وكتب الإسكندر إلى أرسطاطاليس: أرى بأرض الجبال ملوكاً حساناً لا أختار قتلهم، وان تركتهم لا آمن عصيانهم، فماذا ترى؟ فكتب إليه أرسطاطاليس: أن سلم كل بقعة إلى أحد. ففعل ذلك وظهرت ملوك الطوائف، فلما مات الإسكندر اختلفوا فغلبهم أردشير بن بابك جد ملوك ساسان. فاتخذها الأكاسرة مصيفاً لطيب هوائها وسلامتها من سموم العراق وسخونة مائه وكثرة ذبابه وهوامه وحشراته، ولذلك قال أبو دلف العجلي: وإني امرؤٌ كسرويّ الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا

لا ينبت بها النخل والنارنج والليمون والأترج، ولا يعيش بها الفيل والجاموس ولو حملا إليها ماتا دون سنة. وقصبتها أصفهان والري وهمذان وقزوين. وبها من الجبال والأودية ما لا يحصى. بها جبل أروند وهو جبل نزه خضر نضر مطل على همذان، حكى بعض أهل همذان قال: دخلت على جعفر بن محمد الصادق فقال: من أين أنت؟ قلت: من همذان. قال: أتعرف جبلها راوند؟ قلت: جعلني الله فداك! جبلها أروند؟ قال: نعم إن فيها عيناً من عيون الجنة! وأهل همذان يرون الماء الذي على قلة الجبل، فإنها يخرج منها الماء في وقت من أوقات السنة معلوم، ومنبعه من شق في صخر وهو ماء عذب شديد البرد، فإذا جاوزت أيامه المعدودة ذهب إلى وقته من العام المقبل لا يزيد ولا ينقص، وهو شفاء للمرضى يأتونه من كل جهة، وذكروا أنه يكثر إذا كثر الناس عليه ويقل إذا قلوا. وبها جبل بيستون بين همذان وحلوان وهو عال ممتنع لا ترتقى ذروته، ومن أعلاه إلى أسفله أملس كأنه منحوت وعرضه ثلاثة أيام وأكثر. ذكر في تواريخ العجم أن حظية كسرى ابرويز شيرين المشهورة بالحسن والجمال عشقها رجل حجار اسمه فرهاذ، وتاه في حبها واشتهر ذلك بين الناس، فذكر أمره لأبرويز فقال لأصحابه: ماذا ترون في أمر هذا الرجل ان تركته وما هو عليه فهتك وقبح، وإن قتلته أو حبسته فعاقبت غير مجرم؟ فقال بعض الحاضرين: اشغله بحجر حتى يصرف عمره فيه! فاستصوب كسرى رأيه وأمر بإحضاره، فدخل وهو رجل ضخم البدن طويل القامة مثل الجمل الهائج، فأمر كسرى بإكرامه وقال: ان على طريقنا حجراً يمنعنا من المرور، نريد أن تفتح فيه طريقاً يصلح لسلوكنا فيه، وقد عرفنا دربتك وذكاءك! وأشار إلى بيستون لفرط شموخه وصلابة حجره. فقال الصانع: ارفع هذا الحجر من طريق الملك ان وعدني بشيرين! فتأذى كسرى من هذا لأنها كانت حظيته، لكن قال في نفسه: من يقدر على قطع بيستون؟ فقال في جوابه: نفعل ذلك إذا فرغت! فخرج

فرهاذ من عند كسرى وشرع في قطع الجبل، ورسم فيه درباً يتسع لعشرين فارساً عرضاً، وسمكه أعلى من الرايات والأعلام، فكان يقطع طول نهاره وينقل طول ليله، ويرصف القطاع الكبار شبه الأعدال في سفح الجبل ترصيفاً حسناً يحشو خللها بالنحاتة، ويسويها مع الطريق. وكان ينحت من الجبل شبه منارة عظيمة ثم يقطعها قطعاً كل قطعة كعدل ويرميها، ولقد رأيت عند اجتيازي به شبه منارة فتح جوانبها وما قطعها بعد، ورأيت قطعاً من الحجر كالأعدال عليها آثار ضرب الفاس، وفي كل قطعة حفرتان في جانبيها، ليجعل اليد فيها عند رفعها. فذكر يوماً عند كسرى شدة اهتمامه بقطع الجبل، فقال بعض الحاضرين: رأيته يرمي بكل ضربة شبه جبل، ولو بقي على ما هو عليه لا يبعد أن يفتح الطريق. فانفرق كسرى فقال بعضهم: أنا أكفيك أمره! فبعث إليه من أخبره بموت شيرين. فلما سمع ذلك ضرب فأسه على الحجر وأثبته فيه، ثم جعل يضرب رأسه على الفأس إلى أن مات. ومقدار فتحه من الجبل غلوة سهم، وتلك الآثار باقية إلى الآن لا ريب فيها. وقال أحمد بن محمد الهمذاني: في سفح جبل بيستون ايوان منحوت من الحجر، وفي وسط الايوان صورة فرس كسرى شبديز وابرويز راكب عليه، وعلى حيطان الايوان صورة شيرين ومواليها؛ قيل: صورها فطرس بن سنمار، وسنمار هو الذي بنى الخورنق بظاهر الحيرة، وسببه أن شبديز كان أذكى الدواب وأعظمها خلقاً وأظهرها خلقاً، وأصبرها على طول الركض، كان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سجره، ولا يخر ولا يزبد ما دام عليه لجامه. كان ملك الهند أهداه إلى ابرويز، فاتفق انه اشتكى وزاد شكواه فقال كسرى: من أخبرني بموته قتلته! فلما مات خاف صاحب خيله أن يسأل عنه فيجب عليه الخبر بموته، فجاء إلى البلهبد مغنيه وسأله أن يخبر كسرى ذلك في شيء من الغناء، وكان البلهبد أحذق الناس بالغناء ففعل ذلك. فلما سمع كسرى به فطن بمعناه وقال: ويحك! مات شبديز؟ فقال: الملك يقوله! فقال كسرى: زه! ما

أحسن ما تخلصت وخلصت غيرك! وجزع عليه فطرس بن سنمار فصوره على أحسن مثال، بحيث لا يكاد يفرق بينهما إلا بإدارات الروح، وجاء كسرى فتأمله باكياً وقال: يشد ما بقي هذا التمثال إلينا، وذكرنا ما يصير حالنا إليه بموت جسدنا وطموس صورتنا، ودروس أثرنا الذي لا بد منه، وسيبقى هذا التمثال أثراً من جمال صورتنا للواقفين عليه حتى كأننا بعضهم ونشاهدهم. وحكي من عجائب هذا التمثال انه لم ير مثله، ولم يقف أحد منذ صور من أهل الفكر اللطيف والنظر الدقيق عليه إلا تعجب منه، حتى قال بعض الناس: انها ليست من صنعة البشر! ولقد أعطي ذاك المصور ما لم يعط غيره، فأي شيء أعجب من أن سخرت له الحجار كما أراد، حتى في الموضع الذي أراد أحمر جاء أحمر، وفي الموضع الذي أراد أبيض جاء أبيض، وكذلك سائر الألوان، والظاهر أن الأصباغ التي فيه عالجها بصنف من المعالجات العجيبة لم يغيرها طول الليالي، وصور الفرس واقفاً في وسط الإيوان، وكسرى راكب عليه لابس درعاً كأنه زرد به من حديد، يتبين مسامير الزرد في حلقها، وصور شيرين بحيث يظهر الحسن والملاحة في وجهها كأنها تسلب القلوب بغنجها. وسمعت أن بعض الناس عشق على صورة شيرين، وصار من عشقها متيماً، فكسروا أنفها لئلا يعشق عليها غيره. وذكر قصة شبديز خالد الفياض فقال: والملك كسرى شهنشاه يقبضه ... سهمٌ بريش جناح الموت مقطوب إذ كان لذّته شبديز يركبه ... وغنج شيرين والدّيباج والطّيب بالنّار آلى يميناً شدّ ما غلظت ... ان من يد أفعى الشبديز مصلوب حتى إذا أصبح الشّبديز منجدلاً ... وكان ما مثله في الناس مركوب ناحت عليه من الأوتار أربعةٌ ... بالفارسيّة نوحاً فيه تطريب ورنّم الهربد الأوتار فالتهبت ... من سحر راحته اليسرى شآبيب

فقال: مات؟ فقالوا: أنت فهت به ... فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب! لولا البلهبد والأوتار تندبه ... لم يستطع نعي شبديز المزاريب أخنى الزّمان عليهم فاجر هدبهم ... فما ترى منهم إلاّ الملاعيب وبها جبل دماوند، وهو بقرب الري يناطح النجوم ارتفاعاً ويحكيها امتناعاً، لا يعلوه الغيم في ارتفاعه ولا الطير في تحليقه؛ قال مسعر بن مهلهل: انه جبل مشرف عال شاهق لا يفارق أعلاه الثلج صيفاً ولا شتاءً، ولا يقدر الإنسان أن يعلو ذروته، يراه الناظر من عقبة همذان، والناظر من الري يظن أنه مشرف عليه وبينهما فرسخان، فصعدت الجبل حتى وصلت إلى نصفه بمشقة شديدة، ومخاطرة بالنفس، فرأيت عيناً كبريتية، وحولها كبريت مستحجر، فإذا طلعت عليه الشمس الهتبت ناراً، والدخان يصعد من العين الكبريتية. وحكى أهل تلك النواحي أنهم إذا رأوا النمل يذخر الحب الكثير تكون السنة سنة جدب، وإذا دامت عليهم الأمطار حتى تأذوا منها صبوا لبن الماعز على النار فانقطعت. قال: جربت هذا مراراً فوجدته صحيحاً. وقالوا: إذا رأينا قلة هذا الجبل في وقت من الأوقات متحسراً عن الثلج، وقعت فتنة وأريقت دماء من الجانب الذي نراه متحسراً. وبقرب الجبل معدن الكحل الرازي والمرتك والاسرب والزاج. هذا كله قول مسعر. وحكى محمد بن إبراهيم الضراب قال: ان أبي سمع أن بدماوند معدن الكبريت الأحمر، فاتخذ مغارف حديد طول السواعد واحتال في إخراجه، فذكر انه لا يقرب من ناره حديدة إلا ذابت من ساعتها. وذكر أهل دماوند أن رجلاً من أهل خراسان اتخذ مغارف حديدية طويلة مطلية بها، عالجها بها وأخرج من الكبريت لبعض الملوك. وحكى علي بن رزين وكان حكيماً له تصانيف قال: وجهت جماعة إلى جبل دماوند وهو جبل عظيم شاهق في الهواء، يرى من مائة فرسخ، وعلى رأسه

أبداً مثل السحاب المتراكم، لا ينحسر شتاء ولا صيفاً، ويخرج من أسفله نهر ماؤه أصفر كبريتي، فذكر الجماعة أنهم وصلوا إلى قلته في خمسة أيام وخمس ليال، فوجدوا قلته نحواً من مائة جريب مساحة، على أن الناظر إليها من أسفله يراها كالمخروط. قالوا: وجدنا رملاً تغيب فيه الأقدام، وانهم لم يروا عليها دابة ولا أثر حيوان، وان الطير لا يصل إلى أعلاها والبرد فيها شديد والريح عاصف. وانهم عدوا سبعين كوة يخرج منها الدخان الكبريتي، ورأوا حول كل ثقب من تلك الكوى كبريتاً أصفر كأنه ذهب، وحملوا معهم شيئاً منه. وذكروا أنهم رأوا على قلته الجبال الشامخة مثل التلال، ورأوا بحر الخزر كالنهر الصغير، وبينهما عشرون فرسخاً. وبها جبل ساوة وهو على مرحلة منها. رأيته جبلاً شامخاً إذا أصعدت عليه قدر غلوة سهم رأيت ايواناً كبيراً يتسع لألف نفس، وفي آخرهم قد برز من سقفه أربعة أحجار شبيهة بثدي النساء، يتقاطر الماء من ثلاثة والرابع يابس. أهل ساوة يقولون: انه مصه كافر فيبس! وتحتها حوض يجتمع فيه الماء الذي يتقاطر منها، وعلى باب الإيوان ثقبة لها بابان، وفيها انخفاض وارتفاع؛ يقول أهل ساوة: ان ولد الرشدة يقدر أن يدخل من باب ويخرج من الآخر وولد الزنية لا يقدر! وبها جبل كركس كوه جبل دورته فرخان في مفازة بين الري والقم، وهو جبل وعر المسلك في مفازة بعيدة عن العمارات، في وسطه ساحة فيها ماء، والجبال محيطة بها من جميع جوانبها، فمن كان فيها كأنه في مثل حظيرة. وسمي كركس كوه لأن النسر كان يأوي إليه، وكركس هو النسر، فلو اتخذ معقلاً حصيناً إلا أنه في مفازة بعيدة عن البلاد قلما يجتاز بها أحد. وبها جبل نهاوند، وهو بقرب نهاوند، قال ابن الفقيه: على هذا الجبل طلسمان صورة سمك وثور، قالوا: إنهما لأجل الماء لئلا يقل ماؤه، وماؤه ينقسم قسمين: قسم يجري إلى نهاوند، والآخر إلى الدينور.

جبل

وبها جبل يله بشم. هذا الجبل بقرب قرية يقال لها يل، وهي من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها. حدثني من صعد هذا الجبل قال: عليه صور حيوانات مسخها الله تعالى حجراً، منها راع متكيء على عصاه يرعى غنمه، وامرأة تحلب بقرة، وغير ذلك من صور الإنسان والبهائم. وهذا شيء يعرفه أهل قزوين. وينسب إليها الوزير مهلب بن عبد الله. كان وزيراً فاضلاً قعد به الزمان حتى صار في ضنك من العيش شديد، فرافقه بعض أصدقائه في سفره فاشتهى لحماً ولم يقدر على ثمنه، فاشترى رفيقه له بدرهم لحماً، فأنشأ يقول: الا موتٌ يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه! إذا أبصرت قبراً من بعيدٍ ... وددت لو انّني من ساكنيه! ألا رحم الإله ذنوب عبدٍ ... تصدّق بالوفاة على أخيه! ثم بعد ذلك علا أمره وارتفعت مكانته، فقصده ذلك الرفيق والبواب منعه من الدخول عليه، فكتب على رقعة: ألا قل للوزير: فدتك نفسي ... وأهلي ثمّ ما ملّكت فيه أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ: ... ألا موتٌ يباع فأشتريه فأحضره وحياه وجعله من خاصته. جبل قرية بين النعمانية وواسط، وكانت في قديم الزمان مدينة يضرب بقاضيه المثل في قلة العقل! ومن حديثه ما ذكر أن المأمون أراد المضي إلى واسط، فاستكرى القاضي جمعاً ليثنوا عليه عند وصول الخليفة، فاتفق أن شبارة الخليفة وصلت، وما كان من الجمع المستكرين أحد حاضراً، فخاف القاضي

جرباذقان

أن تفوت الفرصة فجعل يعدو على شاطيء دجلة مقابل الشبارة وينادي بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين، نعم القاضي قاضي جبل! فضحك يحيى بن اكثم، وكان راكباً في الشبارة مع الخليفة، وقال: يا أمير المؤمنين هذا المنادي هو قاضي جبل يثني على نفسه! فضحك المأمون وأمر له بشيء وعزله وقال: لا يجوز أن يلي شيئاً من أمور المسلمين من هذا عقله. جرباذقان بليدة من بلاد قهستان بين أصفهان وهمذان ذات سور وقهندز، لها رئيس يقال له جمال باده، لا يمشي إلى أحد من ملوك قهستان البتة. وله موضع حصين وإلى داره عقود وأبواب وحراس، والملوك كانوا يسامحونه بذلك ويقولون: إن أذيته وإزعاجه غير مبارك! وكان الأمر على ذلك إلى أن ملك الجبال خوارزمشاه محمد، سلمها إلى ابنه وإلى عماد الملك، فوصل عماد الملك إلى جرباذقان. أخبر بعادة الرئيس انه لا يمشي إلى أحد، فغضب من ذلك وبعث إليه يطلبه فأبى. فبعث إليه عسكره دخلوا المدينة قهراً، وتحصن الرئيس بالقلعة فحاصروها أياماً وقتل من الطرفين. فلما اشتد الأمر عليه نزل بالليل وهرب، فخرب عماد الملك القلعة وقتل أكثر أهلها لأنهم قتلوا أصحاب عماد الملك. فعما قريب ورد عساكر التتر وهرب عماد الملك فقتلوه في الطريق، وقتلوا ابن خوارزمشاه وعاد الرئيس إلى حاله كما كان. جرجان مدينة عظيمة مشهورة بقرب طبرستان. بناها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، وهي أقل ندى ومطراً من طبرستان، يجري بينهما نهر تجري فيه السفن، بها فواكه الصرود والجروم، وهي بين السهل والجبل والبر والبحر.

بها البلح والنخل والزيتون والجوز والرمان والأترج وقصب السكر، وبها من الثمار والحبوب السهلية والجبلية المباحة، يعيش بها الفقراء. ويوجد في صيفها جني الصيف والشتاء من الباذنجان والفجل والجزر، وفي الشتاء الجدي والحملان والألبان والرياحين: كالخزامى والخيري والبنفسج والنرجس والأترج والنارنج. وهي مجمع طير البر والبحر، لكن هواءها رديء لأنه يختلف في يوم مضر سيما بالغرباء. وحكي انه كان بنيسابور في أيام الطاهرية ستمائة رجل من بني هلال يقطعون الطريق، فظفروا بهم ونقلوا ثلاثمائة إلى جرجان وثلاثمائة إلى جرجانية بخوارزم. فلما تم عليهم الحول لم يبق ممن كان بجرجان إلا ثلاث أنفس، ولم يمتممن كان بجرجانية إلا ثلاثة. وبجرجان من العناب الجيد والخشب الخلنج الذي يتخذ منه النشاب والظروف والأطباق، ويحمل إلى سائر البلاد. وبها ثعابين تهول الناظر ولا ضرر لها. وذكر أبو الريحان الخوارزمي انه شوهد بجرجان مدرة صار بعضها قاراً والبعض الآخر بحالها. بها عين سياه سنك؛ قال صاحب تحفة الغرائب: بجرجان موضع يسمى سياه سنك، به عين ماء على تل يأخذ الناس ماءها للشرب، وفي الطريق إليها دودة، فمن أخذ من ذلك الماء وأصاب رجله تلك الدودة يصير الماء الذي معه مراً فيبدده، ويعود إليها يأخذ مرة أخرى، وهذا عندهم مشهور. ينسب إليها كرز بن وبرة كان من الأبدال، قال فضيل: إذا خرج كرز بن وبرة يأمر بالمعروف يضربونه حتى يغشى عليه، فسأل ربه أن يعرفه الاسم الأعظم بشرط أن لا يسأل به شيئاً من أمور الدنيا، فأعطاه الله ذلك، فسأل أن يقويه على قراءة القرآن، فكان يختم كل يوم وليلة ثلاث ختمات. حكى أبو سليمان المكتب قال: صحبت كرز بن وبرة إلى مكة، فكان إذا نزل القوم أدرج ثيابه في الرحل واشتغل بالصلاة، فإذا سمع رغاء الإبل أقبل،

فتأخر يوماً عن الوقت، فذهبت في طلبه فإذا هو في وهدة في وقت حار، وإذا سحابة تظله فقال: يا أبا سليمان، أريد أن تكتم ما رأيت! فحلفت أن لا أخبر أحداً في حياته. وحكي انه لما توفي رأوا أهل القبور في النوم، عليهم ثياب جدد، فقيل لهم: ما هذا؟ قالوا: ان أهل القبور كلهم لبسوا ثياباً جدداً لقدوم كرز بن وبرة! وينس إليها أبو سعيد إسماعيل بن أحمد الجرجاني. كان وحيد دهره في الفقه والأصول والعربية، مع كثرة العبادة والمجاهدة وحسن الخلق والاهتمام بأمور الدين والنصيحة للمسلمين، وهو القائل: إني ادّخرت ليوم ورد منيّتي ... عند الإله من الأمور خطيرا قولي بأنّ إلهنا هو أوحدٌ ... ونفيت عنه شريكه ونظيرا وشهادتي أنّ النّبّي محمّداً ... كان الرّسول مبشّراً ونذيرا ومحبّتي آل النّبّي وصحبه ... كلاًّ أراه بالثّناء جديرا وتمسّكي بالشّافعّي وعلمه ... ذاك الّذي فتق العلوم بحورا وجميل ظنّي بالإله وإن جنت ... نفسي بأنواع الذّنوب كثيرا إنّ الظّلوم لنفسه إن يأته ... مستغفراً يجد الإله غفورا فاشهد إلهي أنّني مستغفرٌ ... لا أستطيع لما مننت شكورا هذا الذي أعددته لشدائدي ... وكفى بربّك هادياً ونصيرا! قبض أبو سعيد في صلاة المغرب عند قوله: وإياك نستعين، وفاضت روحه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وينسب إليها القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني. كان أديباً فقيهاً شاعراً، وهو القائل: يقولون لي: فيك انقباضٌ! وإنّما ... رأوا رجلاً عن موقف الذلّ أحجما

جرجرايا

أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما وينسب إليها الإمام عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني. كان عالماً فاضلاً أديباً عارفاً بعلم البيان، له كتاب في إعجاز القرآن في غاية الحسن ما سبقه أحد في ذلك الأسلوب. من لم يطالع ذلك الكتاب لا يعرف قدره ودقة نظره ولطافة طبعه، واطلاعه على معجزات القرآن. وبها مشهد لبعض أولاد علي الرضا، العجم يسمونه كور سرخ، النذر له يفضي إلى قضاء الحاجة، وهذا أمر مشهور في بلاد العجم، يحمل إليها أموال كثيرة ويصرف إلى جمع من العلويين هناك. جرجرايا قرية من أعمال بغداد مشهورة. ينسب إليها علي الجرجرائي، كان من الابدال، لا يدخل العمران ولا يختلط بأحد؛ حكى بشر الحافي قال: لقيته على عين ماء فلما أبصرني عدا، قال: بذنب مني رأيت اليوم إنسياً! فعدوت خلفه وقلت: أوصني! فالتفت إلي وقال: عانق الفقر وعاشر الصبر، وخالف الشهوة واجعل بيتك أخلى من لحدك يوم تنقل إليه، على هذا طاب المصير إلى الله تعالى! الجزيرة بلاد تشتمل على ديار بكر ومضر وربيعة، وإنما سميت جزيرة لأنها بين دجلة والفرات، وهما يقبلان من بلاد الروم، وينحطان متسامتين حتى يصبا في بحر فارس، وقصبتها الموصل وحران، والجزيرة بليدة فوق الموصل تدور دجلة حولها كالهلال، ولا سبيل إليها من اليبس إلا واحد؛ قالوا: من خاصية هذه البلاد كثرة الدماميل. قال ابن همام السلولي:

جوهسته

أبداً إذا يمشي يحيك كأنّما ... به من دماميل الجزيرة ناخس وحكي أن ضرار بن عمرو طلع به الدماميل، وهو ابن تسعين سنة، فتعجب الناس فقالوا: احتملها من الجزيرة! ينسب إليها بنو الأثير الجزريون. كانوا ثلاثة اخوة فضلاء، رأيت منهم الضياء، كان شيخاً حسن الصورة فاضلاً حلو الحديث كريم الطبع، له تصانيف كثيرة منها: المثل السائر كتاب في علم البيان في غاية الحسن، وكتاب في شرح الألفاظ الغريبة التي وردت في أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغيرهما. جوهسته قرية من قرى همذان. بها قصر برام جور، وبهرام من ملوك الفرس. كان أرمى الناس لم ير رام مثله، وهذا القصر عظيم جداً وكله حجر واحد، منقورة بيوته ومجالسه وخزائنه وغرفه وشرفاته وسائر حيطانه، وهو كثير المجالس والخزائن والدهاليز والغرف. وفي مواضع منها كتابات بالعجمية تتضمن أخبار ملوكهم الماضين وحسن سيرتهم، وفي كل ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة، وبقربه ناووس الطيبة، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. جوين ناحية بين خراسان وقهستان كثيرة الخيرات وافرة الغلات. وهي أربعمائة قرية على أربعمائة قناة. والقنوات منشأها من مرتفع من الأرض، والقرى على متسفل أحدهما بجانب الآخر. ينسب إليها أبو المعالي عبد الملك بن محمد إمام الحرمين الإمام العلامة، ما رأت العيون قبله ولا بعده مثله في غزارة العلم، وفصاحة اللسان، وجودة

جيلان

الذهن. من رآه من العلماء تحير فيه، شاع ذكره في الآفاق، فلما كان زمان أبي نصر الكندري وأمر بلعن المذاهب على رأس المنبر، فارق الإمام خراسان وذهب إلى الحجاز ودرس بمكة. فانقضت تلك المدة سريعاً بموت طغرلبك وقتل الكندري، فعاد إمام الحرمين إلى خراسان وبنى له نظام الملك مدرسة بنيسابور، فظهرت تلامذته وانتشرت تصانيفه. وكان في حلقته ثلاثمائة فقيه من الفحول، بلغوا مبلغ التدريس كأبي حامد الغزالي، وصنف نهاية المطلب عشرين مجلداً. توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. جيلان غيضة بين قزوين وبحر الخزر صعبة المسلك لكثرة ما بها من الجبال والوهاد والأشجار والمياه، في كل بقعة ملك مستقل لا يطيع غيره، والحرب بينهم قائمة، والمطر كثير جداً ربما يستمر أربعين يوماً لا ينقطع ليلا ولا نهاراً، ويضجر الناس منه. وبيوتهم من الأخشاب والاخصاص وسط الأشجار، ولا حد لكثرة أشجارها الطوال لو كانت بأرض أخرى كان لها قيمة. ونساؤها أحسن النساء صورة لا يستترن عن الرجال يخرجن مكشوفات الوجه والرأس والصدر. وبها من الخيل الهماليج ما لا يوجد في غيرها من البلاد، ولم ير أحسن منها صورة ومشياً. ومن عجائبها ما سمعت ولا صدقت حتى جربت، وهو ان المطر إذا دام عندهم ضجروا منه، فإن سمعوا بالليل صوت ابن آوى وعقبه نباح كلب يبشر بعضهم بعضاً بصحو الغد، وعندهم من بنات آوى والكلاب كثير، وهذا شيء أشهر عندهم وجربت مراراً ما أخطأ شيء. مأكولهم الرز الجيد المولاني والسمك، ويؤدون زكاة الرز ولا يتركونه أصلاً. ويقتنون دود الابريسم، شغل رجالهم زراعة الرز وشغل نسائهم تربية

الحضر

دود القز والرزق الحلال في زماننا عندهم. ونساؤهم ينسجن الميازر والمشدات الفرية الملاح وتحمل منها إلى سائر البلاد. ومن عاداتهم أن فقهاءهم في كل سنة يستأذنون من الأمير الأمر بالمعروف، فإذا أذن لهم أحضروا كل واحد كائناً من كان وضربوه مائة خشبة، فربما يحلف الرجل أيماناً انه ما شرب ولا زنى فيقول الفقيه: ايش صنعتك؟ فيقول: بقال أنا! فيقول: أما كان بيدك الميزان؟ فيقول: نعم. فيأمر بضربه مائة! ينسب إليها الشيخ محمد بن خالد الملقب بنور الدين. كان شيخاً عظيم الشأن ظاهر الكرامات. رأيته في صغر سني كان شيخاً مهيباً وضيء الوجه طويل القامة، كث اللحية طويلها، ما رآه أحد ولو كان ملكاً إلا أخذته هيبته. له مصنفات في عجائب أحواله ومشاهدته الملائكة والجنة والنار، وأحوال الأموات وخواص الأذكار والآيات. حكى بعض من صحبه قال: سرنا ذات يوم فرفع لنا خان فقصدناه، فقال بعض السابلة: لا تدخلوا الخان فإن يأوي إليه سبع! فقال الشيخ: نتكل على الله. فدخلناها وفرش الشيخ مصلاءة يصلي، فسمعت زئير الأسد فأنكرت في نفسي على الشيخ لدخول الخان، فدخل الخان سبع هائل، فلما رآنا جعل يأتينا إتياناً ليناً لا إتيان صائل، وأنا أنظر إلى شكله فذهب عقلي، فهربت إلى الشيخ وجعلته بيني وبين الأسد، فجاء وافترش عند مصلى الشيخ، فلما فرغ الشيخ من صلاته مسح رأسه وقال بالعجمية: فارق هذا الموضع ولا ترجع تفزع الناس ههنا! فقام السبع وخرج من الخان ولم يره أحد بعد ذلك هناك. الحضر مدينة كانت بين تكريت وسنجار مبنية بالحجارة المهندمة، كان على سورها ستون برجاً كباراً، بين البرج والبرج تسعة أبراج صغار، بإزاء كل برج قصر وإلى جانبه حمام. وبجانب المدينة نهر الثرثار وكان نهراً عظيماً عليه جنان بناها

الضيزن بن معاوية، وكان من قضاعة من قبل شابور بن اردشير ملك الفرس، وقد طلسمها أن لا يقدر على هدمها إلا بدم الحمامة الورقاء، ودم حيض المرأة الزرقاء؛ وإياها أراد عدي بن زيد: وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة تجبى إليه والخابور شاده جندلاً وجلّله كلساً، وللطّير في ذراه وكور فاتفق أنه ظهر لشابور خصم بخراسان، فذهب إليه وطالت غيبته فعصى ضيزن عليه واستوى على بلاد الجزيرة، وأغار على بلاد الفرس وخرب السواد وأسر ماه أخت شابور الملك. فلما عاد شابور من خراسان وأخبر بما فعل ضيزن، ذهب إليه بعساكره وحاصره سنين ولم يظفر بشيء، فهم بالرجوع فصعدت النصيرة بنت الضيزن السطح ورأت شابور فعشقته، فبعثت إليه أن ما لي عندك ان دللتك على فتح هذه المدينة؟ فقال شابور: آخذك لنفسي وأرفعك على نسائي. فقالت: خذ من دم حمامة ورقاء، واخلطه بدم حيض امرأة زرقاء، واكتب بهما واشدده في عنق ورشان وأرسله، فإنه إذا وقع على السور تهدم! ففعل كما قالت فدخل المدينة وقتل مائة ألف رجل وأسر البقية، وقتل ضيزن وأنسابه فقال الحدس بن الدلهاث: ألم يجزيك والأبناء تمنى ... بما لاقت سراة بني العبيد؟ ومقتل ضيزنٍ وبني أبيه ... وإجلاء القبائل من يزيد أتاهم بالفيول مجلّلاتٍ ... وبالأبطال شابور الجنود فهدّم من بروج الحضر صخراً ... كأنّ ثقاله زبر الحديد! ثم سار شابور إلى عين التمر وعرس بالنصيرة هناك، فلم تنم هي تلك الليلة تململاً على فراشها، فقال لها شابور: ما أصابك؟ فقالت: لم أنم قط على فراش أخشن من هذا! فنظر فإذا في الفراش ورقة آس لصقت بين عكنتين

حصن الطاق

من عكنها، فقال لها شابور: بم كان أبواك يغذوانك؟ قالت: بشهد الأبكار ولباب البر ومخ الثنيان! فقال شابور: أنت ما وفيت لأبويك مع حسن صنيعهما بك، فكيف تفين لي؟ ثم أمر أن تصعد بناء عالياً وقال: ألم أرفعك فوق نسائي؟ قالت: بلى! فأمر بفرسين جموحين وشدت ذوائبها في ذنبيهما ثم استحضرا فقطعاها؛ قال عدي بن زيد: والحضر صبّت عليه داهيةً ... شديدة أيدٍ مناكبها ربيبةٌ لم ترقّ والدها ... بحبّها إذ ضاع راقبها فكان حظّ العروس إذ جشر ... الصّبح دما يجري سبايبها حصن الطاق حصن حصين بطبرستان، كان في قديم الزمان خزانة ملوك الفرس، وأول من اتخذه منوجهر بن ايرج بن فريدون، وهو نقب في موضع عال في جبل صعب المسلك، والنقب يشبه باباً صغيراً، فإذا دخله الإنسان مشى نحو ميل في ظلمة شديدة ثم يخرج إلى موضع واسع شبيه بمدينة، قد أحاطت به الجبال من جميع الجوانب. وهي جبال لا يمكن صعودها لارتفاعها، وفي هذه السعة مغارات وكهوف، وفي وسطها عين غزيرة الماء ينبع من ثقبة ويغور في أخرى، وبينهما عشرة أذرع. وكان في أيام الفرس يحفظ هذا النقب رجلان معهما سلم يدلونه من الموضع، إذا أراد أحدهما النزول في دهر طويل، وعندهما ما يحتاجان إليه لسنين كثيرة. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ملك العرب طبرستان، فحاولوا الصعود عليه فتعذر عليهم ذلك إلى أن ولي المازيار طبرستان، فقصد هذا الموضع وأقام عليه مدة حتى صعد رجل من أصحابه إليه، فدلى حبالاً وأصعد قوماً فيهم المازيار، فوقف على ما في تلك الكهوف من الأموال والسلاح والكنوز،

حلوان

وكان بيده إلى أن مات. وانقطع السبيل إليه إلى هذه الغاية. ومن العجائب ما ذكره ابن الفقيه انه إلى جانب هذا الطاق شبيه بالدكان، إذا لطخ بعذرة أو شيء من الأقذار ارتفعت في الحال سحابة فمطرت عليه حتى تغسله وتنظفه، وان ذلك مشهور عندهم لا يتمارى فيه اثنان. حلوان مدينة بين همذان وبغداد. كانت عامرة طيبة والآن خراب، وتينها ورمانها في غاية الطيب، لم يوجد في شيء من البلاد مثلهما. وفي حواليها عدة عيون كبريتية ينتفع بها من عدة أدواء. وكان بها نخلتان مشهورتان على طريق السابلة، وصل إليهما مطيع بن اياس فقال: أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من ريب هذا الزّمان واعلما أنّ ريبه لم يزل ... يفرّق بين الألاّفي والجيران واسعداني وأيقنا أنّ نحساً ... سوف يأتيكما فتفترقان! حكى المدائني أن المنصور اجتاز عليهما، وكان إحداهما على الطريق ضيقت على الأحمال والثقال، فأمر بقطعها فأنشد قول مطيع فقال: والله لا كنت ذلك النحس! ثم اجتاز المهدي بهما واستطاب الموضع، ودعا لحسنه المغنية وقال لها: أما ترين طيب هذا الموضع؟ غنيني بحياتي! فغنت: أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا ... إذا نام حرّاس النّخيل جناكما! فقال لها: أحسنت! لقد هممت بقطع هاتين النخلتين فمنعتني. فقالت: أعيذك بالله أن تكون نحسهما! وأنشدت قول مطيع، ثم اجتاز بهما الرشيد عند خروجه إلى خراسان وقد هاج به الدم بحلوان، فأشار عليه الطبيب بأكل الجمار، فطلب ذلك من دهقان حلوان فقال: ليست أرضنا أرض نخل لكن

الحويزة

على العقبة نخلتان فاقطعوا إحداهما. فقطعوا. فلما اجتاز الرشيد بهما وجد إحداهما مقطوعة والأخرى قائمة وعليها مكتوب: واعلما إن بقيتما أنّ نحساً ... سوف يأتيكما فتفترقان! فاغتم الرشيد لذلك وقال: لقد عز علي ان كنت نحسهما، ولو كنت سمعت هذا الشعر ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم! فاتفق انه لم يرجع من ذلك السفر. الحويزة كورة بين واسط والبصرة وخوزستان في وسط البطائح في غاية الرداءة. كتب وفادار بن خودكام إلى صديق له كتاباً من الحويزة: وما أدراك ما الحويزة! دار الهوان ومنزل الحرمان! ثم ما أدراك ما الحويزة! أرضها رغام وسماؤها قتام، وسحابها جهام وسمومها سهام، ومياهها سمام وطعامها حرام، وأهلها لئام، وخواصها عوام، وعوامها طغام! لا يروي ريعها ولا يرجى نفعها، ولا يمري ضرعها ولا يرعى زرعها، ولقد صدق الله قوله فيها: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات! وأنا منها بين هواء وبيء وماء رديء، وشباب غمر وشيخ غوي، يتخذون الغمر أدباً والزور إلى أرزاقهم سبباً، يأكلون الدنيا سلباً ويعدون الدين لهواً ولعباً. ولو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً. إذا سقى الله أرضاً صوب غاديةٍ ... فلا سقاها سوى النّيران تضطرم ينسب إليها أبو العباس أحمد بن محمد الحويزي، وكان من أعاجيب الزمان في الجمع بين الأمور المتضادة: كان ذا فضل وتمييز، وجور وظلم مع إظهار الزهد والتقشف والتسبيح الدائم والصلاة الكثيرة. وإذا عزل اشتغل بمطالعة

الحيرة

الكتب، ويظهر انه أراد العزل وكره العمل وخدمة الظلمة فقال أبو الحكم الأندلسي: رأيت الحويزيّ يهوى الخمول ... ويلزم زاوية المنزل لعمري لقد صار حلساً له ... كما كان في الزّمن الأوّل يدافع بالشّعر أوقاته ... وإن جاع طالع في المجمل! وإذا خرج صار أظلم مما كان حتى انه في بعض ولاياته كان نائماً على سطح، فصعدوا إليه ووجأوه بالسكين. الحيرة مدينة كانت في قديم الزمان بأرض الكوفة على ساحل البحر، فإن بحر فارس في قديم الزمان كان ممتداً إلى أرض الكوفة، والآن لا أثر للمدينة ولا للبحر، ومكان المدينة دجلة. ينسب إليها النعمان بن امريء القيس صاحب الحيرة من ملوك بني لخم. بنى بالحيرة قصراً يقال له الخورنق في ستين سنة، قصراً عجيباً ما كان لأحد من الملوك مثله. فبينا هو ذات يوم جالس على الخورنق إذ رأى البساتين والنخل والأشجار والأنهار مما يلي المغرب، والفرات مما يلي المشرق، والخورنق مكانه، فأعجبه ذلك وقال لوزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟ فقال: ما رأيت أيها الملك لا نظير له لو كان دائماً! فقال له: ما الذي يدوم؟ فقال: ما عند الله في الآخرة! فقال: بم ينال ذلك؟ فقال: بترك الدنيا وعبادة الله! فترك النعمان الملك وليس المسح ورافقه وزيره، ولم يعلم خبرهما إلى الآن؛ قال عدي بن زيد: وتبيّن ربّ الخورنق، إذ ... أشرف يوماً وللهدى تفكير

حيزان

سرّه ما رأى وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسّدير فارعوى قلبه وقال: فما غب ... طة حيٍّ إلى الممات يصير؟ ثمّ بعد الفلاح والملك والإ ... مّة وارتهم هناك القبور! ثمّ صاروا كأنّهم ورقٌ جفّ ... فألوت به الصّبا والدّبور وينسب إليها أبو عثمان إسماعيل الحيري. كان من عباد الله الصالحين. حكي من كرم أخلاقه ان رجلاً دعاه إلى ضيافته فذهب إليه، فلما انتهى إلى باب داره قال: ما لي وجه الضيافة! فرجع ثم طلبه بعد ذلك مرة أخرى فأجابه، فلما انتهى إلى باب داره قال له مثل ذلك، ثم دعاه مرة ثالثة وقال له مثل ذلك. فعاد الشيخ فقال الداعي: اني أردت أن أجربك، وجعل يمدحه فقال الشيخ: لا تمدحني على خلق يوجد في الكلاب، إذا دعي الكلب أجاب وإن زجر انزجر! توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين. حيزان بليدة ذات بساتين كثيرة ومياه غزيرة، من بلاد ديار بكر بقرب إسعرت. بها الشاهبلوط، وليس الشاهبلوط في شيء من بلاد الجزيرة والشام والعراق إلا بها. والبندق أيضاً بها كثير. خاوران ناحية ذات قرى بخراسان. بها خيرات كثيرة وينسب إليها الوزير أبو علي شاذان، كان وزيراً لملوك بني سامان، وبقي في الوزارة مدة طويلة حتى يوزر الآباء والأبناء منهم، ولطول مدة وزارته قيل فيه: وقالوا العزل للعمّال حيضٌ ... نجاه الله من حيضٍ بغيض فإن يك هكذا، فأبو عليٍّ ... من اللاّتي يئسن من المحيض

خراسان

وينسب إليها أسعد الميهني. كان عالماً فاضلاً مشهوراً بالعلم والعمل، مدرساً للمدرسة النظامية ببغداد. وينسب إليها الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير. وهو الذي وضع طريقة التصوف وبنى الخانقاه، ورتب السفرة في اليوم مرتين، وآداب الصوفية كلها منسوبة إليه، وكذا الانقطاع عن الدنيا. ذكر في مقاماته انه قال: ان الله تعالى وكل بي أسود على عاتقه عصاً، كلما فترت عن الذكر تعرض لي وقال لي: قل الله! وحكي انه كان لأبي سعيد رفيق أول أمره في طلب العلم، فلما كان آخره قال له ذلك الرفيق: بم وصلت؟ فقال له أبو سعيد: أتذكر وقتاً كنا نقرأ التفسير على أستاذنا فلان؟ قال: نعم. قال: فلما انتهينا إلى قوله: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. عملت بهذه الآية! وحكي انه كان في خدمته رجلان: كان لأحدهما مئزران، والآخر لا مئزر على رأسه، فوقع في قلبه ان صاحب المئزرين يؤثر أحدهما له ثم منعه عن ذلك مانع، حتى كان ذلك ثلاث مرات، فقال للشيخ: الخاطر الذي يخطر لنا من الله أو من أنفسنا؟ فقال: ان كان لخير فمن الله ولا يخاطب في مئزر أكثر من ثلاث مرات. ومشايخ الصوفية كلهم تلامذة أبي سعيد، وآدابهم مأخوذة من أفعال رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وينب إليها الأنوري الشاعر، شعره في غاية الحسن ألطف من الماء، شعره بالعجمية كشعر أبي العتاهية بالعربية. خراسان بلاد مشهورة. شرقيها ما وراء النهر، وغربيها قهستان. قصبتها مرو وهراة وبلخ ونيسابور. وهي من أحسن أرض الله وأعمرها وأكثرها خيراً، وأهلها أحسن الناس صورة وأكملهم عقلاً وأقومهم طبعاً، وأكثرهم رغبة في الدين والعلم. أخبرني بعض فقهاء خراسان أن بها موضعاً يقال له سفان به غار، من

دخله برأ من مرضه أي مرض كان. وبها جبل كلستان. حدثني بعض فقهاء خراسان أن في هذا الجبل كهفاً شبه ايوان، وفيه شبه دهليز يمشي فيه الإنسان منحنياً مسافة، ثم يظهر الضوء في آخره ويتبين محوط شبه حظيرة، فيها عين ينبع الماء منها وينعقد حجراً على شبه القضبان. وفي هذه الحظيرة ثقبة يخرج منها ريح شديدة لا يمكن دخولها من شدة الريح. بها نهر الرزيق بمرو، عليه سقي بساتينهم وزروعهم، وعليه طواحينهم. وانه نهر مبارك تبرك به المسلمون في الوقعة العظيمة التي كانت بين المسلمين والفرس. قتل فيه يزدجرد بن شهريار آخر الأكاسرة في زمن عمر بن الخطاب. وذاك أن المسلمين كشفوا الفرس كشفاً قبيحاً، فمنعهم النهر عن الهرب ودخل كسرى طاحونة تدور على الرزيق لما فاته الهرب، وكان عليه سلب نفيس طمع الطحان في سلبه فقتله وأخذ سلبه. بها عين فراوور، وفراوور اسم موضع بخراسان. حدثني بعض فقهاء خراسان قال: من المشهور عندنا أن من اغتسل بماء العين التي بفراوور، أو غاص فيه يزول عنه حمى الربع. وينسب إليها أبو عبد الرحمن حاتم بن يوسف الأصم، من أكابر مشايخ خراسان، وكان تلميذ شقيق البلخي، لم يكن أصم لكن تصامم فسمي بذلك، وسببه أن امرأة حضرت عنده تسأله مسألة، فسبقت منها ريح فقال لها: إني ثقيل السمع ما أسمع كلامك فارفعي صوتك! وإنما قال ذلك لئلا تخجل المرأة، ففرحت المرأة بذلك. حكى عن نفسه انه كان في بعض الغزوات، فغلبه رجل تركي وأضجعه يريد ذبحه. قال: ولم يشتغل قلبي به بل انتظر ماذا حكى الله تعالى، قال: فبينا هو يطلب السكين من جفنه إذ أصابه سهم عرب قتله وقمت أنا. توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين.

خرقان

وينسب إليها الشيخ حبيب العجمي وكان من الابدال ظاهر الكرامات. حكي ان حسناً البصري دخل عليه وقت صلاة المغرب، فدخل مسجداً ليصلي فيه، وكان حبيب العجمي يصلي فيه فكره أن يصلي خلفه لكونه عجمياً يقع في قراءته لحن، فما صلى خلفه. فرأى في نومه: لو صليت خلفه لغفرنا ما تقدم من ذنبك وما تأخر! ورئي حبيب في النوم بعد وفاته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ذهبت العجمة وبقيت النعمة. وبها الثعلب الطيار. ذكر الأمير أبو المؤيد بن النعمان أن بخراسان شعباً يسمى بحراً، ومن ناحية بروان بها صنف من الثعلب له جناحان يطير بهما، فإذا ابتدأ بالطيران يطير مقدار غلوة سهم أو أكثر، ثم يقع ويطير طيراناً دون الأول، ثم يقع ويطير طيراناً دون الثاني. وبها فارة المسك. وهو حيوان شبيه بالخشف حين تضعه الظبية، تقطع منه سرته فيصير مسكاً. خرقان مدينة بقرب بسطام، بينهما أربعة فراسخ، ينسب إليها الشيخ أبو القاسم الخرقاني من المشايخ الكبار المذكور في طبقاتهم. له بخرقان قبر ذكروا أن من حضر هناك يغلبه قبض شديد جداً. خوار بلدة من بلاد قهستان بين الري ونيسابور. بها قطن كثير يحمل منها إلى سائر البلاد. ينسب إليها الجلال الخواري. كان واعظاً عديم النظير في زمانه صاحب النظم والنثر والبديهة والقبول التام، عند الخواص والعوام. حكي أن السلطان طغرل بن أرسلان وصل إلى الري وعساكره أرسلوا خيلهم في مزدرعاتهم، فذهب صدر الدين الوزان وأخذ معه الجلال الخواري حتى يذكر عند السلطان

خواف

فصلاً ويعرفه حال المزارع. فلما دخل صدر الدين على السلطان مع أصحابه تخلف الجلال، منعه البواب، فلما دخلوا أرادوا الجلال ليتكلم فقالوا: منعه البواب. فاستأذنوا له من السلطان فأذن، فلما دخل شرع في الكلام. قال له السلطان: اجلس. فجلس وقال: داعي دولتت كه بفرمان نشسته است ... انجا بباي بوذ كي دربان نشسته است بروانه زشمع سلاطين بذو رسيد ... كفتاكي اندر آي كه سلطان نشسته است جون سجده كه بديذم بروانه سهو كفت ... كه اسكندر بجاي سليمان نشسته است دعوى همي كنم كه جوتو نيست درجهان ... واينك كواه عدل كه وزان نشسته است كردستور توكه جو مور اند وجون ملخ ... بر خوشهاء ودانه دهقان نشسته است باران عدل بار كه اين خاك بيالهاست ... تا براميد وعده باران نشسته است أنشد هذه الأبيات ارتجالاً، فتعجب الحاضرون واستحسن السلطان ذلك، وأمر بإزالة التعرض عن المزارع. خواف مدينة بخراسان بقرب نسا، كبيرة آهلة ذات قرى وبساتين ومياه كثيرة. ينسب إليها الإمام أبو المظفر الخوافي مشهور بالفضل سيما في علم الجدل. وكان من خيار تلامذة إمام الحرمين، وكان إمام الحرمين تعجبه مناظرته ومطالبه الصحيحة وفنونه الدقيقة، فاختاره لمصاحبته ومحادثته. حكي أن بعض الفضلاء حضر حلقة إمام الحرمين، واستدل استدلالاً جيداً وقام مشهوراً، وكان الخوافي غير حاضر، فلما حضر ذكر له ذلك فقال: ان المقدمة الفلانية ممنوعة فكيف سلمتموها؟ وذهب إلى المستدل وطلب منه إعادة الدليل، وما قام من عنده حتى أفحمه.

خوست

خوست مدينة من بلاد الغور بقرب باميان، حدثني أوحد المقري الغزنوي ان في بعض السنين أصاب أهل هذه المدينة قحط، فوجدوا صنفاً من الحب زرعوه وأكلوا منه ضرورة، فأصابهم مرض في أرجلهم فصاروا جميعاً عرجاً، فكان يأتي كل واحد بعصاتين. دامسيان من قرى قزوين بينهما عشرة فراسخ، لأهل هذه القرية شبكة عظيمة جداً وهي مشتركة بين أهل القرية: لأحدهم حبة ولآخر نصف حبة، وعلى هذا يبيعونها ويشترونها ويرثونها. وفي كل سنة أو مرتين ينصبون هذه الشبكة ويسوقون الصيد إليها، فإذا دخلت فيها سدوا بابها ودخلوا فيها يرمونها بالنشاب والمقالع والعصي، فيدخلها شيء كثير من الصيد، فيقسمونها فيما بينهم على قدر ملكهم في الشبكة ويقددون لحومها. دامغان بلد كبير بين الري ونيسابور كثير الفواكه والمياه والأشجار؛ قال مسعر ابن مهلهل: الرياح لا تنقطع بها ليلاً ونهاراً. من عجائبها مقسم للماء كسروي، يخرج ماؤه من مغارة ثم ينقسم إذا انحدر منه على مائة وعشرين قسماً لمائة وعشرين رستاقاً، لا يزيد أحد الأقسام على الآخر ولا يمكن تأليفه إلا على هذه النسبة، وإنه مستطرف جداً. ومن عجائبها فلجة في جبل بين دامغان وسمنان، تخرج منها في وقت من السنة ريح لا تصيب أحداً إلا أهلكته. وهذه الفلجة طولها فرسخ وعرضها نحو أربعمائة ذراع، وإلى فرسخين ينال المارة أذاها ليلاً ونهاراً من إنسان أو

داوردان

دابة أو حيوان، وقل من يسلم منها إذا صادف زمانها. وبها جبل؛ قال صاحب تحفة الغرائب: هو جبل مشهور عليه عين ان ألقي فيها نجاسة يهب هواء قوي، بحيث يخاف منه الهدم والخراب. وبها عين يقال لها باذخاني؛ قال صاحب تحفة الغرائب: من أعمال دامغان قرية يقال لها كهن بها عين تسمى باذخاني، إذا أراد أهل القرية هبوب الريح لتنقية الحب عند الدياس، أخذوا خرقة الحيض ورموها في تلك العين فيتحرك الهواء، ومن شرب من ذلك الماء ينتفخ بطنه، ومن حمل معه شيئاً منه فإذا فارق منبعه يصير حجراً. داوردان بلدة كانت من غربي واسط على فرسخ منها؛ قال ابن عباس: وقع فيها طاعون فهرب منها عامة أهلها ونزلوا ناحية منها، فهلك بعض من أقام بها وسلم بعض. فلما ارتفع الطاعون رجع الهاربون فقال من بقي من المقيمين: أصحابنا الطاعنون احرم منا، فلو وقع الطاعون مرة أخرى لنخرجن! فوقع الطاعون في القابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفاً، حتى نزلوا ذلك المكان، وكان واد أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي وأعلاه أن موتوا، فماتوا عن آخرهم. فاجتاز عليهم حزقيل النبي، عليه السلام، فسأل الله تعالى أن يحييهم فأحياهم الله في ثيابم التي ماتوا فيها، فرجعوا إلى قومهم أحياء، ويعرفون أنهم كانوا موتى بوجوههم حتى حتى ماتوا بآجالهم المحتومة، وذلك قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم! وبنوا في الموضع الذي ذهبوا إليه ديراً يسمى دير حزقيل، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

دور

دور قرية من قرى بغداد من أعمال دجيل. ينسب إليها يحيى بن محمد بن هبيرة وزير المقتفي. كان وزيراً ذا رأي وعلم ودين وثبات في الأمور. حكى الوزير وقال: تطاول علينا مسعود بن محمود السلجوقي، فعزم المقتفي أن يحاربه فقلت: هذا ليس بصواب! ولا وجه لنا إلا الالتجاء إلى الله. فاستصوب رأيي فخرجت من عنده يوم الجمعة لأربع وعشرين من جمادى الأولى وقلت: ان النبي، عليه السلام، دعا شهراً فينبغي أن ندعو شهراً. ثم لازمت الدعاء كل ليلة إلى أن كان يوم الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، فجاء الخبر بأن السلطان مات على سرير ملكه وتبدد شمل أصحابه، وأورثنا الله أرضهم وديارهم. حكي أنه قبل وزارته كان بينه وبين رجل بغدادي ساكن بالجانب الغربي صداقة، فسلم الرجل إلى يحيى ثلاثمائة دينار وقال له: إذا أنا مت جهزني منها، وادفني بمقبرة معروف الكرخي، وتصدق بالباقي على الفقراء. فلما مات قام يحيى وجهزه ودفنه كما وصى والذهب في كمه عائداً إلى الجانب الشرقي، قال: فوقفت على الجسر فسقط الذهب من كمي في الماء وهو مربوط في منديل، فضربت بيدي على الأخرى وحولقت، فقال رجل: ما لك؟ فحكيت له فخلع ثيابه وغاص، وطلع والمنديل في فمه، فأخذت المنديل وأعطيته منها خمسة دنانير، ففرح بذلك ولعن أباه، فأنكرت عليه فقال: انه مات وأزواني! فسألته عن أبيه فإذا هو ابن الرجل الميت فقلت: من يشهد لك بذلك؟ فأتى بمن شهد له انه ابن ذلك الميت فسلمت إليه المال. وكان كثيراً ما ينشد لنفسه: يا أيّها النّاس، إني ناصحٌ لكم ... فعوا كلامي فإني ذو تجاريب لا تلهينّكم الدّنيا بزخرفها ... فما يدوم على حسنٍ ولا طيب!

دوراق

وحكى عبد الله بن زر قال: كنت بالجزيرة فرأيت في نومي فوجاً من الملائكة يقولون: مات الليلة ولي من أولياء الله! فتحدثت بها وأرختها، فلما رجعت إلى بغداد وسألت قالوا: مات في تلك الليلة الوزير ابن هبيرة، رحمة الله عليه! وحكى عبد الله بن عبد الرحمن المقري قال: رأيت الوزير ابن هبيرة في النوم فسألته عن حاله فأجاب: قد سئلنا عن حالنا فأجبنا ... بعدما حال حالنا وحجبنا فوجدنا مضاعفاً ما كسبنا ... ووجدنا محمّصاً ما اكتسبنا دوراق بلدة بخوزستان. بها حمات كثيرة يقصدها أصحاب العاهات؛ قال الشيخ عمر التسليمي: إنها عيون كثيرة تنبع في جبل كلها حارة، فربما يصعد منها دخان يلتهب، فترى شعلته أحمر وأخضر وأصفر وأبيض، ويجتمع في حوضين أحدهما للرجال والآخر للنساء، فمن نزل فيه يسيراً يسيراً ينتفع به، ومن طفر فيه يحترق بطنه ويتنفط. ديار بكر ناحية ذات قرى ومدن كثيرة بين الشام والعراق، قصبتها الموصل وحران وبها دجلة والفرات. من عجائبها عين الهرماس وهي بقرب نصيبين على مرحلة منها، وهي مسدودة بالحجارة والرصاص لئلا يخرج منها ماء كثير فتغرق المدينة. حكي أن المتوكل على الله لما وصل إلى نصيبين سمع بأمر هذه العين وعجيب شأنها وكثرة مائها، فأمر بفتح بعضها ففتح منها شيء يسير، فغلب الماء غلبة عظيمة فأمر في الحال بسدها وردها إلى ما كانت، فمن هذه العين تحصل عين الهرماس وتسقي نصيبين، وفاضلها ينصب إلى الخابور ثم إلى الثرثار ثم إلى دجلة.

دير الجب

دير الجب دير بين الموصل وإربل، يقصده الناس لدفع الصرع فيبرأ منهم كثير. دير الجودي وهو دير مبني على قلة الجودي، وهو جبل استوت عليه سفينة نوح، عليه السلام؛ قيل: انه مبني منذ أيام نوح ولم تجدد عمارته إلى هذا الوقت، زعموا أن سطحه يشبر فيكون عشرين شبراً مثلاً، ثم يشبر فيكون اثنين وعشرين، ثم يشبر فيكون ثمانية عشر، فكلما شبر اختلف عدده. دير حزقيل دير مشهور بين البصرة وعسكر مكرم، وهو بالموضع الذي ذهب إليه أهل داوردان الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، حذر الموت فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم. فبنوا ذلك الموضع ديراً، وهو منسوب إلى حزقيل النبي، عليه السلام؛ حكى أبو العباس المبرد قال: اجتزت به فقلت لأصحابي: أريد أن أدخله. فدخلناه فرأينا منظراً حسناً وإذا في بعض بيوته كهل مشدود حسن الصورة، عليه آثار النعمة، فسلمنا عليه فرد علينا السلام وقال: من أين أنتم يا فتيان؟ قلنا: من البصرة. فقال: ما أقدمكم هذا البلد الغليظ هواؤه الثقيل ماؤه الجفاة أهله؟ قلنا: طلب العلم. قال: جيد! أتنشدونني أم أنشدكم؟ قلنا: أنشدنا. فأنشد: لمّا اناخوا قبيل الصّبح عيسهم ... وثوّروها فسارت بالهوى الإبل وأبرزت من خلال السّجف ناظرها ... ترنو إليّ ودمع العين منهمل وودّعت ببنانٍ خلته عنماً ... فقلت: لا حملت رجلاك يا جمل!

دير الخنافس

إني على العهد لم أنقض مودّتهم ... يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا؟ فقال له فتى من المجان كان معنا: مات! قال: أفأموت أنا أيضاً؟ قال له: مت راشداً! فتمطى وقضى نحبه. دير الخنافس قال الخالدي: هذا الدير بغربي دجلة بقرب الموصل على قلة جبل شامخ، وهو دير صغير لا يسكنه أكثر من راهبين، وهو نزه لعلوه على الضياع وإشرافه على أنهار نينوى. وله عيد في كل عام مرة، يقصده أهل تلك الضياع ثلاثة أيام تسود حيطانه وسقوفه وفرشه من الخنافس الصغار اللواتي كالنمل، فإذا انقضت تلك الأيام لا يوجد في تلك الأرض من تلك الخنافس واحدة. فإذا علم الرهبان بدنو تلك الأيام يخرج ما في الدير من القماش، وهذا أمر مشهور هناك يعرفه أهل تلك الناحية. دير سعيد بغربي الموصل، وهو دير حسن البناء واسع الفناء، يكتسي أيام الربيع طرائف الأزهار وغرائب الأنوار. ولتربتها خاصية عجيبة في دفع أذية لدغ العقارب، حتى لو ذرت في بيتها ماتت. دير العذارى بين الموصل وباجرمى، وهو دير قديم به نساء عذارى قد ترهبن وأقمن به للعبادة. حكى أبو الفرج الأصفهاني انه بلغ بعض الملوك ان فيهن نساء ذوات جمال، فأمر بحملهن إليه ليختار منهن ما شاء، فبلغهن ذلك فقمن ليلتهن يصلين ويستكفين شره. فطرق ذلك الملك طارق أبلغه من ليلته فأصبحن صياماً، فلذلك تصوم النصارى صوم العذارى إلى الآن.

دير القيارة

وحكى الجاحظ أن فتياناً من ثعلبة أرادوا القطع على مال يمر بهم بقرب دير العذارى، فجاءهم من أخبرهم أن السلطان قد علم بهم وبعث الخيل في طلبهم، فاختفوا في دير العذارى إلى أن عرفوا أن الخيل رجعت من الطلب فأمنوا، فقال بعضهم: ما الذي يمنعكم أن تأخذوا هذا القس وتشدوه وثيقاً، ثم يخلو كل واحد منكم بواحدة من هؤلاء الأبكار، فإذا طلع الفجر تفرقتم في البلاد؟ ففعلوا ما أجمعوا عليه فوجدوا كلهن ثيبات فرع القس منهن قبلهم، فقال بعضهم: ودير العذارى فضوحٌ لهنّ ... وعند القسوس حديثٌ عجيب خلونا بعشرين صوفيّةً ... ومسّ الرّواهب أمرٌ غريب إذا هنّ يزهرن زهر الظّراف ... وباب المدينة فجٌّ رحيب وقد بات بالدّير ليل التّمام ... فحولٌ صلابٌ وجمعٌ مهيب وللقسّ حزنٌ يهيض القلوب ... ووجدٌ يدلّ عليه النّحيب وقد كان عيراً لذي عانةٍ ... فصبّ على العير ليثٌ هبوب دير القيارة بقرب الموصل في الجانب الغربي مشرف على دجلة، تحته عين تفور بماء حار، يصب في دجلة ويخرج معه القار، فما دام القار في مائة فهو لين، فإذا فارق الماء وبرد جف. ويحصل منها قير كثير يحمل إلى البلاد، وأهل الموصل يقصدون هذا الموضع للنزه، ويستحمون بهذا الماء فإنه يقلع البثور وينفع من أمراض كثيرة. دير كردشير في وسط مفازة معطشة مهلكة بين الري والقم. لولا هذا الدير لم يتيسر قطعها. بناها أردشير بن بابك، وهو حصن عظيم هائل البناء عالي السور، مبني بآجر كبار، وفيه أبنية وآزاج وعقود، وصحنه قدر جريبين أو

دير متى

أكثر. وحوله صهاريج منقورة في الحجارة واسعة، تشرب السابلة منها طول السنة. وعلى بعض أساطينه مكتوب: كل آجرة من هذا الدير تقوم بدرهم وثلثين وثلاثة أرطال خبز، ودانق توابل وقنينة خمر، فمن صدق فبذلك، وإلا فلينطح رأسه بأي أركانه شاء. دير متى بشرقي الموصل على جبل شامخ، من أشرفه ينظر إلى جميع رستاق نينوى. وهو دير عجيب البناء، أكثر بيوته منقورة في الصخر، فيه نحو مائة راهب لا يأكلون إلا جمعاً في بيت الشتاء أو بيت الصيف، وهما منقوران في صخر، كل بيت منهما يسع جميع الرهبان، وفي كل بيت عشرون مائدة منقورة من الصخر، وفي ظهر كل واحدة منها بويت عليه باب مغلق، فيه آلة المائدة من غضارة وظروفية وسكرجة، لا تختلط آلة هذه بآلة هذه. ولرأس الدير مائدة لطيفة على دكان في صدر البيت يجلس إليها وحده. وكل ذلك منحوت من الحجر ملصق بالأرض. دير مر توما بميافارقين على فرسخين منها في جبل عال. له عيد يجتمع الناس إليه وينذر له النذور، ومر توما شاهد فيه، تزعم النصارى أن له ألف سنة وزيادة، وانه ممن شاهد عيسى، عليه السلام، وهو في خزانة خشب لها أبواب تفتح أيام أعيادهم، فيظهر نصفه الأعلى وهو قائم. دير مر جرجيس على جبل عال بقرب جزيرة ابن عمر. على بابه أشجار لا يدرى ما هي، لها ثمرة شبيهة باللوز طيبة الطعام، وبها زرازير لا تفارقه صيفاً ولا شتاء،

رأس العيس

ولا يقدر أحد على صيد شيء منها البتة، وبالليل يظهر حوله أفاع، لا يستطيع أحد أن يسير في جبله ليلاً من كثرة الأفاعي؛ كل ذلك عن الخالدي. رأس العيس مدينة بين حران ونصيبين في فضاء من الأرض، بها عيون كثيرة عجيبة صافية، تجتمع كلها فيصير نهر الخابور، وأشهرها عين الصرار، فإنها لصفاء مائها تبين الحصاة في قعرها، وعمقها أكثر من عشرة أذرع، نثر المتوكل فيها عشرة آلاف درهم فأخرجها أهل المدينة جميعاً، ما ضاع منها درهم، ومنبع هذا الماء من صخر صلد يخرج منه ماء كثير بقوة. رحبة الشام مدينة مشهورة، ينسب إليها أبو جابر الرحبي، كان من أصحاب الكرامات الظاهرة. حكى أبو جابر قال: رأيت أهل الرحبة ينكرون كرامات الأولياء، فركبت سبعاً ذات يوم ودخلت المدينة وقلت: أين الذين ينكرون كرامات الأولياء؟ روذبار بلاد بأرض الجبال، كلها جبال ووهاد وأشجار ومياه، وعماراتها قرى وقلاع حصينة وسكانها ديالم. ينسب إليها أبو علي أحمد بن محمد الروذباري، أصله من روذبار وسكن بغداد وسمع الحديث من إبراهيم الحربي، وأخذ الفقه من أبي العباس بن شريح، والأدب من ثعلب، وصحب الجنيد. حكى أبو منصور معمر الأصفهاني انه قال: سمعت أبا علي الروذباري انه قال: أنفقت على الفقراء كذا وكذا ألفاً، وما جعلت يدي فوق يد فقير بل كانوا يأخذونه مني ويدهم فوق يدي. توفي

روذراور

بمصر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وينسب إليها أبو عبد الله أحمد بن عطاء الروذباري. كان ابن أخت أبي علي، حكي انه كان راكباً على جمل فغاصت رجله في الرمل فقال: جل الله! فقال الجمل أيضاً: جل الله! وحكي أنه دعي يوماً هو وأصحابه إلى دعوة، فإذا هم يمشون على الطريق فقال إنسان: هؤلاء الصوفية مستحلون أموال الناس! وبسط لسانه فيهم وقال: ان واحداً منهم استقرض مني مائة درهم ولم يردها إلي، ولست أدري أين أطلبه؟ فقال أبو عبد الله لصاحب الدعوة وكان محباً له ولهذه الطائفة: ائتني بمائة درهم! فأتى بها فقال لبعض أصحابه: احمل إلى ذلك الإنسان وقل له ان هذا الذي استقرض منك بعض أصحابنا، وقد وقع لنا خبره عذر. روذراور كورة بقرب همذان على ثلاثة فراسخ منها. وهي ثلاث وتسعون قرية متصلة المزارع، ملتفة الجنان مطردة الأنهار. في أشجارها جميع أنواع الفواكه لطيب تربتها وعذوبة مائها ولطافة هوائها. أرضها تنبت الزعفران وليس في جميع الأرض موضع ينبت به الزعفران إلا أرض روذراور، منها يحمل إلى ميع البلاد. رويان ناحية بين طبرستان وبحر الخزر من بلاد مازندران، ينسب إليها الإمام فخر الإسلام أبو المحاسن الروياني، وهو أول من أفتى بإلحاد الباطنية لأنهم كانوا يقولون: لا بد من معلم يعلم الناس الطريق إلى الله، وذلك المعلم يقول: لا يجب عليكم إلا طاعتي، وما سوى ذلك فإن شئتم فافعلوا وإن شئتم لا تفعلوا. فالشيخ جاء إلى قزوين وأفتى بإلحادهم، ووصى لأهل قزوين أن لا يكون بينهم

الري

وبين الباطنية اختلاط أصلاً، وقال: إن وقع بينكم اختلاط فهم قوم عندهم حيل يخدعون بعضكم، وإذا خدعوا بعضكم وقع الخلاف والفتنة. فالأمر كان على ما أشار إليه فخر الإسلام، إن جاء من ذلك الجانب طائر قتلوه، فلما عاد إلى رويان بعثوا إليه الفدائية وقتلوه. عاش حميداً ومات شهيداً. الري مدينة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن، كثيرة الخيرات وافرة الغلات والثمرات قديمة البناء؛ قال ابن الكلبي: بناها هوشنج بعد كيومرث. وقال غيره: بناها راز بن خراسان لأن النسبة إليها رازي. وهي مدينة عجيبة في فضاء من الأرض، وإلى جانبها جبل أقرع لا ينبت شيئاً يقال له طبرك. قالوا: انه معدن الذهب، إلا ان نيله لا يفي بالنفقة عليه ولهذا تركوا معالجته. ودور هذه المدينة كلها تحت الأرض، ودورهم في غاية الظلمة وصعوبة المسلك، وإنما فعلوا ذلك لكثرة ما يطرقهم من العساكر، فإن كانوا مخالفين نهبوا دورهم، وإن كانوا موافقين نزلوا في دورهم غصباً، فاتخذوا مسالك الدور مظلمة ليسلموا من ذلك. والناس يحفرون بها يجدون جواهر نفيسة وقطاع الذهب، وبها كنوز في كل وقت يظهر منها شيء، لأنها ما زالت موضع سرير الملك. وفي سنة أربع عشرة وستمائة في زمن ايلقلمش ظهر بها حباب كان فيها دنانير عجيبة، ولم يعرف انها ضرب أي ملك، وذكر انها خربت مراراً بالسيف والخسف. وقال جعفر بن محمد الرازي: لما ورد المهدي في خلافة المنصور بنى المدينة التي بها الناس اليوم، على يد عمار بن الخصيب، وتمت عمارتها سنة ثمان وخمسين ومائة، ومياه هذه المدينة جارية في نفس المدينة، لكنها من أقذر المياه لأنهم يغسلون فيها جميع النجاسات، وتمشي إليها مياه الحمامات، وأهل المدينة لا يأخذون منها إلا نصف الليل لأنه في هذا الوقت يصفو عن النجاسات

التي تلقى فيه. وهواؤها في فصل الخريف سهام مسمومة، قلما تخطيء سيما في حق الغرباء، فإن الفواكه في هذا الوقت بها كثيرة رخيصة كالتين والخوخ والعنب، فإن العنب لا يقدرون على تحصيله إلى الشتاء. وبها نوع من العنب يسمونه الملاحي، حباته كحبات البسر وعنقوده كعذق التمر، ربما يكون مائة رطل. هذا النوع يبقى إلى الشتاء، ويحمل من الري إلى قزوين طول الشتاء، ومع كبر حباته قشره رقيق وطعمه طيب. وبها نوع آخر من العنب شبيه الرازقي إلا أن ثجيره ضعيف جداً، إذا قطفوه تركوه في الظل حتى يتزبب ويكون زبيبه طيباً جداً، يحمل إلى سائر البلاد. ويجلب من الري طين يغسل به الرأس في غاية النعومة، يحمل هدية إلى سائر البلاد. وصناع المشط بالري لهم صنعة دقيقة، يعملون أمشاطاً في غاية الحسن تحمل هدية إلى البلاد. والآلات والأثاث المتخذة من الخشب الخلنج خشبها بطبرستان يتخذون منها هناك، وهي خشبة لا لطف فيها، ويحملونها إلى الري فيتركها أهل الري في الخرط مرة أخرى، ويلطفونها ثم يزوقونها بأنواع التزاويق من الري تحمل إلى جميع البلاد. وأهل الري شافعية وحنفية. وأصحاب الشافعي أقل عدداً من أصحاب أبي حنيفة، والعصبية واقعة بينهم حتى أدت إلى الحروب، وكان الظفر لأصحاب الشافعي في جميعها مع قلة عددهم. والغالب على أهل الري القتل والسفك، ومعهم شيء من الأريحية، من ذلك حكي أن رجلاً من أرباب الثروة كان جاراً لبعض العيارين، فجاء وقت وضع حمل زوجة صاحب الثروة، ومن عادتهم أنهم يزينون الدار في هذا الوقت ويظهرون الأثاث والقماش، فلما أمسوا وكان لهم داران اجتمعوا كلهم عند صاحبة الطلق وخلت الدار الأخرى، فقال العيار: ما منعكم أن تنزلوا وتجمعوا جميع ما في هذه الدار؟ فنزلوا وأصعدوا جميع ما فيها إذ سمعوا ضجيج النساء يقلن: وضعت غلاماً! فقال العيار لأصحابه: إن هؤلاء فرحوا بهذا المولود، وإذا أحسوا بالقماش يتبدل فرحهم بالترح

ويعدون الولد شؤماً. ردوا القماش إليهم ليزداد فرحهم ويكون المولود ميمون النقيبة. فقالوا للقوم: خذوا قماشكم فإنا رددناها لأجل هذا المولود. وينسب إليها الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، إمام الوقت ونادرة الدهر وأعجوبة الزمان: لقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل ذكر أبو القاسم علي بن حسن بن عساكر عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انه قال: إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة في كل مائة سنة من يجدد لها دينها. قال: فكان على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى الثانية محمد بن ادريس الشافعي، وعلى رأس المائة الثالثة أبو العباس أحمد ابن شريح، وعلى رأس المائة الرابعة القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، وعلى رأس الخامسة أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، وعلى رأس المائة السادسة أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي. حكي أن فخر الدين الرازي ورد بخارى، وحضر حلقة رضى الدين النيسابوري، وكان في حلقته أربعمائة فاضل مثل ركن الدين العميدي وركن الدين الطاووسي ومن كان من طبقاتهم ومن كان دونهم، واستدل في ذلك المجلس فلم يبق من القوم إلا من أورد عليه سؤالاً أو سؤالين، فأعادها كلها، فلما قال: والاعتداد عن هذه الفوائد، قال رضى الدين: لا حاجة إلى الجواب فإنه لا مزيد على هذا. وتعجب القوم ضبطه وإعادته وترتيبه. وحكي انه قبل اشتهاره ذهب إلى خوارزم مع رسول، فقال أهل خوارزم للرسول: سمعنا ان معك رجلاً فاضلاً نريد أن نسمع منه فائدة، وكانوا في الجامع يوم الجمعة بعد الصلاة، فأشار الرسول إلى فخر الدين بذلك، فقال فخر الدين: افعل ذلك بشرط أن لا يبحثوا إلا موجهاً. فالتزموا ذلك. فقال: من أي علم تريدون؟

قالوا: من علم الكلام فإنه دأبنا. قال: أي مسألة تريدون؟ اختاروا مسألة شرع فيها وقررها بأدنى زمان، وكان هناك من العوام خلق كثير وعوام خوارزم متكلمة كلهم عرفوا أن فخر الدين قرر الدليل وغلبهم كلهم. فاراد مرتب القوم أن يخفي ذلك محافظة لمحفل الرئيس فقال: قد طال الوقت وكثرت الفوائد. اليوم نقتصر على هذا، وتمامه في مجلس آخر في حضرة مولانا، فقال فخر الدين: أيها الخوارزمي إن مولانا لا يقوم من هذا المجلس إلا كافراً أو فاسقاً، لأني ألزمته الحكم بالحجة، فإن لم يعتقد فهو كافر على زعمه، وان اعتقد ولم يعترف به فهو فاسق على زعمه. وحكي انه ورد بخارى، وسمع أن أحداً من أهل بخارى ذكر اشكالات على إشارات أبي علي، فلما ورد فخر الدين بخارى أوصى لأصحابه أن لا يعرضوا ذلك على فخر الدين، فقال فخر الدين لأحد من أصحاب الرجل: اغزني ليلة واحدة. ففعل فضبطها كلها في ليلة واحدة، وقام وذهب إليه أول النهار وقال له: سمعت أنك أوردت الاشكالات على أبي علي، فمعنى كلام أبي علي هذا كيف تورد عليه الاشكال حتى أتى على جميعها، ثم قال له: أما تتقي الله فهو كلام الرجل ما تعرف وتفسرها من عندك تفسيراً فاسداً وتورد عليه الاشكال؟ فقال الرجل: أظن انك الفخر الرازي! فقال: ما أخطأت في هذا الظن! وقام وخرج. وحكي انه كان يعظ على المنبر بخوارزم وعوام خورازم كلهم متكلمة يبحثون بحثاً صحيحاً، وكان يأتي بمسألة مختلفة بين المعتزلة والأشاعرة، ثم يقررها تقريراً تاماً ويقول: أئمة المعتزلة لا يقدرون على مثل هذا التقرير. ويقول لهم: أما هذا تقرير حسن؟ يقولون: نعم. فيقول: اسمعوا إبطاله! فيبطله بأدلة أقوى منها، فالمعتزلة عزموا على ترك الاعتزال لأن الواجب عليهم اتباع الدليل، فقال لهم مشايخهم: لا تخالفوا مذهبكم فإن هذا رجل أعطاه الله في التقرير قوة عجيبة، فإن هذا لقوته. لا لضعف مذهبكم.

وحكي انه كان على المنبر فنقل شيئاً من التوراة فقالوا له: كيف عرفت انه في التوراة؟ فقال: أي سفر شئتم عينوا حتى أقرأه عليكم! وجاءته حمامة خلفها باشق يريد صيدها، فدخلت الحمامة خلف ظهر الشيخ فقال بعض الحاضرين: جاءت سليمان الزّمان بشجوها ... والموت يلمع من جناح الخاطف من عرّف الورقاء أنّ جنابكم ... حرمٌ، وأنّك مأمنٌ للخائف؟ فالشيخ خلع عليه قميصه وعمامته. توفي عيد الفطر سنة ست وستمائة. وينسب إليها أبو إسحق إبراهيم بن أحمد الخواص. كان من أقران الجنيد والنوري. كان إبراهيم متوكلاً يمشي في أسفاره بلا زاد، وحكى منصور ابن عبد الله الهروي قال: كنت مع قوم في مسجد رسول الله. صلى الله عليه وسلم، نتحدث في كرامات الأنبياء، ومعنا رجل مكفوف يسمع حديثنا، فلما فرغنا قال: آنسكم الله فإني أنست بحديثكم، فاسمعوا عني أيضاً حديثاً عجيباً. قال: كنت رأيت قبل عماي رجلاً غريباً يخرج من المدينة يمشي مسرعاً، فمشيت خلفه حتى أدركته، قلت له: اخلع ثيابك! فقال لي: اذهب حتى لا يصيبك ضرر! فشددت عليه وكلفته خلع ثيابه، فدفعني مراراً بالكلام فأبيت إلا خلع الثياب. فلما علم اني لست أندفع عنه أشار إلي عيني فعميتا، وذهب عني فبت تلك الليلة فرأيته في النوم فقلت: يا عبد الله وحق من أكرمك هذه الكرامة من أنت؟ قال: إبراهيم الخواص! وحكى الخواص، رحمة الله عليه: انتهيت إلى رجل صرعه الشيطان فجعلت أؤذن في أذنه، فناداني الشيطان من خوفه يقول: دعني أقتله، فإنه يقول: القرآن مخلوق! وحكى بعضهم قال: صحب الخواص مع اثنين فانتهينا إلى مسجد في المفازة فأوينا إليه، وكان الوقت شاتياً والمسجد لا باب له، فلما أصبحنا وجدنا إبراهيم واقفاً على باب المسجد يستر الباب ببدنه، قال:

خشيت أن تجدوا البرد فسترت الباب ببدني. وحكى الخواص، رحمه الله، قال: رافقني في بعض أسفاري راهب فمضينا أسبوعاً ما أكلنا. فقال لي الراهب: يا راهب احنفية، هات إن كان عندك انبساط، فقد بلغنا في الجوع! فقلت: اللهم لا تفضحني عند هذا الكافر! فرأيت طبقاً فيه خبز وشواء ورطب وماء، فأكلنا ومشينا أسبوعاً آخر، فقلت: يا راهب النصارى، هات إن كان عندك انبساط فالنوبة لك! فدعا فرأيت طبقاً فيه أكثر مما كان على طبقي، فتحيرت وأبيت أن آكل منها، فقال لي الراهب: كل فإني أبشرك ببشريين: أحدهما أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والثاني اني قلت يا رب ان كان لهذا الرجل خطر فافتح علي فتحاً! فأكلنا ومشينا إلى مكة، فأقام بها مدة ثم توفي بها ودفن في البطحاء. وحكى إبراهيم قال: في بعض أسفاري انتهيت إلى شجرة قعدت تحتها، فإذا سبع هائل يأتي نحوي، فلما دنا مني رأيته يعرج، فإذا يده منتفخة وفيها فنخ، فهمهم وتركها في حجري، وعرفت انه يقول: عالج هذه! فأخذت خشبة فتحت بها الفنخ ثم شددته بخرقة خرقتها من ثوبي، فغاب ثم جاءني ومعه شبلان يبصبصان ورغيف تركه عندي ومشى. وحكى إبراهيم، رحمه الله، قال: ركبت البحر مرة، فجاءنا ريح عاصف يمشي بالمركب على غير اختيارنا، فالركاب كانوا يدعون الله تعالى وكل واحد ينذر نذراً، وأنا قلت: ان نجاني الله تعالى من هذه لا آكل لحم الفيل! هكذا جرى على لساني، فالريح رمتنا إلى جزيرة فرأينا في الجزيرة ولد فيل، فالقوم أخذوه وذبحوه وجعلوا يأكلونه، فأشاروا إلي بأكله فأبيت أن آكل لأجل النذر. فأكل القوم كلهم من لحم ولد الفيل، فلما كان الليل جاء الفيل فما وجد الولد، فرأى القوم فجعل يشم واحداً واحداً ويحطمه بخفه حتى فرغ عن الكل، فأنا وقعت على وجهي حتى لا أراه وأيقنت بالهلاك. فلما شمتني لف خرطومه علي وحملني على ظهره وجعل يمشي طول الليل بي، فلما أصبحت

وصل إلى بيش فتركني هناك ومضى. وحكى أبو حامد الأسود قال: سافرت مع الخواص ذات مرة، فانتهينا إلى ظل شجرة، فأقبل إلينا سبع هائل، فصعدت الشجرة خوفاً وإبراهيم نام تحت الشجرة، فجاء السبع فشمه من رأسه إلى قدمه وذهب، فلما كانت الليلة أوينا إلى مسجد فوقعت بقة على إبراهيم فأن أنيناً، فقلت له: هذا عجب! البارحة ما كنت تئن من أسد، والآن تئن من بقة؟ فقال: هذه الحالة غير تلك الحالة، البارحة كنت بالله والليلة أنا بنفسي! وحكي أن الخواص، رحمة الله عليه، لما دنت وفاته طلب الماء وتوضأ وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائتين، فرئي بعد وفاته في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أثابني على كل عم عملته ثم أنزلني منزلاً فوق منازل أهل الجنة وقال: يا إبراهيم هذا المنزل بسبب انك قدمت إلينا بالطهارة! وينسب إليها يحيى بن معاذ الرازي. كان شيخ الوقت وصاحب اللسان في الوعظ والقبول عند الناس، إلى أن اتصل بزين العارفين أبي يزيد البسطامي، فرأى من حالاته ما تحير فيها، فعلم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فلازم خدمته وذكر عنه حكايات عجيبة. وحكي انه رأى بايزيد من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر مستوفزاً على صدور قدميه، رافعاً أخمصيه ضارباً بدفيه على صدره، شاخصاً بعينيه لا يطرف، ثم سجد عند الفجر فأطال ثم قعد وقال: اللهم إن قوماً طلبوك فأعطيتهم المشي على الماء والمشي على الهواء فرضوا منك بذلك، وإني أوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم كنوز الأرض ورضوا بذلك، وإني أعوذ بك من ذلك، وإن قوماً طلبوك فأعطيتهم طي الأرض فإنهم رضوا بذلك، واني أعوذ بك من ذلك، حتى عد نيفاً وعشرين مقاماً من مقامات الأولياء، ثم التفت إلي فرآني فقال: يحيى! قلت: نعم يا سيدي! فقال: منذ متى أنت هنا؟ قلت: منذ حين. فسكت فقلت: يا سيدي حدثني بشيء. فقال: أحدثك بما يصلح

زاوه

لك، ادخلني في الفلك الأسفل فدورني في الملكوت السفلي وأراني الأرض وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فطوف في السموات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه وقال: سلني أي شيء رأيت حتى أهبه لك! فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئاً استحسنته فأسالك إياه. فقال: أنت عبدي حقاً بعبدي لأجلي صدقاً لأفعلن بك ولأفعلن! وذكر أشياء؛ قال يحيى: فهالني ذلك وامتلأت به وعجبت منه فقلت: يا سيدي لم ما سألته المعرفة به وقد قال لك سلني ما شئت؟ قال: فصاح في صيحة وقال لي: اسكت! ويلك غرت عليه مني؟ لا أحب أن يعرفه سواه. وحكي أن من لطف الله تعالى في حق يحيى انه تكلم ببلخ وفضل الغنى على الفقر، فأعطي ثلاثين ألف درهم، فسمع بعض المشايخ ذلك فقال: ما أعجبه لا بارك الله له في هذا المال! فخرج من بلخ يريد نيسابور، فوقع عليه اللصوص وأخذوا منه المال. وحكى يحيى انه دخل المسجد فوقعت جنية على باب المسجد فقلت: ان ذلك لذنب مني، حتى تذكرت اني قدمت رجلي اليسرى، فقلت: تبت لا أعود إلى مثله! فنوديت: يا يحيى أدركت سوء الأدب بحسن المعذرة فأدركناك بالفضل والمغفرة. توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين. زاوه كورة بخراسان. ينسب إليها الشيخ حيدر وهو رجل مشهور، كان عجيب الشأن: في الصيف يدخل في النار، وفي الشتاء يدخل في وسط الثلج، والناس من الأطراف يقصدونه لرؤية هذا الأمر العجيب. فمن رآه على تلك الحالة لا يملك نفسه أن يترك الدنيا ويلبس اللباد ويمشي حافياً، وسمعت أن كثيراً ما يأتي الأمراء وأرباب الدنيا فكلما رأوه رموا أنفسهم من الفرس ولبسوا اللباد. ولقد رأيت من الأتراك مماليك في غاية الحسن وقد لبسوا اللباد يمشون حفاة؛ قالوا: انهم أصحاب حيدر!

زراعة

وحكى بعض المتصوفة أن الشيخ رئي يوماً فوق قبة عالية لا يمكن صعودها، فتعجبوا منه كيف صعد إليها، ثم انه جعل ينزل منها كما يمشي أحدكم على الأرض المستوية! وكان هذا الشيخ باقياً إلى مجيء التتر سنة سبع عشرة وستمائة. زراعة قرية في شرقي الموصل قرب باعشيقا، بها عين النيلوفر، وهي عين فوارة يجتمع فيها ماء كثير، ينبت في ذلك الماء النيلوفر ويعد نوعاً من أنواع دخل القرية، ويضمنه العامل في القرية بمال. زز كورة بهمذان. يجلب منها الززي، وهي ثمرة عجيبة مشهورة تربى بالخل، لها منافع كثيرة، ويكون طعم خلة طيباً جداً ولا يوجد في جميع البلاد إلا هناك، ومنها يحمل إلى سائر البلاد. زنجان مدينة مشهورة بأرض الجبال بين أبهر وخلخال، جادة الروم وخراسان والشام والعراق، لا تزال الحرامية كامنة حواليها. والبلدة في غاية الطيب، وأهلها أحسن الناس صورة وظرافة وبذلة. وفي جبالها معادن الحديد ويحمل منها إلى البلاد، وإذا وقع عندهم جدب لا يبيعون الخبز إلا مع الحديد، فمن أراد شري الخبز يزن ثمن الخبز والمسامير. وحكي انه وصل إليها قفل آخر النهار فقال بعضهم لبعض: المصلحة أن لا نبيت ها هنا ونرحل، حتى إذا كان الغد بعدنا عن هذه الأرض. فدخلوا المدينة حتى يشتروا شيئاً من الخبز، فما وجدوا الخبز إلا عند خباز واحد، وكان عنده

برذعة فقال: لست أبيع الخبز إلا مع البرذعة! وكل واحد يؤدي ثمن الخبز وثمن البرذعة، يأخذ الخبز ويترك البرذعة، حتى جاء رجل ظريف، قال الخباز: هات ثمن البرذعة! فقال الرجل: حاجتي إلى البرذعة أمس من حاجتي إلى الخبز، وأدى ثمنها وأخذها من عند الخباز وأحرقها. وحكي أن رجلاً طوالاً أراد شري البطيخ فأخذ يستامه وقال للبائع: انها صغار! فقال البائع: من الموضع الذي تنظر يرى الجمل عصفوراً وانها ليست بصغار. وحكي أن رجلاً من أوساط الناس حلف بأبيه فقال بعض الحاضرين: وهل كان لك أب؟ فقال: وهل يكون الإنسان بلا أب؟ قال: ما كان أباً يذكر في المحافل! ومن عجائبها ما ذكره أبو الريحان الخوارزمي عن أبي الفرج الزنجاني: أنه لا يرى بزنجان عقرب إلا في موضع يسمى مقبرة الطير، فإن أخرجت منها عادت إليها سريعاً، وما ذاك إلا لطيب تربتها ولطافة هوائها. وبها جبل بزاو؛ قالوا: انه من أنزه المواضع وأطيبها، وليس على وجه الأرض موضع أرق منه هواء ولا أعذب ماءً ولا أطيب رائحة، نباته الرياحين فراسخ في فراسخ تفوح روائحها من بعد بعيد، فإذا كان فصل الربيع يرى أديمه مثل الديباج المنقش من ألوان الرياحين. ينسب إليها جلال الطبيب. كان طبيباً عديم النظير في الآفاق، كان في خدمة ازبك بن محمد بن ايلدكز، صاحب آذربيجان وأران، لا يفارقه، يقول: ان حياتي محفوظة بهذا الرجل! وكان آية في المعالجات، ما كان يمشي إلى المريض بل يستخبر عنه ويأمر بدواء حقير، ويكون البرء حاصلاً، كان وجوده فائدة عظيمة للناس، ما وجد مثله بعده.

ساباط

ساباط بليدة كانت بقرب مدائن كسرى، أصله بلاشاباد يعني عمارة بلاش، وهو من ملوك الفرس، فعربته العرب وقالوا ساباط. ينسب إليها حجام كان يحجم الناس نسيئة، فإذا لم يأته أحد يحجم أمه حتى لا يراه الناس بطالاً، فما زال يحجمها حتى ماتت، فقالت العرب: افرغ من حجام ساباط! وكان كسرى ابرويز ألقى النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيل بساباط، لما قتل عدي بن زيد وجاء إلى كسرى مستغفراً، فما قبل توبته؛ قال الشاعر: فأدخل بيتاً سقفه صدر فيله ... بساباط والحيطان فيه قوائمه سامرا مدينة عظيمة كانت على طرف شرقي دجلة بين بغداد وتكريت، بناها المعتصم سنة إحدى وعشرين ومائتين، وسبب بنائها أن جيوشه كثروا حتى بلغ مماليكه سبعين ألفاً، فمدوا أيديهم على حرم الناس. وإذا ركبوا انحطم كثير من الصبيان والعميان والضعفاء من ازدحام الخيل، فاجتمع عامة أهل بغداد ووقفوا للمعتصم وقالوا: قد عمنا أذى جيوشك! إما تمنعهم أو تقلبهم عنا وإلا حاربناك بدعاء السحر! فقال: اما تقلبهم فلا يكون إلا بتقلبي، ولكني أوصيهم بترك الأذى، فما زادتهم الوصية إلا زيادة الفساد، فوقفوا له مرةً أخرى وقالوا: إما تحولت عنا وإلا حاربناك بدعاء السحر! فقال: هذه الجيوش لا قدرة لي بها، نعم أتحول وكرامةً. وساق من فوره حتى نزل سامرا وبنى بها داراً وأمر عسكره بمثل ذلك حتى صارت أعظم بلاد الله بناء وأهلاً. وأنفق على جامعها خمسمائة ألف دينار، وجعل وجوه حيطانها كلها المينا، وبنى المنارة التي كانت إحدى العجائب وحفر الاسحقي. وبنى الملوك والأمراء بها دوراً وقصوراً، وبنى الخلفاء بها أيضاً قصوراً

ساوه

عجيبة، وكان المعتصم والواثق والمتوكل بنوا بها قصوراً، والمتوكل اشتق من دجلة قناتين شتوية وصيفية، وتدخلان الجامع وتتخللان شوارع المدينة. وفي جامعها السرداب المعروف الذي تزعم الشيعة ان مهديهم يخرج منه، لأنهم زعموا أن محمد بن الحسن دخل فيه، وكان على باب هذا السرداب فرس أصفر، سرجه ولجامه من الذهب إلى زمن السلطان سنجر بن ملكشاه. جاء يوم الجمعة إلى الصلاة فقال: هذا الفرس ههنا لأي شيء؟ فقالوا: ليخرج من هذا الموضع خير الناس يركبه. فقال: ليس يخرج منه خير مني! وركبه. زعموا أنه ما كان مباركاً لأن الغز غلبته وزال ملكه. ولم تزل سامرا في زيادة عمارة من أيام المعتصم إلى أيام المستعين، فعند ذلك قويت شوكة الأتراك ووقعت المخالفة في الدولة، فلم تزل في نقص إلى زمان المعتضد بالله، فإنه انتقل إلى بغداد وترك سامرا بالكلية، فلم يبق بها إلا كرخ سامرا وموضع المشهد والباقي خراب يباب، يستوحش الناظر إليها بعد ان لم يكن في الأرض أحسن ولا أجمل ولا أوسع ملكاً منها. فسبحان من يقلب الأمور ولا يتغير بتغير الأزمنة والدهور! قال ابن المعتز: غدت سرّ من را في العفاء فيا لها ... قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل تفرّق أهلوها ولم يعف رسمها ... لما نسجته من جنوبٍ وشمأل إذا ما امرؤٌ منهم شكا سوء حاله ... يقولون: لا تهلك أسىً وتجمّل! ساوه مدينة طيبة كثيرة الخيرات والثمرات والمياه والأشجار، في وهدة من الأرض. وكانت في قديم الزمان على ساحل بحيرة غاضت عند مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، ورأيت موضع البحيرة زرعوه شعيراً. وحدثني بعض مشايخها انه شاهد السفينة تجري فيها. وأهل ساوه مخصوصون بحسن الصورة

واستقامة الطبع، ومعرفة وزن الشعر وعلم الغناء، وذلك يترشح منهم حتى من نسائهم وصبيانهم، وكلهم على مذهب الشافعي، ما فيها واحد يخالفهم إلا الغريب. وبها رباطات ومدارس ومارستانات والطاق الذي على باب الجامع، وهو طاق عال جداً مثل طاق كسرى، على طرفيه منارتان في غاية العلو ليس في شيء من البلاد مثله. وفي وسط الجامع خزانة الكتب المنسوبة إلى الوزير أبي طاهر الخاتوني، فيها كل كتاب معتبر كان في زمانه مع أشياء نادرة من الخطوط المنسوبة والاصطرلابات والكرات. ومن عجائبها أن الترنجبين يقع في كل ثلاثين سنة بأرضها على الشوك الذي يختص به، ويكثر حتى يجمع ويبتاع على الناس منه شيء كثير، وأنا شاهدت ذلك مرة. وينسب إليها القاضي عمر بن سهلان. كان أديباً فقيهاً حكيماً خصه الله تعالى بلطافة الطبع وفطانة الذهن، وفصاحة الكلام ومتانة البيان. جميع تصانيفه حسن، وكان معاصر الإمام حجة الاسلام الغزالي. ومن عجائب ما حكي من لطف الله تعالى في حقه انه قال: أردت الاشتغال بالعلوم وما كان لي مال ولم يبن في ذلك الوقت شيء من المدارس، وكان له خط في غاية الحسن، قال: كتبت ثلاث نسخ من كتاب الشفاء لأبي علي بن سينا، وكان إذ ذاك للشفاء رواج عظيم، بعت كل نسخة بمائة دينار وأودعت ثمنها ثلاثمائة دينار عند بزاز صديق لي. وكلما احتجت أخذت منها وأنفقت حتى غلب علي ظبي اني استوفيتها، فانقطعت عنه، فرآني الرجل وقال: ما لي أراك تأخرت عن طلب النفقة؟ قلت: لأني استوفيتها! قال: لا، بعد أكثره باق! فكنت أمشي إليه بعد ذلك مرة أخرى ثم انقطعت لما علمت اني استوفيت أكثر من مالي، فرآني وقال: ما سبب انقطاعك؟ قلت: جزاك الله عني خيراً! اني استوفيت أكثر من مالي! فقال: لا تنقطع فإنه قد بقي منها بعد كثير!

فكنت أمشي مرة أخرى مستحياً ثم انقطعت بالكلية، فرآني الرجل وسأل ان لا أنقطع فامتنعت، فلما ايس عن ذلك أخرج من كمه ثلاثمائة دينار وقال: هذا رأس مالك والذي أخذته مكسبها، لأني كنت أتجر لك عليها، ولله تعالى الحمد إذ وفقني لبعض قضاء حاجة مثلك. وينسب إليها القاضي عدة. كان واعظاً ظريفاً حلو الكلام يرى الملوك له. حكي انه كان يعقد مجلس الوعظ بهمذان، وينفي التشبيه والقوم لم يقدروا عليه لمكانته عند السلطان، فكانوا يكتبون إليه رقاعاً ويشتمونه فيها في نفسه وأهله وأولاده، وهو يقول: قد كتبوا كيت وكيت وهذا ممكن، لكن وجود الإله على العرش محال! وحكي أن بعض الملوك أراد رسولاً يبعثه إلى ملك آخر، فعينوا على القاضي عدة فقالوا: انه جيد لكنه يفسد الرسالة بطلب المال! فقال: حلفوه أن لا يطلب شيئاً! فحلفوه وبعثوه، فلما ذهب إليهم صبر أياماً لم يبعث إليه أحد شيئاً غير المرسل إليه، فعقد مجلساً وقال: يا قوم، إن مرسلي حلفني أن لا أطلب من أحد شيئاً، فقولوا أنتم من حلفكم أن لا تبعثوا إلي شيئاً؟ وله حكايات عجيبة من هذا الجنس، وبهذا مقنع. وينسب إليها التاج محمد الواعظ المعروف بشجويه. كان واعظاً فقيهاً حلو الكلام عذب اللهجة، ذا قبول عند الخواص والعوام، وكان وعظه معائب طبقات الناس، فإذا حضر ملك يقول: أيها الملك، ماذا تقول في عبد لبعض الملوك، اصطفاه سيده في حال هوانه وأفاض إليه أنواع إحسانه، وفوض إليه أمر البلاد وجعل بيده أزمة العباد، ثم ان هذا العبد خرب بلاده وقهر بالظلم عباده، وخالف أمر سيده وعصى وتجاوز عن حده واعتدى، فهل يستحق هذا العبد من سيده إلا العذاب العظيم والعقاب الأليم؟ ثم قال: أنت ذلك العبد أيها الملك، إن الله اصطفاك على العباد وجعل بيدك أمر البلاد، وأمرك بالعدل والإحسان ونهاك عن الظلم والطغيان، وأنت نهارك مصروف في غصب

الأموال وسفك الدماء، وليلك بالفسق والفجور، فما استحق من الله تعالى كفى بنفسك! وكان يقول في العالم: أيها العالم إذا جاءك المستفتي تقول لا مساغ لسؤالك في الشرع أصلاً، وإذا ترك القرطاس تحت المصلى يكون ذلك وجهاً عن الصيدلاني أو الكرابيسي أو الاصطخري. ويقول في المتصوفية: أيها الشيخ إذا حضرت الدعوة تأكل أكل البعير ولو كان حراماً، وتسمي ابن صاحب المنزل شاهداً وزوجته سكرجة، وتترك العفاف خلف الزلى. وهذا من اصطلاحات الصوفية، والعفاف ليس يتخذونه لمذاكيرهم بتركه خلف الزلى. وفي اليوم الثاني يمشي يقول: فقير قد نسي خرقة خلف الزلى، ليعرفهم أنه صاحب العفاف الكبير، فمن له إليه حاجة يطلبه، فكان يتخذ لكل طبقة من طبقات الناس عيباً على هذا المثال. وينسب إليها جماعة ما كان لهم نظير في وقتهم مثل عماد الملك، وزير السلطان خوارزمشاه، كان وزيراً ذا رأي وعلم. وتاج الدين كمالان. كان عالماً ذا فنون من الخلاف والأصول والمذهب. وبها المسكوي الطبيب. كان طبيباً فاضلاً وحيد دهره. وسعد المغني فإنه جمع بين الصوت والصنعة، وله أقوال يتعجب منها أهل تلك الصنعة. ومنها رتك المصارع. طاف أكثر البلاد وصارع كل مصارع فيها وغلبه ولم يغلب قط. ومنها الصفي كانون الشطرنجي، فإنه كان يطرح الفرس لمن كان في الطبقة العالية. ومن عاداتهم المحاجزة، وهي أن القوم إذا كان فصل الربيع كل جمعة بعد الصلاة خرج من محلتين من كل واحدة منهما مائتان أو ثلاثمائة غلام، يلتقون صفين عراة ويتلاكمون أشد الملاكمة، ولا يزال كذلك إلى أن ينهزم أحد الصفين.

سبران

سبران صقع من نواحي الباميان بين بست وكابل؛ قال نصر: به جبال فيها عيون ماء لا تقبل النجاسات، وإذا ألقي فيها شيء من النجاسات ماج وغلا نحو جهة الملقي، فإن أدركه أحاط به وغرقه. سرجهان قلعة على قلة جبل من جبال الديلم مشرف على قاع قزوين وابهر وزنجان، وهي قلعة عجيبة من أحصن القلاع وأحكمها، وعليها قلة، وهي حصن على حصن، بعد استخلاص الطبقة السفلى تبقى قلتها حصناً حيناً لا يسهل استخلاصها. سرخس مدينة بين مرو ونيسابور بناها سرخس بن جودرز، وهي كبيرة آهلة غناء كثيرة الخيرات، لا ماء لها في الصيف إلا من الآبار، ولأهلها يد باسطة في عمل العصائب والمقانع المنقوشة بالذهب، منها تحمل إلى سائر الآفاق. وينسب إليها أحمد بن الطيب السرخسي الحكيم الظريف الذي تظهر حكمته مع الظرافة. ذكر أنه سئل عن لذات الدنيا فقال: لذات الدنيا ثلاث: أكل اللحم، وركوب اللحم، وإدخال اللحم في اللحم؛ فسمع ذلك شاعر نظمها: ألم تر لذّة الدّنيا ثلاثاً ... إليها مال كلٌّ بالطّباع فذلك كلّها في اللّحم توجد ... بأكلٍ أو ركوبٍ أو جماع ومن كلامه: أربعة أشياء لا قبل لها: الدين والمرض والنار والسلطنة.

سلماس

سلماس مدينة بآذربيجان بين تبريز وأرمية. بها ماء من اغتسل به ذهب عنه الجذام. سمعت أن مجذوماً موصلياً ذهب إليه، فما رجع إلا سليماً نقي الجسد. سميرم كورة بين أصفهان وشيراز. بها عين ماء يدفع الجراد بها، وهي من أعجب عجائب الدنيا: وهو أن الجراد إذا وقعت بأرض يحمل من ذلك الماء إلى تلك الأرض، بشرط أن لا يوضع الظرف الذي فيه الماء على الأرض، ولا يلتفت حامله إلى ورائه، فيتبع ذلك الماء من الطير السودانية عدد لا يحصى ويقتل الجراد. ورأيت في سنة ست وستمائة بأرض قزوين جراداً، كانت تستر شعاع الشمس عند طيرانها، وما تركت بها ورقة خضراء، وباضت بها، قيل ان كل جرادة تبيض مائة بيضة، فإذا تفرخت بيضها في السنة القابلة لا تقدر فراخها على الطيران فتقيم بها حتى تقوى ثم تطير عنها إلى أرض أخرى، فبعث أهل قزوين رجلين أمينين في طلب ذلك الماء لدفع الجراد للسنة القابلة، فأتيا به في إناء فجاء عقيب الماء من السودانية عدد لا يحصى، وشرعت في قتل الجراد وأهلكتها عن آخرها. قيل: إن كل واحد من السودانية كان يقتل كل يوم من الجراد شيئاً كثيراً حتى قالوا قريباً من ألف، لأنها كانت تأكل وتقذف ثم تأكل وتقذف ولا تفارق تلك الأرض حتى تقتل جميعها. وحدث حامل ذلك الماء انه ما رأى شيئاً من السودانية عند المنبع، قال: فلما اغترفت وشرعت في الرجوع رأيت في كل منزل يحوم الطير حولنا، وهذا من الخواص العجيبة الكثيرة النفع، وانه مشهور ببلاد قهستان، فسبحان من لا يطلع على أسرار حكمته إلا هو!

سناباذ

سناباذ من قرى طوس على ميل منها، بها قبر الرشيد، حكي أن بعض المنجمين حكم أن موت الرشيد يكون بأرض طوس فقال: إذاً لا نطأ تلك الأرض أبداً! حتى ظهر بخراسان رافع بن الليث بن نصر بن سيار وعظم أمره، فأشاروا إلى الرشيد أنه لا يندفع إن لم يمض إليه بنفسه. وكان الرشيد يكره ذلك، قالوا: ان مصالح الملك لا تترك بقول منجم، ونحن نجمع بينهما نمشي إلى خراسان على وجه يكون بيننا وبين طوس مسافة بعيدة. فلما وصلوا إلى نيسابور ضلوا عن الطريق في بعض الليالي، فساقوا سوقاً شديداً فأصبحوا وهم على باب طوس، فأتى الرشيد قشعريرة فأراد أن يتحول منها، فما أمكنه وزاد به حتى مات ودفن هناك؛ قال عباس بن الأحنف وكان مع الرشيد: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثمّ القفول فقد جئنا خراسانا أين الذي كنت أرجوه وآمله ... ذاك الذي كنت أخشاه فقد كانا وكان المأمون مع الرشيد بخراسان، جعل قبر الرشيد وقبر علي بن موسى الرضا في قبة واحدة؛ قال دعبل الخزاعي وهو شيعي: قبران في طوس: خير الناس كلّهم ... وقبر شرّهم هذا من العبر ما ينفع الرّجس من قرب الزّكيّ ولا ... على الزّكيّ بقرب الرّجس من ضرر وذكر بعض مشايخ طوس أن الرشيد في القبر الذي يعرفه الناس للرضا، والرضا في القبر الذي يعرفه الناس للرشيد، وذلك من تدبير المأمون. والقبران متقاربان في قبة واحدة، وأهل تلك القرية شيعة بالغوا في تزيين القبر الذي اعتقدوا أنه للرضا، وهو للرشيد!

سنجار

سنجار مدينة مشهورة بأرض الجزيرة بقرب الموصل ونصيبين، في لحف جبل عال، وهي طيبة جداً كثيرة المياه والبساتين والعمارات الحسنة كأنها مختصر دمشق، وما رأيت أحسن من حماماتها. بيوتها واسعة جداً وفرشها فصوص، وكذلك تأزيرها، وتحت كل أنبوبة حوض حجرية مثمنة في غاية الحسن، وفي سقفها جامات ملونة الأحمر والأصفر والأخضر والأبيض على وضع النقوش، فالقاعد في الحمام كأنه في بيت مدبج. قال أحمد الهمذاني: إن سفينة نوح، عليه السلام، نطحت جبل سنجار بعد ستة أشهر وثمانية أيام، فطابت نفسه، عليه السلام، وعلم أن الماء أخذ في النضوب فقال: ليكن هذا الجبل مباركاً! فصارت مدينة طيبة كثيرة الأنهار والأشجار والنخل والأترج والنارنج. وحكي أن جارية السلطان ملكشاه ضربها الطلق بأرض سنجار فقال المنجمون: إن كان وضعها لا يكون اليوم يكون ولدها ملكاً عظيماً! فأمر السلطان أن تجعل معلقة، ففعلوا فولدت السلطان سنجر، فسموا المدينة باسمه، وكان ملكاً عظيماً كما قالوا. وبقرب سنجار قصر عباس بن عمرو الغنوي والي مصر. كان قصراً عجيب العمارة مطلاً على بساتين ومياه كثيرة، من أطيب المواضع وأحسنها. وكان بعد العباس ينزل بها الملوك لطيب مكانها وحسن عمارتها؛ حكى عمران بن شاهين قال: نزلنا بها مع معتمد الدولة قرواش بن المقلد فرأينا على بعض حيطانها مكتوباً: يا قصر عبّاس بن عمروٍ ... كيف فارقك ابن عمرك؟ قد كنت تغتال الدّهور ... فكيف غالك ريب دهرك؟ واهاً لعزّك! بل لجودك ... بل لمجدك بل لفخرك! كتبه علي بن عبد الله بن حمدان بخطه سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وهو

سهرورد

سيف الدولة ممدوح المتنبي، وتحته مكتوب: يا قصر ضعضعك الزّمان ... وحطّ من علياء قدرك ومحا محاسن أسطرٍ ... شرفت بهنّ متون جدرك واهاً لكاتبها الكريم ... وقدره الموفي بقدرك! وكتبه الغضنفر بن الحسن بن عبد الله بن حمدان في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وهو ناصر الدولة ابن أخي سيف الدولة، وتحته مكتوب: يا قصر ما فعل الأولى ... ضربوا قبابهم بعقرك! أخنى الزّمان عليهم ... وطواهم تطويل نشرك! واهاً لقاصر عمر من ... يحتال فيك وطول عمرك وكتبه المقلد بن المسيب في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وهو أبو قرواش أحد العظماء فكتب قرواش تحته: يا قصر أين ثوى الكرام ... السّاكنون قديم عصرك؟ ولقد أطال تفجّعي ... يا ابن المسيّب رقم سطرك! وعلمت أني لاحقٌ بك ... تابعٌ في صوب إثرك سهرورد بليدة بأرض الجبال بقرب زنجان. ينسب إليها أبو الفتوح محمد بن يحيى الملقب بشهاب الدين، وكان حكيماً عالماً تاركاً الدنيا صاحب العجائب والأمور الغريبة. كان مرتاضاً منقطعاً عن الناس. حكى بعض فقهاء قزوين قال: نزلت برباط بأرض الروم في وقت الشتاء فسمعت صوت قراءة القرآن، فقلت لخادم الرباط: من هذا القاريء؟ فقال: شهاب الدين السهروردي. قلت:

شاذياخ

إني منذ مدة سمعت به وأردت أن أراه. فأدخلني عليه فقال: لا يدخل عليه أحد، لكن إذا علت الشمس يخرج ويصعد السطح ويقعد في الشمس فأبصره! قال: فقعدت على طرف الصفة حتى خرج، فرأيته عليه لباد أسود وعلى رأسه أيضاً قلنسوة من لباد أسود، فقمت وسلمت عليه وعرفته أني قصدت زيارته، وسألته أن يجلس معي ساعة على طرف الصفة، فطوى مصلاي وجلس، فجعلت أحدثه وهو في عالم آخر فقلت: لو لبست شيئاً غير هذا اللباد! فقال: يتوسخ. فقلت: تغسله. فقال: يتوسخ. فقلت: تغسله. فقال: ما حييت لغسل الثياب، لي شغل أهم من ذلك. وكان معاصراً لفخر الدين الرازي، جرى بينهما مباحثات، ورأى فخر الدين بعد موته كتابه التلويحات في الحكمة فقبله. وحكي انه كان جالساً على طرف بركة مع جمع، فتحدثوا في معجزات الأنبياء فقال بعضهم: فلق البحر أعجبها. فقال الشهاب: ليس ذلك شيئاً بالنسبة إلى معجزات الأنبياء. وأشار إلى البركة فانشق الماء فيها نصفين حتى رأوا أرض البركة. وحكي انه لما قبض عليه بحلب حبس في دار فرأوا مكتوباً على جائزة لا يوصل إليها إلا بالسلاليم: بيت الظالم خراب ولو بعد حين! وكان كذلك: ذهب الملك عن الملك الظاهر عن قريب وخرب بيتهم. شاذياخ اسم مدينة بخراسان على قرب نيسابور. كانت بستاناً لعبد الله بن طاهر بن الحسين. ذكر الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور أن عبد الله بن طاهر قدم نيسابور بعساكره، فنزلوا في دور الناس غصباً، فاتفق أن بعض أصحابه دخل دار رجل له زوجة حسناء، وكان رجلاً غيوراً لا يفارق داره غيرةً على زوجته، فقال له الجندي يوماً: اذهب بفرسي واسقه ماء! فلم يجسر على خلافه ولم يستطع مفارقة أهله، فقال لزوجته: اذهبي أنت بفرسه واسقيه حتى احفظ

شاه دز

أنا أمتعتنا! فمضت المرأة وكانت وضيئة حسناء، فاتفق ركوب عبد الله بن طاهر، فرأى المرأة تقود الفرس فقال لها: ما شأنك؟ لست أهلاً لهذا! فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر! فأخبرته الحال فغضب وحولق، فأمر العرفاء في عسكره: من بات بالمدينة حل ماله ودمه! وسار إلى شاذياخ وبنى بها قصراً، والجند كلهم بنوا بجنبه دوراً، فعمرت وصارت أحسن الأماكن وأطيبها؛ قال الشاعر: فاشرب هنيئاً عليك التّاج مرتفقاً ... بالشّاذياخ، ودع غمدان لليمن فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من ابن هوذة فيها وابن ذي يزن فلما استولى الغز على خراسان في عهد سنجر بن ملكشاه سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وخربوا نيسابور وأحرقوها، انتقل من بقي منهم إلى شاذياخ وعمروها حتى صارت أحسن بلاد الله وأطيبها، وكانت ذات سور حصين وخندق وكثرة خلق إلى سنة ثمان عشرة وستمائة، استولى عليها التتر وخربوها، فإنا لله وإنا إليه راجعون! شاه دز قلعة حصينة كانت على قلة جبل بقرب أصفهان، بناها السلطان ملكشاه ابن ألب ارسلان سنة خمس مائة. وسبب بنائها أن رجلاً من بطارقة الروم جاء إلى السلطان وأسلم وصار من مقربيه، وكان معه يوماً في الاصطياد فهرب منهم كلب حسن الصيد وصعد هذا الجبل فتبعه السلطان والبطريق، فقال للسلطان: لو كان مثل هذا الجبل عندنا لاتخذنا عليه معقلاً وانتفعنا به! فأمر السلطان أن يبنى عليه قلعة، فمنعه نظام الملك فلم يقبل قوله، فبنوا عليه قلعة في غاية الحصانة لا حيلة في استخلاصها. ففرح السلطان به وجعل كوتواله بعض من كان من خواص السلطان أميراً معتبراً، وكان ابن عطاش أحمد بن عبد الملك

شكمبة

معلماً لوشاقية هذا الأمير، وهو داع من دعاة الباطنية، حمله الأمير معه إلى القلعة. فلما استقر فيها دعا القوم إلى مذهب الباطنية فأجابوه، وبعث الدعاة إلى أصفهان فأجابه من أصفهان أيضاً خلق كثير. فلما علم نظام الملك ذلك قال للسلطان: منعتك عن بناء القلعة فما قبلت، والآن أقول استدرك أمر هذا الملحد، وإلا يفضي إلى فساد لا يمكن دفعه! فنزل السلطان على القلعة وحاصرها سبع سنين حتى استخلصها، وأنزل ابن عطاش منها، وكان عالماً بعلم النجوم، وقد أركبوه على جمل وأدخلوه في أصفهان، واستقبله جميع أهل أصفهان بالطبول والبوقات والدفوف، والمساخرة يرقصون قدامه، والعوام يرمونه بالأبعار والأقذار، قيل له: ما رأيت هذا في طالعك؟ قال: رأيت في طالعي ارتقاء لكن ما رأيت انه يكون على هذا الوجه! وصلب في أصفهان وكفي شره، فقالوا للسلطان: قلعة دل عليها كلب، وأشار إلى عمارتها كافر، وملكها ملحد لا يرجى منها الخير! فأمر بخرابها. شكمبة بليدة من ناحية دنباوند، كثيرة المزارع والبساتين والثمار والأعناب. وهي أشد تلك النواحي برداً، يضرب أهل جرجان وطبرستان بقاضيها المثل في تشويش الصورة واضطراب الحلقة، فإذا رأوا أحداً كريه الصورة قالوا: مثل قاضي شكمبة! قال قائلهم: رأيت رأساً كدبّةٍ ولحيةً كمذبّه ... فقلت: ذا التّيس من هو؟ فقال: قاضي شكمبه! شهرزور كورة واسعة في الجبال بين اربل وهمذان. بها قرى ومدن. أهلها أكراد قطاع الطريق؛ قال مسعر بن مهلهل: بلدهم ينشيء ستين ألف بيت من الأكراد،

شهرستان

وقصبتها دزدان. وكانت مدينة ذات سور عريض عال حتى تركض الخيل على سورها لسعته، وكان رئيسها عاصياً على السلاطين، قال: وكنت أنظر إلى رئيسها وهو جالس على برج مبني على بابها عال، ينظر إلى عدة فراسخ وبيده سيف مجرد، فمتى رأى خيلاً من بعض الجهات لمع بسيفه. فانجفلت المواشي والقوافل إلى المدينة وقالوا: انها مدينة منصورة ممتنعة عمن يرومها. دعا لها داود وسليمان، عليهما السلام. ينسب إليها طالوت الذي بعثه الله تعالى ملكاً إلى بني إسرائيل فقالوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه؟ والمتغلبون عليها إلى اليوم يزعمون أنهم من ولد طالوت. وهي مخصوصة بقلة رمد العين والجدري؛ هذا آخر كلام مسعر. وبها جبل ينبت حب الزلم الصالح لأدوية الباه، لم يعرف في مكان غيره. وبها نوع من الكرم يأتي سنة بالعنب وسنة بثمرة شبيهة بالجزر شديدة الحمرة، أسود الرأس يقولون له الودع. وبها عقارب قتالة أضر من عقارب نصيبين. شهرستان مدينة بخراسان بين نيسابور وخوارزم على طرف بادية الرمل. وبساتينها ومزارعها بعيدة عنها، والرمال متصلة بها لا تزال تسف. ولها وقف على رجال وثيران ينحون الرمل عنها أبداً. وربما يغشاها في يوم واحد أضعاف ما ينحون عنها زماناً طويلاً، والناس ينظرون إليه وهو يجري كالماء الجاري. يجلب منها العمائم الرفاع الطوال ولأهلها يد باسطة في صنعتها. وينسب إليها الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل، وكان رجلاً فاضلاً متكلماً، ويزعم أنه انتهى إلى مقام الحيرة، وهو القائل: لقد طفت في تلك المعاهد كلّها ... وصيّرت طرفي بيت تلك المعالم فلم أر إلاّ واضعاً كفّ حائرٍ ... على ذقنٍ أو قارعاً سنّ نادم!

شيز

شيز مدينة بآذربيجان بين المراغة وزنجان، قال مسعر بن مهلهل: بها معدن الذهب والفضة والزئبق والزرنيخ الأصفر والاسرب. ولها سور محيط بها. وفي وسطها بحيرة لا يدرك قعرها. وإني أرسيت فيه أربعة عشر ألف ذراع وكسوراً من ألف ما استقر، واستدارتها نحو جريب بالهاشمي. ومتى بل بمائها تراب صار لوقته حجراً صلداً. بها بيت نار عظيم الشأن عند المجوس، منها تذكى نيران المجوس من المشرق إلى المغرب، وعلى رأس قبته هلال فضة قيل هو طلسم حاول كثير من المتغلبين قلعه فلم يقدروا. ومن عجائب هذا البيت انهم يوقدون منه منذ سبعمائة سنة، فلا يوجد فيه رماد البتة ولا ينقطع الوقود عنه ساعة من الزمان. ومن عجائب هذه المدينة انه إذا قصدها عدو ونصب المنجنيق عليها فإن حجر المنجنيق يقع خارج السور ولا يصل إليه، وإن كان يرمى إليه من مسافة ذراع. إلى ههنا كلام مسعر، وكان رجلاً سياحاً طاف البلاد ورأى عجائبها، وأكثر عجائب البلدان منقول منه. وحكى غير مسعر أن بالشيز نار اذرخس، وهي نار عظيمة عند المجوس كان إذا الملك منهم زارها أتاها راجلاً. وينسب إليها زرادشت نبي المجوس، قيل: انه كان من شيز، ذهب إلى جبل سبلان معتزلاً عن الناس وأتى بكتاب اسمه باستا، وهو بالعجمية لم يفهم معناه إلا من المفسر. وأتى يدعي النبوة في عهد كشتاسف بن لهراسف ابن كيخسروا، ملك الفرس، واراد الوصول إليه فلم يتمكن من ذلك، وكان كشتاسف جالساً في ايوان فانشق سقف الإيوان ونزل زرادشت منه، والناس الذين كانوا عند الملك ما بين هارب ومغشي عليه، والملك ما تحرك عن مكانه وقال له: من أنت؟ فقال زرادشت: إني رسول الله إليكم! فقال الملك:

صيمرة

نحن وإن رأينا هذا العجب، يعني النزول من السقف، لكن لا نقتصر على ذلك بل عندنا علماء وحكماء يناظرونك، فإن شهدوا لك الحق اتبعناك! فرضي زرادشت به وأمر الملك العلماء والحكماء في ذلك الزمان أن يسمعوا كلامه ويعرفوا الملك. فسمعوا كلامه وقالوا للملك: سمعنا كلامه وانه مستقيم ولم يبق إلا شيء واحد، وهو طلب معجزة على نبوته، فقالوا: اخترنا أن نطلي بدنه بما أردنا من الأدوية ونأخذ شيئاً من النحاس المذاب ونشد وثاقه ونصب ذلك القطر عليه، فإن تلف فقد كفينا أمره، وإن سلم من ذلك فيجب علينا متابعته. فرضي زرادشت بذلك، واختار الملك هذا الرأي، فعروه وشدوا وثاقه، وصبوا عليه قطراً فصار القطر كرات وتشبثت بكل شعرة كرة، وما ضربه شيء، ومع المجوس من تلك الكرات يتبركون بها. فعند ذلك قالوا: لم يبق إلا إجابة دعوته! فأمر في جميع مملكة كشتاسف ببناء بيوت النار، وجعل النار قبلةً لا إلهاً، وبقيت تلك الملة إلى مبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والآن يقولون بأرض سجستان منها بقية. صيمرة كورة بها عدة قرى من أعمال البصرة على فم نهر معقل. أهلها موصوفون بقلة العقل حتى جاءهم رجل يقال له ابن شاس في حدود سنة خمسين وأربعمائة، وادعى أنه إله فعبدوه! ينسب إليها أبو العنبس، وهو محمد بن إسحق، كان شاعراً أديباً ظريفاً ذا تصانيف في الهزل والنزهات، وقد حظي بذلك عند المتوكل. حكي أنه مات له حمار فحزن عليه ورثاه بمرثية وقال: رأيته في النوم، قلت: يا حماري! أما أحسنت علفك وماءك؟ فقال: ما مت إلا في عشق أتان رأيتها في الموضع الفلاني ومنعتني عنها! وحكي أن البحتري دخل على المتوكل وأنشد قصيدته في مدحه وقال في مطلعها: عن أيّ ثغرٍ تبتسم ... وبأيّ طرفٍ تحتكم؟

فقال أبو العنبس: عن أيّ سلحٍ تلتقم ... وبأيّ كفٍّ تلتطم فقال: حسنٌ يضنّ بحسنه ... والحسن أشبه بالكرم فقال أبو العنبس: نهمٌ يفوه بهجوه ... والصّفع أليق بالنّهم فقال البحتري: انتقلت إلى مدح الخليفة وتركت النسيب لعله يسكت فقلت: قل للخليفة أيّها ... المتوكّل بن المعتصم فقال أبو العنبس: قل للمماليك الضّخام ... وذي النّشاط من الخدم! قال البحتري: فالتفت يميناً وشمالاً حتى أرى هل ينكر عليه أحد، فما رأيت إلا مبتسماً، فعلمت إن أنشدت زيادة يأتي بزيادة شتم وهتك، فسكت وخرجت، فلما رآه أبو العنبس قال: ولّيت عنّا مدبراً ... فعلمت أنّك منهزم! فضحك الخليفة والحاضرون وأمر لأبي العنبس بألف دينار، فقال الفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين والبحتري أنشد وشوتم وصفع يرجع بخفي حنين؟ فأمر له أيضاً بألف دينار. ومن شعر أبي العنبس: كم مريضٍ قد عاش من بعد موت الطّبيب والعوّاد قد يصاد القطا فينجو سليماً ويحلّ القضاء بالصّيّاد!

طالقان

طالقان كورة ذات قرى بقهستان بين قزوين وجيلان في جبال الديلم. في جبالهم الزيتون والرمان، يجلب إلى قزوين منها الزيتون وحب الرمان الكثير. ينسب إليها أبو الخير أحمد بن إسماعيل الملقب برضى الدين. كان عالماً فاضلاً ورعاً صاحب كرامات. حكي انه كان في بدء أمره يتفقه، فأستاذه يلقنه الدرس ويكرر عليه مراراً حتى يحفظه، فما حفظ حتى ضجر الأستاذ وتركه لبلادته، فانكسر هو من ذلك ونام الأستاذ، فرأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول له: لم آذيت أحمد؟ قال: فانتبهت، وقلت: تعال يا رضى الدين حتى ألقنك! فقال: بشفاعة النبي تلقنني! ففتح الله تعالى عليه باب الذكاء حتى صار أوحد زمانه علماً وورعاً، ودرس بالمدرسة النظامية ببغداد مدة، وأراد الرجوع إلى قزوين فما مكنوه، فاستأذن للحج وعاد إلى قزوين بطريق الشام. وكان له بقزوين قبول ما كان لأحد قبله ولا بعده. يوم وعظه يأتي الناس بالضوء حتى يحصلوا المكان، ويشتري الغني المكان من الفقير الذي جاء قبله، وما سمعوا منه يروونه عنه كما كانت الصحابة تروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحكي أن الشيخ كثيراً ما كان يتعرض للشيعة، وكان على باب داره شجرة عظيمة ملتفة الأغصان، فإذا في بعض الأيام رأوا رجلاً على ذلك الشجر، فإذا هو من محلة الشيعة، قالوا: ان هذا جاء لتعرض الشيخ! فهرب الرجل وقال الشيخ: لست أقيم في قزوين بعد هذا! وخرج من المدينة فخرج بخروجه كل أهل المدينة والملك أيضاً. فقال: لست أعود إلا بشرط أن تأخذ مكواة عليها اسم أبي بكر وعمر، وتكوي بها جباه جمع من أعيان الشيعة الذين أعين عليهم. فقبل منه ذلك وفعل، فكان أولئك يأتون والعمائم إلى أعينهم حتى لا يرى الناس الكي. وحكى الشيخ عز الدين محمد بن عبد الرحمن الوارني، وكان من المشايخ

الطاهرية

الكبار بقزوين، أن الشيخ عقد المجلس يوم الجمعة أول النهار الثاني عشر من المحرم سنة تسعين وخمسمائة وذكر تفسير قوله تعالى: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله؛ وان النبي، صلى الله عليه وسلم، ما عاش بعد ذلك إلا سبعة أيام، وكان ذلك تعريضاً ينعى نفسه، فرجع إلى بيته محموماً وبقي سبعة أيام ورفع نعشه في اليوم الثامن. ولما بلغوا به الوادي قرب تربته أنار الله تعالى، من فضله عليه ورحمته له، آيات بينات وأمارات واضحات أنواراً متلألئة وأضوا متضاعفة وألواناً غريبة في السماء، ولقد عددت النور الساطع والوميض المتلأليء في سبعة مواضع من الهواء. وعند ذلك صار الخلق حيارى مبهوتين، ودمعت العيون ووجلت القلوب، وضجت الأصوات والخلق بين ساجد وممرغ في التراب خده لا يستطيع المتحرك سكوناً ولا الساكن حراكاً، إلى أن وضع في لحده، فعادت السماء إلى حالها وعاد الهواء لهيئته، وما ذلك بعجيب من لطف الله تعالى بأرباب العلوم وأصحاب الديانات، عليه رحمة الله ورضوانه. الطاهرية قرية من قرى بغداد. بها مستنقع يجتمع فيه في كل سنة ماء كثير عند زيادة دجلة، فيظهر فيه السمك المعروف بالبني، فيضمنه السلطان بمال وافر. ولسمكه فضل على سائر السمك لطيب لحمه، وانه غلة من حاصل هذه القرية مع سائر غلاتها، والله الموفق. طبرستان بلاد معروفة، والعجم يقولون مازندران، وهي بين الري وقومس وبحر الخزر. أرضها كثيرة الأشجار والمياه والأنهار إلا أن هواءها وخم جداً. حكي أن بعض الأكاسرة اجتمع في حبسه جناة كثيرون، فقال وزيره: غربهم إلى بعض البلاد ليعمروها، فإن عمروها كان العمران لك، وانتلفوا برئت من دمهم!

واختار أرض طبرستان، وهي يومئذ جبال وأشجار، فأرادوا قطع الأشجار فطلبوا فؤوساً والفأس بالعجمية تبر، فكثرت بها الفؤوس فقالوا: طبرستان، وطبر معرب تبر. وقالوا: كانت أيمانهم مغلولة فكانوا يعملون بشمالهم، فلهذا ترى فيها أكثرهم عسراً. ونفوا الفواجر أيضاً إليها فتزوجوا بهن، فلهذا قلة الغيرة بينهم. وأكثرهم يتعانون تربية دود القز فيرتفع منها الابريسم الكثير ويحمل إلى سائر البلاد. وبها الخشب الخلنج، يتخذ منه الظروف والآلات والأطباق والقصاع ثم يحمل إلى الري، وصناع بلد الري يجعلونه في الخرط مرة أخرى حتى يبقى لطيفاً ويزوقونه، ومن الري يحمل إلى سائر البلاد، ومن هذا الخشب تتخذ النشاشيب الجيدة. وبها المآزر والمناديل الرفيعة الطبرية تحمل منها إلى سائر البلاد، وكذلك الثياب الابريسمية والأكسية والصوف. وبها شجر إذا ألقيت شيئاً من خشبها في الماء يموت ما فيه من السمك وتطفو. وبها جبل طارق؛ قال أبو الريحان الخوارزمي: بطبرستان جبل فيه مغارة فيها دكة تعرف بدكان سليمان بن داود، عليه السلام، إذا لطخت بشيء من الأقذار انفتحت السماء ومطرت حتى تزيل الأقذار منها؛ هذا في الآثار الباقية من تصانيف أبي الريحان الخوارزمي. وقال صاحب تحفة الغرائب: بها حشيش يسمى جوز ماثل من قطعه ضاحكاً وأكله غلب عليه الضحك، ومن قطعه باكياً وأكله في تلك الحالة يغلب عليه البكاء، ومن قطعه راقصاً وأكله كذلك على كل حال قطعه وأكله تغلب عليه تلك الحالة. حكى أبو الريحان الخوارزمي أن أهل طبرستان أجدبوا في أيام الحسن ابن زيد العلوي، فخرجوا للاستسقاء فما فرغوا من دعائهم حتى وقع الحريق في أطراف البلد، وبيوتهم من الخشب اليابس، فقال أبو عمر في ذلك: خرجوا يسألون صوب غمامٍ ... فأجيبوا بصيّبٍ من حريق! جاءهم ضدّ ما تمنّوه إذ ... جاءت قلوبٌ محشوّةٌ بالفسوق!

وحكى الشيخ الصالح محمد الهمداني قال: رأيت بطبرستان أمراً عجيباً من الأمور، وهو: شاهدت بطبرستان دودة إذا وطئها من كان حامل ماء صار الماء مراً، وأعجب من هذا انه لو كان خلف الواطيء حمال الماء صار كل المياه مراً، ولو كانوا مائة، فترى نساءهم يحملن الماء من النهر في الجرار وقدامهن واحدة معها مكنسة تكنس الطريق، والنساء الحاملات للماء يمشين على خط واحد كالإبل المقطرة. وحكى علي بن رزين الطبري، وكان حكيماً فاضلاً، قال: عندنا طائر يسمونه ككو، وهو على حجم الفاختة وذنبه ذنب الببغاء، يظهر أيام الربيع، فإذا ظهر نبعه صنف من العصافير موشاة الريش يخدمه طول نهاره، يأتي له بالغداء فيزقه، فإذا كان آخر النهار وثب على ذلك العصفور وأكله، وإذا أصبح صاح فجاء آخر فإذا أمسى أكله، فلا يزال كذلك مدة أيام الربيع، فإذا زال الربيع فقد ذلك النوع واتباعه إلى الربيع القابل. وينسب إليها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ الطبري والمصنفات الكثيرة، وكان كثيراً ما ينشد: أاقتبس الضّياء من الضّراب ... وألتمس الشّراب من الشراب؟ أريد من الزّمان النّذل بذلاً ... وأرياً من جنى سلعٍ وصاب! أأرجو أن ألاقي لاشتياقي ... خيار النّاس في زمن الكلاب؟ وينسب إليها أبو الحسن المعروف بالكيا الهراسي. كان عالماً فاضلاً تالي أبي حامد الغزالي، إلا أن الغزالي أثقب منه ذهناً وأسرع بياناً وأصوب خاطراً. كان مدرساً بالمدرسة النظامية ببغداد، دخل ديوان الخليفة والقاضي أبو الحسن اللمغاني كان حاضراً ما قام له، فشكا إلى الخليفة الناصر لدين الله، فقال الخليفة: إذا دخل القاضي أنت أيضاً لا تقم له! ففعل ذلك ونظم هذين البيتين:

طبس

حجابٌ وحجّابٌ وفرط حماقةٍ ... ومدّ يدٍ نحو العلى بالتّكلّف فلو كان هذا من وراء تكلّفٍ ... لهان ولكن من وراء التّخلّف فشكا القاضي إلى الخليفة، فأمر الكيا أن يمشي إليه ويعتذر، فقال الكيا: والله لأمشين على وجه يود لو كنت لم أمش! فلما وصل إلى باب دار القاضي أخبر القاضي بأن الكيا جاء إليه، فقام واستقبله وواجهه بالكلية. قال الكيا: حفظ الله الخليفة فإنه تارة يشرفنا وتارة يشرف بنا! فانكسر ابن اللمغاني انكساراً شديداً. فلما مات الكيا وقف ابن اللمغاني عند دفنه وقال: فما تغني النّوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس! ومن عجائب ما حكي أن بعض السلاطين غضب على صاحب طبرستان، فبذل الطبري جهده في إزالة ذلك، فما أمكنه. فبعث السلطان إليه جيشاً كثيفاً، فعلم الطبري أن الجيش لا ينزلون إلا بغيضة معينة تحت جبل، فأمر بقطع أشجار تلك الغيضة وتركها كما كانت قائمة، وستر موضع القطع بالتراب. فلما وصل الجيش ونزلوا بها كمن الطبري هو وأصحابه خلف ذلك الجبل، وشد الجيش دوابهم في أشجار تلك الغيضة وكانت كلها مقطوعة، فخرج عليهم الطبري بأصحابه وصاح بهم، فنفرت الدواب وتساقطت الأشجار لأن الدواب جرتها فولى الجند هاربين فزعين لا يلوي أحد إلى أحد، وتبعهم الطبري بالقتل والأسر، فنجا أقلهم وتلف أكثرهم. فلما رجعوا إلى السلطان سألهم عن شأنهم فقالوا: نزلنا بالموضع الفلاني، أتانا في جنح الليل جند من الشياطين تضربنا بالأشجار الطويلة! فلم يجسر أحد من المتقومين بعد ذلك على المشي إلى طبرستان! طبس مدينة بين أصفهان ونيسابور مشهورة. ينسب إليها فخر الأئمة أبو الفضل محمد بن أحمد الطبسي، صاحب كتاب الشامل في تسخير الجن. وهو كتاب

كبير يذكر فيه كيفية تسخير الجن، ولكل واحد من رؤسائهم طريق من الطرق يذكر في ذلك الكتاب، وحاصله أنه يذكر عزائم وشرائطها ويقول: من أتى بها على هذا الوجه سلط الله تعالى عليهم ناراً تحرقهم، ولا يندفع عنهم إلا بالإجابة. وذكروا أن الجن كانوا مسرين لفخر الأئمة، وكان هو معاصراً للإمام الغزالي، قال له: أريد أن تعرض الجن علي! فأجابه إلى ذلك؛ قال الغزالي: رأيتهم مثل الظل على الحائط. فقلت له: إني أريد أن أحادثهم وأسمع كلامهم. فقال: أنت لا تقدر ترى منهم أكثر من ذلك. وينسب إليها شمس الطبسي الشاعر. كان شاباً حسن الصورة حلو الكلام جيد الشعر، من تلامذة الشيخ رضى الدين النيسابوري، وكان معاصر الخاقاني فرأى شعر الخاقاني وسلك ذلك المسلك، إلا أن شعر الشمس كان ألطف وأعذب فقال له رضى الدين: داوم على هذا الفن فإنه يجيء منك وترى منه الخير. وله أشعار في غاية الحسن وأسلوب هو منفرد به. وكان قاضي مدينة بخارى صدر الشريعة شاعراً مفلقاً عديم النظير، نظم قصيدة حسنة قافيتها ضيقة بالعجمية وهذا مطلعها: بر خير كه شمعست وشرابست ومن تو ... اواز خروسان سحر خاست زهر سو بر خير كه برخاست بياله بيكي باي ... بنشين كه نشستست صراحي بد وزانو بر خير اران بيس كه معشوقه شب را ... باروز بكيرند وببرند دو كيسو واين قصيده در بخارى مشهور كست همه معترف شدند بخوى آن شمس طبس مثل اين قصيده بكفت وهذا مطلعها: ازروى تو جون كرد صبا طره بيكسو ... فرياد براورد شب غاليه كيسو از زلف سياه تو مكر شد كرهي باز ... كر مشك براورد صبا تعبيه هر سو اخر دل رنجور مرا جند براري ... زنجير كشان تا بسرطاق دوابرو

طرابلس

كفتى كه بزركار تو روزي سره كردد ... ارىهمه اوميد من ابنست ولي كو فلما عرف صدر الشريعة بهذه القصيدة نادى: من قائلها؟ وما كان يقدر أن يقول شيئاً لأنها كانت في مدح وزير بخارى. وسمعت انه كان شاباً مثل القمر. مات فجأة وديوانه صغير لأنه ما وجد العمر. طرابلس مدينة على شاطيء بحر الروم، عامرة كثيرة الخيرات والثمرات، لها سور منحوت من الصخر، وبساتين جليلة ورباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون. بها مسجد الشعاب، وهو مسجد مشهور مقصود، يأتيه الناس لبركته واحترامه. وبها بئر الكنود، وهي بئر زعموا أن من شرب من مائها يتحمق، فإذا أتى رجل من أهل طرابلس بما يلام عليه يقولون له: لا نعيبك، فإنك شربت من بئر الكنود! طرق مدينة بقرب أصفهان. لأهلها يد باسطة في الآلات المستظرفة من العاج والآبنوس، يحمل منها إلى سائر البلاد كل آلة ظريفة يعجز عن مثلها صناع غيرها من البلاد. ينسب إليها تاج الطرقي. كان أديباً شاعراً ظريفاً. له حكايات عجيبة وأشعار فصيحة مثل شعر عرب العرباء، وقد عرض على الخليفة الناصر لدين الله هذان البيتان من كلامه: إذا ما رآني العاذلون وغرّدت ... حمائم دوحٍ أيقظتها النّسائم يقولون: مجنونٌ جفته سلاسلٌ ... وممسوس حيٍّ فارقته التّمائم

طرزك

فتعجب من ذلك وقال: ما ظننت أن أحداً من العجم يوصل كلامه إلى هذا الحد! فبعث إليه خلعة سوداء فوصل إليه خلعة الخليفة بغتةً فجأة، فلبسها وعمل قصيدة طويلة في مدح الخليفة، وبعثها إلى بغداد، مطلعها: ترتاح أندية النّدى والباس ... في مدح مولانا أبي العبّاس وحكي انه سافر إلى همذان، وكان ابن قاضي قزوين ورئيسها بهمذان، فسمع أن تاجاً الطرقي وصل، فأحب أن يراه لأنه كان مشهوراً بالفضل، فقيل انه ذهب إلى دار الكتب، فمشى إليه فوجده يطالع كتاباً، فسلم عليه فقال: عليك السلام! وما تحرك له ولا نظر إليه. وإنه كان رجلاً ذا هيئة وجثة وغلمان ومماليك، واشتغل بمطالعة الكتاب، فتأذى الرجل من ذلك وقال من أذيته: تاج الدين ما تعرفني؟ قال: لا! قال: أنا رجل من أعيان قزوين ذو أمر ونهي وقطع ووصل، فقال: مدينتكم لا يكون لها شحنة؟ قال: نعم. قال: فلم لا يصلبنك؟ فقام الرجل وقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! وحكي انه كان في دار وحده، فقام في جنح الليل ينادي: اللص! اللص! فاجتمع الجيران، فإذا الأبواب والاغلاق بحالها والدار فقالوا له: أين اللص؟ فقال: إني سمعت أن اللصوص إذا دخلوا بيوت الناس شدوا قطاع اللباد على أقدامهم لئلا يسمع دبيبهم، وإني لما انتبهت ما سمعت شيئاً من الدبيب، قلت: لعل اللص دخل، وشد على رجله اللباد! وله حكايات مثل هذه، رحمه الله. طرزك قرية من قرى قزوين مشهورة. حكي أن بعض الصلحاء رأى في نومه أو في واقعة أن هناك صحابياً، وما كان بها قبر ولا عرف أحد ذلك، فلما كشفوا إذا رجل طويل القامة عليه درع والدم ينزف من جراحته، فبنوا عليه مشهداً واشتهر بين الناس أن الدعاء فيه مستجاب، فصار مقصوداً يقصده الناس من

طروز

الأطراف كلها. وحدثني أبي، رحمة الله عليه، انه ذهب إليه زائراً، وقدام المشهد مسجد، قال: فتركت الدابة مع الغلام ودخلت المسجد أصلي، وفرشت مصلاي في المحراب، قال: فرفعت رأسي من السجود فرأيت على مصلاي رمانة كبيرة طرية كأنها قطعت من شجرها في الحال، وشجرها لا ينبت بأرض قوين ونواحيها، وإنما يجلب إليها من الري، وكان الوقت صيفاً لا يوجد الرمان في شيء من البلاد أصلاً، قال: فلما فرغت من الزيارة خرجت وقلت للغلام: هل دخل المسجد أحد؟ قال: لا. قلت: هل خرج منه أحد؟ قال: لا. فتعجبت والرمانة معي حتى وصلت إلى ضيعتنا، وطروز كان على طريقي والرمانة بعد معي، فعرضتها على أخي وجمع كانوا هناك، فتعجبوا منه فتركتها مع رحلي ومضيت لحاجة وعدت فما رأيتها، فسألت غلامي عنها فقال: لا علم لي بها! ومر على ذلك مدة حتى كنت في بعض أسفاري وحدي، فإذا أنا برجل شيخ طويل القامة كث اللحية يناديني: يا محمد! ما صنعت بتلك الرمانة؟ فقصدت نحوه لأتبرك به، فغاب عن عيني ولم أدر أين ذهب، عليه رحمة الله. طروز قرية كبيرة من قرى قزوين، غناء كثيرة المياه والأشجار والبساتين والثمار. ولطيبها ونزاهتها اتخذها أتراك العجم مماليك السلاطين مسكناً، وبنوا بها قصوراً وتوالدوا وتناسلوا هناك، فمن دخلها تحير فيها من كثرة خيراتها وفواكهها وثمارها وحسن عمارتها وطيب هوائها وحسن صور أهلها فكأن فيها من أولاد الأتراك صوراً مليحة ووجوهاً صبيحة، فمن دخلها ما أراد الخروج عنها، وكان الأمر على ذلك إلى ورود التتر.

طمغاج

طمغاج مدينة مشهورة كبيرة من بلاد الترك، ذات قرى كثيرة، وقراها بين جبلين في مضيق لا سبيل إليها إلا من ذلك المضيق، ولا يمكن دخولها لو منع مانع فلا يتعرض لها أحد من ملوك الترك، لعلمهم بأن قصدها غير مفيد، وسلطانها ذو قدر ومكانة عند ملوك الترك. بها معادن الذهب فلذلك كثر الذهب عندهم حتى اتخذوا منه الظروف والأواني. وأهلها زعر لا شعر على جسدهم ورجالهم ونساؤهم على السواء في ذلك. وفي نسائها خاصية عجيبة، وهي أنهن يوجدن كل مرة عند غشيانهن أبكاراً. وحكى بعض التجار أنه اشترى جارية تركية وجدها كذلك. وحكى الأمير أبو المؤيد بن النعمان أنه بها عينان: إحداهما عذب والأخرى ملح، وهما تنصبان إلى حوض وتمتزجان فيه، ويمتد من الحوض ساقيتان: إحداهما عذب ولا ملوحة فيه، والأخرى ملح. وذكر انه من كرامات رجل صالح اسمه مليح الملاح، وصل إلى تلك الديار ودعا أهلها إلى الإسلام، وظهر من كراماته أمر هذا الحوض والسواقي، فأسلم بعض أهلها وهم على الإسلام إلى الآن. طوس مدينة بخراسان بقرب نيسابور مشهورة، ذات قرى ومياه وأشجار، والمدينة تشتمل على محلتين، يقال لإحداهما طابران، والأخرى نوقان. وفي جبالها معادن الفيروزج، وينحت منها القدور البرام وغيرها من الآلات والظروف حتى قال بعضهم: قد ألان الله لأهل طوس الحجر كما ألان لداود، عليه السلام، الحديد. منها جمع عقم الزمان بمثلهم ممن ينسب إليها الوزير نظام الملك الحسن

ابن علي بن إسحق، لم ير وزير أرفع منه قدراً ولا أكثر منه خيراً ولا أثقب منه رأياً. وكان مؤيداً من عند الله. حكي أن قيصر الروم جاء لقتال السلطان الب أرسلان فقال السلطان لنظام الملك: ماذا ترى؟ يقولون عسكره أكثر من عسكرنا! فقال نظام الملك: ليس النصر من الكثرة إنما النصر من عند الله، نحن نتوكل على الله ونلتقيه يوم الجمعة وقت تقول الخطباء على المنابر: اللهم انصر جيوش المسلمين! ففعلوا ذلك فنصرهم الله. وحكي أن السلطان الب أرسلان دخل مدينة نيسابور، فاجتاز على باب مسجد فرأى جمعاً من الفقهاء على باب ذلك المسجد في ثياب رثة، لا خدموا للسلطان ولا دعوا له، فسأل السلطان نظام الملك عنهم فقال: هؤلاء طلبة العلم وهم أشرف الناس نفساً، لا حظ لهم من الدنيا، ويشهد زيهم على فقرهم. فأحس بأن قلب السلطان لان لهم، فعند ذلك قال: لو أذن السلطان بنيت لهم موضعاً وأجريت لهم رزقاً ليشتغلوا بطلب العلم ودعاء دولة السلطان! فأذن له، فأمر نظام الملك ببناء المدارس في جميع مملكة السلطان، وأن يصرف عشر مال السلطان الذي هو مختص بالوزير في بناء المدارس، وهو أول من سن هذه السنة الحسنة. وحكى نظام الملك في كتابه سير الملوك أن بعض المفسدين قال للسلطان ملكشاه: ان في معيشك أربعمائة ألف فارس، وأمر المملكة يتمشى بسبعين ألفاً، فإن سبعين ألفاً لم يغلبوا من القلة، فلو أسقطتهم امتلأت الخزانة من المال! ومال السلطان إلى قوله، فلما عرفت ذلك قلت للسلطان: هذا قول من أراد اثارة الفتنة وفساد المملكة! إن ملكك خراسان وما وراء النهر إلى كاشغر من غور وخوارزم واللان واران وآذربيجان، والجبال والعراق وفارس وكرمان والشام وارمن وأنطاكية، وانها إنما تبقى محفوظة بهذه العساكر، ولم يذكر أن دولة الخلفاء العظام والملوك الكبار قد خلت من خروج خارجي وظهور مخالف، وهذه الدولة المباركة بسعادة السلطان سلمت عن الكدورات،

فلو كانت العساكر ثمانمائة ألف لكانت السند والهند والصين ومصر والبربر والحبشة والروم أيضاً في طاعتنا. ثم ان السلطان ان أثبت سبعين ألفاً وأسقط ثلاثمائة وثلاثين ألفاً، فالساقطون ليسوا أصحاب حرف يشتغلون بصنعتهم، يجتمعون على يد واحد، ويدخلون تحت طاعته، فنشأ من ذلك فساد عظيم ويكون الخصم في ثلاثمائة وثلاثين ألفاً ونحن في سبعين ألفاً، فتمشي الأموال وتهلك، ويكون ذلك نتيجة نصيحة هذا الناصح الذي ينصح بجمع الأموال وتفريق الرجال. وحكي انه كان شديد التعصب على الباطنية، وقد خرج من أصفهان وبه عقابيل المرض في العمارية. فلما وصل إلى قرية من قرى نهاوند يقال لها قيدسجان، تعرض له رجل ونادى: مظلوم! مظلوم! فقال الوزير: ابصروا ما ظلامته. فقال: معي رقعة أريد أسلمها إلى الوزير! فلما دنا منه وثب عليه وضربه بالسكين، وكانت ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فحمل إلى أصفهان ودفن في مدرسته. وينسب إليها الإمام حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي. لم تر العيون مثله لساناً وبياناً وخاطراً وذكاء وعلماً وعملاً. فاق أقرانه من تلامذة إمام الحرمين، وصار في أيام إمام الحرمين مفيداً مصنفاً، وإمام الحرمين يظهر التبجح به. وكان مجلس نظام الملك مجمع الفضلاء، فوقع لأبي حامد في مجلسه ملاقاة الفحول ومناظرة الخصوم في فنون العلوم، فأقبل نظام الملك عليه وانتشر ذكره في الآفاق، فرسم له تدريس المدرسة النظامية ببغداد، وصنف كتباً لم يصنف مثلها، ثم حج وترك الدنيا واختار الزهد والعبادة، وبالغ في تهذيب الأخلاق ودخل بلاد الشام، وصنف كتباً لم يسبق إلى مثلها كإحياء علوم الدين، ثم عاد إلى خراسان مواظباً على العبادات إلى أن انتقل إلى جوار الحق بطوس سنة خمس وخمسمائة عن أربع وخمسين سنة. قيل: ان تصانيفه وزعت على أيام عمره فأصاب كل يوم كراس.

حكى الشيخ أبو الفتح عامر الساوي قال: كنت بمكة سنة خمس وأربعين وخمسمائة، فبينا أنا بين النوم واليقظة إذ رأيت عرضة عريضة فيها ناس كثيرون، وفي يد كل واحد مجلد يحلقون على شخص فقالوا: هذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم! وهؤلاء أصحاب المذاهب يعرضون مذاهبهم عليه. فبينا أنا كذلك إذ جاء واحد بيده كتاب قيل إنه هو الشافعي، فدخل وسط الحلقة وسلم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرد الجواب عليه وهو، عليه السلام، في ثياب بيض، على زي أهل التصوف، فقعد الشافعي بين يديه وقرأ من كتاب مذهبه واعتقاده عليه، ثم جاء بعده رجل آخر قالوا انه أبو حنيفة، وبيده كتاب، فسلم وقعد بجنب الشافعي وقرأ مذهبه واعتقاده، ثم يأتي صاحب كل مذهب حتى لم يبق إلا القليل، وكل يقرأ ويقعد بجنب الآخر. ثم جاء واحد من الروافض وبيده كراريس غير مجلدة، فيها مذهبهم واعتقادهم، وهم أن يدخل الحلقة، فخرج واحد ممن كان عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذ الكراريس ورماها خارج الحلقة وطرده وأهانه. فلما رأيت أن القوم قد فرغوا قلت: يا رسول الله، هذا لاكتاب معتقدي ومعتقد أهل السنة، لو أذنت لي قرأت عليك. فقال: صلى الله عليه وسلم: أي شيء ذلك؟ قلت: قواعد العقائد للغزالي. فأذن لي بالقراءة، فقعدت وابتدأت: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المبديء المعيد، الفعال لما يريد، ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، الهادي صفوة العبيد إلى النهج الرشيد، والملك الشديد، المنعم عليهم بعد شهادة التوحيد، بحراسة عقائدهم من ظلمات التشكيك والترديد، إلى أن وصلت إلى قوله: وانه تعالى بعث الأمي القرشي محمداً، صلى الله عليه وسلم، إلى العرب والعجم كافة من الجن والانس، فرأيت البشاشة في وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالتفت إلي وقال: أين الغزالي؟ كأنه كان واقفاً في الحلقة! فقال: ها أنا ذا يا رسول الله! فقدم وسلم على رسول الله، عليه السلام، فرد عليه الجواب وناوله يده المباركة. فصار الغزالي يقبل

يده المباركة ويضع خديه عليها تبركاً بها، فما رأيت رسول الله، عليه السلام، أكثر استبشاراً بقراءة أحد مثل استبشاره بقراءتي، فسأل الله تعالى أن يميتنا على عقيدة أهل الحق، وأن يحشرنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الأبيوردي: بكى على حجّة الإسلام حين ثوى ... من كلّ حيٍّ عظيم القدر أشرفه مضى وأعظم مفقودٍ فجعت به ... من لا نظير له في النّاس يخلفه وينسب إليها ملك الابدال أحمد بن محمد بن محمد الغزالي. كان صاحب كرامات ظاهرة. كان أخوه حجة الإسلام يقول: ما حصل لنا بطريق الاشتغال ما حصل لأحمد بطريق الرياضة. حكي أن الشيخ محمداً كان يصلي والشيخ أحمد حاضر، فلما فرغ من صلاته قال له: أيها الأخ قم أعد صلاتك، لأنك كنت في الصلاة تحاسب حساب البقال! وحكي أن السلطان ملكشاه كان مريداً للشيخ أحمد، فذهب ابنه سنجر إلى زيارة الشيخ، وكان حسن الصورة جداً، فالشيخ قبله في خده، فكره الحاضرون ذلك وذكروه للسلطان فقال السلطان لابنه سنجر: الشيخ قبل خدك؟ قال: نعم. قال: ملكت نصف الأرض، ولو قبل الجانب الآخر ملكت كلها! وكان الأمر كذلك. وحكي أن رجلاً أراد أن يأخذ امرأة خاطئة ليلة بأجرة معلومة، فالشيخ زاد في أجرتها وأخذها إلى بيته وأقعدها في زاوية من البيت، واشتغل هو بالصلاة إلى الصباح. فلما كان النهار وقد أعطاها أجرتها قال لها: قومي واذهبي إلى حيث شئت! وغرضه دفع الزنا عنهما، رحمة الله عليه ورضوانه. وينسب إليها الحكيم الفردوسي. كان من دهاقين طوس له ملك في ضيعة يظلمه عامل الضيعة، فذهب إلى باب السلطان محمود بن سبكتكين لدفع ظلم العامل، وكان يطلب وسيلة. قيل له: الشعراء مقربون الآن لأن السلطان يريد

أن يجعلوا له تاريخ ملوك العجم منظوماً، وأقربهم إلى السلطان العنصري، فطلبه الفردوسي فوجده في بستان ومعه الفرخي والعسجدي، فذهب إليهم وسلم وجلس عندهم فقالوا: نحن شعراء لا نجالس إلا من كان مثلنا! فقال: أنا أيضاً شاعر! فقالوا: أجز معنا هذا البيت: قال العنصري: جون روي تو خورشيذ نباشذ روشن قال الفرخي: مانند رخت كل نبود در كلشن قال العسجدي: مر كانت همي كذر كند بر جوشن قال الفردوسي: مانند سنان كيو در جنك بشن فقالوا: ما أدراك بحال كيو وجنك بشن؟ قال: أنا عارف بوقائع ملوك العجم. فاستحسنوا ما أتى به الفردوسي، وذكروه عند السلطان، فأعطى السلطان لكل شاعر جزاء وأعطى للفردوسي أيضاً جزاء. فرأوا شعر الفردوسي خيراً من شعرهم، وكان شعر كل واحد لا يشابه شعر الآخر، لأن شأنها كان فصيحاً وشأنها كان ركيكاً، فقال: إني أتولى نظم الكتاب كله ولا حاجة إلى غيري! فنظم الكتاب من أول زمان كيومرث، وهو أول ملك ملك إلى زمان يزدجرد بن شهريار، آخر ملوك العجم، في سبعين ألف بيت مشتملاً على الحكم والمواعظ والزواجر والترغيب والترهيب، بعبارة فصيحة، وحمل الكتاب إلى السلطان فأعجبه وأمر له بحمل فيل ذهباً. فقال الوزير: جائزة شاعر حمل فيه ذهباً كثير، ألا حمل فيل فضة؟ وكان الفردوسي يطمع بمنصب رفيع

طيب

من المناصب مثل الوزارة، فلما رأى حمل فيه فضة اشترى به فقاعاً وشربه، وألحق بالكتاب هذه الأبيات الثلاثة: برين سال بكذشت از سي وبنج ... بدرويشي وناتواني ورنج بذان تا بيري مرا بر دهذ ... مرا شاه مر تخت واسفر دهذ جو اندر نهاذش بزركي نبوذ ... نيارست نام بزركان شنوذ وحكي أن الشيخ قطب الدين أستاذ الغزالي اجتاز على قبر الفردوسي مع أصحابه، فقال بعضهم: نزور الفردوسي! فقال الشيخ: دعه فإنه صرف عمره في مدح المجوس! فرأى ذلك القائل الفردوسي في نومه يقول له: قل للشيخ لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق، وكان الانسان قتوراً. طيب بليدة بين واسط وخوزستان، قال داود بن أحمد الطيبي: مدينة طيب من عمارة شيث بن آدم، عليه السلام، وما زال أهلها على ملة شيث إلى أن جاء الإسلام. والمدينة قديمة، أحدث القدماء بها أشياء وطلسمات، منها ما زال ومنها ما بقي. ومما زال قالوا: كان بها طلسم لدفع العقارب والحيات، وكان باقياً إلى قريب من زماننا. ومن عجائبها الباقية أن لا يدخلها زنبور البتة، فإن دخلها مات، ولا يدخلها غراب أبقع ولا عقعق. طيزناباد معناه عمارة الضراط. قرية بين الكوفة والقادسية على جادة الحاج من أنزه المواضع. وهي محفوفة بالكروم والأشجار والخانات والمعاصر، كانت أحد

عانة

المواضع المقصودة بالبطالة والآن خراب، لم يبق بها إلا قباب يسمونها قباب أبي نواس؛ قال أبو نواس: قالوا: تنسّك بعد الحجّ؟ قلت لهم: ... أرجو الإله وأخشى طيزنابادا أخشى قضيّب كرمٍ أن ينازعني ... رأس الحطام إذا أسرعت إعدادا فإن سلمت، وما نفسي على ثقةٍ ... من السّلامة، لم أسلم ببغدادا! وقال محمد بن عبد الله: قدمت من مكة فلما صرت إلى طيزناباد ذكرت قول أبي نواس: بطيزناباد كرمٌ ما مررت به ... إلاّ تعجبّت ممّن يشرب الماء فهتف هاتف أسمع صوته ولا أراه: وفي الجحيم حميمٌ ما تجرعه ... خلقٌ فأبقى له في البطن أمعاء! عانة بليدة بين هيت والرقة، يطوف بها خليج من الفرات. وهي كثيرة الأشجار والثمار والكروم، ولها قلعة حصينة، ولكثرة كرومها تنسب العرب إليها الخمر. وأهل بغداد إذا شاهدوا ظلماً قالوا: الخليفة إذاً في عانة! لأن البساسيري استولى على بغداد وحمل القائم بأمر الله إلى عانة، وخطب باسم خلفاء مصر سنة، فجاء السلطان طغرلبك السلجوقي في سنة أربعين وأربعمائة وحارب البساسيري وقتله، وجاء بالخليفة من عانة ورده إلى مقره ومشى قدام مهده راجلاً حتى خاطبه الخليفة بنفسه وقال: اركب يا ركن الدين! وهو أول سلاطين السلجوقية وأرفعهم قدراً، وهو الذي انتزع الملك من سلاطين بني سبكتكين.

عبادان

عبادان جزيرة تحت البصرة قرب البحر الملح، فإن دجلة إذا قاربت البحر تفرقت فرقتين عند قرية تسمى المحرزي: فرقة تذهب إلى ناحية البحرين وهي اليمنى، واليسرى تذهب إلى عبادان وسيراف والحنابة، وعبادان في هذه الجزيرة وهي مثلثة الشكل، وإنما قالوا: ليس وراء عبادان قرية لأن وراءها بحراً. ومن عجائبها أن لا زرع بها ولا ضرع، وأهلها متوكلون على الله يأتيهم الرزق من أطراف الأرض. وفيها مشاهد ورباطات وقوم مقيمون للعبادة منقطعون عن أمور الدنيا، وأكثر موادهم من النذور. عبد الله اباذ قرية بين قزوين وهمذان. بها حمة عجيبة ليس في شيء من البلاد مثلها، وذلك ان الماء يفور منها فوراناً شديداً قدر قامة وأكثر، وإذا تركت البيضة على عمود الماء النابع تبقى عليها وتسلقها حرارة الماء. ويجتمع هذا الماء في حوض يأتيه أصحاب العاهات ويستحمون به، ينفعهم نفعاً عظيماً بيناً. العراق ناحية مشهورة، وهي من الموصل إلى عبادان طولاً، ومن القادسية إلى حلوان عرضاً. أرضها أعدل أرض الله هواء وأصحها تربة وأعذبها ماء. وهي كواسطة القلادة من الاقليم، وأهلها أصحاب الأبدان الصحيحة والأعضاء السليمة، والعقول الوافرة والآراء الراجحة وأرباب البراعة في كل صناعة. والغالب عليهم الغدر لكثرة الأشرار ومكر الليل والنهار. أقام بها عبد الله بن المبارك سبعة عشر يوماً تصدق بسبعة عشر درهماً كفارة لذلك. وأهلها مخصوصون ببغض الغرباء خصوصاً العجم.

ويقال لأهل العراق نبط؛ قالوا: نبط كان اسم رجل شرير كثرت جناياته في زمن سليمان بن داود، عليه السلام، فأمر بحبسه، فاستغاث منه أهل الحبس إلى سليمان من كثرة سعايته ونميمته، والقائه الشر بين أهل الحبس، فأمر سليمان، عليه السلام، بتقييده وحمله إلى حبس الشياطين، فاستغاث الشياطين وقالوا: يا نبي الله لا تجمع بين الحبس ومقاساة نبط! فرأى سليمان أن يأمره بشغل حتى يقل شره. وكان في الحبس امرأة مومسة، قيل لنبط: نريد منك أن تغسل هذا الصوف الأسود وتبيضه بالغسل، وأن تروح هذه المرأة حتى يلتحم فرجها بالترويح، فأمر بذلك ووكل به، ففعل ذلك مدة طويلة حتى ضجر، ثم أراد أن يجرب هل التحمت أم لا، فباشرها، فحملت منه وأتت بولد وصار له نسل بأرض العراق، فلهذا ترى السعاية والنميمة والفجور في النبط كثيراً لأنها شيمة أبيهم نبط! وحكي أن عبد الله بن المبارك قيل له: كيف رأيت أهل العراق؟ قال: ما رأيت بها إلا شرطياً غضبان! بها نهر دجلة، مخرجه من جبل بقرب آمد عند حصن يعرف بحصن ذي القرنين، وهي هناك ساقية كلما امتد ينضم إليها مياه جبال ديار بكر، ثم يمتد إلى ميافارقين وإلى حصن كيفا، ثم إلى جزيرة ابن عمر ويحيط بها ثم إلى الموصل ثم إلى تكريت، وقبل ذلك ينصب إليه الزابان ويعظم بهما، ثم إلى بغداد ثم إلى واسط ثم البصرة ثم إلى عبادان وينصب إلى البحر. وماء دجلة من أعذب المياه وأخفها وأكثرها نفعاً لأن مجراه من مخرجه إلى مصبه في العمارات، وفي آخر الصيف يستعملونه كله بواسط والبصرة. وروي عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى دانيال، عليه السلام، أن فجر لعبادي نهرين، واجعل مصبهما البحر، فقد أمرت الأرض أن تطيعك. فأخذ خشبة يجرها في الأرض والماء يتبعه، فكلما مر بأرض يتيم أو أرملة أو شيخ ناشده الله فيحيد عنها، فعواقيل دجلة والفرات من ذلك.

وبها نهر الفرات. مخرج الفرات من أرمينية ثم من قاليقلا، ويدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم، ويخرج إلى ملطية ثم إلى سميساط ثم إلى قلعة نجم ثم إلى الرقة ثم إلى عانة ثم إلى هيت، فيصير أنهاراً تسقي زروع السواد وما فضل منها انصب في دجلة، بعضه فوق واسط وبعضه بين واسط والبصرة، فيصير الفرات ودجلة نهراً عظيماً يصب في بحر فارس. وروي أن أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان وجيحان. وروي عن علي، رضي الله عنه، انه قال: يا أهل الكوفة، إن نهركم هذا يصب إليه ميزابان من الجنة. وروي عن جعفر بن محمد الصادق انه شرب من الفرات فحمد الله وقال ما أعظم بركته! لو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا على حافتيه القباب! ولولا ما يدخله من خطائين ما اغتمس فيه ذو عاهة إلا برأ. وحكى السدي أن الفرات مد في زمن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، فألقى رمانة في غاية العظم فأخذت فكان فيها كر حب قسمها بين المسلمين، فكانوا يرون أنها من الجنة. وهذا حديث مشهور في عدة كتب للعلماء. ينسب إليها هشام بن الحكم، وكان معتزلياً يرجح علياً، فقال رجل: إني ألزمه أن يقول عند الخليفة إن علياً كان ظالماً! فلما حضر هشام عند الخليفة قال: أبا محمد، أنشدك بالله أما تعلم أن علياً نازع العباس عند أبي بكر؟ قال: نعم. قال: فمن كان الظالم منهما؟ فكره أن يقول العباس خوفاً من الخليفة، وكره أن يقول علي خوفاً من مخالفة اعتقاده، فقال: ما منهما ظالم! فقال الرجل: كيف يتنازعان ولا يكون أحدهما ظالماً؟ فقال: كما اختصم الملكان إلى داود، عليه السلام، وما منهما ظالم، وغرضهما تنبيه داود على الخطيئة؛ هكذا كان العباس وعلي، كان غرضهما تنبيه أبي بكر على خطيئته. وينسب إليها يحيى بن معمر، أحضره الحجاج وقال: أنت الذي تقول الحسين بن علي من ذرية رسول الله؟ قال: نعم. قال: فوالله لتأتين بالمخرج

عما قلت أو لأضربن عنقك! فقال يحيى: إن جئت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم. قال: اقرأ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم إلى قوله ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله وزكريا ويحيى وعيسى فمن يعد عيسى من ذرية إبراهيم لا يعد الحسين من ذرية محمد، عليه السلام؟ فقال الحجاج: والله كأني ما قرأت هذه الآية قط! فولاه قضاء المدينة، وكان قاضيها إلى أن مات. وينسب إليها أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش. قال عيسى بن يونس: ما رأينا في زماننا من الأعمش، فكان الأغنياء والملوك في مجلسه أحقر شيء، وهو محتاج إلى درهم! حكي انه يوم الشك من رمضان يأتيه الناس يستخبرون منه، فضجر من ذلك وترك بين يديه رمانة، كل من دخل عليه قبل أن يستخبر منه أخذ حبةً رماها في فمه، ليعلم أن اليوم ليس يوم صوم. وحكي أن أبا حنيفة ذهب إليه فلما أراد الذهاب قال له: لا يكون ثقلت عليك! فقال: أنت في بيتك ثقيل علي فكيف في بيتي؟ وحكى أبو بكر بن عياش قال: دخلت على الأعمش في مرض موته فقلت: أدعو لك طبيباً؟ فقال: ما أصنع به؟ والله لو كانت نفسي بيدي لطرحتها في الحش! لا تؤذين أحداً واطرحني في لحدي! ولد الأعمش يوم قتل الحسين يوم عاشوراء سنة ستين، وتوفي في سنة ثمان وأربعين ومائة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. وينسب إليها أبو الحسين سمنون بن حمزة صحب السري السقطي. كان من أولياء الله، ذكر انه لما أنشد: وليس لي في سواك حظٌّ ... فكيفما شئت فاختبرني أخذ الأسر من ساعته، وكان يدور على المكاتب للصبيان ويقول: ادعوا لعمكم الكاذب! وحكى أبو أحمد المغازلي أنه كان ببغداد رجل أنفق على الفقراء أربعين

ألف درهم فقال لي سمنون: يا أبا أحمد، أما ترى هذا أنفق أربعين ألف درهم ونحن ما نجد شيئاً؟ فامض بي إلى موضع كذا نصلي بكل درهم أنفقه ركعة! فمضينا وصلينا أربعين ألف ركعة! وينسب إليها إبراهيم الآجري، رحمه الله، قال: أتاني يهودي له علي دين يتقاضاه، وأنا عند الشاخورة أوقدت ناراً تحت الآجر، فقال: يا إبراهيم أرني آية أسلم! قلت: أوتفعل ذلك؟ قال: نعم. فأخذت ثيابه ولففتها في وسط ثيابي ورميتها في الشاخورة، ثم دخلت الشاخورة وأخذت الثياب وخرجت من الباب الآخر، فإذا ثيابه في وسط ثيابي صارت حراقاً وثيابي بحالها. فلما رأى اليهودي ذلك أسلم! وينسب إليها أبو الحسن علي بن الموفق، كان يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم اني أعبدك حباً لجنتك فاحرمنيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حباً مني لك وشوقاً إلى وجهك فاحنيه واصنع ما شئت! وحكي أنه وجد قرطاساً في الطريق، قال: فأخذته ووضعته في كمي وجلست أقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن الموفق تخاف الفقر وأنا ربك؟ وحكي انه قال: تممت ستين حجة فلما فرغت من الطواف قعدت تحت الميزاب، فأنكرت في حالي عند الله تعالى وكثرة ترددي إلى هذا المكان، فغلبتني عيني فإذا قائل يقول: يا علي، هل تدعو إلى بيتك إلا من تحبه؟ فسري عني ما كنت فيه. حكى محمد بن إسحق السراج قال: سمعت علي بن الموفق يقول: حججت نيفاً وخمسين حجة، فنظرت إلى ضجيج أهل الموقف فقلت: اللهم إن كان فيهم واحد لم تقبل حجه فقد وهبت حجتي له! فرجعت إلى المزدلفة وبت فيها، فرأيت في نومي رب العزة تعالى، فقال لي: يا علي بن الموفق أتتسخى علي؟ قد غفرت لأهل الموقف ولأمثالهم وشفعت كل واحد في أهل بيته وذريته

عزان

وعشيرته، وإنا أهل التقوى وأهل المغفرة. توفي علي بن الموفق سنة خمس وستين ومائتين. عزان مدينة كانت على الفرات للزباء بنت مليح بن البراء. قتله جذيمة الأبرش صاحب الحيرة، فلحقت الزباء بالروم وجمعت الرجال وبذلت الأموال، وعادت إلى ملك أبيها وأزالت جذيمة عنها، وبنت على طرف الفرات مدينتين متقابلتين من شرقي الفرات وغربيه، وجعلت بينهما نفقاً تحت الفرات فكانت إذا رهقها الأعداء أوت إليه، وجرت بينها وبين جذيمة مهادنة؛ قال ابن الكلبي: لم يكن في نساء عصرها أجمل منها، وكان اسمها فارغة، وكانت تسحب شعرها وراءها إذا مشت وإذا نشرته جللها، فسميت الزباء. فأراد جذيمة أن يتزوجها ويضم ملكها إلى ملكه، فخطبها فأجابته على شرط أن يصير إليها. وكان لجذيمة وزير اسمه قصير. قال لجذيمة: لا تمش إلى هذه المرأة فإني لست آمنها عليك! فقال: لا يطاع لقصير أمر! فأرسلها مثلاً. فلما دخل عليها أمرت جواريها فأخذن يده. قالت له: أي قتلة تريد أن أقتلك؟ فقال: إن كان لا بد فاقتليني قتلة كريمة! فأطعمته حتى شبع، وسقته حتى ثمل، وفصدت شريانه حتى نزف دمه ومات. فبلغ قصيراً خبره فجدع أنف نفسه وأظهر أنه جدعه عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة، لأنه أشار إليه بتزويج الزباء. فراسل قصير الزباء وأطمعها في ملك جذيمة، فركبت إليه وصار قصير إليها بأمان، وأخبرها بسعة التجارات، فدفعت إليه مالاً فأتاها بربح كثير، ثم زادته في المال فأتاها بربح عظيم، فأنست به وجعلته من بطانتها. وأخبرته: اني حفرت من قصري على الفرات هذا إلى القصر الآخر على الجانب الآخر من الفرات سرباً تحت الماء، وجعلت باب السرب تحت سريري هذا ومخرجه تحت سريري الآخر، فإن راعني أمر خرجت إلى الجانب الآخر. فحفظه قصير ومضى بالمال وحصل ألفي رجل

عقرقوف

في ألفي صندوق على ألف جمل، وعلى الرجال الدروع ومعهم السيوف، وأقبل بهم إلى الزباء. فلما قرب من مدينتها صعدت الزباء سور مدينتها تنظر إلى العير مثقلة فقالت: ما للجمال مشيها وئيدا؟ ... أجندلاً يحملن أم حديدا؟ أم صرفاناً بارداً شديدا؟ ... أم الرّجال جثّماً قعودا؟ فجاء قصير بالعير ودخل المدينة فأناخ الجمال وثار الرجال من الصناديق بالسيوف وضربوا من أدركوه، فلما علمت الزباء قصدت السرب لتدخل فيه، فبادرها عمرو بن عدي، وكان من رجال الصناديق، وقف على باب السرب بالسيف فعلمت انه قاتلها، فمصت سماً تحت خاتمها وقالت: بيدي لا بيد عمرو! فأرسلته مثلاً. ومن الأمثال: لأمر ما جدع قصير أنفه! عقرقوف قرية قديمة من قرى بغداد؛ قالوا: بناها عقرقوف بن طهمورث، وإلى جانب هذه القرية تل عظيم من تراب، يرى من خمسة فراسخ كأنه قلعة عظيمة. للناس فيه أقاويل كثيرة، قال ابن قطيفة: ملك الروم كلما رأى أحداً من أهل العراق سأله عن تل عقرقوف، فإن قال: انه بحاله، يفرح ويقول: انه لا بد أن نطأه. غرشستان ناحية واسعة كثيرة القرى، الغور في شرقيها وهراة في غربيها، ومرو الروذ في شمالها وغزنة في جنوبها. والغرش بلغتهم الجبال ومعناه قهستان. والغالب على أرضها الجبال، وبها دروب وأبواب لا يمكن دخولها إلا بإذن الشار، والشار اسم ملوكهم. وأهلها صلحاء مجبولون على الخير، عندهم بقية من

غريان

عدل عمر. قال الاصطخري: غرج الشار مدينتان، يقال لإحداهما نشين وللأخرى سورمين، وهما متقاربتان ولهما مياه كثيرة وبساتين. يحمل منهما الزيت والأرز إلى سائر البلاد. وحكى بعض التجار قال: مشيت إلى غرشستان فاتفق لهم غرس، فوضعوا دستاً عالياً وجاء الزوج وجلس فيه، وأسبلوا على وجهه سجفاً سخيفاً شبه وقاية، وجاء المغني يغني بالدفوف وغيرها، وتأتي نساء أقاربهم وجيرانهم يرقصن بين يدي الزوج فرادى ومثنى وجماعة، والزوج يراهن ويتفرج على رقصهن حتى لا تبقى واحد إلا رقصت، ثم تأتي العروس في الآخر وترقص بين يديه أحسن رقص، ثم خلوا بينها وبينه. غريان بناءان كالصومعتين بظهر الكوفة قرب مشهد أمير المؤمنين علي. بناهما المنذر بن امريء القيس بن ماء السماء، وسببه انه كان له نديمان من بني أسد، فثملا فراجعا الملك ببعض كلامه، فأمر وهو سكران أن يحفر لهما حفرتان ويدفنا فيهما حيين. فلما أصبح استدعاهما فأخبر بما أمضى فيهما فغمه ذلك، وقصد حفرتيهما وأمر ببناء طربالين عليهما وقال: لا يمر وفود العرب إلا بينهما! وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم، يذبح يوم بؤسه من يلقاه ويغري بدمه الطربالين، فإن وقعت لهما الوحش طلبها بالخيل، وإن وقع طائر أرسل عليه الجوارح. وفي يوم نعيمه يجيز من يلقاه ويخلع عليه. ولبث بذلك برهة من دهره، فخرج يوماً من أيام بؤسه إذ طلع عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر، جاء ممتدحاً، فلما رآه قال: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد؟ فقال بعض الحاضرين: أبيت اللعن! عنده من حسن القريض ما هو خير مما تريد منه! فاسمع فإن كان حسناً استرده وإن كان غير ذلك فالأمر بيدك. فأنزله حتى طعم وشرب وقال له:

أنشدني فقد كان يعجبني شعرك! فقال عبيد: حال الجريض دون القريض. فقال المنذر: أنشدني قولك اقفر من أهله ملحوب. فقال عبيد: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد عنّت له منيّةٌ نكود ... وحان منه لهما ورود! فقال المنذر: يا عبيد لا بد من الموت! ولقد علمت لو أن النعمان ابني عرض لي يوم بؤسي لا بد لي من ذبحه! واستدعى له الخمر فلما أخذت منه نفسه وطابت وقدم للقتل أنشد. ألا أبلغ بنّي وأعمامهم ... بأنّ المنايا هي الوارده! لها مدّةٌ فنفوس العباد ... إليها، وإن كرهت، قاصده فلا تجزعوا لحمامٍ دنا ... فللموت ما تلد الوالده فأمر به ففصد حتى نزف دمه وغرى بدمه الغريين. وحكي أن في بعض أيام بؤسه وقع رجل من طيء يقال له حنظلة، فقال له المنذر: لا بد من قتلك! سل حاجتك. فقال: أجرني سنة حتى أرجع إلى أهلي وأفعل ما أريد ثم أصير إليك! فقال المنذر: ومن يكفلك أنك تعود؟ فنظر إلى جلسائه فعرف شريك بن عمرو بن شراحيل الشيباني فقال: يا شريكٌ يا ابن عمروٍ ... ويا أخا من لا أخا له يا أخا المنذر فكّ ... اليوم رهناً قد أنى له إنّ شيبان قبيلٌ ... أكرم النّاس رجاله وأبو الخيرات عمروٌ ... وشراحيل الحماله ورثاك اليوم في المجد ... وفي حسن المقاله فوثب شريك وقال: أبيت اللعن! يدي بيده ودمي بدمه! فأطلقه المنذر،

غزنة

فلما كان من القابل قعد المنذر ينتظر حنظلة فأبطأ، فقدم شريك ليقتل فلم يشعر إلا براكب قد طلع، فإذا هو حنظلة قد تكفن وجاء بنادبته. فلما رآه المنذر عجب من وفائه فقال: ما حملك على قتل نفسك؟ فقال: إن لي ديناً يمنعني من الغدر! قال له: ما دينك؟ قال: النصرانية! فاستحسن ذلك منه وأطلقهما معاً، وأطلق تلك السنة. وكان المنذر بنى الغريين على مثال ما بناهما ملوك مصر، وقد مر ذكرهما في موضعهما. ونظر معن بن زائدة إلى الغريين وقد خرب أحدهما فقال: لو أنّ شيئاً مقيماً لا يبيد على ... طول الزّمان لما باد الغريّان قد خرّب الدّهر بالتّصريف بينهما ... فكلّ إلفٍ إلى بينٍ وهجران! غزنة ولاية واسعة في طرف خراسان بينها وبين بلاد الهند، مخصوصة بصحة الهواء وعذوبة الماء وجودة التربة، وهي جبلية شمالية بها خيرات واسعة إلا أن البرد بها شديد جداً. ومن عجائبها العقبة المشهورة بها، فإنها إذا قطعها القاطع وقع في أرض دفئة شديدة الحر، ومن هذا الجانب برد كالزمهرير، ومن خواصها أن الأعمار بها طويلة والأمراض قليلة، وما ظنك بأرض تنبت الذهب ولا تولد الحيات والعقارب والحشرات المؤذية؟ وأكثر أهلها أجلاد وأنجاد. ومن عجائبها أمر الصفارين يعقوب وعمرو وظاهر وعلي. كان يعقوب غلام صفار وعمرو مكارياً، صاروا ملوكاً عظماء واستولوا على بلاد فارس وكرمان وسجستان وخراسان وبعض العراق، يقال لهم بنو الليث الصفار. وبها تفاح في غاية الحسن يقال له الأميري، لم يوجد مثله في شيء من البلاد، قال أبو منصور الثعالبي:

الغور

تفّاخ غزنة نفّاعٌ ونفّاح ... كأنّه الشّهد والرّيحان والرّاح! أحبّه لصفاتٍ حازها قمرٌ ... في وجهه أبداً وردٌ وتفّاح! وينسب إليها مجدود بن آدم السنائي. كان حكيماً عارفاً شاعراً تاركاً للدنيا، وله ديوان كبير كله حكم ومواعظ من حقها أن تكتب بالذهب، ليس فيها مدح أصلاً. وكان يحب العزلة والانزواء عن الناس، ويسكن الخرابات ويمشي حافياً، وكان بعض الوزراء يرى له والسنائي يأتيه في أوقات، فإذا جاءه يقوم الوزير ويجلسه مكانه في دسته، وهو ربما كانت ملطخة بالطين فقعد في مسند الوزير، ومد رجليه لئلا يتلطخ المطرح بالطين. وحكي أن السنائي كان يمشي حافياً ولا يقبل من أحد شيئاً، فاشترى له بعض أصدقائه مداساً وألح عليه بالشفاعة أن يلبسه ففعل، فاتفق أنه تلاقاه في اليوم الثاني وسلم على السنائي فخلع المداس ورده إليه، فسئل عن ذلك فقال: سلامه في اليوم الثاني ما كان يشبه السلام الذي كان قبل ذلك، وما كان له سبب إلا المداس! وبها عين إذا ألقي فيها شيء من القاذورات، يتغير الهواء ويظهر البرد والريح العاصف والمطر في أوانه والثلج في أوانه، وتبقى تلك الحالة إلى أن تنحى عنها النجاسة. وحكي أن السلطان محمود بن سبكتكين لما أراد فتح غزنة كلما قصدها بادر أهلها وألقوا شيئاً من القاذورات في هذه العين، ولم تمكن الإقامة عندهم للعسكر. وكان الأمر على ذلك حتى عرف السلطان ذلك منهم، وتلك العين خارج المدينة بقربها، فبعث أولاً على العين حفاظاً ثم سار نحوها فلم ير شيئاً مما كان قبل ذلك، فافتتحها. الغور ولاية بين هراة وغزنة عامرة، ذات عيون وبساتين كثيرة خصبة جداً، والجبال محتوية عليها من جميع جوانبها مثل الحظيرة، ونهر هراة يقطعها، يدخلها من جانب ويخرج من آخر. وإنها شديدة البرد جداً لا تنطوي على مدينة مشهورة

وأكبر ما فيها قلعة يقال لها فيروزكوه، وحكى الأمير عماد الدين والي بلخ أن بأرض الغور عيناً يذهب الناس إليها في ليلة من السنة معلومة بقسي وسهام، ويرمي كل واحد إليها نشابة وعليها علامة، فإذا أصبحوا وجدوا النشابات خارجة من العين، وعلى نصل بعضها رؤوس الحيوانات من الذهب، إما رأس طير أو سمك أو إوز أو حيوان آخر، وبعض الناس لا يصيب على نشابه شيئاً، والله أعلم بصحته في ذلك، والعهدة على الراوي. وبها السمندل، وهو حيوان كالفأر يدخل النار ولا يحترق، ويخرج والنار قد أزالت وسخه وصفت لونه وزادته بريقاً. يتخذ من جلده مناديل الغمر للملوك، فإذا توسخت تلقى في النار ليزول وسخها. ينسب إليها أبو الفتح محمد بن سام الملقب بغياث الدين. كان ملكاً عالماً عادلاً مظفراً في جميع وقائعه، وحروبه كانت مع كفار خطاء. وكان كثير الصدقات جواداً شافعي المذهب، وقد بنى مدارس ورباطات وكتب بخطه المصاحف وقفها عليها. وكان من عادته إذا مات غريب في بلده لا يتعرض لتركته حتى يأتي وارثه ويأخذها. وكان أول أمره كرامي المذهب وفي خدمته أمير عالم عاقل ظريف شاعر، يقال له مباركشاه الملقب بعز الدين، علم أن هذا الملك الجليل القدر على اعتقاد باطل، وكان يأخذه الغبن لأنه كان محسناً في حقه، وكان في ذلك الزمان رجل عالم فاضل ورع يقال له محمد بن محمود المروروذي، الملقب بوحيد الدين، عرفه إلى الملك وبالغ في حسن أوصافه حتى صار الملك معتقداً فيه، ثم ان الرجل العالم صرفه عن ذلك الاعتقاد الباطل وصار شافعي المذهب. وينسب إليها أبو المظفر محمد بن سام بشهاب الدين. كان ملكاً عادلاً حسن السيرة. كان يقعد حتى يفصل قاضيه الحكومات بحضوره. ومن مات أو قتل من مماليكه وعليه دين لا يقطع معيشته حتى يستوفى الدين. وحكي أن صبياً علوياً لقيه في طريقه وقال له: إني منذ خمسة أيام ما أكلت شيئاً!

فراهان

فغضب وحولق وعاد في الحال وأخذ الصبي معه، وأطعمه أطيب الطعام وأعطاه من المال ما أغناه. فراهان قرية من قرى همذان مشهورة، بها مملحة عجيبة، وهي بحيرة أربعة فراسخ في أربعة، فإذا كان أيام الخريف واستغنى الناس من أهل تلك الناحية عن سقي المزارع والبساتين صوبوها إلى تلك البحيرة. فإذا جاء الربيع والصيف واحتاج الناس إلى الماء انقطع عن البحيرة انصبابه، فما بقي فيها يصير ملحاً يأخذه الناس ويحملونه إلى البلاد. ومن عجائبها أن الناس إن منعوا عنها لم تنعقد ملحاً بل ينصب ولا يبقى له أثر، وإن لم يمنع الناس عنها تصير ملحاً؛ قال ابن الكلبي: إنه طلسم من عمل بليناس. وكان بفراهان سبخة يغوص فيها الراكب بفرسه والجمل بحمله، فاتخذ لذلك طلسماً استراح الناس عنه. فم الدبل قرية من قرى واسط على شاطيء شعبة من دجلة، منسوبة إلى الرفيعية، وهم مشايخ تلك الناحية وبيتهم بيت مبارك. عادتهم ضيافة الناس وخدمة الصلحاء والفقراء والمسافرين والقاطنين، وفي فقرائهم جمع قالوا يأكلون الحيات، وقوم قالوا يدخلون النار، وغير ذلك من الأمور العجيبة. وهم أقوام في زي الفقراء براء من التكلف، ولا أدب لهم إلا خدمة الناس ولا يفرحون إلا به. فنك قلعة حصينة على قلة جبل عال بقرب جزيرة ابن عمر، على فرسخين منها وعلى القلعة قلة مرتفعة عنها ارتفاعاً كثيراً من صخرة كبيرة، وهي قلعة مستقلة

قاشان

بنفسها، وإنها بيد الأكراد البشنوية من ثلاثمائة سنة، وهم قوم فيهم مروة وعصيبة، يحمون من التجأ إليهم. وكانت هذه القلعة في شهور ستمائة بيد رجل اسمه إبراهيم، وله أخ اسمه عيسى أراد أن ينتزعها من يد إبراهيم. وكان إبراهيم مع خواصه يسكن القلة وباقي الأجناد في نفس القلعة، فأطاع عيسى جمع من بطانة إبراهيم وفتح باب القلة حتى صعدها نيف وعشرون رجلاً، وقبضوا على إبراهيم ومن عنده وحبسوا إبراهيم في بيت، وحبست زوجته في بيت آخر. ولهذا البيت شباك إلى القلعة، فملك أصحاب عيسى القلة وينتظرون مجيء عيسى، فقلعت زوجة إبراهيم الشباك، وكان عندها ثياب خام فأوصلت بعضها ببعض ودلتها إلى القلعة، وجعلت تسعى الرجال ولا علم لأصحاب القلة بها. فحضر عيسى وأصحابه تحت القلعة فرأوا الرجال يصعدون القلة بالحبل، فصاحوا إلى أصحاب القلة ليعرفوا ذلك، فكلما صاح أصحاب عيسى صاح أصحاب القلعة معهم لتتزاحم الأصوات فلا يفهم أصحاب القلة كلامهم، حتى صعد بالحبل عشرون رجلاً فأخرجوا إبراهيم من الحبس، وفتحوا باب القلة حتى صعد إليه أصحابه، وأهلكوا قوم عيسى ورجع عيسى خائباً، وبقيت القلعة إلى إبراهيم. قاشان مدينة بين قم وأصفهان. أهلها شيعة إمامية غالية جداً. وألف أحمد بن علي ابن بابه القاشاني كتاباً ذكر فيه فرق الشيعة، فلما انتهى إلى الإمامية وذكر المنتظر قال: من العجب أن في بلادنا قوماً، وأنا شاهدتهم على هذا المذهب، ينتظرون صباح كل يوم طلوع القائم عليهم، ولا يقنعون بالانتظار بل يركبون خيلهم متوشحين بالسيوف شاكين السلاح، ويخرجون من مساكنهم إلى خارج البلد مستقبلين للإمام، كأنهم قد أتاهم بريد أخبرهم بوروده، فإذا طلع النهار عادوا متأسفين وقالوا: اليوم أيضاً ما جاء!

قرميسين

ومنها الآلات الخزفية المدهونة، ولهم في ذلك يد باسطة ليس في شيء من البلاد مثلهم. تحمل الآلات والظروف من قاشان إلى سائر البلاد. بها مشمش طيب جداً يتخذ منه المطوي المجفف، ويحمل للهدايا إلى سائر البلاد، ليس في شيء من البلاد إلا بها. وبها من العقارب السود الكبار المنكرة ما ليس في غيرها. قرميسين بقرب كرمانشاهان، بليد بين همذان وحلوان على جادة الحاج، ذكر ابن الفقيه أن قباذ بن فيروز نظر في بلاده، فلم يجد بين المدائن وبلخ موضعاً أطيب هواء ولا أعذب ماء ولا أصح تربة من قرميسين، فاختاره لسكناه وبنى به قصراً يقال له قصر اللصوص. ومن عجائبه الدكة التي كانت به مائة ذراع في مائة ذراع، في ارتفاع عشرين ذراعاً مربعاً. وحجارتها كانت مهندمة مسمرة بمسامير الحديد لا تبين دروز الأحجار منها، ويظن الناظر انها حجر واحد. اجتمع عليها ملوك الأرض عند كسرى ابرويز وهم: فغفور ملك الصيف وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم. وكان في هذا القصر أبواب وجواسق وخزائن بالنقوش والتصاوير، وكسرى أبرويز اتخذه متصدياً لطيب هوائه وحسن مكانه. حكي أن مطبخ كسرى كان في موضع بينها وبين هذا الموضع أربعة فراسخ، فإذا أراد أن يتغدى اصطف الغلمان من القصر إلى المطبخ، وتناول الغضائر والصحون بعضهم من بعض إلى محل جلوس الملك، وهذا بعيد لأن الطبيخ لا يبقى حاراً إلى أن يحمل إلى فراسخ، فلعله قد فعل ذلك مرة ليذكر ذلك من قوة ملكه.

قزوين

قزوين مدينة كبيرة مشهورة عامرة في فضاء من الأرض، طيبة التربة واسعة الرقعة كثيرة البساتين والأشجار نزهة النواحي والأقطار، بنيت على وضع حسن لم يبن شيء من المدن مثلها. وهي مدينتان: إحداهما في وسط الأخرى، والمدينة الصغرى تسمى شهرستان، لها سور وأبواب، والمدينة الكبيرة المحيطة بها. ولها أيضاً سور وأبواب، والكروم والبساتين محيطة بالمدينة العظمى من جميع الجوانب، والمزارع محيطة بالبساتين، ولها واديان: أحدهما وادي درج والآخر وادي اترك، وهذه صورتها:

قال ابن الفقيه: أول من استحدث قزوين شابور ذو الأكتاف، وبناء شابور في زماننا هذا يسمى شهرستان. فلما اجتاز الرشيد بأرض الجبال قاصداً خراسان اعترضه أهل قزوين، وأخبروه بمكانهم من أرض الديلم، فسار إلى قزوين وبنى سور المدينة العظمى وجامعها سنة أربع وخمسين ومائتين. وأول من فتحها البراء ابن عازب الأنصاري، وقد وقع النفير وقت كان الرشيد بها، فرأى أهلها أغلقوا حوانيتهم وأخذوا أسلحتهم وخرجوا إلى وجه العدو مسرعين، فأشفق عليهم وبنى لهم السور، وحط عنهم خراجهم جاعلاً إياه عشرة آلاف دينار في كل سنة، وقد ورد في فضائل قزوين أحاديث كثيرة تتضمن الحث على المقام بها لكونها ثغراً. منها ما رواه علي بن أبي طالب، عليه السلام، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عليكم بالإسكندرية أو بقزوين فإنهما ستفتحان على يد أمتي، وإنهما بابان من أبواب الجنة، من رابط فيهما أو في إحداهما ليلة خرج عن ذنوبه كيوم ولدته أمه! وعن سعيد بن المسيب مرفوعاً عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سادات الشهداء شهداء قزوين! وأمثال هذه كثيرة. وبين قزوين وبين الديلم جبل كان ملوك الفرس يجعلون عليه رابطة إذا لم يكن بينهم هدنة، وذلك الجبل هو الحاجز بين القزاونة والإسماعيلية، أحد جانبيه لهؤلاء والجانب الآخر لهؤلاء. وبها مواضع يرجى فيها إجابة الدعاء، منها مسجد شالكان ومسجد شهرستانك ومسجد دهك ومسجد باب المشبك الملصق بالسور، فإنها مواضع يأتيها الابدال. ومن عجائبها مقصورة الجامع التي بناها الأمير الزاهد خمارتاش، مولى عماد الدولة صاحب قزوين، فإن قبتها في غاية الارتفاع على شكل بطيخ، ليس مثلها في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر أكبر منها، ولا أحسن عمارة. وحكي أن الصناع لما رفعوا قواعدها وأرادوا انضمام رأسها عجزوا عن ذلك لفرط سعتها وعمقها فلم يكن شيء من الاجذاع والسلاليم يفي بها، فوقفت العمارة حتى مر بها صبي وقال: لو ملؤوها تبناً يمكنهم إتمامها! فتعجب الصناع من حذقه

وقالوا: لا طريق لها إلا ما ذكره الصبي! فملؤوها تبناً وتمموها. ومن عجائبها أمر باغاتها، فإنها لا تشرب في السنة إلا مرة واحدة وتأتي بفواكه غضة طرية، وربما لا تشرب في السنة وتأتي بعنب ضعيف. ومن عجائبها مقابر اليهود، فإنها فضاء واسع ليس بها آثار القبور، فإذا وجعت بطون دوابهم قادوها إليها وذهبوا بها في ذلك الفضاء يمنة ويسرة، فإنه يزول وجعها. ومن عجائبها سوق الخيل بموضع يسمى رستق الشعير. ذكروا أن كل فرس يحمل إليه للبيع، فإن كان به حران يظهر في الحال. ومن عجائبها مقبرة باب المشبك، فإنها مقبرة شريفة بها قبور العلماء والشهداء والصلحاء والزهاد. يأتيها الناس ليلة الجمعة فيرون بها أنواراً عجيبة تصعد من القبور وتنزل فيها، وهذا أمر ظاهر يراه كل من يمشي إليها صالحاً أو طالحاً. ولقد رأيت في بعض الليالي عجيباً، وهو انه قد طلع من بعض القبور كرة قدر إبريق، وصعدت نحو الهواء أكثر من غلوة سهم وأضاءت الجوانب من نورها، ورآها غيري خلق كثير شرعوا في التكبير والتهليل، وما كانت على لون النار بل كانت على لون القمر ضارباً على الخضرة ثم عادت إلى مكانها. ينسب إليها الشيخ أبو بكر المعروف بشابان. كان شيخاً عظيم الشأن يأتيه الابدال. كان له كرم وقطعة أرض وبقرة: ويزرع قطعة الأرض حنطة، ويأخذ عنب الكرم ولبن البقرة وانها شيء يسير يضيف بها من زاره. استشهد على يد الفداية يوم الجمعة في جامع دمشق بعد الصلاة في ازدحام الناس سنة إحدى وستمائة عن اثنتين وتسعين سنة. وينسب إليها أبو حاتم محمود بن الحسن القزويني. كان فقيهاً أصولياً، وكان من أصحاب القاضي أبي الطيب طاهر الطبري، له كتاب في حيل الفقه مشهور. وكان من أولاد أنس بن مالك وابن عمي. وينسب إليها الشيخ أبو القاسم بن هبة الله الكموني. كان عالماً عابداً ورعاً من

أولاد أنس بن مالك. حكي انه جاء في زماه وال إلى قزوين، وبقزوين واديا ماء وهما من السيل، وسقي كروم أهل قزوين من هذين الواديين وهما مباحان، فأراد هذا الوالي أن يجعل عليهما خراجاً، فشكا أهل قزوين إلى الشيخ، فذهب الشيخ إلى دار الوالي وقال لحاجبه: إن هذا الماء لم يزل مباحاً لا يحل بيعه، وأصحاب هذه الكروم أرامل وأيتام، والكروم ضعيفة لها في السنة سقية واحدة، حاصلها لا يفي بمال الخراج. فدخل الحاجب على الملك وقال: ههنا شيخ ما يخلي ان هذا الأمر يتمشى! فغضب الملك وسل سيفه وخرج بسيفه المسلول وقال: من الذي يمنع من بيع هذا الماء؟ فقام الشيخ وقال: أنا! فعاد الملك إلى داخل وقال: افعلوا ما يقول هذا الشيخ! فإنه لما قام رأيت على يمينه ويساره ثعبانين يقصدانني! فبطل ذلك العزم وذاك الماء مباح إلى الآن. وهذا الشيخ جدي الخامس. وينسب إليها أبو محمد بن أحمد النجار. كان عالماً فاضلاً أديباً فقيهاً أصولياً ذا فهم مستقيم وذهن وقاد، وكان عديم المثل في زمانه مع كثرة فضلاء قزوين. كان أبوه نجاراً وهو أيضاً كان بالغاً في صنعة النجارة، وصاحب قزوين كان يرى له، وبنوا له بقزوين مدرسة وأصابه في آخر عمره الفالج. وله تصانيف كثيرة كلها حسن. وحكي أن صاحب قزوين أخذ قاصداً من الباطنية ومعه كتاب، فلما فتحوا كان الكتاب أبيض، فأخبر الشيخ أبو محمد عن ذلك، فأمر أن يعرض على النار، فلما عرضوه على النار ظهر عليه كتابة كتبوها إلى رجل من أهل قها، وطلبوا منه الإبل والحمام. وقها ناحية من أعمال الري. فقال الملك: الإشكال بعد بحاله لأنه ليس بقها الإبل ولا الحمام! فقال الشيخ أبو محمد: طلبوا القسي والنبال. فقيل له: من أين قلت؟ فقال: أما سمعتم تشبيه الإبل بالقسي في قوله: حوصٌ كأشباح الحنايا ضمّر

وتشبيه النبل بالحمام في قوله: وإذا رمت ترمي تموّت طائر وينسب إليها الشيخ أبو القاسم محمد بن عبد الكريم الرافعي. كان عالماً فاضلاً ورعاً بالغاً في النقليات كالتفسير والحديث والفقه والأدب. وله تصانيف كثيرة كلها حسن. كان يعقد مجلس العلم في جامع قزوين كل يوم بعد العصر، ويحضر عنده أكثر من مائتي نفس يذكر لهم تفسير القرآن. ومن عجيب أحواله انه جاء ذات يوم على عادته، فلما فرغ من وظيفته بكى وقال: يا قوم قد وقعت لي واقعة ما وقعت لي مثلها، عاونوني بالهمة! فضاقت صدور القوم وسأل بعضهم بعضاً عن الواقعة فقالوا: ان تاجراً أودع عنده خمسمائة دينار وغاب مدة طويلة، والآن قد جاء وطلبها، فذهب الشيخ إلى مكان الوديعة ما وجدها، والذي أخذها أمين لطول المدة، فيخبر القوم حتى قال أحدهم: ان امرأة ضعيفة كانت خدامة لبيت الشيخ، والآن ترى حالها أحسن مما كانت. فطلبوا منها فوجدوا عندها، فجاء الشيخ في اليوم الثاني وأخبر القوم بأن همتهم أثرت والواقعة اندفعت. وحكي أن وزير خوارزمشاه كان معتقداً فيه، فقبل يده فقال له الشيخ: قبلت يداً كتبت كذا وكذا مجلداً تصنيفاً! فوقع من الدابة وانكسرت يمناه، وكان يقول: مدحت يدي فأبلاني الله تعالى بها! توفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة عن نيف وستين سنة. وينسب إليها الشيخ أبو علي حسنويه بن أحمد بن حسنويه الزبيري، الملقب بمعين الدين. كان شيخاً معتبراً من أعيان قزوين. ومن أعجب ما روي عنه أن أحداً إذا أصابه مس من الجن هو يحضر الجن ويشفع إليهم ويخلونه. وينسب إليها الشجاع باك باز. كان صاحب آيات وعجائب، وكان ذا هيبة. من رآه يمتليء من هيبته، وكان الملك والفقير عنده سواء، يخاطب هذا كما يخاطب

ذاك. وإذا رأى أحداً يقول: معك دنانير وزنها كذا، اخرجها للفقراء! فيخرجها فيكون كما قال. وحكي انه طلب يوماً من رجل تاجر شيئاً، وكان الرجل حنفياً معتزلياً لا يقول بكرامات الأولياء، فتخاشن في الجواب فحرد وشتم، فقال له: المال الذي مع ابنك في السفر وقع عليه اللصوص الآن وأخذوه! فازداد الرجل غيظاً وشتماً. قال: وابنك قد قتل على يد الحرامية! فأرخوا ذلك فجاء الخبر بأخذ المال وقتل ابنه. وحكي انه كان في رباط اربل، فجاء الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي إلى اربل، فاستقبله أهل اربل فجاء إلى الرباط ودخل بين الجماعة، ووقف على المصلى يصلي ركعتين والخف في رجليه. فلما رأى باك باز ذلك قال: أيها الشيخ، كيف تقف مع الخف على مصلى المشايخ؟ أليس هؤلاء القوم إذا رأوا منك ذلك اعتقدوا أنه جائز في الطريقة؟ فوثب عليه الصوفية وهم تلامذة الشيخ وأسبغوه ضرباً ومدوه برجله إلى خارج الرباط. فلما عرف الشيخ ذلك أنكر على الصوفية وقال: انه كان على الصواب، مروا إليه واعتذروا منه! فمروا إليه فإذا هو قاعد في السوق على دكة، فاعتذروا مستغفرين فقال: ما جرى شيء يحتاج إلى العذر، وإن جرى فأنتم في أوسع الحال. فقالوا: ارجع إلى الباط إن أنت راض. فقال: إني كنت على عزم السفر وتوقفي لإصلاح هذا المثقل لمداسي، وإذا فرغ منه لبست وسافرت! فعاد القوم إلى الرباط فعرف الحال الملك، فأمر شيخ الرباط مع جميع الصوفية بالمشي إليه معتذرين، فذهبوا وما أجابهم، فقال الملك: أنا أمشي! فركب وجاء إلى السوق، وهو قاعد على دكة والمثقل يعمل في نعله، فقال: إني قد جئت شفيعاً، فاسلك مع القوم مسلك التصوف وعد إلى المكان راضياً منافساً! فقال: لا أرجع حتى تفعل ما أريده. فقال الملك: ما تريد؟ قال: أريد ثلاثمائة دينار! قال: لك ذلك! قال: احضره الآن! فأحضره وقال: أريد جوقتين من المغنين.

قصران

فأحضروا وقال: أريد أن يحملني فلان على رقبته، والمغنون يغنون قدامي، والقوم خلفي وقدامي يؤدونني إلى الرباط على هذه الحال! ففعلوا ذلك كله، فلما دخل الرباط والذهب معه قال: من الذي ضربني؟ فيقول كل واحد: أنا ما ضربت شيئاً! فقال: من ضربني ضربة فله دينار، ومن ضربني ثنتين فله ديناران، ومن ضربني ثلاثاً فله ثلاثة دنانير! فجاء كل واحد يقول: أنا لكمت كذا وكذا. ففرق الذهب عليهم وسافر. توفي في نيف وعشرين وستمائة. قصران اسم قرية من قرى الري. وهي قسمان: يقال لأحدهما قصران الداخل، وللآخر قصران الخارج. قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض الري قرية تسمى قصران بيروني، عند بابها الأعلى يرى كل ليلة سراج مشعل بحيث يبصره كل أحد من البعيد من جميع الجوانب، وإذا دنا منه لا يبين شيء. ينسب إليها القصراني المهندس. كان عالماً بالهندسة، وكان عديم المثل في زمانه، وله كتب مصنفة في الهندسة مشهورة. قصر شيرين بين بغداد وهمذان في فضاء من الأرض على طرف نهر جار. بناها كسرى أبرويز لشيرين وهي خطيبة كانت له من أجمل خلق الله تعالى، والفرس يقولون: كان لكسرى أبرويز ثلاثة أشياء لم تكن لملك قبله ولا بعده: خطيبته شيرين، ومغنيه بلهبد، وفرسه شبديز، وقصر شيرين باق إلى الآن، وهي أبنية عظيمة شاهقة وايوانات عالية وعقود وقصور وأروقة ومتشرفات، واختلفوا في سبب بنائه: ذكر في كتب العجم أن شيرين كانت من بنات بعض ملوك أرمن، وكانت أجمل خلق الله صورة، ذكر لكسرى أبرويز وكان مشغوفاً بالنساء، بعث إليها من خدعها فهربت على ظهر شبديز. فلما وصلت إلى العراق وكان كسرى

غائباً، فرأتها أزواج كسرى وولائده، علمن أن كسرى يختارها عليهن، فأخذهن من الغيرة ما يأخذ الضرات، فاخترن لها أرضاً سبخة وهواء ردياً وقلن: ان الملك أمرنا أن نبني لك ها هنا قصراً. وهي موضع قصر شيرين على طرف نهر عذب الماء. وحكي أن شيرين كانت تحب اللبن الحليب، وكان القصر بعيداً عن مرعى المواشي، فإلى أن حمل إلى القصر زالت سخونته، فطلبوا الحيلة في ذلك فاتفق رأيهم على أن يتخذوا جدولاً حجرياً من المرعى إلى القصر، فطلبوا صانعاً يعمل ذلك، فدلوا على صانع اسمه فرهاذ، فطلبت اتخاذ جدول مسافته فرسخان من المرعى إلى القصر على أن يأتي اللبن منها إلى القصر بسخونته، وكان القصر على نشز من الأرض والمرعى في منحدر، فاتخذ حائطاً طوله أكثر من فرسخين وارتفاعه عند المرعى عشرون ذراعاً، وعند القصر مساوياً لأرضه، وركب على الحائط جدولاً حجرياً، وغطى رأسه بالصفائح الحجرية، واتخذ عند المرعى حوضاً كبيراً، وفي القصر أيضاً مثله، وهذا كله باق إلى زماننا، رأيته عند اجتيازي به لا شك في شيء منه. وذكر محمد الهمذاني انه كان سبب بناء قصر شيرين، وهو أحد عجائب الدنيا، أن كسرى أبرويز، وكان مقامه بقرميسين، أمر أن يبنى له باغ فرسخين في فرسخين، وأن يجعل فيه من الطيور والوحوش حتى تتناسل فيه، ووكل بذلك ألف رجل أجرى عليهم الرزق حتى عملوا فيه سبع سنين. فلما تم نظر إليه الملك وأعجبه، وأمر للصناع بمال. فقال في بعض الأيام لشيرين: سليني حاجة، فقالت: أريد أن تبني لي قصراً في هذا البستان لم يكن في ملكك لأحد مثله، وتجعل فيه نهراً من حجارة يجري فيه الخمر! فأجابها إلى ذلك ونسي، ولم تجسر شيرين على أن تذكره به، فقالت للبلهبد المار ذكره: حاجتي في غناء، ولك ضيعتي التي بأصفهان! فأجابها إلى ذلك وعمل شعراً وصوتاً في ذلك. فلما سمع كسرى قال له: لقد ذكرتني حاجة شيرين. فأمر ببناء القصر وعمل النهر،

قم

فبنى على أحسن ما يكون وأتقنه، ووفت شيرين للبلهبد بالضيعة فنقل إليها عياله، وله نسل بأصفهان ينتمون إلى بلهبد. ودخل بعض الشعراء قصر شيرين فرأت تلك العمارات الرفيعة، ورأى ايوان شيرين وصورتها وصورة جواريها على الحائط فقال: يا طالبي غرر الأماكن ... حيّوا الدّيار ببرزماهن وسلوا السّحاب تجودها ... وتسحّ في تلك الأماكن واهاً لشيرين التي ... قرعت فؤادك بالمحاسن! واهاً لمعصمها المليح ... وللسّوالف والمغابن! في كفّها الورق الممسّك ... والمطيّب والمداهن وزجاجةٌ تدع الحكيم ... إذا انتشى في زيّ ماجن وشغفت حين رأيتها ... واهتاج مني كلّ ساكن فسقى رباع الكسرويّة ... بالجبال وبالمدائن دانٍ يسفّ ربابه ... وتناله أيدي الحواضن قم مدينة بأرض الجبال بين ساوة وأصفهان، وهي كبيرة طيبة خصبة مصرت في زمن الحجاج بن يوسف سنة ثلاث وثمانين. أهلها شيعة غالية جداً والآن أكثرها خراب. ومياههم من الآبار أكثرها ملح، فإذا أرادوا حفرها وسعوا في حفرها وبنوا من قعرها بالأحجار إلى شفيرها، فإذا جاء الشتاء أجروا ماء واديهم ومياه الأمطار إليها، فإذا استقوه بالصيف كان عذباً طيباً. وبها بساتين كثيرة على السواقي، وفيها الفستق والبندق. بها ملاحة طلسمها بليناس في صخرة ليدوم جريان مائها، ولا ينقطع ما لم يخطر عليه، وماء هذه العين ينعقد ملحاً ويأخذه كل مجتاز.

كران

أخبرني بعض الفقهاء أن بقرب قم معدن ملح، من أخذ منه الملح ولم يترك هناك ثمنه يعرج حماره الذي حمل عليه ذلك الملح. وبها معدن الذهب والفضة أخفوه عن الناس حتى لا يشتغلوا به ويتركوا الزراعة والفلاحة. وبها طلسم لدفع الحيات والعقارب، وكان أهل قم يلقون منها ضرراً عظيماً فانحازت إلى جبل هناك، فإلى الآن لا يقدر أحد أن يجتاز بذلك الجبل من كثرة الحيات والعقارب. من عجائبها أن العود لا يكون له في هواء قم أثر كثير، ولو كان من أذكى العود. وبها واد كثير الفهود. وحكي أنه أتاهم في بعض الأوقات وال سني وقال لهم: بلغني أنكم لشدة بغضكم صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا تسمون أولادكم بأسمائهم، فإن لم تأتوني منكم بمن اسمه عمر أو كنيته أو بكر لأفعلن بكم! فداروا في جميع المدينة وفتشوا، ثم أتوا بواحد أحول أقرع كريه اللقاء معوج الأعضاء، وكان أبوه غريباً ساكن قم، فكناه أبا بكر. فلما رآه الوالي غضب وشتمهم وقال: إنكم إنما كنيتموه بأبي بكر لأنه أسمج خلق الله منظراً! وهذا دليل على بغضكم لصحابة رسول الله. فقال بعض الظرفاء منهم: أيها الأمير، اصنع ما شئت فإن تربة قم وهواءها لا يأتي بصورة أبي بكر أحسن من هذا! فضحك الوالي عفا عنهم. ولقاضيها قال الصاحب ابن عباد: أيّها القاضي بقم ... قد عزلناك فقم وكان القاضي يقول: أنا معزول السجع! كران بلدة بأرض الترك من ناحية تبت؛ قال الحازمي: بها معدن الفضة. وبها عين ماء لا يغمس فيها شيء من الجواهر المنطبعة إلا ذاب.

كرخ

كرخ قرية فوق بغداد على ميل منها. أهلها شيعة غالية ويهود. وبها دكاكين الكاغد والثياب الابريسمية. ينسب إليها أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي. وكان من المشايخ الكبار مستجاب الدعوة، من موالي علي بن موسى الرضا. كان أستاذ السري السقطي، فقال له يوماً: إذا كان لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي! وأهل بغداد يقولون: قبر معروف ترياق مجرب. حكي أن زبيدة بنت جعفر عبرت على معروف مع مواليها وخدمها، فدعا عليها بعض الحاضرين، فقال له معروف: يا رجل كن عون رسول الرحمن، ولا تكن عون رسول الشيطان، إن رسول الرحمن يريد نجاة الخلق كلهم. قال الله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. ورسول الشيطان يريد هلاك الخلق كلهم. قال الله تعالى مخبراً عنه: بعزتك لأغوينهم أجمعين! إن الذي أعطاهم الدنيا على هواهم قادر أن يعطيهم الآخرة على مناهم. وحكى إبراهيم الأطروش انه قال لمعروف: أبا محفوظ، بلغني أنك تمشي على الماء! فقال: ما مشيت على الماء، ولكن إذا هممت بالعبور يجمع لي طرفها. وحكى خليل الصياد قال: غاب ابني إلى الانبار فوجدت أمه وجداً شديداً، فذكرت ذلك لمعروف فقال: ما تريد؟ قلت: أن تدعو الله ليرده علينا. فقال: اللهم إن السماء سماؤك والأرض أرضك وما بينهما لك فأت به! قال خليل: أتيت باب الشام فإذا ابني قائم منبهر يقول: الساعة كنت بالانبار. وحكى محمد بن صبيح انه مر بمعروف رجل سقاء ينادي: رحم الله من شرب! فشرب منه وكان صائماً وقال: لعل الله أن يستجيب منه. وحكى عبد الله بن سعيد الأنصاري أنه رأى معروفاً في النوم واقفاً تحت العرش فيقول الله لملائكته: من هذا؟ فقالت الملائكة: أنت أعلم يا ربنا،

كركان

هذا معروف الكرخي قد سكر من حبك لا يفيق إلا بلقائك! وحكى أمد بن أبي الفتح قال: رأيت بشراً الحافي في المنام قاعداً في بستان وبين يديه مائدة يأكل منها، فقلت: أبا نصر ما فعل الله بك؟ فقال: رحمي وغفر لي وأباحني الجنة بأسرها وقال: كل من ثمرها، واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها لما كنت تحرم نفسك شهوات الدنيا! قلت: أين أحمد بن حنبل؟ قال: قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقول القرآن كلام الله غير مخلوق! قلت: وما فعل معروف الكرخي؟ فحرك رأسه وقال: هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب، إن معروفاً ما كان يعبد الله شوقاً إلى جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما عبده شوقاً إليه، فرفعه الله إلى الرفيع الأعلى، ووقعت الحجب بيننا وبينه، ذاك الترياق المقدس المجرب، فمن كانت له إلى الله حاجة فليأت قبره وليدع، فإنه يستجاب له. وحكي انه قال: إذا مت تصدقوا بقميصي فإني أحب أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها. توفي سنة إحدى ومائتين. كركان قرية كانت بقرب قرميسين؛ قال ابن الفقيه: كانت قرية كثيرة العقارب، وكان يقول بها سوق في كل سنة يتأذى بها خلق كثير من لدغ العقارب، فأمر بعض الأكاسرة بليناس الحكيم أن يدفع عنها العقارب بطلسم، ففعل ذلك فلم يوجد بعد ذلك بها شيء من العقارب أصلاً. ومن أخذ من ترابها وطين به حيطان داره في أي بلد كان لم ير في داره عقرب، وإذا لدغت عقرب أحداً يؤخذ من تراب هذه القرية ويطرح في الماء ويشربه الملدوغ فيبرأ في الحال، ومن أخذ من هذا التراب شيئاً وأخذ العقرب بيده لا تضره.

كسكر

كسكر ناحية بين واسط والبصرة على طرف البطيحة. وهي نيف وثلاثون فرسخاً في مثلها. وهذه البطيحة كانت قرى ومزارع في زمن الأكاسرة. وكان لها بثق، ففي السنة التي قتل فيها كسرى اضطربت الأمور وتقاعدوا عن عمارة البثوق، وظهر الماء على تلك المواضع فصارت بطيحة، والآن منابت القصب ومصيد السمك وطير الماء، يتولد فيها أشكال من الطيور غريبة وصور غريبة لم يعرفها أحد، ولا يراها الناس كما قال تعالى: ويخلق ما لا تعلمون. فاسفلها ميسان وأعلاها كسكر، وربما فصل المركب في هذه البطيحة شهراً أو أكثر، وربما يأخذه اللصوص. ويجلب من كسكر الرز الجيد والسمك الشبوط والجواميس والفراريج، والجدي والبطوط والبقر والصحناة والربيثي، فإن هذه الأشياء بكسكر فاقت أنواعها في غيرها. كشم قرية من رستاق بشت من أعمال نيسابور، كانت بها سروة من غرس كشتاسب الملك، لم ير مثلها في حسنها وطولها وعظمها، وكانت من مفاخر خراسان. جرى ذكرها عند المتوكل فأحب أن يراها ولم يقدر له المسير إلى خراسان، فكتب إلى طاهر بن عبد الله وأمره بقطعها، وحمل قطاع جذعها وأغصانها إليه على الجمال لتنصب بين يديه حتى يبصرها، فأنكر عليه ذلك وخوف بالطيرة فلم تنفع السروة شفاعة الشافعين، وحكي ان أهل الناحية اجتمعوا وتضرعوا وقدموا مالاً على إعفائها، فلم ينفع فقطعت وعظمت المصيبة لمن حولها، وارتفع الصياح والبكاء عليها فلفوها في اللباد وبعثوها إلى بغداد على الجمال، فقال علي بن جهم:

كندر

قالوا: سرى لسبيله المتوكّل ... فالسّرو يجري والمنيّة تنزل ما سربلت إلاّ لأنّ إمامنا ... بالسّيف من أولاده متسربل فقتل المتوكل على يد مماليكه قبل وصول السرو، والفأل على ما جرى. كندر قرية من قرى خراسان كثيرة الخيرات وافرة الغلات، ينسب إليها الوزير أبو نصر الكندري. كان وزيراً ذا رأي وعقل استوزره السلطان طغرلبك السلجوقي. ولما ملك الملوك السلجوقية خراسان وأخذوها من ملوك بني سبكتكين، لم يجسر أحد أن يدخل معهم خوفاً من سلاطين بني سبكتكين. فابتدأ أبو نصر الكندري فاستوزره طغرلبك، وكان قد هجاه أبو الحسن الباخرزي بأبيات أولها: أقبل من كندر مسخرةٌ ... للشّؤم في وجهه علامات فطلب أبا الحسن وأحسن إليه وولاه وقال: إني تفاءلت بشعرك، كان أوله أقبل. إلا أنه كان شيعياً غالياً متعصباً، وكان السلطان معتزلياً فأمر بلعن جميع المذاهب يوم الجمعة على المنبر، فشق ذلك على المسلمين، وفارق إمام الحرمين نيسابور وذهب إلى مكة، وكذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري، ودخل على الناس من ذلك أمر عظيم وأثار همة صلحاء المسلمين. كانت أيام طغرلبك أياماً قلائل، مات وقام مقامه ابن أخيه ألب أرسلان بن داود. واستوزره نظام الملك الحسن بن علي بن إسحق، وقبض على الكندري وقتله سنة ست وخمسين وأربعمائة، وانقطع لعن المسلمين على رؤوس المنابر، وعاد أرباب الدين إلى أماكنهم وشكروا الله تعالى.

كنكور

كنكور بليدة بين همذان وقرميسين في فضاء واسع، طيبة الهواء عذبة الماء صحيحة التربة كثيرة الخيرات والثمرات. ولذلك اتخذها كسرى ابرويز مسكناً، وأمر أن يبنى له قصر لا يكون لأحد من الملوك مثله. فاتخذ للقصر أساساً مائة ذراع في مائة ذراع في ارتفاع عشرين ذراعاً، يراه الناظر كأنه حجر واحد، لا يظهر فيه أثر الدرز، وبنى فيه ايوانات وجواسق وخزائن على اسطوانات حجرية تحير الناظر في صنعته وحسن نقوشه. قال صاحب عجائب الأخبار: إذا أردت أن ترى عجباً من العجائب فانظر إلى أسطوانات هذا القصر إلى رؤوسها وأسافلها، وتعجب من تسخير الحجر الصلد لهؤلاء الصناع. وحكي انه لما حضر عند كسرى فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم أحضرهم في هذا القصر ليبصروا عجائبه وقوة ملك بانيه، وصنعة صناعه وعجزهم عن بناء مثله. وذكر أن المسلمين لما وصلوا إليها في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، سرقت دوابهم في ذلك المكان فسموه قصر اللصوص. وحكي انه لما قتل كسرى ابرويز بقي من هذا القصر بقية؛ قال الحاكي: نظرت إلى بعض أساطينها نحت أكثرها وهندم، وبقي أقلها على حاله، فسألت عنها فذكروا انه لما قتل ابرويز انصرف الصناع عنها وتركوها ثم طلبوهم لإتمامها، فما كانت تعمل آلتهم فيها، ولا اهتدت فكرتهم إليها، فعلموا أن تيسير ذلك كان بهمة كسرى ابرويز.

كوثى

كوثى قرية بسواد العراق قديمة. ينسب إليها إبراهيم الخليل، عليه السلام، وبها كان مولده وطرح في النار بها، ولذلك قال أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه: من كان سائلاً عن نسبنا فإنا نبط من كوثى. ومن الاتفاقات العجيبة اتفاق عامل كوثى. حكى بعض أهلها: انه جاءنا عامل واشتد في المطالبات، وكان للعرب عندنا مزارعة، وكان العمال الذين قبله يسامحونهم. فهذا العامل طالبهم وأهانهم بالضرب، فانصرفوا إلى بني أعمامهم شاكين، وتوافقوا على الكبس على العامل ليلاً، فورد الناحية عامل آخر صارفاً للأول وطالباً بالبقايا، فقبض عليه وقيده وضربه بالخشب وحمله إلى قرية أخرى، ووكل به عشرة من الغلمان. فلما أصبح المصروف دخل عليه غلامه وقال له: أخرج رجلك حتى أكسر القيد! قال: أين الموكلون؟ قال: هربوا والعرب الذين أخذت منهم الخراج كبسوا البارحة دار العمالة، وقتلوا العامل على أنه أنت، ولم يكن عندهم خبر صرفك. فقام الرجل وورد بغداد وذكر أن العامل الصارف أساء السيرة وأثار فتنة من العرب، فأقر على حاله في الناحية وضم إليه جيشاً، فعاد إلى كوثى وأرب العرب وأرهب، وصالح ما بينه وبينهم واستقام أمره. لنبان قرية من قرى أصفهان، ينسب إليها الأديب الفاضل البارع عبد العزيز الملقب بالرفيع، له أشعار في غاية الحسن وديوان ورسائل. ورد جمال الدين الخجندي قزوين، وعقد مجلس الوعظ بالجامع، وذكر هذه الأبيات على المنبر، وذكر أنها للرفيع: بأبي أين أنت ألقاك؟ ... طال شوقي إلى محيّاك!

ورد الورد يدّعي سفهاً ... أنّ ريّاه مثل ريّاك! ووقاح الأقاح يوهمنا ... أنه افترّ عن ثناياك! ضحك الورد هاتها عجلاً ... قهوةً مثل عبرة الباك لست أدري لفرط خمرتها ... أمحيّاك أم حميّاك؟ هام قلبي بهذه وبذاك ... آه من هذه ومن ذاك! فهذه الأبيات حفظها أهل قزوين، ويقولون هدية جمال الدين الخجندي من أصفهان. وحكي أن صدر الدين الخجندي عزل خازن دار كتبه، فأراد الرفيع اللنباني أن يكون مكانه، فكتب إلى صدر الدين: سمع العبد أن خازن دار الكتب اختزل حتى اعتزل، وخان حتى هان، ولم يزالوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، والعبد خير منه زكاة وأقرب رحماً! وإن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين. وحكي أن الرفيع كان في خدمة الخجندية، فلما وقع الخلاف بين السلطان طغرل وأولاد أتابك محمد كان صدر الدين الجندي مع السلطان، فظفر أمير من أمراء أتابك محمد بجمع من أصحاب صدر الدين الخجندي، وكانوا يمشون من أصفهان إلى بغداد، وعليهم الرفيع، فظفر بهم قيماز الأتابكي فنهبهم وقتل الرفيع، فلما عرف أنه كان رجلاً فاضلاً من أهل العلم ندم، والرفيع كان قد نظم هذين البيتين: جون كشته بينم دولت كرده فران ... وار جان تهي اين قالب برورده بنان بر بالينم نشين ومي كوي بران ... اي من تو بكشته ونشيمان شده بان فكان الفأل على ما جرى.

ليخواست

ليخواست قرية من قرى نهاوند. كان بها صورة فرس من حشيش يراه الناس أخضر في الشتاء والصيف؛ قالوا: انه كان طلسم الكلأ، وكانت أكثر بلاد الله كلأ وحشيشاً. ماذران موضع بأرض قومس؛ قال مسعر بن مهلهل: بين سمنان والدامغان في بعض الجبال فلجة يخرج منها ريح شديدة في أوقات من السنة، فلا تصيب حيواناً إلا أتلفته، ولو كان مشتملاً بالوبر. وهذه الفلجة فرسخ واحد وفتحها نحو أربعمائة ذراع، ومقدار ما ينال أذاها فرسخان، لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم. يقال لهذه الفلجة وما يقرب منها ماذران؛ قال مسعر بن مهلهل: كنت مجتازاً بها في قفل فيه نحو مائتي إنسان ودواب، فهبت علينا الريح فما سلم منهم غيري ورجل آخر. كانت تتنا دابتان جيدتان، فوافتا بنا ازج صهريج كان في الطريق، فاستكنا بالازج وسدرنا ثلاثة أيام بلياليهن، ثم رجعنا إلى حالنا والدابتان نفقتا، ومن الله علينا بالنجاة. ماذروستان موضع على مرحلتين من حلوان، به ايوان عظيم وبين يديه دكة عظيمة وأثر بستان يقولون إنه بستان بهرام بن جور، زعموا أن الثلج يقع على نصفه الذي من ناحية الجبال، وأما النصف الذي يلي جانب العراق فلا يقع به الثلج أبداً، والله الموفق.

ماهاباذ

ماهاباذ قرية كبيرة قرب قاشان. أهلها شيعة امامية، ينسب إليها الأستاذ الفاضل البارع الحسن بن علي بن أحمد، الملقب بافضل الماهاباذي. كان بالغاً في علم الأدب عديم النظير في زمانه. وكان يقصده الناس من الأطراف للاشتغال، وكان عنده حلقة من الأدباء، وكان مخصوصاً بلطافة الطبع مع وفور الذكاء وحسن الشعر، ويوصي تلامذته بتحصيل العلم وتحقير المال. ومن شعره: يا ساعياً وطلاب المال همّته، ... إني أراك ضعيف العقل والدّين! عليك بالعلم لا تطلب به بدلاً ... واعلم بأنّك فيه غير مغبون العلم يجدي ويبقى للفتى أبداً ... والمال يفنى وإن أجدى إلى حين! هذاك عزٌّ وذا ذلٌّ لصاحبه! ... ماذا من البعد بين العزّ والهون؟ ماوشان كورة من كور همذان في واد بسفح جبل أروند مسيرة أيام، كثيرة الأشجار والمياه والثمار، ذكرها عين القضاة أبو المعالي عبد الله بن محمد، رحمه الله، في رسالته فقال: وكأني بالركب العراقي يوافون همذان، ويحطون رحالهم في محاني ماوشان، وقد اخضرت منها التلاع والوهاد، وألبسها الربيع حبرة يحسدها عليها البلاد، وهي تفوح كالمسك أزهارها، ويجري بالماء الزلال أنهارها، فنزلوا منها في رياض مؤنقة، واستظلوا بظلال أشجار مورقة، فجعلوا يكررون إنشاد هذا البيت، وهم يتنعمون بنوح الحمام وتغريد الهزار: حباك يا همذان الغيث من بلدٍ ... سقاك يا ماوشان القطر من وادي ومن عادة أهل همذان الخروج إلى ماوشان في الصيف، وقت إدراك المشمش،

المدائن

وأصحاب الأشجار لا يمنعون عنها أحداً، ويمكثون هناك أيام المشمش للتفرج والتنزه ويأكلون من ثمارها، ويكسرون من أشجارها ولا يمنعهم مانع، فإذا انتهت أيام المشمش رجعوا؛ وذكر أن صاحب ماوشان منع الناس عنها في بعض السنين، فلما كان من القابل لم تثمر أشجارها شيئاً، فعادوا لإطلاق الناس فيها. المدائن كانت سبع مدن من بناء الأكاسرة على طرف دجلة، وقيل: إنها من بناء كسرى الخير أنوشروان. سكنها هو وملوك بني ساسان بعده إلى زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وإنما اختار هذا الموضع للطافة هوائه وطيب تربته وعذوبة مائه؛ قال حمزة: هذا الموضع سمته العرب مدائن لأنها كانت سبع مدن، بين كل واحدة والخرى مسافة، وآثارها إلى الآن باقية وهي: اسفابور، به اردشير، هنبو سابور، دوزبندان، به از انديوخسرو، نونياباذ، كردافاذ. فلما ملك العرب ديار الفرس واختطت الكوفة والبصرة انتقل الناس إليهما، ثم اختط الحجاج واسطاً وكانت دار الامارة فانتقل الناس إليها، فلما اختط المنصور بغداد انتقل أكثر الناس إليها. فأما في وقتنا هذا فالمسمى بالمدائن بليدة شبيهة بقرية في الجانب الغربي من دجلة. أهلها فلاحون شيعة إمامية. ومن عادتهم أن نساءهم لا يخرجن نهاراً أصلاً. وبها مشهد رفيع البناء لأحد العلويين، وفي الجانب الشرقي منها مشهد سلمان الفارسي، رضي الله عنه، وله موسم في منتصف شعبان، ومشهد حذيفة ابن اليمان مشير رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وكان للأكاسرة هناك قصر اسمه أبيض، كان باقياً إلى زمن المكتفي في حدود سنة تسعين ومائتين، فأمر بنقضه وبنائه التاج الذي بدار الخلافة ببغداد، وتركوا منه الإيوان المعروف بإيوان كسرى. ذكر أنه من بناء انوشروان كسرى

الخير، وانه تعاون على بنائه الملوك وهو من أعظم الأبنية وأعلاها، والآن قد بقي منه طاق الإيوان وجناحات وازجة قد بنيت بآجر طوال عراض. وحكي أن أنوشروان لما أراد بناء هذا القصر أمر بشري ما حوله، وأرغب الناس في الثمن الوافر، ومن جملتهم عجوز لها بيت صغير قالت: لست ابيع جوار الملك بالدنيا كلها! فاستسحسن أنوشروان منها هذا القول وأمر بترك ذلك البيت على حاله، وإحكام عمارته، وبناء الإيوان محيطاً به. وإني رأيت الإيوان، وفي جانب منه قبة محكمة العمارة، يعرفها أهل الناحية بقبة العجوز. وكان على افيوان نقوش وصور بالتزاويق، وصورة مدينة أنطاكية وانوشروان يحاصرها ويحارب أهلها راكباً على فرس أصفر، وعليه ثياب خضر وبين يديه صفوف الفرس والروم، وكانت هذه النقوش على الإيوان باقية إلى زمان أبي عبادة البحتري، فإنه شاهدها وذكرها في قصيدته السينية: حضرت رحلي الهموم فوجّه ... ت إلى أبيض المدائن عنسي أتسلّى عن الخطوب وآسى ... لمحلٍّ من آل ساسان درس حللٌ لم تكن كأطلال سعدى ... في قفارٍ من البسابس ملس لو تراه علمت أنّ اللّيالي ... جعلت فيه مأتماً بعد عرس فإذا ما رأيت صورة أنطا ... كيّة ارتعت بين رومٍ وفرس والمنايا مواثلٌ وأنوشر ... وان يزجي الصّفوف تحت الدّرفس في اخضرارٍ من اللّباس على اص ... فر يختال في صبيغة ورس وعراك الرّجال بين يديه ... في خفوتٍ منهم وإغماض جرس من مشيحٍ يهوي بعامل رمحٍ ... ومليحٍ من السّنان بترس تصف العين أنّهم جدّ أحياءٍ ... لهم بينهم إشارة خرس وكأنّ الإيوان من عجب الصّن ... عة جوبٌ في جنب أرعن جلس

لم يعبه أن بزّ من بسط الدّيبا ... ج واستلّ من ستور الدّمقس مشمخرٌّ تعلو له شرفاتٌ ... رفعت من رؤوسٍ رضوى وقدس وحكي أن غلمان الدار شكوا إلى أنوشروان وقالوا: إن العجوز تدخن في بيتها، ودخانها يفسد نقوش الإيوان! فقال: كلما أفسدت أصلحوها ولا تمنعوها من التدخين! وكان للعجوز بقرة تأتيها آخر النهار لتحلبها، فإذا وصلت إلى الإيوان طووا فرشه لتمشي البقرة إلى باب قبة العجوز، فإذا فرغت من حلبها رجعت البقرة وسووا البساط. وكان هذا مذهبهم في العدل والرفق بالرعايا، ولولا مخالفة النبوة التي شرفها الله تعالى وشرف بها عباده، كانت معدلتهم تقتضي دوام دولتهم. مرو الروذ ناحية بين الغور وغزنة واسعة. ينسب إليها القاضي الإمام العالم الفاضل حسين المروروذي عديم النظير في العلم والورع: عقرت حوامل أن يلدن نظيره ... إنّ النّساء بمثله عقم حكي أن رجلاً جاء القاضي حسيناً وقال له: إني حلفت بالطلاق ثلاثاً ان ليس في هذا الزمان أعلم منك! فماذا تقول وقع طلاقي أم لا؟ فأطرق رأسه ساعة ثم رفع رأسه وبكى وقال: يا هذا لا يقع طلاقك، وإنما ذلك لعدم الرجال لا لوفور علمي!

مرو

مرو من أشهر مدن خراسان وأقدمها وأكثرها خيراً، وأحسنها منظراً وأطيبها مخبراً. بناها ذو القرنين، وقهندزها أقدم منها. قيل: إنه من بناء طهمورث. وروى بريدة بن الحصيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: يا بريدة إنه ستبعث من بعدي بعوث، فإذا بعثت فكن في بعث المشرق ثم في بعث خراسان ثم في بعث أرض يقال لها مرو، فإذا أتيتها فانزل مدينتها فإنه بناها ذو القرنين وصلى فيها عزير، وأنهارها تجري بالبركة، على كل نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهله السوء إلى يوم القيامة. فقدمها بريدة غازياً وأقام بها إلى أن مات. حكي أن قهندزها عمارة عظيمة، ولما أراد طهمورث الملك بناء قهندز مرو بني بألف رجل، وأقام لها سوقاً فيه ما يحتاجون إليه، فكان إذا أمسى الرجل أعطي درهماً فيشتري به ما يحتاج إليه فتعود الدراهم إلى أصحاب الملك، حتى إذا تم لم يخرج على البناء إلا ألف درهم. وحكى أبو إسحق الطالقاني قال: كنت على الزربق في مسجد العرب عند عبد الله بن المبارك، فانهار ركن من القهندز، فسقطت منها جماجم، فتناثرت من جمجمة أسنانها، فوزنت سنان منها فكان في كل واحدة منهما منوان، فجعل عبد الله بن المبارك ينقلهما بيده ويتعجب منها ويقول: إذا كانت هذه سنهم فكيف تكون بقية أعضائهم؟ وقال: أتيت بسنّين قد قدما ... من الحصن لمّا أثاروا الدّفينا على وزن منوين إحداهما ... لقد كان يا صاح سنّاً رزينا ثلاثون أخرى على قدرها ... تباركت يا أحسن الخالقينا فماذا يقوم بأفواهها ... وما كان يملأ تلك البطونا؟ إذا ما تذكّرت أجسامهم ... تصاغرت النّفس حتى تهونا

فكلٌّ على ذاك لاقى الرّدى ... فبادوا جميعاً وهم خامدونا وأما المدينة فطيبة كثيرة الخيرات وافرة الغلات. في أهلها من الرفق ولين الجانب وحسن المعاشرة. وكانت كرسي ملك بني سلجوق لهم بها آثار خيرات؛ حكى صاحب عجائب الأخبار انه كان بمرو بيت كبير، ارتفاعه قدر قامة، وكان محمولاً على صور أربع من الخشب في جوانبه الأربعة، وكانت الصور تمثال رجلين وامرأتين، فزعم قوم أن ذلك البيت بيت ملكهم، فنقضوه وانتفعوا بأخشابه، فأصاب مرو وقراها جوائح وآفات وقحط متواتر، فعلموا أن ذلك البيت كان طلسماً لدفع الآفت. وليس لهذه المدينة عيب إلا ما يعتري أهلها من العرق المديني، فإنهم في شدة عظيمة منه، قل ما ينجو منهم أحد في كل عام. ينسب إليها عبد الله بن المبارك الإمام العالم العابد؛ حكي انه كان بمرو قاض اسمه نوح بن مريم، وكان رئيسها أيضاً، وكانت له بنت ذات جمال خطبها جماعة من الأعيان والأكابر، وكان له غلام هندي ينطر بستانه، فذهب القاضي يوماً إلى البستان وطلب من غلامه شيئاً من العنب، فأتى بعنب حامض فقال له: هات عنباً حلواً! فأتى بحامض فقال له القاضي: ويحك! ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: بلى ولكنك أمرتني بحفظها وما أمرتني بأكلها، ومن لم يأكل لم يعرف. فتعجب القاضي من كلامه وقال: حفظ الله عليك أمانتك! وزوج ابنته منه فولدت عبد الله بن المبارك المشهور بالعلم والورع. كان يحج في سنة ويغزو في أخرى. وحكي انه كان معاصراً لفضيل بن عياض، وفضيل قد جاور مكة وواظب على العبادة بمكة والمدينة، فقال عبد الله بن المبارك: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنّك بالعبادة تلعب من كان يخضب خدّه بدمائه ... فنحورنا بدمائنا تتخضّب

وغبار خيل الله في أنف امريءٍ ... ودخان نار جهنّمٍ لا يذهب هذا كتاب الله يحكم بيننا ... ليس الشّهيد كغيره، لا تكذبوا حكي عنه قال: خرجت للغزوة، فلما تراءت الفتيان خرج من صف الترك فارسل يدعو إلى البراز، فخرجت إليه فإذا قد دخل وقت الصلاة، قلت له: تنح عني حتى أصلي ثم افرغ لك! فتنحى فصليت ركعتين وذهبت إليه فقال لي: تنح عن حتى أصلي أنا أيضاً! فتنحيت عنه، فجعل يصلي للشمس، فلما خر ساجداً هممت أن أغدر به فإذا قائل يقول: اوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً. فتركت الغدر. فلما فرغ من صلاته قال لي: لم تحركت؟ قلت: أردت أن أغدر بك! فقال: لم تركته؟ قلت: لأني أمرت بتركه. قال: الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالإيمان. وآمن والتحق بصف المسلمين. وحكى الحسن بن الربيع انه خرج ذات سنة مع جيوش المسلمين إلى الغزوة، فلما تقاتل الصفان خرج من صف الكفار فارس يطلب القرن، فذهب إليه فارس من المسلمين، فما أمهله، فأحجم الناس عن مبادرته ودخل المسلمين منه حزن. فإذا فارس خرج إليه من صف المسلمين وجال معه زماناً ثم رماه وحز رأسه، فكبر المسلمون وفرحوا ولم يكن يعرفه أحد، فعاد إلى مكانه ودخل في غمار الناس! قال الحسن: فبذلت جهدي حتى دنوت منه وحلفته أن يرفع لثامه، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقلت له: يا إمام المسلمين كيف أخفيت نفسك مع هذا الفتح الذي يسر الله على يدك؟ فقال: الذي فعلت له لا يخفى عليه. وحكي أن عبد الله بن المبارك عاد من مرو إلى الشام لعلم رآه معه بمرو صاحبه بالشام. ورئي سفيان الثوري في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: رحمني! فقيل: ما حال عبد الله بن المبارك؟ قال: هو ممن يدخل على ربه كل يوم مرتين. ولد سنة مائة وعشرين، وتوفي سنة مائة وإحدى وثمانين.

وينسب إليها أبو زيد المروزي، أستاذ أبي بكر القفال المروزي، حج سنة فعادله أبو بكر البزاز النيسابوري من نيسابور إلى مكة. قال: ما علمت أن الملك كتب عليك خطيئة، قال أبو زيد: فلما فرغت من الحج وعزمت الرجوع إلى خراسان قلت في نفسي: متى تنقطع هذه المسافة وقد طعنت في السن، لا أحتمل مشقتها! فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، قاعداً في صحن المسجد الحرام، وعن يمينه شاب، قلت: يا رسول الله عزمت على الرجوع إلى خراسان والمسافة بعيدة. فالتفت النبي، عليه السلام، إلى الشاب الذي بجنبه وقال: يا روح الله تصحبه إلى وطنه؛ قال أبو زيد: فأريت انه جبريل فانصرفت إلى مرو، ولم أحس بشيء من مشقة السفر. وينسب إليها أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله القفال المروزي. كان وحيد زمانه فقهاً وعلماً. رحل إليه الناس وصنف كتباً كثيرة، وانتشر علمه في الآفاق. حكي أن القفال الشاشي صنع قفلاً وفراشة ومفتاحاً وزنها دانق، فأعجب الناس ذلك وسار ذكره في البلاد، فسمع به القفال المروزي فصنع قفلاً وزنه طسوج، فاستحسنه الناس ولكن ما شاع ذكره، فقال ذات يوم: كل شيء يحتاج إلى الحظ! قفل الشاشي طنت به البلاد، وقفلي بقدر ربعه ما يذكره أحد فقال له صديق له: إنما الشاشي شاع بعلمه لا بقفله. فعند ذلك رغب في العلم، وهو ابن أربعين سنة، فجد في طلب العلم حتى وصل إلى ما وصل وعاش تسعين سنة: أربعين سنة قفالاً وخمسين سنة عالماً ومتعلماً. ومات سنة سبع عشرة وأربعمائة. وينسب إليها أبو الحرث سريج المروزي. كان شيخاً صالحاً صدوقاً. جاء له ولد فذهب إلى بقال بثلاثة دراهم: يريد بدرهم عسلاً، وبدرهم سمناً، وبدرهم سويقاً. فقال البقال: ما عندي من ذلك شيء، لكن احصله لك في الغد. فقال للبقال: فتش لعلك تجد قليلاً! قال: فمشيت فوجدت البراني والجرار مملوءة، فأعطيته منها شيئاً كثيراً. فقال: أوليس قلت ما عندي شيء منها؟ قلت له: خذ واسكت. فقال: لا آخذ حتى تصدقني. فأخبره بالحال فقال:

المشان

لا تحدث به ما دمت حياً. وحكى أبو الحرث قال: رأيت في المنام كأن الناس وقوف بين يدي الله تعالى صفوفاً، وأنا في الصف الأخير ونحن ننظر إلى رب العزة فقال: أي شيء تريدون أصنع بكم؟ فسكت الناس. قال أبو الحرث: فقلت في نفسي: ويحهم! قد أعطاهم كل ذا من نفسه وهم سكوت! فجعلت أمشي حتى جزت الصفوف إلى الأول فقال لي: أي شيء تريد؟ فقلت: يا رحمن إن أردت أن تعذبنا فلم خلقتنا؟ خلقتكم ولا أعذبكم أبداً. ثم غاب في السماء. المشان بليدة قريبة من البصرة كثيرة التمر والفواكه. وجرى المثل فيها بعلة الورشان تأكل رطب المشان، قيل: ان بعض الملوك مرض فأمره الأطباء بلحم الورشان، فأمر أن لا يمنع من يطلب له الوراشين في البساتين من النخيل، وكان طالب الوراشين يمد يده إلى الاعذاق، فقالوا: بعلة الورشان تأكل رطب المشان، وهي وخمة جداً، ومما يحكي العوام: قيل لملك الموت أين نجدك؟ قال: عند قنطرة حلوان، قيل: فإن لم نجدك؟ قال: لا أبرح عن مشرعة المشان. وإذا سخط ببغداد على أحد من أهل الفساد ينفى إلى المشان، ليتأدب بالغربة ووخامة الهواء وملوحة الماء وكثرة المرض. وينسب إليها أبو محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات الحريرية التي هي من الأعاجيب. ومن عجيب ما حكي عنه انه كان مشغوفاً بنتف اللحية، وهو مرض من غلبة السوداء، فوكل به شخص يمنعه من ذلك. فلما عرض المقامات على الوزير، وأعجب الوزير صنعته، سأله عن حاجته فقال: ملكني لحيتي!

المطيرة

المطيرة من قرى سامرا أشبه أرض الله بالجنان من لطافة الهواء وعذوبة الماء وطيب التربة وكثرة الرياحين. وهي من متنزهات بغداد يأتيها أهل الخلاعة. وصفها بعض الشعراء فقال: سقياً ورعياً للمطيرة موضعاً! ... أنوارها الخيريّ والمنشور فيها البهار معانقاً لبنفسجٍ ... فكأنّ ذلك زائرٌ ومزور وكأنّ نرجسه عيونٌ كحلها ... بالزّعفران، جفونها الكافور تحيا النّفوس بطيبها فكأنّها ... وصل الحبيب يناله المهجور الموصل المدينة العظيمة المشهورة التي هي إحدى قواعد بلاد الإسلام، رفيعة البناء ووسيعة الرقعة محط رحال الركبان. استحدثها راوند بن بيوراسف الازدهاق على طرف دجلة بالجانب الغربي. والآن لها سور وفصيل وخندق عميق وقهندز، وحواليها بساتين. وهواؤها طيب في الربيع، أما في الصيف فأشبه شيء بالجحيم! فإن المدينة حجرية جصية تؤثر فيها حرارة الصيف، تبقى كالشاخورة، وخريفها كثير الحمى تكون سنة سليمة والأخرى موبئة، يموت فيها ما شاء الله. وشتاؤها كالزمهرير. بها أبنية حسنة وقصور طيبة على طرف دجلة. وفي نفس المدينة مشهد جرجيس النبي، عليه السلام. وفي الجانب الشرقي منها تل التوبة، وهو التل الذي اجتمع عليه قوم يونس لما عاينوا العذاب، وتابوا وآمنوا فكشف الله تعالى عنهم العذاب. وعلى التل مشهد مقصود يقصده الناس كل ليلة جمعة وينذر له النذور. وبها بساتين نزهة. وفيها جواسق في غاية الحسن والطيب. وأهل الموصل

انتفعوا بدجلة انتفاعاً كثيراً مثل شق القناة منها، ونصب النواعير على الماء يديرها الماء بنفسه، ونصب العربات وهي الطواحين التي يديرها الماء في وسط دجلة في سفينة، وتنقل من موضع إلى موضع، وفي الجانب الشرقي عند انتقاص الماء يبقى على طرف دجلة ضحضاح على أرض ذات حصباء، يتخذ الناس عليها سرراً وقباباً من القصب في وسط الماء، يسمونها السواريق ويبيتون فيها ليالي الصيف. يكون هواؤها في غاية الطيب، وإذا نقص الماء وظهرت الأرض زرعوا بها القثاء والخيار، فتكون حول القباب مقثاة ويبقى ذلك إلى أول الشتاء. وأهلها أهل الخير والمروءة والطباع اللطيفة في المعاشرة والظرافة، والتدقيق في الصناعات، وما فيهم إلا من يحب المختطين؛ قال الشاعر: كتب العذار على صحيفة خدّه ... سطراً يلوح لناظر المتأمّل بالغت في استخراجه فوجدته ... لا رأي إلاّ رأي أهل الموصل ينسب إليها جمال الدين الموصلي. كان من كرام الدنيا، أصله من أصفهان. توزر من صاحب الموصل، وكان يعطي أكثر من عبر الموصل، فعرف الناس أن عنده الكيمياء، وكل من سأله أعطاه. وحكي أن رجلاً صوفياً قال له: أنت الجمال الموصلي؟ قال: نعم. قال: اعطني شيئاً! قال له: سل ما شئت. فنزع طرطوره وقال: املأ هذا دراهم! فقال: اتركه عندي وارجع غداً خذه! فتركه عنده، فلما عاد أعطاه إياه مملوءاً من الدراهم، فأخذه وخرج ثم عاد وقال: ما لي إلى هذا حاجة، وإنما أردت أن أجربك هل أنت أهل لهذه الصنعة أم لا، فعرفت أنك أهل، وأنت ما تعرف إلا عمل الفضة، أريد أن أعلمك عمل الذهب أيضاً. فعلمه وذهب. وحكي انه استأذن من الخليفة أن يلبس الكعبة في بعض السنين، فأذن له فأخذ للكعبة لباساً أخضر، ونثر على الكعبة مالاً كثيراً، وأعطى أهل مكة وضعفاء الحاج أموالاً وسار ذكره. في الآفاق.

وحكي أنه كان بينه وبين بعض الأمراء صداقة، فتعاهدا على أن من مات منهما أولاً فصاحبه يحمله إلى البقيع، فمات الجمال الموصلي أولاً في سنة خمسين وخمسمائة. فاشترى ذلك الأمير جمالاً كثيرة. وعين قوماً من الصلحاء وأقواماً من المقرئين، وأموالاً للصدقة عنه في كل منزل، وقال: الجمال الموصلي لا يبعث إلى البقيع إلا هكذا. ودفنه بالبقيع بهذا الاحترام. وينسب إليها الشيخ كمال الدين بن يونس. كان جامعاً لفنون العلوم عديم النظير في زمانه، في أي فن باحثته فكأنه صاحب ذلك الفن من المنقول والمعقول. وأما فن الرياضيات فكان فيه منفرداً. ومن عجيب ما رأيت منه أن الفرنج في زمن الملك الكامل بعثوا إلى الشام مسائل ارادوا جوابها: منها طبية، ومنها حكمية، ومنها رياضية. أما الطبية والحكمية فأجاب عنها أهل الشام، والهندسية عجزوا عنها. والملك الكامل أراد أن يبعث جواب الكل، فبعثوا إلى الموصل إلى المفضل ابن عمر الأبهري أستاذنا، وكان عديم النظير في علم الهندسة، فأشكل الجواب عليه، فعرضه على الشيخ ابن يونس، فتفكر فيه وأجاب عنه، والمسألة هذه نريد أن تبين قوساً أخرجنا لها وتراً، والوتر أخرج من الدائرة عملنا عليه مربعاً، تكون مساحة المقوس كمساحة المربع، هذه صورتها: فكتب برهانه المفضل وجعله رسالة بعث بها إلى الشام إلى الملك الكامل، فلما مشيت إلى الشام رأيت فضلاء الشام يتعجبون من تلك الرسالة، ويثنون على استخراج ذلك البرهان، فإنه كان نادر الزمان. وينسب إليها الشيخ فتح الموصلي. كان الغالب عليه الخوف والبكاء، وفي أكثر أوقاته كان باكياً. فلما توفي رئي في المنام، قيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه وقال: ما الذي أبكاك؟ فقلت: يا رب الخجالة من ذنوبي! فقال: وعزتي وجلالي، أمرت ملك الذنوب أن لا يكتب عليك أربعين سنة لبكائك من هيبتي!

ميسان

ميسان كورة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط، أهلها شيعة طغاة، بها مشهد عزير النبي، عليه السلام، مشهور معمور يقوم بخدمته اليهود، وعليه وقوف وتأتيه النذور. وحكي أن النعمان بن عدي كان من صلحاء الصحابة من مهاجرة الحبشة، وكان عمر بن الخطاب يولي أحداً من بني النعمان لصلاحة ميسان، فأراد النعمان أن يخرج معه زوجته فأبت، فكتب النعمان إليها من ميسان ما يحرضها على المجيء إلى زوجها: ألا هل أتى الحسناء أنّ حليلها ... بميسان يسقى من زجاجٍ وحنتم؟ إذا شئت عنّيني دهاقين قريةٍ ... وصنّاجةٍ يجثو على حرف ميسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلّم لعلّ أمير المؤمنين يسوءه ... ينادمنا في الجوسق المتهدّم! فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني قولك لعل أمير المؤمنين يسوءه. وايم الله قد ساءني وعزلتك! فلما قدم وسأله عن ذلك قال: والله ما كان من ذلك شيء وما شربتها قط، وإنما كان ذلك فضل شعر! فقال عمر: أظن ذلك لكن لا تعمل لي عملاً قط. ناووس الظبية موضع بقرب همذان؛ وقال ابن الفقيه: هذا الموضع عند قصر بهرام جور، وهو على تل مشرف حوله عيون كثيرة وأنهار غزيرة، ومن حديثه: انه خرج بهرام جور، وهو أحد الأكاسرة، متصيداً، وكان حاذقاً بالرمي، وأخرج معه جارية من أحظى جواريه. فعن له سرب ظباء فقال لها: كيف تريدين أن أرمي

نسا

ظبية منها؟ فقالت: أريد أن تلصق ظلفها بأذنها! فتحير بهرام وقال في نفسه: إن لم أفعل قيل انه شهى جارية ولم يف بها. فأخذ الجلاهق وعين ظبية فرماها ببندقية فأصاب أذنها، فرفعت رجلها تحك بها أذنها، فانتزع سهماً فرماها فخاط به ظلفها بأذنها، ثم قتل الجارية ودفنها مع الظبية في ناووس واحد، وبنى عليهما علماً من حجارة وكتب عليها قصتها وقال: إنما قتلت الجارية لأنها قصدت تعجيزي وكادت تفضحني! قال ابن الفقيه: والموضع معروف إلى وقتنا بناووس الظبية. نسا مدينة بخراسان بقرب سرخس وابيورد، بناها فيروز بن يزدجرد أحد الأكاسرة. وكان يقال لها شهر فيروز، وهي مدينة طيبة كثيرة الأنهار والأشجار إلا أنها وبئة ويكثر بها العرق المديني، حتى انه في الصيف قل من ينجو منه. بها رباط بناه رئيسها عماد الدين حمزة النسوي، وهو رباط عظيم خارج المدينة بين الباغات، ليس في شيء من البلاد مثله في عظم العمارة وكثرة الخير. حكي عنه انه قال: كنت على عزم أن أبني موضعاً لأهل الخير متردداً في أن أجعله مدرسة أو خانقاهاً، حتى رأيت في نومي أن قائلاً يقول: من آتاه الله روحاً فأعطه الخير! فأمر بعمارة بناء عظيم للفقهاء موضعاً، وللصوفية موضعاً، وللقدرية موضعاً، وللعلويين موضعاً، وللقفل السابلة موضعاً، ولدوابهم موضعاً. وأجرى الخبز والمأكول على كل من له روح، وجعل فيها حمامات ولها بساتين. واشترى لها مماليك برسم الفرش والخدمة والطبخ وفلاحة البساتين، فكل من نزل بها يمشي إلى مكانه ويقوم القوام بخدمته. ولها قراء ومغنون، ولا تزال قدورها على النار، فربما نزل بهم قفل عظيم أو جيش كثيف، فأخرجوا وظائفهم حتى لدوابهم وكلابهم. ومن أراد من أهل المدينة خرج إليها وتفرج في بساتينها، واستحم في حمامها وتغدى أو تعشى فيها وعاد إلى مكانه.

نخشب

وكان الأمر على ذلك إلى ورود التتر. والآن سألت بعض فقهاء خراسان عنها فذكر انه بقي منها بقية. نخشب مدينة مشهورة بأرض خراسان. منها الأولياء والحكماء، ينسب إليها الحكيم ابن المقفع الذي أنشأ بنخشب بئراً يصعد منها قمر يراه الناس مثل القمر، واشتهر ذلك في الآفاق، والناس يقصدون نخشب لرؤيته ويتعجبون منه، وعوام الناس يحسبونه سحراً، وما كان إلا بطريق الهندسة وانعكاس شعاع القمر، لأنهم وجدوا في قعر البئر طاساً كبيراً مملوءاً زئبقاً، وفي الجملة قد اهتدى إلى أمر عجيب سار في الآفاق، واشتهر حتى ذكره الناس في الأشعار والأمثال، وبقي ذكره بين الناس. وينسب إليها أبو تراب عسكر بن الحصين النخشبي، صاحب حاتم الأصم. كان يقول: بيني وبين الله عهد أن لا أمد يدي إلى حرام إلا وقد قصرت عنه؛ حكي انه دخل بادية البصرة يريد مكة، فسئل عن أكله بمكة فقال: خرجت من البصرة فأكلت بالنباج ثم بذات عرق ومن ذات عرق إليك. وحكي عنه انه قال: كنت في بعض أسفاري فاشتهيت الخبز السميد مع بيض الدجاج، فعدلت عن طريقي وقصدت قرية لتحصيل ذاك، فإذا أنا في الطريق إذ تعلق بي شخص وقال: هذا لص قاطع الطريق، أخذ مني متاعي في الطريق! فحملوني إلى رئيس القرية فضربني سبعين خشبة، فإذا رجل منهم عرفني وقال: هذا أبو تراب النخشبي، ليس من شأنه ما تدعون عليه، فنزعني من يدهم وأدخلني بيته، وجعل بين يدي الخبز السميد وبيض الدجاج، فقلت لنفسي: خذ شهوتك مع سبعين خشبة! وتبت أن أشتهي بعد ذلك. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.

نصراباذ

نصراباذ من قرى خراسان، ينسب إليها أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي، من مشايخ خراسان. صحب الشبلي وأبا علي الروذباري والمرتعش. حج ستين حجة، قال: فلما تممت الستين أراد الشيطان أن يلقي إلي شيئاً من العجب، فقال: من مثلك وقد حججت ستين حجة؟ فقام على ملإ من الناس ونادى: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو القاسم النصراباذي، حججت ستين حجة، من يشتري ثوابها برغيفين؟ فقام واحد وقال: خذ ثمنها يا أبا القاسم. فأخذ منه ورماهما إلى كلب، فسمع هاتف يقول: غفرنا لك يا أبا القاسم وأثبتنا ثواب الحج لك ولمن اشتراها، وقبلنا حج كل من حج في هذه السنة لأجلك! جاور مكة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي بها سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. نصيبين مدينة عامرة من بلاد الجزيرة بقرب سنجار. وهي كثيرة المياه والأشجار والبساتين، مسورة ولا قهندز. ذكر أن لها ولقراها أربعين ألف بستان، ظاهرها في غاية النزاهة وباطنها يضاد ظاهرها. وهي وخمة لكثرة مياهها وأشجارها مضرة سيما بالغرباء، فإنه قلما تخطيء سهامها في الغرباء. وحكي أن بعض التجار أراد دخول نصيبين، وكان به عقابيل المرض وصفرة اللون، فتمسك بكمه بعض ظرفاء نصيبين وقال: ما أخليك تدخل حتى تشهد على نفسك شاهدين عدلين انك ما دخلت نصيبين إلا على هذه الصفة، كيلا يقال امرضته نصيبين! وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انه قال: رفعت لي ليلة أسري بي مدينة فأعجبتني فقلت لجبريل: ما هذه المدينة؟ فقال: نصيبين. قلت: اللهم عجل فتحها واجعل فيها بركة للمسلمين!

نضيراباذ

ومن خاصية نصيبين أنها لا تقبل العدل البتة بل سوق الظلم بها قائم، ولو كان واليها كسرى الخير، ولهذا قال بعض الشعراء: نصيب نصيبين من ربّها ... ولاية كلّ ظلومٍ غشوم! فباطنها منهم في لظىً ... وظاهرها من جنان النّعيم! وعقارب نصيبين مما يضرب بها المثل؛ حكى أحمد بن الطيب السرخسي أن أنوشروان حاصر نصيبين، فامتنع أهلها ولم يستطع فتحها، فأشار إليه بعض الحكماء ان يحمل عقارب طيرانشاه، وهي قرية من أعمال شهرزور كثيرة العقارب، في جرار، وتحمل إلى نصيبين وترمى إليها بالعرادة، ففعل ذلك فانتشرت العقارب في جميع المدينة، ولدغت أهلها فأصابوا منها بلاء عظيماً وتقاعدوا عن القتال ففتحها أنوشروان، وذلك أصل عقارب نصيبين. وحكي أن عامل معاوية بنصيبين كتب إلى معاوية أن جماعة كثيرة من المسلمين الذين كانوا معه أصيبوا بالعقارب، فكتب إليه معاوية يأمره أن يوظف على كل أهل خير من المدة عدة عقارب في كل ليلة، ففعل ذلك، فهم يأتون بها وهو يأمر بقتلها حتى قلت. نضيراباذ قرية من قرى قزوين قريبة منها، كثيرة الخيرات والغلات، وكانت ملكاً لفخر المعالي بن نظام الملك. وكان شيخ القرية رجلاً ظريفاً وفخر المعالي أيضاً كذلك، كانا يتظارفان؛ حكي أن شيخ القرية دخل على فخر المعالي فوجده يسرح لحيته بمشط فقال: أيها المولى، لم تسرح اللحية؟ فقال: لأنه يزيل الغم. فقال: من كان لهغم يسرح لحيته فيزول غمه؟ قال: نعم، فقد اتفق انه جاء ذات مرة عسكر وأكلوا زرع القرية ونهبوها، فجاء شيخ القرية إلى فخر المعالي وقال: احضر المشط! قال: لم؟ قال: حتى أقول أنا وتسرح أنت

النعمانية

فإني جئت بغم كثير. وحكي أنه استقرض شيخ القرية من فخر المعالي شيئاً من الحنطة، فقال فخر المعالي: ابعث إليك. فبعث إليه أحمالاً من البعر! فلما كان وقت النيروز وعادتهم ان الاكرة يحملون إلى الدهخدا هدايا، من جملتها سلال فيها أقراص مدهونة وكليجات وجرادق، فبعث شيخ القرية في السلال أقراصاً من السرجين، فلما رآها فخر المعالي غضب. قال له شيخ القرية: يا مولاي، لا تغضب، انها من الحنطة التي بعثتها إلي! ولهم مثل هذا تظارف كثيرة يعرفها أهل قزوين وبهذا مقنع. النعمانية بليدة بين بغداد وواسط، كثيرة الخيرات وافرة الغلات، ولها قرى ورساتيق. بناها النعمان بن المنذر بن قيس بن ماء السماء. سكنها زماناً رافيء الحال فارغ البال في أيام الأكاسرة إلى أن قضى الله تعالى ما شاء. وصلت ذات مرة إليها فنزلت في جامعها، فاجتمع علينا من النمل الكبير الأسود شيء كثير، فقال بعض أهلها: نصف البلد هكذا، والنصف الآخر لا يوجد فيه شيء منها. وحكي أن النعمان كان له صاحبان: أحدهما عدي بن زيد العبادي، والآخر الربيع بن زياد. والربيع كان أقرب إليه حتى كان يأكل معه في قصعة واحدة، فحسدهما الحاسدون. أما الربيع فرموه بالبرص لأن النعمان كان شديد التنفر من البرص. كتبوا إليه: يا ابن الملوك السادة الهبنقعه، الضاربين الهام تحت الخيضعه، مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه! ان استه من برص ملمعه، وانه يدخل فيه إصبعه، كأنه يطلب شيئاً ضيعه! فأبعده النعمان وتنفر منه أشد التنفر، فقال الربيع: أبيت اللعن! لا تسمع كلام الأعداء وقل لمن يبصرني ويجربني! فقال النعمان:

شرّد برجلك عنّا حيث شئت ... ولا تكثر عليّ ودع عنك الأقاويلا فقد رميت بداءٍ لست غاسله ... ما جاوز النّيل يوماً شطّ ابلبلا قد قيل ذلك إن حقّاً وإن كذباً ... فما اعتذارك عن قولٍ إذا قيلا؟ وأما عدي بن زيد فقد سعوا به حتى أبعده النعمان، وكان ابنه زيد بن عدي كاتباً لكسرى في المكاتبات العربية، فذكر لكسرى حبس أبيه، فبعث كسرى إلى النعمان يأمره بالإفراج، فلما وصل الرسول بعث عدي إلى الرسول يقول: أبصرني قبل أن تمشي إلى النعمان حتى لا يقول النعمان انه مات! فقال الرسول: أخاف من مؤاخذة كسرى، فإنه ما بعثني إلا إلى النعمان. فلما أدى الرسول الرسالة قال النعمان: عدي من زمان مات! وأمر بقتله. وعرف الحال زيد بن عدي فطلب فرصة لينتقم من النعمان، وكان كسرى مشغوفاً بالنساء، أي امرأة حسناء ذكرت عنده يرسل إلى تحصيلها، فكان يجري في مجلسه ذكر النساء. قال زيد بن عدي: ان لعبدك النعمان بنات في غاية الحسن والجمال، إن اقتضى رأي الملك يبعثني إليه أخطب بناته للملك! فبعثه كسرى مع بعض خواصه من العجم، فقال النعمان: إن للملك في مها العجم لمندوحة عن سودان العرب! فقال زيد للعجمي: احفظ ما يقوله حتى تقول لكسرى! فلما عاد إلى كسرى قال: ما معنى هذا الكلام؟ قال زيد: يقول الملك له بقر العجم، ما له ولكحلاوات العرب؟ فتأذى كسرى من هذا وبعث إليه يطلبه، فهرب النعمان في البرية، فما كان حي من الأحياء يحويه خوفاً من كسرى، وكلما أتى عليه الوقت ذهب ماله وقل عدده، فرأى أن يأتي كسرى تائباً. فلما وصل أمر كسرى بنصب القباب وإخراج جميع جواريه يرقصن في غناء عجمي معناه: من له كلنا أي حاجة له إلى البقر؟ فلما دخل دهليز كسرى قبض عليه وأمر بإلقائه تحت أرجل الفيل؛ قال الشاعر: فأدخل بيتاً سقفه صدر فيلةٍ ... بساباط والحيطان منه قوائمه

نهاوند

نهاوند مدينة بقرب همذان قديمة؛ قالوا: إنها من بناء نوح، عليه السلام، واللفظ دل عليه وأصله نوح اوند أي نوح وضع. بها عجائب. بها موضع يقال له وازوان البلاعة، به حجر كبير فيه ثقبة فتحها أكبر من شبر، يفور منها الماء كل يوم مرة، فيخرج وله صوت عظيم يسقي أراضي كثيرة، ثم يتراجع حتى يدخل ذلك الموضع الذي خرج منه. وحكى ابن الكلبي أن هذا الحجر مطلسم، لا يخرج الماء منه إلا وقت الحاجة، ويفور حتى يستغنى عنه؛ قال: وهذا مشهور في تلك الناحية. وبها صخرة عظيمة في جبلهم، من غاب له غائب أو أبق له آبق أو مرض له مريض أو سرق منه شيء، فياتي تلك الصخرة ويبيت عندها، فإنه يرى في نومه حاصل ذلك الأمر من خير وشر؛ قال صاحب تحفة الغرائب: بقرب نهاوند عين في شعب جبل، من احتاج إلى الماء لسقي الأرض يمشي إليها، ويدخل الشعب ويقول بصوت رفيع: إني محتاج إلى الماء. ثم يمشي نحو زرعه فالماء يمشي نحوه، فإذا انقضت حاجته يرجع إلى الشعب نحو العين ويقول: قد كفاني الماء. ويضرب برجله على الأرض فالماء ينقطع؛ هذا كلام صاحب تحفة الغرائب. ومن عجائبها ما ذكره ابن الفقيه من أمر قصب الذريرة، فما دام بنهاوند أو شيء من رساتيقها فهو بمنزلة الخشب لا رائحة له، فإذا حمل منها وجاوزوا به العقبة التي يقال لها عقبة الركاب فاحت رائحته، فإن سلكوا به غير تلك العقبة يبقى بحاله لا يصلح إلا للوقود. ومن عجائبها طين أسود يوجد على حافات نهر نهاوند. له خواص كثيرة: زعم أهل الناحية أن ذلك الطين تخرجه السراطين من جوف النهر وتلقيه، ولو حفروا جميع جوانب النهر وقراره لم يجدوا شيئاً من ذلك الطين. وحكى مسعر بن مهلهل أن على جبل نهاوند ثوراً وسمكة منحوتة من الحجر

النهروان

في أحسن صنعة؛ قالوا: إنهما طلسمان لآفات المدينة. ويكثر بنهاوند شجر الخلاف ما في شيء من البلاد بكثرتها، تتخذ منها الصوالج وتحمل إلى سائر البلاد. النهروان كورة واسعة بين بغداد وواسط في شرقي دجلة، كانت من أجمل نواحي بغداد وأكثرها دخلاً، وأحسنها منظراً وأبهاها فخراً. أصابتها عين الزمان فخربت بسبب الاختلاف بين الملوك السلجوقية وقتال بعضهم بعضاً. وكانت ممر العساكر فجلا عنها أهلها واستمر خرابها، والآن مدنها وقراها تلال والحيطان قائمة، ثم بعد خرابها من شرع في عمارتها من الملوك مات قبل تمامها، حتى اشتهر ذلك واستشعر الملوك من تجديد عمارتها وتطيروا بها إلى زمن المقتفي. فاراد بهرور الخادم عمارتها فقالوا له: ما شرع في عمارتها أحد إلا مات قبل تمام عمارتها! فشرع في عمارتها غير ملتفت إلى هذا القول، فمات أيضاً قبل تمامها، فبقيت على حالها إلى زماننا هذا. ينسب إليها القاضي أبو الفرج بن المعافى بن زكرياء النهرواني. كان عالماً فاضلاً مشهوراً وحيد دهره. قال: حججت سنة فإذا أنا بمنى ينادي مناد يقول: يا أبا الفرج! قلت: يطلب غيري. ثم قال: يا أبا الفرج بن المعافى! قلت: لعل شخصاً وافق اسمه واسم أبيه اسمي واسم أبي. ثم قال: يا أبا الفرج بن المعافى بن زكرياء! فما أجبت. ثم قال: يا أبا الفرج بن المعافى بن زكرياء النهرواني! فقلت: الآن اتضح اني أنا المطلوب. فقلت: ها أنا ذا، ماذا تريد؟ فقال: لعلك أنت من نهروان الشرق! قلت: نعم! قال: إني أريد من هو من نهروان الغرب.

نيسابور

نيسابور مدينة من مدن خراسان، ذات فضائل حسنة وعمارة، كثيرة الخيرات والفواكه والثمرات، جامعة لأنواع المسرات، وعتبة الشرق، ولم يزل القفل ينزل بها. وانها كانت مجمع العلماء ومعدن الفضلاء. وكان عمرو بن الليث الصفار يقول: أقاتل على بلدة حشيشها الريباس، وترابها البقل، وحجرها الفيروزج. وإنما قال ذلك لأن بها ريباساً ليس في جميع الأرض مثله، قد يكون واحدها خمسة أرطال وأكثرها رطلان أو ثلاثة. وهي صادقة البياض كأنها الطلع، وإنما عنى بالبقل الطين المأكول الذي لا يوجد مثله في جميع الأرض. يحمل إلى أداني الأرض وأقاصيها لتحفة الملوك، وربما بيع رطل منه بمصر بدينار واحد، وبالغ محمد بن زكرياء في خواص هذا الطين ومنافعه. وقال أبو طالب المأموني: خذ لي من البقل فذاك الذي ... منها خلقنا وإليها نصير كأنّه للعين لمّا بدا ... أحجار كافورٍ عليها عبير وبها معادن الفيروزج. ذكروا أن تلك المعادن آبار ظهر فيها العقارب فامتنع الناس عنها، ولما دخلها إسماعيل بن أحمد الساماني. وكان ملكاً عادلاً، قال: يا لها من مدينة لو لم يكن بها عيبان! قيل: ما هما؟ قال: كان ينبغي أن تكون مياهها التي في باطن الأرض على ظاهرها، ومشايخها الذين على ظاهرها في باطنها. وكانت نيسابور من أحسن بلاد الله وأطيبها. خرج الغز على السلطان سنجر ابن ملكشاه السلجوقي، وكسروه وأسروه وبعثوا جمعاً إلى مدينة نيسابور، وذلك في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، فقاتلهم أهل نيسابور أشد القتال لأنهم كانوا كفاراً نصارى، فجاءهم ملك الغز وحاصرهم حتى استخلصها عنوة، وقتلوا كل من وجدوه وخربوها وأحرقوها، فانتقل الناس إلى الشاذياخ وعمروها

وسوروها حتى بقيت مدينة طيبة أحسن من المدينة الأولى، وصارت المدينة الأولى متروكة، وصارت مجامع أهلها مكان الوحوش ومراتع البهائم، فسبحان من لا يعتريه الزوال وكل ما سواه يتغير من حال إلى حال! ينسب إليها الإمام العلامة رضى الدين النيسابوري، قدوة العلماء وأستاذ البشر. كان أصله من نيسابور ومسكنه بخارة، وكان على مذهب الإمام أبي حنيفة، وكان في حلقة درسه أربعمائة فقيه فضلاء، وانه سلك طريقاً لم يسلكه من كان قبله. وكان علم المناظرة قبله غير مضبوط فأحدث له ضبطاً وترتيباً، وبذلك فاقت تلامذته جميع علماء زمانهم. وله على كل من يسمى باسم الفقيه منة، لأن الفقهاء بعده على طريقه وترتيبه. وينسب إليها الأستاذ قدوة المشايخ أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة القشيرية، كان وحيد دهره علماً وورعاً. حكي انه إذا دخل على نظام الملك الحسن بن علي بن إسحق، قام من مكانه وقعد بين يديه، وإذا دخل عليه إمام الحرمين يقوم له ويقعده بجنبه، فسئل نظام الملك عن ذلك فقال: لأن أبا القاسم القشيري إذا دخل علي يذمني فيما أعمله، وأما إمام الحرمين فإنه يمدحني فيما أعمله. فيا لله من شيخ إذا دخل على وزير المشرق والمغرب يذم أفعاله ولا يبالي بسلطنته! ويا لله من وزير من ذمه في أفعاله أكرم عليه ممن مدحه! وحكي أن الملك لما صار لطغرلبك السلجوقي واستوزر أبا نصر الكندري، كان السلطان معتزلياً والوزير شيعياً، أمرا بلعن جميع المذاهب يوم الجمعة على رؤوس المنابر. فعند ذلك فارق الأستاذ أبو القاسم مملكة طغرلبك وقال: لا أقيم في أرض يلعن بها المسلمون! وإمام الحرمين أيضاً ذهب إلى أرض الحجاز. وتوفي أبو القاسم سنة خمس وستين وأربعمائة. ينسب إليها من الحكماء عمر الخيام. كان حكيماً عارفاً بجميع أنواع الحكمة سيما نوع الرياضيات. وكان في عهد السلطان ملكشاه السلجوقي سلم إليه مالاً كثيراً ليشتري به آلات الرصد ويتخذ رصد الكواكب، فمات السلطان

وما تم ذلك. وحكي انه نزل ببعض الربط، فوجد أهلها شاكين من كثرة الطير ووقوع ذرقها وتنجس ثيابهم بها، فاتخذ تمثال الطير من الطين ونصبه على شرفة من شرفات الموضع فانقطع الطير عنها. وحكي أن بعض الفقهاء كان يمشي إليه كل يوم قبل طلوع الشمس، ويقرأ عليه درساً من الحكمة، فإذا حضر عند الناس ذكره بالسوء، فأمر عمر بإحضار جمع من الطبالين والبوقيين وجباهم في داره، فلما جاء الفقيه على عادته لقراءة الدرس، أمرهم بدق الطبول والنفخ في البوقات، فجاءه الناس من كل صوب، فقال عمر: يا أهل نيسابور هذا عالمكم يأتيني كل يوم في هذا الوقت، ويأخذ مني العلم، ويذكرني عندكم بما تعلموني، فإن كنت أنا كما يقول فلأي شيء يأخذ علمي، وإلا فلأي شيء يذكر الأستاذ بالسوء؟ وينسب إليها أبو حمزة الخراساني. كان من أقران الجنيد وأبي تراب النخشبي وأبي سعيد الخراز. قال: حججت في بعض السنين، فبينما أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر، فنازعتني نفسي أن أستغيث حتى يأتيني أحد، فخالفت النفس وقلت: والله لا أستغيث؛ فما استتمت هذه الخطرة حتى أتى برأس البئر رجلان أحدهما يقول للآخر: تعال تى نسد رأس هذه البئر كيلا يقع إنسان فيها. فأتيا بقصب وبارية وسدا رأس البئر، فهممت أن أصيح ثم قلت في نفسي: أصيح إلى من هو أقرب منهما. فسكت. فبينما أنا بعد ساعة إذ جاء شيء وكشف رأس البئر وأدلى رجليه فكأنه يقول في همهمته: تعلق بي! فتعلقت به فأخرجني، فإذا هو سبع، فهتف بي هاتف: أليس هذا أحسن؟ نجيناك بالمتلف من التلف! وينسب إليها أبو القاسم المنادي. وينسب إليها أبو الطيب سهل الصعلوكي. تصدر للقضاء والتدريس بنيسابور واجتمع عليه فقهاء خراسان، ووضع في مجلسه خمسمائة محبرة عند إملائه.

قيل: جاء في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى على رأس كل مائة يبعث من يجدد دينه. فذكر الأصحاب انه على رأس المائة عمر ابن عبد العزيز، وعلى المائتين محمد بن ادريس الشافعي، وعلى الثلاثمائة أبو العباس أحمد بن سريج، ونظم هذا المعنى بعض أهل العلم فقال: إثنان قد مضيا وبورك فيهما: ... عمر الخليفة ثمّ خلف السّؤدد الشّافعيّ الألمعيّ محمّدٌ ... إرث النّبوّة وابن عمّ محمّد وابشر أبا العبّاس إنّك ثالثٌ ... من بعدهم، سقياً لتربة أحمد فقام رجل في مجلس أبي الطيب سهل الصعلوكي، وأنشد تلك الأبيات وألحق بها: والرّابع المشهور سهلٌ بعدهم ... أضحى إماماً عند كلّ موحّد لا زال فيما بيننا علم الهدى ... للمذهب المختار خير مؤيّد فسكت الشيخ وغمه ذلك وتوفي في تلك السنة. حكى أبو سعيد الشحامي قال: رأيت أبا الطيب الصعلوكي في النوم بعد وفاته فقلت: أيها الشيخ! فقال: دع الشيخ! قلت: وتلك الأحوال التي شاهدتها؟ قال: لم تغن عنا شيئاً! قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بمسائل كانت تسألها العجائز! وينسب إليها أبو سعيد بن أبي عثمان الخركوشي. كان من مشاهير علماء خراسان بالعلم والزهد والورع وحسن الطريقة. صنف كتباً كثيرة في العلوم الشرعية، وبنى مدرسة ودار مرضى، ووقف عليهما أملاكاً كثيرة. وفي آخر عمره اختار الفقر، وكان يأكل من كسب يده: يعمل القلانس ويبيعها خفية حتى لا يدرى أنها عمله. حكى أبو الفضل محمد بن عبد الله الصرام قال: رأيت الأستاذ أبا سعيد

نينوى

خرج مع القوم للاستسقاء وهو ينشد: إليك جئنا حسبنا ربّنا ... وليس ربٌّ سواك يغنينا بابك رحبٌ فناؤه كرمٌ ... إرحم على بابك المساكينا ثم قال: اللهم اسقنا! فما أتم ثلاثاً حتى سقينا كأفواه القرب. وينسب إليها أبو محمد عبد الله بن محمد المرتعش. كان عظيم الشأن. صحب الجنيد، قيل له: إن فلاناً يمشي على الماء! فقال: عندي من مكنة الله تعالى من مخالفة الهواء ما هو أعظم من المشي على الماء. توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. نينوى بلاد وقرى كانت بشرقي دجلة عند الموصل. في قديم الزمان بعث الله تعالى إليهم يونس النبي، عليه السلام، فدعاهم إلى الله تعالى فكذبوه، فخوفهم بعذاب الله في وقت معين وفارقهم. فلما دنا ذلك الوقت وشاهدوا آثار عذاب الله خرجوا بالنساء والذراري إلى تل هناك في شرقي دجلة، وكشفوا رؤوسهم وتابوا وآمنوا، فكشف الله عنهم العذاب. والتل باق إلى الآن ويسمى تل التوبة، وعليه مشهد مقصود ينذر له ويقصده الناس كل ليلة جمعة. حكى صاحب تحفة الغرائب انه كان بها طاحونة جميع آلاتها من الحجر، وكانت سبيلاً، فإذا أراد الطحان وقوف الحجر قال: اسكن بحق يونس! فوقف الحجر والماء يجري على حاله، ولا تدور الرحى حتى يفرغ الطحان من شغله، فإذا فرغ قال: إني فرغت من شغلي، فشرع في الدوران.

واسط

واسط مدينة بين الكوفة والبصرة من الجانب الغربي، كثيرة الخيرات وافرة الغلات. تشقها دجلة. وإنها في فضاء من الأرض صحيحة الهواء عذبة الماء وكثيراً ما يفسد هواؤها باختلاف هواء البطائح بها فيفسده. وأما نفس المدينة فلا يرى أحسن منها صورة، فإن كلها قصور وبساتين ومياه، وعيبها أن حاصلها يحمل إلى غيرها، فلو كان حاصلها يبقى في يد أهلها لفاقت جميع البلاد. بناها الحجاج سنة أربع وثمانين، وفرغ منها سنة ست وثمانين، وسكنها إلى سنة خمس وتسعين وتوفي في هذه السنة. وحكي عن سماك بن حرب انه قال: استعملني الحجاج على ناحية نادوربا، فبينا أنا يوماً على شاطيء دجلة إذا أنا برجل على فرس من الجانب الآخر، فصاح باسمي واسم أبي، فأجبت فقال: الويل لأهل مدينة تبنى ههنا! ليقتلن فيها ظلماً سبعون ألفاً! كرر ذلك ثلاث مرات ثم أقحم فرسه في دجلة وغاب في الماء. فلما كان العام القابل ساقني القضاء إلى ذلك الموضع، فإذا أنا برجل صاح بي كما صاح وقال كما قال وزاد: سيقتل ما حولها ما يستقل الحصى لعددهم! ثم أقحم فرسه في الماء وغاب. فلما بنى الحجاج واسطاً أحصي في حبسه ثلاثة وثلاثون ألف إنسان، لم يحبسوا في دم ولا دين ولا تبعة، وأحصي من قتله صبراً فبلغوا مائة وعشرين ألف إنسان! وحكي انه كان يقرأ القرآن، فانتهى إلى قوله تعالى: انه عمل غير صالح. فاشتبه عليه انه قرأ اسماً أو فعلاً، فبعث إلى بعض المقرئين وأمر بإحضاره ليسأل عنه، فلما حضر المقريء قام الحجاج من مجلسه فقال الأعوان: كيف نعمل به وقد طلبه الحجاج؟ فأوقفوه حتى يتبين أمره، فبقي في الحبس ستة أشهر إلى أن فرغ الحجاج في النظر إلى المحبوسين، فلما انتهى إلى اسمه سأل عن ذنبه

فقالوا: لا نعرف! فأمر بإحضاره وقال له: على أي شيء حبست؟ قال: على ذنب ابن نوح! فضحك الحجاج وخلى سبيله. ينسب إليها جماعات من القراء، يعرفون علم القراءة السبعة والعشرة والشواذ، منهم أبو العز القلانسي، حكي انه جاءه رجل وقال له: أنت القلانسي المقريء؟ قال: نعم. قال: إني أريد أن أقرأ عليك قراءة القرآن. قلت له: كيف اخترت هذه القراءة؟ قال: إني سمعتها في بعض أسفاري عن رجل فأعجبتني. فقلت له: على من قرأتها؟ قال: على القلانسي. فكان يأتيني كل يوم آخر النهار. قلت: ائتني أول النهار. فقال: أرضي شاسعة. فكنت أدخل داري وأغلق الباب وأصعد السطح، فأراه داخل الدار فأقول له: كيف دخلت والباب مغلق؟ فيقول: ما كان مغلقاً. فلما ختم قال لي: اكتب خطك اني قرأت عليك. فقلت: ما لي عادة أكتب خطي إلا بخمسة عشر ديناراً. فجاءني بجدع من العود وقال: خذ هذا واكتب لي خطك. فأخذت وكتبت والجدع كان يسوى حمله. وكان زمن الناصر لدين الله، فأشهر هذا الحديث واشترى الجدع مني. وينسب إليها أبو الحسين بنان بن محمد بن حمدان الحمال. ذهب إلى مصر فأمر ابن طولون صاحب مصر بالمعروف، فغضب عليه وأمر بإلقائه بين يدي السبع، فكان السبع يشمه ولا يضره. فلما أخرج من بين يدي السبع قالوا له: ما الذي كان في قلبك وقت يشمك السبع؟ قال: كنت أتفكر في سؤر السبع ولعابه أطاهر أم لا؟ وحكى عمر بن محمد بن عراك انه كان لرجل على رجل مائة دينار بوثيقة، فكان يطلب الوثيقة ولم يجدها، فجاء إلى بنان الحمال أن يدعو له فقال له بنان: إني رجل شيخ أحب الحلاوى، فاشتر لي رطل حلواء حتى أدعو لك! فذهب الرجل واشترى الحلواء وجعله في وسط القرطاس فجاء به، فقال له بنان: افتح القرطاس. ففتحه فإذا القرطاس في وسطه الوثيقة. فقال: هذه وثيقتي! فقال له

بنان: خذ وثيقتك واطعم الحلاوى صبيانك. توفي بمصر سنة ست عشرة وثلاثمائة. وحكي انه احتاج إلى جارية تخدمه، فانبسط مع إخوانه فجعلوا له ثمن جارية وقالوا: إذا جاء السفر تكون معه جوار نشتري لك منهم جارية. فلما جاء السفر ومعه جوار اجتمعوا على واحدة وقالوا: انها صالحة له. فقالوا لصاحبها: بكم تبيعها؟ فقال: انها ليست للبيع. فألحوا عليه فقال: إنها لبنان الحمال، بعثتها له امرأة من سمرقند، فحملت إلى بنان وذكرت له القصة. وينسب إليها يزيد بن هارون. كان عالماً عابداً مقرئاً محدثاً. قال: سافرت عن أهلي في طلب الحديث سنين كثيرة، فلما عدت إلى بغداد سمعت أن بعسكر أحد التابعين، فمشيت إليه فقال: حدثني أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من ابتلاه الله ببلاء فليصبر ثم ليصبر ثم ليصبر! وقال: ما أحدثك غير هذا. قال: فعدت إلى واسط ووصلت ليلاً، ووقفت على بابي، كرهت دق الباب كراهة انزعاج القوم، فعالجت فتح الباب ودخلتها. وكان أهلي على السطح فصعدت السطح فوجدت زوجتي نائمة وبجنبها شاب، فأخذت حجراً وقصدت أضرب به فتذكرت الحديث الذي سمعت من العسكري، ثم قصدت ثانياً وثالثاً فتذكرت الحديث ثانياً وثالثاً، فانتبهت زوجتي فلما رأتني أيقظت الشاب وقالت: قم إلى أبيك! إني تركتها املاً فعلمت أن ذلك من بركة حديث العسكري. وحكي أنه رئي في النوم بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل: بأي شيء؟ قال: بالقرآن والحديث ودعاء السحر. فقيل له: هل أخذ عليك شيئاً؟ قال: نعم، قال لي تروي الحديث عن حريز بن عثمان وهو يبغض علي بن أبي طالب. وأتاني الملكان وقالا: من ربك؟ قلت: أنا يزيد بن هارون، أما تريان هذه اللحية البيضاء؟ تسألاني عن الذي كنت أدعو الناس إليه سبعين سنة! فقالا: نم نومة العروس لا يوقظها إلا من هو أحب إليها.

ورجند

ورجند قرية من أعمال همذان. من عجائبها أن من به علة البواسير، والأطباء عجزوا عن معالجتها، يمشي إلى ورجند يعالجه أهلها فيبرأ بأيام قلائل. قالوا: إن لأهلها في ذلك يداً باسطة، من مشى إليها عالجوه، وذلك برقية عندهم وحشيش يدخنونه بالحشيشة، ويقرأون عليه الرقية فينتفع في أيام قلائل. وهو مشهور عندهم. هراة مدينة عظيمة من مدن خراسان. ما كان بخراسان مدينة أجل ولا أعمر، ولا أحصن ولا أكثر خيراً منها. بها بساتين كثيرة ومياه غزيرة. بناها الاسكندر، ولما دخل بلاد الشرق ذاهباً إلى بلاد الصين أمر كل قوم ببناء سور يحصنهم عن الأعداء. وعلم أن أهل هراء قوم شماس عندهم قلة القبول، فعين لهم مدينة بطولها وعرضها وسمك حيطانها وعدد أبوابها، ليوفيهم أجورهم عند عوده. فلما رجع قال: ما أمرت على هذه الهيئة؛ وأظهر الكراهية وما أعطاهم شيئاً. ومن عجيب ما ذكر أن هراة كانت في يد سلاطين الغور بني سام، فجاءها خوارزمشاه محمد نزل عليها يحاصرها، وكانت العجلة تمشي على سورها لفرط عرضه. فأمر خوارزمشاه بنصب المنجنيق عليها، وأشار بمقرعته إلى برج من أبراجها، فكما أشار إليه انهار ذلك البرج، فاستخلصها من ذلك الموضع وعد ذلك من عجيب آثار دولته. ومن عجائبها أرحية مبنية على الريح تديرها الريح بنفسها كما يديرها الماء، ويحمل منها إلى سائر البلدان كل ظريف سيما الأواني الصفرية المطعمة بالفضة وأنواع الدبابيج والحواصل، ومن المأكول الزبيب والمشمش؛ قال الأديب الزوزني: هراة أردت مقامي بها ... لشتّى فضائلها الوافره:

نسيم الشّمال وأعنابها ... وأعين غزلانها السّاحره! ولم تزل هراة من أحسن بلاد الله حتى أتاها عين الزمان عند ورود التتر، فخربوها حتى أدخلوها في خبر كان. وحكى من كان بها أن التتر لما نزلوا عليها راسلهم أحد أعيان المدينة أن يفتح لهم باباً من أبوابها، على شرط أن يأمن هو وأهله، فأجابوه إليه، فلما فتح لهم دفعوا إليه رجلاً ليقف على باب داره ويمنع التتر من دخولها. وكان لصاحب الدار نسيب بعث إليه أن عجل إلى داري بأهلك فإنها مأمن. فقال النسيب: ان حالوا بيننا وبينكم فأرسل الرجل التتري إلينا ليحملنا إليكم. فأرسله إليهم، فلما غاب عن باب داره نزل عليها قوم من التتر وقتلوا كلهم. فلما جاء الرجل التتري بالنسيب وجد القوم قتلوا عن آخرهم، فتركهم ومر على وجهه وقتل النسيب أيضاً، ولم ينج منهم أحد. وينسب إليها إبراهيم ستنبه من البراهمة الأربعة الذين يشفع بهم إلى الله تعالى وهم: إبراهيم بن أدهم بمكة، وإبراهيم الخواص بالري، وإبراهيم شيبان بقرميسين، وإبراهيم ستنبه بقزوين. حكى إبراهيم بن دوحة قال: دخلت مع إبراهيم ستنبه بادية مكة، وكان معي دينار ذهب فقال لي: اطرح ما معك، فطرحته. ثم قال لي: اطرح ما معك، فما كان معي إلا شسع نعل فطرحته. فما احتجت في الطريق إلى شسع إلا وجدته بين يدي، فقال: هكذا من يعامل الله صدقاً! وحكى بعضهم قال: كنا عند مسجد أبي يزيد البسطامي فقال لنا: قوموا نستقبل ولياً من أولياء الله تعالى. فمشينا فإذا هو إبراهيم ستنبه الهروي، فقال له أبو يزيد: وقع في خاطري أن أستقبلك وأشفع لك إلى ربي! فقال له إبراهيم: لو شفعت لجميع الخلق ما كان كثيراً، فإنهم كلهم قطعة من طين. فتحير أبو يزيد من حسن جواب إبراهيم وقال: اللهم ارفع درجاتهم وانفعنا بمحبتهم ومحبة أمثالهم!

همذان

همذان مدينة مشهورة من مدن الجبال. قيل: بناها همذان بن فلوج بن سام بن نوح، عليه السلام. ذكر علماء الفرس أنها كانت أكبر مدينة بأرض الجبال، وكانت أربعة فراسخ في مثلها فالآن لم تبق على تلك الهيئة، لكنها مدينة عظيمة لها رقعة واسعة، وهواء لطيف وماء عذب وتربة طيبة، ولم تزل محل سرير الملوك، ولا حد لرخصها وكثرة الأشجار والفواكه بها. أهلها أعذب الناس كلاماً وأحسنهم خلقاً وألطفهم طبعاً. ومن خصائصها ألا يكون الإنسان بها حزيناً ولو كان ذا مصائب. والغالب على أهلها اللهو والطرب لأن طالعها الثور، وهو بيت الزهرة، والغالب على أكثرهم البلاهة، ولهذا قال قائلهم: لا تلمني على ركاكة عقلي ... إن تيقّنت أنّني همذاني! وحكي أن دارا لما تأهب لمحاربة الإسكندر أحكم عمارة همذان، وجعل في وسطها حصناً لحرمه وخزانته، ووكل بها اثني عشر ألف رجل من ثقاته لحفظها متى قصدها قاصد، وذهب إلى قتال الإسكندر. فلما قتل دارا في القتال بعث الإسكندر إلى همذان قائداً اسمه صقلاب في جيش كثيف، فحاصرها، فلما عجز عنها أخبر الإسكندر بحصانة الموضع وعجزه عنه، فكتب إليه الإسكندر أن صور المدينة بجبالها ومياهها وعيونها وابعث بالصورة إلي، وأقم هناك حتى يأتيك أمري. ففعل صقلاب ذلك فأرسلها الإسكندر إلى أستاذه أرسطاطاليس وقال له: دبر لي فتح هذه المدينة. فأمره أرسطاطاليس أن يحبس مياهها حتى يجتمع منها شيء كثير ثم يرسلها إلى المدينة. ففعل صقلاب ذلك كما قال، فهدم سورها وحيطانها فدخلها صقلاب وسبى ونهب، وبقيت المدينة تلاً، وأما المدينة الموجودة في زماننا هذا فلا شك في أنها أحسن البلاد وأنزهها وأطيبها، ولهذا لم تزل محل الملوك، ولكل ملك من ملوك الجبال بها قصر يأتيه فصل الربيع والصيف. فإنها في هذين الفصلين تشبه الجنة

في طيب هوائها وبرودة مائها، وكثرة فواكهها وأنواع رياحينها؛ قال محمد ابن بشار: ولقد أقول تيامني وتشامي ... وتواصلي ديماً على همذان فإذا تبجّست الثّلوج تبجّست ... عن كوثرٍ شبمٍ وعن حيوان بلدٌ نبات الزّعفران ترابه ... وشرابه عسلٌ بماء قنان فكسا الرّبيع بلادها من روضةٍ ... يفترّ عن نفلٍ وعن حوذان حتى تعانق من خزاماه الّذي ... بالجلهتين شقائق النّعمان بها ناحية ماوشان، وهي كورة بقرب همذان. فراسخ في فراسخ يمشي إليها أهل همذان أوان الصيف وقت إدراك المشمش. وحكي أن أعرابياً أقام بهمذان سنين فسئل عن همذان فقال: أقمت بها سبعاً كانوا يقولون الصيف يجيء وما جاء، وذلك لأن الأعرابي رأى صيف الحجاز وصيف همذان يكون مثل شتاء الحجاز. وحكى عبد القاهر بن حمزة الواسطي صفة همذان في الشتاء فقال: خص الله همذان في الشتاء من اللعن بأوفره ومن الطرد بأكثره، فما أكدر هواءها وأشد بردها وأذاها وأكثر مؤونتها وأقل منفعتها! سلط الله تعالى عليها الزمهرير الذي أعده للكفار والعتاة من أهل النار. إذا هاجت الرياح العواصف وحدثت البروق والرعود القواصف وقعت الثلوج والدمق، وعم الاضطراب والقلق، وانقطعت السبل وعم طرقاتها الوحل، فترى وجوه أهلهم متشققة وشعورهم من البرد متفتقة، وأنوفهم سائلة وحواسهم زائلة، وأطرافهم خضرة وروائحهم قذرة، ولحاهم دخانية وألوانهم باذنجانية. وهم في شتائهم في الأليم من العذاب والوجيع من الحظ والعقاب. وأي عذاب أشد من مقاساة العدو الحاصر والكلب الكلب الحاضر؟ قال أحمد بن بشار يصف همذان:

لقد أتى همذان البرد فانطلق ... وارحل على شعب شملٍ غير متّفق أرضٌ يعذّب أهلوها ثمانيةً ... من الشّهور بأنواعٍ من الوهق فإن رضيت بثلث العمر فارض بها ... وقد تعدّ إذاً من أجهل الحمق إذا ذوى البقل هاجت في بلادهم ... من جربيائهم مشّاقة الورق فالبرد يرمي سهاماً ليس يمنعها ... من المروق بلبس الدّرع والدّرق حتّى تفاجئهم شهباء معضلةٌ ... تستوعب النّاس في سربالها اليقق أمّا الغنيّ فمحصورٌ يكابدها ... طول الشّتاء مع اليربوع في نفق والمملقون بها سبحان ربّهم ... ممّا يقاسون من بردٍ ومن أرق فكلّ غادٍ بها أو رائحٍ تعبٌ ... ممّا يكابد من بردٍ ومن دمق فالماء كالصخر والأنهار جامدةٌ ... والأرض عضّاضةٌ بالضرس في الطّرق فإذا انتقلت الشمس إلى برج الحمل، وقد امتلأت دروبهم من الثلج حتى سد عليهم الطرق، جمعوا مياههم وأرسلوها إلى المدينة، وحيطانها كلها صخرية، فدخل الماء دروبهم، ويحمل ما فيه من الثلج ويذهب به، ويكون ذلك اليوم عيداً عظيماً عندهم يسمونه حمل بندان، فصعدوا سطوحهم بالغناء والرقص في كل محلة، واتخذوا من الثلوج شبه قلاع يرقصون عليها، والماء يدخل عليهم ويرميهم، وهم على تل الثلج، فيقعون في وسط الماء والثلج، فيدخل الماء درباً درباً حتى تنقى المدينة كلها من الثلج. ومن عجائبها أسد من صخر على باب المدينة عظيم جداً. حكى الكيا شيرويه أن سليمان بن داود، عليه السلام، اجتاز بموضع همذان، قال: ما بال هذا الموضع مع كثرة مائه وسعة ساحته لا تبنى به مدينة؟ قالوا: يا نبي الله إن ههنا لا يكون مقام الناس لأن البرد به شديد والثلج به يقع قدر قامة رمح. فقال، عليه السلام، لصخر الجني: هل من حيلة؟ فقال: نعم يا نبي الله؛ فاتخذ

أسداً من صخر ونصبه طلسماً للبرد وبنى مدينة همذان. وقال غيره: إنه من علم بليناس صاحب الطلسمات حين طلبه قباذ ليطلسم بلاده، وكان الفارس يغرق في الثلج بهمذان، فلما عمل هذا الأسد قل ثلجها. وقالوا: عمل على يمين الأسد طلسماً للحيات فقلت، وآخر للعقارب فنقصت، وآخر للبراغيث فهي قليلة بها جداً؛ قال ابن حاجب يذكر الأسد: ألا أيّها اللّيث الطّويل مقامه ... على نوب الأيّام والحدثان اقمت فما تنوي البراح بحيلةٍ ... كأنّك بوّابٌ على همذان أراك على الأيّام تزداد جدّةً ... كأنّك منها آخذٌ بأمان أقبلك كان الدّهر أم كنت قبله ... فنعلم أم ربّيتما بلبان؟ بقيت فما تفنى وآمنت عالماً ... سطا بهم موتٌ بكلّ مكان فلو كنت ذا نطقٍ جلست محدّثاً ... تحدّثنا عن أهل كلّ زمان ولو كنت ذا روحٍ تطالب مأكلاً ... لأفنيت أكلاً سائر الحيوان أحبّبت شرّ الموت أم أنت منظرٌ ... وإبليس حتى يبعث الثّقلان؟ فلا هرماً تخشى ولا الموت تتّقي ... بمضرب سيفٍ أو شباة سنان وحكي انه لما كان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، عصى أهل همذان على مرداويج الديلمي، وكان صاحب الجبال، فدخل همذان ونهبها، وسأل عن الأسد فقيل: انه طلسم لدفع الآفات عن المدينة. فأراد حمله إلى الري فلم يتمكن من ذلك، فأمر بكسر ديه بالفطيس. قيل: إنما كسر يديه لأن الدواب كانت تنفر منه. وحكي أن المكتفي بالله نظر إليه فاستحسنه، فأمر بنقله على عجلة تجرها الفيلة إلى بغداد، فهم عامل البلد بذلك، فاجتمع وجوه تلك البلاد وقالوا: هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة. فكتب العامل بذلك إلى الخليفة وصعب عليه بعثه فعفا عنهم.

وحكي أن في زماننا عدا رجل في وسط همذان ويقول: يا قوم ادركوا الأسد فإني رأيته يهرب. فخرج من المدينة خلق كثير فرأوا الأسد بحاله، فيقول بعضهم: عدا من ثم إلى ههنا. وهذا دليل على بلاهة القوم. وينسب إليها أبو الفضل بديع الزمان. كان أديباً فاضلاً ظريفاً، والمقامات التي جمعها دلت على غزارة فضله وفصاحة كلامه ولطافة طبعه. ولهذا قال أبو القاسم الحريري: إن البديع سباق غايات وصاحب آيات. وحكي أن صديقاً له كتب إليه يشكو ويقول: إن الزمان قد فسد! فأجابه البديع: أتزعم أن الزمان قد فسد؟ ما تقول لي متى كان صالحاً: أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وقد سمعنا أولها؟ أم في الأيام المروانية وفي أخبارها ما يكسع الشول بأغبارها؟ أم في الأيام الحربية والسيف يغمد في الطلى والرمح يركز في الكلى؟ أم في الأيام الهاشمية وعلي، عليه السلام، يقول: ليت لي بعشرة منكم واحداً من بني فراس بن غنم؟ أم في أيام عثمان وقد قام النفير بالحجاز وشخصت العيون من الإعجاز؟ أم في الخلافة العدوية وصاحبها يقول: بعد النزول إلى النزول؟ أم في الخلافة التيمية وأبو بكر يقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؟ أم في عهد الرسالة وقد قيل فيه: اسكتي يا فلانة فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهلية ولبيد يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كحلد الأجرب؟ أم قبل الجاهلية وأخو عاد يقول: بلادٌ بها كنّا، وكنّا نحبّها ... إذ النّاس ناسٌ والبلاد بلاد؟ أم قبل ذلك وقد روي عن أبينا آدم، عليه السلام، أنه قال: تغيّرت البلاد ومن عليها ... ووجه الأرض مغبرٌّ قبيح؟ أم قبل خلق أبينا آدم وقد قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فاعلم

أن الزمان ما فسد لكن القياس قد اطرد. وقال البديع: همذان لي بلدٌ أقول بفضله ... لكنّه من أقبح البلدان! صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيوخه في العقل كالصّبيان! توفي البديع سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. وأنشد عبد الله بن محمد بن زنجويه لنفسه في بعض الصور المطلسمة، وقد ذكرنا كل واحدة منها في موضعها بشرحها: أأرقت للبرق اللّموع. اللاّئح ... وحمائمٍ فوق الغصون صوادح؟ بل قد ذهلت بليث غابٍ دائباً ... مذ كان عن همذان ليس بنازح موفٍ على صمّ الصّخور كأنّه ... يبغي الوثوب على الغزال السّائح تمضي الدّهور وما تروم فريسةً ... نعل الطّمرّ الكسرويّ القارح شبديز إذ هو واقفٌ في طاقه ... يعلوه برويزٌ بحسنٍ واضح برويز عن شبديز ليس برائحٍ ... واللّيث عن همذان ليس بنازح وكذا بتدمر صورتان تناهتا ... في الحسن شبّهتا ببدرٍ لائح لا يسأمان عن القيام، وطالما ... صبرا على صرف الزّمان الكالح وبأرض عادٍ فارسٌ يسقيهم ... بالعين عذباً كالفرات السّائح في الأشهر الحرم العظيمة حقّها ... يغنون عن شرب الزّعاق المالح فإذا انقضى الشّهر الحرام تطفّحت ... تلك الحياض بماء عين الدّافح وبأرض وادي الرّمل بين مهامهٍ ... يلقاك قبل الحتف نصح النّاصح طرفٌ هنالك باسطٌ بيمينه ... أن ليس بعدي مسلكٌ للسّائح خذها إليك مقالةً من صادقٍ ... فيها عجائب من صحيح قرائح

يل

يل ضيعة من ضياع قزوين على ثلاثة فراسخ منها. بها جبل يقال له يله بشم؛ حدثني من صعد هذا الجبل قال: رأيت عليها صور حيوانات مسخها الله تعالى حجراً صلداً: منها راع متكيء على عصاه يرعى غنمه، وامرأة تحلب بقرة، ويغر ذلك من صور الإنسان والبهائم، مسخ الله تعالى كلها حجراً؛ وهذا شيء يعرفه جميع أهل قزوين. وبها عين تخرج من شعب جبل، وماؤها غزير حار جداً يجتمع في حوض هناك، يقصدها الزمنى والجربى وغيرهم من أصحاب العاهات، ينفعهم نفعاً بيناً. وأهل تلك البلاد يسمونها يله كرماب. يمكان مدينة حصينة في وسط الجبال بقرب بذخشان، لا قدرة لأحد عليها، قهرت الصعوبة مسلكها. بها معادن الفضة والبلخش الذي يشبه اللعل؛ حكى الأمير حسام الدين أبو المؤيد بن النعمان أن الحكيم الناصر خسرو تحصن بها، وكان ملكاً لبلخ، فخرج عليه أهل بلخ، فانتقل إلى يمكان لحصانتها، واتخذ بها عمارات عجيبة من القصور والبساتين والحمامات. وذكر انه نزل في بعض تلك القصور فرأى في إيوان عظيم صوراً وتماثيل تتحرك، فمنعه أهل القصر أن ينظر إليها. وذكروا أن من ينظر إليها يصاب في عقله أو بدنه. وقال: كان صغار مماليك ينظرون إليها يخبرون بأشياء تأباها العقول! وقال: رأيت خلف ذلك القصر بستاناً كنت طول الليل أسمع منه أصواتاً عجيبة، لا تشبه أصوات الحيوانات المعهودة، منها ما كان طيباً ومنها ما كان كريهاً. وحكي أن بها حماماً من عجائب الدنيا من بناء ناصر خسرو، لا يدرى

كيف بناؤه، ولا يصدق السامع وصفها حتى يراها. وهي باقية في زماننا، وصفتها أن من دخل مسلخها رأى بيتاً مربعاً منقشاً بصور حيوانات لا يرى باب الحمام، لكن يرى على حيطانها أربعاً وعشرين حلقة مغلقة، فيسأل الحمامي عن باب الحمام فيقول: أي حلقة جذبتها ينفتح لك باب الحمام. فيجذب إحداها فينفتح باب وتنكسر صورة الحيوان التي على الباب لأن بعضها على الباب وبعضها على الجدار؛ فلهذا لا يعرف الغريب باب الحمام، فإذا دخل من باب من تلك الأبواب أيها كان، ينتهي إلى قبة على مثال المسلخ إلا أن حلقها سبع عشرة، فأي حلقة يجذب يفتح له باب، فإذا دخله يفضي به إلى قبة أخرى على مثال ما قبلها، إلا أن حلقها اثنتا عشرة، فأي حلقة منها يجذب يفضي إلى قبة على مثال ما تقدم، إلا أن فيها تسع حلق، فأي حلقة منها يجذب يفضي إلى قبة إلى مثال ما قبلها، إلا أن حلقها سبع حلق، وهي القبة الأخيرة، أحد أبوابها يفضي إلى الحمام وذلك يعرفه الحمامي: فإن فتح غيره يرى نفسه في المسلخ وهو البيت الأول المربع. وذكر الأمير أبو المؤيد أنه شاهد هذا الحمام مراراً على هذه الهيئة، وأنه أشهر شيء بخراسان وهو باق إلى زماننا. وإنما صار أمر هذا الحمام مشهوراً بخراسان لأنه عام لا يمنع ان يدخله أحد ويستحم به، فيدخله كل أحد للاستحمام ومشاهدة العجب ولا يؤخذ ممن دخله أجرة الحمام. وله آلات من السطول والطامات والمآزر والطين والأمشاط والمناشف، وجميع ما يحتاج إليه المستحم. فإذا استحم وخرج يؤتى له بجلاب ومأكول على قدره، ولا يقبلون من المستحم شيئاً وإن أصر على ذلك، بل له أوقاف كثيرة وانها بيد أحفاد الناصر خسرو. ومن عجائبها أمر آخر وهو أن ثلاثين بيتاً منها يضيء بجام واحد، ولا يمكنون أحداً أن يرى سطحها البتة، ولا يهتدي أحد إلى كيفية بنائها إلا من عرف ذلك بحقيقة. والله المستعان وعليه التكلان.

الاقليم الخامس

الاقليم الخامس أوله حيث يكون الظل نصف النهار، إذا استوى الليل والنهار، خمسة أقدام وثلاثة أخماس قدم وسدس خمس قدم، وآخره حيث يكون الظل نصف النهار شرقاً أو غرباً ستة أقدام، ونصف عشر وسد عشر قدم. ويبتديء من أرض الترك المشرقين ويمر على أجناس الترك المعروفين إلى كاشغر وفرغانة وسمرقند وخوارزم وبحر الخزر إلى باب الأبواب وبرذعة وإلى ميافارقين وارمينية وبلاد الروم. وأطول نهار هؤلاء في أول الإقليم أربع عشرة ساعة ونصف وربع، وفي أوسطه خمس عشرة ساعة، وفي آخره خمس عشرة ساعة وربع. وطول وسطه من المشرق إلى المغرب سبعة آلاف ميل وستمائة وسبعون ميلاً وبضع عشرة دقيقة، وعرضه مائتان وأربعة وخمسون ميلاً وثلاثون دقيقة، ومساحتها مكسر ألف ألف وثمانية وأربعون ألفاً وخمسمائة وأربعة وثمانون ميلاً واثنتا عشرة دقيقة، ولنذكر أحوال بعض المدن الواقعة فيه مرتبة على حروف المعجم: آمد مدينة حصينة مبنية بالحجارة من بلاد الجزيرة على نشز من الأرض، ودجلة محيطة بها من جوانبها إلا من جهة واحدة على شكل الهلال. وفي وسطها عيون وآبار عمقها ذراعان. وإنها كثيرة الأشجار والبساتين والثمار والزروع. من عجائبها ما ذكره ابن الفقيه أن بأرض آمد جبلاً من بعض شعابه صدع فيه سيف، من أدخل يده في ذلك الصدع وقبض على قائم ذلك السيف، اضطرب

أبروق

السيف في يده وارتعد هو، وان كان من أشد الناس. وذكر أن هذا السيف يجذب الحديد أكثر من جذب المغناطيس، فإذا حك به سيف أو سكين جذبه، وحجارة ذلك الصدع ما يجذب؛ هذا ما ذكره ابن الفقيه ولست أعرف انه باق إلى الآن أم لا. ومن العجب أن في سنة سبع وعشرين وستمائة انهزم جلال الدين خوارزمشاه عن التتر، فانتهى إلى آمد فجاءه من أخبره بأن التتر خلفك قريب منك. فقال: إن هذا المخبر من عند صاحب آمد يريد إبعادنا من أرضه. فما أصبح إلا والتتر محيط بهم، فانصبوا إلى آمد هاربين من التتر فقتلهم أهل آمد من السور، وفي تلك الواقعة قتل جلال الدين خوارزمشاه. فلما رجع التتر جاء الملك الكامل بعساكره وحاصرها، وأخذها من صاحبها، وزال ملك صاحبها بشؤم ما عمل بالهاربين من التتر اللائذين به. أبروق موضع ببلاد الروم يزار من الآفاق؛ قال الهروي: بلغني أمره فقصدته فوجدته في لحف جبل يدخل إليه من باب، ويمشي الداخل تحت الأرض إلى أن ينتهي إلى موضع مكشوف واسع تبين فيه السماء من فوقه، وفي وسطه بحيرة حولها بيوت الفلاحين ومزروعهم خارج الموضع. وهناك مسجد وبيعة، فإن جاءهم مسلم يمشي إلى المسجد، وإن جاءهم نصراني يمشي إلى البيعة. والزوار يأتون إلى هذا الموضع كثيراً، ويدخلون إلى بهو فيه جماعة مقتولون، فيهم آثار طعن الأسنة وضرب السيوف، ومنهم من فقدت بعض أعضائه، وعليهم ثياب من القطن لم تتغير! وهناك أيضاً امرأة على صدرها طفل حلمة ثديها في فيه، وخمسة أنفس قيام ظهورهم على حائط الموضع، وهناك أيضاً موضع عال عليه سرير، وعلى السرير اثنا عشر رجلاً فيهم صبي مخضوب اليدين والرجلين بالحناء، فالروم

أران

يزعمون أنهم منهم، والمسلمون يقولون انهم من الغزاة استشهدوا في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. أران ناحية بين آذربيجان وأرمينية وبلاد ابخاز. بها مدن كثيرة وقرى. قصبتها جنزة وشروان وبيلقان. بها نهر الكر وهو نهر بين أرمينية وأران، يبدأ من بلاد خزران ثم يمر ببلاد الأبخاز من ناحية اللان، فيمر بمدينة تفليس يشقها، ثم بجنزة وشمكور ويجري على باب برذعة، ثم يختلط بالرس، والرس أصغر منه وينصب في بحر الخزر على ثلاثة فراسخ من برذعة، موضع الشورماهيج الذي يحمل إلى الآفاق مملحاً. وهو نوع من السمك طيب مختص بذلك الموضع. وزعموا أن الكر نهر سليم أكثر ما يقع فيه من الحيوان يسلم. ومن ذلك ما حكى بعض فقهاء نقجوان قال: وجدنا غريقاً من الكر يجري به الماء، فبادر القوم إلى إمساكه فأدركوه وقد بقي فيه رمق، فحملوه إلى اليبس فاستقر نفسه وسكن جاشه. قال لنا: أي موضع هذا؟ قالوا: نقجوان. قال: إني وقعت في الماء في موضع كذا، وكان بينه وبين نقجوان مسيرة خمسة أيام أو ستة، وطلب طعاماً فذهبوا لإحضار الطعام فانقض عليه الجدار الذي كان قاعداً تحته، فتعجب القوم من مسامحة النهر وتعدي الجدار! أرزنجان بلدة من بلاد أرمينية آهلة طيبة كثيرة الخيرات، أهلها مسلمون ونصارى. وبها جبل فيه غار ينزل الماء من سقفه، ويصير ذلك الماء حجراً صلداً.

أرزن الروم

أرزن الروم مدينة مشهورة من مدن ارمينية بقرب خلاط قديمة البناء. بينها وبين خلاط موضع يسمى ياسي جمن، به عين يفور الماء منها فوراناً شديداً، يسمع صوته من بعيد، فإذا دنا الحيوان منها يموت في الحال. وحولها من الحيوانات الموتى ما شاء الله، وقد وكلوا بها من يمنع الغريب من الدنو منها. بها عين الفرات وهي عين مباركة مشهورة. زعموا أن من اغتسل بمائها في الربيع يأمن من أمراض تلك السنة. ارطانة من قرى بلنسية. بها عين ارطانة، وهي عين ينبع ماؤها من غار على فمه حوض، يظهر في ذلك الحوض أنه يكثر تارة ويقل أخرى كالمد والجزر، وذلك يرى في كل يوم مراراً. أرمية بلدة كبيرة من بلاد آذربيجان، كثيرة الخيرات وافرة الغلات. بقربها بحيرة تعرف ببحيرة أرمية، وإنها كريهة الرائحة لا نبات عليها ولا سمك فيها. استدارتها خمسون فرسخاً، مادتها من أودية من جبال تلك البلاد، وفي وسط البحيرة جزيرة، وعلى تلك الجزيرة قلعة حصينة، وحواليها قرى ورساتيق ومزارع. وفي أكثر الأوقات كان صاحب تلك القلعة عاصياً على ولاة آذربيجان، إذ لا سبيل إليها قهراً. ويخرج من هذه البحيرة ملح بحلو شبه التوتيا، وعلى ساحلها مما يلي الشرق عيون ينبع ماؤها ويستحجر إذا أصابها الهواء، وفيها حيوان يقال له كلب الماء. وينسب إليها الشيخ أبو أحمد الملقب بتاج الدين الأرموي، كان عديم المثل

أرمينية

في زمانه بالأصول والفقه والحكمة والأدب، ذا عبارة فصيحة وتقرير حسن وطبع لطيف وكلام ظريف، كان الاجتماع به سبباً للذات النفس من كثرة حكاياته الطيبة والأمثال اللطيفة، والتشبيهات الغريبة والمبالغات العجيبة، وكثيراً ما كان يقول: ان دفع التتر عن هذه البلاد لكثرة صدقات الخليفة المستنصر بالله فإن الصدقة تدفع البلاء، ولولا ذلك لكان من دفع العساكر الخوارزمشاهية كيف يقف له عسكر العراق؟ وكان الأمر كما قال. فلما مضى المستنصر وقلت الصدقة جاؤوا وظفروا. وحكي أن الشيخ دخل يوماً على ابن الوزير القمي، وكان ابن الوزير دقيق النظر كثير المآخذ، قال للشيخ: أراك تقتني المماليك المرد وليس هذا طريقة المشايخ! قال الشيخ: لا. قعودي بين يديك من طريقة المشايخ، وإنما هذا لذلك لولا ميلي إلى شيء من زينة الدنيا ما قعدت بين يديك. أرمينية ناحية بين آذربيجان والروم، ذات مدن وقلاع وقرى كثيرة. أكثر أهلها نصارى. بها عجائب كثيرة ذكر أكثرها عند مدنها وقراها. والذي نزيده ههنا: بها جبل الحارث والحويرث، لا يقدر أحد على ارتقائهما؛ قالوا: إنهما مقبرة ملوك أرمينية ومعهم أموالهم وذخائرهم. بليناس الحكيم طلسمها لئلا يظفر بها أحد. وحكى ابن الفقيه انه كان على نهر الرس بأرمينية ألف مدينة، فعث الله تعالى إليهم نبياً اسمه موسى، وليس بموسى بن عمران، فدعاهم إلى الله تعالى فكذبوه وعصوا أمره، فدعا عليهم فحول الله تعالى الحارث والحويرث من الطائف وأرسلهما عليهم، فيقال إن أهل الرس تحت هذين الجبلين. وبها البحيرة؛ قال مسعر بن مهلهل: هذه البحيرة منتنة قليلة المنافع، عليها قلاع حصينة وجانب من هذه البحيرة يأخذ إلى موضع يقال له وادي الكرد. فيه

الأشبونة

طرائف من الأحجار وعليه مما يلي سيماس جمة يقال لها عين زراوند، وهي جمة شريفة جليلة القدر كثيرة المنفعة، وذلك لأن الإنسان أو الدابة إذا ألقي فيها وبه كلوم وقروح يندمل ويلتحم، وإن كان فيها عظام موهنة مرضضة كامنة وشظايا غامضة، تتفجر أفواهها وينقيها عن كل وسخ ويلحمها. قال مسعر ابن مهلهل: عهدي بمن توليت حمله إليها وبه علل من جرب وسلع وقولنج وحزاز، وضربان في الساقين واسترخاء في العصب، وفيه سهم قد نبت اللحم على نصله كنا نتوقع موته ساعة فساعة، فأقام بها ثلاثاً فخرج النصل من خاصرته وعوفي من بقية العلل. قال: ومن شرف هذه الجمة أن الإنسان إذا شرب منها أمن الخوانيق وأسهل السوداء من غير مشقة. وحكى صاحب تحفة الغرائب أن بأرض أرمينية بيت نار، له سطح من الصاروج وميزاب من النحاس، وتحت الميزاب حوض كبير من الرخام، وفي البيت مجاورون كلما قل المطر بتلك الناحية أوقدوا نارهم، وغسلوا سطح البيت بماء نجس حتى ينصب من الميزاب إلى الحوض، ثم يرشون البيت بذلك الماء النجس، فعند ذلك تستر السماء بالغمام وتمطر حتى يغسل السطح والميزاب والحوض، ويمتليء من الماء الطاهر. الأشبونة مدينة بالأندلس بقرب باجة طيبة. بها أنواع الثمرات وضروب صيد البر والبحر. وهي على ضفة البحر تضرب أمواج البحر حائط سورها؛ قال أحمد ابن عمر العذري، وهو صاحب الممالك والمسالك الأندلسية: على أحد أبواب الأشبونة المعروف بباب الجمة جمة قريبة من البحر، يجري بماء حار وماء بارد، فإذا فار البحر واراها. وقال أيضاً: بقرب الأشبونة غار عظيم تدخل أمواج البحر فيه، وعلى فم الغار جبل عال، فإذا ترادفت أمواج البحر في الغار ترى الجبل يتحرك بتحرك الموج، فمن نظر إليه رآه مرة يرتفع ومرة ينخفض.

اشبيلية

وبقربها جبل يوجد فيه حجر البرادي، وهو حجر يضيء بالليل كالمصباح. قال: أخبر من صعد هذا الجبل ليلاً قال كان هذا الحجر فيه يضيء كالمصباح. قال: وهذا الجبل معدن الجزع. اشبيلية مدينة بالأندلس بقرب لبة كبيرة. تباينت بلاد الأندلس بكل فضيلة وامتازت عنها بكل مزية من طيب الهواء وعذوبة الماء، وصحة التربة والزرع والضرع وكثرة الثمرات من كل نوع وصيد البر والبحر، بها زيتون أخضر يبقى مدة لا يتغير به حال ولا يعروه اختلال، وقد أخذ في الأرض طولاً وعرضاً فراسخ في فراسخ، ويبقى زيته بعذوبته أعواماً. وكذلك بها عسل كثير جداً وتين يابس. ينسب إليها الشيخ الفاضل محمد بن العربي الملقب بمحيي الدين. رأيته بدمشق سنة ثلاثين وستمائة. وكان شيخاً فاضلاً أديباً حكيماً شاعراً عارفاً زاهداً. سمعت أنه يكتب كراريس فيها أشياء عجيبة. سمعت أنه كتب كتاباً في خواص قوارع القرآن. ومن حكاياته العجيبة ما حكى انه كان بمدينة اشبيلية نخلة في بعض طرقاتها، فمالت إلى نحو الطريق حتى سدت الطريق على المارين، فتحدث الناس في قطعها حتى عزموا أن يقطعوها من الغد؛ قال: فرأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلك الليلة في نومي عند النخلة، وهي تشكو إليه وتقول: يا رسول الله ان القوم يريدون قطعي لأني منعتهم المرور! فمسح رسول الله، عليه السلام، بيده المباركة النخلة فاستقامت، فلما أصبحت ذهبت إلى النخلة فوجدتها مستقيمة، فذكرت أمرها للناس فتعجبوا منها واتخذوها مزاراً متبركاً به!

أفرنجة

أفرنجة بلدة عظيمة ومملكة عريضة في بلاد النصارى، بردها شديد جداً وهواؤها غليظ لفرط البرد. وإنها كثيرة الخيرات والفواكه والغلات، غزيرة الأنهار كثيرة الثمار، ذات زرع وضرع وشجر وعسل، صيودها كثيرة الانواع. بها معادن الفضة، وتضرب بها سيوف قطاعة جداً، وسيوف افرنجة أمضى من سيوف الهند. وأهلها نصارى. ولهم ملك ذو بأس وعدد كثير وقوة ملك، له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام، وهو يحميها من ذلك الجانب، كلما بعث المسلمون إليها من يفتحها يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها. وعساكره ذوو بأس شديد لا يرون الفرار أصلاً عند اللقاء، ويرون الموت دون ذلك. لا ترى أقذر منهم وهم أهل غدر ودناءة أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطع. ويحلقون لحاهم وإنما تنبت بعد الحلق خشنة مستكرهة. سئل واحد عن حلق اللحى فقال: الشعر فضلة أنتم تزيلونها عن سوءاتكم فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟ أفسوس مدينة مشهورة بأرض الروم، وهي مدينة دقيانوس الجبار الذي هرب منه أصحاب الكهف، وبين الكهف والمدينة مقدار فرسخين، والكهف مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس، فيه رجال موتى لم يتغيروا وعددهم سبعة: ستة منهم نيام على ظهورهم، وواحد منهم في آخر الكهف مضطجع على يمينه، وظهره إلى جدار الكهف، وعند أرجلهم كلب ميت لم يسقط من أعضائه شيء، وهو باسط ذراعيه بالوصيد كافتراش السباع، وعلى الكهف مسجد يستجاب

فيه الدعاء، يقصده الناس، وأهل المدينة يرون بالليل على الكهف نوراً عظيماً، ويعرفون أن ذلك النور من سكان الكهف. وكان من بداية أمرهم ما حكى وهب بن منبه أن سليمان بن داود، عليه السلام، لما قبض، ارتد ملك الروم إلى عبادة الأصنام، ودقيانوس أحد قواده رجع أيضاً معه، ومن خالفه عذبه بالقتل والحرق والصلب. فاتفق أن بعض الفتيان من أولاد البطارقة خرجوا ذات يوم لينظروا إلى المعذبين من الموحدين، فقدر الله هدايتهم وفتح أبصارهم، فكانوا يرون الرجل الموحد إذا قتل هبطت إليه الملائكة من السماء وعرجوا بروحه، فآمنوا ومكثوا على ذلك حتى ظهر أمر إسلامهم. فأرسل الملك إلى آبائهم وعتب عليهم بسبب إسلام أولادهم، فقالوا: أيها الملك، نحن تبرأنا منهم شأنك وشأنهم! فأحضرهم الملك وقال لهم: لكم المهل ثلاثة أيام، وإني شاخص في هذه الأيام من البلد، فإن وجدتكم في اليوم الرابع عند رجوعي مخالفين لطاعتي عذبتكم عذاب من خالفني؛ فلما كان اليوم الثالث اجتمع الفتية وقالوا: إنما يومنا هذا هو وليلته، وعزموا على الهرب في تلك الليلة، فلما جنهم الليل حمل كل واحد شيئاً من مال أبيه وخرجوا من المدينة يمشون، فمروا براعي غنم لبعض آبائهم فعرفهم فقال: ما شأنكم يا سادتي؟ فأظهروا أمرهم للراعي ودعوه إلى التوحيد، فأجابهم فأخذوه معهم. وتبع الراعي كلبه، فساروا ليلتهم وأصبحوا على باب كهف دخلوا فيه وقالوا للراعي: خذ شيئاً من الورق وانطلق إلى المدينة، واشتر لنا طعاماً فإن القوم لا علم لهم بخروجك معنا. فأخذ الدراهم ومضى نحو المدينة وتبعه كلبه، وكان على باب المدينة صنم لا يدخل أحد المدينة إلا بدأ بالسجود لذلك الصنم قبل دخوله، فبقي الراعي متفكراً في السجود للصنم، فألهم الله الكلب ان عدا بين يديه حتى دخل المدينة، وجعل الراعي يعدو خلفه ويقول: خذوه خذوه! حتى جاوز الصنم ولم يسجد. فلما انتهى إلى السوق واشترى بعض حوائجه

سمع قائلاً يقول: ان راعي فلان أيضاً تبعهم. فلما سمع ذلك فزع وترك استتمام ما أراد شراءه، وخرج من المدينة مبادراً حتى وافى أصحابه فأخبرهم بما كان من أمره. فأكلوا طعامهم وأخذوا مضاجعهم فضرب الله على آذانهم. فلما رجع الملك أخبروه بهربهم، فخرج يقفو آثارهم حتى انتهى إلى باب الكهف ووقف على أمرهم فقال: يكفيهم من العذاب أن ماتوا جوعاً! فأهلك الله دقيانوس وأنزل على باب الكهف صخرة وبعث إلى أهل ذلك العصر ثلاثة عشر نبياً، فدعوا الناس إلى التوحيد، فأجابهم إلى ذلك خلق كثير، وكان الملك الذي أحيا الله الفتية في أيامه موحداً. فلما كانت السنة التي أراد الله فيها احياء الفتية؛ انطلق رجل من أهل المدينة وأقام بذلك المكان يرعى غنمه، فأراد أن يتخذ لغنمه حظيرة فأمر أعوانه بتنحية الصخرة التي كانت على باب الكهف، فعند ذلك قام الفتية كمن يبيت ليلة صافية الألوان نقية الثياب، ورأوا كلبهم باسطاً ذراعيه بالوصيد، وكان ذلك بعد ثلاثمائة سنة بحساب الروم، وزيادة تسع بحساب العرب، لأن حساب الروم شمسية وحساب العرب قمرية، يتفاوت في كل مائة سنة ثلاث سنين. وكان انتباههم آخر النهار ودخولهم أول النهار، فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم! لأنهم رأوا الشمس غير غاربة فقالوا بعض يوم، فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظافيرهم قالوا: ربكم اعلم بما لبثتم. فقالوا للراعي: إنك أتيت البارحة بطعام قليل لم يكفنا، فخذ شيئاً من هذا الورق وانطلق إلى المدينة واشتر لنا طعاماً! فانطلق خائفاً حتى أتى باب المدينة وقد أزيل عنه الصنم، ثم دخل المدينة وجعل يتصفح وجوه الناس فما كان يعرف أحداً. فانتهى إلى سوق الطعام ودفع إليه الورق فرده عليه وقال: هذا عتيق لا يروح اليوم! فناوله ما كان معه وقال: خذ حاجتك منها. فلما رأى صاحب الطعام ذلك همس إلى جاره وقال: احسب ان هذا قد وجد كنزاً! فلما رآهما يتهامسان ظن أنهما عرفاه فترك الدراهم وولى هارباً، فصاح به الناس أن خذوه فإنه

أفلوغونيا

وجد كنزاً، فأخذوه وانطلقوا به إلى الملك فأخبروا الملك بأمره والدراهم، فتركه الملك حتى سكنت روعته ثم قال: ما شأنك يا فتى؟ أخبرني بأمرك ولا بأس عليك! فقال الفتى: ما اسم هذه المدينة؟ قالوا: افسوس. قال: وما فعل دقيانوس؟ قالوا: أهلكه الله منذ ثلاثمائة سنة! فأخبرهم بقصته وقصة أصحابه. فقال الملك: أرى في عقل هذا الرجل نقصاناً؛ قال الراعي: إن أردت تحقيق ما أقول انطلق معي إلى أصحابي لتراهم في الكهف! فركب الملك وعامة أهل المدينة فقال الراعي: إن أصحابي إذا سمعوا جلبة الناس خافوا، فأذن لي أيها الملك حتى أتقدم وأبشرهم. فأذن له فتقدم حتى انتهى إلى باب الكهف، فدخل عليهم وأخبرهم بهلاك دقيانوس وظهور الإسلام، وأن القوم في ولاية ملك صالح، وها هو قد أقبل إليكم ومعه عامة أهل المدينة. فلما سمعوا ذلك كبروا وحمدوا الله، ووافاهم الملك وأهل المدينة. والملك سلم عليهم وسألهم عن حالهم وعانقهم. وعامة الناس سلموا عليهم، فبادروا بذكر قصتهم حتى إذا فرغوا من ذلك خروا موتى. فبنوا على الكهف مسجداً، واتخذوا ذلك اليوم عيداً، وانهم على حالهم إلى زماننا هذا. أفلوغونيا مدينة كبيرة من نواحي أرمينية، أهلها نصارى. من خواصها إسراع الجذام إلى أهلها لأن أكثر أكلهم الكرنب والغدد فيهم طبع، وفيهم خدمة للضيف وقرى، وحسن الطاعة لرهبانهم، والرهابين يلعبون بعقولهم، حكي انه إذا مرض أحدهم أحضر الراهب ودفع مالاً إليه ليستغفر له، ويحضر القس وانه يبسط كساء ويعترف المريض بذنب ذنب مما عمله، والقس قاعد يضم كفيه، كلما فرغ المذنب ينفض كفيه في الكساء إلى أن فرغ من تمام ذنوبه. وبعد فراغه يضم القس أطراف الكساء ويخرج بها وينفض في الصحراء، فيظنون أن الذنوب قد انمحت بالصدقة ودعاء القس.

إلبيرة

وحكي أن فيهم من إذا تزوج ببكر يريد أن يفترعها الراهب، لتكون مباركة على زوجها ببركة الراهب. إلبيرة مدينة بالأندلس بقرب قرطبة. من أكرم المدن وأطيبها شديدة الشبه بغوطة دمشق في غزارة الأنهار والتفاف الأشجار وكثرة الثمار. في ساحلها شجر الموز، ويحسن بها نبت قصب السكر، وبها معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والصفر، ومعدن التوتيا ومقطع الرخام، وتحمل هذه الأشياء منها إلى سائر بلاد الأندلس. وحكى أحمد بن عمر العذري: من أعمال البيرة موضع يسمى لوشة، فيه غار يصعد إليه أربعة أذرع ثم ينزل في غار نحو قامتين، يرى أربعة رجال موتى لا يعرف الناس حالهم، ألفوهم كذلك قديماً والملوك يتبركون بهم ويبعثون إليهم الأكفان، ولا ريب أنهم من الصلحاء لأن بقاءهم على حالهم مدة طويلة، بخلاف سائر الموتى، لا يكون إلا لأمر؛ قال العذري: حدثني من دخل عليهم وكشف عن وجه أحدهم فرأى دراعة على وجهه وقال: نقرت بإصبعي على بطنه فصوت كالجلد اليابس. ألش مدينة بالأندلس بقرب تدمير. من خواصها أن النخل لا ينجح بجميع بلاد الأندلس إلا بها. ويوجد بها زبيب ليس في جميع البلاد مثله، يحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس. وبها صناع البسط الفاخرة وليس مثلهم في شيء من بلاد الأندلس.

الأندلس

الأندلس جزيرة كبيرة بالمغرب فيها عامر وغامر. طولها دون الشهر في عرض نيف وعشرين مرحلة، ودورها أكثر من ثلاثة أشهر. ليس فيها ما يتصل بالبر إلا مسيرة يومين، والحاجز بين بلاد الأندلس وافرنجة جبل. قال أحمد بن عمر العذري صاحب المسالك والممالك الأندلسية: إن الأندلس وقعت متوسطة بين الأرض كما هي متوسطة بين الأقاليم، فبعضها في الإقليم الرابع، وبعضها في الإقليم الخامس. وبها مدن كثيرة وقرى وأنهار وأشجار، وبها الرخص والسعة. وبها معادن الذهب والفضة والرصاص والحديد في كل ناحية، ومعدن الزئبق والكبريت الأحمر والأصفر والزنجفر الجيد والتوتيا، والشبوب على أجناسها والكحل المشبه بالأصفهاني. وبها من الأحجار الياقوت والبلور والجزع واللازورد والمغناطيس والشادنج، والحجر الذي يقطع الدم والحجر اليهودي والمرقشيثا وحجر الطلق. وبها أصناف الرياحين حتى سنبل الطيب والقسط والاشقاقل، وبها الانبرباريس والعود. حكى العذري أن بعض الولاة ولى ناحية بشرة فشم رائحة العود، فوجدوا من دار رجل ضعيف ووجدوا عنده عوداً كثيراً يتقد به، فرأوه فإذا هو ذكي من عود الهند، فسئل عن موضع احتطابه فحملهم إلى جبل من جبال وفر، فحفروا وأخرجوا بقيته واشتهر بين الناس. وأهل الأندلس زهاد وعباد والغالب عليهم علم الحديث، ويقع في بلاد الأندلس من الخدم والجواري المثمنات على غير صناعة بل على حسنهم بألف دينار. ولأهلها إتقان في جميع ما يصنعونه إلا أن الغالب عليهم سوء الخلق. ومن عجائب الدنيا أمران: أحدهما المملكة الإسلامية بالأندلس مع إحاطة الفرنج من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من المسلمين، والآخر المملكة

النصرانية بساحل الشام مع إحاطة المسلمين من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من الإفرنج. قال العذري في وصف الأندلس: إنها شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدالها واستوائها، هندية في أفاويهها وذكائها، اهوازية في عظم اجتنائها، صنفية في جواهرها، عدنية في سواحلها. بها آثار عجيبة وخواص غريبة تذكر في مواضعها. وبها البحر الأسود الذي يقال له بحر الظلمات، محيط بغربي الأندلس وشماليه، وفي آخر الأندلس مجمع البحرين الذي ذكره الله في القرآن. وعرض مجمع البحرين ثلاثة فراسخ، وطوله خمسة وعشرون فرسخاً، وفيه يظهر المد والجزر، في كل يوم وليلة مدان وجزران، وذلك ان البحر الأسود عند طلوع الشمس يعلو ويفيض في مجمع البحرين، ويدخل في بحر الروم، وهو قبلى الأندلس وشرقيها، ولونها أخضر ولون البحر أسود كالحبر. وإذا أخذته في الإناء لا ترى فيه السواد، فلا يزال البحر الأسود يصب في البحر الأخضر إلى الزوال، فإذا زالت الشمس عاد الأمر معكوساً فيصب البحر الأخضر في البحر الأسود إلى مغيب الشمس، ثم يعلو البحر الأسود ويفيض في البحر الأخضر إلى نصف الليل، ثم ينعكس الأمر فيعلو البحر الأخضر ويصب في البحر الأسود إلى طلوع الشمس، وهكذا على التواتر، ذلك تقدير العزيز العليم؛ وسئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقال: ملك على قاموس البحر إذا وضع رجله فيه فاض وإذا رفعها غاض. وبها جبل فيه غار لا يرى أحد فيه النار، وإذا أخذت فتيلة مدهونة وشدت على رأس خشبة طويلة وأدخلت الغار، اشتعلت الفتيلة وتخرج مشتعلة. وبها جبل بقرب الجبل الذي سبق ذكره، ترى على قلته النار مشتعلة بالليل، وبالنهار يصعد منه دخان عظيم. وبها جبل عليه عينان بينهما مقدار شبرين، ينبع من إحداهما ماء حار ومن

الأخرى ماء بارد. ذكرهما صاحب تحفة الغرائب وقال: أما الحارث فلو رميت فيه اللحم ينطبخ، وأما البارد فيصعب شربه لغاية برودته. وبها جبل شلير لا يفارقه الثلج صيفاً ولا شتاء، وهو يرى من اكثر بلاد الأندلس لارتفاعه وشموخه، وفيه أصناف الفواكه من التفاح والعنب والتوت والجوز والبندق وغير ذلك، والبرد به شديد جداً؛ قال بعض المغاربة وقد اجتاز بشلير فوجد ألم البرد: يحلّ لنا ترك الصّلاة بأرضكم ... وشرب الحميّا وهي شيءٌ محرّم فراراً إلى نار الجحيم، فإنّها ... أخفّ علينا من شلير وأرحم! إذا هبّت الرّيح الشّمال بأرضكم ... فطوبى لعبدٍ في اللّظى يتنعّم أقول ولا ألحى على ما أقوله ... كما قال قبلي شاعرٌ متقدّم: فإن كنت يوماً في جهنّم مدخلي ... ففي مثل ذاك اليوم طاب جهنّم! وبها جبل الكحل. إنه بقرب مدينة بسطة؛ قالوا: إذا كان أول الشهر أخذ الكحل يخرج من نفس الجبل، وهو كحل أسود لا يزال كذلك إلى نصف الشهر، فإذا زاد على النصف نقص الكحل، ولا يزال الذي خرج يرجع إلى تمام الشهر. وبها نهر ابره؛ قال أحمد بن عمر العذري صاحب المسالك والممالك الأندلسية: مخرج هذا النهر من عين يقال لها فونت ايبرهي، ومصبه في البحر الشامي بناحية طرطوشة، وامتداده مائتا ميل وعشرة أميال، يوجد فيه صنف من السمك عجيب يقال له الترحته لا يوجد في غيره البنة، وهو سمك أبيض ليس له إلا شوكة واحدة؛ كل ذلك عن العذري صاحب الممالك والمسالك الأندلسية. وبها نهر أنه. مخرجه من موضع يعرف بفج العروس، ثم يغيض بحيث لا يبقى له أثر على وجه الأرض، ويحرج بقرية من قرى قلعة رباح يقال لها أنه، ثم يغيض ويجري تحت الأرض، ثم يبدو هكذا مراراً في مواضع شتى إلى أن

أنقرة

يغيض بين ماردة وبطليوس، ثم يبدو وينصب في البحر المحيط. وامتداده ثلاثمائة وعشرون ميلاً؛ كل ذلك عن العذري. أنقرة مدينة مشهورة بأرض الروم، تقول العجم انكورية، غزاها الرشيد وفتحها؛ قال بسيل الترجمان: كنت مع الرشيد لما فتحها. رأيت على باب الحصن كتابة باليونانية، فجعلت أنقلها والرشيد ينظر إلي، فإذا هي: بسم الله الرحمن الرحيم، الملك الحق المبين. يا ابن آدم غافص الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى واليها، ولا يحملنك إفراط السرور على ما تم، ولا تحملن على نفسك هم يوم لم يأتك، فإنه إن لم يأت من أجلك يأت الله برزقك فيه، ولا تكن أسوة للمغرورين في جمع المال، فكم قد رأينا من جمع لبعل حليلته، على أن يعتبر المرء على نفسه توفير الخوان غيرة. وحكي أن في زمن المعتصم تعدوا على رجل من أهل العراق بأرض أنقرة ينادي يا معتصماه! فقالوا: اصبر حتى يأتي المعتصم على الابلق ينصرك! فوصل هذا القول إلى المعتصم، فأمر بشري كل فرس أبلق في مملكته، وذهب إلى الروم ونهب أنقرة، وكان على باب مدينتها مصراعان من الحديد مفرطا الطول والعرض، حملهما إلى بغداد وهما الآن على باب العامة، باب من أبواب حرم الخلافة. باب الابواب مدينة عجيبة على ضفة بحر الخزر، مبنية بالصخور، وهي مستطيلة يصيب ماء البحر حائطها. طولها مقدار ثلثي فرسخ وعرضها غلوة سهم، عليها أبواب من الحديد، ولها أبراج كثيرة، على كل برج مسجد للمجاورين والمشتغلين بالعلوم الدينية، وعلى السور حراس تحرس من العدو.

بناها أنوشروان كسرى الخير، وهي أحد الثغور العظيمة لأنها كثيرة الأعداء من الذين حفوا بها من أمم شتى، وإلى جانب المدينة جبل أرعن يعرف بالذنب، يجمع على قلته كل سنة حطب كثيرة ليشعلوا فيه النار، إذا احتاجوا إلى إنذار أهل اران وآذربيجان وأرمينية بمجيء العدو. وكانت الأكاسرة شديدة الاهتمام بهذا المكان لعظم خطره وشدة خوفه. وحكى أبو العباس الطوسي أن الخزر كانت تعبر على ملك فارس حتى وصلوا إلى همذان والموصل. فلما ملك أنوشروان بعث إلى ملك الخزر، وخطب إليه ابنته على أني زوجه ابنته ويتفرغا لأعدائهما. فأجابه إلى ذلك، فعمد أنوشروان إلى جارية من جواريه نفيسة فوجه بها إلى ملك الخزر على أنها ابنته، وحمل معها ما يحمل مع بنات الملوك. وأهدى خاقان ملك الخزر إلى أنوشروان ابنته، فلما وصلت إليه كتب إلى خاقان: لو التقينا أوجبنا المودة بيننا! فأجابه إلى ذلك فالتقيا وأقاما أياماً. وأنوشروان أمر قائداً من قواده يختار ثلاثمائة رجل من أشداء أصحابه، فإذا هدأت العيون أغار على عسكر الخزر يحرق ويعقر ويرجع إلى مكانه، ففعل. فلما أصبح بعث خاقان إلى أنوشروان أن أتيت عسكري البارحة. فبعث إليه أنوشروان انه لم يأت من قبلنا فابحث وانظر. ففعل ولم يقف على شيء ثم أمهله أياماً وعاد لمثلها حتى فعل ثلاث مرات، وفي كلها يعتذر، فدعا خاقان قائداً من قواده وأمره بمثل ما أمر به أنوشروان. فلما فعل أرسل أنوشروان: ما هذا؟ استبيح عسكري الليلة! فأرسل إليه خاقان يقول: ما أسرع ما ضجرت! فقد عمل مثل هذا بعسكري ثلاث مرات، وإنما فعل بك مرة واحدة. فبعث إليه أنوشروان يقول: إن هذا عمل قوم يريدون إفساد ما بيننا! وعندي رأي ان قبلته وهو أن تدعني أبني بيني وبينك حائطاً وأجعل عليه أبواباً، فلا يدخل بلادك إلا من تريد، ولا يدخل بلادي إلا من أريد. فأجابه إلى ذلك، وانصرف خاقان إلى مملكته.

وأقام أنوشروان وشرع في بناء حائط من الصخر والرصاص، وجعل عرضه ثلاثمائة ذراع وعلاه حتى ألحقه برؤوس الجبال ثم قاده في البحر. فيقال: انه نفخ في الزقاق وبنى عليها حتى استقرت على الأرض، ثم رفع البناء حتى استوى مع الذي على الأرض في عرضه وارتفاعه، فجعل أحد طرفيه في البحر وأحكمه، وقد مده سبعة فراسخ إلى موضع أشب، وهو جبل وعر لا يتهيأ سلوكه، وبنى بالحجارة المهندمة نقل أصغرها خمسون رجلاً وأحكمها بالرصاص والمسامير، وجعل في هذه السبعة فراسخ سبعة مسالك، على كل مسلك مدينة، ورتب فيها قوماً من مقاتلة الفرس على كل مدينة مائة رجل يحرسونها، بعد أن كان محتاجاً إلى مائة ألف رجل. ثم نصب سريره على القيد الذي صنعه على البحر، وسجد شكراً لله على ما تم على يده وكفاه شر الترك وهجومهم، واستلقى على ظهره وقال: الآن استرحت. ومدينة باب الأبواب من تلك المدن. والعجم يسمونه دربند. وبها صور مطلسمة لدفع الترك، وكانت عساكر الترك لا تزال تأتي من تلك الجهة وتنهب بلاد إيران، فلما بنى أنوشروان ذلك السد وطلسمه، لم يذكر أن دخل الترك من تلك الجهة بلاد إيران، منها صورة أسدين على حائط باب الجهاد، فوق أسطوانتين من حجر وأسفل منهما حجران، على كل حجر تمثال لبوءتين، وبقرب الباب صورة رجل بين رجليه صورة ثعلب، في فمه عنقود عنب لعله لدفع الثعلب عن أعنابهم! وإلى جانب المدينة صهريج له درجات، ينزل بها إلى الصهريج إذا قل ماؤه، وعلى جنبي الدرجة صورتا أسدين من حجارة، يقولون: إنهما طلسم اتخذ للسور ما دام باقياً لا يصيب المدينة من الترك آفة. وخارج المدينة تل عليه مسجد، في محرابه سيف يقولون: إنه سيف مسلمة ابن عبد الملك بن مروان. يزوره الناس، لا يزار إلا في ثياب بيض، فمن قصده في ثياب مصبوغة جاءت الأمطار والرياح وكاد يهلك ما حول التل. وعليه حفاظ

بتم

يمنعون من يذهب إليه بالثياب المصبوغة. وبقرب هذا التل عين يخرج الناس إليها كل ليلة جمعة، فيرون في بعض ناشئة الليل في تلك العين ضياء ونوراً، حتى يتبين لهم الحصى والحجر، ويسمون تلك العين الثواب. بتم حصن منيع بناحية فرغانة. به معدن الذهب والفضة والنوشاذر الذي يحمل إلى سائر البلاد. وهو في جبل شبه غار قد بني عليه بيت يستوثق من بابه وكواه يرتفع منه بخار شبيه بالدخان في النهار وبالنار في الليل، فإذا تلبد هذا البخار يكون منه النوشاذر، ولا يتهيأ لأحد أن يدخل هذا البيت من شدة حره، إلا أن يلبس لبوداً يرطبها بالماء، ثم يدخله كالمختلس فيأخذ ما يقدر عليه ويسرع الخروج. بجانة مدينة بالأندلس بقرب المرية. بها جمة غزيرة الماء يقصدها الزمنى ويسكنون بها، وأكثر من يواظب عليها يبرأ من زمانته. وبها فنادق مبنية بالحجارة لسكان قاصدي تلك الجمة، وربما لم يوجد بها المسكن لكثرة قاصديها. وعلى الجمة بيتان: أحدهما للرجال وهو على الجمة نفسها، والآخر للنساء يدخله الماء من بيت الرجال. وقد بني بيت ثالث مفروش بالرخام الأبيض، يأتيه الماء من قناة ويختلط بماء الجمة حتى يصير فاتراً، ويدخله من لا يستطيع دخول ماء الجمة، وتخرج فضلتها تسقي الزروع والأشجار. بخارى مدينة عظيمة مشهورة بما وراء النهر قديمة طيبة. قال صاحب كتاب الصور: لم أر ولا بلغني أن في جميع بلاد الإسلام مدينة أحسن خارجاً من بخارى.

بينها وبين سمرقند سبعة أيام وسبعة وثلاثون فرسخاً، هي بلاد الصغد، أحد متنزهات الدنيا. ويحيط ببناء المدينة والقصور والبساتين والقرى المتصلة بها سور يكون اثني عشر فرسخاً في مثلها، بجميع الأبنية والقصور والقرى والقصبة فلا يرى في خلال ذلك قفار ولا خراب، ومن دون ذلك السور على خاص القصبة، وما يتصل بها من القصور والمحال والبساتين التي تعد من القصبة، ويسكنها أهل القصبة شتاء وصيفاً، سور آخر نحو فرسخ في مثله، ولها مدينة داخل هذا السور يحيط بها سور حصين. روى حذيفة بن اليمان عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ستفتح مدينة خلف نهر يقال له جيحون، يقال له بخارى، محفوفة بالرة ملفوفة بالملائكة، منصور أهلها، النائم فيها على الفراش كالشاهر سيفه في سبيل الله. وخلفها مدينة يقال لها سمرقند، فيها عين من عيون الجنة، وقبر من قبور الأنبياء، وروضة من رياض الجنة، يحشر موتاها يوم القيامة مع الشهداء. وفي الحديث: أن جبريل، عليه السلام، ذكر مدينة يقال لها فاخرة وهي بخارى، فقال، صلى الله عليه وسلم: لم سميت فاخرة؟ فقال: لأنها تفخر يوم القيامة على المدن بكثرة شهدائها. ثم قال: اللهم بارك في فاخرة وطهر قلوبهم بالتقوى، واجعلهم رحماء على أمتي! فلهذا يقال: ليس على وجه الأرض أرحم للغرباء منهم. ولم تزل بخارى مجمع الفقهاء ومعدن الفضلاء ومنشأ علوم النظر. وكانت الرئاسة في بيت مبارك يقال لرئيسها خواجه إمام أجل. وإلى الآن نسلهم باق ونسبهم ينتهي إلى عمر بن عبد العزيز بن مروان، وتوارثوا تربية العلم والعلماء كابراً عن كابر، يرتبون وظيفة أربعة آلاف فقيه، ولم تر مدينة كان أهلها أشد احتراماً لأهل العلم من بخارى. ينسب إليها الشيخ الإمام قدوة المشايخ محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح الذي هو أقدم كتب الأحاديث. كان وحيد عصره وفريد دهره.

بذ

حكي انه لما جمع هذا الكتاب بحسنه وصحته أراد أن يسمع منه أحد حتى يروي عنه بعد موته، فما كان أحد يوافقه أن يسمع منه ذلك، حتى ذهب إلى شخص يعمل طول نهاره على بقر فقال له: أنا أقرأ هذا الكتاب وأنت تسمعه مني فلعله ينفعك بعد ذلك! وكان الشيخ يقرأ كتاب الصحيح والبقر يعمل والفربري يسمع منه حتى أسمعه جميع الكتاب. فلهذا ترى كل من يروي صحيح البخاري تكون روايته عن الفربري. وينسب إليها أبو خالد يزيد بن هارون. كان أصله من بخارى ومقامه بواسط العراق. حكى عاصم بن علي أن يزيد بن هارون كان إذا صلى العشاء لا يزال قائماً حتى يصلي الغداة بذلك الوضوء، وداوم على ذلك نيفاً وأربعين سنة. وحكى أبو نافع ابن بنت يزيد بن هارون قال: كنت عند أحمد بن حنبل، وكان عنده رجل قال: رأيت يزيد بن هارون فقلت: يا أبا خالد ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وشفعني وعاتبني! فقلت له: فيم عاتبك؟ قال: قال لي يا يزيد أتحدث عن جرير بن عثمان؟ فقلت: يا رب ما علمت منه إلا خيراً! فقال: إنه كان يبغض أبا الحسن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وحكى آخر قال: رأيت ابن هارون في المنام فقلت له: هل أتاك منكر ونكير؟ قال: إي والله! وسألاني: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فقلت: ألمثلي يقال هذا وأنا يزيد بن هارون اعلم الناس هذا سبعين سنة؟ فقال: صدقت، نم نومة العروس! توفي يزيد بن هارون بواسط سنة ست ومائتين عن سبع وثمانين سنة. بذ كورة بين أران وآذربيجان، كثيرة الضباب قلما تصحو السماء بها، منها كان مخرج بابك الخرمي في أيام المعتصم بالله. بها موقف رجل لا يقوم أحد فيه يدعو الله تعالى إلا استجيب له. ومنها يتوقعون خروج المهدي، وذكر أن تحتها نهراً عظيماً، إن اغتسل فيه صاحب الحمى العتيقة ذهبت حماه.

برذعة

برذعة مدينة كبيرة بأران أكثر من فرسخ في فرسخ. أنشأها قباذ الملك، وهي خصبة نزهة كثيرة الثمار. وبها القرنفل والبندق والشاهبلوط، وبها صنف من الفواكه يقال له الدرقال على قدر الغبيراء حلو الطعم، لا يوجد في شيء من غير هذا الموضع. وبقربها نهر الكر يصاد منه الشورماهيج، ويحمل منها إلى سائر البلاد. وبها بغال فاقت بغال جميع النواحي في حسنها وصحة قوائمها. وبها سوق الكركي، يقام كل يوم أحد على باب الأكراد مقدار فرسخ في فرسخ، يجتمع الناس إليه من كل وجه وأوب للتجارة، وهذه كانت صفتها القديمة، وأما الآن فاستولى عليها الخراب إلا أن آثار الخير بها كثيرة. وبأهلها صعلكة ظاهرة ومثل هذا يذكر للاعتبار. فسبحان من يحيل ولا يحال، ويزيل ولا يزال. بسطة مدينة بالأندلس بقرب جيان، كثيرة الخيرات. بها بركة تعرف بالهوتة، فيها ما بين وجه الماء إلى الأرض نحو قامة، لا يعرف لهذه البركة قعر أصلاً. قال أحمد بن عمر العذري: بين بسطة وبياسة غار يسمى بالشيمة لا يوجد قعره. وبناحية بسطة جبل يعرف بجبل الكحل، إذا كان أول الشهر برز من نفس الجبل كحل أسود، ولا يزال كذلك إلى منتصف الشهر، فإذا زاد على النصف نقص الكحل، ولا يزال يرجع إلى آخر الشهر. بلقوار قرية من قرى تدمير بأرض الأندلس. بها حمة شريفة حسنة، عليها ديماس للرجال وآخر للنساء، وأصل العين في ديماس الرجال، يخرج منها ماء غزير يفضل عن حاجة الديماسين، ويسقي زرع القرية.

بلنسية

بلنسية مدينة قديمة بأرض الأندلس، ذات خطة فسيحة، جمعت خيرات البر والبحر والزرع والضرع، طيبة التربة ينبت بها الزعفران ويزكو بها، ولا ينبت في جميع أرض الأندلس إلا بها كأرض روذراور بأرض الجبال. بيضاء مدينة بالأندلس متقنة البناء بالحجر الأبيض المهندم؛ قالوا: إنها من بناء الجن، بنوها لسليمان بن داود، عليه السلام، من عجائبها أن لا يرى بها حية ولا عقرب، ولا شيء من الهوام المؤذية. حكى محمد بن عبد الرحمن الغرناطي أن برستاقها صنفاً من العنب، وزن الحبة منه عشرة مثاقيل. بيلقان مدينة كبيرة مشهورة ببلاد أران، حصينة ذات سور عال، بناها قباذ الملك؛ قالوا: ليس بها ولا في حواليها حجر واحد. ولما قصدها التتر ورأوا حصانة سورها أرادوا خرابه بالمنجنيق، فما وجدوا حجراً يرمى به الحائط. ورأوا أشجاراً من الدلب عظاماً قطعوها بالمناشير، وتركوا قطاعها في المنجنيق، ورموا بها السور حتى خربوا سورها، ونهبوا وقتلوا والآن عادت إلى عمارتها. ينسب إليها مجير البيلقاني. كان رجلاً فاضلاً شاعراً، وصل إلى أصفهان، وذكر في شعر له أن أهل أصفهان عمي، فسمع رئيس أصفهان ذلك وأمر لكل شاعر في أصفهان أن يقول فيه شيئاً، ففعلوا فجمعها في مجلد وبعثه إليه.

تركستان

تركستان اسم جامع لجميع بلاد الترك، وحدها من الإقليم الأول ضارباً في المشرق عرضاً إلى الإقليم السابع، وأكثرهم أهل الخيام، ومنهم أهل القرى، وسنذكر بلادهم وقبائلهم في الإقليم السادس إن شاء الله تعالى، وإنهم سكان شرقي الأقاليم كلها من الجنوب إلى الشمال، ممتازة عن جميع الأمم بكثرة العدد، وزيادة الشجاعة والجلادة وصورة السباع، عراض الوجوه فطس الأنوف عبل السواعد ضيقو الأخلاق، والغالب عليهم الغضب والظلم والقهر وأكل لحوم الحيوانات، لا يريدون لها بدلاً، ولا يراعون فيها نضجاً، ولا يرون إلا ما كان اغتصاباً كما هي عادة السباع. وليس عيشهم إلا شن غارة أو طلب ظبي نافر أو طير طائر، حتى إذا ظن بهم الكلال رأيتهم على نشاطهم الأول في ركض الخيل، وتسلم الجبال. وحسبك ما ترى من كبر همتهم أن أحدهم إذا سبى لا يرضى أن يكون زعيماً أو متقدماً لعسكر سيده، بل يريد انتزاع الملك من سيده والقيام مقامه. حكى بعض التجار قال: خرج من خوارزم قفل عظيم، فلما ذهبوا أياماً وبعدوا عن خوارزم ساروا ذات يوم، فلما نزل القوم رأوا مماليكهم الترك خرجوا عن وسط القوم، وكان عددهم أكثر من عدد التجار يرمون القوم بالنشاب. قالوا: ما شأنكم؟ قالوا: نريد نقتلكم ونأخذ هذه الأموال، نشتري منها الخيل والسلاح، ونمشي إلى خدمة السلطان! فقال القوم لهم: أنتم لا تحسنون بيع هذا القماش فاتركوه معنا حتى نحسن نشتري لكم منها الخيل والسلاح، ونجعل أحدكم أميراً، وتمشون إلى خدمة السلطان! فخدعوهم وبعثوا إلى خوارزم من يخبر شحنة خوارزم بالحال، فما كان إلا أيام قلائل حتى وصل الشحنة. قبض على المماليك، ورد القفل إلى خوارزم، وصلب المماليك، ونادى في خوارزم أن لا يشتري من التجار أحد مملوكاً رجلاً!

وحسبك من غلبتهم في الأمور وصعوبة جانبهم قوله، صلى الله عليه وسلم: اتركوا الترك ما تركوكم! والترك ليسوا من الديانات في شيء، فمنهم عبدة الكواكب، ومنهم عبدة النيران، ومنهم من على مذهب النصارى، ومنهم مانوية، ومنهم ثنوية، ومنهم سحرة، وصنعتهم الحرب والطعن والضرب الذي هو صنعة المريخ فإنه صاحبهم. وحكي أن هشام بن عبد الملك بعث رسولاً إلى ملك الترك يدعوه إلى الإسلام؛ قال الرسول: دخلت عليه وهو يتخذ بيده سرجاً. قال للترجمان: من هذا؟ فقال: إنه رسول ملك العرب. فأمرني إلى بيت كثير اللحم قليل الخبز ثم بعد أيام استدعاني وقال: ما بغيتك؟ فتلطفت له وقلت: إن صاحبي يريد نصيحتك، ويرى أنك في ضلال يريد أن تدخل في دين الإسلام! فقال: ما الإسلام؟ فأخبرته بأركانه وشرائطه وحلاله وحرامه، فتركني أياماً ثم ركب ذات يوم مع عشرة أنفس، ومع كل واحد لواء وحملني معه، فمضينا حتى صعدنا تلاً وحول التل غيضة. فلما طلعت الشمس أمر واحداً من أولئك أن ينشر لواءه ففعل، فوافى عشرة آلاف فارس متسلحين ثم أمر غيره، فما زال واحد بعد واحد ينشر لواءه ويأتي عشرة آلاف حتى صار تحت التل مائة ألف مدجج. ثم قال للترجمان: قل لهذا الرسول ارجع إلى صاحبك وأخبره أن هؤلاء ليس فيهم إسكاف ولا حجام ولا خياط، فإذا أسلموا والتزموا الشرائط للإسلام فمن أين مأكلهم؟ وحكى داود بن منصور الباذغيسي، وكان رجلاً صالحاً، قال: اجتمعت بابن ملك الغز فوجدته رجلاً ذا فهم وعقل وذكاء، واسمه لقيق بن جثومة، وقلت له: بلغنا أن الترك يجلبون المطر والثلج متى شاءوا، كيف سبيلهم إلى ذلك؟ فقال: الترك أحقر وأذل عند الله تعالى من أن يستطيعوا هذا الأمر، والذي بلغك حق، وأنا أحدثك به: بلغني أن بعض أجدادي راغم أباه وكان أبوه ملكاً، فاتخذ لنفسه أصحاباً وموالي وغلماناً، وسار نحو المشرق يغير

على الناس ويصيد ما ظهر له، فانتهى به المسير إلى موضع ذكر أهله أن لا مسير له بعده، وكان عندهم جبل تطلع الشمس من ورائه، وتحرق كل شيء وقعت عليه، وكان سكانها في الأسراب تحت الأرض والغيران في الجبال بالنهار. وأما الوحش فتلتقط حصى هناك قد ألهمها الله تعالى معرفتها، فتأخذ كل وحشية حصاة في فيها وترفع رأسها إلى السماء، فتظلها غمامة عند ذلك تحجب بينها وبين الشمس، قال: فقصد أصحاب جدي حتى عرفوا ذلك الحجر، فحملوا من معهم ما قدروا إلى بلادنا، فهو معهم إلى الآن. فإذا أرادوا المطر حركوا منه شيئاً فينشأ الغيم ويوافي المطر، وإن أرادوا الثلج زادوا في تحريكها فيوافيهم الثلج والبرد؛ فهذه قصة المطر والحجر، وليس ذلك من حيلة الترك بل من قدرة الله تعالى! وحكى إسماعيل بن أحمد الساماني، وكان ملكاً عادلاً غازياً، قال: غزوت الترك ذات مرة في عشرين ألف فارس من المسلمين، فخرج علي منهم ستون ألفاً في السلاح الشاك، فواقعتهم أياماً، وإني ليوماً في قتالهم إذ جاءني قوم من مماليكي الأتراك وقالوا: إن لنا في معسكر الكفار قرابات، وقد أنذرونا بموافاة فلان وأنه ينشيء السحاب والمطر والثلج والبرد، وقد عزم أن يمطر علينا غداً برداً عظيماً لا يصيب الإنسان ألا يقتله، فانتهرتهم وقلت: هل يستطيع هذا أحد من البشر؟ فلما كان الغد وارتفع النهار نشأت سحابة عظيمة من جبل كنت مستنداً إليه بعسكري، ولم تزل تتنشر حتى أظلت عسكري، فهالني سوادها وما رأيت فيها من الهول، وما سمعت من الأصوات المزعجة، فعلمت أنها فتنة، فنزلت عن دابتي وصليت ركعتين والعسكر يموج بعضهم في بعض، ثم دعوت الله تعالى معفراً وجهي بالتراب وقلت: اللهم أغثنا فإن عبادك يضعفون عن محنتك! وإني أعلم أن القدرة لك، وان النفع والضر لا يملكهما إلا أنت! اللهم إن هذه السحابة إن أمطرت علينا كانت فتنة للمؤمنين وسطوة للمشركين. فاصرف عنا

شرها بحولك وقوتك، يا ذا الحول والقوة! قال: وأكثرت من الدعاء رغبة ورهبة إلى الله تعالى ووجهي على التراب. فبينا أنا كلك إذ بادر إلي الغلمان يبشروني بالسلامة، وأخذوا بعضدي ينهضوني. وكنت ثقيلاً من عدة الحديد، فرفعت رأسي فإذا السحابة قد زالت عن عسكري. وقصدت عسكر الترك وأمطرت برداً عظيماً، فإذا هم يموجون وتنفر دوابهم، وما وقعت بردة على أحد إلا أوهنته أو قتلته. فقال أصحابي: نحمل عليهم؟ فقلت: لا فإن عذاب الله أدهى وأمر! فمات منهم خلق كثير ولم يفلت إلا القليل. فلما كان من الغد دخلنا معسكرهم فوجدنا من الغنائم ما شاء الله، فحملناها وحمدنا الله تعالى على السلامة. بها جبل زانك؛ قال صاحب تحفة الغرائب: بأرض تركستان جبل به جمع من أهل بيت يقال لهم زانك، وهم أناس ليس لهم زرع ولا ضرع، وفي جبالهم معدن الذهب والفضة، فربما توجد قطعة كرأس شاة، فمن أخذ القطاع الصغار تمتع بها، ومن أخذ من الكبار يفشو الموت في كل بيت فيه تلك القطعة. فإن ردها إلى مكانها ينقطع عنهم الموت، ولو أخذها الغريب لا يضره شيء. وبها جبل النار؛ هذا الجبل بأرض تركستان فيه غار شبه بيت كبير، كل دابة تدخله تموت في الحال لشدة وهج النار في ذلك البيت. وبها جبل كيلسيان؛ ذكر صاحب تحفة الغرائب أن بهذا الجبل موضعاً، كل طير طار مسامتاً له يقع في الحال ميتاً، فيرى حوله من الحيوانات الميتة ما شاء الله. وبها جبل ذكره أبو الريحان الخوارزمي في كتابه المسمى بالآثار الباقية: إن بأرض الترك جبلاً إذا اجتاز عليه الغنم شدت أرجلها بالصوف لئلا تصطك حجارة فيعقبها المطر. وبها معدن البلحش ومعدن اللازورد والبيجاذق، من خصائصها المسك الذكي الرائحة، والسنجاب والسمور والقاقم والفنك والثعالب السود والأرانب

تفليس

البيض، والبزاة الشهب والحجر اليشب والخيل الهماليج والرقيق الروقة. وحكى بعض التجار أن بأرض الترك موضعاً يزرع فيه نوع من الحب، فيأتي بثمرة كالبطيخ، فإذا ظهرت ثمرته يزرع حولها شيء من الحشيش اللين حتى يكون عند إدراك الثمرة الحشيش موجوداً، فعند ذلك تنشق الثمرة ويخرج منها رأس حمل، ويجعل يرعى من ذلك الحشيش الذي بقربه أياماً حتى يقوى ويخرج من ذلك القشر، وقد حدث من رأى من هذا الغنم وقال: انه لا يخالف الغنم إلا بطول القوائم وفقد الألية، فإن عند أليتها شبه ذنب، وتحدث به كثير من التجار الذين أسفارهم إلى أرض الترك. والله الموفق. تفليس مدينة حصينة لا إسلام وراءها. بناها كسرى أنوشروان وحصنها إسحق ابن إسماعيل، مولى بني أمية. يشقها نهر الكر. أهلها مسلمون ونصارى: من أحد جانبي الكر يؤذنون، ومن الجانب الآخر يضربون بالناقوس، وذكروا أن المدينة كانت مسقفة بالصنوبر، فلما أرسل المتوكل إليها بغا لقتال إسحق بن إسماعيل خرج إسحق لمحاربة بغا، فأمر بغا النفاطين فرموا المدينة بالنار وأحرقوها فاحترقت المدينة كلها، لأنها كانت من خشب الصنوبر، وهلك خمسون ألف إنسان. ومن عجائبها حمام شديد الحرارة لا يوقد ولا يستقى له ماء، لأنه بني على عين حارة. وذكر بعض التجار أن هذا الحمام يختص بالمسلمين لا يدخله كافر البتة. والملة النصرانية بها ظاهرة والمدينة في إيالتهم، وبها من الصوامع والبيع والدينار الذي يسمونه بربره، وهو دينار حسن مفروغ مقعر عليه كتابة سريانية وصورة الأصنام، كل دينار مثقال ذهب جيد لا يقدر أحد على التلبيس به، وإنه نقد بلاد الابخاز وضرب ملوكهم.

جرجانية

ويجلب من تفليس الزئبق والخلنج والعبيد والدواب الفره، وأنواع اللبود والأكسية والبسط الرقيقة والفرش، والصوف الرفيع والخز وما شابه ذلك. جرجانية قصبة ناحية خوارزم. مدينة عظيمة مشهورة على شاطيء جيحون، من أمهات المدن جامعة لأشتات الخيرات وأنواع المسرات. جاء في فضائلها ما ذكره الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار عن ابن مسعود، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ليلة أسري بي رأيت على السماء الرابعة قصراً مزخرفاً، حواليه قناديل من نور. قلت: يا جبريل ما هذا القصر المزخرف؟ قال: هذا رباط ستفتحه أمتك بأرض خراسان، من مات حول ذلك النهر على فراشه قام يوم القيامة شهيداً. قلت: يا جبريل ولم ذاك؟ قال: لهم عدو يقال له الترك شديد كلبهم قليل سلبهم، من وقع في قلبه فزعة منهم قام شهيداً يوم القيامة من قبره مع الشهداء. وعن الحسن: مدينة بالمشرق يقال لها خوارزم على شاطيء نهر يقال له جيحون ملعون الجانبين، ألا وإن تلك المدينة محفوفة مكفوفة بالملائكة، تهدى إلى الجنة كما تهدى العروس إلى بيت زوجها، يبعث الله تعالى منها مائة شهيد، كل شهيد منهم يعدل شهيد بدر. وجرجانية مدينة عظيمة كثيرة الأهل. وأهلها كلهم أجناد حتى البقال والقصاب والخباز والحائك. وحكي أن السلطان محمد بن تكش أوقع به الخطأ في بعض وقائعه وقتلوا من المسلمين مقتلة عظيمة، وما أفلت منهم إلا السلطان في نفر يسير، فدخل البلد ليلاً لئلا يرى الناس قلة عدده، وركب أول النهار بثلاثين ألف فارس وذهب إلى وجه العدو.

وأهل جرجانية كلهم معتزلة، والغالب عليهم ممارسة علم الكلام حتى في الأسواق والدروب يناظرون من غير تعصب بارد في علم الكلام. وإذا رأوا من أحد التعصب أنكروا عليه كلهم وقالوا: ليس لك إلا الغلبة بالحجة، وإياك وفعل الجهال! وأهلها أهل الصناعات الدقيقة كالحداد والنجار وغيرهما، فإنهم يبالغون في التدقيق في صناعاتهم، والسكاكون يعملون الآلات من العاج والآبنوس، لا يعمل في غير خوارزم إلا بقرية يقال لها طرق من أعمال أصفهان. ونساؤها يعملون بالإبرة صناعات مليحة كالخياطة والتطريز والأعمال الدقيقة. وحكي أن السبب في بناء هذه المدينة أن بعض الملوك غضب على جمع من أصحاب مملكته، فأمر بنفيهم إلى موضع بعيد عن العمارات، فنفوهم إلى هذا المكان وتركوهم، وكان موضعاً منقطعاً عن البلاد لا زرع به ولا ضرع. فلما كان بعد مدة جرى ذكرهم عند الملك، فأمر بكشف خبرهم فجاؤوا إليهم فوجدوهم قد بنوا أكواخاً ويتقوتون بصيد السمك، وكان عندهم حطب كثير فقالوا لهم: كيف حالكم؟ قالوا: لنا هذا السمك وهذا الحطب. فسمي الموضع خوارزم لأن بلغتهم خوار اللحم ورزم الحطب، فبعث الملك إليهم أربعمائة جارية من سبي الترك على عدد الرجال المنفيين، فتوالدوا وتناسلوا فلهذا ترى صورهم صور الأتراك وطباعهم طباع الترك. وفيهم جلادة وقوة فعمروا ذلك الموضع حتى صار من أحسن بلاد الله تعالى وأكثرها عمارة، حتى لم ير بها خراب، فإنها معما هي عليه من سباخة أرضها وكثرة برودها متصلة العمارة متقاربة القرى، كثيرة القصور والبيوت، وقلما يقع النظر في رستاقها على أرض لا عمارة فيها، هذا مع كثرة الأشجار. والغالب عليها التوت والخلاف لأجل دود القز، فإن لهم يداً باسطة في تربيتها، والخلاف لأجل العمارات، فإن عماراتهم من الاخصاص والخلاف لأن أرضها كثيرة النزور لا تحتمل البناء الثقيل؛ فإن الماء ينبع إذا حفرت ذراعين.

جنبذق

وبها زحمة وغلبة شديدة من كثرة الناس، حتى لا فرق بين أسواقها ورستاقها على المارين. وأما البرد فإنه شديد عندهم جداً حتى ان الإنسان إذا أراد إكرام غيره يقول: بت عندنا فإن عندنا ناراً طيبة! وقد لطف الله تعالى بهم برخص الحطب، يكون حمل عجلة بدرهمين. والغريب إذا خرج من بيته أول النهار مكشوف الوجه يضرب البرد وجهه فيسقط أنفه! وأما أهل المدينة فقد عرفوا ذلك فلا يخرجون إلا مستوري الوجه. ومن عجائبها زراعة البطيخ، فإن المدينة تحيط بها رمال سائلة ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً، شبه الرمال التي دون ديار مصر، تنبت شوكاً طويل الإبر يقال له بالعجمية اشترغاز، وهو الشوك الذي يقع عليه الترنجبين بأرض خراسان، فإذا كان أوان زرع البطيخ يذهب أهل خوارزم إليها، ويحجر كل أحد قطعة من الأرض أي مقدار شاء لا ملك لأحد فيها، ويشق أصول هذا الشوك وقضبانه، ويدع فيها بزر البطيخ ويتركها؛ فإن البزر ينبت فيها بنداوة الشوك، ولا يحتاج أصحابها إلى السقي ولا إلى شيء من أعمال الزراعة. فإذا كان أوان البطيخ ذهبوا إليها ورأوا وجه الأرض ممتلئاً من البطيخ الذي لا يوجد مثله في شيء من البلاد حلاوة وطيباً، ويكون رخيصاً جداً لكثرته وقلة مؤونته، وقد يقدد ويحمل إلى البلاد للهدايا. جنبذق قرية من أعمال المراغة، بينها وبين قلعة روين دز فرسخ. بها بئر عجيبة يخرج منها حمام كثير، فنصب على رأس البئر شبكة يقع فيها من الحمام ما شاء الله، وهي بئر لا يدرى قعرها؛ حكى بعض فقهاء المراغة أنهم أرسلوا فيها رجلاً ليعرف حال الحمام، فنزل حتى زادت الحبال على خمسمائة ذراع، ثم خرج فأخبر أنه لم ير شيئاً، وأحس بهواء قوي، ورأى في آخرها ضوءاً وشيئاً كثيراً من الحيوانات الموتى.

جنزة

جنزة بلدة حصينة قديمة من بلاد أران من ثغور المسلمين لقربها من الكرج، وهي مدينة كثيرة الخيرات وافرة الغلات. أهلها أهل السنة والجماعة أهل الصلاح والخير والديانة، ولا يتركون أحداً يسكن بلدهم إذا لم يكن على مذهبهم واعتقادهم حتى لا يشوش عليهم مذهبهم واعتقادهم. والغالب عليهم ممارسة السلاح واستعمال آلات الحرب لكونهم في الثغر بقرب أرض الكفار. بها نهر قردقاس جيئه من حاجين ولاية الكرج، يجري ستة أشهر وينقطع ستة أشهر، ومجيئه وقت معلوم وانقطاعه كذلك. ولأهلها يد باسطة في تربية دود القز وعمل الابريسم، وابريسم جنزة يفوق ما لغيرها من البلاد حسناً. وفي نفس المدينة قناة ينزل إليها من طريقين: أحدهما موضع يعرف بباب المقبرة، والآخر بباب البردعة. يؤخذ الماء من باب المقبرة ويجذب به الابريسم، تزيد قيمته على الابريسم الذي يجذب بماء باب البردعة، وإن حملوا ماء باب المقبرة إلى باب البردعة لا يفيد شيئاً، وإن حملوا ماء باب البردعة إلى باب المقبرة يفيد ويخرج ابريسمه جيداً. وبها قلعة هرك على مرحلة منها. حولها رياض ومياه وأشجار. هواؤها في الصيف طيب، يقصدها أهل جنزة في الصيف. لكل أهل بيت فيها موضع يقيم فيه حتى تنكسر سورة الحر، ولأعيان جنزة بها دور حسنة. وإنها على نهر يقال له دروران، والنهر ينزل من جبل يسمى مرا، ولا يزال عليه الضباب وهو شامخ جداً. وذكروا أن كل من علا القلعة يرى الجبل، ومن علا الجبل لا يرى القلعة، وعلى هذا الجبل شجرة لها ثمرة يقال لها الموز، ليس في جميع الدنيا إلا بها، وهي شبيهة بالتوت الشامي، إلا أنها مدورة تنفع من أمراض الكبد. وعلى طرف دروران صخرة عظيمة مدورة شبه قلعة تسمى سنك نيم دانك، تصيبها نداوة مثل الصدإ تخضب بها الأطراف تفعل فعل الحناء،

ختلان

ومن العجب أن هذه النداوة لا تعلم هذا العمل إلا إذا كان المختضب جالساً عليها، فإن حمل إلى موضع آخر لم يفد شيئاً. وذكر أن الناس يحملون العرائس إليها إذا أرادوا أن يخضبوا أطرافهن. ويجلب من جنزة إلى سائر البلاد الابريسم الجيد والأطلس والثياب التي يقال لها الكنجي، والعجم يسمونها القطني والعمائم الخز ونحوها. ينسب إليها أبو ممد النظامي. كان شاعراً مفلقاً عارفاً حكيماً. له ديوان حسن وأكثر شعره إلهيات ومواعظ وحكم ورموز العارفين وكناياتهم. وله داستان خسرو وشيرين، وله داستان ليلى ومجنون، وله مخزن الأسرار وهفت بيكر. ولما نظم فخري الجرجاني داستان ويس ورامين للسلطان طغرلبك السلجوقي، وإنه في غاية الحسن، شعره كالماء الجاري كأنه يتكلم بلا تعسف وتكلف، أراد النظامي داستان خسرو وشيرين على ذلك المنوال، وأكثر فيها من الإلهيات والحكم والمواعظ والأمثال والحكايات الطيبة، وجعله للسلطان طغرل ابن أرسلان السلجقوي، وكان السلطان مائلاً إلى الشعر والشعراء، فوقع عنده موقعاً عظيماً، واشتهر بين الناس وكثرت نسخه. وأما داستان ليلى ومجنون فطلب منه صاحب شروان فقد نظمها له، وكان في فنه عديم النظير. توفي بقرب تسعين وخمسمائة. ختلان مدينة بأرض الترك مشهورة. حكي أن بها شعباً بين جبلين؛ قال صاحب تحفة الغرائب: يأتي في كل سنة ثلاثة أيام من ذلك الشعب في وقت معلوم صيد كثير، فإذا كانت تلك الأيام تمتليء دورهم وسطوحهم من الصيد ثم ينقطع إلى سنة أخرى؛ هكذا ذكره. ويجلب منها خيل هماليج ليس في شيء من النواحي مثلها.

خلاط

خلاط مدينة كبيرة مشهورة قصبة بلاد أرمينية، ذات خيرات واسعة وثمرات يانعة، بها المياه الغزيرة والأشجار الكثيرة. وأهلها مسلمون ونصارى. وكلام أهلها العجمية والأرمنية والتركية. ذات سور حصين، قصدها الكرج في زمن الملك الكامل الأوحد ونزلوا عليها يحاصرونها، وكان خارج المدينة نهر عليه قنطرة، فأهل خلاط نقضوها وستروها بشيء من الحشيش، ليقع فيها من يجتاز عليها من الكرج، وجلسوا تحت القنطرة منتظرين لمن يقع فيها حتى يأخذوه. وكان لملك الكرج، ويقال له الإيواني، منجم فاضل جربه مراراً كان ذا حكم صحيح؛ قال للإيواني: اركب الآن وحارب فإنك في آخر النهار تكون جالساً على سرير خلاط. فقام وركب وهو سكران، فأول من اجتاز في القنطرة كان الإيواني وقع في القنطرة. اجتمعوا عليه وأخذوه؛ قال: لا تقتلوني فإني أنا الإيواني، فحملوه إلى خلاط وأجلسوه على السرير فقال لهم: إن كنتم تخلصونني فافعلوا سريعاً قبل أن يمشي الخبر إلى الكرج ويقيموا مقامي أحداً، ولكم كل ما سألتم. فطلبوا منه فك أسارى المسلمين كلهم ومالاً عظيماً عمروا به سور خلاط وعاهدوا بالمهادنة سنين كثيرة وخلصوه. ومن عجائبها بحيرتها التي يجلب منها السمك الطريخ إلى جميع البلاد؛ قال ابن الكلبي: بحيرة خلاط من عجائب الدنيا، فإنها عشرة أشهر لا ترى فيها سمكة ولا ضفدعة، وشهران في السنة تكثر بها حتى تقبض باليد، وتحمل إلى سائر البلاد حتى إلى بلاد الهند؛ قيل: إنه لطلسم عمله بليناس الحكيم لقباذ الملك، وأما أهل خلاط فالفسق عندهم ظاهر، وصناعها يعملون أقفالاً ما في شيء من البلاد مثلها.

خوارزم

خوارزم ناحية مشهورة ذات مدن وقرى كثيرة، وسيعة الرقعة فسيحة البقعة، جامعة لأشتات الخيرات وأنواع المسرات؛ قال جار الله الزمخشري: بخوارزم فضائل لا توجد في غيرها من سائر الأقطار، وخصال محمودة لا تتفق في غيرها من الأمصار، قد اكتنفها أهل الشرك، وأطافت بها قبائل الترك، فغزو أهلها معهم دائم، والقتال فيما بينهم قائم، وقد أخلصوا في ذلك نياتهم، وأمحضوا فيه طوياتهم، وقد تكفل الله بنصرهم في عامة الأوقات، ومنحهم الغلبة في جميع الوقعات، وقد خصها بجيحون واد عسر المعبر بعيد المسالك، غزير الماء كثير المهالك. وأهلها أصحاب قلوب جرية، ونفوس أبية، ولهم السداد والديانة، والوفاء والأمانة، ودينهم محبة الأخيار، ومقت الأشرار، والإحسان إلى الغرباء، والتعطف على الضعفاء. ومما اختصت به خوارزم أنواع الرقيق الروقة والخيل الهماليج الفرهة، وضروب الضواري من البزاة والصقور، وأجناس الوبر وألوان الثياب، وثمارها أطيب الثمار وأشهاها وألذها وأحلاها وأنماها وأمراها، وهواؤها أصح هواء، وماؤها أعذب ماء، وناهيك ببطيخها الذي لا يوجد مثله. انتهى كلام الزمخشري. بها نهر جيحون؛ قال الأعمود: نهر جيحون يعرف بجريان يخرج من حدود بذخشان، وينضم إليها أنهار في حدود الختل ووحش فتصير نهراً عظيماً، وترتفع إليها أنهار البتم وأنهار صغانيان، وماء وحشاب الذي يخرج من بلاد الترك، ويصير في أرض وحش في جبل هناك يعبر قنطرة، ولا يعلم في الدنيا ماء في كثرته يضيق مثل ضيقه في هذا الموضع، وهذه القنطرة هي الحد بين الختل وواشجرد، ثم يمر على مدن كثيرة حتى يصل إلى خوارزم، ولا ينتفع شيء من البلاد إلا خوارزم، فإنها تستقل عنه ثم ينحدر عن خوارزم وينصب في بحيرة تسمى بحيرة خوارزم، بينها وبين خوارزم ستة أيام.

وحكي أن جيحون مع كثرة مائه يجمد في الشتاء، وكيفية جموده أنه إذا اشتد البرد وقوي كلبه جمد أولاً قطعاً، ثم تسري تلك القطع على وجه الماء، وكلما ماست قطعة من تلك القطاع أخرى التصقت بها، ولا تزال تنضم حتى صار جيحون كله سطحاً واحداً، ثم يثخن ويصير ثخنه في أكثر الأوقات خمسة أشبار؛ قال ابن فضلان في رسالته: رأيت جيحون وقد جمد سبعة عشر شبراً. والله أعلم بصحته. ثم يبقى باقي الماء تحته جارياً فيحفر أهل خوارزم فيه آباراً بالمعاول حتى يخرقوه إلى الماء، ثم يسقون منها كما يسقى من البئر لشربهم، ويحملونه في الجرار، وإذا استحكم جمود هذا النهر عبرت عليه القوافل والعجل الموقرة بالبقر، ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق، ويتظاهر عليه الغبار كما يكون في البوادي، ويبقى على ذلك نحو شهرين. فإذا انكسرت سورة البرد عاد ينقطع قطعاً كما بدا في أول أمره إلى أن يعود إلى حاله الأولى. وهو نهر قتال قلما ينجو غريقه. وبها جبل على ثمانية فراسخ من المدينة؛ قال أبو حامد الأندلسي: هذا الجبل فيه شعب كبير، وفي الشعب تل عال، وعلى التل شبه مسجد عليه قبة له أربعة أبواب آزاج كبار، ويتراءى للناظر كأن بنيان ذلك المسجد من الذهب ظاهره وباطنه، وحوله ماء محيط بالتل راكه لا مادة له إلا من ماء المطر والثلج زمان الشتاء. وإن ذلك الماء ينقص ويزيد ذراعاً في الصيف والشتاء في رؤية العين. والماء ماء عفن نتن عليه طحلب لا يستطيع أحد أن يخوضه، ومن دخل في ذلك استلبه الماء ولا يظهر أثره البتة، ولا يدرى أين ذهب. وعرض الماء مقدار مائة ذراع. وحكي أن السلطان محمود بن سبكتكين وصل إلى هذا الموضع وأقام به زماناً وألقى يه الزوارق فغاصت فيه، فأمر السلطان جميع عساكره بحمل التراب والخشب ونفضها في ذلك الماء، فكل شيء ألقي فيه غاص ولم يظهر له أثر. وقالوا: إن ذلك الماء إذا وقع فيه حيوان لم يقدر أحد على إخراجه البتة، وان

خوي

كان مشدوداً بالجبال وجره الرجال. وكل من سافر من خوارزم في طريق سخسين يرى ذلك الماء في طريقه، ولا حيلة في ذلك إلا ما شاء الله وانه من عجائب الدنيا. وبقرب خوارزم على ست مراحل منها بحيرة تستمد من جيحون. يخرج منها حجر على صورة البطيخ يعرف بالحجر اليهودي. لهذا الحجر فوائد كثيرة ذكرت في كتاب الخواص، وأشهرها ما يستعمله الأطباء لوجع الحصاة في المثانة، نعوذ بالله منه، وهو نوعان: ذكر وأنثى، فالذكر للرجال والأنثى للنساء. خوي مدينة معمورة من مدن آذربيجان، ذات سور حصين ومياه وأشجار، كثيرة الخيرات وافرة الغلات، كثيرة الأهل. وأهلها أهل السنة والجماعات على مذهب واحد، ليس بينهم اختلاف المذاهب. يعمل بها الديباج الذي يسمونه الجولخ. بها عين كنكلة؛ حدثني بعض فقهاء خوي أن هذه العين ينبع منها ماء كثير جداً بارد في الصيف حار في الشتاء. ينسب إليها القاضي شمس الدين الخوي. كان عالماً فاضلاً ذا فنون من العلم شرعياته وعقلياته، ذا تصانيف حسنة. فلما كان هجوم التتر هرب من خراسان وذهب إلى الشام، وما عرفوا قدره، رتبوه معيداً في مدرسة دمشق. حكي أن ابن الجوزي بعث رسولاً إلى الملك المعظم من دار الخلافة، فلما وصل إلى دمشق التمس أن يستدل بين يدي الملك المعظم، وكان الملك فقيهاً حنفياً، فجمع له أعيان دمشق، وكان ابن الجوزي واعظاً فصيحاً قادراً على الكلام، وما كان في القوم من يناقش بالمنوع الدقيقة. فلما قام قال: هذه مدينة حسنة ليس فيها فقيه! فتأذى الملك المعظم من ذلك وقال: ان هذا يعتقد انه قال شيئاً!

خيوق

فقالوا له: ههنا فقيه عجمي جمع بينهما وتفرج عليهما. فلما حضر ابن الجوزي طلبوا شمس الدين، فأراد تمشية مقدمة معه فما قدر، ثم ان شمس الدين أخذ مقدماته وقلبها عليه ثم عارضه في المقدمات وفي الحكم حتى جعله مبهوتاً. فقال ابن الجوزي: هذا الفقيه في أي شيء شغل؟ قالوا: ما هو في شيء من الأشغال. فقال: مثل هذا يترك عاطلاً؟ فولاه قضاء دمشق وتدريس العادلية. توفي قريباً من أربعين وستمائة شاباً، رحمة الله عليه. خيوق قرية من قرى خوارزم. ينسب إليها الشيخ الإمام قدوة المشايخ أبو الجناب، أحمد بن عمر بن محمد الخيوقي المعروف بكبرى. كان أستاذ الوقت وشيخ الطائفة وفريد العصر. له رسالة الهائم من لومة اللائم، من حقها أن تكتب بالذهب، ما صنف مثلها في الطريقة. ومن عجائبها ما ذكر أن للشيطان لطائف عجيبة في اضلال الناس، فيضل كل واحد حسبما يليق بحاله: أما الجهال فيضلهم بجهلهم، وأما العلماء فيقول اشتغل بتحصيل العلوم، أما عرفت قول النبي، صلى الله عليه وسلم: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد؟ فاصرف عمرك في تحصيل العلوم، فإذا كان آخر عمرك اشتغل بالعمل؛ فيأتيه الموت يعبه فجأة، فيكون له علم بلا عمل. وحكى، رحمه الله، أنه كان يجاهد نفسه، فجاء الشيطان ليوسوس عليه الحال فقال: إنك رجل عالم تتبع آثار النبي، صلى الله عليه وسلم، فاشتغل بسمع أحاديث النبي وآثار المشايخ الكبار الحفاظ، فإنك إن اشتغلت بمجاهدة النفس فإن عليك إدراك المشايخ الكبار والأستاذ العالي، وأما المجاهدة فلا تفوتك فيما بعد! فكدت أعمل بوسوسته فهتف بي هاتف: ومن يسمع الأخبار من غير واسطٍ ... حرامٌ عليه سمعها بوسائط!

دير برصوما

فعرفت أن ذلك الخاطر من وساوسه فتركته. توفي الشيخ قريباً من سنة عشر وستمائة. وينسب إليها الشيخ الفاضل العالم شهاب الدين الخيوقي. كان نائب السلطان خوارزمشاه في جميع مملكته، والقضاة والمدرسون والمفتون في جميع مملكة السلطان نوابه، فإذا دخل مدينة كان المدرسون والقضاة والعلماء يحضرون درسه، وكان شافعي المذهب متعصباً لأصحابه، وكان من عادته انه إذا دخل مدينة ذهب إليه الفقهاء وقرأوا عليه محفوظهم، وكان الشيخ يوليهم الأشغال من كان صالحاً لها. دير برصوما على قلة جبل ببلاد الروم بقرب ملطية. وهذا دير معتبر عند النصارى، فإنهم يقولون ان برصوما كان من الحواريين، وهو الدير الذي ينادى بطلب نذره في بلاد الروم وديار بكر وربيعة والشام. فيه رهبان كثير يؤدون كل عام إلى صاحب الروم عشرة آلاف دينار من نذره. حكى العفيف مرجى التاجر الواسطي قال: اجتزت بهذا الدير قاصداً بلاد الروم، فسمعت كثرة ما ينذرون له، وان النذر له لا يخطيء، فألقى الله على لساني ان قلت: هذا القماش الذي معي مشتراه خمسة آلاف درهم، فإن بعته بسبعة آلاف درهم فلبرصوما من خالص مالي خمسون درهماً! فدخلت ملطية وبعته بسبعة آلاف درهم، فلما رجعت سلمت إلى رهبانه خمسين درهماً، وسألته عن برصوما فذكر أنه مسجى على سرير وأن أظافيره تطول كل عام، وانهم يقلمونها ويحملونها إلى صاحب الروم مع ما له عليهم من القطيعة.

الروم

الروم بلاد واسعة من أنزه النواحي وأخصبها وأكثرها خيراً وعجائب ذكرت في مواضعها. مياهها أعذب المياه وأخفها، وهواؤها أصح الأهوية وأطيبها، وترابها أطيب الأتربة وأصحها. ومن خواصها نتاج الدواب والنعم. وليس في شيء من البلاد مثل مائها يحمل منها إلى سائر الآفاق، وكذلك أصناف الرقيق من الترك والروم. وأهلها مسلمون ونصارى. وشتاؤها يضرب المثل به حتى وصفه بعضهم فقال: الشتاء بالروم بلاء وعذاب وعناء! يغلظ فيها الهواء ويستحجر الماء، تذوي الوجوه وتعمش العيون وتسيل الأنوف وتغير الألوان وتقشف الأبدان، وتميت كثيراً من الحيوان. أرضها كالقوارير اللامعة وهواؤها كالزنابير اللاسعة، وليلها يحول بين الكلب وهريره والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره، ويتمنى أهلها من البرد الأليم دخول حر الجحيم! وبلاد الروم بلاد واسعة ومملكة عظيمة، ولبعدها عن بلاد الإسلام وقوة ملكها بقيت على كفرها كما كانت، وانه أحد معجزات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، انه قال: أما فارس فلا نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها! وأما الروم فإنها ذات قرون كلما مر قرن يخلفه قرن آخر! وأهل الروم سكان غربي الإقليم الخامس والسادس، ولبرد بلادهم ودخولها في الشمال ترى الغالب على ألوانهم البياض، وعلى شعورهم الشقرة، وعلى أبدانهم الصلابة. والغالب على طبعهم مباشرة اللهو والطرب، لأن المنجمين زعموا ان الروم تتعلق بالزهرة. وحكي أن أهل الروم كانوا لا يملكون إلا من كان أكثرهم عقلاً وأوفرهم علماً وأصحهم بدناً، وإذا اختل منه شيء من هذه ملكوا غيره وعزلوه، وكانوا على هذا إلى أن أصاب ملكهم آفة فهموا بعزله، فقال الملك: اصبروا

علي زماناً فإن داويت مرضي فأنا أولى من غيري، وإلا فافعلوا ما شئتم! فذهب إلى بلاد الشام ليتداوى بحمة كانت بها، فرأى الملة النصرانية قد ظهرت بها، فأخذ جمعاً من القسوس والرهابين ورجع بهم إلى الروم، ودعا الناس إلى الملة النصرانية ولم يزل يجيب قوم بعد قوم حتى صاروا أمة واحدة. وحكي عن أهل الروم أنهم يتخذون صور الملوك والحكماء والرهابين يستأنسون بها بعد موتهم. ولهم في التصوير يد باسطة حتى يصورون صورة الإنسان ضاحكاً وباكياً، وصورته مسروراً حزيناً. وحكي أن مصوراً دخل بلداً ليلاً ونزل بقوم فضيفوه، فلما سكر قال: إني صاحب مال ومعي كذا وكذا ديناراً، فسقوه حتى طلح وأخذوا ما كان معه وحملوه إلى موضع بعيد منهم. فلما أصبح، وكان غريباً لم يعرف القوم ولا المكان، ذهب إلى والي المدينة وشكا فقال له الوالي: هل تعرف القوم؟ قال: لا. قال: هل تعرف المكان؟ قال: لا. قال: فكيف السبيل إلى ذلك؟ فقال الرجل: إني أصور صورة الرجل وصورة أهله فاعرضها على الناس لعل أحداً يعرفهم! ففعل ذلك وعرض الوالي على الناس، فقالوا: انها صورة فلان الحمامي وأهله. فأمر بإحضاره فإذا هو صاحبه فاسترد منه المال. ويقام بالروم سوق كل سنة أول الربيع أربعين يوماً يقال لذلك السوق بيله يأتيها الناس من الأطراف البعيدة من الشرق والغرب والجنوب والشمال. والتجار يجهدون غاية جهدهم حتى يدركوا ذلك السوق، فمتاع أهل الشرق يشتريه أهل المغرب وبالعكس، ومتاع أهل الشمال يشتريه أهل الجنوب وبالعكس. ويقع فيه من المماليك والجواري التركية والرومية، ومن الخيل والبغال الحسنة، ومن الثياب الأطلس، ومن السقلاط ومن الفراء الفندر وكلب الماء والبرطاس، ويدلسون تدليسات عجيبة. ومن عادة هذا السوق ان من اشترى شيئاً فلا يرده البتة؛ وحكي أن بعض التجار اشترى مملوكاً حسن الصورة بثمن بالغ، فلما غاب عنه بائعه وجده جارية مستحسنة!

رندة

وبها الخانات على طرق القوافل على كل فرسخ خان، بنتها بنات السلاطين للثواب، فإن البرد بالروم ثمانية أشهر والثلج كثير، والقفل لا ينقطع في الثلج، فيمشون كل يوم فرسخاً وينزلون في خان من الخانات، ويكون فيه من الطعام والشعير والتبن والحطب والبزر والاكاف والنعال والمنقل، وانها خير عظيم لم يبن مثلها في شيء من البلاد. ومن خواص الروم أن الإبل لا تتولد بها، وإذا حملت إليها تسوء حالها وتتلف. بها جبل أولستان. في وسط هذا الجبل شبه درب فيه دوران، من اجتاز فيه وفي حال اجتيازه يأكل الخبز بالجبن، ويدخل من أوله ويخرج من آخره لا يضره عضة الكلب الكلب، وإن عض إنساناً غيره فعبر من بين رجلي المجتاز يأمن أيضاً غائلته. وهذا حديث مشهور بالروم. وبها عين النار بين أقشهر وانطاكية، إذا غمست فيه قصبة احترقت. حدثني من شاهدها أنه قد ذكر للسلطان علاء الدين كيخسرو عند اجتيازه بها، فوقف عليها وأمر بتجربتها، فكان الأمر كما قالوا. رندة مدينة حصينة بأرض الأندلس من أعمال تاكرنا قديماً. استجلب إليها المياه من ناحية المشرق وناحية المغرب فتوافي المياه داخلها. بها نهر رندة، وهو نهر يتوارى في غار لا يرى جريه أميالاً، ثم يخرج إلى وجه الأرض ويجري. وبها نهر البرادة، وهو نهر يجري في أول الربيع إلى آخر الصيف، فإذا دخل الخريف يبس إلى أول الربيع من القابل، وهو على فرسخين من رندة.

روين دز

روين دز قلعة في غاية الحصانة على ثلاثة فراسخ من المراغة في فضاء من الأرض. ضرب بحصانتها وإحكامها المثل. وهي بين رياض على يمينها نهر وعلى يسارها نهر. وعلى القلعة بستان يسمى عميداباذ، ومصنع بئر الماء من تحتها. وفيها عين في صخرة صماء ينبع منها ماء يسير. وبحذاء القلعة جبل، وفي ذلك الجبل عين غزيرة الماء ينزل عن الجبل ويصعد القلعة بطريق الفوارات بصنعة عجيبة، ومنها شرب أهل القلعة، والقلعة لغاية حصانتها في أكثر الأوقات لا يعطي صاحبها الطاعة لصاحب المراغة. زمخشر قرية من قرى خوارزم. ينسب إليها العالم الفاضل أبو القاسم محمود بن عمر جار الله الزمخشري. كان بالغاً في علم العربية وعلم البيان، وله تصانيف حسنة ليس لأحد مثلها في فصاحة الألفاظ وبلاغة المعاني مع إيجاز اللفظ، حتى لو أن أحداً أراد أن ينقص من كلامه حرفاً أو يزيد فيه بان الخلل. ذهب إلى مكة وجاور بها مدة فسمي جار الله، وصنف بمكة كتاب الكشاف في الحرم الشريف حتى وقع التأويل حيث وجد التنزيل، وإنه كتاب في غاية الحسن لولا التعصبات الباردة على وقف الاعتزال، وانه كان من أهل العلم والفضل. هذا منه عجيب. سبتة مدينة من بلاد الأندلس على شاطيء مجمع البحرين؛ قال محمد بن عبد الرحيم الغرناطي: مدينة سبتة مدينة عظيمة كثيرة الأهل حصينة مبنية بالحجر وفيها خلق كثير من أهل العلم، وعندها كانت الصخرة التي قال يوشع لموسى،

سبرى حصار

عليه السلام: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجباً. وهو الحوت الذي أكلا نصفه والنصف الآخر أحياه الله تعالى، فوثب في البحر وارتفعت المياه كالقنطرة، والحوت يمشي تحتها، فلهذا قال: واتخذ سبيله في البحر عجباً. ولها نسل في ذلك الموضع إلى الآن، وهي سمكة أطول من ذراع وعرضها شبر نصفها عظام وشوك، عليها غطاء رقيق يحفظ أحشاءها. ومن رآها من ذلك الجانب يحسب انها ميتة مأكولة، والنصف الآخر صحيح كما يكون السمك الصحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى المحتشمين. وأما اليهود فإنهم يشترونها ويقددونها ويهدونها إلى البلاد البعيدة. سبرى حصار قلعة حصينة بالروم مشهورة على مرحلتين من قونية، بها بيعة كمنانوس. حدثني بعض الفقهاء من أهلها أن الدابة إذا احتبس ماؤها يطاف بها حول هذه البيعة سبعاً فينفتح ماؤها، وذلك أمر مشهور يعرفه أهل تلك البلاد كلهم. سرقسطة مدينة كبيرة من أطيب بلاد الأنلدس بقعة، وأحسنها بنياناً وأكثرها ثماراً وأغزرها مياهاً. حكى أحمد بن عمر العذري أنها لا يدخلها حنش ولا يعيش بها. ومن أعمالها قرية يقال لها بلطش؛ قال العذري: بها عين يابسة العام كله، فإذا كان أول ليلة من شهر اغشت انبعثت بالماء تلك الليلة، ومن الغد إلى وقت الزوال، فعند ذلك يبدو فيها النقصان وإلى أول الليل يجف، ويبقى كذلك إلى تلك الليلة من العام القابل. وسرقسطة بيد الإفرنج، ملكوها سنة اثنتي عشرة وخمسمائة.

سمرقند

سمرقند مدينة مشهورة بما وراء النهر قصبة الصغد؛ قالوا: أول من أسسها كيكاوس ابن كيقباذ، وليس على وجه الأرض مدينة أطيب ولا أنزه ولا أحسن من سمرقند. عن أنس بن مالك أنه قال: مدينة خلف نهر جيحون تدعى بسمرقند، لا تقولوا لها سمرقند ولكن قولوا المدينة المحفوظة. فقالوا: يا أبا حمزة وما حفظها؟ قال: أخبرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن مدينة خلف النهر تسمى المحفوظة لها أبواب، على كل باب خمسة آلاف ملك يحفظونها، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة، وخارج المدينة ماء حلو عذب من شرب منه شرب من ماء الجنة، ومن اغتسل به خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومن تعبد فيها ليلة يقبل منه عبادة ستين سنة، ومن صام فيها يوماً فكأنما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكيناً لا يدخل الفقر منزله أبداً. حكي أن شمر بن افريقيش بن أبرهة جمع جنوده خمسمائة ألف رجل، وسار نحو بلاد الصين، فلما وصل إلى الصغد عصى عليه أهل تلك البلاد، وتحصنوا بسمرقند، فأحاط بها من جميع الجهات وحاصرها، فلم يظفر بها. وسمع أن ملكها أحمق وله ابنة تدبر أمر الملك، فأرسل إليها هدية عظيمة وقال: إني إنما قدمت هذه البلاد لأتزوج بك، ومعي أربعة آلاف صندوق ذهباً وفضة أدفعها إليك وأمضي إلى الصين، فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت فالمال لك! فأجابته إلى ذلك فأرسل إليها أربعة آلاف صندوق فيها أربعة آلاف رجل، ولسمرقند أربعة أبواب إلى كل باب ألف صندوق، وجعل العلامة بينهم ضرب الجرس. فلما دخلوا باب المدينة ضربوا الجرس، فخرج الرجال وملكوا الأبواب حتى اتصل بهم جنود شمر وملكوا المدينة ونهبوها، وقتلوا وهدموا فسميت شمركند، فعربته العرب وقالوا: سمرقند. ثم سار شمر نحو الصين

فمات في الطريق هو وأصحابه عطشاً. فلما هلك تبع بن أبي مالك أراد أن يأخذ بثأر جده، فسار نحو الصين، فلما وصل إلى سمرقند وجدها خراباً فأمر بعمارتها وردها إلى ما كانت وأحسن منها. فلما كان زمن الإسكندر وجدها موضعاً شريفاً فبالغ في عمارتها، وبنى لها سوراً محيطاً بها استدارته اثنا عشر فرسخاً، فيها بساتين ومزارع وارحاء، ولها اثنا عشر باباً من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى أعلى السور آزاج وأبرجة للحرب. وإذا جزت المزارع جزت إلى الربض وفيه أبنية وأسواق. وبها الجامع والقهندز ومسكن السلطان. وفي المدينة الداخلة نهر من رصاص يجري على مسناة عالية من حجر، ويدخل المدينة من باب كش، وأكثر دروبها ودورها فيها الماء الجاري، ولا تخلو دار من بستان حتى لو صعدت قهندزها لا ترى أبنية المدينة لاستتارها بالبساتين والأشجار. وأما داخل سور المدينة الكبيرة ففيه أودية وأنهار وعيون وجبال. وبسمرقند أشياء ظريفة تنقل إلى سائر البلاد: منها الكاغد السمرقندي الذي لا يوجد مثله إلا بالصين؛ وحكى صاحب الممالك والمسالك انه دفع من الصين إلى سمرقند سبي، وكان فيهم من يعرف صنعة الكاغد، فاتخذها ثم كثرت حتى صارت متجراً لأهل سمرقند، فمنها تحمل إلى سائر البلاد. بها جبل قال صاحب تحفة الغرائب: في هذا الجبل غار يتقاطر منه الماء في الصيف، ينعقد من ذلك الماء الجمد، وفي الشتاء من غمس يده فيه يحترق. ينسب إليها الإمام الفاضل البارع ركن الدين العميدي أعجوبة الزمان، انتشر صيته في الآفاق وفاق كل مناظر بالطبع السليم والذهن المستقيم. قال أستاذنا أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري: ما رأيت مناظراً مثل العميدي في فصاحة الكلام وبلاغة المعاني، وحسن التقرير وتنقيح البيان! وحكي أن زين الدين عبد الرحمن الكشي، وكان من فحول العلماء، استدل في محفل، وكان العميدي حاضراً فصب عليه من الملازمات حتى بهره فقال الكشي:

سيواس

قل واحداً واحداً واسمع جوابه! فلما شرع الكشي في الجواب كان العميدي يزيد على الجواب أيضاً. فلما أظهر القدرة خلاه حتى تممه. وإذا حضر العميدي مدينة حضر جميع الفقهاء عنده، واغتنموا حضوره وقرأوا تصانيفه، وعزم الذهاب إلى بلاد العراق فقالوا للسلطان: إن هذا رجل عديم المثل زينة لهذه البلاد؛ فمنعه من مفارقة تلك البلاد. فلما وصل إلى نيسابور قالوا له: إن كان لك التماس من السلطان فالتمس ولا تخرج عن مملكته. وحكي أنه كان يباحث أحداً فنقل نقلاً فأنكر المباحث ذلك النقل، فقام ودخل البيت حتى يأتي بالكتاب الذي فيه النقل فأبطأ الخروج فدخلوا عليه فإذا هو مفارق. وكان ذلك قريباً من سنة عشر وستمائة. سيواس مدينة بأرض الروم مشهورة خصينة كثيرة الأهل والخيرات والثمرات. أهلها مسلمون ونصارى، والمسلمون تركمان وعوام طلاب الدنيا وأصحاب التجارات، وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة، وأسباب الفسق والبطالة عندهم ظاهرة. وحكى بعض الغرباء قال: دخلت سيواس فسألت عن مسجد آوي إليه، فدلوني على بعضها فدخلته فإذا فيه دنان فيها خمور، فحولقت وأردت أن أريقها فقلت: أنا رجل غريب، هذا على يد المحتسب أولى. فسألت عن دار المحتسب وسألت عنه قالوا: إنه سكران نائم! فعجبت من هذا أيضاً أن المحتسب يكون سكران، فصبرت حتى استيقظ وقلت له ما رأيت في المسجد، فقال: هذا مسجد لا وقف له، وأثر فيه الخراب فأكريناه من بعض الخمارين وأخذنا الأجرة سلفاً، وعمرنا المسجد بها! فقلت: ما أنت رجل مسلم؟ قال: بلى. قلت له: اراقة الخمر واجب عليك فكيف تركت الواجب؟ فقال: يا هذا أريق خمور النصارى حتى يضمنوني قيمتها؟ قلت: قالوا لي انك سكران نائم فكيف يكون المحتسب سكران؟ فقال: إن القوم لقلة ديانتهم يمزجون الماء بالنبيذ ويبيعونه،

شاش

وأنا أذوق منه وأزجر من يفعل ذلك. وحكي أن بسيواس وقفاً على علف الطيور شتاء، وذلك عند وقوع الثلج عم جميع وجه الأرض، فعند ذلك ينتقل صغار الطيور من الصحراء إلى العمران، فتشترى الحبوب بحاصل هذا الوقف وتنثر على السطوح لتلتقطها الطيور الضعاف. شاش ناحية من وراء نهر سيحون متاخمة لبلاد الترك. كانت أكبر ثغر في وجه الترك، وكانت من أنزه بلاد الله وأكثرها خيراً. وكانت عامة دورهم يجري فيها الماء وكلها مستترة بالضرة، فخربت في زمن السلطان محمد خوارزمشاه، بسبب اختلاف عساكره وعساكر خطا، فقتل ملوكها وجلا أهلها عنها لعجزه عن ضبطها، فبقيت تلك الديار والأنهار والأشجار والأزهار خاوية على عروشها، وذلك قبل ورود التتر. ينسب إليها أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي. كان عالماً فقيهاً ذا تصانيف كثيرة. درس على أبي العباس بن سريج، وهو الذي أنشأ علم المناظرة وأظهر مذهب الشافعي ببلاد ما وراء النهر. وكان أول أمره قفالاً، عمل قفلاً وزنه دانق مع الفراشة والمفتاح، فتعجب الناس من حذقه. واختار مذهب الشافعي وعاد إلى ما وراء النهر، وانتشر فقه الشافعي بما وراء النهر مع غلبة الحنفية هناك. وكان علامة في التفسير والفقه والأدب والجدل والأصول. وبها جبل اسبرة؛ قال الاصطخري: هي جبال يخرج منها النفط، وانها معدن الفيروزج والحديد والصفر والانك والذهب. ومنها جبل حجارته سود يحترق مثل الفحم، يباع منه وقر أو وقران بدرهم، فإذا احترق اشتد بياض رماده فيستعمل في تبييض الثياب، ولا يعرف مثله في شيء من البلاد، وفي الطبيعة عجائب لا يعلم سرها إلا الله.

شاطبة

شاطبة مدينة كبيرة قديمة في شرقي الأندلس، يذكر أهلها بالشر والظلم والتعدي؛ قال صفوان بن ادريس المرسي في وصف شاطبة: شاطبة الشّرق شرّ دارٍ ... ليس بسكّانها فلاح الظّلم عند الورى حرامٌ ... وإنّه عندهم مباح! ينسب إليها المقريء الشاطبي، عمل قصيدة طويلة لأمية، وذكر القراءات فيها وأسماء القراء بالحروف المرموزة، ولم يقصر في جميع ذلك ونظمه. شاشين جزيرة توازي حد الأندلس، طولها مسيرة عشرين يوماً. وهي كثيرة الخيرات آهلة كثيرة المواشي جداً، وغنمها بيض كلها، لا يكاد يوجد بها شاة سوداء. وأهلها أكثر الناس تحلياً بالذهب، فيكون الوضيع والشريف يطوق بالذهب. ولأشرافهم أسورة الذهب في زنودهم، وملوكهم يركبون صفائح الذهب على دروز الخياطة من الثياب. بها نوع من الصوف في غاية الحسن، لا يوجد مثلها في شيء من البلاد؛ قالوا سبب ذلك أن نساءها يدهن الصوف بشحم الخنزير، فيجود عملها ولونها أبيض أو فيروزجي وانها في غاية الحسن. وبها عجب ليس في جميع الدنيا، وهو أن على شاطيء بحرهم شجراً فربما انهارت الأجراف ووقعت الشجرة في البحر، فيضطرب من الأمواج حتى يصير عليه طخاء أبيض، فلا يزال كذلك ويصير الطخاء زائداً حتى يصير في خلقه بيضة، ثم تخطط البيضة على خلقة طائر فلا يحتبس إلا رجلاه ومنقاره، فإذا أراد الله نفخ الروح فيه يخلق ريشه وينفصل الرجلان والمنقار من العود فيصير

شبلية

طائراً يسعى في البحر على سطح الماء، ولا يوجد حياً أبداً، فإذا مد البحر حمله الماء إلى السواحل فيوجد ميتاً. وهو طائر أسود يشبه الطائر الذي يقال له الغطاسة. وحكى أحمد بن عمر العذري أن بعض الناس أتى بعود، وقد تخلق فيه حمل من البيض إلى بعض الملوك، فأمر الملك أن يبنى عليه قبة شبه قفص ويترك في الماء، فلم يزل على الضفة حتى تبرأت الطيور من العود داخل القبة. شبلية قرية من كور أسروشنة بما وراء النهر من أعمال بخارى، ينسب إليها أبو بكر دلف بن جعفر الشبلي الزاهد العارف، أعجوبة الدهر وصاحب الحالات العجيبة؛ كان أبوه حاجب الموفق فورث منه ستين ألف دينار، فحضر مجلس جبر النساج وأنفق ذلك المال على الفقراء، وذهب إلى ناحية دماوند وقال لأهلها: اجعلوني في حل، فإني كنت والي بلدكم، وقد فرطت مني فرطات. وحكى أبو علي الدقاق انه كان للشبلي في بدء أمره مجاهدات شديدة حتى انه كان يكتحل بالثلج والملح حتى لا ينام، وكان في آخره يقول: وكم من موضعٍ لوّمت فيه ... لكنت به نكالاً في العشيره وحكي أن الشبلي سئل عن العارف والمحب، فقال: العارف إن تكلم هلك، والمحب إن سكت هلك. ثم أنشد: يا أيّها السّيّد الكريم، ... حبّك بين الحشا مقيم يا دافع النّوم عن جفوني ... أنت بما حلّ بي عليم! وكان بين يديه مرآة ينظر فيها كل ساعة ويقول: بيني وبين الله عهد ان ملت عنه عاقبني، وأنا أنظر كل ساعة في المرآة لأعرف هل اسود وجهي أم لا. وكان إذا اشتد به الوجد يقول:

شغنسة

أنت سؤلي ومنيتي ... دلّني كيف حيلتي؟ قد تعشّقت وافتضح ... ت وقامت قيامتي! محنتي فيك أنّني ... لا أبالي بمحنتي يا شفائي من السّقام ... وإن كنت علّتي تعبي فيك دائمٌ ... فمتى وقت راحتي؟ وحكي انه كان محبوساً في المارستان، فدخل عليه جماعة فقال: من أنتم؟ فقالوا: أحبابك جئناك زائرين! فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون فقال: لو كنتم أحبابي لصبرتم على بلائي! توفي الشبلي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن سبع وثمانين سنة. شغنسة مدينة بالأندلس بقرب وادي الحجارة؛ قال العذري: من عجائبها الجبل الذي هو مطل عليها، إذا كسر حجره يخرج من كسره زفت أسود شبه القار، ومن أراد يجمع منه ما شاء. وليس للهوام بها كثير فعل. شلب مدينة بالأندل بقرب باجة؛ قال العذري: لها بسيط يتسع وبطائح تنفسح، وبها جبل عظيم منيف كثير المسارح والمياه. من عجائبها ما ذكره خلق لا يحصى عددهم أنه قل أن يرى من أهل شلب من لا يقول شعراً ولا يتعانى الأدب، ولو مررت بالحراث خلف فدانه وسألته الشعر لقرض في ساعته أي معنى اقترحت عليه، وأي معنى طلبت منه صحيحاً!

شنترة

شنترة مدينة بالأندلس بقرب الأشبونة على ساحل البحر، وعليها ضبابة دائمة لا تنقشع. من عجائبها تفاحها، فإن بها تفاحاً دورة واحدة منها ثلاثة أشبار. وهي الآن بيد الفرنج. ملكوها سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. شنترين مدينة بالأندلس بقرب باجة على ساحل البحر. أرضها في غاية الكرم. مبنية على نهر باجة، وللنهر فيض في بطائحها كفيض النيل بمصر. زرع أهلها على نداوته في مواضع فيضه بعد فوات أوان الزرع في غيرها من البلاد، فيدرك بالعاجل. وبها يوجد العنبر الجيد الذي يقذفه البحر إلى ساحله في بعض الأوقات، يحمل منها إلى سائر البلاد. ومن عجائبها ما ذكر أن دابة تخرج من البحر هناك وتحتك بحجارة على ساحل البحر فيسقط منها وبرة على لون الذهب ولين الخز وهي قليلة عزيزة جداً فيجمعها الناس وينسج منها الثياب فيحجر عليها ملوكهم ولا تنقل من بلادهم إلا باخفية، وتزيد قيمة الثوب منها على ألف دينار لحسنه وعزته. شنت مرية مدينة قديمة بالأندلس. ومعنى شنت مرية بلغة الفرنج مدينة مريم. وبها كنيسة؛ قال أحمد بن عمر العذري: انها بناء رفيع وسوار عظيمة من فضة، لم ير الراؤون مثلها في طول مفرط وعرض لم يحزم الإنسان بذراعه واحدة منها. وبها عين ماء إذا رآها الناظر من البعد لا يشك في أنها جارية، فإذا قرب منها ووقع البصر على منبعها لم يرها جارية أصلاً، فإذا تباعد عنها رآها جارية!

شنقنيرة

وهذا أمر مشهور عنها لا يكاد يخفى على أحد من تلك البلاد أو على من دخلها، قال عبد الله البطليوسي النحوي يهجوها: أناخت بنا في أرض شنت مريّةٍ ... هواجس ظنّ خان والظّنّ خوّان رحلنا سوام الحمد عنها لغيرها ... فلا ماؤها صادٍ ولا النّبت سعدان شنقنيرة أرض بالأندلس من أعمال لورقة. خصها الله تعالى بالبركة وقوة لم توجد في غيرها من الأراضي. وهي ما ذكره الغرناطي الأنصاري أنها حسنة المنظر والمخبر، كثيرة الريع طيبة المرتع، الحبة من زرعها تتفرع إلى ثلاثمائة قصبة، ومسافة هذه الأرض أربعون ميلاً من قرطاجنة إلى لورقة، يرتفع من المكوك من بذره مائة مكوك. ليست هذه الخاصية لشيء من أراضي غيرها. صغد كورة بين بخارى وسمرقند، إحدى جنان الدنيا؛ قالوا: جنان الدنيا أربع: صغد سمرقند، وغوطة دمشق، وشعب بوان، وأبلة البصرة. أما صغد سمرقند فإنها قرى متصلة، خلال الأشجار والبساتين، من سمرقند إلى قريب من بخارى، لا يتبين القرية حتى يأتيها لالتحاف الأشجار بها. وهي أطيب أرض الله، كثيرة الأشجار متجاوبة الأطيار غزيرة الأنهار، وزادت على غيرها من الجنان بلطافة الهواء وعذوبة الماء. وليس بصغد سمرقند مكان إذا علاه الناظر يقع بصره على صحراء غبراء أو جبال خالية غير شجراء. وإنها على واد يميناً وشمالاً، ومقدارها في المسافة خمسة أيام تشتبك الخضرة والبساتين والرياض، وقد حفت بالأنهار الدائم جريها، والحياض في صدور رياضها، وخضرة الأشجار والزروع ممتدة على حافتي واديها، من وراء الخضرة من الجوانب المزارع تكتنفها، ومن وراء المزارع مراعي سوائمها.

طراز

وفي كل مدينة قرية قصورها وقهندزها تلوح في أوساطها كالثوب الديباج الأخضر وقد طرز بمجاري مياهها، وزينت بتبييض قصورها. وهي أزكى بلاد الله وأحسنها أشجاراً وأثماراً، وفي عامة مساكن أهلها البساتين والمياه الجارية. ومساحة الصغد ستة وثلاثون فرسخاً في ستة وأربعين فرسخاً. قصبتها سمرقند. طراز مدينة في أقصى بلاد الشاش مما يلي تركستان. وهي حد بلاد الإسلام لأنك إذا جزتها دخلت في خرقاهات الخرلخية. وطراز مدينة طيبة التربة عذبة الماء لطيفة الهواء كثيرة الخيرات، أشبه شيء بالجنة لأن أهلها في غاية حسن الصورة ليس في تلك النواحي أحسن منهم صورة، رجالهم ونساؤهم إلى حد يضرب بحسن صورتهم المثل؛ قال أبو الحسن بن زيد البيهقي: ظبيٌ أباح دمي وأسهر ناظري ... من نسل تركٍ من ظباء طراز للحسن ديباجٌ على وجناته ... وعذاره المسكيّ مثل طراز مع طوق قمريّ ونغمة بلبلٍ ... وجمال طاووسٍ وهمّة باز طرطوشة مدينة قديمة بالأندلس بقرب مدينة بلنسية مشتركة على نهر ابره. وهي برية وبحرية، وهي مدينة داخلة في مدينة، من عجائب المدينة الداخلة ما حكاه العذري أنها لا يدخلها جيش أصلاً. وذكر ايضاً أن البعوض ما كان يدخلها فيما مضى من الزمان، حتى ان الواقع على سورها إذا أخرج يده عن السور وقع عليها البعوض، وإذا ضمها سقط البعوض عنها. وبها موضع يعرف بمغراوة به نار مستكنة في الأرض غير بادية للعيون، لكنه يبدو على الموضع اواد، فمن أراد أن يحققه أدخل في الموضع عوداً، فإنه يحترق في ساعة ويصير جمرة.

طركونة

وبها جبل كثير الخير والبركة، وهو جبل منيف به جميع أنواع الثمار، وفي أعلاه مروج كثيرة المياه والمراعي، وبه شجر يشبه خشبه خشب الساج تتخذ منه الآلات والظروف. وبها معدن الكحل الطيب الذي هو غاية ومعدن الزجاج. وفي واديها الحوت الطيب من البوري والشوري الذي يكون في الواحد قنطار، ويخرج منه السمور وفيه أرحاء في الغوارب يكون بيت الرحا في الغارب، والدولاب يدور خارج الغارب بالماء، فإن شاء صاحبها ينقل الغارب من موضع إلى موضع. ومثل هذا بالموصل كثير في دجلة، وهم يسمونه الغربة. طركونة مدينة عظيمة قديمة بالأندلس، على شاطيء البحر الشامي بقرب طرطوشة؛ قال العذري: تحت مدينة طركونة سراديب واسعة، وفيها بنيان كثيرة، قال: حدثني شيخ مسن يقال له ابن زيدان انه نزل في هذه البنيان، فضل فيها هو وأصحابه ثلاثة أيام، فوجد فيها بيوتاً مملوءة قمحاً وشعيراً من الزمان الأول، وقد تغير لونها، ولولا ضوء رأوه في اليوم الثالث ما خرجوا أبداً، والمدينة الآن مع الافرنج. طلبيرة مدينة قديمة بقرب طليطلة، مبنية على قلة جبل عظيم، من عجائبها عين ينبع منها ماء كثير، يدور عليه عشرون رحاً. طليطلة مدينة كبيرة بالأندلس، من أجل مدنها قدراً وأكثرها خيراً، تسمى مدينة الملوك. ومن طيب تربتها ولطافة هوائها تبقى الغلات في مطاميرها سبعين سنة

لا تتغير. وبها القنطرة العجيبة التي وصفها الواصفون أنها قوس واحد من أحد طرفي الوادي إلى الطرف الآخر، لم ير على وجه الأرض قوس قنطرة أعظم منها إلا قنطرة صور؛ قال محمد بن عبد الرحيم الغرناطي: بقرب طليطلة نهر عظيم، بنت الجن على ذلك قنطرة من الصخر عالية من الجبل إلى الجبل كأنها قوس قزح، كل صخرة منها مثل بيت كبير، وقد شدت تلك الحجارة بجذوع من حديد، وأذيب عليه الرصاص الأسود وهي أزج واحد، يتعجب الناظرون منها لجودة بنائها، وماء ذلك النهر لا ينقطع أبداً. وبها حجر المطر، وهو ما أخبر به بعض المغاربة أن بقرب طليطلة حجراً إذا أراد القوم المطر أقاموه فلا يزال يأتي المطر إلى أن يلقوه. وكلما أرادوا المطر فعلوا ذلك. وبها صورة ثورين من حجر صلد؛ قال العذري: ان طارقاً لما غزا طليطلة ركب على الثيران، وكان ذلك الموضع معسكره، فلعل ذلك شيء من الطلسمات. وكان بها بيت الملوك، كل من مات من ملوكها ترك تاجه في ذلك البيت، وكتب عليه عمر صاحبه ومدة ولايته، وكان بها بيت آخر من ملك من ملوكها قفل عليه قفلاً، ووصى لمن يكون بعده أن لا يفتح ذلك البيت، حتى انتهى الملك إلى رجل اسمه لذريق، دخل البيت الأول فوجد فيه أربعة وعشرين تاجاً على عدد ملوكهم، ووجد على باب البيت الآخر أربعة وعشرين قفلاً، ظن أن فيه مالاً فأراد فتحه فاجتمعت الأساقفة والشمامسة وعظموا ذلك، وسالوه أن يسلك مسلك الملوك الذين كانوا قبله، فأبى إلا فتحه، فقالوا له: أيها الملك، انظر فيما يخطر ببالك من مال تراه فيه لندفعه إليك ولا تفتحه. فأبى إلا فتحه. فلما فتحه إذا في البيت صور العرب على خيولهم بعمائمهم ونعالهم، وإذا فيه مكتوب: الملك فينا ما دام هذا البيت مقفلاً، فإذا فتح فقد ذهب الملك! فندم لذريق على فتح الباب، فدخلت العرب بلدهم في السنة التي فتح فيها

غرناطة

الباب في أيام الوليد بن عبد الملك. ولما فتحوها وجدوا بها مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، من ذهب، فلم يمكن نقلها لعظمها. فأمر الوليد أن يضرب منها حلي الكعبة وميزابها ففعل، وما زالت بيد المسلمين إلى أن استولى عليها الفرنج في شهور سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وإلى الآن بيدهم. غرناطة مدينة بالأندلس قديمة بقرب البيرة، من أحسن مدن بلاد الأندلس وأحصنها، ومعناها الرمانة بلغة الأندلسيين، يشقها نهر يعرف بنهر قلوم، وهو النهر المشهور الذي يلفظ من مجراه برادة الذهب الخالص. بها جبل الثلج مطل عليها، على ذروته توجد أيام الصيف صنوف الرياحين والرياض المونقة، وأجناس الأفاويه وضروب العقاقير. وبها شجرة الزيتون التي هي من عجائب الدنيا؛ قال أبو حامد الأندلسي: بقرب غرناطة بالأندلس كنيسة عندها عين ماء وشجرة زيتون، والناس يقصدونها في يوم معلوم من السنة، فإذا طلعت الشمس ذلك اليوم أخذت تلك العين بإفاضة الماء، ففاضت ماء كثيراً، ويظهر على الشجرة زهر الزيتون ثم ينعقد زيتوناً، ويكبر ويسود في يومه ذلك اليوم، فيأخذ من ذلك الزيتون من قدر على أخذه، ومن ذلك الماء للتداوي. وقال محمد بن عبد الرحيم الغرناطي إنها بغرناطة. وحدثني الفقيه سعيد بن عبد الرحمن الأندلسي انها بسقورة. وقال العذري: انها بلورقة. والقائلون كلهم أندلسيون، والمواضع المذكورة كلها من أرض الأندلس، فجاز ان كل واحد منهم اضافه إلى موضع قريب منه. غنجرة مدينة في داخل الروم. بها نهر يسمى المقلوب لأنه آخذ من الجنوب إلى الشمال بخلاف سائر الأنهار. حكي عنها انه وقعت بها في سنة اثنتين وأربعين

فاراب

وأربعمائة ليلة الاثنين الخامس من آب زلزلة هائلة، وتتابعت إلى اليوم. سقط منها أبنية كثيرة، وخسف هناك حصن وكنيسة حتى لم يبق لهما أثر، وتبع من ذلك الخسف ماء حار كثير شديد الحرارة، حتى غرق منه سبعون ضيعة، وهرب خلق كثير من أهل تلك الضياع إلى رؤوس الجبال، وبقي ذلك الماء على وجه الأرض تسعة أيام ثم نضب. فاراب مدينة من بلاد ما وراء النهر. ينسب إليها الحكيم الأفضل أبو نصر بن طرخان الفارابي، وهو أول حكيم نشأ في الإسلام. فهم كلام أرسطاطاليس ونقله إلى اللغة العربية، وقد خصه الله تعالى بمزيد فطانة حتى أحكم أنواع الحكمة حتى علم الموسيقى والكيمياء، فكان يمشي في البلاد متنكراً من خوف الملوك، فإنهم كانوا يطلبونهن فإذا وصل إلى مدينة وأعجبته تلك المدينة سكنها مدة، ويشتري بها داراً وبستاناً وجواري وعبيداً، فإذا مل عنها زوج الجواري من العبيد ووهب الأملاك لهم وفارقها، ولا يرجع إليها أبداً. وكان معاصراً للصاحب بن عباد، وزير مجد الدولة بن بويه، وكان الصاحب شديد الطلب له؛ حكي أن الصاحب أو غيره ظفر به ذات مرة، وقد عرفوه واحترموا جانبه وأبو نصر انبسط معهم، وكان حاذقاً بعلم الموسيقى فأخذ في بعض مجالسهم شيئاً من الملاهي، وضرب ضرباً فضحك القوم كلهم، ثم ضرب ضرباً فبكى القوم كلهم، ثم ضرب ضرباً فنام القوم كلهم، ثم قام وفارقهم وهرب. وقيل: ان الصاحب بن عباد كان بالري، فدخل عليه أبو نصر متنكراً فما عرفه. وحكي أن أبا نصر. كان في قفل يمشي في بلاد الشام، فوقع عليهم اللصوص فسلم إليهم ماله وخيله فأبوا إلا قتله، فنزل عن الدابة وتستر بالمجن، وكان حاذقاً في الرمي، فقاتل حتى قتل في سنة أربعين وثلاثمائة.

فبرة

فبرة مدينة قديمة بأرض الأندلس بقرب قرطبة، قال العذري: بها مغارة عجيبة لا يعرف قدرها البتة يقال لها باب الرياح، إذا وقفت عليه وعلقت فيه ثوباً رفعته الريح في الجو. وقال أيضاً: إن بعض ملوك بني أمية أمر أن يردم ذلك الغار بالتبن، فحشدوا أهل الناحية وأمروهم بذلك حتى استوى الردم إلى أعلى الغار، وقعد الناس على فم الغار فتحرك بهم الردم وساخ من ساعته، ونجا الناس. ولم يعلم أين ذهب ذلك التبن، إلا أنهم رأوا بعض منابع ذلك الجبل أخرج منه بعض ذلك التبن. فراغة مدينة بالأندلس بقرب لاردة. وهي مدينة حسنة البنيان ذات مياه وبساتين كثيرة. وإنها حسنة المنظر طيبة المخبر. بها سراديب تحت الأرض كثيرة، وهي عندهم ملجأ من العدو إذا طرقهم. وصفتها أنها بئر ضيقة الرأس واسعة الأسفل، وفي أسفلها أزقة كثيرة مختلفة كنافقاء اليربوع، فلا يوصل إليها من أعلى الأرض ولا يجسر الطالب على دخولها، وإن انتشر فيها الدخان دخوا في الأزقة وسدوا أبوابها حتى يرجع الدخان عنهم، وإن طموها يكون لها باب آخر خرجوا منه، وتسمى هذه السراديب عندهم الفجوج، ويخرج في عملها الأموال بالوصية وغيرها. وإن ذلك عندهم من أبواب البر. فرمنتيرة جزيرة في البحر المحيط، طولها عشرون ميلاً وعرضها ثلاثة أميال، وانها في وسط البحر. وهواؤها طيب وتربتها كريمة ومياه آبارها عذبة. وبها عمارات ومزارع. ولطيب هوائها وتربتها لا يوجد فيها شيء من الهوام أصلاً، لأن

فهمين

الهوام والحشرات تولدها من العفونات، ولا عفونة بها، وحكي أن بها منبت الزعفران الجيد الغاية الذي لا يوجد في موضع خير منه. فهمين قلعة بأرض الأندلس بقرب طليطلة حصينة جداً. بها بئر شرب أهل القلعة منها، ولم يعرف فيها علق أصلاً، فكثر فيها الطين بطول زمان. فاحتاجوا إلى كسحها فأخرجوا منها طيناً كثيراً، فكثر ماؤها إلا انه تولد فيها علق كثير تعذر معه شرب مائها، لأن العلق كان ينشب بحلق شارب الماء، فوجدوا في وسط الطين المخرج منها علقاً من النحاس، فرموه في البئر فانقطع العلق منها. قادس جزيرة بقرب الأندلس، طولها اثنا عشر ميلاً. بها آبار مياهها عذبة، وفيها آثار قديمة غيرها الزمان: منها الطلسم المشهور الذي عمل لدفع البربر عن جزيرة الأندلس، وهو ما حكي أن صاحب هذه الجزيرة كان من ملوك الروم قبل الإسلام، وكانت له بنت ذات جمال، فخطبها ملوك تلك النواحي فقالت البنت: لا أتزوج إلا بمن يعمل في جزيرتي طلسماً يمنع البربر من دخولها أو يسوق الماء إليها من البر بحيث يدور الرحا عليها! فشرع ملكان أحدهما في عمل الطلسم والآخر في سوق الماء إليها من البر، فقيل لها: بمن تتزوجين؟ فقالت: أتزوج بالسابق منهما! أما صاحب الماء فقد اتخذ في وسط البحر بناء محكماً، وثقه بالحجارة والرصاص بحيث لا يشرب شيئاً من ماء البحر، وسرح الماء إليه من نهر من البر حتى وصل إلى جزيرة قادس، وأثره في البحر إلى الآن ظاهر لكنه مهدوم بطول المدة. وأما صاحب الطلسم فقد اتخذ تمثالاً من الحديد مخلوطاً بالصفر على صورة

قاليقلا

رجل بربري، له لحية متلحف بوشاح ورداء مذهب قد تعلق من منكبه إلى أنصاف ساقيه، وقد جمع فضلتيه بيده اليسرى منضمة إلى صدره، ويده اليمنى ممدودة بمفتاح قفل في يده، قابض عليه مشيراً إلى البحر كأنه يقول: لا عبور! وهو قائم على رأس بناء عال، طوله نيف وستون ذراعاً، وطول الصورة قدر ستة أذرع، وذكر أن البحر الذي تجاه الصورة، ويسمى الابلاية، لم ير ساكناً ولا تجري فيه السفن بعد ذلك. وحكي أن صاحب سوق الماء سبق صاحب الطلسم فقال صاحب الجزيرة: لا تظهروا سبقه حتى لا يبطل علينا عمل الطلسم. فلما فرغ الصانع من الطلسم قيل له: قد سبقت! فالقى نفسه من أعلى الموضع الذي عليه الطلسم فمات. فحصل لصاحب الجزيرة الماء والطلسم فما زال الأمر على ذلك. كان البحر مضطرباً والجزيرة محفوظة إلى سنة أربعمائة، فوقع المفتاح من يد الصورة، فحمل إلى صاحب مدينة سبتة فوزنه، فكان فيه ثلاثة أرطال، فسكن البحر حينئذ وعبرت السفن فيه. وذكر أيضاً أن الطلسم هدم في سنة أربعين وخمسمائة، هدموه رجاء أن يوجد تحته شيء من المال، فلم يوجد شيء فيه. قاليقلا مدينة بأرمينية تنسب إلى امرأة اسمها قالي، فكأنه قال قالي بنت، كما يقال دارابجرد، وصورت صورة نفسها على باب المدينة. يجلب منها البسط والزلالي التي يقال لها قالي. ولأهلها يد باسطة في صنعتها، ومنها تحمل إلى سائر البلاد. بها بيعة الشعانين؛ قال ابن الفقيه: انها بيعة للنصارى فيها بيت كبير مخزن مصاحفهم وصلبانهم، فإذا كانت ليلة الشعانين يفتح باب في ذلك الموضع معروف، يخرج منه تراب أبيض فلا يزال يخرج ليلته إلى الصباح فينقطع حينئذ، فيأخذه الراهب ويدفعه إلى الناس. وخاصيته دفع السموم ولدغ العقارب والحيات،

قرطبة

يداف منه وزن دانق في ماء فيشربه الملسوع فيسكن في الوقت ألمه. وفيه أعجوبة أخرى، وذلك انه ان بيع منه شيء لم ينتفع به صاحبه، ويبطل عمله. قرطبة مدينة عظيمة في وسط بلاد الأندلس. كانت سرير ملك بني أمية، دورتها أربعة عشر ميلاً وعرضها ميلان، على النهر الأكبر الذي يعرف بوادي الكبير وعليه جسران. ومسجدها الجامع من أكبر مساجد الإسلام وأجمعها لمحاسن العمد والبنيان، طوله أربعمائة ذراع وعرضه ثلاثمائة، وعمده ورخام بنيانه بفسيفساء وذهب، وبحذائه سقايات وحياض فيها من الماء الرضراض. وبها كنيسة الأسرى، وهي مقصودة معتبرة عند النصارى، قال العذري: إن المسلمين هموا بفتح قرطبة فأسروا راعياً من رعاتها وسألوه عنها، فذكر أنها حصينة جداً إلا أن فيها ثغرة فوق باب القنطرة. فلما جنهم الليل ذهبوا إلى تلك الثغرة ودخلوا منها، وجاؤوا إلى باب المدينة الذي يقال له باب القنطرة، وقتلوا الحراس وفتحوا الباب ودخلوا المدينة. فلما علم صاحب قرطبة أن المسلمين دخلوا خرج مع وجوه المدينة وتحصن بهذه الكنيسة، فحاصرهم المسلمون ثلاثة أيام. فبينا هم كذلك إذ خرج العلج على فرس أصفر هارباً حتى أتى خندق المدينة، فتبعه أمير المسلمين واسمه مغيث. فلما رأى مغيثاً حرك فرسه فسقط واندقت رقبته فأسره مغيث ورجع إلى بقية العلوج فأسرهم وقتلهم، فسميت الكنيسة كنيسة الأسرى. وبها جبال معدن الفضة ومعدن الشادنج، وهو حجر يقطع الدم، ومعدن حجر التوتيا ومعدن الشبوب، وتجلب من قرطبة بغال قيمة واحد منها تبلغ خمسمائة دينار لحسن شكلها وألوانها، وعلوها وصحة قوائمها.

قسطلونة

قسطلونة مدينة قديمة بالأندلس بقرب بسطة. بها جبل فيه غار يتقاطر الماء من أعلاه في حفيرة تحته لطيفة نقطة نقطة، ويجتمع في تلك الحفيرة بذوبانها ولا يغيض، فإن شرب من ماء تلك الحفيرة عدد كثير لم ينقص؛ قال العذري: أخبرني بهذا جماعة شاهدوها، وهذا أمر شائع مستفيض في ذلك الموضع؛ قال: وفي هذا الغار ميت لا يغيره طول الأزمنة ولم يعرف له خبر. قلعة اللان إنها قلعة في غاية الحصانة بأرض اللان على قلة جبل. وهي من القلاع الموصوفة بالحصانة، تسمى باب اللان؛ قالوا: لو أن رجلاً واحداً يمنع جميع ملوك الأرض عنها يصح له ذلك، لتعلقها بالجو وعسر الطريق. ولها قنطرة عجيبة البناء عظيمة، وعجبها مما يبصر لا مما يذكر، فإن اللفظ لا يعطي معنى. عجبها بناها سندباذ بن كشتاسف بن لهراسف، والقلعة على صخرة صماء بها عين ينبع الماء العذب من الصخرة الصماء. بها عجيبان: القنطرة والعين في وسط القلعة من الصخرة الصماء. قيصرية مدينة عظيمة في بلاد الروم، بناها ملك الروم من الحجارة، وهي كثيرة الأهل عظيمة العمارة، والآن هي كرسي ملك بني سلجوق وهم ملوك مسلمون. بها آثار قديمة يزورها الناس. وبها موضع يقولون انه حبيس محمد بن الحنفية. وبها جامع أبي محمد البطال، وكان بها حمام بناه بليناس الحكيم لقيصر ملك الروم من عجائب الدنيا. كان يحمى بسراج. وبها موضع بين قيصرية واقصرا يشبه بيدراً مسخ حجراً، فصبرة الحنطة

كش

انقلبت حجراً أحمر، وصبرة التبن انقلبت حجراً أبيض اللون. وحولها تماثيل حجرية تشبه تماثيل الحيوانات من الإنسان والبهائم، لكنها تغيرت وفنيت بطول الوقت، وبقرب قيصرية جبل فيه من الحيات ما لا يحصى، إلا أنها لا تخرج منه لطلسم عمله الحكماء، فلا يخرج منه شيء البتة. كش مدينة بقرب سمرقند حصينة. لها قهندز وربض؛ قال الاصطخري: مدينة كش ثلاثة فراسخ في مثلها جرومية تدرك بها الثمار أسرع من سائر بلاد ما وراء النهر، غير أنها وبيئة، وعماراتها حسنة جداً. وفي عامة دورها الماء الجاري والبستان. بها شوك الترنجبين يحمل منها إلى البلاد كلها. وفي جبالها العقاقير الكثيرة. ومنها يرتفع الملح المستحجر. ومن مفاخرها أبو إسحق الكشي المشهور بالجود والكرم. ومن العجائب ما حكي عنه أن بعض أصدقائه شكا إليه سوء حاله وكثرة ديونه، فسأله أبو إسحق عن مقدار دينه ووزن في الحال وقال: اصرف هذا في دينك! ثم وزن مثلها وقال: اصرف هذا في مصالحة شأنك! وجعل يعتذر إليه اعتذار المذنب. فلما ذهب الرجل بكى بكاء شديداً، فسئل عن بكائه فقال: بكائي على غفلتي عن حال صديقي حتى افتقر إلى رفع الحال إلي والوقوف موقف السؤال. كند من قرى خجند بما وراء النهر، يقال لها كند باذام، وباذام هو اللوز لأن بها لوزاً كثيراً. بها اللوز الفريك، وهو لوز عجيب ينقشر إذا فرك باليد.

لبلة

لبلة مدينة بالأندلس قديمة بقرب اشبيلية، كثيرة الحيرات فائضة البركات، بها آثار قديمة، بها نهر لهشر، وبهذا النهر ثلاث عيون: إحداها عين لهشر وهي أغزرها ماء وأعذبها، والثانية عين الشب فإنها تنبعث بالشب، والثالثة عين الزاج فإنها تنبعث بالزاج، فإذا غلبت عين ماء لهشر صار الماء عذباً، وإذا غلبت عين الشب أو الزاج حال طعم الماء. قال العذري: سور المدينة قد عقد بناؤه على تصاوير أربعة: صنم يسمى درديا وعليه صنم آخر، وصنم يسمى مكيخا وعليه صنم آخر. والمدينة مبنية على هذه الأصنام وما علا من البناء موضوع على أعناقها. ومدينة لبلة انفردت بهذه البنية على سائر المدن. وبها صيد البر والبحر جميعاً. ويجلب منها العصفر الجيد، والعناب الذي لا نظير له في الآفاق، ويعمل بها الأديم الجيد الذي يحاكي الطائفي. لشبونة مدينة بالأندلس قديمة في غربي قرطبة قريبة إلى البحر. بها جبال فيها أوكار البزاة الخلص، ولا تكون في غيرها. ولعسلها فضل على كل عسل بالأندلس يشبه السكر، إذا لف في خرقة لا يلوثها. وبها معدن التبر الخالص، ويوجد بساحلها العنبر الفائق، ملكها الفرنج سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وهي إلى الآن بيدهم. لورقة مدينة كبيرة بالأندلس، قاعدة كورة تدمير. هي أكرم بقاع الأندلس وأكثرها خيراً سيما الفواكه، فإن بها من أصناف الفواكه ما لا يوجد في غيرها

حسناً وكثرة، سيما الكمثرى والرمان والسفرجل. ومن قوة أرضها ما ذكره العذري أن بها عنباً وزن العنقود منه خمسون رطلاً بالبغدادي، وان الحبة من الحنطة تصيب هناك مائة حبة. وبأرض لورقة يسقي نهر كنيل مصر، يبسط على الأرض فإذا غاض يزرع عليه، ويبقى طعامها في المطامير خمسين سنة وأكثر ولا يتغير، وكثيراً ما تصيبها آفة الجراد. وحكي انه كانت في بعض كنائسها جرادة من ذهب، وكانت لورقة آمنة من جائحة الجراد، فسرقت تلك الجرادة فظهر الجراد في ذلك العام، ولم يفقد بعد ذلك. وأيضاً لم توجد بها علة البقر التي تسمى اللقيس إلى أن وجد في بعض الأساس ثوران من صفر، أحدهما قدام الآخر، يلتفت إليه. فلما أخذ من ذلك الموضع وقعت اللقيس في ذلك العام. ومن عجائبها شجرة زيتونة في كنيسة في حومة جبل، في كل سنة في وقت معلوم تنور وتعقد وتسود وتطيب في يوم آخر، وهي مشهورة عرفها الناس؛ حكى العذري أن هذه الشجرة قطعها أصحابها، وهم نصارى، وإنما فعلوا ذلك لكثرة الواردة عليهم بسببها وتزاحم الناس، فبقيت مقطوعة زماناً ثم لقحت بعد ذلك، وهي الآن باقية؛ كذا ذكره العذري في شهور سنة خمسين وأربعمائة. وقال أيضاً: أخبرني إبراهيم بن أحمد الطرطوشي قال: سمعت ملك الروم يقول إني أريد أن أرسل إلى أمير المؤمنين بالأندلس هدية، فإن من أعظم حوائجي عنده انه صح عندي أن في الفاتحة الكريمة كنيسة، وفي الدار منها زيتونة إذا كانت ليلة الميلاد تورقت وعقدت وأطعمت من نهارها. اعلم أن لشهيدها محلاً عظيماً عند الله، فأتضرع إلى معاليه في تسلية أهل تلك الكنيسة ومداراتهم حتى يسمحوا بعظام ذلك الشهيد، فإن حصل لي هذا كان أجل من كل نعمة. وبها وادي الثمرات؛ ذكر العذري أن هناك أرضاً تعرف بوادي الثمرات يرد إليه ماء واد هناك يسقيه، فينبت التفاح والكمثرى والتين والزيتون ونحوها سوى شجر التوت من غير غرس أصل؛ لقد حدث بذلك جماعة من ثقات الناس.

مالطة

مالطة جزيرة بقرب جزيرة الأندلس، عظيمة الخيرات كثيرة البركات، طولها نحو ثلاثين ميلاً، وهي آهلة وبها مدن وقرى وأشجار وأثمار، غزاها الروم بعد الأربعين والأربعمائة. حاربوهم وطلبوا منهم الأموال والنساء، فاجتمع المسلمون وعدوا أنفسهم وكان عدد عبيدهم أكثر من عدد الأحرار، فقالوا لعبيدهم: حاربوا معنا فإن ظفرتم فأنتم أحرار وما لنا لكم، وإن توانيتم قتلنا وقتلتم! فلما وافى الروم حملوا عليهم حملة رجل واحد، ونصرهم الله فهزموهم، وقتلوا من الروم خلقاً كثيراً، ولحق العبيد بالأحرار، واشتدت شوكتهم فلم تغزهم الروم بعد ذلك أبداً. ينسب إليها ابن السمنطي الشاعر المالطي. كان آية في نظم الشعر على البديهة؛ قال أبو القاسم بن رمضان المالطي: اتخذ بعض المهندسين بمالطة لملكها صورة تعرف بها أوقات ساعات النهار، وكانت ترمي بنادق على الصناج، فقلت لعبد الله ابن السمنطي: اجز هذا المصراع: جارية ترمي الضنج؛ فقال: بها القلوب تبتهج كأن من أحكمها إلى السّماء قد عرج ... وطالع الأفلاك عن سرّ البروج والدّرج كأنه يقرأها من حفظه. ما وراء النهر يراد به ما وراء نهر جيحون. من أنزه النواحي وأخصبها وأكثرها خيراً. وليس بها موضع خال عن العمارة من مدينة أو قرى أو مزارع أو مراع. هواؤها أصح الأهوية ومياهها أعذب المياه وأخفها، والمياه العذبة عمت جميع جبالها وضواحيها، وترابها أطيب الأتربة، وبلادها بخارى وسمرقند وجند وخجند.

مدينة النحاس

وأهلها أهل الخير والصلاح في الدين والعلم والسماحة، فإن الناس في أكثر ما وراء النهر كأنهم في دار واحدة، وما ينزل أحد بأحد إلا كأنه نزل بدار نفسه من غريب وبلدي. وهمة كل امريء منهم على الجود والسماح فيما ملكت يده من غير سابقة معرفة أو توقع مكافأة. حكى الاصطخري انه نزل منزلاً بالصغد، فرأى داراً ضربت الأوتاد على بابها، فقالوا: إن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة، ولم يمنع من دخوله واصل ليلاً ولا نهاراً! والغالب عليهم بناء الرباطات وعمارة الطرق، والوقف على سبيل الجهاد وأهل العلم، وليس بها قرية ولا منهل ولا مفازة إلا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. وقال: بلغني أن بما وراء النهر أكثر من عشرة آلاف رباط، في أكثرها إذا نزل الناس به طعام لهم وعلف لدوابهم إن احتاجوا. وجميع ما وراء النهر ثغر من حدود خوارزم إلى اسبيجاب، وهناك الترك الغزية من اسبيجاب إلى فرغانة الترك الخلخية، ولم يزل ما وراء النهر على هذه الصفة إلى أن ملكها خوارزم شاه محمد بن تكش سنة ستمائة، وطرد الخطاة عنها وقتل ملوك ما وراء النهر المعروفين بالخانية، وكان في كل قطر ملك يحفظ جانبه، فلما استولى على جميع النواحي عجز عن ضبطها، فسلط عليها عساكره حتى نهبوها وأجلى الناس عنها، فبقيت تلك الديار التي وصفت بالجنان لحسنها خاوية على عروشها، ومياهها مندفقة معطلة، وقد ورد عقيب ذلك عساكر التتر في سنة سبع عشرة وستمائة وخربوا بقاياها. والآن بقي بعض ما كان عليها. فسبحان من لا يعتريه التغير والزوال، وكل شيء سواه يتغير من حال إلى حال! مدينة النحاس ويقال لها أيضاً مدينة الصفر. لها قصة عجيبة مخالفة للعادة جداً، ولكني رأيت جماعة كتبوها في كتب معدودة كتبتها أيضاً ومع ذلك فإنها مدينة

مشهورة الذكر. قال ابن الفقيه: ذهب العلماء الأقدمون إلى أن مدينة النحاس بناها ذو القرنين وأودعها كنوزه وطلسمها، فلا يقف عليها أحد، وجعل في داخلها حجر البهتة وهو مغناطيس الناس، فإن الإنسان إذا وقف حذاءه جذبه كما يجذب المغناطيس الحديد، ولا ينفصل عنه حتى يموت، وانه في مفاوز الأندلس. ولما بلغ عبد الملك بن مروان خبر مدينة النحاس وخبر ما فيها من الكنوز، وان إلى جانبها بحيرة فيها كنوز كثيرة وأموال عظيمة، كتب إلى موسى بن نصير عامل المغرب، وأمره بالمصير إليه والحرص على دخولها، وان يعرفه حالها، ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك، فحمله إلى موسى وهو بالقيروان، فلما قرأه تجهز وسار في ألف فارس نحوها، فلما رجع كتب إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله الأمير صلاحاً يبلغ به خير الدنيا والآخرة. أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهزت لأربعة أشهر وسرت في مفاوز الأندلس، ومعي ألف رجل، حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست، وعفت فيها الآثار وانقطعت عنها الأخبار، فسرت ثلاثة وأربعين يوماً أحاول مدينة لم ير الراؤون مثلها، ولم يسمع السامعون بنظيرها. فلاح لنا بريق شرفها من مسيرة ثلاثة أيام، فأفزعنا منظرها الهائل وامتلأت قلوبنا رعباً من عظمها وبعد أقطارها. فلما قربنا منها إذا أمرها عجيب ومنظرها هائل، فنزلنا عند ركنها الشرقي ثم وجهت رجلاً من أصحابي في مائة فارس وأمرته أن يدور حول سورها ليعرف بابها، فغاب عنا يومين ثم وافى اليوم الثالث فأخبرني انه ما وجد لها باباً ولا أرى إليها مسلكاً، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها على بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه، فأمرت عند ذلك باتخاذ السلالم وشد بعضها إلى بعض بالحبال، ونصبتها إلى الحائط، وجعلت لمن يصعد إليها ويأتيني بخبر ما فيها عشرة آلاف درهم، فانتدب لذلك رجل من أصحابي يتسنم ويقرأ ويتعوذ. فلما صار على سورها

وأشرف على ما فيها قهقه ضاحكاً ونزل إليها، فناديناه أن أخبرنا بما فيها وبما رأيته فلم يجبنا. فجعلت لمن يصعد ويأتيني بخبر ما فيها وخبر الرجل ألف دينار، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير ثم صعد. فلما استوى على السور قهقه ضاحكاً ثم نزل إليها، فناديناه أن أخبرنا بما ترى فلم يجبنا. فصعد ثالث وكان حاله مثل حال الرجلين، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود، فلما أيست عنها رحلت نحو البحيرة وسرت مع سور المدينة، فانتهيت إلى مكان من السور فيه كتابة بالحميرية فأمرت بانتساخها فكانت: ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومن ... يرجو الخلود وما حيٌّ بمخلود! لو انّ حيّاً ينال الخلد في مهلٍ ... لنال ذاك سليمان بن داود سالت له العين عين القطر فائضةً ... فيه عطاءٌ جزيلٌ غير مصرود وقال للجنّ أنشوا فيه لي أثراً ... يبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودي فصيّروه صفاحاً ثمّ ميل به ... إلى البناء بإحكامٍ وتجويد وأفرغوا القطر فوق السّور منحدراً ... فصار صلباً شديداً مثل صيخود وصبّ فيه كنوز الأرض قاطبةً ... وسوف تظهر يوماً غير محدود لم يبق من بعدها في الأرض سابغةً ... حتى تضمّن رمساً بطن أخدود وصار في قعر بطن الأرض مضطجعاً ... مضمّناً بطوابيق الجلاميد هذا ليعلم أنّ الملك منقطعٌ ... إلاّ من الله ذي التقوى وذي الجود قال: ثم سرت حتى وافيت البحيرة عند غروب الشمس، فإذا هي مقدار ميل في ميل، كثيرة الأموج، فإذا رجل قائم فوق الماء فناديناه: من أنت؟ فقال: أنا رجل من الجن! كان سليمان بن داود حبسه والذي في هذه البحيرة. فأتيته لأنظر ما حاله، قلنا له: فما بالك قائماً فوق الماء؟ قال: سمعت صوتاً فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كل عام مرةً، وهذا أوان مجيئه، فيصلي

على شاطئها أياماً، ويهلل الله ويمجده. قلنا: من تظنه؟ قال: أظنه الخضر، عليه السلام. فغاب عنا فلم ندر كيف أخذ. قال: وكنت أخرجت معي عدة من الغواصين فغاصوا في الماء، فرأوا حباً من صفر مطبقاً رأسه مختوماً برصاص، فأمرت به ففتح، فخرج منه رحل من صفر على فرس بيده رمح مطرد من صفر، فطار في الهواء وهو يقول: يا نبي الله لا أعود! ثم غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا مثل هذا، فضجوا خوفاً من قطع الزاد. فأخذت الطريق التي سلكتها أولاً حتى عدت إلى قيروان، والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلم له جنوده والسلام. قال: فلما قرأ عبد الملك كتاب موسى، وكان عنده الزهري، قال له: ما تظن بأولئك الذين صعدوا السور؟ قال الزهري: يا أمير المؤمنين لأن لتلك المدينة جناً قد وكلوا بها! قال: فمن أولئك الذين يخرجون من الحباب ويطيرون؟ قال: أولئك مردة الجن الذين حبسهم سليمان بن داود، عليه السلام، في البحار؛ هذا ما رواه ابن الفقيه. وقال أبو حامد الأندلسي: دور مدينة النحاس أربعون فرسخاً وعلو سورها خمسمائة ذراع فيما يقال. ولها كتاب مشهور في كتابها أن ذا القرنين بناها، والصحيح أن سليمان بن داود، عليه السلام، بناها. وليس لها باب ظاهر وأساسها راسخ، وان موسى بن نصير وصل إليها في جنوده، وبنى إلى جانب السور بناء عالياً متصلاً به، وجعل عليه سلماً من الخشب متصلاً بأعلى السور، وندب إليه من أعطاه مالاً كثيراً. وأن ذلك الرجل لما رأى داخل المدينة ضحك وألقى نفسه في داخل المدينة، وسمعوا من داخل المدينة أصواتاً هائلة، ثم ندب إليه آخر وأعطاه مالاً كثيراً وأخذ عليه العهد أن لا يدخل المدينة ويخبرهم بما يرى، فلما صعد وعاين المدينة ضحك وألقى نفسه فيها، وسمعوا من داخلها أصواتاً هائلة أيضاً، ثم ندب إليه رجلاً شجاعاً وشد في وسطه حبلاً قويا، فلما عاين المدينة ألقى نفسه فيها فجذبوه حتى انقطع الرجل من وسطه. فعلم أن

مراغة

في المدينة جناً يجرون من علا على السور فأيسوا منها وتركوها. وذكر أبو حامد الأندلسي في وصف مدينة النحاس قصيدة منها: وتقبّل الملكوت ربعي حيث ما ... فلك البروج يجرّ في سجداته أرض بحيرةٍ التي دانت بها ... جنّ الفلا والطّير في غدواته والرّيح يحمله الرّخاء فإنّما ... شهرين مطلعها إلى روحاته كالطّود مبهمةً بأسٍّ راسخٍ ... أعيا البريّة من جميع جهاته والقطر سال بها فصاغ مدينةً ... عجباً يحار الوهم دون صفاته حصن النّحاس أحاط من جنباتها ... وعلى غلوّ السّهم في غلواته فيها ذخائره وجلّ كنوزه ... والله يكلأها إلى ميقاته في الأرض آياتٌ فلا تك منكراً ... فعجائب الأشياء من آياته مراغة مدينة كبيرة مشهورة من بلاد آذربيجان قصبتها. وهي كثيرة الأهل عظيمة القدر غزيرة الأنهار كثيرة الأشجار وافرة الثمار. بها آثار قديمة للمجوس ومدارس وخانقاهات حسنة. حدثني بعض أهلها أن بها بستاناً يسمى قيامتاباذ، فرسخ في فرسخ، وأن أربابه لا يقدرون على تحصيل ثمرتها من الكثرة، فتتناثر من الأشجار. وبقرب قيامتاباذ جمة يفور الماء الحار عنها، يأتيها أصحاب العاهات يستحمون بها وتنفعهم. وهي عيون عدة أكثر ما يأتيها الزمنى والجربى. فإذا انفصل هذا الماء عن الجمة، ويجري على وجه الأرض، يصير حجراً صلداً. وخارج المدينة غار يدخله الإنسان، يرى فيه شبه البيوت والغرف، فإذا أمعن يرى فيه شيئاً صليباً لا يقرب منه أحد إلا هلك، يزعمون أنه طلسم على كنز، والله أعلم.

مربيطر

وبها جبل زنجقان، وهو جبل بقرب مراغة به عين ماء عذب، يعجن به الدقيق فيربو كثيراً، ويحسن خبزه والخبازون يخمرون أدقتهم به، ويصير هذا الماء حجراً ينعقد منه صخور ضخام يستعملها الناس في أبنيتهم. ومن مفاخرها القاضي صدر الدين المعروف بالجود والكرم، وفنون الخيرات وصنوف المبرات، من خيراته سور مدينة قزوين الذي عجز عن مثله أعظم ملوك زماننا، فإنه بنى أبواب المدينة بالآجر في غاية العلو، وبقية السور بالطين، وشرفاتها بالآجر، والمدينة في غاية السعة. وحكي أنه أراد أن يتخذ لنفسه قبراً بقرب حجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى أمير المدينة وأعلمه ذلك، فشرط أن يبعث إليه ملء جراب ذهباً. فقال القاضي: ابعث إلي الجراب حتى أملأه ذهباً! فلما رأى أمير المدينة كبر همته وسماحة نفسه بعث إليه اذن عناق، ومكنه من ذلك. فلما توفي دفن في المدينة، وموضع رأسه قريب من قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وحكى الشيخ نور الدين محمد بن خالد الجيلي، وكان من الابدال، في كتاب صنفه في كراماته وعجائب حالاته قال: رأيت فوجاً من الملائكة لا يدرك عددهم ومعهم تحف وهدايا، فسألت: إلى من هذه الهدايا؟ قالوا: إلى قاضي مراغة. قلت: ما هو إلا عبد مكرم! قالوا: ان هذه له لكرامته رسول الله، صلى الله عليه وسلم. مربيطر مدينة بالأندلس بقرب بلنسية، قال صاحب معجم البلدان: إن فيها الملعب ذا العجائب، لست أعرف كيف يكون ذلك، وذاك أن الإنسان إذا نزل فيه صعد، وإذا صعد عليه نزل، إن صح ذلك فإنه ذو العجائب جداً.

المستطيلة

المستطيلة قال أبو القاسم الجهاني: إنها بلاد بأرض الروم على ساحل البحر. المطر بها دائم صيفاً وشتاء بحيث أهلها لا يقدرون على دياس بيادرهم، وإنما يجمعونها في السنابل ويفركونها في بيوتهم. بها بزاة كثيرة عدد الغربان عند غيرهم، لكنها ضعيفة رخوة لا تقدر على أخذ الدجاج وأمثالها. المصيصة مدينة بأرض الروم على ساحل جيحان. كانت من ثغور الإسلام، وهي الآن بيد أولاد ليون، سميت بالمصيصة بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح، عليه السلام؛ قال المهلبي: من خاصية هذه المدينة الفراء المصيصية التي لا يتولد فيها القمل، وإذا غسلتها لم تتغير عن حالها وتحمل إلى سائر البلدان، وربما بلغت قيمة الفروة منها ثلاثين ديناراً. ملطية مدينة بأرض الروم مشهورة. بها جبل فيه عين؛ حدثني بعض التجار أن هذه العين يخرج منها ماء عذب ضارب إلى البياض، يشربه الإنسان لا يضره شيئاً، فإذا جرى مسافة يسيرة يصير حجراً صلداً. موغان ولاية واسعة بها قرى ومروج بآذربيجان، على يمين القاصد من اردبيل إلى تبريز، وهي جروم وآذربيجان كلها صرود كانت منازل التركمان لسعة رفغها وكثرة عشبها، والآن اتخذها التتر مشتاة وجلا عنها تركمانها؛ قال أبو حامد الأندلسي: رأيت بها قلعة عظيمة لها رساتيق كثيرة، وقد هرب عنها أهلها

ميافارقين

لكثرة ما بها من الثعابين والحيات، وقال: رأيت عند اجتيازي بها شجاعاً عظيماً ففزعت منه. ميافارقين مدينة مشهورة بديار بكر، كانت بها بيعة من عهد المسيح، عليه السلام، وبقي حائطها إلى وقتنا هذا. حكي أن ولاية هذه البلاد كانت لرجل حكيم اسمه مروثا من قبل قسطنطين الملك صاحب رومية الكبرى، فمرضت لشابور ذي الأكتاف بنت، وعجز أطباء الفرس عن علاجها، فأشار بعض أصحابه باستدعاء مروثا لعلاجها. فبعث إلى قسطنطين يسأله فبعثه إليه فعالجها مروثا، ففرح بذلك شابور وقال له: سل حاجتك! فسأل مروثا الهدنة بينه وبين قسطنطين، فأجابه إلى لك، وكان يجري بينهما محاربات شديدة، ولما أراد الانصراف قال له شابور: سل حاجة أخرى! فقال: إنك قتلت خلقاً كثيراً من النصارى، فأسألك أن تأمر بجمع عظامهم لي! فأمر له بذلك، فجمعوا من عظام النصارى شيئاً كثيراً، فأخذها معه إلى بلاده وأخبر قسطنطين بالهدنة وجمع العظام، فسر بذلك وقال له: سل حاجتك! فقال: أريد أن يساعدني الملك على بناء موضع في بلادي. فكتب قسطنطين إلى كل من يجاوره المساعدة بالمال والرجال، فعاد إلى مكانه وبنى مدينة عظيمة، وجعل في وسط حائط سورها عظام شهداء النصارى التي جمعها من بلاد الفرس، وسمى المدينة مدور صالا، معناه مدينة الشهداء، واختار لبنائها وقتاً صالحاً لا تؤخذ عنوة، وجعل لها ثمانية أبواب: منها باب يسمى باب الشهوة، له خاصية في هيجان الشهوة أو إزالتها، لم يتحقق عند الناقل ولا ان هذه الخاصية للدخول أو الخروج. وباب آخر يسمى باب الفرح والغم بصورتين منقوشتين على الحجر. أما صورة الفرح فرجل يلعب بيده، وأما صورة الغم فرجل قائم على رأسه صخرة فلا يرى بميافارقين مغموم إلا نادراً. وفي برج يعرف ببرج علي بن وهب في الركن الغربي القبلي في أعلاه صليب منقور

هرقلة

كبير، يقال إنه يقابل البيت المقدس، وعلى بيعة قمامة بالبيت المقدس صليب مثله، قيل إن صانعهما واحد، وبنى بيعة في وسط البلد على اسم بطرس وبولس، وهي باقية إلى زماننا في المحلة المعروفة بزقاق اليهود، فيها جرن من رخام أسود فيه منطقة الزجاج، فيها دم يوشع بن نون، عليه السلام، وهو شفاء من كل داء، وإذا طلي به البرص أزاله، قيل: ان مروثا جاء به من رومية الكبرى، أعطاه إياه قسطنطين عند عوده. هرقلة مدينة عظيمة بالروم، كرسي ملك القياصرة، بناها هرقل أحد القياصرة. غزاها الرشيد سنة إحدى وتسعين ومائة. نزل عليها يحاصرها، فإذا رجل خرج من أهلها شاكي السلاح ونادى: يا معشر العرب، ليخرج منكم العشرة والعشرون مبارزة! فلم يخرج إليه أحد لأنهم انتظروا إذن الرشيد، وكان الرشيد نائماً، فعاد الرومي إلى حصنه، فلما أخبر الرشيد بذلك تأسف ولام خدمه على تركهم إيقاظه. فلما كان الغد خرج الفارس وأعاد القول فقال الرشيد: من له؟ فابتدر جلة القواد، وكان عند الرشيد مخلد بن الحسين وإبراهيم الفزاري، قالا: يا أمير المؤمنين إن قوادك مشهورون بالبأس والنجدة، ومن قتل منهم هذا العلج لم يكن فعلاً كبيراً، وإن قتله العلج كانت وصمة على العسكر كبيرة، فإن رأى الأمير أن يأذن لنا حتى نختار له رجلاً فعل. فاستصوب الرشيد ذلك، فأشاروا إلى رجل يعرف بابن الجزري، وكان من المتطوعة، معروف بالتجارب مشهور في الثغور بالنجدة، فقال له الرشيد: أتخرج إليه؟ فقال: نعم، وأستعين بالله عليه. فأدناه الرشيد وودعه واتبه وخرج معه عشرون من المتطوعة. فقال لهم العلج وهو يعدهم واحداً واحداً: كان الشرط عشرين وقد ازددتم رجلاً، ولكن لا بأس! فنادوه: ليس يخرج إليك إلا واحد. فلما فصل منهم ابن الجزري

هزاراسب

تأمله العلج وقال له: أتصدقني فيما أسألك؟ قال: نعم. قال: بالله أنت ابن الجزري؟ قال: نعم. فقال: ملأ كفؤ! ثم أخذا في شأنهما حتى طال الأمر بينهما، وكاد الفرسان ينفقان تحتهما، وزجا برمحيهما وانتضيا بسيفيهما، وقد اشتد الحر، فلما أيس كل واحد منهما عن الظفر بصاحبه ولى ابن الجزري، فدخل المسلمين كآبة وغطغط الكفار، فاتبعه العلج فتمكن ابن الجزري منه، فرماه بوهق واستلبه عن ظهر فرسه ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون تكبيراً وانخذل المشركون وبادروا إلى الحصن، وأغلقوا الأبواب، فصبت الأموال على ابن الجزري فلم يقبل منها شيئاً، وسأل أن يعفى ويترك بمكانه. وأقام الرشيد عليها حتى استخلصها وسبى أهلها وخربها، وبعث فيسقوس الجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن كل واحد من البطارقة دينارين. هزاراسب مدينة كبيرة وقلعة حصينة بأرض خوارزم. الماء محيط بها وهي كالجزيرة ليس إليها إلا طريق واحد. تنسب إليها رحمة بنت إبراهيم الهزاراسبية المشهورة بأنها ما تناولت ثلاثين سنة طعاماً. وحكى أبو العباس عيسى المروزي أنها إذا شمت رائحة الطعام تأذت، وذكرت أن بطنها لاصق بظهرها، فأخذت كيساً فيه حب القطن، وشدته على بطنها لئلا يقصف ظهرها. وبقيت إلى سنة ثمان وستين ومائتين. وادي الحجارة ناحية بقرب طليطلة؛ قال العذري: لا يدخلها أحد من غير أهلها بصبي ابناً له ويعيش فيها، هذا قول العذري. وجاز أن يكون مراده أن الصبي لا يعيش وجاز أن يكون مراده أن الأب لا يعيش، والله أعلم بصحة ذلك.

وشلة

وشلة قرية بآذربيجان من قرى خوي. بها عين من شرب من مائها يسهل في الحال جميع ما في بطنه، حتى لو تناول شيئاً من الحبوب وشرب من ذلك الماء عليه يخرج في الحال. والوطة مدينة بجزيرة ميورقة، كبيرة حصينة طيبة الأرض، رخيصة الأسعار. بها مياه غزيرة وأشجار كثيرة؛ قال العذري: بها أرحية عجيبة وذاك أن المياه إذا قلت لا تدير الرحا، فعمدوا إلى عود غلظ دورته نحو عشرة أشبار، وطوله سبعة أذرع، وشقوه بنصفين ويحفرون وسط الشقين إلا نصف ذراع من آخره، ويضمون أحدهما إلى الآخر، ويفتحون في آخره كوة مقدار حافر حمار ثم ينصبونه على الساقية، ويقومونه على الدولاب، فيخرج الماء من الثقبة التي في العود بالقوة، ويضرب أمشاط الدولاب ويدور الرحا. وبقرب والوطة فتق كأنه بئر ينزل الناس فيه بالمصابيح إلى أسفله، فيجدون فيه ساقية ماء وبعدها ظلمة تأخذ بالنفس ولا يبقى فيها المصباح، وإذا ألي في تلك الساقية شيء يخرج إلى البحر ويوجد فيه. ياسي جمن موضع بين خلاط وارزن الروم. به عين يفور منها الماء فوراناً شديداً، يسمع صوته من بعيد، وإذا دنا منه شيء من الحيوان يموت في الحال، فيرى حولها من الطيور والوحوش الموتى ما شاء الله. وقد وكلوا بها من يمنع الغريب من الدنو منها.

يونان

يونان موضع كان بأرض الروم. به مدن وقرى كثيرة، وإنها منشأ الحكماء اليونانيين، والآن استولى عليها الماء. من عجائبها أن من حفظ شيئاً في تلك الأرض لا ينساه أو يبقى معه زماناً طويلاً. وحكى التجار أنهم إذا ركبوا البحر ووصلوا إلى ذلك الموضع يذكرون ما غاب عنهم. ولهذا نشأ بهذه الأرض الحكماء الفضلاء الذين لم يوجد أمثالهم في أرض أخرى إلا نادراً. ينسب إليها سقراط أستاذ أفلاطون، وكان حكيماً زاهداً في الدنيا ونعيمها راغباً في الآخرة وسعادتها. دعا الناس إلى ذلك فأجابه جمع من أولاد الملوك وأكابر الناس، فاجتمعوا عليه يأخذون منه غرائب حكمته ونوادر كلامه. فحسده جمع فاتهموه بمحبة الصبيان، وذكروا أنه يتهاون بعبادة الأصنام، ويدعو الناس إلى ذلك، وسعوا به إلى الملك وشهد عليه جمع بالزور عند قاضيهم، وحكم قاضيهم عليه بالقتل فحبس، وعنده في الحبس سبعون فيلسوفاً من موافق ومخالف يناظرونه في بقاء النفس بعد مفارقة البدن، فصحح رأيه في بقاء النفس. فقالوا له: هل لك أن نخلصك عن القتل بفداء أو هرب؟ فقال: أخاف أن يقال لي لم هربت من حكمنا يا سقراط؟ فقالوا: تقول لأني كنت مظلوماً! فقال: أرأيتم أن يقال ان ظلمك القاضي والعدول فكان من الواجب أن تظلمنا وتفر من حكمنا، فماذا يكون جوابي؟ وذاك أن القوم كان في شريعتهم أنه إذا حكم عدلان على واحد يجب عليه الانقياد وان كان مظلوماً، فلذلك انقاد سقراط للقتل، فازمعوا على قتله بالسم. فلما تناول السم ليشربه بكى من حوله من الحكماء حزناً على مفارقته. قال: إني وإن كنت أفارقكم إخواناً فضلاء فها أنا ذاهب إلى إخوان كرام حكماء فضلاء! وشرب السم وقضى نحبه. وينسب إليها أفلاطون أستاذ أرسطاطاليس، فكان حكيماً زاهداً في الدنيا ويقول بالتناسخ. فوقع في زمانه وباء أهلك من الناس خلقاً كثيراً، فتضرعوا إلى

الله تعالى من كثرة الموت وسألوا نبيهم، وكان من أنبياء بني إسرائيل، عن سبب ذلك، فأوحى الله تعالى إليه أنهم متى ضعفوا مذبحاً لهم على شكل المكعب ارتفع عنهم الوباء، فأظهروا مذبحاً آخر بجنبه وأضافوه إلى المذبح الأول فزاد الوباء. فعادوا إلى النبي، عليه السلام، فأوحى الله تعالى إليه أنهم ما ضعفوا بل قرنوا به مثله، وليس هذا تضعيف المكعب. فاستعانوا بأفلاطون فقال: إنكم كنتم تردون الحكمة وتمتنعون عن الحكمة والهندسة فأبلاكم الله تعالى بالوباء عقوبة، لتعلموا أن العلوم الحكمية والهندسية عند الله بمكانة. ثم لقن أصحابه انكم متى أمكنكم استخراج خطين من خطين على نسبة متوالية توصلتم إلى تضعيف المذبح، فإنه لا حيلة فيه دون استخراج ذلك، فتعلموا استخراج ذلك فارتفع الوباء عنهم. فلما تبين للناس من أمر الحكمة هذه الأعجوبة تلمذ لأفلاطون خلق كثير، منهم أرسطاطاليس، واستخلفه على كرسي الحكمة بعده، وكان أفلاطون تاركاً للدنيا لا يحتمل منه أحد ولا يعلم الحكمة إلا من كان ذا فطانة ونفس خيرة، والتلميذ يأخذ منه الحكمة قائماً لاحترام الحكمة. وحكي أن الإسكندر ذهب إليه وكان أفلاطون أستاذ أستاذه، فوقف إليه وهو في مشرقة قد أسند ظهره إلى جدار يأوي إليه، فقال له الإسكندر: هل من حاجة؟ فقال: حاجتي أن تزيل عني ظلك فقد منعتني الوقوف في الشمس! فدعا له بذهب وكسوة فاخرة من الديباج والقصب، فقال: ليس بأفلاطون حاجة إلى حجارة الأرض وهشيم النبات ولعاب الدود، وإنما حاجته إلى شيء يكون معه أينما توجه. وينسب إليها أرسطاطاليس، ويقال له المعلم الأول، لأنه نقح علم الحكمة وأسقط سخيفها وقرر إثبات المدعى وطريق التوجيه، وكانوا قبله يأخذون الحكمة تقليداً. ووضع علم المنطق وخالف أستاذه أفلاطون وأبطل التناسخ، قيل له: كيف خالفت الأستاذ؟ فقال: الأستاذ صديقي والحق أيضاً صديقي،

لكن الحق أحب إلي من الأستاذ. وكان أستاذ الإسكندر ووزيره فأخذ الإسكندر برأيه الأرض كلها. حكي أن أرسطاطاليس سئل: لم حركة الإقبال بطيئة وحركة الإدبار سريعة؟ فقال: لأن المقبل مصعد، والصعود يكون من مرقاة إلى مرقاة، والمدبر كالمقذوف من علو إلى أسفل. وحكى الحكيم الفاضل أبو الفتح يحيى السهروردي الملقب بشهاب الدين في بعض تصانيفه: بينا أنا بين النائم واليقظان رأيت في نور شعشعاني بمثل إنساني، فإذا هو المعلم، فسألته عن فلان وفلان من الحكماء فأعرض عني، فسألته عن سهل بن عبد الله التستري وأمثاله فقال: أولئك هم الفلاسفة حقاً، نطقوا بما نطقنا فلهم زلفى وحسن مآب! وحكي أن الإسكندر قال لأرسطاطاليس: قد ورد الخبر بفتح المدينة التي أنت منها فماذا ترى؟ قال أرسطاطاليس: أرى أن لا يبقى على واحد منهم كيلا يرجع أحد يخالفك! فقال الإسكندر: أمرت أن لا يؤذى أحد فيها احتراماً لجانبك. فكلام الوزير عجب وكلام الملك أعجب منه. وينسب إليها ديوجانس، وكان حكيماً تاركاً للدنيا، مفارقاً لشهواتها ولذاتها، مختاراً للعزلة ولا يرضى باحتمال منه من أحد، حكي أنه كان نائماً في ستان في ظل شجرة، فدخل عليه بعض الملوك فركله برجله وقال له: قد ورد الخبر بفتح بلدتك! فقال: أيها الملك فتح البلاد عادة الملوك، لكن الركل من طباع الدواب! وحكي أنه رأى صياداً يكلم امرأة حسناء فقال له: أيها الصياد، احذر أن تصاد! وحكي أنه رأى امرأة حسناء خرجت للنظارة يوم عيد فقال: هذه ما خرجت لترى إنما خرجت لترى! وحكي انه رأى رجلاً مع ابنه، والابن شديد الشبه بأبيه، فقال للصبي: نعم الشاهد أنت لأمك! وحكي انه نظر إلى شاب حسن الصورة قبيح السيرة فقال: يت حسن فيه ساكن قبيح! وينسب إليها بطليموس صاحب العلم المجسطي الذي عرف حركات الأفلاك وسير الكواكب بالبراهين الهندسية، فذكر أن بعض الأفلاك يتحرك من المغرب إلى المشرق، وبعضها من المشرق إلى المغرب، وبعضها سريع الحركة، وبعضها بطيء الحركة، وبعضها يدور رحوية، وبعضها يدو دولابية، وبعضها يدور حمائلية. وان حركات الكواكب تابعة لحركات أفلاكها، ومن الأفلاك بعضها محيطة بكرة الأرض وبعضها غير ميطة، وبعضها مركزها مركز الأرض وبعضها مركز خارج من مركز الأرض. وأقام على ذلك كله البراهين الهندسية ومسح الأفلاك برجاً برجاً، ودرجة درجة، وثانية ثانية حتى يقول: في يوم كذا وفي ساعة كذا يكون الكسوف أو الخسوف، ويقع كما قال. وأعجب من هذا أنه يبين بالبراهين الهندسية أن ما بين المساء والأرض من المسافة كم يكون ميلاً، وأن كل فلك من الأفلاك تحتها كم يكون ميلاً، ودورتها كم تكون ميلاً، وقطرها كم يكون ميلاً. ومن أعجب الأشياء وضع الاصطرلاب والتقويم. فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم! وينسب إليها بطلميوس صاحب الأحكام النجومية. يزعم أنه حصل له بالتجربة مرة بعد أخرى وقوع الحوادث بحركات الأفلاك

وسير الكواكب، وليس على ذلك برهان كما في المجسطي، لكن هو يزعم غلبة الظن، وأنه موقوف على مقدمات وشرائط كثيرة قلما تحصل لأحد في زماننا. ومن أراد شيئاً من ذلك فلينظر في أحكام جاماسب وزير كشتاسف، ملك الفرس، فإنه كان قبل مبعث موسى، عليه السلام، وحكم بمبعث موسى وعيسى ونبينا، عليه السلام، وبإزالة الملة المجوسية وخروج الترك، وأمثال ذلك من الحوادث الكثيرة. وينسب إليها بليناس صاحب الطلسمات. وإنها مأخوذة من أجرام سماوية وأجرام أرضية في أوقات مخصوصة، وكتابنا هذا كثير فيه من ذكر الطلسمات. وينسب إليها فيثاغورس صاحب علم الموسيقى. زعموا أنه وضع الألحان على أصوات حركات الفلك بذكائه وصفاء جوهر نفسه. استخرج أصول النغمات وهو أول من تكلم في هذا العلم، وفائدته أن المريض الذي عدم نومه أو قراره

يلهى بهذه الأصوات، فربما يأتيه النوم أو يخف عنه بعض ما به بسبب اشتغاله بسماع تلك الأصوات، وكذلك الحزين الذي يغلب عليه الحزن يشغل بشيء من هذه الألحان، فيخف عليه بعض ما به. وينسب إليها اقليمون، وهو صاحب الفراسة، والفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية. وإنها كثيرة تظهر للإنسان على قدر ذكائه كما قال تعالى: إن في ذلك لآيات للمتوسمين. فإنك إذا رأيت إنساناً مصفر اللون ترى أنه مريض، فإن لم تجد آثار المرض تعلم انه خائف. وإذا رأيت رجلاً كبير الرأس تعلم انه بليد تشبيهاً بالحمار، وإذا رأيت رجلاً عريض الصدر دقيق الخصر تعلم أنه شجاع لأنه شبيه بالأسد. ومن هذا الطريق وهذا علم منسوب إلى الحكيم اقليمون. وينسب إليها أوقليدس واضع الأشكال الهندسية والبراهين اليقينية، والمقالات العجيبة والأشكال الموقوفة. بعضها على بعض على وجه لا يفهم الثاني ما لم يفهم الأول، ولا الثالث ما لم يفهم الثاني، وعلى هذا الترتيب فلا يستعد لهذا الفن من العلوم إلا كل ذي فطانة وذكاء، فإنه من العلوم الدقيقة. وينسب إليها أرشميدس واضع علم أعداد الوفق على وجه عجيب، وهو أن يخرج شكلاً جميع أضلاعه متساوية طولاً وعرضاً وأقطاره كذلك، ويكون جميع سطوره متساوية بالعدد. زعموا أن لهذه الأشكال خواص إذا ضربت في أوقات معينة. وأما شكل ثلاثة في ثلاثة فمجرب لسهولة الولادة، وهو أول الأشكال وآخرها ألف في ألف. قال أيضاً مجرب لظفر العسكر إذا كان ذلك على رايتهم. وينسب إليها بقراط صاحب الأقوال الكلية في قوانين الطب، لأن تجربته دلت على ذلك، والذي اختاره من القواعد في غاية الحسن قلما ينتقض شيء منه. وكان خبيراً بعلم الطب بكلياته وجزئياته. وينسب إليها جالينوس صاحب علم الطب والمعالجات العجيبة بذكاء نفسه

وألقي إليه في نومه. حكي أنه رأى طيراً سقط من الجو يضرب بجناحيه ثم أخذ شيئاً من الماء في منقاره، وصب لك في منف ذرقه فانفصل منه ذرقه وطار، فوضع الحقنة على ذلك عندما يكون الاحتباس في الامعاء. وحكي انه كان على إصبعه جرح، بقي مدة لم يقبل المعالجة، فرأى في نومه أن علاجه فصد عرق تحت كتفه من الجانب المخالف، ففعل ذلك فعوفي. وحكي أنه قيل لجالينوس: كيف خرجت على أقرانك بوفور العلم؟ فقال: لأن ما أنفق أولئك في الخمر أنا أنفقت في الزيت. وحكي أنه أصابه في آخر عمره إسهال شديد فقيل له: كيف عجزت عن حبس هذه وأنت أنت؟ فدعا طشت ملأه ماء فرمى فيه دواء انعقد الماء فيه فقال: أقدر على حبس الماء في الطشت، وما أقدر على حبس بطني، لتعلموا أن العلم والتجربة لا ينفعان مع قضاء الله تعالى! قال الشاعر: أرسطو مات مدفوقاً ضئيلاً ... وأفلاطون مفلوجاً ضعيفا مضى بقراط مسلولاً ضعيفا ... وجالينوس مبطوناً نحيفا هؤلاء فضلاء الناس، ماتوا أسوأ ميتة، لتعلموا أنه هو القاهر فوق عباده. والله الموفق.

الاقليم السادس

الاقليم السادس أوله حيث يكون الظل نصف النهار عند الاستواء سبعة أقدام وستة أعشار وسدس عشر قدم، ويفضل ظل آخره على أوله بقدم واحد فقط. ويبتديء من مساكن ترك المشرق من قانى وتون وخرخيز وكيماك والتغزغز وأرض التركمان وبلاد الخزر واللان والسرير، يمر على القسطنطينية والرومية الكبرى، وبلاد المان وافرنجة وشمال الأندلس، حتى ينتهي إلى بحر المغرب، وأطول نهار هؤلاء في أول الإقليم خمس عشرة ساعة ونصف، وآخره خمس عشرة ساعة ونصف وربع. وطوله في وسطه من المشرق إلى المغرب سبعة آلاف ميل ومائة وخمسة وسبعون ميلاً، وثلاث وستون دقيقة. وعرضه مائتا ميل وخمسة عشر ميلاً وتسع وثلاثون دقيقة. وتكسيره ألف ألف ميل وستة وأربعون ألف ميل وعشرون ميلاً، وكذا دقائق. ولنذكر شيئاً من أحوال المدن الواقعة فيه مرتبة على حروف المعجم. والله الموفق. أبولدة مدينة بأرض الفرنج عظيمة مبنية بالحجارة. لا يسكنها إلا الرهبان ولا تدخلها امرأة لأنه أوصى شهيدها بذلك، واسم شهيدها باج الب، زعموا أنه كان أسقفاً بافرنجة، فتشاجر أهلها وأتى هذا الموضع، وبنى هذه المدينة. وهي كنيسة عظيمة معتبرة عند النصارى؛ حكى الطرطوشي قال: ما رأيت في جميع بلاد النصارى أعظم منها ولا أكثر ذهباً وفضة. وأكثر أوانيها كالمجامر والكؤوس والأباريق والقصاع من الذهب والفضة.

اشت

وبها صنم من فضة على صورة شهيدها، وجهه إلى المغرب، وبها صنم آخر من ذهب وزنه ثلاثمائة رطل، ملصق ظهره بلوح واسع عريض جداً، قد كلل بالياقوت والزمرد، وهو مفتوح اليدين على شكل المصلوب، وهو صورة المسيح، عليه السلام. وبها من صلبان الذهب والفضة وألواح الآثار كلها من الذهب والفضة قد كلل بالياقوت. اشت مدينة بأرض الإفرنج، حكى العذري أن بهذه المدينة عادة عجيبة، وهي أن أهلها إذا اشتروا متاعاً كتبوا ثمنه عليه وتركوه في دكانهم، فمن وافقه بذلك الثمن أخذه وترك ثمنه مكانه. ولحوانيتهم حراس، فمن ضاع منه شيء غرموا الحارس قيمته. أفرنجة أرض واسعة في آخر غربي الإقليم السادس. ذكر المسعودي أن بها نحو مائة وخمسين مدينة. قاعدتها باريس. وإن طولها مسيرة شهر وعرضها أكثر، وإنها غير خصبة لكونها رديئة المحرث قليلة الكرم معدومة الشجر. وأهلها الإفرنج وهم نصارى، أهل حرب في البر والبحر، ولهم صبر وشدة في حروبهم لا يرون الفرار أصلاً، لأن القتل عندهم أسهل من الهزيمة، ومعاشهم على التجارات والصناعات. افش مدينة في بلاد الإفرنج مبنية بالصخور المهندمة على طرف نهر يسمى نهر افش. بها جمة غزيرة الماء جداً. عليها بيت واسع الفضاء يستحم فيه أهلها على بعد من الجمة، خوفاً من شدة سخونة الماء الذي يفور من الجمة.

انطرحت

انطرحت مدينة بأرض الفرنج عظيمة واسعة الرقعة. أرضها سبخة لا يصلح فيها شيء من الزروع والغراس، ومعاشهم من المواشي ودرها وأصوافها. وليس ببلادهم حطب يشعلونه بحاجاتهم، وإنما عندهم طين يقوم مقام الحطب، وذاك أنهم يعمدون في الصيف إذا خفت المياه إلى مروجهم، ويقطعون فيها الطين بالفؤوس على شكل الطوب، فيقطع كل رجل منها مقدار حاجته ويبسطه في الشمس ينشف، فيكون خفيفاً جداً، فإذا عرض على النار يشتعل، وتأخذ فيه النار كما تأخذ في الحطب. وله نار عظيمة ذات وهج عظيم كنار كير الزجاجين، وإذا احترقت قطاعة لا جمر لها بل لها رماد. ايرلاندة جزيرة في شمالي الإقليم السادس وغربيه؛ قال العذري: ليس للمجوس قاعدة إلا هذه الجزيرة في جميع الدنيا، ودورها ألف ميل، وأهلها على رسم المجوس وزيهم، يلبسون برانس قيمة الواحد منها مائة دينار. وأما أشرافهم فيلبسون برانس مكللة باللآليء. وحكي أن في سواحلها يصيدون فراخ الأبلينة، وهو نون عظيم جداً، يصيدون أجراءها يتأدمون بها. وذكروا أن هذه الأجراء تتولد في شهر أيلول فتصاد في تشرين الأول والثاني وكانون الأول والثاني، في هذه الأشهر الأربعة، وبعد ذلك يصلب لحمها فلا يصلح للأكل. أما كيفية صيدها فقد ذكر العذري أن الصيادين يجتمعون في مراكب، ومعهم نشيل كبير من حديد ذو أضراس حداد، وفي النشيل حلقة عظيمة قوية، وفي الحلقة حبل قوي، فإذا ظفروا بالجرو صفقوا بأيديهم وصوتوا، فيتلهى الجرو بالتصفيق ويقرب من المراكب مستأنساً بها، فينضم أحد الملاحين إليها

باكويه

ويحك جبهته حكاً شديداً، فيستلذ الجرو بذلك، ثم يضع النشيل وسط رأسه ويأخذ مطرقة من حديد قوية، ويضرب بها على النشيل بأتم قوة ثلاث ضربات، فلا يحس بالضربة الأولى وبالثانية، والثالثة يضطرب اضطراباً شديداً، فربما صادف بذنبه شيئاً من المراكب فيعطبها، ولا يزال مضطرب حتى يأخذه اللغوب. ثم يتعاون ركاب المراكب على جذبه حتى يصير إلى الساحل. وربما أحست أمر الجرو باضطرابه فتتبعهم، فيستعدون بالثوم الكثير المدقوق ويخوضون به الماء، فإذا شمت رائحة الثوم استبعثتها ورجعت القهقرى إلى خلف، ثم يقطعون لحم الجرو ويملحونه. ولحمه أبيض كالثلج وجلده أسود كالنقس. باكويه مدينة بنواحي دربند بقرب شروان. بها عين نفط عظيمة تبلغ قبالتها في كل يوم ألف درهم، وإلى جانبها عين أخرى تسيل بنفط أبيض كدهن الزئبق، لا تنقطع نهاراً ولا ليلاً، تبلغ قبالتها مثل الأولى. من عجائبها ما ذكر أبو حامد الأندلسي أن بها أرضاً ليس في ترابها حرارة كثيرة يجدها الإنسان، والناس يصيدون الغزلان وغيرها ويقطعون لحمها ويجعلونه في جلودها مع الملح وما شاؤوا من الأبازير، ويأخذون أنبوبة من القصب الغليظ النافذ، ويشدون القصب على جلد الصيد ويدفنونه تحت ذلك التراب، ويتركون القصب جارجاً فتخرج مائية اللحم كلها من القصبة، فإذا نفدت المائية علموا أن اللحم قد نضج فيخرجونه وقد تهرأ. وحكى بعض التجار انه رأى بها ناراً لا تزال تضطرم ولا تنطفيء لأن موضعها معدن الكبريت. وحكى أبو حامد الأندلسي أن بقر باكويه جبلاً أسود في سنامه شق طويل، يخرج منه الماء ويخرج مع ذلك الماء مثل صناج الدانق من النحاس وأكبر أو أصغر، يحملها الناس إلى الآفاق للتعجب.

باني وأريشة

باني وأريشة مدينتان بأرض الفرنج، سميتا باسم بانيهما: أما باني فاسم ملك تلك الناحية في قديم الدهر، وأريشة اسم زوجته. أما مدينة الباني فمدينة شريفة في وسطها سارية من رخام، وعلى تلك السارية صورة باني كأنه ينظر إلى البحر إلى إقبال مراكبه من إفريقية. وعلى ميل من مدينة باني مدينة أريشة، وفي وسط المدينة سارية من رخام عليها صورة أريشة، صور جميعاً من رخام تذكرةً لهما، وسميت المدينتان باسميهما. والله الموفق. برذيل مدينة بناحية افرنجة كثيرة المياه والأشجار والفواكه والحبوب. أكثر أهلها نصارى. بها بنيان منيفة على سوار عظيمة، وفي سواحل هذه المدينة يوجد العنبر الجيد. وحكي أنهم إذا أصابهم كلب الشتاء وامتنع عليهم ركوب البحر، مشوا إلى جزيرة بقربهم يقال لها انواطى، بها نوع من الشجر يسمى مادقة، فإذا أصابهم الجوع قشروا هذه الشجرة فوجدوا بين لحائها وخشبها شيئاً أبيض فاقتاتوا بها الشهر والشهرين وأكثر حتى يطيب الهواء. بها جبل مشرف عليها وعلى البحر المحيط وعليه صنم، وذلك كأنه يخبر الناس بترك التعرض لسلوك البحر المحيط، لئلا يطمع أحد ممن خرج من برذيل بركوب البحر الذي عنده طمع في سلوكه. برطاس ولاية واسعة بالخزر مفترشة على نهر اتل، أهلها مسلمون، لهم لغة مغايرة لجميع اللغات، أبنينهم من الخشب يأوون إليها في الشتاء، وأما في الصيف فيفرشون في الخرقاهات.

بلاد بجناك

بها نوع من الثعالب في غاية الحسن، كثير الوبر أحمر اللون، جلودها الفراء البرطاسية. والليل عندهم قليل في الصيف يكون مقدار ساعة، لأن السائر لا يتهيأ له أن يسير فيه أكثر من فرسخ. بلاد بجناك هم قوم من الترك في الإقليم السادس في شماليه قرب الصقالبة. وهم قوم طوال اللحى اولو اسبلة طويلة. عندهم كثرة وقوة ومنعة، لا يؤدون الخراج إلى أحد أصلاً، ويغير بعضهم على بعض كالسباع، ويفترشون نساءهم بمرأى الناس، لا يستقبحون ذلك كالبهائم، ومأكولهم الدخن. وبلادهم مسيرة اثني عشر يوماً. بلاد بجا هم قوم من الترك، بلادهم مسيرة شهر، وهم مشركون يسجدون لملكهم ويؤدون الاتاوة إلى الطحطاح، ويعظمون البقر ولا يأكلونها تعظيماً لها. وبلادهم كثيرة العنب والتين والزعرور الأسود، وفيها ضرب من الشجر لا تأكله النار، ولهم أصنام من ذلك الخشب، يأخذ الطرقيون من النصارى ذلك الخشب، ويزعمون أنه من الجذع الذي صلب عليه عيسى، عليه السلام. بلاد بغراج قوم من الترك لهم اسبلة بغير لحى، وبلادهم مسيرة شهر، لهم ملك عظيم الشأن يذكر أنه علوي من ولد يحيى بن زيد، وعندهم مصحف مذهب على ظهره أبيات في مرثية زيد، وهم يعبدون ذلك المصحف، وزيد عندهم ملك العرب، وعلي بن أبي طالب إله العرب، ولا يملكون أحداً إلا من نسل ذلك العلوي. وإذا استقبلوا السماء فتحوا أفواههم وشخصوا أبصارهم ويقولون:

بلاد تاتار

إن إله العرب ينزل منها ويصعد إليها. ومعجزة هؤلاء الملوك الذين هم من نسل زيد طول اللحية، وقيام الأنف، وسعة العين. ولهؤلاء القوم عساكر فرسان ورجالهم كثيرة، وصنعتهم عمل السلاح، يعملون منه آلات حسنة جداً. وغذاؤهم دخن ولحوم الضأن الذكر، وليس في بلادهم بقر ولا معز أصلاً. ولباسهم اللبود لا يلبسون غيرها. ولهم عادة أن من اجتاز بهم يأخذون عشر ماله. بلاد تاتار هم جيل عظيم من الترك سكان شرقي الإقليم السادس، أشبه شيء بالسباع في قساوة القلب وفظاظة الخلق وصلابة البدن، وغلظ الطبع وحبهم الخصومات وسفك الدماء وتعذيب الحيوان، وخروجهم من معجزات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه أبو بردة عن أبيه قال: كنت جالساً عند رسول الله، عليه السلام، فسمعته يقول: إن أمتي يسوقها قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأن وجوههم المجان المطرقة ثلاث مرات حتى يلحقوهم بجزيرة العرب، أما السابقة فينجو من هرب منهم، وأما الثانية فيهلك بعض وينجو بعض، وأما الثالثة فيهلك كلهم. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الترك، أما والذي نفسي بيده لتربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين! وعنه، صلى الله عليه وسلم: ان لله جنوداً بالمشرق اسمهم الترك ينتقم بهم ممن عصاه، فكم من حافيات حاسرات يسترحمن فلا يرحمن، فإذا رأيتم ذلك فاستعدوا للقيامة، وأما الديانات فليسوا منها في شيء وليس عندهم حل ولا حرمة، يأكلون كل شيء وجدوه ويسجدون للشمس ويسمونها إلهاً، ولهم لغة مخالفة لسائر الأتراك وقلم يكتبون به مخالف لسائر الأقلام. حكت امرأة قالت: كنت في أسرهم مدة، فاتفق أن الرجل الذي سباني مرض فقال أقاربه فيما قالوا: لعل هذه المرأة أطعمته شيئاً. فهموا بقتلي والمريض

بلاد التغزغز

كان يمنعهم من قتلي، فاجتمعوا يوماً اجتماعاً عظيماً وأحضروا معزاً أركبوني عليها، وجاءت امرأة ساحرة بمنجل في يدها تديره، وتقرأ شيئاً والجمع قيام عندي بالسيوف المسلولة، فإذا المعز تحتي صاحت صيحة، فرجع القوم وخلوا سبيلي وقالوا: ليس هذا كما ظننا. بلاد التغزغز هم قوم من الترك، بلادهم مسيرة عشرين يوماً، وليس لهم بيت عبادة. يعظمون الخيل ويحسنون القيام عليها، ويأكلون المذكى وغير المذكى، ويلبسون القطن واللبود، ولهم عيد عند ظهور قوس قزح. ولهم ملك عظيم الشأن له خيمة على أعلى قصره من ذهب، تتسع لألف إنسان ترى من خمسة فراسخ. وبها حجر الدم، وهو حجر إذا علق على إنسان كصاحب الرعاف أو غيره ينقطع دمه. بلاد جكل هم قوم من الترك، مسيرة بلادهم أربعون يوماً، وبلادهم آمنة ساكنة، وفيهم نصارى. وهم صباح الوجوه يتزوج الرجل منهم بابنته وأخته وسائر محارمه، وليسوا مجوساً لكن هذا مذهبهم، ويعبدون سهيلاً والجوزاء وبنات نعش، ويسمون الشعرى اليمانية رب الأرباب. وعندهم دعة لا يرون الشر، وجميع قبائل الترك يطمع فيهم للينهم ودعتهم. ومأكولهم الشعير والجلبان ولحوم الغنم، وليس في بلادهم الإبل ولا البقر، ولباسهم الصوف والفراء لا يلبسون غيرها. وبها حجر الفادزهر، ولا ملك لهم، وبيوتهم من الخشب والعظام.

بلاد الختيان

بلاد الختيان هم قوم من الترك، بلادهم مسيرة عشرين يوماً، وهم قوم أصحاب عقول وآراء صحيحة بخلاف سائر الترك. يتزوجون تزويجاً صحيحاً، ولا ملك لهم بل كل جمع لهم شيخ ذو عقل ورأي يتحاكمون إليه. وليس لهم جور على من يجتاز بهم ولا اغتيال عندهم. ولهم بيت عبادة يعتكفون فيه الشهر والأكثر والأقل. ومأكولهم الشعير والجلبان ولا يأكلون اللحم إلا مذكى، ولا يلبسون مصبوغاً. وبها مسك ذكي الرائحة جداً ما دام ي أرضهم، فإذا حمل عنها تغير واستحال. وبها جبل فيه حيات من نظر إليها مات إلا أنها في ذلك الجبل لا تخرج عنه البتة. وبها حجر يسكن الحمى لكنه لا يعمل إلا في أرضهم، وعندهم فادزهر جيد، وعلامته أن فيه عروقاً خضراء، وعندهم بقول كثيرة لها منافع. بلاد خرخيز هم قوم من الترك، بلادهم مسيرة شهر. لهم ملك مطاع عالم بمصالحهم، لا يجلس بين يديه إلا من جاوز الأربعين. ولهم كلام موزون يتكلمون به في صلاتهم، ويصلون إلى جانب الجنوب. ولهم في السنة ثلاثة أعياد. ولهم أعلام خضر ينشرونها في الأعياد. ويعظمون زحل والزهرة، ويتطيرون بالمريخ. والسباع بأرضهم كثيرة جداً. ومأكولهم الدخن والأرز ولحوم البقر والغنم وغيرها إلا لحم الجمال. ولهم بيت عبادة وقلم يكتبون به. ولهم رأي ونظر في الأمور ولا يطفئون السراج بل يخلونه حتى ينطفيء بنفسه. بها حجر يسرج بالليل يستغنون به عن المصابيح.

بلاد الخرلخ

بلاد الخرلخ قوم من الترك، بلادهم مسيرة خمسة وعشرين يوماً. وهم أهل البغي والظلم يغير بعضهم على بعض، والزنا عندهم ظاهر. وهم أصحاب قمار يقامر أحدهم صاحبه في زوجته وأخته وأمه وابنته، فما داموا في مجلس القمار فللمقمور أن يفادي، فإذا انفصلا عن مجلس القمار فقد حصل له ما قمر، يبيعها من التجار كما يريد. ونساؤهم ذوات الجمال والفساد، ورجالهم قليلو الغيرة: تأتي امرأة الرئيس وأخته إلى القوافل وتختار أحداً منهم، وتمشي به إلى بيتها وتنزله عندها وتحسن إليه، وزوجها وأقاربها يساعدونها ويتحركون في حوائجها، وما دام الضيف عندها فان الزوج لا يدخل عليها. ومأكولهم الحمص والعدس ويتخذون من الدخن الخمر، ولا يأكلون اللحم إلا مغمساً بالملح، ولباسهم الصوف. ولهم بيت عبادة في حيطانه صور متقدمي ملوكهم، والبيت من خشب لا تأكله النار، ومن هذا الخشب في بلادهم كثير. بها معدن الفضة يستخرجونها بالزئبق، وعندهم شجر يقوم مقام الاهليلج قائم الساق، إذا طليت عصارته على الاورام الحارة أبرأها لوقتها. ولهم حجر أخضر يعظمونه ويذبحون له الذبائح تقرباً إليه. بها نهر فيه حيات إذا وقع عليها عين شيء من الحيوان غشي عليه. بلاد الخزر هم جيل عظيم من الترك، بلادهم خلف باب الأبواب الذي يقال له الدربند، وهم صنفان: صنف بيض أصحاب الجمال الفائق، وصنف سمر يقال لهم قرا خزر. وأبنيتهم خرقاهات إلا شيء يسير من الطين. ولهم

بلاد خطلخ

أسواق وحمامات. ونزولهم على شط نهر آتل، ولهم ملك عظيم يسمى بلك. وفيهم خلق كثير من المسلمين والنصارى واليهود وعبدة الأوثان. وإذا عرض لقوم منهم حكومة يبعثهم إلى حاكمهم، والملك لا يدخل بينهم. ولكل قوم من الأقوام حاكم. ولملكهم قصر من الآجر بعيد من نهر آتل، وليس لأحد بناء من الآجر إلا له. وحكي أن ملكهم لا يركب إلا في أربعة أشهر مرة، وإذا ركب يكون بينه وبين الأجناد قدر ميل، وإذا رآه أحد يخر ساجداً، ولا يزال كذلك حتى يعبر الملك. وإذا بعث سرية فانهزمت قتل الهاربين كلهم، ويحضر نساءهم وأولادهم وقماشهم يهبها لغيرهم ويقتلهم. وحكي ان ملكهم إذا جاوز الأربعين عزله أو قتله خاصته، وقالوا: هذا قد نقص عقله لا يصلح لتدبير الملك! بلاد خطلخ هم قوم من الترك، مسيرة بلادهم عشرة أيام، وهم أشد شوكة من جميع قبائل الترك، يغيرون على من حولهم، ولهم رأى وتدبير في الأمور وينكحون الأخوات. والمرأة لا تتزوج إلا زوجاً واحداً، فإن مات عنها لا تتزوج باقي عمرها. ومن زنى عندهم أحرقوا الزاني والمزني بها، ولا طلاق لهم، ومهر المرأة جميع ما يملكه الزوج، ويأكلون الشعير والجلبان والبر وسائر اللحوم غير المذكاة. وإذا تزوج رجل امرأة لا مال لها فمهرها خدمة الولي سنة. والقصاص عندهم مشروع، والجروح مضمونة بالارش، فإن أخذ الارش ومات بالجراحة هدر دمه. وملكهم ينكر الشر أشد الانكار ولا يرضى به، ومن شرط ملكهم أن لا يتزوج فإن تزوج قتل!

بلاد الروس

بلاد الروس هم أمة عظيمة من الترك، بلادهم متاخمة لبلاد الصقالبة، حكى المقدسي أنهم في جزيرة وبيئة تحيط بها بحيرة، هي حصنهم وتمنع عنهم عدوهم. قال أحمد بن فضلان في رسالته: رأيت الروسية وقد وافوا بتجاراتهم على نهر آتل، فلم أر أتم بدناً منهم كأنهم النخل، شقر بيض، لهم شريعة ولغة مخالفة لسائر الترك، لكنهم أندر خلق الله، لا يتنظفون ولا يحترزون عن النجاسات. ومن عادة ملكهم أن يكون في قصر رفيع كبير، ومعه أربعمائة رجل من خواصه أهل الثقة عنده يجلسون تحت سريره. وله سري عظيم مرصع بالجواهر يجلس معه عليه أربعون جارية لفراشه، وربما يطأ واحدة بحضور أصحابه ولا ينزل عن سريره البتة. فإن أراد قضاء الحاجة يقرب إليه الطشت، وإن أراد الركوب تقرب الدابة إلى جنب السرير، وله خليفة يسوس الجيوش ويدبر أمر الرعية ويواقع الأعداء. ومن عاداتهم أن من ملك عشرة آلاف درهم اتخذ لزوجته طوقاً من ذهب، وإن ملك عشرين ألفاً اتخذ طوقين، وعلى هذا فربما كان في رقبة واحدة أطواق كثيرة، وإذا وجدوا سارقاً علقوه في شجرة طويلة، وتركوه حتى يتفتت! بلاد الروم هم أمة عظيمة، وهم سكان غربي الإقليم الخامس والسادس؛ قالوا: هم من نسل عيصو بن إسحق بن إبراهيم، عليه السلام. بلادهم واسعة ومملكتهم عظيمة، منها الرومية والقسطنطينية. بلادهم بلاد برد لدخولها في الشمال، وهي كثيرة الخيرات وافرة الثمرات كيرة البهائم من الدواب والمواشي. وكانوا في قديم الزمان على دين الفلاسفة إلى أن ظهر فيهم دين النصارى.

بلاد الغز

ومن عاداتهم الخروج في أعيادهم بالشعانين والسباسب والدنح بالزينة للهو والطرب والمأكول والمشروب، صغيرهم وكبيرهم وفقيرهم وغنيهم على قدر مكنته وقدرته. ومن عاداتهم إخصاء أولادهم ليكونوا من سدنة بيوت عبادتهم، لكنهم لا يتعرضون للقضيب ويحدثون الخصي بالأنثيين، لأنهم كرهوا لرهبانهم احبال نسائهم. وأما قضاء الوطر فلا يكرهونه، وقيل: ان الخصي يبلغ في ذلك مبلغاً لا يبلغه الفحول لأنه يستحلب لفرط المداومة جميع ما عند المرأة ولا يفتر، فإذا تزوج أحدهم وأراد الزفاف، تحمل المرأة إلى القس حتى يكون القس مفترعها وينالها بركته، والزوج أيضاً يمشي معها ليعلم أن الاقتضاض حصل بفعل القس! وملوك الروم وهم القياصرة كانوا من أوفر الملوك علماً وعقلاً، وأتمهم رأياً وأكثرهم عدداً وعدداً، وأوسعهم مملكة وأكثرهم مالاً، ومن عاداتهم أن لا يأخذوا عدوهم مغافصة، بل إذا أرادوا غزو بلاد كتبوا إلى صاحبها: نحن قاصدون بلادك في السنة الآتية، فاستعد وتأهب لالتقائنا! بلاد الغز أمة عظيمة من الترك، وهم نصارى كانوا في طاعة سلاطين بني سلجوق إلى زمن سنجر بن ملكشاه، فبعث إليهم من يستوفي الخراج منهم فتجاوز الجابي للخراج في الرسم والعادة، فضربه ملكهم وكان اسمه طوطى بك، فمات الجابي فبعث إلى السلطان يتعذر، والسلطان وافق على قبول عذره لكن الحواشي أرادوا النهب والسبي وتحصيل المال؛ قالوا: هؤلاء لا يقبل عذرهم فإنه إهانة بالسلطان وجرأة عليه، فلنوقع بهم حتى لا يقدم غيرهم على مثل هذا الفعل القبيح! فذهب السلطان بعساكره إليهم فتضرعوا وتذللوا وقالوا للسلطان: ارحم عوراتنا وذرياتنا وخذ منا دية المقتول أضعافاً مضاعفة، وضاعف علينا الخراج، فلان السلطان وأبى أصحابه.

بلاد كيماك

فلما أيسوا من أمنهم تأهبوا للقتال وقالوا: نحن كلنا مقتولون فلا نقتل إلا في المعركة بعدما قتل كل منا بدله! فركبوا برجالهم ونسائهم وحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، وكشفوهم كشفاً قبيحاً وهزموهم، وأخذوا السلطان ودخلوا بلاد خراسان وخربوها، ونهبوا وسبوا. وكان ذلك سنة ثمان وأربعين وخمسمائة والسلطان بقي في أسرهم سنة ثم هرب. وحكى مسعر بن مهلهل أن لهم مدينة من الحجارة والخشب والقصب، ولهم بيت عبادة، ولهم تجارات إلى الهند والصين. ومأكولهم البر ولحم الغنم، وملبوسهم الكتان والفراء. بها حجر أبيض ينفع من القولنج، وحجر أحمر إذا أمر على النصل لم يقطع شيئاً. وبلادهم مسيرة شهر واحد. بلاد كيماك هم قوم من الترك، بلادهم مسيرة خمسة وثلاثين يوماً، وبيوتهم من جلود الحيوان. مأكولهم الحمص والباقلى ولحم الذكران من الضأن والمعز، ولا يأكلون الاناث. بها عنب نصف الحبة أبيض ونصفها أسود، وبها حجارة يستمطر بها متى شاؤوا. وعندهم معادن الذهب في سهل من الأرض يجدونه قطاعاً. وعندهم الماس يكشف عنه السيل. وعندهم نبات ينوم ويخدر. وليس لهم ملك، ولا بيت عبادة. ولهم قلم يكتبون به. ومن يجاوز منهم ثمانين سنة عبدوه إلا أن يكون به عاهة. بها جبل يسمى منكور، به عين في حفرة، قال أبو الريحان الخوارزمي في كتابه الآثار الباقية: إن هذه الحفرة مقدار ترس كبير، وقد استوى الماء على حافاتها، فربما يشرب منه عسكر كثير لا ينقص مقدار إصبع، وعند هذه العين صخرة عليها أثر رجل إنسان، وأثر كفيه بأصابعهما وأثر ركبتيه كأنه كان ساجداً، وأثر قدم صبي وحوافر حمار. والأتراك الغزية يسجدون لها إذا رأوها لأنهم نصارى، ينسبونه إلى عيسى، عليه السلام.

بلدة بهى

بلدة بهى هي بلدة من بلاد الترك آهلة غناء، أهلها مسلمون ونصارى ويهود ومجوس وعبدة الأصنام، ولهم أعياد كثيرة لأن لكل قوم عيداً مخالفاً للآخرين. ومسيرة مملكة بهى أربعون يوماً. ولهم ملك عظيم ذو قوة وسياسة يسمى بهى. بها حجارة تنفع من الرمد، وحجارة تنفع من الطحال، وعندهم نيل جيد؛ أخبر بهذه كلها، أعني بلاد الترك وقبائلها، مسعر بن مهلهل فإنه كان سياحاً رآها كلها. بيقر قلعة حصينة من أعمال شروان. على هذه القلعة صور وتماثيل من الحجر لم تعرف فائدتها لتقادم عهدها. وبها دار الإمارة مكتوب على بابها: في هذه الدار أحد عشر بيتاً، والداخل لا يرى إلا عشرة بيوت وإن بذل جهده، والحادي عشر وضع على وجه لا يعرفه أحد، لأن فيه خزانة الملك. تركستان قد ذكرنا أن كل إقليم من الأقاليم السبعة شرقية مساكن الترك، وبلادهم ممتدة من الإقليم الأول إلى السابع عرضاً في شرقي الأقاليم، وقد بينا أنهم أمة عظيمة ممتازة عن سائر الأمم بالجلادة والشجاعة، وقساوة القلب ومشابهة السباع، والغالب على طباعهم الظلم والعسف والقهر، ولا يرون إلا ما كان غصباً لطبع السباع، وهمهم شن غارة أو طلب ظبي أو صيد طير. وعندهم من كبر انه لو سبي أحدهم وتربى في العبودية، فإذا بلغ أشده يريد أن يكون زعيم عسكر سيده، بل يريد أن يخالفه ويقوم مقامه وينسى حق التربية والانعام السابق.

رذوم

ونفوس الترك نفوس مائلة إلى الشر والفساد الذي هو طاعة الشيطان، فترى أكثرهم عبدة الأصنام أو الكواكب أو النيران أو نصارى، وما فيهم عجيب يذكر إلا سحرهم واستمطارهم المطر بالحجر الذي يرمونه في الماء، وذكر انه من خاصية الحجر وقد مر ذكره مبسوطاً. حكى صاحب تحفة الغرائب أن بأرض الترك جبلاً لقوم يقال لهم زانك، وهم ناس ليس لهم زرع ولا ضرع، وفي جبالهم ذهب وفضة كثيرة، وربما توجد قطعة كرأس شاة، فمن أخذ القطاع الصغار ينتفع بها، ومن أخذ القطاع الكبار يموت الآخذ وأهل كل بيت تلك القطعة فيه، فإن ردها إلى مكانها انقطع الموت عنهم، ولو أخذه الغريب لا يضره شيء. وحكي أن بتركستان جبلاً يقال له جبل النار، فيه غار مثل بيت كبير، كل دابة تدخله تموت في الحال. رذوم مدينة بأرض الفرنج مبنية بالحجارة المهندمة على نهر شعنة. لا تفلح بها الكروم والشجر أصلاً، لكن يكثر بها القمح والسلت، يخرج من نهرها حوت يسمونه سلمون، وحوت آخر صغير طعمه ورائحته كطعم القثاء، وذكر أن هذا الحوت يوجد في نيل مصر أيضاً ويسمى العير. وحكى الطرطوشي أنه رأى برذوم حدثاً بلغت لحيته ركبتيه، فمشطها فهبطت عن ركبتيه بأربع أصابع، وكان خفيف العارضين، فحلف انه لم يكن على وجهه شعر قبل ذلك بستة أعوام! وحكي انه يخرج في الشتاء برذوم عند البرد الشديد نوع من الاوز أبيض، أحمر الأرجل والمناقير، يسمى عايش، وهذا النوع لا يتفرخ إلا في جزيرة عاهق، وهي غير مسكونة، فربما انكسرت المراكب في البحر، فمن تعلق بهذه الجزيرة يقتات ببيض هذا الطير وفراخه الشهر والشهرين.

رومية

رومية مدينة رئاسة الروم وعلمهم. وهي في شمالي غربي القسطنطينية، وبينهما مسيرة خمسين يوماً، وهي في يد الفرنج، ويقال لملكهم ملك المان. وبها يسكن البابا الذي تطيعه الفرنج، وهو عندهم بمنزلة الإمام الذي يكون واجب الطاعة. ومدينة رومية من عجائب الدنيا لعظم عمارتها وكثرة خلقها خارج عن العادة إلى حد لا يصدقه السامع؛ ذكر الوليد بن مسلم الدمشقي أن استدارة رومية أربعون ميلاً، في كل ميل منها باب مفتوح، فمن دخل من الباب الأول يرى سوق البياطرة، ثم يصعد درجاً فيرى سوق الصيارفة والبزازين، ثم يدخل المدينة فيرى في وسطها برجاً عظيماً واسعاً، في أحد جانبيه كنيسة قد استقبل بمحرابها المغرب، وببابها المشرق، وفي وسط البرج بركة مبطنة بالنحاس، يخرج منها ماء المدينة كله. حكي أن في وسطها عموداً من حجارة عليه صورة راكب على بعير، يقول أهل المدينة: إن الذي بنى هذه المدينة يقول لا تخافوا على مدينتكم حتى يأتيكم قوم على هذه الصفة، فهم الذين يفتحونها! وثلاثة جوانب المدينة في البحر، والرابع في البر، ولها سوران من رخام، وبين السورين فضاء طوله مائتا ذراع، وعرض السور ثمانية عشر ذراعاً، وارتفاعه اثنان وستون ذراعاً. بها نهر بين السورين يدور ماؤه في جميع المدينة، وهو ماء عذب يدور على بيوتهم ويدخلها، وعلى النهر قنطرة بدفوف النحاس، كل دفة منها ستة وأربعون ذراعاً. إذا قصدهم عدو رفعوا تلك الدفوف فيصير بين السورين بحر لا يرام، وعمود النهر ثلاثة وتسعون ذراعاً في عرض ثلاثة وأربعين ذراعاً، وبين باب الملك إلى باب الذهب اثنا عشر ميلاً، وسوق ممتد من شرقيها إلى غربيها بأساطين النحاس، وسقفه أيضاً نحاس، وفوقه سوق آخر في الجميع التجار وأصحاب الأمتعة. وذكر أن بين يدي هذا السوق سوقاً آخر على أعمدة نحاس، كل عمود منها ثلاثون ذراعاً. وبين هذه الأعمدة نقير

من نحاس في طول السوق من أوله إلى آخره، فيه لسان من البحر تجري فيه السفن، فتجيء السفينة في هذه النقرة، وفيه الأمتعة حتى تجتاز على السوق بين يدي التجار، فتقف على تاجر تاجر فيختار منها ما يريد ثم ترجع إلى البحر. وبها كنيسة داخل المدينة بنيت على اسم مار بطرس ومار بولس، وهما مدفونان فيها، يقصدهما الروم، ولهم فيهما اعتقاد عظيم ويذكرون عنهما أشياء عجيبة. وطول هذه الكنيسة ألف ذراع في خمسمائة ذراع في سمك مائتي ذراع. وبها كنيسة أخرى بنيت باسم اصطافنوس رأس الشهداء. طولها ستمائة ذراع في عرض ثلاثمائة ذراع في سمك مائة وخمسين ذراعاً. وسقوف هذه الكنيسة وحيطانها وأرضها وبيوتها وكواها كلها حجر واحد. وفي المدينة كنائس كثيرة. وفيها عشرة آلاف دير للرجال والنساء، وحول سورها ثلاثون ألف عمود للرهبان. وفيها اثنا عشر ألف زقاق، يجري في كل زقاق منها نهران: أحدهما للشرب، والآخر للحشوش. وفيها اثنا عشر ألف سوق، في كل سوق قبانان، وأسواقها كلها مفروشة بالرخام الأبيض، منصوبة على أعمدة النحاس، مطبقة بدفوف النحاس. وفيها ستمائة وستون ألف حمام. وإذا كان وقت الزوال يوم السبت ترك جميع الناس أشغالهم في جميع الأسواق إلى غروب الشمس يوم الأحد، وهو عيد النصارى. وبها مجامع لمن يلتمس صنوف العلم من الطب والنجوم والحكمة والهندسة وغير ذلك؛ قالوا: انها مائة وعشرون موضعاً. وبها كنيسة صهيون. شبهت بصهيون بيت المقدس، طولها فرسخ في عرض فرسخ في سمك مائتي ذراع، ومساحة هيكلها ستة أجربة. والمذبح الذي يقدس عليه القربان من زبرجد أخضر، طوله عشرون ذراعاً في عرض عشرة أذرع، يحمله عشرون تمثالاً من ذهب، طول كل تمثال ثلاثة أذرع، أعينها يواقيت

حمر، وفي الكنيسة ألف ومائتا أطسوانة من المرمر الملمع، ومثلها من النحاس المذهب، طول كل أسطوانة خمسون ذراعاً، لكل أسطوانة رجل معروف من الأساقفة. ولها ألف ومائتا باب كبار من النحاس الأصفر المفرغ، وأربعون باباً من الذهب، وأما الأبواب من الآبنوس والعاج فكثيرة. وفيها مائتا ألف وثلاثون ألف سلسلة من ذهب معلق من السقف ببكر تعلق منها القناديل، سوى القناديل التي تسرج يوم الأحد. وبها من الأساقفة والشمامسة، وغيرهم ممن يجري عليه الرزق من الكنيسة خمسون ألفاً، كلما مات واحد قام مقامه آخر. وفيها عشرة آلاف جرة، وعشرة آلاف خوان من ذهب، وعشرة آلاف كاس، وعشرة آلاف مسرجة من ذهب. والمنائر التي تدار حول المذبح سبعمائة منارة، كلها ذهب، وفيها من الصلبان التي تقوم يوم الشعانين ثلاثون ألف صليب، وأما صلبان الحديد والنحاس المنقوشة والمموهة فمما لا يحصى، ومن المصاحف الذهبية والفضية عشرة آلاف مصحف. وقد مثل في هذه الكنيسة صورة كل نبي بعث من وقت آدم إلى عيسى، عليه السلام، وصورة مريم، عليها السلام، كان الناظر إذا نظر إليهم يحسبهم أحياء. وفيها مجلس الملك حوله مائة عمود، على كل عمود صنم، في يد كل صنم جرس عليه اسم أمة من الأمم جميعاً. زعموا أنها طلسمات إذا تحرك صنم عرفوا ان ملك تلك الأمة يريدهم فيأخذون حذرهم. وبها طلسم الزيتون، بين يدي هذه الكنيسة صحن يكون خمسة أميال في مثلها، في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعاً، وهو كله قطعة واحدة، وفوقه تمثال طائر، يقال له السوداني، من ذهب، على صدره نقش وفي منقاره شبه زيتونة، وفي كل واحدة من رجليه مثل ذلك. فإذا كان أوان الزيتون لم يبق طائر في تلك الأرض إلا أتى وفي منقاره زيتونة وفي رجليه

زيتونتان يلقيها على ذلك الطلسم، فزيت أهل رومية وزيتونهم من ذلك؛ قالوا: هذا من عمل بليناس صاحب الطلسمات. وعلى هذا الطلسم أمناء وحفظة من قبل الملك، وأبواب مختومة فإذا ذهب أوان الزيتون وامتلأ الصحن من الزيتون يجتمع الأمناء، ويعطي الملك البطارقة منه ومن يجري مجراهم على قدرهم، ويجعل الباقي لقناديل الكنيسة. وهذه القصة، أعني طلسم الزيتون، رأيتها في كتب كثيرة قلما تترك في شيء من عجائب البلاد. وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: من عجائب الدنيا شجرة برومية من نحاس، عليها صورة سودانية، في منقارها زيتونة، فإذا كان أوان الزيتون صفرت فوق الشجرة، فيوافي كل طير في تلك الأرض من جنسها ثلاث زيتونات في منقاره ورجليه، ويلقيها على تلك الشجرة فيعصرها أهل رومية فتكفيهم لقناديل بيعهم وأكلهم جميع الحول. وبها طلسم آخر وهو أنه في بعض كنائسهم نهر يدخل من خارج المدينة، وفيه من الضفادع والسلاحف والسرطانات شيء كثير، وعلى الموضع الذي يدخله الماء من الكنيسة صورة صنم من حجارة، في يده حديدة معتقة كأنه يريد أن يتناول بها شيئاً من الماء، فإذا انتهت إليه هذه الحيوانات المؤذية رجعت ولم يدخل الكنيسة شيء منها البتة. وهذه كلها منقولة من كتاب ابن الفقيه، وهو محمد بن أحمد الهمذاني، وأعجب من هذه كلها أن مدينة هذه صفتها من العظم ينبغي أن تكون مزارعها وضياعها إلى مسيرة أشهر، وإلا لا يقوم بميرة أهلها. وذكر قوم من بغداد أنهم شاهدوا هذه المدينة قالوا: انها في العظم والسعة وكثرة الخلق مما يقارب هذا، والذي لم يرها يشكل عليه. وحكي أن أهل رومية يحلقون لحاهم ووسط هاماتهم، فسئلوا عن ذلك فقالوا: لما جاءهم شمعون الصفا والحواريون دعوهم إلى النصرانية، فكذبوهم

زره كران

وحلقوا لحاهم ورؤوسهم، فلما ظهر لهم صدق قولهم ندموا على ما فعلوا، وحلقوا لحى أنفسهم ورؤوسهم كفارة لذلك. زره كران معناه صناع الدرع: قريتان فوق باب الأبواب على تل عال، وحواليه قرى ومزارع ورساتيق وجبال وآجام. أهلها طوال القدود شقر الوجوه خزر العيون، ليس لهم صنعة سوى عمل الدروع والجواشن. وهم أغنياء أسخياء يحبون الغرباء لا سيما من يعرف شيئاً من العلوم أو الخط، أو يعرف شيئاً من الصناعات، ولا يقبلون الخراج لأحد لحصانة موضعهم. وليس لهم ملة ولا مذهب. وفي كل قرية من تلك القرى بيتان كبيران تحت الأرض مثل السراديب: أحدهما للرجال، والآخر للنساء. وفي كل بيت عدة رجال معهم سكاكين، فإذا مات أحدهم فإن كان رجلاً حملوه إلى بيت الرجال، وإن كانت امرأة إلى بيت النساء، فيأخذه أولئك الرجال ويقطعون أعضاءه، ويعرقون ما عليها من اللحم، ويخرجون ما فيها من النقي ثم يجمعون تلك العظام وما فيها من بلل ولا درن في كيس، إن كان من الأغنياء في كيس ديباج، وإن كان من الفقراء في كيس خام، ويكتبون على الكيس اسم صاحب العظام واسم أبويه، وتاريخ ولادته ووقت موته، ويعلقون الكيس في تلك البيوت، ويأخذون لحم الرجال إلى تل خارج القرية وعليه الغربان السود فيطعمونها ذلك اللحم، ولا يخلون طيراً آخر يأكله، فإن جاء طير آخر ليأكله رموه بالنشاب، ويأخذون لحم النساء إلى مكان آخر ويطعمون الحدأة ويمنعون غيرها من الطيور. وحكى أبو حامد الأندلسي أنه سمع أهل دربند أنهم جهزوا ذات مرة العساكر، وذهبوا إلى زره كران فذهبوا حتى دخلوا القرية، فخرج من تحت الأرض رجال دخلوا تلك البيوت، فهبت ريح عاصف وجاء ثلج كثير حتى

سد يأجوج ومأجوج

لم يعرف أحد من تلك العساكر صاحبه، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وضلوا عن الطريق وهلك منهم خلق كثير، ونجا بعضهم بعدما عاينوا الهلاك. وذكروا أن صاحب شروان، وكان ملكاً جباراً صاحب شوكة وقوة، قصدهم ذات يوم طمعاً فيهم فأصابه مثل ما أصاب أصحاب دربند، فامتنع الملوك عن غزوهم. سد يأجوج ومأجوج قيل: يأجوج ومأجوج ابنا يافث بن نوح، عليه السلام. وهما ولدا خلقاً كثيراً فصاروا قبيلتين لا يعلم عددهم إلا الله. روى الشعبي أن ذا القرنين سار إلى ناحية يأجوج ومأجوج فاجتمع إليه خلق كثير وقالوا: أيها الملك المظفر، إن خلف هذا الجبل خلقاً لا يعلم عددهم إلا الله، يخربون علينا بلادنا وياكلون ثمارنا وزروعنا! قال: وما صفتهم؟ قالوا: قصار ضلع عراض الوجوه. قال: وكم صنفاً؟ قالوا: أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله! ثم قالوا: هل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟ معناه تجمع من عندنا مالاً تصرفه في حاجز بيننا وبينهم ليندفع عنا أذاهم. فقال الملك: لا حاجة إلى مالكم فإن الله أعطاني من المكنة ما لا حاجة معها إلى مالكم، لكن ساعدوني بالآلة والرجال، وأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً. فأمر بالحديد فأذيب واتخذ منه لبناً عظاماً، وأذاب النحاس واتخذه ملاطاً لذلك اللبن، وبنى به الفج الذي كانوا يدخلون منه، فسواه مع قلتي الجبل فصار شبيهاً بالمصمت. وروي أن ذا القرنين إنما عمر السد بعد رجوعه عنهم، فتوسط أرضهم ثم انصرف إلى ما بين الصدفين، فقاس ما بينهما وهو مقطع أرض الترك فوجد ما بينهما مائة فرسخ، فحفر له أساساً بلغ به الماء وجعل عرضه خمسين فرسخاً، وجعل حشوه الصخور وطينه بالنحاس المذاب، فصب عليه وصار عرقاً من جبل تحت الأرض، ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عرقاً من نحاس

أصفر فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وسواد الحديد. ومن الأخبار المشهورة حديث سلام الترجمان؛ قال: إن الواثق بالله رأى في المنام أن السد الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج مفتوح، فأرعبه هذا المنام فأحضرني وأمرني بالمشي إلى السد والنظر إليه، والرجوع إليه بالخبر، وضم إلي خمسين رجلاً، ووصلني بخمسة آلاف درهم، وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم، ومائتي بغل تحمل الزاد والماء. قال: فخرجنا من سر من رأى بكتاب إلى صاحب أرمينية إسحق بن إسماعيل، وكان إسحق بمدينة تفليس، فأمره بإنفاذنا وقضاء حوائجنا، فكتب إسحق إلى صاحب السرير، وصاحب السرير كتب إلى طرخان صاحب اللان، وصاحب اللان إلى فيلانشاه، وفيلانشاه كتب إلى ملك الخزر، وملك الخزر بعث معنا خمسة نفر من الأدلاء. فسرنا ستة وعشرين يوماً فوصلنا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة، وكنا حملنا معنا خلاً لنشمه لدفع غائلة رائحتها بإشارة الادلاء، وسرنا في تلك الأرض عشرة ايام ثم صرنا في بلاد خراب مدنها. فسرنا فيها سبعة وعشرين يوماً فسألنا الادلاء سبب خرابها، فقالوا: خربها يأجوج ومأجوج. ثم صرنا إلى حصن قريب من الجبل الذي يقوم السد في بعض شعابه، ومنه جزنا إلى حصن آخر وبلاد ومدن فيها قوم مسلمون يتكلمون بالعربية والفارسية، ويقرأون القرآن، ولهم مساجد، فسألونا: من أين أقبلتم وأين تريدون؟ فأخبرناهم أنا رسل الأمير. فأقبلوا يتعجبون ويقولون: أشيخ أم شاب؟ قلنا: شاب. فقالوا: أين يسكن؟ قلنا: بأرض العراق في مدينة يقال لها سر من رأى. فقالوا: ما سمعنا بهذا قط. ثم ساروا معنا إلى جبل أملس ليس عليه شيء من النبات، وإذا هو مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعاً، فإذا عضادتان مبنيتان مما يلي الجبل من جنبتي الوادي، عرض كل عضادة خمسة وعشرون ذراعاً، الظاهر من ثخنها عشرة أذرع خارج الباب، كله مبني بلبن حديد مغيب في نحاس في سمك خمسين ذراعاً، وإذا دروند حديد طرفاه في العضادتين طوله مائة وعشرون ذراعاً قد

ركب على العضادتين، على كل واحد مقدار عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع. وفوق الدربند بناء باللبن الحديد والنحاس إلى رأس الجبل. وارتفاعه مد البصر، وفوق ذلك شرف حديد، في طرف كل شرف قرنان ينثني كل واحد منهما إلى صاحبه، وإذا باب حديد مصراعان مغلقان، عرض كل مصراع ستون ذراعاً في ارتفاع سبعين ذراعاً في ثخن خمسة أذرع، وقائمتان في دوارة على قدر الدربند، وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع، وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعاً، وفوق القفل نحو خمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل، وعلى الغلق مفتاح مغلق طوله سبعة أذرع له أربعة عشر دندانكاً، كل دندانك أكبر من دستج الهاون، مغلق في سلسلة طولها ثمانية أذرع في استدارة أربعة أشبار، والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق، وارتفاع عتبة الباب عشرة أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العضادتين، والظاهر منها خمسة أذرع، وهذا الذرع كله ذراع السواد. ورئيس تلك الحصون يركب كل يوم جمعة في عشرة فوارس، مع كل فارس مرزبة حديد يدقون الباب، ويضرب كل واحد منهم القفل والباب ضرباً قوياً مراراً ليسمع من وراء الباب ذلك، فيعلمون أن هناك حفظة ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثاً. وإذا ضربوا الباب وضعوا آذانهم فيسمعون وراء الباب دوياً عظيماً. وبالقرب من السد حصن كبير يكون فرسخاً في مثله، يقال انه كان يأوي إليه الصناع زمان العمل. ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما مائتي ذراع في مثلها، وعلى باب هذين الحصنين شجر كبير لا يدرى ما هو، وبين الحصنين عين عذبة، وفي أحد الحصنين آلة البناء الذي بني به السد من قدر الحديد والمغارف، وهناك بقية اللبن الحديد وقد التصق بعضه ببعض من الصدإ، واللبنة ذراع ونصف في سمك شبر. قال: فسألنا أهل تلك البلاد هل رأيتم أحداً من يأجوج ومأجوج؟ فذكروا أنهم رأوا منهم عدداً فوق الشرف ذات مرة، فهبت ريح سوداء فألقتهم إلينا،

سقسين

فكان مقدار الواحد منهم في رأي العين شبراً ونصفاً. فهممنا بالانصراف فأخذنا الادلاء نحو جهة خراسان، فسرنا حتى خرجنا خلف سمرقند بسبعة فراسخ، وأخذنا طريق العراق حتى وصلنا. وكان من خروجنا من سر من رأى إلى رجوعنا إليها ثمانية عشر شهراً. سقسين بلدة من بلاد الخزر عظيمة آهلة، ذات أنهار وأشجار وخيرات كثيرة. ذكروا أن أهلها أربعون قبيلة من الغز. وفي المدينة من الغرباء والتجار ما لا يحصى عددهم، والبرد عندهم شديد جداً، ولكل واحد دار فيحاء كبيرة، وفي الدار خرقاه مغطاة باللبود من البرد. وأهلها مسلمون أكثرهم على مذهب الإمام أبي حنيفة، ومنهم من هو على مذهب الإمام الشافعي. وفيها جوامع لكل قوم جامع يصلون فيه، ويوم العيد تخرج منابر لكل قوم منبر يخطبون عليه ويصلون مع إمامهم. والشتاء عندهم شديد جداً. وسقوف أبنيتهم كلها من خشب الصنوبر. بها نهر عظيم أكبر من دجلة، وفيه من أنواع السمك ما لم يشاهده أحد في غيره، يكون السمك حمل جمل، وفيها صغار لا شوك فيها كأنها الية الحمل محشوة بلحم الدجاج، بل أطيب، ويشترى من هذا السمك مائة من بنصف دانق، يخرج من بطنها دهن يكفي للسراج شهراً، ويحصل منها الغراء نصف من وأكثر. وإن قدد يكون من أحسن قديد. ومعاملات أهل سقسين على الرصاص كل ثلاثة أمنان بالبغدادي بدينار، ويشترون بها ما شاؤوا كالفضة في بلادنا. والخبز واللحم عندهم رخيص، تباع الشاة بنصف دانق، والحمل بطسوج، والفواكه عندهم كثيرة جداً. حكى الغرناطي أن نهرهم قد جمد عند الشتاء، وأنا مشيت عليه فكان عرضه ألف خطوة وثمانمائة ونيفاً وأربعين.

شابر

شابر بليدة بناحية باب الأبواب. بها جب بيجن، وإنها جب عميقة. لما ظفر افراسياب ملك الترك ببيجن مقدم الفرس، كره أن يقتله لكثرة ما نال منه في الوقائع وأراد تعذيبه فكبله وحبسه في هذه الجب، وألقى على رأسها صخرة عظيمة، فذهب رستم الشديد إليها خفية وسرقه، ورفع الصخرة من رأس الجب ورمى بها، وأتى به إلى بلاد الفرس، وعاد بيجن إلى ما كان يأخذ العساكر ويوقع بالترك ويبليهم بالبلاء. والصخرة التي كانت على رأس الجب ملقاة هناك، يتعجب الناس من كبرها ورفع رستم إياها. وبها دجلة الخنازير التي جرى ذكرها في كتاب شاه نامه في قصة بيجن. شروان ناحية قرب باب الأبواب؛ قالوا: عمرها أنوشروان كسرى الخير، فسميت باسمه وأسقط شطرها تخفيفاً. وهي ناحية مستقلة بنفسها يقال لملكها اخستان. ذهب بعضهم إلى أن قصة موسى والخضر، عليهما السلام، كانت بها، وان الصخرة التي نسي يوشع، عليه السلام، الحوت عندها بشروان، والبحر بحر الخزر، والقرية التي لقيا فيها غلاماً فقتله قرية جيران، والقرية التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه باجروان، وهذه كلها من نواحي أرمينية قرب الدربند، ومن الناس من يقول انها كانت بأرض افريقية. وبها أرض مقدار شوط فرس، يخرج منها بالنهار دخان وبالليل نار، إذا غرزت في هذه الأرض خشبة احترقت، والناس يحفرون فيها حفراً ويتركون قدورهم فيها باللحم والأبازير فيستوي نضجها؛ حدثني بهذا بعض فقهاء شروان. وبها نبات عجيب يسمى خصى الثعلب؛ حكى الشيخ الرئيس أنه رآه بها

شلشويق

وهو يشبه خصيتين إحداهما ذابلة والأخرى طرية، ذكر أن من عرضه عليه قال: الذابلة تضعف قوة الباه والطرية تعين عليها. ينسب إليها الحكيم الفاضل أفضل الدين الخاقاني، كان رجلاً حكيماً شاعراً. اخترع صنفاً من الكلام انفرد به، وكان قادراً على نظم القريض جداً، محترزاً عن الرذائل التي تركبها الشعراء، محافظاً على المروءة والديانة، حتى ان صاحب شروان أراد رجلاً يستعمله في بعض أشغاله فقال له وزيره: ما لهذا الشغل مثل الخاقاني! فطلبه وعرضه عليه، فأبى وقال: إني لست من رجال هذا الشغل! فقال الوزير: الزمه به إلزاماً! فحبسه على ذلك فبقي في الحبس أياماً لم يقبل، فقال الملك للوزير: حبسته وما جاء منه شيء! فقال الوزير: ما عملت شيئاً، حبسته في دار خالية وحده وهو ما يريد إلا هذا، احبسه في حبس الجناة! فحبسه مع السراق والعيارين فيأتيه أحدهم يقول: على أي ذنب حبست؟ ويأتيه الآخر يقول: انشدني قصيدة! فلما رأى شدة الحال ومقاساة الأغيار يوماً واحداً، بعث إلى الملك: إني رضيت بكل ما أردت، كل شيء ولا هذا! فأخرجه وولاه ذلك الشغل. شلشويق مدينة عظيمة جداً على طرف البحر المحيط. وفي داخلها عيون ماء عذب. أهلها عبدة الشعرى إلا قليلاً، وهم نصارى لهم بها كنيسة. حكى الطرطوشي: لهم عيد اجتمعوا فيه كلهم لتعظيم المعبود والأكل والشرب، ومن ذبح شيئاً من القرابين ينصب على باب داره خشباً ويجعل القربان عليه، بقراً كان أو كبشاً أو تيساً أو خنزيراً، حتى يعلم الناس انه يقرب به تعظيماً لمعبوده. والمدينة قليلة الخير والبركة. أكثر مأكولهم السمك فإنه كثير بها. وإذا ولد لأحدهم أولاد يلقيهم في البحر ليخف عليه نفقتهم. وحكي أيضاً أن الطلاق عندهم إلى النساء، والمرأة تطلق نفسها متى شاءت.

شناس

وبها كحل مصنوع إذا اكتحلوا به لا يزول أبداً، ويزيد الحسن في الرجال والنساء، وقال: لم أسمع غناء أقبح من غناء أهل شلشويق. وهي دندنة تخرج من حلوقهم كنباح الكلاب وأوحش منه. شناس بليدة من بلاد لكزان على طرف جبل شاهق جداً، لا طريق إليها إلا من أعلى الجبل، فمن أراد أن يأتيها أخذ بيده عصا وينزل يسيراً يسيراً من شدة هبوب الريح، لئلا تسفره الريح. والبرد عندهم في غاية الشدة سبعة أشهر. فيها كلبة وينبت عندهم نوع من الحب يقال له السلت، وشيء من التفاح الجبلي. وأهلها أهل الخير والصلاح والضيافة للفقراء والإحسان إلى الغرباء، وصنعتهم عمل الأسلحة كالدروع والجواشن وغيرها من أنواع الأسلحة. ظاخر مدينة كبيرة آهلة على ست مراحل من جنزة، وهي قصبة بلاد لكزان. البرد بها شديد جداً. حدثني الفقيه يوسف بن محمد الجنزي أن ماءها من نهر يسمى ثمور، يكون جامداً في الشتاء والصيف، يكسرون الجمد ويسقون الماء من تحته، فإذا اسقوا وجعلوه في جرة تركوها في غطاء من جلد الغنم، لئلا يجمد في الحال. وقوتهم من حب يقال له السلت، يشبه الشعير في صورته، وطبعه طبع الحنطة، ولا تجارة عندهم ولا معاملة، بل كل واحد يزرع من هذا الحب قدر كفايته، ويتقوت به وبدر غنيمات له ورسلها ويلبس من صوفها. ولا رئيس بل عندهم خطيب يصلي بهم، وقاض يفصل الخصومات بينهم على مذهب الإمام الشافعي، وأهل المدينة كلهم شافعية، بها مدرسة بناها الوزير نظام الملك الحسن بن علي بن إسحق، وفيها مدرس وفقهاء، وشرط لكل فقيه فيها كل شهر رأس غنم وقدر من السلت، وذكر أنهم نقلوا مختصر المزني إلى لغة اللكزية، وكذلك كتاب الإمام الشافعي، ويشتغلون بهما.

فاراب

فاراب ولاية في تخوم الترك بقرب بلاد ساغو، مقدارها في الطول والعرض أقل من يوم، إلا أن بها منعة وبأساً. وهي أرض سبخة ذات غياض. ينسب إليها الأديب الفاضل إسماعيل بن حماد الجوهري، صاحب كتاب صحاح اللغة، وكذلك خاله إسحق بن إبراهيم، صاحب ديوان الأدب، ومن العجب أنهما كانا من أقصى بلاد الترك، وصارا من أئمة العربية! فرغانة ناحية بما وراء النهر متاخمة لبلاد الترك كثيرة الخيرات وافرة الغلات؛ قال ابن الفقيه: بناها أنوشروان كسرى الخير. نقل إليها من كل أهل بيت وسماها هرخانه، بها جبال ممتدة إلى بلاد الترك، وفيها من الأعناب والتفاح والجوز وسائر الفواكه، ومن الرياحين الورد والبنفسج وغيرهما، كلها مباح لا مالك لها، وفيها وفي أكثر جبال ما وراء النهر الفستق المباح. وبها من المعادن معدن الذهب والفضة والزئبق والحديد والنحاس، والفيروزج والزاج والنوشاذر والنفط والقير والزفت، وبها جبل تحترق حجارته مثل الفحم، يباع، وإذا احترق يستعمل رماده في تبييض الثياب؛ قال الاصطخري: لا أعرف مثل هذا الحجر في جميع الأرض. وبها عيون ماؤها يجمد في الصيف عند شدة الحر، وفي الشتاء يكون حاراً جداً حتى يأوي إليها السوام لدفء موضعها. قسطنطينية دار ملك الروم، بينها وبين بلاد المسلمين البحر الملح، بناها قسطنطين بن سويروس صاحب رومية، وكان في زمن شابور ذي الأكتاف، وجرى بينهما محاربات استخرج الحكماء وضعها. لم يبن مثلها قبلها ولا بعدها، والحكاية عن عظمها وحسنها كثيرة، وهذه صورتها:

والآن لم تبق على تلك الصورة، لكنها مدينة عظيمة. بها قصر الملك يحيط به سور دورته فرسخ، له ثلثمائة باب من حديد، فيه كنيسة الملك، وقبتها من ذهب، لها عشرة أبواب: ستة من ذهب، وأربعة من فضة. والموضع الذي يقف فيه الملك أربعة أذرع في أربعة أذرع، مرصع بالدر والياقوت، والموضع الذي يقف فيه القس ستة أشبار من قطعة عود قماري. وجميع حيطان الكنيسة بالذهب والفضة، وبين يديه اثنا عشر عموداً، كل عمود أربعة أذرع، وعلى رأس كل عمود تمثال، إما صورة آدمي أو ملك أو فرس أو أسد أو طاووس أو فيل أو جمل. وبالقرب منه صهريج، فإذا

أرسل فيه الماء امتلأ، يصعد الماء إلى تلك التماثيل التي على رؤوس الأساطين، فإذا كان يوم الشعانين، وهو عيدهم، في الصهريج حياض ملؤها حوض زيتاً وحوض خمراً وحوض عسلاً، وحوض ماءً ورداً وحوض خلاً، وطيبوها بالمسك والقرنفل، وحوض ماء صافياً. ويغطى الصهريج بحيث لا يراه أحد فيخرج الماء والشراب والمائعات من أفواه تلك الصور، فيتناول الملك وأصحابه وجميع من خرج معه إلى العيد. وبقرب الكنيسة عمود طوله ثلاثمائة ذراع وعرضه عشرة أذرع، وفوق العمود قبر قسطنطين الملك الذي بنى الكنيسة، وفوق القبر تمثال فرس من صفر، وعلى الفرس صنم على صورة قسطنطين، على رأسه تاج مرصع بالجواهر، ذكروا أنه كان تاج هذا الملك، وقوائم الفرس محكمة بالرصاص على الصخرة، ما عدا يده اليمنى فإنها سائبة في الهواء، ويد الصنم اليمنى فإنها في الجو كأنه يدعو الناس إلى قسطنطينية، وفي يده اليسرى كرة، وهذا العمود يظهر في البحر من مسيرة بعض يوم للراكب في البحر، واختلفت أقاويل الناس فيها: فمنهم مني قول في يد الصنم طلسم يمنع العدو عن البلد، ومنهم من يقول: على الكرة التي بيده مكتوب: ملكت الدنيا حتى صارت بيدي هكذا، يعني كهذه الكرة، وخرجت منها مبسوط اليد هكذا. والله أعلم. ومن عجائب الدنيا ما ذكره الهروي، وهو منارة قسطنطينية، وهي منارة موثقة بالرصاص والحديد، وهي في الميدان إذا هبت رياح أمالتها جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً من أصل كرسيها. ويدخل الناس الخزف والجوز في خلل بنائها فتطحنها. وبها فنجان الساعات: اتخذ فيه اثنا عشر باباً، لكل باب مصراع طوله شبر على عدد الساعات، كلما مرت ساعة من ساعات الليل أو النهار انفتح باب وخرج منه شخص، ولم يزل قائماً حتى تتم الساعة، فإذا تمت الساعة دخل ذلك الشخص ورد الباب، وانفتح باب آخر وخرج منه شخص آخر على هذا المثال.

القليب

وذكر الروم انه من عمل بليناس الحكيم، وعلى باب قصر الملك طلسم وهو ثلاثة تماثيل من صفر على صورة الخيل، عملها بليناس للدواب لئلا تشغب ولا تصهل على باب الملك. قال صاحب تحفة الغرائب: في حد خليج قسطنطينية قرية فيها بيت من الحجر وفي البيت صورة الرجال والنساء والخيل والبغال والحمير وغيرها من الحيوانات، فمن أصابه وجع في عضو من أعضائه يدخل ذلك البيت، ويقرب من مثل صورته ويمسح بيده مثل العضو الوجع من الصورة، ثم يمسح العضو الوجع فإن وجعه يزول في الحال. وبها قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. حكي أنه لما غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم، أخذ معه أبا أيوب الأنصاري، وكان شيخاً هماً، أخذه للبركة فتوفي عند قسطنطينية، فأمر يزيد أن يدفن هناك ويتخذ له مشهد. فقال صاحب الروم: ما أقل عقل هذا الصبي! دفن صاحبه ههنا وبنى له مشهداً، ما تفكر في أنه إذا مشى نبشناه ورميناه إلى الكلاب! فبلغ هذا القول يزيد بن معاوية قال: ما رأيت أحمق من هذا، ما تفكر في أنه إن فعل ذلك ما نترك قبراً من قبور النصارى في بلادنا إلا نبشناه، ولا كنيسة إلا خربناها! فعند ذلك قال صاحب الروم: ما رأينا أعقل منه ولا ممن أرسله! وهذه التربة عندهم اليوم معظمة، يستصحبون فيها ويكشفون سقفها عند الاستسقاء إذا قحطوا فيغاثون. القليب أرض قريبة من بلاد الصين. ذكروا أن بعض التبابعة أراد غزو الصين، فمات في طريقه، فتخلف عنه أصحابه وأقاموا بهذه الأرض فوجدوها أرضاً طيبة كثيرة المياه والأشجار. لهم بها مصايف ومشات، يتكلمون بالعربية القديمة لا يعرفون غيرها، ويكتبون بالقلم الحميري ولا يعرفون قلمنا، ويعبدون الأصنام

كرتنة

وملكهم من أهل بيت قديم، لا يخرجون الملك عن أهل ذلك البيت، وملكهم يهادي ملك الصين. ولهم أحكام وحظر الزنا والفسق، ومملكتهم مسيرة شهر واحد، أخبر بذلك كله مسعر بن مهلهل عن مشاهدتها. كرتنة قال العذري: إنها مدينة كبيرة بأرض الفرنج، يسكنها قوم نصف وجه كل واحد منهم أبيض في بياض مثل الثلج، والنصف الآخر معتدل اللون. كرمالة حصن بأرض الفرنج؛ قال العذري: حكى نصارى تلك الناحية أنه مر بهذا الحصن شيث مرتين، فخرجت عليه امرأة كانت زوجة سلاب على الطريق، هي وزوجها يسلبان ثياب المارين. فخرجت المرأة على شيث مرتين، وكان مستجاب الدعوة، فجردته عن ثيابه وهو مطاوع لها وأعطاها حتى بلغت به نزع السراويل، فعند ذلك دعا عليها فمسخت حجراً صلداً من ساعتها، فأدخل في فمها زرجونة فصارت الزرجونة مطعمة. وكل من أكل من أصل تلك الزرجونة لم يولد له ولد. مدينة النساء مدينة كبيرة واسعة الرقعة في جزيرة في بحر المغرب؛ قال الطرطوشي: أهلها نساء لا حكم للرجال عليهن، يركبن الخيول ويباشرن الحرب بأنفسهن، ولهن بأس شديد عند اللقاء، ولهن مماليك يختلف كل مملوك بالليل إلى سيدته، ويكون معها طول ليلته، ويقوم بالسحر ويخرج مستتراً عند انبلاج الفجر، فإذا وضعت إحداهن ذكراً قتلته في الحال، وإن وضعت أنثى تركتها، وقال الطرطوشي: مدينة النساء يقين لا شك فيها.

مغانجة

مغانجة مدينة عظيمة جداً، بعضها مسكون والباقي مزروع. وهي بأرض الفرنج على نهر يسمى رين. وهي كثيرة القمح والشعير والسلت والكروم والفواكه. بها دراهم من ضرب سمرقند في سنة إحدى واثنتين وثلاث مائة، عليها اسم صاحب السكة وتاريخ الضرب؛ قال الطرطوشي: أحسب أنه ضرب نصر بن أحمد الساماني. ومن العجائب أن بها العقاقير التي لا توجد إلا بأقصى الشرق، وانها من أقصى الغرب كالفلفل والزنجبيل والقرنفل والسنبل والقسط والخاولنجان، فإنها تجلب من بلاد الهند وإنها موجودة بها مع الكثرة. نيقية قال ابن الهروي: إنها من أعمال استنبول. وهي المدينة التي اجتمع بها آباء الملة المسيحية، فكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر. آباء يزعمون أن المسيح كان معهم في هذا المجمع، وهو أول المجامع لهذه الملة، وبه أظهروا الأمانة التي هي أصل دينهم. وفي بيعتها صور هؤلاء، وصورة المسيح على كراسيهم. وفي طريق هذه المدينة تل على رأسه قبر أبي محمد البطال. والله الموفق.

الاقليم السابع

الاقليم السابع أوله حيث يكون النهار في الاستواء سبعة أقدام ونصف وعشر وسدس قدم، كما هو في الإقليم السادس، لأن آخره أول هذا، وآخره حيث يكون الظل نصف النهار في الاستواء ثمانية أقدام ونصفاً ونصف عشر قدم. وليس فيه كثير عمارة إنما هو من المشرق غياض وجبال، يأوي إليها فرق من الأتراك كالمستوحشين، يمر على جبال باشغرت وحدود التحماكية وبلدي سوار وبلغار، وينتهي إلى البحر المحيط. وقليل من وراء هذا الاقليم من الأمم مثل ويسو وورنك ويورة وأمثالهم. ووقع في طرفه الأدنى الذي يلي الجنوب حيث وقع الطرف الشمالي في الإقليم السادس. وأطول نهار هؤلاء في أول الإقليم خمس عشرة ساعة ونصف وربع ساعة، وأوسطه ست عشرة، وآخره ست عشرة وربع، وطوله من المشرق إلى المغرب ستة آلاف ميل وسبعمائة وثمانون ميلاً وأربع وخمسون دقيقة، وعرضه مائة وخمسة وثمانون ميلاً وعشرون دقيقة، وتكسيره ألف ألف ميل ومائتا ألف ميل وأربعة وعشرون ألف ميل وثمانمائة وأربعة وعشرون ميلاً وتسع وأربعون دقيقة. وآخر هذا الإقليم هو آخر العمارة ليس وراءه إلا قوم لا يعبأ بهم، وهم بالوحش أشبه. ولنذكر شيئاً مما في هذا الإقليم من العمارات. والله الموفق. باشغرت جيل عظيم من الترك بين قسطنطينية وبلغار. حكى أحمد بن فضلان رسول المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة لما أسلم فقال: عند ذكر باشغرت وقعنا في بلاد

باطن الروم

قوم من الترك، وجدناهم شر الأتراك وأقدرهم وأشدهم إقداماً على القتل، فوجدتهم يقولون: للصيف رب، وللشتاء رب، وللمطر رب، وللريح رب، وللشجر رب، وللناس رب، وللدواب رب، وللماء رب، ولليل رب، وللنهار رب، وللموت رب، وللحياة رب، وللأرض رب، وللسماء رب، وهو أكبرهم إلا أنه يجتمع مع هؤلاء بالاتفاق ويرضى كل واحد بعمل شريكه. وحكي أنه رأى قوماً يعبدون الكراكي فقلت: إن هذا من أعجب الأشياء! وسألت عن سبب عبادتهم الكراكي فقالوا: كنا نحارب قوماً من أعدائنا فهزمونا، فصاحت الكراكي وراءهم فحسبوها كميناً منا فانهزموا، ورجعت الكرة لنا عليهم، فنعبدها لأنها هزمت أعداءنا. وحكى فيه من باشغرت أن أهل باشغرت أمة عظيمة، والغالب عليهم النصارى، وفيهم جمع من المسلمين على مذهب الإمام أبي حنيفة، ويؤدون الجزية إلى النصارى كما تؤدي النصارى ههنا إلى المسلمين. ولهم ملك في عسكر كثير. وأهل باشغرت في خرقاهات، ليس عندهم حصون، وكانت كل حلة من الحلل اقطاعاً لمتقدم صاحب شوكة. وكان كثيراً ما يقع بينهم خصومات بسبب الإقطاعات، فرأى ملك باشغرت أن يسترد منهم الإقطاعات، ويجري لهم الجامكيات من الخزانة دفعاً لخصوماتهم، ففعل. فلما قصدهم التتر تجهز ملك باشغرت لالتقائهم؛ قال المتقدمون: لسنا نقاتل حتى ترد إلينا إقطاعاتنا! فقال الملك: لست أرد إليكم على هذا الوجه، وأنتم إن قاتلتم فلأنفسكم وأولادكم! فتفرق ذلك الجمع الكثير، ودهمهم سيف التتر بلا مانع، وتركوهم حصيداً خامدين. باطن الروم بها جيل كثيرون على ملة النصارى. وهم كبني أم واحدة، بينهم محبة شديدة يقال لهم الطرشلية؛ ذكر العذري أن لهم عادات عجيبة، منها أن أحدهم

بجنة

إذا شهد على الآخر بالنفاق يمتحنان بالسيف، وذلك بأن يخرج الرجلان الشاهد والمشهود عليه بإخوتهما وعشيرتهما، فيعطى كل واحد سيفين يشد أحدهما في وسطه ويأخذ الآخر بيده، ويحلف الذي نسب إلى النفاق أنه بريء مما رمي به بالأيمان المعتبرة عندهم، ويحلف الآخر أن الذي قال فيه حق، ثم يسجد كل واحد على بعد من صاحبه نحو المشرق، ثم يبرز كل واحد إلى صاحبه ويتقاتلان حتى يقتل أحدهما أو ينقاد. ومنها محنة النار، فإذا اتهم أحد بالمال أو الدم تؤخذ حديدة تحمى بالنار، ويقرأ عليها شيء من التوراة وشيء من الإنجيل ويثبت في الأرض عودان قائمان، وتؤخذ الحديدة بالكلبتين من النار، وتنزل على طرفي العودين، فيأتي المتهم ويغسل يديه ويأخذ الحديدة ويمشي بها ثلاث خطوات ثم يلقيها ويربط يده برباط، ويختم عليه ويوكل به يوماً وليلة، فإن وجد به في اليوم الثالث نفاطة يخرج منها الما فهو مجرم، وإلا فهو بريء. ومنها محنة الماء، وهي أن المتهم تربط يداه ورجلاه ويشد في حبل، والقسيس يمشي به إلى ماء كثير يلقيه فيه، وهو يمسك الحبل، فإن طفا فهو مجرم، وإن رسب فهو بريء بزعمهم أن الماء قبله! ولا يمتحنون بالماء والنار إلا العبيد، وأما الأحرار فإن اتهموا بمال أقل من خمسة دنانير يبرز الرجلان بالعصا والترس، فيتضاربان حتى ينقاد أحدهما، فإن كان أحد الخصمين امرأة أو اشل أو يهودياً، يقيم عن نفسه بخمسة دنانير، فإن وقع المتهم فلا بد من صلته وأخذ جميع ماله، ويعطى المبارز من ماله عشرة دنانير. بجنة موضع ببلاد الترك، بها جبل على قلته شبه خرقاه من الحجر، وداخل الخرقاه عين ينبع الماء منها، وعلى ظهر الخرقاه شبه كوة يخرج الماء منها وينصب من الخرقاه إلى الجبل، ومن الجبل إلى الأرض، وتفوح من ذلك الماء رائحة طيبة.

برجان

برجان بلاد غائطة في جهة الشمال، ينتهي قصر النهار فيها إلى أربع ساعات والليل إلى عشرين ساعة وبالعكس. أهلها على الملة المجوسية والجاهلية، يحاربون الصقالبة. وهم مثل الإفرنج في أكثر أمورهم، ولهم حذق بالصناعات ومراكب البحر. بلغار مدينة على ساحل بحر مانيطس؛ قال أبو حامد الأندلسي: هي مدينة عظيمة مبنية من خشب الصنوبر، وسورها من خشب البلوط، وحولها من أمم الترك ما لا يعد ولا يحصى. وبين بلغار وقسطنطينية مسيرة شهرين وبين ملوكهم قتال. يأتي ملك بلغار بجنود كثيرة ويشن الغارات على بلاد قسطنطينية، والمدينة لا تمتنع منهم إلا بالأسوار. قال أبو حامد الأندلسي: طول النهار ببلغار يبلغ عشرين ساعة وليلهم يبقى أربع ساعات، وإذا قصر نهارهم يعكس ذلك. والبرد عندهم شديد جداً لا يكاد الثلج ينقطع عن أرضهم صيفاً وشتاء. حكى أبو حامد الأندلسي أن رجلاً صالحاً دخل بلغار، وكان ملكها وزوجته مريضين مأيوسين من الحياة، فقال لهما: إن عالجتكما تدخلان في ديني؟ قالا: نعم! فعالجهما فدخلا في دين الإسلام، وأسلم أهل تلك البلاد معهما، فسمع بذلك ملك الخزر فغزاهم بجنود عظيمة، فقال ذلك الرجل الصالح: لا تخافوا واحملوا عليهم وقولوا الله أكبر الله أكبر! ففعلوا ذلك وهزموا ملك الخزر، ثم بعد ذلك صالحهم ملك الخزر وقال: إني رأيت في عسكركم رجالاً كباراً على خيل شهب يقتلون أصحابي! فقال الرجل الصالح: أولئك جند الله! وكان اسم ذلك الرجل بلار، فعربوه فقالوا بلغار؛ هكذا ذكر القاضي البلغاري في

تاريخ بلغار، وكان من أصحاب إمام الحرمين، وملك بلغار في ذلك البرد الشديد يغزو الكفار ويسبي نساءهم وذراريهم. وأهل بلغار أصبر الناس على البرد، وسببه أن أكثر طعامهم العسل ولحم القندر والسنجاب. وحكى أبو حامد الأندلسي أنه رأى بأرض بلغار شخصاً من نسل العاديين الذين آمنوا بهود، عليه السلام، وهربوا إلى جانب الشمال، كان طوله أكثر من سبعة أذرع، كان الرجل الطويل إلى حقوه، وكان قوياً يأخذ ساق الفرس فيكسرها، ولا يقدر غيره أن يكسرها بالفأس. وكان في خدمة ملك بلغار، وهو قربه واتخذ له درعاً على قدره وبيضة كأنها مرجل كبير، ويأخذه معه في الحروب على عجلة لأن الجمل ما كان يحمله، ويمشي إلى الحرب على عجلة كيلا يتعب من المشي، ويقاتل راجلاً بخشبة في يده طويلة لا يقدر الرجل الواحد على حملها، وكانت في يده كالعصا في يد أحدنا، والأتراك يهابونه إذا رأوه مقبلاً إليهم انهزموا، ومع ذلك كان لطيفاً مصلحاً عفيفاً. وفي كتاب سير الملوك أن القوم الذين آمنوا بهود، عليه السلام، وهربوا إلى بلاد الشمال، وأمعنوا فيها توجد بأرض بلغار عظامهم؛ قال أبو حامد: رأيت سناً واحدة عرضها شبران وطولها أربعة أشبار، وجمجمة رأسه كالقبة، وتوجد تحت الأرض أسنان مثل أنياب الفيلة بيض كالثلج، ثقيلة في الواحدة منها مائتا من، لا يدرى لأي حيوان هي، فلعلها سن دوابهم تحمل إلى خوارزم. والقفل متصلة من بلاد بلغار إلى خوارزم إلا أن طريقهم في واد من الترك، ويشترى من تلك الأسنان في خوارزم بثمن جيد، تتخذ منها الأمشاط والحقاق وغيرهما، كما تتخذ من العاج بل هي أقوى من العاج لا تنكسر البتة. وحكي من الأمور العجيبة أن أهل ويسو ويورا إذا دخلوا بلاد بلغار ولو في وسط الصيف برد الهواء، ويصير كالشتاء يفسد زروعهم؛ وهذا مشهور عندهم لا يخلون أحداً يدخل بلغار من أهل تلك البلاد. وبها نوع من الطير لم يوجد في غيرها من البلاد؛ قال أبو حامد: هو طير

شوشيط

ذو منقار طويل، يكون منقاره الأعلى مائلاً إلى اليمين ستة أشبار، وإلى اليسار ستة أشبار مثل لام ألف، وعند الأكل ينطبق. ذكر أن لحمه نافع لحصاة الكلى والمثانة، وإذا وقعت بيضته في الثلج أو الجمد أذابته كالنار. شوشيط حصن بأرض الصقالبة، فيه عين ماء ملح، ولا ملح بتلك الناحية أصلاً. فإذا احتاجوا إلى الملح أخذوا من ماء هذه العين، وملأوا منه القدور وتركوها في فرن من حجارة، وأوقدوا تحتها ناراً عظيمة، فيخثر ويتعكر ثم يترك حتى يبرد فيصير ملحاً جامداً أبيض، وبهذه الطريقة يعمل الملح الأبيض في جميع بلاد الصقالبة. صقلاب أرض صقلاب في غربي الإقليم السادس والسابع. وهي أرض متاخمة لأرض الخزر في أعالي جبال الروم؛ قال ابن الكلبي: روم وصقلاب وأرمن وفرنج كانوا اخوة، وهم بنو ليطى بن كلوخيم بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام، سكن كل واحد بقعة من الأرض فسميت البقعة به. والصقالبة قوم كثيرون صهب الشعور حمر الألوان ذوو صولة شديدة. قال المسعودي: الصقالبة أقوام مختلفة بينهم حروب، لولا اختلاف كلمتهم لما قاومتهم أمة في الشدة والجرأة، ولكل قوم منهم ملك لا ينقاد لغيره: فمنهم من يكون على دين النصرانية اليعقوبية، ومنهم من يكون على دين النسطورية ومنهم من لا دين له ويكون معطلاً، ومنهم من يكون من عبدة النيران. ولهم بيت في جبل ذكرت الفلاسفة أنه من الجبال العالية، ولهذا البيت أخبار عجيبة في كيفية بنائه، وترتيب أحجاره، واختلاف ألوانها، وما أودع فيه من الجواهر، وما بني من مطالع الشمس في الكوي التي تحدث فيه والآثار المرسومة التي زعموا

أنها دالة على الكائنات المستقبلة، وما تنذر به تلك الجواهر من الآثار والحوادث قبل كونها، وظهور أصوات من أعاليه وما كان يلحقهم عند سماع ذلك! حكى أحمد بن فضلان لما أرسله المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة، وقد أسلم، حمل إليه الخلع. وذكر من الصقالبة عادات عجيبة منها ما قال: دخلنا عليه وهو جالس على سرير مغشى بالديباج، وزوجته جالسة إلى جانبه، والأمراء والملوك على يمينه، وأولاده بين يديه، فدعا بالمائدة فقدمت إليه وعليها لحم مشوي، فابتدأ الملك: أخذ سكيناً فقطع لقمة أكلها ثم ثانية ثم ثالثة ثم قطع قطعة دفعها إلي، فلما تناولتها جاؤوا بمائدة صغيرة ووضعت بين يدي، وهكذا ما كان أحد يمد يده إلى الأكل حتى أعطاه الملك، فإذا أعطاه الملك جاؤوا له بمائدة صغيرة وضعت بين يديه، حتى قدم إلى كل واحد مائدة لا يشاركه فيها أحد. فإذا فرغوا من الأكل حمل كل واحد مائدته معه إلى بيته. ومنها أن كل من دخل على الملك من كبير أو صغير حتى أولاده وإخوته، فساعة وقوع نظرهم عيه أخذ قلنسوته وجعلها تحت إبطه، فإذا خرج من عنده لبسها، وإذا خرج الملك لم يبق أحد في الأسواق والطرقات إلا قام وأخذ قلنسوته من رأسه وجعلها تحت إبطه، حتى إذا جاوزهم تقلنسوا بها. ومنها أنه إن رأوا أحداً عليه سلاحه وهو يبول أخذوا سلاحه وثيابه وجميع ما معه، وحملوا ذلك على جهله وقلة درايته، ومن جعل سلاحه ناحية حملوا ذلك على درايته ومعرفته ولم يتعرضوا له. ومنها ما ذكر أنه قال: رأيت الرجال والنساء ينزلون في النهر ويغتسلون عراة، لا يستتر بعضهم من بعض ولا يزنون البتة. والزنا عندهم من أعظم الجرائم، ومن زنى منهم كائناً من كان ضربوا له أربع سكك وشدوا يديه ورجليه إليها، وقطعوا بالفأس من رقبته إلى فخذيه، وكذلك بالمرأة، ويفعلون مثل ذلك بالسارق أيضاً. ومنها ما ذكره أبو حامد الأندلسي أن أحدهم إذا تعرض لجارية الغير أو

مشقة

ولده أخذ منه جميع ما يملكه، فإن كان فقيراً يباع عليه أولاده، فإن لم يكن له أولاد يباع عليه نفسه، فلا يال يخدم لمولاه حتى يفدي أحد عنه. وإذا عامل أحد منهم غريباً وأفلس يباع عليه أهله وولده ومسكنه ونفسه، ويقضى دين الغريب، وهؤلاء نصارى نسطورية. ومنها أنه يظهر في كل عشرين سنة عندهم السحر من العجائز، فيقع بسبب ذلك فساد كثير بين الناس، فيأخذون كل عجوز وجدوها في بلادهم ويشدون أيديهن وأرجلهن، وفهم نهر عظيم يلقونهن في ذلك النهر، فالتي طفت على الماء علموا أنها ساحرة فأحرقوها، والتي رسبت علموا أنها ليست بساحرة فسيبوها. ومنها أن الرجل إذا صار صاحب ولد قام بأمره حتى يحتلم، فإذا احتلم دفع إليه قوساً ونشاشيب ويقول: مر احتل لنفسك! ويخرجه من عنده ويجعله بمنزلة الغريب الأجنبي. ومنها أن بناتهم الأبكار يخرجن مكشوفات الرأس ويراهن كل أحد، فمن رغب في واحدة منهن ألقى على رأسها خماراً، فصارت زوجة له فلا يمنعه عنها أحد، فيتزوج عشرين أو أكثر، ولهذا عددهم كثير لا يحصى. بها نهر ماؤه أسود مثل ماء بحر الظلمات، إلا أنه عذب وليس فيه شيء من السمك. وبه الحيات الكبار السود، وليس فيها أذية. وفي هذا النهر السمور، وهو حيوان أصغر من السنور، شعره في غاية النعومة يقال له سنور الماء، وفي هذا النهر منه كثير جداً، يحمل جلده إلى سقسين وبلغار يتعاملون عليه، وإنه فروة ناعمة جداً. مشقة مدينة واسعة في بلاد الصقالبة على طرف البحر، بين آجام لا يمكن مرور العساكر فيها. اسم ملكها مشقة، سميت باسمه، وهي مدينة كثيرة الطعام والعسل واللحم والسمك، ولملكها أجناد رجالة لأن الخيل لا تمشي في بلادهم.

واطر بورونة

وله جبايات في مملكته يعطي لأجناده كل شهر أرزاقهم، وعند الحاجة يعطيهم الخيل والسرج واللجم والسلاح وجميع ما يحتاجون إليه، فمن ولد أجرى الملك عليه رزقه، ذكراً كان أو أنثى، فإذا بلغ المولود فإن كان ذكراً زوجه وأخذ من والده المهر، وسلمه إلى والد المرأة. والمهر عندهم ثقيل، فإذا ولد للرجل ابنتان أو ثلاث صار غنياً، وإن ولد له ابنان أو ثلاثة صار فقيراً. والتزويج برأي ملكهم لا باختيارهم، والملك يتكفل بجميع مؤوناتهم ومؤونة العرس عليه، وهو مثل الوالد المشفق على رعيته، وهؤلاء غيرتهم على نسائهم شديدة بخلاف سائر الأتراك. واطر بورونة حصن حصين بأرض الصقالبة، قريب من حصن شوشيط، بها عين ماء عجيبة تسمى عين العسل، وهي في جبل بقرب شعرا، مذاق مائها في المبدإ مذاق العسل، وعند مقطعه فيه عفوصة اكتسبت ذلك الطعم من الأشجار النابتة حولها. ورنك موضع على طرف البحر الشمالي. وذلك أن البحر المحيط من جانب الشمال خرج منه خليج إلى نحو الجنوب، فالموضع الذي على طرف ذلك الخليج يسمى به الخليج يقال له بحر ورنك. وهو أقصى موضع في الشمال، البرد به عظيم جداً والهواء غليظ والثلج دائم. لا يصلح للنبات ولا للحيوان. قلما يصل إليه أحد من شدة البرد والظلمة والثلج. والله أعلم. ويسو بلاد وراء بلاد بلغار، بينهما مسيرة ثلاثة أشهر. ذكروا أن النهار يقصر عندهم حتى لا يرون شيئاً من الظلمة، ثم يطول الليل حتى لا يرون شيئاً من

يأجوج ومأجوج

الضوء. وأهل بلغار يحملون بضائعهم إليها للتجارة، وكل واحد يجعل متاعه في ناحية، ويعلم عليه ويتركه ثم يرجع إليه فيجد إلى جنبه متاعاً يصلح لبلاده، فإن رضي بها أخذ العوض وترك متاعه، وإن لم يرض أخذ متاعه وترك العوض، ولا يرى البائع المشتري ولا المشتري البائع كما ذكرنا في بلاد الجنوب بأرض السودان. وأهل ويسو لا يدخلون بلاد بلغار لأنهم إذا دخلوها تغير الهواء وظهر البرد، وإن كان في وقت الصيف، فيهلك حيوانهم ويفسد نباتهم. وأهل بلغار يعرفون ذلك فلا يمكنونهم من دخول بلادهم. يأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان من الترك من ولد يافث بن نوح، عليه السلام. مسكنهم شرقي الإقليم السابع. روى الشعبي أن ذا القرنين لما وصل إلى أرض يأجوج ومأجوج اجتمع إليه خلق كثير، واستغاثوا من يأجوج ومأجوج وقالوا: أيها الملك المظفر إن وراء هذا الجبل أمماً لا يحصيهم إلا الله، يخربون ديارنا ويأكلون زروعنا وثمارنا، ويأكلون كل شيء حتى العشب، ويفترسون الدواب افتراس السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها، ولا ينمو خلق مثل نمائهم، لا يموت أحدهم حتى يولد له ألف من الولد! قال ذو القرنين: كم صنفهم؟ قالوا: هم أمم لا يحصيهم إلا الله. وأما من قربت منازلهم فست قبائل: يأجوج ومأجوج وتأويل وتاريس ومنسك وكمادى. وكل قبيلة من هؤلاء مثل جميع أهل الأرض، وأما من كان منا بعيداً فإنا لا نعرفهم. قال ذو القرنين: وما طعامهم؟ قالوا: يقذف البحر إليهم في كل عام سمكتين، ويكون بين رأس كل سمكة وذنبها أكثر من مسيرة عشرة أيام، ويرزقون من التماسيح والثعابين والتنانين في أيام الربيع، وهم يستمطرونها كما يستمطر الغيث، فإذا مطروا بذلك أخصبوا وسمنوا؛ وإذا لم يمطروا بذلك أجدبوا وهزلوا. قال ذو القرنين: وما صفتهم؟ قالوا:

قصار ضلع، عراض الوجوه، مقدار طولهم نصف قامة رجل مربوع، ولهم أنياب كأنياب السباع، ومخالب مواضع الأظفار، ولهم صلب عليه شعر، ولهم أذنان عظيمتان: إحداهما على ظاهرها وبر كثير وباطنها أجرد، والأخرى على باطنها وبر كثير وظاهرها أجرد، تلتحف إحداهما وتفترش الأخرى. وعلى بدنهم من الشعر مقدار ما يواريه، وهم يتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم. جاء في بعض الأخبار أن يأجوج ومأجوج ينحتون السد كل يوم حتى يكادون يرون الشمس من ورائه، فيقول قائلهم: ارجعوا سوف ننقبه غداً، فيرجعون فيعيده الله تعالى ليلتهم كما كان، ثم يحفرونه وينحتونه من الغد كذلك كل يوم وليلة، إلى أن يأتي وقت خروجهم فيقول قائلهم: ارجعوا سننقبه غداً إن شاء الله تعالى! فيبقى رقيقاً إلى أن يعودوا إليه من غدهم فيرونه كذلك، فينقبونه ويخرجون على الناس فيشربون مياه الأرض حتى ينشفوها، ويتحصن الناس بحصونهم فيظهرون على الأرض ويقهرون من وجدوه، فإذا لم يبق أحد لهم رموا بالنشاب إلى السماء، فيرجع إليهم وفيها كهيئة الدم، فيقولون: قد غلبنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء! ثم إن الله تعالى يبعث إليهم دوداً يقال له النغف، يدخل في آذانهم ومناخرهم فيقتلهم، قال، صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتسمن من لحومهم! روى أبو سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: يفتح سد يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال تعالى: وهم من كل حدب ينسلون. فيغشون الأرض كلها، فينحاز المسلمون إلى حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم، فيشرب يأجوج ومأجوج مياه الأرض، فيمر أوائلهم بالنهر فيشربون ما فيه ويتركونه يابساً، فيمر به من بعدهم ويقولون: لقد كان ههنا مرة ماء! ولا يبقى أحد من الناس إلا من كان في حصن أو جبل شامخ أو وزر، فيقول قائلهم: قد فرغنا من أهل الأرض، بقي من في السماء. ثم

يورا

يهز حربته فيرمي نحو السماء، فترجع إليهم مخضوبة بالدم للبلاء والفتنة فيقولون: قد قتلنا أهل السماء! فبينا هم كذلك إذ سلط الله تعالى عليهم دوداً مثل النغف يدخل آذانهم، وقيل ينقب آذانهم أو أعناقهم، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس ولا حركة البتة! فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هؤلاء؟ فيتجرد رجل منهم موطن نفسه من القتل فينزل إلى الأرض فيجدهم موتى بعضهم فوق بعض، فينادي: يا معشر المسلمين، ابشروا فقد كفاكم الله عدوكم! فيخرجون من حصونهم ومعاقلهم. وروي أن الأرض تنتن من جيفهم فيرسل الله مطراً يسيل منه السيول، فيحمل جيفهم إلى البحار. وروي أن مدتهم أربعون يوماً، وقبل سبعون يوماً، وقيل أربعة أشهر. وقال، صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، ولا يمرون بفيل ولا خنزير ولا جمل ولا وحشي ولا دابة إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه أيضاً، مقدمتهم بالشام وساقيهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية. يورا بلاد بقرب بحر الظلمات. قال أبو حامد الأندلسي: قال بعض التجار: النهار عندهم في الصيف طويل جداً، حتى ان الشمس لا تغيب عنهم مقدار أربعين يوماً. في الشتاء ليلهم طويل جداً حتى تغيب الشمس عنهم مقدار أربعين يوماً، والظلمات قريبة منهم. وحكي أن أهل يورا يدخلون تلك الظلمة بالضوء فيجدون شجرة عظيمة مثل قرية كبيرة، وعليها حيوان يقولون انه طير، وأهل يورا ليس لهم زرع ولا ضرع بل عندهم غياض كثيرة، وأكلهم منها ومن السمك، والطريق إليهم في أرض لا يفارقها الثلج أبداً. وحكي أن أهل بلغار يحملون السيوف من بلاد الإسلام إلى ويسو، وهي سيوف لم يتخذ لها نصاب ولا حلي، بل تصل كما تخرج من النار وتسقى، فإن

علق السيف بخيط ونقر بإصبع سمع له طنين، فذلك السيف يصلح أن يحمل إلى بلاد يورا ويشتريه أهل يورا بثمن بالغ، ويرمونه في البحر المظلم. فإذا فعلوا ذلك أخرج الله لهم من البحر سمكة مثل الجمل العظيم، تطردها سمكة أخرى أكبر منها تريد أكلها، فتهرب منها حتى تقرب من الساحل فتصير في موضع لا يمكنها الحركة فيه، فتتشبث بالرمل فيعرف أهل يورا فيذهبون إليها في المراكب فكل من ألقى السيف يجتمع عليها ويقطع من لحمها. وربما يكثر ماء البحر بالمد، فترجع السمكة إلى البحر بعدما قطع منها من اللحم ما يملأ ألف بيت، وربما تبقى عندهم زماناً طويلاً مؤونتهم فيقطعون منها، وإذا لم يبق في البحر من تلك السيوف لم تخرج لهم السمكة، فيكون عندهم الجدب والقحط. وحكي أن في بعض السنين خرجت عليهم هذه السمكة، فاجتمع القوم عليها ونقبوا أذنها وجعلوا فيها حبلاً ومدوها إلى الساحل، فانفتحت أذن السمكة وخرجت من داخلها جارية تشبه الآدميين، بيضاء حمراء سوداء الشعر عجزاء من أحسن النساء وجهاً، فأخذها أهل يورا وأخرجوها إلى البر، وهي تضرب وجهها وتنتف شعرها وتصيح، وقد خلق الله تعالى في وسطها جلداً ضعيفاً كالثوب من سرتها إلى ركبتها لستر عورتها، فبقيت عندهم مدة. وأهل يورا إن لم يلقوا السيف في البحر لا تخرج السمكة فيجوعون لأن قوتهم من هذا. إلى ههنا انتهى علم أهل بلادنا، والله أعلم بما وراء ذلك من البلاد والبحار. وليكن هذا آخر الكلام.

§1/1